السبت، 9 نوفمبر 2019

مقدمة كتاب إبداع الكتابة وكتابة الإبداع في شرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية د. سعاد الحكيم

مقدمة كتاب إبداع الكتابة وكتابة الإبداع في شرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية د. سعاد الحكيم

مقدمة كتاب إبداع الكتابة وكتابة الإبداع في شرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية د. سعاد الحكيم

شرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية

المقدمة :    
مارس عبد الكريم الجيلي [ 767 هـ - 826 هـ ] إبداعا مزدوجا في فعل الكتابة : 
إبداعا في اللفظ ، وإبداعا في المعنى . والإبداع الثاني متقدم على الأول وسبب له ، لأن المعاني الجديدة والمعارف المبتكرة المبدعة المتولّدة من عنديّة الكاتب لا من صحائف السابقين ، تدفع فعل الكتابة الحر نحو أشكال جديدة من التعبير ومختلفة ، وتسهم في خلق لغة جديدة .
 "هذا ما حدث أيضا مع شيخ الصوفية الأكبر محيي الدين ابن العربي ، مما دفعنا لدراسة كيفية تكوّن اللغة لديه ، وارتباط هذا التكوّن بمعارفه الصوفية وبنية مشاهدته للكون . 
راجع كتابنا : “ ابن عربي ومولد لغة جديدة “ ، "
وقد أعلن الجيلي مرات عديدة في ثنايا كتبه أن علومه الصوفية من باب الأسرار التي لم يضعها واضع في كتاب ، وأنه يتنزل في الكلام على قدر ما تحتمله “ العبارة الكونية “ من جهة ، واللغة الصوفية من جهة ثانية . 
يقول : “ ثم نتكلّم من حيث ذاته ( تعالى ) على حسب ما حملته العبارة الكونية ، ولا بد لنا من التنزل في الكلام على قدر العبارة المصطلحة عند الصوفية ( . . . ) وسأنبّه على أسرار لم يضعها واضع في كتاب ، من أمر ما يتعلق بمعرفة الحق تعالى ومعرفة العالم الملكي والملكوتي ، موضحا به ألغاز الموجود ، كاشفا به الرمز المعقود ، سالكا في ذلك طريقة بين الكتم والإفشاء ، مترجما به النثر والإنشاء . فليتأمل الناظر فيه كل التأمل ، فمن المعاني ما لا
يفهم إلا لغزا أو إشارة ، فلو ذكر مصرّحا لحال الفهم به عن محله إلى خلافه فيمتنع بذلك حصول المطلوب “ . 
لقد كان الجيلي واعيا أن كتابته إبداعية على مستوى الشكل والمضمون معا ، فنبّه على ذلك في كل عمل أخرجه للناس ، اختار أن يكتب إبداعه المعرفي بأسلوب كتابة مبدع ، فنحت مفردات ، وانتهج الكتم والإفشاء معا ، والرمز في العبارة واللغز في الإشارة ، والتلويح دون التصريح . 
ولكن ، وعلى الرغم من انتهاج الجيلي للتلويح لا للتصريح ، إلا أنه يصرّح أحيانا بلغة بيانية لا ترميز فيها ، ويفجأ القارئ بحقائق عن الوجود والإنسان ، تدعو للإعجاب والتأمل.  "" ينبه الجيلي القارئ بأنه ما وضع في كتبه إلا ما هو مؤيد بكتاب اللّه أو سنة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأنه إذا لاح للقارئ شيء في كلامه بخلاف الكتاب والسنة فليعلم أن ذلك من حيث مفهومه لا من حيث مراد الجيلي . وينصحه بالتوقف عن العمل بما يقرأ ، ويسلّم ، وينتظر إن يفتح اللّه عليه بمعرفته . ( الإنسان الكامل ، ج 1 ص 5 ) .  "" . 
وحيث أننا نعتبر الجيلي من أهل الاختصاص في الحقل الصوفي ، واختصاصه هو “ الإنسان “ ، نلفت إلى أنه قدّم ، من خلال تجربته الشخصية ومشاهداته الخاصة ، رؤية للإنسان الكامل بالذات والأصالة ، الواحد منذ الأزل إلى الأبد ، تفتح المجال واسعا أمام جنس البشر للتحقق بالكمال واللحوق به . 
لقد فتح الجيلي بكتاباته كلّها ، على الأخص بالقصيدة العينية التي ننشرها اليوم ، آفاقا جديدة أمام إنسان اليوم ليستعيد ثقته بذاته وجنسه ، وينهض من جزيء إقليمه إلى الكون الواسع ، ويتحقق بفعالية روحية توازن ثقل المادة الذي أحنى ظهور بني آدم جميعا ، ودون استثناء . 
يعلّم الجيلي الإنسان ، بأن جوهره ليس عقلا ولا إرادة ، بل جوهره إلهي  . 
وأن موقعه في الوجود هو خلافة اللّه في الأرض ؛ لذا فما عليه إلا أن يجاهد العوائق ليحقق ذاته ، ويرقى من المرتبة الكونية إلى المرتبة القدسية ، ويتسلّم مفاتيح الكون  .

ويقدّم الجيلي للقارئ بين يدي ذلك سيرته الروحية ، التي تمثّل نصف القصيدة العينية تقريبا ، ليدفعه من الضعف إلى القوة ، ومن العدم إلى الوجود ، يدفعه ليقيم الناموس الإلهي في وجوده الآدمي، ليحيا بالحياة الأبدية ويكون له من القدرة في دار الدنيا ما سيكون لأهل الجنة في الدار الآخرة ، فلا يتصور شيئا في نفسه ، إلا أوجده اللّه تعالى في حسّه . . هذه القدرة التي يكتمها الوجود عن الإنسان ويخفيها  . 
وقد قسمت مقدمتي هذه إلى خمسة أقسام كبرى تضم عناوين جانبية ، وهي : 
1 - حياة الجيلي : ولادته - أسفاره ومسار حياته - وفاته . 
2 - مؤلفات الجيلي 
3 - شخصيات أثرّت في الجيلي : أساتذة الجيلي المعاصرين له - الماضي الحي . 
4 - نهج الجيلي في الكتابة والتأويل : رتبة المتلّقي وفهم المعنى - تعدد الفهوم وسلم المعاني - التأويل الإلهامي . . فتوح التأويل - كتابة الجيلي . 
5 - القصيدة العينية : فرادة القصيدة العينية - القصيدة العينية ومسألة الفهم - بنية القصيدة - أهم أفكار القصيدة العينية ( العشق الإلهي ، وحدة الوجود ، الإنسان الكامل ، الجيلي يكتب سيرته الروحية ) - تحقيق نص القصيدة ونسخ المخطوطات . 
وفيما يأتي نفصّل هذه الأقسام . 
1 - حياة الجيلي 
على الرغم من المكانة الوثيقة المجمع عليها التي حظي بها الجيلي بين صوفيّة عصره والعصور اللاحقة ، وعلى الرغم من أن مؤلفاته - وخاصة كتاب “ الانسان الكامل “ - يعدّ ثروة عرفانية تلقاها كبار الصوّفية بإكبار ، وعكفوا على قراءتها
ومدارستها في حلقاتهم . . إلا أن أخبار حياته الواصلة إلينا لا تمكننا - لندرتها في المجال الشخصي - من التعرف على شخصه التاريخاني ، وإن كانت - لكثرتها في المجال الروحاني - تسمح لنا بالإطلال وشبه إحاطة بحياته الروحية . 
ولعل سبب غياب أخباره يكمن في نمط “ الوحشة الاجتماعية “ الذي طبع حياته الروحانية . فهو - شخصيا - لم يهتم بإرساء مدرسة صوّفية خاصة به ، ولم يتخذ لنفسه تلامذة مقربين ، مما حرمه من وجود امتداد بشري متصل به ، يخبر عنه ، يروي أخباره ، ويخط أفكاره . وبالتالي اندرجت كافة روايات الباحثين اللاحقين تحت باب “ الاستنتاجات “ ، لا المعلومات . 
وبعد النظر في الدراسات القديمة والمعاصرة ، والمتوافرة لدينا ، نجد أنفسنا أمام روايتين لقصة حياة الجيلي : الرواية الأولى هي المشهورة ، والمتداولة - تقريبا - لدى جميع المؤرخين للجيلي والدارسين . والرواية الثانية انفرد بطرحها طالب ودافع عنها في رسالة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه . 
وتختلف هاتان الروايتان في أمرين : الأول ، مكان ولادة الجيلي وبالتالي نسبه وجنسيته ؛ والثاني ، مكان وفاة الجيلي وبالتالي مثوى جسده في تراب . وتتفق هاتان الروايتان في أسفاره ومواعيد تواجده في بقاع الأرض ، ومرجع هذا الاتفاق إلى نصوص الجيلي نفسه الصريحة في هذا الموضوع . وفيما يأتي نورد القليل الذي نملكه حول الحياة الدنيا لهذا الشخص :
أ - ولادته : 
تجمع المصادر على أن الجيلي ولد عام 767 هـ ( 1365 - 1366 م ) ، ما عدا بروكلمان الذي يقول أنه ولد علم 777 هـ . ويوفر علينا الجيلي نفسه مهمة التدقيق ، إذ يعلن في قصيدته العينية التي ننشرها اليوم سنة ولادته ، يقول: 
ففي أوّل الشّهر المحرّم حرمة   .....   ظهوري بالسّعد العطارد طالع
لستّين مع سبع إلى سبعمائة   .....   من الهجرة الغرّا سقتني المراضع 
أما بخصوص مكان ولادة الجيلي ، فتتعدد المقولات ، فهو إما ولد في “ جيل “
وهي قرية من أعمال بغداد ، وبالتالي فهو بغدادي  . 
وإما ولد في “ جيل “ من بلاد الهند ، على ما يقول النابلسي ، وبالتالي فهو هندي الأصل . 
أما الروايتان الجديرتان بالتنوية فهما : 
الرواية الأولى ، وهي المتداولة والمشهورة ، وتقول بأن الأصول العائلية لعبد الكريم الجيلي ترجع إلى مدينة “ جيلان “ الفارسية ؛ أما هو فقد ولد في بغداد . وتستند هذه الرواية في مقولتها إلى نص عرّف فيه الجيلي نفسه بأنه “ الكيلاني نسبا ، البغدادي أصلا ، الربيعي عربا ، الصوفي حسبا . . . “ . 
والرواية الثانية  ، وهي التي انفرد بها السيد نجاح الغنيمي ، في أطروحته المعنونة “ عبد الكريم الجيلي ومكانته في الفكر الاسلامي الصوّفي “ ؛ فإنه يورد عبارة الجيلي السابقة ، التي عرّف عن نفسه بها ، ويناقشها ، ويصل إلى النتائج الآتية : 
1 - إن كل الآراء التي تقول بأن الجيلي ولد بجيلان ، هي آراء لا أساس لها من الصحة ، ولا سند لها . والدليل أن الجيلي حين ذكر “ جيلان “ وصفها بأنها “ أقصى البلاد “ ، كما أنه ذمّ أهلها وأهل بلاد مجاورة لها ، وحذّر من سكّانها ومعاشرة ناسها ومخالطتهم . 
2 - إن الجيلي لا تربطه بالشيخ عبد القادر الجيلاني رابطة قربى ، على ما ذكر حاجي خليفة . والدليل أن الجيلي لم يشر من قريب أو من بعيد إلى هذه النسبة ، ولو كان يمت له بصلة لما أغفل ذلك ، وخاصة أنه يوقّر جدا الشيخ عبد القادر ، ودرج على تلقيبه بألقابه المعروفة .

3 - إن القرائن كلّها تشير إلى رجحان صدق الجيلي في دعوى نسبه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ؛ ذلك أنه ذكر كونه “ الربيعي عربا “ ، وربيعة بن نزار ترجع إلى معد بن عدنان ، وعدنان هو ولد إسماعيل صراحة بلا شك . 
وبعد أن ناقش الغنيمي مقولة الجيلي ، يبرهن على كونه “ يمنيا “ ولد في “ جيل اليمن “ ، لا في “ جيلان فارس “ ، أو “ جيل بغداد “ أو “ جيل الهند “ .
ويستدل على ذلك بإيراد نصوص للخزرجي ، المؤرخ اليمني ، المتوفى عام ( 812 ه ) ، من كتابه “ طراز أعلام الزمن “ ، يفهم منها أخبارا عن إبراهيم الجيلي الصوّفي ، وسكناه في أبيات حسين [ تتبع زبيد ] ، وزواجه فيها وظهور أولاد له هناك ، وبقاءه إلى أن توفي .
ثم يحاول أن يبرهن أن إبراهيم الجيلي هو والد - الصوّفي الكبير موضوع كتابنا هذا - عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي ، نظرا لتوافق الأسماء من ناحية ، والتناسب الزماني العمري بين الرجلين من ناحية ثانية . 
كما أن كلا الرجلين صحب الشيخ إسماعيل الجبرتي ، كبير صوفية زبيد باليمن ، وكلاهما توفيا ودفنا في “ بيت حسين “ ، وكلاهما عزف عن ممارسة الحياة السياسية . 
ونقول ؛ بعد أن أوردنا الروايتين ، إننا نرجّح كون عبد الكريم الجيلي يمني المولد والمنشأ ، مع احتمال كون والده من أصل بغدادي ، ارتحل نهائيا إلى اليمن ، وأقام عائلته هناك . 
والأسباب التي تدعونا إلى ترجيح رواية اليمن ، هي - بداية - سيرة حياة الجيلي المغرقة في البعد عن “ العمران البشري “ مما يصعب معه تلمس بغداديته . 
ثم مسار أسفار ، واستقراره المتقطع في زبيد ورجوعه إليها باستمرار . وثالثا ، نمطه المباشر في التعبير عن تجربته الروحية وأفكاره ، نمط أقرب للشخصية اليمنية منه للشخصية البغدادية بين القرنين الثامن والتاسع الهجريين . . .
ب - أسفاره ومسار حياته : 
لا نملك نصوصا تخبرنا عن طفولة الجيلي ونشأته ؛ إلا أن هناك إلماحة إلى حياة روحيّة مبكرة ، تمثلت بالتوجه نحو اللّه ، بعلو الهمة وطلب مستمر للمعالي ، والبعد عن شواغل عامة الناس ، وترك الماديات ومنازلة الرياضات والمجاهدات . . 
يقول في القصيدة العينية ، التي نتصدى لشرحها اليوم [ ب ب : 331 - 336 ] :
ومذ كنت طفلا فالمعالي تطلّبي   .....   وتأنف نفسي كلّ ما هو واضع
ولي همّة كانت وها هي لم تزل   .....   على أن لي فوق الطّباق مواضع
وقد كنت جمّاحا إلى كلّ هيئة   .....   فخضت بحارا دونهنّ فجائع
وكلّ الأماني نلتها ، وهي إن علت  .....   بها ، بعد نيل القصد ، ما أنا قانع
 “ويخبرنا في كتابه “ الإنسان الكامل “ عن انتقاله ببركة شيخه الجبرتي من معراج الخسران ، سحر أحمر كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، إلى المعراج الثاني ، المعراج القويم . وكان ذلك في سماع بمدينة زبيد [ في اليمن ] ، في بيت الشيخ شهاب الدين أحمد الرداد ، عام 779 ه ، أي والجيلي في الثانية عشرة من العمر “ 1 “ . ويتأكد لدينا بكوره الصوفي ، عندما نعلم أنه كان لا يزال يافعا في السادسة عشرة من عمره ( عام 783 هـ ) ، حين أرّخ لأول مشهد تحقّق به [ بحسب ما وصل إلينا من نصوصه ] ، وهو مشهد من مشاهد إرادة الانسان الكامل ، دوّنه في كتابه “ المناظر الإلهية “  . 
وحيث أن الحاجات الروحية هي المحرك الأساس لحياة الجيلي ، والروح صفتها السريان والانتشار وعدم الانحباس ، فها هو مسافر في أرض الكون والناس . . 
وسفره كتفتّحه الروحاني كلاهما أسهما في تحررّه من رقّ التواطؤ الاجتماعي ، ودعما بناءه العرفاني منذ بدايات وعيه لأناه وللآخرين . 
أول سفر قام به ، بحسب ما نقّدر من النصوص الواصلة إلينا ، هو سفره إلى قرية الأنفة [ في اليمن ] ، ولقاؤه مع الشيخ الصوّفي أبي عبد اللّه محمد بن إسماعيل بن أبي بكر بن يوسف المكدش ، وقد ذكر هذا اللقاء في كتابه “ المناظر الإلهية “ ، وأخبر بأنه رأى من هذه الزيارة في “ أيام بدايته “ بركات كثيرة “ 3 “ . ونرجح أن هذا اللقاء بالشيخ المكدش وتحققه بمشهد من مشاهد إرادة الإنسان الكامل هما - تقريبا - منزامنان ؛ أي والجيلي لا يزال في السادسة عشرة من عمره . 
ويذكر الجيلي سفرا من البيت الحرام إلى مدينة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، جرى له فيه واقعة

لطيفة :
 إذ التقى في الينبوع الكبير بالشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي ( المتوفى عام 638 هـ ، أي قبل الجيلي بحوالي القرنين ) ، وكان ابن عربي واقفا وبيده أجزاء ( كانت عند الجيلي ) من شرح فصوص الحكم لداود القيصري يريد أن يعلّمه ما فيها والجيلي يريد أن يقرأ عليه ؛ كما كان في غاية السرور والتبشيش ، فجلس الجيلي بين يديه ، وأكل معه “ الملوخيا “ ، وهو “ طعام لا يؤكل إلا عند اجتماع الأحباب “ ، بحسب تعبير الجيلي  . 
والملفت للنظر أن الجيلي يذكر تاريخ هذه الواقعة عام ( 889 هـ ) ، وهذا التاريخ يجعل اللقاء بعد وفاة الجيلي نفسه بحوالي الستين سنة . . ربما هناك خطأ في تدوين التاريخ ، أو ربما يريد الجيلي أن يخبرنا بنمط حياة يستمر بعد الحياة . 
أما أول سفر بعيد ، أدخل الجيلي نطاقا حضاريا مختلفا ، فهو سفره إلى الهند ، عام ( 790 هـ ) ، وكان له من العمر 23 عاما . . 
وقد دوّن مشاهداته في العالم الخارجي ، والغرائب التي أطّلع عليها في أنماط البشر ؛ كما شهد على عقائد مختلفة مستغربة لديه ، وعرض لتفاصيل إيمانية لدى شعوب المنطقة  . 
يترك الجيلي الهند ، ونراه في مكة عام ( 790 هـ ) ، حيث التقى الجبرتي [ للمرة الأولى بحسب رواية أن الجيلي بغدادي فارسي الأصل ] . 
بعد مكة نجد له رحلات إلى بلاد فارس . . إلى أذربيجان ، وشيروان ، وجيلان ، وخراسان . . وكان الجيلي أثناء ذلك قد قارب الثلاثين من عمره . وفي بلاد فارس يتعلّم الفارسية ويتقنها ، ويؤلف بها كتاب “ الانسان الكامل “ بلسان الفرس “ 3 “ . ورسالته “ جنة المعارف وغاية المريد والمعارف “ . 
وبعد بلاد فارس يتجه إلى جنوب الجزيرة العربية ، كما ذكر الأهدل  . 
في عام ( 796 هـ ) ، وقد شارف الثلاثين يصل إلى زبيد ، ويظل بها حتى عام ( 799 هـ ) ، يجتمع بالإخوان في مسجد الجبرتي . 
وفي هذه المراحل من عمره يظهر بوضوح توجّه تجربته الروحية وعرفانه ومشاهداته نحو حقيقة الذات المحمدية . . 
لقد اتخذت علومه اللدنية نهج التخصص العرفاني ، حتى أضحى اسمه في الحقل الصوّفي ملتصقا بموضوع “ الانسان الكامل “ . ونستطيع القول ، إن كان محيي الدين ابن العربي وجودي العلوم كوني التجربة الروحية ، فالجيلي إنساني العلوم ، تفصّل مشاهداته وعلومه كون الانسان الكامل [ الذات المحمدية ] هو النور الأول الذي منه خلق اللّه كل شيء ، وبعد خلق الأكوان هو الذي عليه مدار الوجود الموجود . 

يورد الجيلي في عام ( 796 هـ ) ، وهو في زبيد ، مشهدين صوفيين يؤكدان ما ذهبنا إليه . 
يقول في النص الأول ، أنه بعد سماعه الفقيه أحمد الحبايبي في مسجد الجبرتي وبحضرته يقرأ قوله تعالى :"وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ" [ الحجر : 87 ] ، أشهده الحق سبحانه اتصاف نبيّه محمد صلّى اللّه عليه وسلم بالأوصاف النفسية [ السبعة ] ، التي هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ، وشهده صلّى اللّه عليه وسلم بعد اتصافه بأوصافه : عين الذات الغائب ، في هوية الغيابات . . . “  . 
أما النص الثاني فيشير إلى “ اعتقاده “ بأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم يتمكّن من التصوّر بكل صورة ، وأنه يتجلى في الزمان في صورة أكمل البشر في العصر ، فهم خلفاؤه ، وهو صلّى اللّه عليه وسلم حقيقتهم ، وأنه اجتمع به صلّى اللّه عليه وسلم في صورة شيخه الجبرتي  . 
وفي عام ( 799 هـ ) ، وللجيلي 32 عاما ، نراه في مكة ، وقد اجتمع به بعض أهلها ، ويذاكرونه في “ الاسم الأعظم “ ؛ الذي قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه في آخر سورة البقرة وأول سورة آل عمران  . 
وفي عام ( 800 هـ ) ، وللجيلي 33 عاما ، نجده قد عاد إلى موطنه ، إلى زبيد . 
وهناك شاهد اجتماع الرسل والأنبياء والأولياء والملائكة ، ورأى روحانية الموجودات كلّها ، يقول : “ وفي هذا المشهد اجتماع الأنبياء والأولياء بعضهم ببعض ، أقمت فيه بزبيد بشهر ربيع الأول ، في سنة ثمانمائة من الهجرة النبوية ، فرأيت جميع الرسل
والأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ، والأولياء والملائكة العالين والمقربين ، وملائكة التسخير . ورأيت روحانية الموجودات جميعها ، وكشفت عن حقائق الأمور على ما هي عليه من الأزل إلى الأبد ، وتحققت بعلوم إلهية ، لا يسع الكون أن نذكرها فيه ، وكان في هذا المشهد ما كان “ . 
وفي عام ( 802 هـ ) ، وقد بلغ الخامسة والثلاثين ، نراه في المدينة المنورة ، يسجّل لنا رؤيته للنبي صلّى اللّه عليه وسلم بالأفق الأعلى والمستوى الأزهى ، ذاتا محضا صرفا ، وهو تجل لمشهد من المشاهد العلية التي تخبر عن الحقيقة المحمدية  . 
وفي ربيع عام ( 803 هـ ) ، كان الجيلي في مدينة غزة ، ويخبرنا أنه في هذه المدينة المحروسة برزت الإشارة الإلهية له بوضع كتابه “ الكمالات الإلهية في الصفات المحمدية “  . 
وفي رجب من العام نفسه ، ( 803 هـ ) ، يخبرنا الجيلي أنه أنهى في القاهرة “ المحروسة “ كتابة مؤلفه “ غنية أرباب السماع “  . 
وفي عام ( 805 هـ ) ، وللجيلي 38 عاما ، نجده أولها في صنعاء اليمن ، ويدّون ذلك في كتابه “ شرح مشكلات الفتوحات المكية “  ، وأواخرها في زبيد بمسجد الجبرتي وقد شهد وهو في صلاة الصبح ، وفي الركعة الثانية منه ، في أحد أيام العشر الأواخر ، علوم كتابه “ حقيقة الحقائق ، التي هي للحق من وجه ومن وجه للخلائق “ ، وأنشأه بعينه كما شهده  . 
وبعد عام ( 805 هـ ) ، لا نملك نصوصا تحدد أماكن تواجد الجيلي ، أي حوالي العشرين سنة الأخيرة من حياته . ويرجح زيدان أنه رجع إلى زبيد [ كان له من العمر 38 عاما ] ، وبقي فيها إلى أن توفي عام ( 826 هـ ) ، عن تسع وخمسون سنة قمرية .
ج - وفاته : 
كما أننا لا نملك أخبارا وثيقة بمكان ولادة الجيلي ونشأته وبالتالي تتالت اقتراحات الباحثين وبراهينهم ، كذلك فيما يتعلق بمكان وفاته ومرقد رفاته تتعارض أقوال الدارسين . . فمنهم من ذهب إلى كونه توفي في بغداد وله فيها مقام يزار . 
ومنهم من أكد وفاته في اليمن ومثواه في تربة أبيات حسين التابعة لزبيد  . 
وكذا ، في تحديد تاريخ وفاته ، فذهب فريق إلى أنه عام ( 832 هـ )  ، وفريق آخر إلى أنه ما بين عامي ( 811 و 820 هـ )  ، وفريق ثالث إلى أنه ما بين ( 805 و 829 هـ ) ، وليس بعد سنة 829 هـ بأي حال من الأحوال ؛ وفريق رابع إلى أنه توفي عام 826 هـ . 
ومن النظر في كافة الوثائق والتكهنات ، نذهب إلى ما ذهب إليه د . يوسف زيدان ، ود . نجاح الغنيمي من أن الجيلي توفي بمدينة زبيد ( أبيات حسين ) عام ( 826 هـ ) . وذلك أن صاحب هذه المقولة هو بدر الدين بن حسين الأهدل ، من علماء اليمن المشهورين ، في كتابه “ تحفة الزمن بذكر سادات اليمن “ . 
  

2 - مؤلفات الجيلي 
لقد رجعنا إلى كتب فهارس المخطوطات القديم منها والحديث ، كما اعتمدنا على دراسات معاصرة لدارسين اهتموا بالجيلي خاصة  . . وخلصنا إلى لائحة معلومات عن كتب الجيلي ، الموجودة والمفقودة ، وبلغ عددها - عندنا - 39 كتابا . 
وسنحاول فيما يأتي إيرادها بحسب التسلسل التاريخي ، وفق استنتاجاتنا لا وفق وثائق واضحة ؛ كما أننا سوف نرصد إحالات الجيلي إلى كتبه الأخرى الواردة في كل كتاب فيها ، بحسب الامكانية : 
1 - الكهف والرقيم في شرح بسم اللّه الرحمن الرحيم ( أو ) الكهف والرقيم الكاشف عن أسرار بسم اللّه الرحمن الرحيم “ 2 “ . [ موجود ] 
* ذكر بروكلمان أن الجيلي ألف كتابه هذا عام ( 789 هـ ) ، أي وهو في الثانية والعشرين من العمر ، ودون أن يشير إلى المصدر الذي اعتمد عليه . . ولكن الجيلي نفسه يذكر في كتابه شرح الفتوحات المكية ، أن “ الكهف والرقيم “ هو أول كتاب ألفه “ 3 “ . 
* يتناول الجيلي في هذا الكتاب شرح أسرار “ بسم اللّه الرحمن الرحيم “ ، على نهج الصوّفية في الفهم والتعبير . 
*يرد ذكر هذا الكتاب ضمن فهارس مخطوطات : برلين - الديوان الهندي - البلدية بالإسكندرية - الخديوية - دار الكتب ( مصر ) - باتنا ( الهند ) - هيدلبرج –
كمبردج - تونس الزيتونة - داماد زادة - آصفية - رامبور - مكتبة الأحمدية ( حلب - سوريا ) - الخزانة الملكية ( الرباط - المغرب ) - أسعد أفندي ( تركيا ) - حاجي محمود ( تركيا ) - حالت أفندي ( تركيا ) - شهيد علي ( تركيا ) . 
* طبع هذا الكتاب في : حيدر آباد [ عدة مرات ] ، وفي القاهرة ( الخانجي 1326 ه ) . 
* لا توجد في هذا الكتاب إحالات إلى كتب أخرى للجيلي . 
* يذكر نجاح الغنيمي ، أن د . إبراهيم بسيوني قام بدراسة تحليلية لهذا الكتاب ضمن الفصل الثاني من الباب الثاني ، في كتابه : “ البسملة بين أهل العبارة وأهل الإشارة “ ؛ المطبوع في القاهرة 1972 “ 1 “ . 
2 - رسالة السبحات [ مفقودة ] 
ذكرها الجيلي في رسالته : “ شرح أسرار الخلوة “ أو “ الإسفار عن رسالة الأنوار “ . ص 195 ، ص 245 ، ص 248  . 
3 - مرآة الحضرات [ مفقودة ] 
ذكر هذه الرسالة في كتابه “ شرح أسرار الخلوة “ أو “ الإسفار عن رسالة الأنوار “ ص 245 “ 3 “ . 
4 - رسالة في انفصال الروح والنطفة [ مفقودة ] 
أشار إليها في كتابه : “ شرح أسرار الخلوة “ أو “ الإسفار عن رسالة الأنوار “ ص 146  . 
5 - الانسان الكامل ، بالفارسية [ مفقود ] 
ذكره في رسالته : “ شرح أسرار الخلوة “ ص 22 “ 5 “ .
6 - جنة المعارف وغاية المريد والعارف ، بالفارسية [ مفقود ] 
أشار الجيلي إلى هذا الكتاب في مؤلفه “ الكمالات الإلهية “ . 
7 - شرح أسرار الخلوة ( أو ) الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأنوار . 
* هذا الكتاب يشرح فيه الجيلي كتابا لمحيي الدين بن عربي عنوانه “ رسالة الأنوار “ ، وقدم فيه للشرح بمقدمة طويلة حول علم الكلام والتصوّف . ويقول في هذه المقدمة ( ص 5 ) ، أنه شرع في الإسفار عن حقائق رسالة الأنوار المنسوبة إلى ابن عربي واعتمد على نسخة كانت عنده . 
*  يرد ذكر هذا الكتاب ضمن فهارس مخطوطات : برلين - الديوان الهندي - دار الكتب المصرية . 
*  أحال الجيلي في كتابه هذا إلى : “ الانسان الكامل “ ، بالفارسية - “ رسالة انفصال الروح والنطفة “ - “ رسالة السبحات “ . 
*   مطبوع في مطبعة الفيحاء ، دمشق ، عام 1929 م . 
8 - شرح على القصيدة الهائية ، التي مطلعها : 
من ذاق طعم شراب القوم يدريه   .....   ومن دراه غدا بالروح يشريه  .....  
 توجد منه نسخة خطية بمكتبة الأوقاف ببغداد تحت رقم 7074 ضمن مجموعة  . 
9 - “ السفر القريب نتيجة السفر الغريب “ . 
*  ذكرت سهيلة الترجمان أنه توجد من هذه الرسالة نسخة مخطوطة في برلين ، اعتمدت عليها في بحثها . 
*   ذكر زيدان أنه يوجد نسخة مخطوطة من هذه الرسالة في دار الكتب بالقاهرة .
10 - “ منزل المنازل “ . 
*   منزل المنازل في سر التقربات بالفوائد والنوافل . 
*   توجد نسخة مخطوطة في حيدر آباد - الدكن ، برقم 192 / 1299  . 
11 - قصيدة “ الدرة الوحيدة في اللجّة السعيدة “ . 
ذكرها في كتابه : “ الإنسان الكامل “ . ج 2 / ص ص 44 - 46 . 
12 - “ مسامرة الحبيب ومسايرة الصحيب “ [ مفقود ] 
رسالة في آداب الصحبة . ذكرها في كتابه “ الإنسان الكامل “ . ج 2 / ص 116 
13 - “ قطب العجائب وفلك الغرائب “ [ مفقود ] 
*  ذكره الجيلي في كتابه : “ الإنسان الكامل “ ، ج 1 / ص 10 
*  ذكره الجيلي في كتابه “ مراتب الوجود “ ، ص 25 
14 - “ النوادر العينية في البوادر الغيبية “ ( أو ) “ القصيدة العينية “ . 
*  هي القصيدة التي نتصدّى اليوم لشرحها ، ونشرها في هذا الكتاب الذي بين أيديكم . 
*   وهي قصيدة صوفية تتألف من 536 بيتا ؛ لا يضاهيها في حقل الشعر الصوفي إلا تائية ابن الفارض . وإن كانت تتميز عن هذه الأخيرة بوحدة الموضوع وتسلسله ، واحتوائها لفكر الجيلي شعرا ، إضافة إلى سيرته الروحية منذ قبل وجوده في عالم الشهادة وصولا إلى تحققه بمقام “ خليفة اللّه في زمانه “ “ 2 “ . 
* ذكرها حاجي خليفة في كتابه “ كشف الظنون “ ، وقال فقط : “ الدرة العينية في الشواهد الغيبية . للشيخ عبد الكريم الجيلي ، وهي قصيدة عينية في ثلاث وثلاثين وخمسمائة بيت “ “ 3 “ . 
*   يرد ذكر نسخ مخطوطة لهذه القصيدة ضمن فهارس مخطوطات : برلين - جوتا -
المكتبة الأهلية ( باريس ) - بودليان - ليبزج - كمبردج - المتحف البريطاني - دار الكتب المصرية - هيدلبرج - المكتبة الظاهرية ( دمشق ) - الأوقاف ( العراق ) - فيض اللّه ( تركيا ) - شهيد علي ( تركيا ) - حاجي محمود أفندي ( تركيا ) - أسعد أفندي ( تركيا ) . 
*   طبعت هذه القصيدة على هامش “ بهجة الأسرار “ للشطنوفي ، بالقاهرة ، سنة 1304 ه “ 1 “ . كما قام بتحقيقها وطبعها حديثا الدكتور يوسف زيدان . 
*   شرح القصيدة عبد الغني النابلسي (ت 1143 هـ) ،عام 1086 هـ ،وعنوان الشرح هو: “ المعارف الغيبية شرح القصيدة العينية “. 
*   خمّس القصيدة أبو الفتح سرحان السمرجي الشربيني الشرنوبي الدمياطي . 
وعنوان التخميس : “ منظوم قلائد الدر النفيس في تحقيق سرّ معنى التثليث والتخميس “ . 
15 - “ الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل “ 
*  أشهر مؤلفات الجيلي ، وسبب شهرته وبقاء فكره حيا . يتناول فيه الجيلي مسألة “ الإنسان الكامل “ وسوف نبحثها في هذه المقدمة ضمن أفكار قصيدته العينية ، فلتراجع في مكانها . 
*   توجد نسخ عديدة لمخطوطات هذا الكتاب ، فقد ورد ذكره ضمن فهارس مكتبات : برلين - جوتا - المكتبة الأهلية ( باريس ) - المتحف البريطاني - مكتبة جاريت - حالت أفندي - هيدلبرج - كمبردج - فهرس الرباط - فيض اللّه ( تركيا ) - مكتبة سليم ( تركيا ) - قليج على ( تركيا ) - نور عثمانية ( تركيا ) - أيا صوفيا ( تركيا ) - ولي الدين ( تركيا ) - شهيد علي ( تركيا ) - الموصل - الظاهرية دمشق - الخالدية ( القدس ) - بشاور - آصفية - دار الكتب المصرية - مكتبة طلعت ( مصر ) - مكتبة الأزهر ( مصر ) - المسجد الأحمدي ( طنطا ) - مكتبة عارف باشا ( المدينة المنورة ) - المكتبة الزكية ( مصر ) - جامعة الإسكندرية - مكتبة الأوقاف ( العراق )
- المكتبة الأحمدية ( حلب ) - مكتبة فينا ( النمسا ) - مكتبة لندبرج ( ألمانيا ) . 
*   طبع هذا الكتاب عدة طبعات ومتوفر في المكتبات . ولكن لا توجد منه طبعة واحدة محققة . 
*   حظيت موضوعات “ الإنسان الكامل “ باهتمام الشارحين ، فتناولوا أجزاء منه بالشرح : شرح عبد الغني النابلسي الباب الثالث والستين المتعلق بالأديان ( يوجد منه نسخ في برلين ) ، وعنوانه : “ كشف البيان عن أسرار الأديان في كتاب الإنسان الكامل وكامل الإنسان “ . وشرح البكري ( ت 1163 ه ) قصيدة الجيلي “ السّلاف “ المذكورة في خطبة الكتاب ، وعنوان الشرح [ مفقود ] : “ الكوكب المحمي من اللمس في شرح قصيدة سلاف تريك الشمس والليل المظلم “ “ 1 “ . 
وشرح أحمد الأنصاري ، عنوانه : “ موضحات الحال في بعض مسموعات الدجال “ . وشرح الشيخ علي البيومي ( ت 1183 هـ) ، وهو مفقود ولا نعرف عنه شيئا  . وشرح علي زاده ( عبد الباقي بن علي ت 1159 هـ)  . 
*   كما حظي كتاب الإنسان الكامل بدراسات جدية ، قديما وحديثا  . منها : دراسة للشيخ حسن بن موسى الكردي ( ت 1148 ه ) ، عنوانها : “ رسالة في جواب عن بعض أسئلة “ . ودراسة للأمير عبد القادر الجزائري ( ت 1300 هـ ) ، ضمن كتابه : 
“ المواقف العرفانية “ . وبحث للشيخ محمد البيطار ( ت 1328 هـ) في التوفيق بين ابن عربي والجيلي ، عنوانها : “ فتح الرحمن الرحيم بالجمع والتوفيق في المسائل الثلاث بين القطبين : الشيخ الأكبر والشيخ عبد الكريم الجيلي “ . 
وقد اهتم عبد الرحمن بدوي بمسألة “ الإنسان الكامل “ ، وقام بجمع جملة مقالات لمستشرقين وترجمها إلى العربية مع بعض النصوص الهامة في هذا الموضوع ضمن كتابه : “ الإنسان الكامل في الاسلام “ ، ويتضمن الكتاب
دراسات لهانز هينرش ( ص ص 10 - 99 ) ولويس ماسينيون ( ص ص 105 - 138 ) ، وإشارات إلى فصول من كتب ومقالات في الموضوع نفسه وخاصة للمستشرق نيكلسون . ولا يخفى نصيب الجيلي وكتابه “ الإنسان الكامل “ في هذه الأبحاث  . كما خصص في كتابه “ الإنسانية والوجودية في الفكر العربي “ صفحات عديدة لبيان معنى الإنسان الكامل ودوره في الفكر العربي  . 
*  قام بترجمة بعض فصول الإنسان الكامل إلى الفرنسية ، الأستاذ تيتوس بركهارت (Titus Burckhardt) وقدم له ببحث عن الجيلي. 
كما توجد ترجمات لهذا الكتاب إلى اللغة التركية ، موجودة على شكل مخطوطات في مكتبة يحيي أفندي ، ومهرشاه سلطان ( تركيا ) . 
*   أحال الجيلي في كتابه الإنسان الكامل إلى كتبه الأخرى التالية : “ قطب العجائب وفلك الغرائب “ - قصيدة النوادر العينية في البوادر الغيبية “ - “ الكهف والرقيم في شرحبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ “- “ قصيدة الدرة الوحيدة في اللجة السعيدة “ - “ مسامرة الحبيب ومسايرة الصحيب “ . 
16 - المناظر الإلهية ( أو ) مناظر علّية . 
*  يذكر الجيلي في هذا الكتاب مائة منظر ومنظر علّيا ، تنكشف للسالك أثناء طريقه ، ويشرح حال كل منظر ، ثم يذكر في آخره آفة حال العبد في ذلك المنظر . وأول منظر هو : “ منظر : إعبد اللّه كأنك تراه “ وهو باب المناظر كلّها . 
وآخر منظر هو : “ منظر : العجز عن درك الإدراك “  . 
*   يذكر الجيلي أنه ألّفه عام 798 هـ . 
*   توجد نسخ مخطوطة لهذا الكتاب ، رصدتها فهارس مكتبات : برلين - الديوان
الهندي - الخديوية - باتنا - هيدلبرج - دار الكتب المصرية - الأزهر ( مصر ) - الخزانة الملكية ( الرباط ) - أسعد أفندي ( تركيا ) . 
*   أحال الجيلي في كتابه هذا إلى : “ قطب العجائب وفلك الغرائب “ - “ الإنسان الكامل “ . 
17 - الكتاب المرقوم في سرّ التوحيد المجهول والمعدوم . [ مفقود ] 
ذكره في كتابه : “ الكمالات الإلهية في الصفات المحمدية “ ، ورقة 67 و . 
18 - “ غنية أرباب السماع في كشف القناع عن وجوه الاستماع “ . 
*   انتهى من تأليفه في القاهرة ، في شهر رجب عام 803 هـ . 
*   كتاب هام جدا لمن يهتم بمسألة “ التأويل “ ، ولنا عودة إليه حين الكلام على نهج الجيلي في الكتابة . 
*   يرد ذكر الكتاب ضمن فهارس مخطوطات : الديوان الهندي - الخديوية - الرباط - دار الكتب المصرية - رامبور - الخزانة الملكية ( الرباط ) . 
*   أحال الجيلي في كتابه هذا إلى : “ المناظر الإلهية “ - “ الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل “ . 
19 - رسالة “ آداب السياسة بالعدل “ 
*   فرغ من تأليفه في رجب 803 بالقاهرة . منه نسخة بخط المؤلف في دار الكتب المصرية رقمها 4003 أدب  . 
20 - الخضم الزاخر والكنز السائر في تأويل القرآن . [ مفقود ] 
*   أشار الجيلي إلى هذا الكتاب في كتابه “ الكمالات الإلهية
21 - حقيقة الحقائق التي هي للحق من وجه ومن وجه للخلائق . . كتاب النقطة . 
*   يتألف الكتاب من ثلاثين جزءا ، معظمها مفقود . يتناول الدلالات الرمزية للأبجدية العربية ، ويبدأ بالنقطة . 
*   فرغ الجيلي من تأليف الجزء الأول ( كتاب النقطة ) في ربيع الأول عام 805 هـ في زبيد . 
*   أشار الجيلي إلى “ كتاب النقطة “ في كتابه “ مراتب الوجود “ ، ص 27 . 
*   أشار الجيلي في كتابه “ مراتب الوجود “ أنه أنهى الجزء الثاني من “ حقيقة الحقائق “ وهو : كتاب الألف . 
*   يرد ذكر الكتاب في فهارس : الديوان الهندي - الخديوية - ليبزج - دار الكتب المصرية - حاجي محمود أفندي ( تركيا ) . 
*   أحال الجيلي في هذا الكتاب إلى : “ الإنسان الكامل “ - “ قطب العجائب وفلك الغرائب “ - “ الكمالات الإلهية في الصفات المحمدية “. 
22 - “ المملكة الربانية المودعة في النشأة الانسانية “ . [ مفقود ] 
أشار الجيلي إليه في كتابه “ الكمالات الإلهية “ . 
23 - “ الكمالات الإلهية في الصفات المحمدية “ . 
*   أشار إليه الجيلي في كتابه “ مراتب الوجود “ ، ص 14 . 
*  ابتدأ بتأليفه في أول ربيع الأول عام 803 هـ بمدينة غزة ( فلسطين ) ، وفرغ من تأليفه في 28 شوال عام 805 ه بزبيد ( اليمن )  . 
*   توجد منه نسخ مخطوطة ضمن فهارس : باريس - الجزائر - الخديوية - دار الكتب المصرية - الأزهر - الرباط - برلين - دامادزاده - الموصل - الظاهرية ( دمشق )  .
*   توجد منه نسخة بخط المؤلف في دار الكتب المصرية ضمن مجموعة رقمها 306 / 18454  . 
*   شرحه صفي الدين أحمد القشاشي ( ت 1071 هـ ) ، بعنوان : “ الإفاضة الرحمانية على الكمالات الإنسانية للشيخ عبد الكريم الجيلي “ [ مفقود ] . وأشار البيطار إلى شرح آخر مفقود ، منسوب إلى عبد الغني النابلسي  . 
*   أحال الجيلي في هذا الكتاب إلى : “ الإنسان الكامل “ - “ قطب العجائب وفلك الغرائب “ - “ المملكة الربانية المودعة في النشأة الانسانية “ - “ الكهف والرقيم في شرح بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ” - “ جنة المعارف وغاية المريد والعارف “ - “ حقيقة الحقائق “ - “ غنية أرباب السماع في كشف القناع عن وجوه الاستماع “ - “ الخضم الزاخر والكنز السائر في تأويل القرآن “ - “ الكتاب المرقوم في سر التوحيد المجهول والمعدوم “ - “ المناظر الإلهية “ . 
24 - “ الناموس الأعظم والقاموس الأقدم في معرفة قدر النبي صلّى اللّه عليه وسلم “ . 
*   يتألف الكتاب من أربعين جزءا ، معظمها مفقود ، يشكل كلا منها كتابا مستقلا . 
نرصد خمسة منها بينة العناوين وجزءان دون عنوان . وسوف نخصص لكل عنوان رقما في ثبت كتب الجيلي . 
*   ذكره الجيلي في كتابه “ مراتب الوجود “ ، ص ص 19 - 20 ، وص 27 . 
25 - “ شمس ظهرت لبدور زهرت “ . [ مفقود ] . 
*   الجزء الرابع من الناموس الأعظم . 
*   أشار الجيلي إليه في كتابه “ مراتب الوجود “ ، ص 19 . 
26 - “ لوامع البرق الموهن في معنى : ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن “ . 
*   الجزء التاسع من كتاب “ الناموس الأعظم والقاموس الأقدم “ .
*   تحدث فيه الجيلي عن الحضرات الإلهية التي تتجلى على قلوب الصوفية ، وقسمه إلى ثمانية أبواب  . 
*  ذكر هذا الكتاب في فهارس مكتبات : الديوان الهندي ( انكلترا ) - الخديوية - كمبردج - دار الكتب المصرية - مكتبة الأزهر - أسعد أفندي ( تركيا ) - هيدلبرج ( ألمانيا ) - ليدن ( هولندا ) . 
27 - “ قاب قوسين وملتقى الناموسين “ . 
 الجزء العاشر من كتاب “ الناموس الأعظم والقاموس الأقدم “ . 
*   قسم الجيلي هذا الكتاب إلى سبعة أبواب ، وتكلّم فيها على الإنسان الكامل ، محمد رسول اللّه ؛ مبينا عظم شأنه عند اللّه ، وسر تسميته بالحبيب ، وثمرة ملازمة حضرته . . . 
*   ذكر هذا الكتاب في فهارس مكتبات : الخديوية - دار الكتب المصرية - أسعد أفندي ( تركيا ) - الديوان الهندي ( انكلترا ) . 
*  نشره يوسف النبهاني ضمن كتابه “ جواهر البحار “ ، دون تحقيق . 
*   أحال الجيلي في هذا الكتاب على كتبه الآتية : “ لوامع البرق الموهن “ - “ الكمالات الإلهية في الصفات المحمدية “ - “ غنية أرباب السماع “ . 
28 - “ سر النور المتمكن في معنى قوله صلّى اللّه عليه وسلم : المؤمن مرآة المؤمن “ . 
*   الجزء الحادي عشر من كتاب : “ الناموس الأعظم والقاموس الأقدم “ . قسمه الجيلي إلى مقدمة وبابين وخاتمة . 
*   ذكر هذا الكتاب في مخطوطات : برلين - الخديوية - دار الكتب المصرية - أسعد أفندي ( تركيا ) . 
*   ترجمه إلى التركية علي زاده عبد الباقي أفندي  .
*   أحال الجيلي في كتابه هذا إلى : “ قطب العجائب وفلك الغرائب “ . 
29 - “ لسان القدر بكتاب نسيم السحر “ . 
*  هو الجزء الثاني عشر من كتاب “ الناموس الأعظم والقاموس الأقدم “ . تناول فيه الجيلي - بالتأويل - بعض مواقف وأقوال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم . 
* يوجد في فهارس مخطوطات : الخديوية - باتنا - دار الكتب المصرية - الإسكندرية - أسعد أفندي (تركيا). 
*   كما توجد منه طبعة غير محققة . مكتبة الجندي ، القاهرة ، 1962 . 
30 - الجزء التاسع عشر من كتاب “ الناموس الأعظم والقاموس الأقدم في معرفة قدر النبي صلّى اللّه عليه وسلم “ . [ مفقود ] . 
ذكر الجيلي هذا الجزء في كتابه “ شرح مشكلات الفتوحات المكية “ ، ق 31 . 
وقال أنه تناول فيه الخيال والبرزخ والمآل وأرض الحقيقة  . 
31 - “ كشف الستور عن مخدرات النور “ . [ مفقود ] . 
ذكره في شرح مشكلات الفتوحات . 
32 - “ إنسان عين الوجود ووجود عين الانسان الموجود “ . [ مفقود ] . 
ذكره في شرح مشكلات الفتوحات . 
33 - حقيقة اليقين وزلفة التمكين . 
*   يقول الجيلي إنه فرغ من كتابته عام 815 هـ. 
*  يتناول الكتاب موضوع التوحيد كما عاشه الصوفية ومارسوه . 
*   ورد ذكر الكتاب ضمن فهرس مخطوطات : برلين - البلدية بالإسكندرية - باتنا - هيدلبرج - الخالدية ( القدس ) - دار الكتب المصرية - ولي الدين ( تركيا ) - مكتبة الجامع الأزهر - الأوقاف ( العراق ) - ليدن ( هولندا ) .
* ترجمه إلى التركية علي زاده السيد عبد الباقي أفندي سنة 1156 هـ، وشرحه تقي بن أحمد بن زين الدين بن إبراهيم الأحسائي ( ت 1246 هـ) . 
34 - “ شرح مشكلات الفتوحات المكية “ . 
*   تناول الجيلي في هذا الكتاب شرح مواضيع متفرