الخميس، 14 نوفمبر 2019

الفصل الثالث محاضرة بين الألف والباء كلام النقطة مع الباء حول رجوع الحرف إليها كتاب الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم

الفصل الثالث محاضرة بين الألف والباء كلام النقطة مع الباء حول رجوع الحرف إليها كتاب الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم

الفصل الثالث محاضرة بين الألف والباء كلام النقطة مع الباء حول رجوع الحرف إليها كتاب الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب شرح الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم للعارف بالله عبد الكريم الجيلي
تقول النّقطة للباء :
 أيّها الحرف ! إنّي أصلك ، لتركيبك منّي ، بل إنّك في تركيبك أصلي ، لأنّ كلّ جزء منك نقطة ، فأنت الكلّ وأنا الجزء ، والكلّ أصل والجزء فرع ، بل أنا الأصل على الحقيقة .
إذ تركيبك عيني .
لا تنظر إلى بروزي وراء بروزك فتقول : 
هذا البارز غيري ، إنّما أراك إلّا هويّتي وعيني ، ولولا وجودي فيك لم يكن لي بك هذه العلاقة ، إلى متى تصرف بشهادتك عنّي وتجعلني وراء ظهرك ؟ 
اجعل غيبتك شهادتك وشهادتك غيبتك .

أمّا تحقّق وحدتي بك : 
لولاك لما كنت أنا نقطة الباء ، ولولاي لما كنت أنت باء منقوطة ، كم أضرب لك الأمثال كي تفهم أحديّتي بك ، وتعلم أنّ إنبساطك في عالم الشّهادة واستتاري في عالم الغيب حكمان لذاتنا الواحدة ، لا مشارك فيّ لك ولا مشارك لك فيّ ، ما أنت إلّا أنا ، لأنّ اسمك حدث على اسمي.

ألا ترى أنّ أوّل جزء من أجزائك يسمّى نقطة ، وثاني جزء من أجزائك يسمّى نقطة ، وثالث جزء من أجزائك يسمّى نقطة ، وكذلك جميع أجزائك نقطة في نقطة ، فأنا أنت ، ما لك فيك إنّيّة ، بل هويّتي هي إنّيّتك الّتي أنت بها أنت ، لو كنت عند قولك في نفسك أنا تتخيّل ذاتي لكنت أنا أيضا عند قولي هو أتخيّل وجهي ، فكنت حينئذ تعلم أنّ أنا وهو عبارتان لذات واحدة.

استشكال الباء على الوحدة بتقيدها بالقيود الإمكانية 
قالت الباء :
سيّدي تحقّقت أنّك أصلي ، وقد علمت أنّ الأصل والفرع شيئان ، وهذه جثّتي منبسطة متركّبة لا وجود لي إلّا بها ، وأنت جوهر لطيف يوجد في كلّ شيء ، وأنا جسم كثيف مقيّد بمكان دون غيره ، فمن أين لي حقيقة مالك ، ومن أين أكون أنا أنت ، وكيف يكون حكمك حكمي ؟! .
فأجابتها النّقطة فقالت :
شهود جسمانيّتك وتخيّل روحانيّتي هيئة من هيئاتي ووصف من أوصافي ، وذلك أنّ جميع متفرّقات الأحرف والكلمات بجملتها صورتي الواحدة ، فمن أين التّعداد ، إذ لا تتحقّق أنّ العشرة اسم لمجموع هذه الخمستين ، فمن أين التّغاير بين الخمسة والعشرة في حقيقة
العشريّة لا في الاسميّة .

 وإذا كنت أنت من كلّ وجوهك وصفا من أوصافي ونظرة من نظراتي فمن أين تكون الإثنينيّة بيني وبينك ؟ ! 
وكيف هذه المجادلة الّتي بيني وبينك ، أنا أصل فيما يراد منك وفيما يراد منّي ، هذا بمجموعه ذاتي ترتيب حكمة إلهيّة ، فإذا أردت تسألني تعقّلي فخيّل نفسك وجميع الحروف كلّها والكلمات صغيرها وكبيرها ، ثمّ قل لي نقطة .
فذلك بمجموعه هو عين نفسي ، ونفسي عين ذلك المجموع ، بل نفسك مجموع عين ذلك كلّه ، بل مجموع عيني عينك ، بل لا أنت ولا هم ، الكلّ أنا ، بل لا أنا ولا أنت ولا هم ولا واحد ولا اثنين ولا ثلاثة ، ما ثمّ إلّا النّقطة الواحدة .
لا يعقل تمثّلك فيه ولا يفهم ، فلو تحوّلت من ثوبك إلى ثوبي لعلمت كلّ ما أعلم ، وشهدت كلّ ما أشهد ، وسمعت كلّ ما أسمع ، وبصرت كلّ ما أبصر .

فأجابه الباء فقال : قد لاح بارق ما قلت ، فمن لي بالوقوع في صبح هذا الفجر ؟ 
وقد قلت أنّ البعد والقرب والكمّ والكيف من ترتيب وجودك ، فكلّما شهدت القول بالتّرتيب وما لا بدّ منه سلمت وانصرفت بوجهي إلى عالم شهادتي ولزومي الأدب معك ، وكلّما جلت في ملكوت معناي وجدتك نفسي ، فإذا طلبت من نفسي ما لك من الحلّ والعقد في الحروف والسّريان في كلّ حرف بكمالك لا أجد شيئا ، فتنكسر زجاجة همّتي ، وأرجع حسيرا .

فقالت النّقطة : نعم ترجع لأنّك طلبت من نفسك ، ونفسك عندك غير نفسي ، فلا تجد منها ما لي ، فلو طلبت منها أنا - الّذي هو أنت - من نفسي - الّتي هي نفسك - دخلت الدّار من بابه ، فحينئذ ما طلبت ما للنّقطة إلّا من النّقطة ، بل ولا طلبت إلّا النّقطة ما لها منها .
 فجل في هذا المعنى إن كنت معنا :
هذي الخيام بدت على أطنابها  …..  فانزل بها ان كنت من أحبابها
قف بين هاتيك المعاني أنّها   …..    وقفت بها الأزمان في أترابها
ما هند إلّا من أقام على الغضا ……  والبان والأثلات في أجنابها
فانخ مطيّك في الدّيار فإنّها  …..   دار مباركة على أصحابها
للّه درّ منازل قد شرّفت   …..     بالسّاكنين وشرّفوا بترابها
لا تعرف الأغيار في غرفاتها  …..   مجهولة سدّت على أبوابها
النازلين بحيّها هم أهلها   ……    من بان عنها ليس من أنسابها

.

شرح الفصل الثالث محاضرة بين الألف والباء

ثم قال رضي الله عنه :

فصل : أيتها الحرف أنا أصلك

تقول النقطة للباء : أيتها الحرف أنا أصلك لتركيبك مني ، بل إنك في تركيبك أصلي ، لأن كل جزء منك نقطة ، فأنت الكل وأنا الجزء ، والكل أصل والجزء فرع ، بل أنا الأصل على الحقيقة ، إذ تركيبك عيني ، لا تنظر إلى بروزي ورائك فتقول : هذا البارز غيري إنما [ إذ ما ] أراك إلا هويتي ، ولولا وجودي فيك لم يكن لي بك هذه العلامة ، إلى متى تصرف بشهادتك عني ، وتجعلني وراء ظهرك ، اجعل غيبك شهادتك ، وشهادتك غيبتك ، أما تحقق وحدتي بك ؟ ، لولاك لما كنت أنا نقطة الباء ، ولولاي لما كنت أنت باء منقوطة .

كم أضرب لك الأمثال كي تفهم أحديتي بك ، وتعلم أن انبساطك في عالم الشهادة واستتاري في عالم الغيب حكمان لذاتنا الواحدة ، لا مشارك في لك  فيما لك ، لك فيّ ، لك فيما لك ، في ذلك ، ولا مشارك لك في ما أنت إلا أنت ، لأن اسمك حدث على اسمي ، ألا ترى أن أول جزء من أجزائك يسمى نقطة ، وثاني جزء من أجزائك يسمى نقطة ، وثالث جزء من أجزائك يسمى نقطة ، وكذا جميع أجزائك نقطة في نقطة .

فأما أنت ما لك فيك إنية ، بل هويتي هي إنيتك التي أنت بها أنت .

لو كنت عند قولك في نفسك “ أنا “ تتخيل ذاتي ، لكنت أنا أيضا عند قولي “ هي “ أتخيل وجهي .

فكنت حينئذ تعلم أن أنا وهو عبارة لذات واحدة .

 

قوله : فصل : تقول النقطة للباء ( 1 ) الخ .

اعلم - وفقني الله وإياك ، ولا أخلاني من فيضه ولا أخلاك - أن الباء عبارة عن نفسك القائمة بدعوى الأمر بطريق الجهل ، وأن النقطة عبارة عن ذات الحق - تعالى - المنزه عن إشارة النقطة أو علامة القائمة بمعنى الامر كما هو حقيقة لها بطريق الأصالة ، إذ الوجود لذاته واجب ، فهو واجب الوجود الذي الموجودات فرع وجوده ، تنزه من ليس بفرع ولا أصل عن كل ما لا يليق بجنابه تعالى .

فلمّا كانت الباء كما علمت ، وكانت النقطة كما فهمت ، خاطبت نقطة الموجود ذرات الوجود ، في عالم الغيب والشهود ، بلسان الأنس والكرم ، لتزيح عن حقائق معانيها الظلم .

فأول ما قالت لمّا تناهت في عزها وتعالت ، وأرادت إدراك الحقيقة البائية السفلية ، بأن تتشرف بسماع خطاب صفاتها العلية :

أيتها الباء المبائن في الوجود لأصله ، والمتميز عن فرعه بأصله ، ليس لك في الحقيقة غيري .

وكل ما شاهدته من غيري أنت المركب مني ، والبارز على هيئة حقيقتك بالنيابة عني ، وأصل خمر عشقك من دني .

أنت جزء من أجزاء نقطي ، وحرف من معلوم غلطي ، بل أنت الكل وأنا الجزء ، وأنت الأصل وأنا الفرع ، وكل ذلك لك بي لا بك ، إذ الكل والجزء والأصل والفرع لا يشذ عني ، ولو شذ عني لكان لغيري ، ولا غير لي .

بروزي من ورائك غرك بأنني من جملة سواك ، بل ظهوري بذلك يدل على أن أمري من ورائك .

أما ترى عود النخل يوجد قبل تمره ، وليس مقصودا لعينه بل لأمره .

فما عيّنك في الوجود وقرّبك من حضرة الشهود - حتى صرت أكمل عابد دل على معبود - إلا الذي تراه غيرك ، وأنكرته من أن يكون طيرك ، حيث غرّد مغرّد أنسك

 

على فنن قدسك : ما غرّك أيها العبد الآبق بحسنك الفاني وجسمك الداني ؟ .

أما سمعت بشير الحمامة ينادي في قصور الملوان بالسلامة ، لمن عرف العلامة ؟ ، ونذير السآمة ينادي في سوق الأكوان بالملامة لمن ترك الكرامة ؟ .

فالحذر الحذر أن الأمر الذي طلبته عزيز المرام ، عظيم المقام ، لا يصلح إفشاؤه بالتصريح ، وهو لا يكاد يفهم بالكتابة والتلويح .

فاعلم أنني أنا الولد الذي أبوه ابنه ، والخمر الذي كرمه دنه ، أنا الفرع الذي أنتج أصله ، والسهم الذي قوسه نصله .

اجتمعت بالأمهات وأولدتني ، وخطبتها لأنكحها فأنكحتني ، فلما سويت في طاهر الأصول عقدت صورة المحصول ، فأنثنيت في مقسمي ، أدور في جسمي ، وقد حملت أمانات الهيولى ، وأحكمت الحضرة الموصوفة بالأخرى والأولى .

إذ كل ذلك الذي دللتك عليه وندبتك إليه حقيقتي منزهة عنه وخارجة منه ، بل ذلك ضرب مثل لمثلك وأمثالك ، ليفهم السامع لهذا الكلام ما المعنى المراد فيستخرجه من الكمام ، والتحية والإكرام على من اتبع الهدى والسلام .

وأتينا بهذه المعاني في قالب التسجيع ، ليعلم الواقف أن الابن لأبيه مطيع ، ولأمه رضيع .

فإذا علمت ذلك وميزت به ما هنالك فاعلم :

أن الحرف المعبر عنه بالباء ، بل كل حرف أصله النقطة التي برزت تحته كالباء وأمثالها ، أو فوقه كالتاء وما يشابهها ، أو في وسطه كالضاد وما شابهه ، أو ظهرت في ذاته كالألف وما شابهه .

وإنما كان خطاب النقطة مع الباء دون سائر الأحرف ، لما علمت أن أكمل حرف من الحروف هو الألف المنزه في حقيقته عن علامة .

وقد علمت أنه يشار به إلى الذات الأحدية ، والذات الأحدية هي المنزهة عن جميع القيود والنسب والإضافات والاعتبارات إلى غير ذلك ، لكون الأحدية أول تعين من الغيب العمائي المعبر عنه بصرافة الذات وبمجهول النعت .

وهذا المجلى العمائي هو المشار إليه بالنقطة المنزهة عن الإشارة .

والتجلي الأحدي المعبر عنه بالتجلي الذاتي والتعين الأولي هو المشار إليه بالألف المنزه تنزيها ذاتيا .

فالتحق إذا بالذات الصرف ، وأناب منابه الحرف المعبر عنه بالباء المشار إليه بالنفس . فاختص خطاب النقطة بالباء ، لأن الحجاب الأعظم هو وجود النفس القائمة بدعوى الوجود في حضرة الموجود ، ووقع الخطاب من النقطة إلى الباء لإظهار سرّ الربوبية في ما ورد به الكتاب العزيز :لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها” سورة الكهف ( 18 ) : الآية 49

وبعد أن يعرف الحق تعالى :الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ” سورة غافر : الآية 17 .

فثم يسجد ألف الوجود ، فيقال له : “ اشفع تشفع “ كما ورد بذلك الخبر الصحيح والقول الصريح .

وكل ذلك المذكور من قوله - قدس سره - من مخاطبة النقطة للباء بقولها : أيتها الحرف أنا أصلك ( 1 ) ، فإن ذات الحق - تعالى - هي الموجدة للأشياء من نفسها ، كما قال تعالى :وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ” سورة الجاثية: الآية 13 .

 

أي من ذاته تعالى بذاته كما قال تعالى :ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ” سورة الأحقاف: الآية 3

فالحق - تعالى - أصل حقائق الموجودات ، لأنه أوجدها في علمه القديم من عدم ، ثم أبرزها من العلم إلى العين ، فهو بعلمه القديم يعلمها أنها موجودة في علمه من عدم ، وليس في علمه سوى ذاته ، إذ ليس لذات القديم - جل وعلا - سوى علمه ، وبذلك العلم يعلم ذاته ، وبه يعلم مخلوقاته .

ولا شك أن أجسام الموجودات ليست بذات الباري - جل وعلا - ، وحاشا وكلا أن تكون ذات من هو مركب من أجزاء متعددة مبائنة في حقائقها لبعضها بعض [ بعضها من بعض ] مشابهة أو مماثلة أو ملحقة في الصورة أو في المعنى لذات الواجب بذاته : “ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا “ .

ولا شك أن الموجودات على الحقيقة ليس لها في نسبة الوجودية شيء ، إذ أصلها العدم المحض ، وإنما الوجود طار عليها ، والأشياء معتبرة بحقائقها لا غير .

فإذا فهمت هذه المقدمات علمت المعاني التي أشار إليها المصنف - قدس سره - في قشور العبارات ورموز الإشارات :

من قول النقطة للباء :

أنا أصلك لتركيبك مني ( 1 ) الخ ، وإشارته بقوله : فتقول أي الباء : هذا البارز ( 2 ) أي النقطة غيري ( 3 ) حيث برزت تحتها ، وإنما بروز [ إذ ما برزت ] النقطة تحت الباء إلا لتعلم الباء أن الأمر من وراء ما أدركته .

ولهذا قال : إن [ إذ ] ما أراك إلا هويتي ( 4 ) يعني أن الباء ما أراها وعرفها بما رأته وعرفته إلا هويتي وعيني ، أي ذاتي الغير المتجزية التي تركبت ذات الباء منها ، لأن الحق لا يراه إلا الحق .

فلو لم تكن حقيقة الباء هي النقطة - التي برزت في رأي العين أنها غيرها ، وفي باطن الرأي أنها عينها - لما استطاعت الباء أن ترى إلا نفسها ، وليس نفسها إلا العدم المحض ، وليس العدم محلا لمواجهة الخطاب.

 

 ولولا وجودي فيك لم تكن لي بك هذه العلامة

وقوله : ولولا وجودي فيك لم تكن لي بك هذه العلامة ( 5 ) وهي الربية والمربوبية ، إذ لا رب إلا بمربوب ولا مربوب إلا برب .

وإلى هذا أشار الإمام الأكبر - قدس سره - في فصوص الحكم في فص حكمة قدسية في كلمة إدريسية بقوله :

فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا * وليس خلقا بذاك الوجه فادكروا

من يدر ما قلت لم تحدث بصيرته * وليس يدريه إلا من له بصر

جمع وفرق و كان العين واحدة * وهي الكبيرة لا تبقي ولا تذر

 

فقوله رضي الله عنه : “ فالحق خلق “ الخ مراده بذلك - والله أعلم - الحق المخلوق به اللازم له الصفة الحقية ، فإنه ما قيل فيه حق إلا ويقابله خلق ، لأن الحق - تعالى - غني عن العالمين بذاته ، وهذا هو عين ما قلنا في أن الرب لا بد له من مربوب ، كما أن الرازق لا بد له من مرزوق فافهم .

 

وأما قول المصنف قدس سره : إلى متى تصرف بشهادتك عني وتجعلني وراء ظهرك اجعل غيبتك شهادتك وشهادتك غيبتك ( 1 ) يعني إلى متى وأنت معرض عني مع إقبالي عليك وإيجادي لك في كل آن بنظري إليك ؟ ،

فإني أحب لقاء من أحب لقائي كما قال تعالى : “ ما ترددت في شيء ترددي في قبض روح عبدي المؤمن ، يكره الموت - وهو لقاء الله - وأنا أكره مسأته - أي ما يسوئه - ولا بد له من لقائي “ وهو الموت ،

فأتى بقوله : ولا بد له من لقائي عوضا من قوله : “ ولا بد له من الموت “ للطفه بعبده المؤمن لئلا يحزنه - جل وعلا - .

وقوله : اجعل غيبك شهادتك وشهادتك غيبك أي أظهر بحقك - وهو ما بطن فيك - على خلقك - وهو ما ظهر منك - .

هذا إذا كان مشهدك أن الحق هو الظاهر والخلق هو الباطن ، فاظهر بحقك الظاهر على خلقك الباطن ، ليفنى كل شيء هالك ، البازغ منك والدال لك . أما تتحق وحدتي بك

وقوله : أما تتحق وحدتي بك ؟

لولاك لما كنت أنا نقطة الباء ولولاي لما كنت أنت باء منقوطة ( 2 ) يعني لولا تجلي واحديتي فيك لما تتحقق واحديتي ، إذ لست أهلا لنيل معرفتك بغير ما عرفتك به ، وذلك التعرف هو ظهوري بالنقطة المعبّر عنها بنقطة الباء التي هي روحك ، ولولاي أي ولولا ذات واحديتي لما كنت أنت باء منقوطة أي ذا علامة تعلم بها متى تشير إليك .

 

وإلى ذلك أشار الإمام الأكبر قدس سره بقوله :

فنحن  له  كما  ثبتت * أدلتنا  و نحن  له

وليس  له سوى كوني * فنحن  له كنحن  بنا

فلي  وجهان هو و أنا * و ليس  له  أنا  بأنا

و لكن  في  مظهره * فنحن  له  كمثل  إنا

 

كم أضرب لك الأمثال كي تفهم أحديتي فيك

قوله : كم أضرب لك الأمثال كي تفهم أحديتي فيك ( فصوص الحكم : فص حكمة مهيمية في كلمة .إيراهمية  ) إذ جعلتك دليلا علي في الخارج بك ، علمت فلم لا تعلم ما دليت عليه غيرك بك :" أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ". سورة البقرة : الآية 44 . فالسعيد متوعظ بغيره ، وأنت غيرك وعظ بك .

فالعجب منك كل العجب !

حيث لا تعلم أن انبساطك في علم الشهادة - وهو الذي ظهرت فيه صورة جسمك - واستتاري في عالم الغيب حكمان لذاتنا الواحدة ، لأن الغيب إنما هو غيب بالنسبة إليك من حيثك ، لا بالنسبة إليك من حيثي ، ولا بالنسبة إلي من حيثي .

فالأمر عندي واحد ، فبطوني في عالم الغيب عين ظهوري في عالم الشهادة الذي برز فيه جسمك الشهادي .

وإلى ذلك أشار المصنف - قدس سره - في الإنسان الكامل حيث قال :

ذات لها في نفسها وجهان * للسفل وجه والعلى للثاني

ولكل وجه في العبارة والأدى * ذات وأوصاف وفعل بيان

إن قلت واحدة صدقت وإن تقل * اثنان حق أنه ذا ثاني

نظرا إلى أحدية هي ذاته * قل واحد أحد فريد الشأن

ولئن ترى الذاتان قلت لكونه * عبدا وربا أنه اثنان

تحتار فيه فلا يقول لسفله * عال ولا لعلوه هو دان

 

لا مشارك في ذلك

وقوله : لا مشارك في ذلك ولا مشارك لك فيما أنت إلا أنت ، لأن اسمك حدث على اسمي ( 1 ) يعني أنه أنا الله لا إله إلا أنا ، ليس لي فيما صنعت شريك ولا مزاحم :إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي” سورة طه ( 20 ) : الآية 14 .

إذ لا مشارك لك فيّ ، فإن الموجودات المتعددة التي تراها غيري ليست إلا أنا ولست إلا هي ، فأنا في أي جهة توليتها من جميع جهاتك ما أنت أنت ، لأنه لا يكون أنت أنت إلا إذا كنت أنت بلا أنا ، وأنت لست كذلك لأن اسمك حدث على اسمي لتوقف وجودك على وجودي .

 

ألا ترى أول جزء من أجزائك تسمى نقطة

وقوله : ألا ترى أول جزء من أجزائك تسمى نقطة وثاني جزء من أجزائك يسمى نقطة وثالث جزء من أجزائك يسمى نقطة وكذا جميع أجزائك نقطة في نقطة ( 2 ) يعني أن تلك القوى القائم بها وجود ذاتك ، المعبر عنها بالسمع ، والبصر ، والشم ، والذوق ، والحاسة ، والعاقلة ، والمفكرة ، والناطقة ليست بغير لروحي المنفوخة فيك ، فليست تلك القوى المتعددة التي تركب منها - وهو جسمك - إلا كنقطة بإزاء نقطة ، وكذا جميع أجزائك أي الغير المنحصرة مما قامت بالروح نقطة في نقطة ، فأنا أنت من حيث الحقيقة ، ما لك منك إنية ،

لأنك إن قلت : “ أنا “ إنما تلك إنيتي ، ألا ترى إذا فارقت روحك جسمك ،

هل يصح لك أن تقول : “ أنا “ ، بل هويتي من حيث أني غيب عنك هي إنيتك التي أنت بها أنت من حيث شهادتي في شهادتك ، لو كنت عند قولك في نفسك أنا تتخيل اتي ، لكنت أنا أيضا عند قولي هل أتخيل وجهي :هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ” سورة الرحمن : الآية 60 .

لو كنت عرفت مقداري منك حيث شرفتك بظهور ذاتي في ذاتك كانت إنيتك هي ذاتي ، وكنت أنا أيضا عرفت قدرك كما عرفت قدري ، لكن لما كان لسان الحال مصرحا بما قال :وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ” سورة الأنعام : الآية 91 ، وسورة الزمر: الآية 67 . ،

سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. سورة الصافات : الآية 180

 عذرتك في دعواك بجهلك ، ليكون ذلك الجهل حجة الألف على أمته

حيث قال : “ رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون “وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ”

سورة الزخرف : الآية 4 .

ثم قال رضي الله عنه : قال الباء سيدي : تحققت أنك أصلي ، وقد علمت أن الأصل والفرع شيئان ، وهذه جثتي منبسطة متركبة لا وجود لي إلا بها ، وأنت جوهر لطيف توجد في كل شيء . وأنا جسم كثيف مقيد بمكان دون غيره ، فمن اين حقيقة ما لك ؟ ، ومن اين أكون انا أنت ؟ ، وكيف يكون حكمك حكمي ؟

 

فاجابتها النقطة فقالت : شهود جسمانيتك وتخيل روحانياتي هيئة من هيئاتي ، ووصف من أوصافي ، وذلك ان جميع متفرقات الأحرف والكلمات بجملتها صورتي الواحدة فمن اين التعداد ؟ ،

إذ لا تحقق ان العشرة اسم لمجموع هذه الخمستين فمن اين التغاير بين الخمسة والعشرة في حقيقة العشرية لا في الاسمية ؟ ،

وإذا كنت أنت من كل وجوهك وصفا من أوصافي ، ونظرة من نظراتي فمن اين تكون الاثنينية بيني وبينك ؟ ،

وكيف هذه المجادلة التي بيني وبينك ؟ ، انا أصل فيما يراد منك ] “ 1 “ وفيما يراد مني ، هذا بمجموعه ذاتي ترتيب حكمة الهية .

فإذا أردت تعقلي فخيل نفسك وجميع الحروف كلها والكلمات صغيرها وكبيرها ،

ثم قل لي : نقطة ، فذلك بمجموعه هو عين نفسي ، ونفسي عين ذلك المجموع ، بل نفسك عين مجموع ذاتك بل مجموع عيني عينك ، بل لا أنت ولا هم الكل انا ، بل لا انا ولا أنت ولا هم ولا واحد ولا اثنين ولا ثلاثة ما ثم الا النقطة الواحدة ، لا تعقل لمثلك فيها ولا تفهم .

 

فلو تحولت من ثوبك إلى ثوبي لعلمت كل ما أعلم ، وشهدت كل ما أشهد ، وسمعت كل ما أسمع ، وبصرت كل ما أبصر .

 

فأجابتها النقطة

قوله : فأجابتها النقطة ( 1 ) الخ يعني أن مخاطبة النقطة للباء كان في مقام الأنس ، وذلك الأنس مقيد بما يعلم المخاطب لا المخاطب ، وهذه الحضرة حضرة المجاوبة ، لا يدخلها إلا الكمل من الرجال .

في هذه الحضرة ينبئ العبد بجميع ما تحدث في آناء الليل وأطراف النهار إذا سئل عن ذلك في أي وقت من الأوقات ، وكل ما سأل عن غيره يجيبه الحق ، ويعلمه فيه .

وفي هذه الحضرة كل علومها جواب لا ينادي الحق أحدا فيها بشيء ، بل هي حضرة الجواب .

قال المصنف قدس سره : “ أقمت في هذه الحضرة أياما ، فمكثت أسأل عن كل ما أراه ، فيحصل لي علمه من المبدأ والمعاد ، ثم غيبت عنه إلى حضرة المسائلة “ انتهى .

 

شهود جسمانيتك وتخيل روحانيتي هيئة من هيآتي

فقول النقطة للباء : شهود جسمانيتك وتخيل روحانيتي هيئة من هيآتي ووصف من أوصافي ( 2 ) يعني أنا المشهودة في الأجسام ، والمنزهة بالروحانية في الأقسام ، التخيل أصلي ، والهيئة من فعلي ، وكل ذلك الوصف وصفي ، ألم تعلم أني موجدة الأجسام والأرواح ، والمتجلية في المعاني والأشباح ، هل موجد لذلك سواي ؟

 

وهل أنت في الحقيقة منعقد سوى من مائي ، أترك الأغيار ، وانظر رب البيت في الدار ، القائل :لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ" سورة الأنعام : الآية 103  

وأحديتي غير متعددة ، وذاتي ذات لا متشفعة ، أنا حقيقة تلك الحروف والكلمات ، ما وصف منها بالنور والظلمات ، من كانت صورته الواحد ، كيف يوجد فيه المتعدد الزائد ؟ .

أشكل عليك مغايرة مراتب الأعداد ، فجمحت إلى التكثر بالأزواج والأفراد ، ولم تعلم أن ذلك في الحقيقة عين الإفراد .

فالخمسة والخمسين ، مغايرة من وجه للحقيقة العشرية في رأي العين .

فالتسمي للمرتبة العشرية بعشريتها ، عين إضافة الخمسة إلى الخمسة بجميعتها .

فالاشتراك في الاسم والاختلاف في الرسم ، أوقع عليك النسبة في الشهود ، حتى أشركت الغير في الوجود .

أما تحقّق وصفك في كل وجوهك أنه في الحقيقة راجع إلى معبودك ؟ .

ألا ترى أنك نظرة من نظراتي في كل آناتي ؟ .

من اين أحدثت التثني من حضرة التمني ؟ .

هلا قطعت البين بالبين ، وتركت الأثر وأخذت العين ؟ .

ما المجادلة منك أيها الواقف مع حجاب نفسه ، والمطموس في حسه ورمسه إلا مني ، ولا ذلك التكلم إلا عني ، لأنه لا يسمع خطابي الأغيار ، أما ترى الجبل اندك وانهار :وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً” سورة الأعراف : الآية 143 . من خطاب الجبار .

 

أنا المراتب له مراتب ترتيبها ، بحكمة إلهية أبديتها ، فإن أردت تعقل معنى ما قلته في الخيال ، وتحقق كل ما برز في المثال ، بحيث يجتمع لك في ذلك التعقل والتحقق جميع ذرات الوجود ، على أجناس جميع تنوعاتها في الشهود ، فقل الله ، تشهد حينئذ قول العارف الأواه :

قل الله واستقم * فكل الخلائق عدم

فإن ألوهيتي سارية في جميع المحسوسات ، والموهومات ، والمعقولات إلى غير ذلك مما يقبل التعبير أو لا يقبل .

فالكل مجموعي وأنا مجموع الكل ، وأنا عينك و أنت عيني ، بل لا أنت ولا هم ، الكل أنا ، بل لا أنا ولا أنت ولا هم ، ولا واحد ولا اثنين في البين ولا ثلاثة ، ما ثم إلا النقطة .

لأني إذا قلت : “ أنا “ لا يستقيم لإنيتي أنت ولا هم ، ولذلك أتى بحرف الإضراب وهي بل في قوله : بل لا أنا ( 1 ) الخ يعني ما ثم إلا النقطة المعبر عنها بالحق الجامع ، لا الحق الذي يقيد بالوصفية لإيجاد المخلوق فافهم .

 

فلو تحولت أيها الباء من ثوبك

فلهذا قالت : فلو تحولت أيها الباء من ثوبك ( 2 ) أي وصفك الخسيس إلى ثوبي ( 3 ) أي وصفي النفيس لعلمت كل ما أعلم ( 4 ) فتكون ممن قيل في حقهم :الرَّحْمنُ ( 1 ) عَلَّمَ الْقُرْآنَ.

 وشهدت كل ما أشهد ( 5 ) وهو معنى : “ لو كشفه لاحترقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه “ وسمعت كل ما أسمع ( 6 ) وهو نتيجة : “ فإذا أحببته “ وبصرت كل ما أبصر ( 7 ) بنتيجة ما تقدم ذكره .

واعلم أن قوله - رضي الله عنه - :

فأجابتها النقطة ( 1 ) أي أجابتها الباء لمّا تضرعت لديها ، وظهرت بالافتقار والعجز لديها ، أن تلك الجسمانية لك أيها الباء كتخيل روحانيتي ، بدليل قوله : هيئة من هيئاتي ( 2 ) فقد جمع المحسوس والمعقول لفظ الهيئة ، فالاشتراك لفظي والتباين معنوي ، وذلك اللفظي عين المعنوي ، لما علمت أنها تجمع الأضداد وهي واحدة في التعداد ، وواحديتها واحدية بالذات الغير القابلة معنى دون معنى فافهم ،

ومن ثم قال : ووصف من أوصافي يعني لأن شهود جسمانيتك وتخيل روحانيتي هيئة من هيئاتي كما تقدم - ووصف من أوصافي كما سنبينه –

 

وهو عين ما ورد في قوله عليه الصلاة والسلام :

"رأيت ربي في صورة شاب أمرد " الحديث ، فهذا تجسيم ، إذ الصورة الشابية الأمردية الواقعة في الحس تشبيه لذلك الجناب المستحق للتنزيه عن الصورة الشابية الأمردية ، إذ لا يمنعه تجليه في الصورة كيف شاء تنزهه في ذاته كما يشاء ،

ولذلك قال : وذلك أن جميع متفرقات الأحرف ( 5 ) يعني الأعيان والكلمات - وهي التي الأعيان حقائقها - بجملتها ( 6 ) يعني لجمعية اختلافها صورتي الواحدة ( 7 ) يعني الغير المتعددة ، فمن أين التعدد ؟

( 8 ) أي إذا علمت تلك الواحدية أنها واحدية بالذات ، البارز بعينها في مراتب المتعينات ، إذ لا يتحقق أن العشرة ( 9 ) أي المرتبة العشرية اسم لمجموع هذه الخمستين ( 10 ) لأنها لا يخرجها عن قيد رسمها في مجموعيتهما موافقتهما في التسمية من حيث الإطلاق للحقيقة البشرية ، إذ المراتب محفوظة ، وحفظها بالواحد .

وأتى - قدس سره - بذلك ليعلمك أن الحفظ الإلهي من حيث اسمه الحفيظ هو الذي حفظ الكون عن أن يسطو بعضه على بعض ، أو يسطو اسم على اسم فافهم .

وفي ضربه المثل وتخصيصه بالخمسين والعشرة دون سائر المراتب

 

إشارة إلى أن المراتب وإن تعددت - بحيث لا يدرك لها نهاية أو تدرك - هي لا تتجاوز مرتبة العشرة ، إذ مبدأها من الواحد ، فالواحد أم العشرة ، والعشرة أم المأة ، والمأة أم الألف وهلم جرا .

وكذلك الاثنين أم العشرين ، والعشرين أم المأتين ، والمأتين أم الألفين ، وهكذا الثلاثة والأربعة إلى العشرة .

وأما الخمستين فمجموعهما - كما فهمت - عشرة ، وكل واحدة منهما يخرج منها جميع المراتب من الواحد إلى العشرة من غير زيادة ولا نقصان ، وذلك أن المراتب المتقدمة عليها من الأزواج والأفراد موجودة فيهما ، فمرتبة الاثنين فالثلاثة فالأربعة .

والمتقدمة عنها كالستة فإنها ما تميزت عن الخمسة إلا بالواحد ، والواحد ليس بخارج عن الخمسة .

والسبعة لم تتميز عن الخمسة إلا بالاثنين ، والاثنين توجد في الخمسة .

والثمانية تميزها عنها بالثلاثة ، وليست الثلاثة بخارجة عن الخمسة .

والتسعة تميزها بالأربعة عن الخمسة ، وليست الأربعة إلا في ذات الخمسة ، وليست العشرة إلا مجموع الخمستين .

فإن قلت : إن الأربعة أيضا توجد فيها العشرة باعتبار أنها شاملة لما قبلها من الثلاثة والاثنين والواحد ، ومجموع الجميع عشرة .

قلنا : الأمر كذلك ، لكن مجموع الاربعتين لم يشمل ما شمله مجموع الخمستين ، وأيضا فإن الأربعة والأربعين موجودتان في الخمسة والخمستين - الأربعة في الخمسة ، والأربعتان في الخمستين - فالأربعة موجودة في الخمسة بالبديهة، والخمسة لا توجد في الأربعة كذلك فافهم.

 

في حقيقة العشرية لا في الاسمية

وقوله : في حقيقة العشرية لا في الاسمية ( 1 ) هذا جواب لما تقدم وهو قوله : فمن أين التغاير بين الخمستين والعشرة ( 2 ) قلنا : التغاير بين الخمستين والعشرة في حقيقة العشرة لتميز مرتبتها عن مرتبة الخمستين إذ كل خمسة معلومة مرتبتها لا في الاسم يعني في الاسم الذي يصدق على مجموع عدد الخمستين أنها عشرة .

 

وقوله : إذا كنت أنت في كل وجوهك وصفا من أوصافي ونظرة من نظراتي فمن أين تكون الإثنينية بيني وبينك ( 1 ) يعني إذا كنت في كل وجهك - أي ذاتك - وصفا من أوصافي - وهي الحياة - لأنك لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تحس ولا تمس بكل تلك القوى المتفقة في ذاتك إلا بصفة حياتي القائم بها وجودك .

وقوله : ونظرة من نظراتي ( 2 ) وهو الحفظ الإلهي الذي حفظك عن العدم الذاتي لذاتك .

وقوله : وكيف هذه المجادلة التي بيني وبينك ، أنا أصلها فيما يراد منك وفيما يراد مني ، هذا بمجموعه ذاتي ( 3 ) يعني أن قوة [ القوة التي ] معي منك ، إنما هو بي لا بك ، فلو لا أني أوجدتك أولا ، وأهلتك للمخاطبة ثانيا ، ونسبت هذا لك وهذا لي ، وإلا فمن أين تقوى لذلك ، بل لا تكون أصلا .

فهذه تعرفاتي ومخاطباتي مع ذاتي التي أوقعت عليها مع اسم الغيرة .

ولهذا قال المحققون - رضي الله عنهم - في معنى بطون الحق وظهوره : “ أن بطونه عين ظهوره ، وظهوره عين بطونه “ لأنه لا غير له عندهم حتى يظهر على ذلك الغير أو يبطن عنه ، بل هو الظاهر وهو الباطن .

ومن ثم قال : هذا بمجموعه ( 4 ) يعني فيما يرد منك وفيما يرد مني ذاتي ترتيب حكمة إلهية ( 5 ) وشأن الحكمة الإلهية وضع الشيء في محله ، لأنه الحكيم المطلق .

ولهذا قال : فإذا أردت تعقلي ( 6 ) وهذا تعليم للمخاطب من الحكيم الذي لا يدرك إلا بحكمته فخيل نفسك ( 7 ) أي ذاتك وجميع الأحرف ( 8 ) أي الذوات كلها والكلمات ( 9 ) أي المخلوقات صغيرها

 

( 1 ) أي الجزئي وكبيرها ( 2 ) أي الكلي ثم قل ( 3 ) أي بعد ذلك التخيل نقطة ( 4 ) أي أن جميع ذلك المتخيل الذي تخيلته من ذاتك ، والذوات كلها والمخلوقات جميعها - الجزئي منها والكلي - هو النقطة المشار إليها بالذات المنادية :لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فتجيب نفسها :لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ” سورة غافر: الآية 16

يعني لله الواحد القهار ، الذي قهر من ادعى مع الله إلها أخر ،

ولهذا قال : فذلك كله ( 5 ) أي بمجموعه على تنوع ما تخيلته هو عين نفسي ( 6 ) أي ذاتي ونفسي أي وذاتي عين ذلك المجموع الذي تخيلته بقدر استطاعة تخيلك ، ولي من وراء ذلك ما لا يدرك ، فتخيل ولا تتأمل لأنك ما قدرت إلا على وسع قابليتك ، وأين وسع قابليتك مما استحقه، هيهات هيهات دون ذلك والله سفّ الرماد وخرط القتاة،

ولهذا قال : بل نفسك عين مجموع ذلك بل مجموع ذلك عيني ( 7 ) يعني أن الذي قدرت على تخيله إنما قدرت عليه بعينك أي ذاتك ، وما هو متخيل لعينك هو عيني ، لأني نفس المتخيل والمتخيل ،

ولهذا قال : بل لا أنت ولا هم ( 8 ) يعني مما تراه بالعين أو تسمعه بالأذنيين الكل أنا .

 

بل لا أنا ولا أنت و . . . . . إلا النقطة الواحدة

وقوله : بل لا أنا ولا أنت ولا هم ولا واحد ولا اثنين ولا ثلاثة ما ثم إلا النقطة الواحدة ( 9 ) يعني بل لا أنا المفهوم ، و لا أنت من حيث حقيقتي ، ولا هم أنا ، ولا الواحد المشار إليه ، ولا الاثنين ، ولا الثلاثة يتوصل بها إلى كنه ذاتي ، بل أنا من وراء ما ظهرت خلف حجب الكائنات ، بل ومن وراء حجب الأسماء والصفات ،

 

ولهذا قال : لا تعقل لمثلك فيك ولا تفهم ( 10 ) كما قال - تعالى - فيه :لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. سورة الشورى : الآية 11 .

وهو الذي خلق على الصورة كما جاء : “ خلق آدم على صورته “ مع قيامك بصفاتك الناقصة .

ولهذا قال : فلو تحولت ( 1 ) أي تبدلت بصفاتك الذميمة صفاته الحميدة من ثوبك ( 2 ) أي وصفك - كما مر - إلى ثوبي ( 3 ) أي وصفي ، فإن الصفة للمتصف كالثوب على اللابس ، ألا ترى تزين العوام بملابسها الفاخرة من قزها وخزها لتعطم نفسها عند نفسها وأبناء جنسها ، كذلك الاتصاف بصفات الحق - تعالى - فإنها تكون ثوبا على المتصف بها ، ومن ثم ورد : “ تخلقوا بأخلاق الله “ .

وأصل أسها العلم من حيث هو ، وأفضله العلم بالله ، وفي ذلك قيل :ومهما تكن عند امرء من خليقة * وإن خالها تخفى على الناس تعلمومن قول السلف : “ إذا أودع الله عبدا سريرة ألبسه رداها “ ، فالحقائق تظهر نفسها لا تستدعي شاهدا لها ، إذ هي الشاهد من حيث ما ظهرت ،

ولهذا قال : لعلمت كل ما أعلم ( 4 ) قدم العلم على السمع والبصر لما علمت من شرفه ، ولأنه لا يجوز في حقه - تعالى - سمع ولا بصر كسمع السامعين وبصر الباصرين ، بل هو بذاته ولذاته يبصر ،

وليس علمه إلا ذاته ، فهو إذا بعلمه يسمع ويبصر ، إذ حقيقة السمع إنما هو علم بالأخبار ، والبصر إنما هو علم بالمرئى ،

ومن ثم قيل في الأسماء النفيسة : أنها أربعة ، ويراد بها الحياة ، والعلم ، والإرادة ، والقدرة ، ويعبر عنها بأئمة الأسماء والصفات ، وبالحي إمام الأئمة ، وتقدم الحي على العلم ضرورة ، لأنه لا توجد ذات عالمة غير حية فافهم ، والله ورسوله أعلم .

 

فأجابه الباء وقال : قد لاح بارق ما قلت

ثم قال رضي الله عنه : فأجابه الباء وقال : قد لاح بارق ما قلت ، فمن لي بالوقوع في صبح هذا الفجر ، وقد قلت أن البعد والقرب والكم والكيف من ترتيب وجودك ، فكلّ ما شهدت القول بالترتيب وما لا بد منه سلمت وانصرفت بوجهي إلى عالم شهادتي ولزومي الأدب معك ، وكلّ ما جلت في ملكوت معناي وجدتك نفسي ، فإذا طلبت من نفسي ما لك من الحال والفعل في الحروف ، والسريان في كل حرف بكمالك لا أجد شيئا ، فتنكسر زجاجة همتي وأرجع حسيرا .

 

قوله رضي الله عنه : فأجابه الباء ( 1 ) الخ أي أجاب الباء النقطة عند سفور صبح الهدى وغياب ليل الغي والردى ، حين لمع من سفح الطريق بارق ، وأومض من وادي العقيق بنسم وامق ، ولاحت أنوار السبحات من بطون الأسماء والصفات ، بأنواع الكمالات القرب في العشر البينات ،

وقد خلعت نعلي التدنيس ، في حضرة التقديس ، المنزهة عن الكم والكيف ، وعن رحلة الشتاء والصيف ، واستيقظت من غفلتي ، وأنا لا أرى سوى علتي ، والمواجهة لي في الست الجهات ، الظاهرة لي في كل الذوات ،

ولم أدر أن عين ما أحرف إليه وأرجع عنه ، وأتقدم إليه وأقهقر عنه ، أنه الأمر المطلوب ، والكنز المحجوب ، الذي من أقام جداره ، وعرف شعاره ، بلّغ يتيما حقه ، وخلقه فخاره ، وتبقى زجاجة المهمة في المهمة ، ولم تزعجها ملمة ، ففكّ الرموز ، واعرف الكنوز تحظ ، والله بالفوز .


واعلم أن الباء لمّا تحققت خطاب نقطتها ، واستيقظت من نوم غفلتها ، كما أشار إلى ذلك سيد أهل هذا المقام ، بقوله عليه الصلاة والسلام : “ الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا “ ، وما ذاك إلا الذي لاح إليه من النبأ العظيم ، والمقال الجسيم ،

حيث قالت : فمن لي بالوقوع في صبح هذا الفجر ؟ ،

وهو جمال الذات ، الكاشف عن حجب الظلمات ، في ليل الجهالات ، بإحياء من قد مات ،

ولهذا قال قدس سره : وقد قلت : البعد والقرب والكم والكيف من ترتيب وجودك ( 1 ) يعني أن النقطة لما وعظت الياء ، وعرفتها طريق سعادتها في حضرة المناجاة ، قالت الباء : فمن لي بالوقوع أي بالإلقاء - في صبح هذا الفجر ؟ ( 3 )

وهو التجلي الذاتي بالاسم الجمالي ، وأنت قد نفيت عن حقيقة معرفتك الإدراك بالبعد ، لأنك تقول :وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ” سورة ق : الآية 16 .

وبالقرب حيث قلت وقولك الحق :سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ” سورة الصافات: الآية 180 . وبالكم لاستحالة التعدد عليك .

وبالكيف الغير الجائز في حق :الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى. سورة طه : الآية 5

فكلما شهدت القول بالترتيب وما لا بد منه

وجعلت كل ذلك من ترتيب وجودي ، ولهذا قال : فكلما شهدت القول بالترتيب وما لا بد منه ( 4 ) أي وشهدت ما لا بد من شهوده ، وهو ما أراه من البعدية والقربية والكمية والكيفية سلمت وانصرفت بوجهي إلى عالم شهادتي ولزومي الأدب ( 5 ) أي وإلى لزومي الأدب معك من حيث ما تستحقه ، وأنا لا أدرك ما تستحقه ، سلمت وانصرفت لأن : “ العجز عن الإدراك إدراك “ ،

ولأن : “ من سلّم سلم “ كما قال الشيخ أبو بكر العيدروس قدس سره العزيز :

إن في التسليم راحة عاجلة * ومن التفويض فيضان المنا

ومن الأدب معك أن أقيم حيث أقمتني ، وقد أقمتني فيما حيرتني “ رب زدني فيك تحيرا “ .

 

وكل ما جلت في ملكوت معناي وجدتك نفسي

وقوله : وكل ما جلت في ملكوت معناي وجدتك نفسي ( 1 ) أي كما أني في الانصراف الذي عاقبته التحير أرجع بوجهي - أي بذاتي - إلى عالم شهادتي - وهو عالم الحس فيما أجده من المحسوسات - ، كذلك أيضا كل ما جلت - أي تفكرت - في عالم معناي ، وهو عالم الحكم الذي لا يقبل سوى التفكر في خلق السماوات والأرض كما قال تعالى :فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. . . الآيات

"" هذه الآية مشتركة بين ثلاثة آيات : 164 من البقرة ( 2 ) ، و 190 من آل عمران ( 3 ) ، و 22 من الروم ( 30 ) . "" .

أي علامات دالة على تنزيه موجدها - تعالى - ، وتلك العلامات هي المعاني التي قامت بها أجرام السماوات والأرض ،

ولهذا قال : وجدتك نفسي يعني فيما شهدت من عالمي الحس - وهو الشهادة - والحكم - وهو المعنى - ، لأنك أنت الموجد لكل منهما ، وأنت في كل ما أوجدت من غير حلول ، وأنت واحد بالذات ، وواحديتك هي نفسي ونفس ما أوجدته من جميع الموجودات ، فوجدتك نفسي السارية في جميع عالمي الشهادة والمعنى ، وأنت هذا الذي سرت فيه وجودية نفسي ، ولك من وراء ذلك ما لا يصفه واصف .

فإن قلت : إني أدركتك كما أنت فذاك دعوى .

وإن قلت : إني لم أدركك فهو كذب في النجوى .

فعلمت أن لك ما لي وليس لي ما لك .

 

فإذا طلبت من نفسي ما لك من الحال والفعل في الحروف

ولهذا قال : فإذا طلبت من نفسي ( 1 ) يعني من حيثي ما لك ( 2 ) أي الذي لك من الحال ( 3 ) وهو تصورك بصورة كل شيء في كل شيء كما تشاء والفعل ( 4 ) أي وما لك من الفعل بقوة أحديتك الغير المنقسمة في الحروف ( 5 ) وهي أعيان الموجودات بمعنى أرواحهم المدبرة لأجسامهم والسريان ( 6 ) أي وليس لي من السريان ما لك في كل حرف ( 7 ) أي ذات بكمالك ، لأنك لا تتجزء ولا تتبعض ، إذ كمالك ذاتي لذاتك ، وما كان ذاتيا لشيء لا يمكن افتراقه عن شيئه لا أجد شيئا ( 8 ) أي مالك من الحال والفعل في الحروف ، والسريان في كل حرف بكمالك فتنكسر زجاجة همتي ( 9 ) أي قلبي همتي المطلوبة في السير ، لأن الهمة إنما تكون لسالك الطريق وهو ما دون المحقق ، فإن المحقق لا همة له بدليل : “ وأعوذ بك منك “ ، فما وجد من يستعيذ به منه سواه .

وتعبيرنا للزجاجة هنا بمعنى القلب كما قال تعالى :كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ” في مشكاة ، فالمشكاة صدره الشريف ، والمصباح سره المنيف ، والزجاجة قلبه العفيف .

"" سورة النور: الآية 35 ، وهي كالتالي :اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ""

 

فانكسار زجاجة الهمة المعبر عنها بالروح عين جبرها كما قال تعالى : “ أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي “

ولهذا قال : فأرجع حسيرا ( 1 ) أي حاسرا عن ساق الأمر بمعنى كاشفا عن معلقات الكنوز الكونية التي خلقت لأجلي وخلقت لأجلها ، فتناديني الأكوان بلسان حالها وفصيح مقالتها بقول قائلها :

تملك في الزمان كما تريد * فمولى أنت نحن لك العبيد

وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.

فقالت النّقطة : نعم ترجع لأنّك طلبت من نفسك

ثم قال رضي الله عنه : فقالت النّقطة : نعم ترجع لأنّك طلبت من نفسك ، ونفسك عندك غير نفسي ، فلا تجد منها ما لي ، فلو طلبت منها أنا الّذي هو أنت من نفسي الّتي هي نفسك ، دخلت الدّار من بابه ، فصحّ ما طلبت ما للنّقطة إلّا من النّقطة ، بل ولا طلبت إلّا النّقطة ما لها منها ، فجل في هذا المعنى .

 

قوله : فقال النقطة ( 1 ) أي الحق - جل وعلا - للباء المعبر عنه بالعبد لما سأله : أنه قد لاح لي الأمر ، فمن لي بالوقوع في بحر الألوهية ، المعبر عنه بصبح الفجر إلى آخر ما وقع من اعترافه بين يدي سيده .

 

فقال السيد له : نعم ( 2 ) أي أن الأمر كما ذكرت لك وذكرت لي الآن ، لأن من طلب الأمر بنفسه وكل إليها ، ونفسه عاجزة عن نيل ما لنا ، ألا ترى نص الخطاب :وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ” سورة الإسراء: الآية 80

وأيضا ادعائك أن نفسك عندك هو حجابك الأعظم ، فما أوتيت إلا من حيث ادعيت ، فالجزاء من جنس العمل ،

فلهذا قال : فلا تجد منها ما بي ( 3 ) يعني أنك لا تجد بنفسك ما تجده بنفسي ولو تبرأت من دعوى الغيرية .

ولهذا قال : فلو طلبت أنا الذي هو أنت ( 1 ) يعني شهدت إنيتك عين إنيتي على الوجه المراد لي ، لأنك من نفسي التي هي نفسك ( 2 ) أي التي احتجبت بها عن نفسي التي هي نفس نفسك دخلت الدار من بابه ( 3 ) كما قال تعالى :وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها” . سورة البقرة : الآية 189

وفي قوله : دخلت الدار من بابه ( 4 ) ما يغني كل واقف على هذا الكتاب أو غيره أنه :

إن لم يجد ما وجدوه ، ولم يدرك ما أدركوه ، فليعلم أنه أتى البيت لا من بابه ، ومن أتى البيت لا من بابه فقد خالف الله ورسوله ، ومن خالف الله ورسوله وقع في الضلالة ، واكتسب الجهالة ، نعوذ بالله من هذه الحالة .

والمراد بقوله : دخلت الدار من بابه وهو ما أتى به البشير النذير ، من مكتب التدوين والتسطير ، عما أنار به الهدى ، وأهار به سبل الردى ، وعند رحلته بعد تبليغ الأمانة أودع ما جاء به وأبانه ، في الثقلين كتاب الله وعترته أهل بيته ، فلن يضل من تمسك بهما ، ولن يخيب من اقتدى بهما ، فهما المحجة البيضاء ، في الأولى والأخرى .

ومن ثم كان : “ أهل القرآن - الذي هو كتاب الله - أهل الله وخاصته “ ، وليس المراد بقوله عليه الصلاة والسلام : “ أهل القرآن أهل الله وخاصته “ سوى أهل بيته ، والبيت لا يكون بيتا إلا بساكنه ، فشرف الدار بربها كما قيل : “ شرف المكان بالمكين “ ، فأهل بيته عليه الصلاة والسلام الذين أقاموا لنا شرائع الدين ، وأبانوا لنا معالم اليقين ، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين .

 

فصح فحينئذ ما طلبتها للنقطة إلا من النقطة

وقوله : فصح [ فحينئذ ] ما طلبتها للنقطة إلا من النقطة ( 5 ) يعني فعلم من ذلك أن الباء ما لها إلا ما طلبته من نقطتها جل أو قلّ كما قيل : “ يا موسى سلني حتى ملح

عجينك “ لأنه لا يملك الأشياء سواه - تعالى - جليلها وقليلها ، ولا يطلب أحد إلا ما هو له وما قدر له ، وليس ذلك الطلب من غير الله ، لأنه لو لم يقدر العبد على الطلب لم يطلب ، والدليل على ذلك أنك ما ترى كل طالب بلسان مقاله يؤتى ما طلب ، بل ما يؤتى إلا ما هو له من الله بالله ،

ولذلك قال : بل ولا طلبت ( 1 ) يعني في الحقيقة إلا النقطة ما لها ( 2 ) أي ما للنقطة منها ( 3 ) أي من النقطة .

 

قد علمت أن الروح المدبرة لجسمك التي لولاها مدبرة له لخرب إنها كما قال تعالى :"وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي". سورة الإسراء : الآية 85 .

وهذا الروح هو الحقيقة المحمدية ، وليست الحقيقة المحمدية إلا ذات الأحدية كما قال عليه الصلاة والسلام : “ أنا من الله “ الحديث ،

وليس الله إلا الذات الواجب بذاته ، فهو المستفيض من الله بالواسطة ، والمفيض على ذرات الوجود بواسطته ،

فهذا معنى : بل ولا طلبت إلا النقطة وهو محمد - صلى الله عليه و آله وسلم - ما لها أي ما للنقطة المعبر عنها بالحقيقة المحمدية ، الذي لها الوساطة أولا ، والوسيلة ثانيا .

هذا لتعلم أن ليس في الوجود - أوله وآخره - من نال شيئا بغير واسطة ، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب ، فعدم نيل غير الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين بغير واسطته [ واسطة ] من باب الأولى .

وقوله : منها أي من النقطة المعبر عنها بالذات الإلهية ،

ولهذا قال - تعالى - في حقه :وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ” سورة الأنبياء: الآية 107 .

فلهذا قال - قدس سره - :

فجل في هذا المعنى ( 4 ) وهو الرحمة العامة التي رحم الله بها الموجودات إما بإيجادها أو بعد إيجادها فافهم ، والله ورسوله أعلم .

 

ثم قال - رضي الله عنه - شعرا :

هذي الخيام بدت على أطنابها  .....  فانزل بها إن كنت من أحبابها

قف بين هاتيك المعاني أنّها  .....  وقفت بها الأزمان في أترابها

ما هند إلّا من أقام على الغضا  .....  والبان والأثلات في أجنابها

فانخ مطيّك في الدّيار فإنّها  .....  دار مباركة على أصحابها

لله درّ منازل قد شرّفت  .....  بالسّاكنين وشرّفوا بترابها

لا تعرف الأغيار في غرفاتها  .....  مجهولة سدّت على أبوابها

النازلين بحيّها هم أهلها  .....  من بان عنها ليس من أنسابها

 

هذي الخيام بدت على أطنابها

هذا الخيام ( 1 ) البيت والأبيات بعده إلى تمامها أتينا بها جملة لما فيها من العذوبة الرائعة للأسماع الذائقة ، فإنها للأذهان كالغذاء للصاحي ، وكالنقل للسكران .

ثم نشرح كل بيت على حدته ، لتتم الفائدة ، وتحصل الجدوى والعائدة

فنقول قوله قدس سره :

هذا الخيام بدت على أطنابها * فانزل بها إن كنت من أحبابها

 

إشارته بهذا إلى الخيام المعبر عنها بما دلت على موجدها وهو الله تعالى ، والخيام هي الكائنات ، إذ الخيمة تظل من فيها إذا ضربت ، وليس ما ترى من الأجسام وأنواع الموجودات على الشيء الذي فيها من غير حلول إلا كالخيمة المضروبة المستظل بها القوم ،

ولذلك قال : على أطنابها جمع طنب وهي حبالها التي تربط بأوتادها ، والمراد هنا من الأطناب ما قامت به الموجودات كما قال تعالى :فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ” سورة النور : الآية 45 .

 

فإذا فهمت ذلك علمت أن قوله : هذا الخيام بدت على أطنابها يعني أن الموجودات من حيث ظهورها إنما ظهرت دالة على صانعها وخالقها على اختلاف تعيناتها ومحاتدها ، وأنها مظهر لذات [ للذات ] الواجبة ،

ولهذا قال : فانزل بها أي بالذات في حقائق المخلوقات ، يعني يريد منك أن تعرف الحق بالخلق .

"" توجد فوق كل من الحق والخلق حرف م وهي تدل على التقديم والتأخير ، فالصحيح أن تعرف الخلق بالحق . المحقق . ""

وهذا أكمل الرجلين في من عرف الوجود ، كما قيل : “ ما عرف الوجود إلا أحد رجلين : رجل رأى الخلق مظهرا والحق هو الظاهر ، ورجل رأى الحق مظهرا والخلق هو الظاهر “ .

ولهذا قال : إن كنت من أحبابها أي إن كنت ممن همته عالية ، لا يرضى بأن يعرفها بدون أسماء ذاتها لا بأسماء صفاتها ، لأن الذاتي له ما للصفاتي ولا عكس .

ويحتمل قوله : هذا الخيام البيت ، أن المراد بالخيام المعارف الحقانية بدت مطيته على بيت النبوة ، الذي هو محل نزول الملك بالوحي الإلهي ، فأخبر أنها - أي المعارف الحقانية - عالفة على جنابه الشريف ، الذي من جاءه وجد الله عنده كما قال تعالى :

وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ.

وظلمهم لأنفسهم أنزلوهم أسفل سافلين كما قال تعالى : “ إن الإنسان كان ظلوما ".

"" اقتباس من سورة الأحزاب: الآية 72 وهي كالتالي :إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا. ""

أي لنفسه حيث أنزلها منزلة أسفل سافلين “ جهولا “ أي بمقدارها العظيم الذي لها صمدنا [ بها صعدنا ] ،

ولهذا قال : فانزل بها إن كنت من طلابها أي كن محمدي المشهد ، لا ترض بأن ترجع إلى غير ميراثه الخاص به ، لتكون من أهل يثرب الذين قال تعالى فيهم :يا أَهْلَ يَثْرِبَوهم الورثة المحمديون من باب الإشارة ، لا من باب التفسير والعبارةلا مُقامَ لَكُمْأي في غير مقام محمد - صلى الله عليه و آله وسلم –فَارْجِعُوا.

"" اقتباس من سورة الأحزاب: الآية 13 ، وهي كالتالي :وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً. ""

 

أي عن كل مقام إلى مقامه كما قال تعالى :قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ”.

فإذا فهمت المعنى الأول في البيت ، والمعنى الثاني منه أيضا ، فاجمع بين المعنيين في أن المراد بكل منهما في حق الله - تعالى - وحق رسوله واحد كما قال تعالى :مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ” 5 “ فجعل طاعته عين طاعته .

وقولنا لك : اجمع بين المعنيين ، لئلّا تفهم أنا لمّا حملنا المعنى في الأول في

 

قوله : وانزل بها إن كنت من أحبابها وانزل بها إن كنت من أحبابها ( 1 ) ، وعرفناك أنه يريد منك أن تكون ذاتي المشهد ، أن الذاتي يكون مقامه مغايرا لمقام الوارث لمحمد - صلى الله عليه و آله وسلم - فيما جاء به خاصة ، وعبرنا بذلك الوارث أنه المراد بالمنادى

في قوله تعالى :يا أَهْلَ يَثْرِبَأن يكون الوارث مغايرا للذاتي المشهد ، بل لا يكون الذاتي ذاتيا إلا إذا كان وارثا ما جاء به عين الوجود - صلى الله عليه - خاصا ،

وذلك هو اليثربي ، وهذا اليثربي هو ذلك الذاتي ، واختص الوارث المحمدي بأن يكون مشهده ذاتيا ، لأن محمدا - صلى الله عليه و آله وسلم - محتده الذات ، وغيره محتده الصفات ، والصفات راجعة إلى الذات في تعينها واستنادها ،

ولذلك كان جميع الأنبياء - عليه وعليهم الصلاة والسلام - راجعين غدا إليه ، مستمدين من شفاعته لديه ، حيث يقول كل واحد منهم : “ لست لها ، لست لها “ ، فهذا معنى قولنا : اجمع بين المعنيين .

ولتعلم بذلك أيضا كل ما ورد عليك من مقام أعلى لا يستحقه سواه .

وفي قولنا : لا يستحقه سواه - أي سوى محمد - صلى الله عليه و آله وسلم - معنى تنبو عنه أفهام القاصرين ، ومرادنا بذلك أنه كما علمت مظهر الذات كما كان غيره مظهر الصفات ، فكل مقام أعلى هو مستحقه بالأصالة ، ومعنى أنه مستحقه بالأصالة لأنه أكمل الكملاء ، وأفضل الفضلاء على الإطلاق ، فهو مستحق لكل مقام أعلى يفيضه الحق عليه ، أو يفيضه الحق على كل من الأنبياء والمرسلين ، ولا يقاس على قوابل الأنبياء إلا بواسطته

كما قال عليه الصلاة والسلام : “ أنا من الله والمؤمنون مني “ أي أنا من الله بلا واسطة ، والمؤمنون من الله أي بواسطتي والمؤمنون هم الأنبياء - عليه وعليهم الصلاة والسلام - كما قال تعالى :وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ . الآية ، سورة آل عمران: الآية 81

والرسول هنا هو محمد - صلى الله عليه و آله وسلم - وتنكيره للتعظيم ، فهذا معنى قولنا : هو مستحقه بالأصالة ، يعني هو مستحق أن يفيض على قوابل الأنبياء ما استحقته قوابلهم ، وهذا هو المقام الأعلى والمظهر الأجلى ،

ولذلك قيل فيه : محمد الذي لم يترك للآلاء محلا ، والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .

 

قف بين هاتيك المعاني إنها

وقوله رضي الله عنه :

قف بين هاتيك المعاني إنها * وقفت بها أزمان في أترابها

قوله : قف بين هاتيك المعاني ( 1 ) البيت ، يأمرك بالوقوف في مسيرك بين هاتيك المعاني أي الموجودة في الموجودات كالعوايق ، والقواطع ، والموانع التي تفوق السائرين إلى الله - تعالى - وتقطعهم ، وتمنعهم .

فأمرك بالوقوف معها لتعلم لأي حكمة وجدت هذه العوائق وأمثالها ، ولتعلم الوجه الذي أوجدها ، لأنها - أي العوائق وأمثالها - مخلوقة ، وكل مخلوق ليس هو إلا لله ، ولا قيام له إلا به تعالى ، وقيامه بالله هو وجه الله الذي لذلك المخلوق ، فلولاه لما كان المخلوق مخلوقا .

وهذا مقام الكامل في سيره ، لأن الله - سبحانه وتعالى - لم يخلق الأشياء عبثا وإنما خلقها حكمة ،

ولهذا قال بعد قوله : قف بين هاتيك المعاني أنها ( 2 ) أي المعاني وقفت بها ( 3 ) أي إليها لكون طريق الله تعالى أزمان في أترابها ( 4 ) ولم يتجاوزوها حتى حققوا معرفة حقائقها ومعانيها التي وجدت لها .

وهذا تعليم لك من المصنف - قدس سره - ليعرفك معنى التربية في اصطلاحهم - رضي الله عنهم - .

وقوله : في أترابها ( 1 ) يعني هكذا كان حال الكمل من قبلك وسيرهم إلى الله تعالى ، وقفوا بين أبناء جنسهم في شهود حسهم حتى نقلتهم يد العناية الربانية بالأنفاس الرحمانية .

ويحتمل معنى قوله : قف بين هاتيك المعاني أنها ( 2 ) البيت إشارة إلى مقام : “ قف يا محمد إن ربك يصلي “ وهو لا يشغله شأن عن شأن ،

ولهذا قال : أنها وقفت بها أي أن الحقيقة المحمدية وقفت بتلك المعاني أزمان في أترابها وليس هناك أزمان ، لأن الزمان والمكان منزهة عند تلك الحضرة ، ولهذا قال : في أترابها وهي الأنوار الذاتية المعبر عنها بالسبحات ، ولا شك أنه - عليه الصلاة والسلام - منها كما علمت من قولنا : أنه ذاتي .

 

ولا منع في قوله : في أترابها أن في ظرف لمظروف ، وأن ذلك المكان يقبل الظرفية حاشا وكلا ، بل كما نقول : الأمير في مصالح رعيته ، يعني يدبرها فهو غير مظروف فيها .

واعلم أن تعبيرنا لهذه الأبيات بهذه المعاني ، مع أنا نعلم لم نوفها بعض حقها ، ولكن ذلك جهد المقل .

 

ما هند إلا من أقام على الغضا

وقوله رضي الله عنه :

ما هند إلا من أقام على الغضا * البان والأثلاث في أجنابها

 

قوله : ما هند ( 1 ) البيت ، يعني ما هند المحبوبة للعاشقين الطالبين وصالها من غير مشقة وتعب ، بل هند لا يحصل وصالها إلا لمن أقام على جمر الغضا ، وتعرض لنيل سهام الأقدار ، وجعل نفسه هدفا لها ، فيرى مرها حلوا ، وتعبها راحة ، وهجرها وصلة ، وغضبها رضى ، وسخطها إقبالا ، فهو كما قيل : “ منعم بعذاب ، معذب بنعيم “ .

إذ حال من طلب هذا المقام أن يكون صنعة بين يدي صانع كيف شاء قلبه ، ولأنه حينئذ لا يشهد أن له ذاتا سوى ذات محبوبه ، سواء أحرقته بهجرها أو نعّمته بقربها ، فحاله كما قيل :

أودع قلبي حرقا أودعي * ذاتك توذي أنت في أضلعي

وارم سهام اللحظ أو كون * أنت بما ترمي مصاب معي

موقعها القلب وأنت الذي * مسكنه فيذلك الموضعي

وخص القلب بسكون محبوبه فيه ، لأن القلب بيت الرب وعرشه .

 

البان والأثلاث في أجنابها  

وقوله : البان والأثلاث في أجنابها ( 1 ) كما قيل : “ حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات “ فمن تجنب البان والأثلاث ، ورضي بجمر الغضاء يحرقه ، فذلك يصلح أن يطلب وصال هند .

 

ولقد أشار إلى ذلك أبو يزيد - قدس سره - بقوله :

أريدك لا أريدك للثواب * ولكني أريدك للعقاب

فكل مآربي قد نلت منها * سوى ملذوذ وجدي بالعذاب

 

وهذا كما يقول أهل الله : “ ليس العجب من ورد وسط بستان لأنه المعتاد ، إنما العجب من ورد وسط النيران لأنه غير معتاد “ .

 

فقول أبي يزيد - قدس سره - : “ أريدك لا أريدك للثواب “ يعني أن مرادي لمّا وافق مرادك فيما أمرتني به ، لست ملتذا به ، لأن مأمورات الشرع ليس لي فيها شيء ، بل مرادي تذيقني عذابا ألتذ به وهو الغير المألوف لنفسي ، وتوجدني مع ذلك لذة تكون لذة ذلك العذاب عندي كلذة ذلك النعيم الذي وافقه مرادي من حيث أوامرك الشرعية .

وقوله : البان والأثلاث في اجنابها فالبان من البعد ، إذ العرب تتشائم من البان لأنه من البين ، وتتشائم أيضا بالغرب لأنه من الغربة ،

كما قال الشاعر :

على غضين من غرب وبان * فكان البان إذ بانت سليمي

 

وأما الأثلاث فواحدته أثل ، والأثل في اللغة هو الأصل ، وأصل الإنسان هي الطبيعة .

و معها حجاب عن نيل مراد المحبوب ،

ولهذا قال : البان والأثلاث في أجنابها يعني أن البين والطبيعة لا يميل إليهما إلا من كان مجنبا عن محبوبه ، إذ الطبيعة تخلد الإنسان إلى الأرض ، وذلك هو البين المبعد عن تلك الحضرة .

 

 ما هند إلا من أقام على الغضا

ويحتمل أن قوله : ما هند إلا من أقام على الغضا ( 1 ) البيت ، أن المراد بهند هي المعارف الموحى بها إليه ، تسمى في لغة آدم هندا ، كما تسمى في لغتنا حكمة ، ويكون المراد بالغضا الصبر الشاق على النفس من حيث حبسها عما تريد ، فإن الصبر على النفس أشق من جمر الغضا على الجسم ، ويكون المراد بالبين الوصل ، لأنه من أسماء الأضداد

كما قال - تعالى - على قراءة الضم :لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ” 1 “ أي وصلكم ، ويكون المراد بالأثلاث ، الأصل الذي خلق منه جميع العوالم - وهو الحقيقة المحمدية المعبر عنه بالعقل الأول –

فيكون المعنى حينئذ : ما هند أي ما الحكم الإلهية إلا لمن أقام النفس على الجادة - المعبر عنها بالمحجة البيضاء - التي يكون القابض على دينه فيها كالقابض على الجمر ، فحينئذ يعطى مقام الوصل الذي ليس بعده فصل ، والله أعلم بالصواب .

 

 

فانخ مطيك في الديار فإنها  

وقوله رضي الله عنه :

فانخ مطيك في الديار فإنها * دار مباركة على أصحابها

 

قوله : فانخ مطيك ( 1 ) البيت ، المراد بالمطي عزائم أمور السالك كما قال تعالى :وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ" سورة النحل ( 16 ) : الآية 7 . الآية ،

وأمر أن ينوخ المطي في الديار ، وهي المقامات التي سلكها السالك حتى تحمل عليها ما يعطيك المقام من زاد السفر ، فزاد التوبة من مقام التوبة وكذلك كل المقامات ،

ولذلك قال : فإنها ( 2 ) أي تلك الديار التي أنخت مطيتك فيها لزاد سفرك منها ، إنها مباركة ( 3 ) أي مبروكة على أصحابها ، فخرج بأصحابها من لم يكن أهلا للصحبة ، والمتأهل للصحبة هو التارك نفسه التي درت عليه تلك الديار بالبركات ، لما عرفته أنه من أصحابها ، فحق الصحبة عظيم لا يماثله عمل من أعمال غير الصاحب - ما ذا عسى كان ذلك العمل - كما ورد : “ لو أنفق أحدكم مثل أحد ما بلغ مد أحدهم ولا نصفه “ .

وقوله : في الديار ( 4 ) ثم قال بعده : فإنها دار لتعلم أن تلك المنازل المتعددة المسماة بأسماء متغايرة دار واحدة من حيث دورها ، كما يقال : النهاية الرجوع إلى البداية .

 

فالبداية أولا من الأحدية ، والنهاية إليها ، والأحدية واحدة ، وكل تلك المنازل الأحدية فيها بالذات ، فلهذا كان الديار في قوله : إنها دار مباركة ( 1 ) أي على أصحابها ، وهم الذين خصّوا بتجلي الأحدية من حيث القلب المحمدي من الإرث الخاص ، وهو للمحقق دون العارف .

وإتيانه بلفظ المطي ( 2 ) بصيغة الجمع لمقابلة الديار ، وليست المطي المعبر عنها بعزائمك إلا ما قام بذاتك ، وذاتك واحدة ، فناسب واحدية ذاتك أحدية الموروث فافهم ، والله ورسوله أعلم .

 

لا تعرف الأغيار في غرفاتها

وقوله رضي الله عنه :

لا تعرف الأغيار في غرفاتها * مجهولة سدت على أبوابها

 

يقول : أن الأغيار الواقفين مع حجاب العقل والنقل بالفكر النظري غير معروفين في غرفانها ، أي في ساعات معارفها - وهي حضرات المخاطبة ، والمكالمة ، والمحادثة ، والمسامرة ، وغير ذلك –

ولهذا قال : مجهولة ( 1 ) أي عنهم سدت على أبوابها ( 2 ) يعني جعلت حراسا لأبواب معارفها ، لا يأذنون لكل من أراد الدخول بحجاب عقله ، بل يردونه من حيث أتى ، فإذن فليعذروا ، وأعجب شيء إنكار الواقفين مع حجاب العقل فيما يرد عليهم من علوم الحقيقة ،

مع أنه قد بلغ إليهم قول الصادق المخبر : “ من كتم علما ألجمه الله بلجام من ناره “ ، وفي ذلك من باهر معجزاته ما لا يخفى على متأمله ، وما ذاك إلا لما علم - صلى الله عليه و آله وسلم - أنه سيأتي على أمته من ينكر على مثل أهل هذه الطائفة علومهم ، قال ذلك ردعا وتنبيها لمن مذهبه الإنكار على هؤلاء القوم ، فكما أن من كتم علما ألجم بلجام من نار ،

كذلك من أحب كتم علم ألجمه الله بلجام من نار :يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ. سورة التوبة: الآية 32.

 

روى الإمام محيي الدين بن العربي - قدس سره - “ قال :

دخلت على بعض مشايخي ، فدخل رجل من أهل الحديث - وكان ممن ينكر خرق العادة على من كان له خرق العادة عادة –

فقال له : ما دليلك يا فلان فيما لو تسلمت لهؤلاء القوم ما يدعونه ؟

فإنهم إن كانوا صادقين فقد أصبت نفسك ، وإن كانوا غير ذلك فحسبهم وما ادعوه ، ثم أشار إلي ، فعرفت أنه يريدني أجاوب ذلك المحدث ،

فقلت له : يا فلان أنت رجل من أهل الحديث ؟

فقال : نعم ،

فقلت له : لمّا علم - صلى الله عليه و آله وسلم - أنه سيأتي في أمته مثلك من ينكر على من كان خرق العادة له عادة ، أتى من سامع كلمة ما يقصم به ظهره ،

قال : وما هو ؟

قلت : ألست قد رويت لنا عن النبي - صلى الله عليه و آله وسلم - أنه قال : “ ربّ أشعث أغبر مدفوع على الأبواب لو أقسم على الله لأبره “ قال : نعم ، ثم حسنت حاله بعد ذلك ، ولم يكن ينكر على أحد من هذه الطائفة شيئا “ .

وحكي عنه أيضا - قدس سره العزيز - أن سبب شرحه لترجمان الأشواق الذي أنشأه بمكة ، سؤال صاحبه المسعود أبي محمد عبد الله بدر بن عبد الله الحبشي الخادم ، وسؤال الولد البار شمس الدين إسماعيل بن سود كين النوري بمدينة حلب ، وقد سمع من بعض الفقهاء قولا أنكره ،

وهو أنه سمعه يقول : “ قول الشيخ في أول هذا الترجمان : أنه قصد بما فيه من الأبيات الغزلية علوما وأسرارا وحقائق ، ليس بصحيح - والله أعلم –

وإنما فعله الشيخ تسترا ، حتى لا ينسب إليه لسان الغزل مع ما هو عليه من الدين والصلاح “ ،

فذكر ذلك لنا شمس الدين إسماعيل ، فشرعت في شرحه بحلب ، وحضر سماع بعضه ذلك الفقيه المتكلم وجملة من الفقهاء بقراءة كمال الدين أبي القاسم بن نجم الدين القاضي بن عديم بمنزلنا - وفقه الله - ، وأعجلنا السفر ، فأتممته بأقسرا سنة أربع عشر وستمأة ، ولمّا سمعه ذلك القائل

قال لشمس الدين إسماعيل : “ ما بقيت بعد هذا الأمر أتهم أحدا من أهل هذه الطريقة فيما يتكلمون به من الكلام المعتاد ، ويزعمون أنهم يشيرون به إلى علوم اصطلحوا عليها بهذه الألفاظ “ ، وحسن ظنه وانتفع ، فهذا كان سبب شرحي لهذا الكتاب “ .

وقوله رضي الله عنه : لا تعرفه الأغيار ( 1 ) البيت ، يعني أن الغير ليس له وجود مع من قال :لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ. سورة غافر: الآية 16  .

وليس المراد باليوم هنا القطعة من الزمان التي هي عبارة عن طلوع الشمس وغروبها ، بل المراد باليوم من أيام الرب ، وليس أيامه تعالى سوى تجلياته ، وهو دائما متجلي فهو دائم [ دائما ] مناد : “ لمن الملك اليوم “ ولقضية الالتباس على الخلق لم يشعروا بهذا السرّ كما قال تعالى :بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ” سورة ق ( 50 ) : الآية 15. فافهم .

 

النازلين بحيها هم أهلها

وقوله رضي الله عنه :

النازلين بحيها هم أهلها * من بان عنها ليس من أنسابها

 

قوله رضي الله عنه : النازلين بحيها ( 1 ) البيت ، المراد بالنزول الوقوف على قدم التجريد عن الكون بحي من لا نسبة بينها وبين الأكوان ، فأولئك هم أهلها ، وهم الذين لم يشهدوا السوى ، ولهذا قال : من بان عنها ( 2 ) أي بعد شهود مرتبة البين ليس من أنسابها ( 3 ) يعني ليس ممن هو منتسب إلى الشرف والمجد الذاتي ، لأن ذلك الشرف والمجد لا يكون للغير فيه نصيب أبدا ،

ومن ثم ورد : “ العظمة إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني أحدهما قصمته ، فضلا عن كليهما “ ، وقد علم أن لا منازع له فيهما .

ويحتمل أن يكون معنى النازلين بحيّها البيت أن النزول هنا بمعنى البقاء ، وأن الحيّ بمعنى الحياة ، وذلك أن العبد إذا أخذ في السير المعبر عنه بالفناء ، لم يزل يفنى عنه مراتب الأكوان ، حتى يبقى بمن ليس بكون ، وهي الحياة الإلهية التي أبقته بعد فنائه في مقام البقاء ، وتعبيرنا بالحي أنه بمعنى الحياة ، فإن الحي الذي هو محل لا يكون حيا إلا بمن أحياه وهم أهله كما قيل :

وما الحي إلا أن تكونوا بسفحه * وإلا فرسم دارس وطلول

إذا ما رحلتم عن حمى فهو دارس * وحي إذا أنتم هناك حلول

 

وهو أيضا شبه بقول من قال :

تحيى بهم كل أرض ينزلون بها * كأنهم لبلاد الله أمطار

فإذا فهمت ذلك علمت أن المحيي - وهو الله تعالى - هو الذي تجلّى في نظره إلى الوجود بتعينه فيه ، فلو رفع نظره عن الوجود لانعدم الوجود بأسره دفعة واحدة ، فحياة الوجود بنظر الله تعالى إليه أي إلى الوجود .

وليس المراد بقولنا : النازلين بحييها هم أهلها إلا الذين صارت حياتهم حياة الحق ، فهم أهل الله وخاصته ،

وهم القرآنيون الذات كما ورد : “ أهل القرآن أهل الله وخاصته “ فافهم .

 

لله در منازل قد شرفت

وقوله - رضي الله عنه - :

لله در منازل قد شرفت * للساكنين وشرفوا بترابها

 

قوله : لله در منازل ( 1 ) البيت ، المراد بالمنازل حضرات الأسماء والصفات في مراتبها المتعينات ، إذ بها تعينت الموجودات من حيث إنها مظاهرها ، فكل الموجودات مظاهر كل الأسماء والصفات .

فالخلق مظهر الحق - سبحانه وتعالى - من حيث اسمه الحي باعتبار سريان حياته فيها .

كذلك اسمه العليم ، فإن العالم جميعه معلوم للعلم الإلهي ، فالعالم مظهر اسمه العليم ، وهكذا إلى آخر أسمائه وصفاته .

وشرف الأسماء الحسنى بشرف المسمى ، إذ ليست إلا عينه ، وقوله : للساكنين ( 2 ) وهم الذين سكنوا تحت جريان مقتضيات الأسماء والصفات من حيث تضادها ، فإن المنعم ضد المنتقم ، والمنتقم ضد المنعم ، كما أن التضاد واقع في الأسماء والصفات واقع أيضا في الذات بدليل : “ اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك عن عقوبتك ، وأعوذ بك منك “ .

وقوله : وشرفوا بترابها ( 3 ) يعني أن الذين سكنوا تحت جريان الأقدار ، ولو أنصبت عليهم سحائب من نار لا يرونها إلا نعيما ، وهذا هو الشرف الذي ورثوه من آثار تجليات تلك الأسماء ،

وتلك الآثار هي المعبر عنها بترابها في قوله : وشرفوا بترابها يعني وشرفوا بآثار الأسماء والصفات ، حيث تسكن تحت أقدارها بما أمطرته أنوارها .

 

وكما قلنا : أن الأسماء شرافتها بشرف المسمى ، كذلك أيضا من كان مظهر تلك الأسماء الشريفة فهو مشرف بشرفها ، ومن ثم قيل : ما في الكون إلا حسن ، باعتبار ما بيناه من كون العالم جميعه مظهر الأسماء الحسنى ، فالعالم حسن بهذا الاعتبار ،وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. سورة  الزخرف : الآية 4 .

 

ثم قال رضي الله عنه :

الباء هي النفس ، وهي حرف ظلماني ، وليس في البسملة بأسرها من الحروف الظلمانية حرف إلا هي ،

وأعني بالحروف الظلمانية التي هي في أوائل السور مقطعة هي ( بجد ورقشت ثخذ ضظغ ) ، لأن الحروف النورانية التي في أوائل السور مقطعة هي ( أهر حطي كلمن سعفص ) ، فجعل الحق حرف الباء أول القرآن في كل سورة ، لأن أول حجاب بينك وبين الله وجودك ، فإذا فني ولم يبق إلا هي ، كانت أسمائه وصفاته التي هي منه حجابا عليه فتلك جميعها نورانية ،

ألا ترى أن بسم اللّه الرحمن الرحيم كلها نورانية ما خلا حرف الباء الذي يعني أنه وجودك فهو ظلماني والباقي جميعه نوراني ،

ومن هنا كانت الباء ثوبا على النقطة ، لأنها فوقها والثوب فوق اللابس ، فكانت الباء ظلمة فوق النقطة ، محجوبة بوجودها الذي هو العالم البارز عن عالم الجمال النقطي ، وحكمة ظهور النقطة ورائه إشارة إلى أن الأمر الحقيقي وراء ما ظهر .



.

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: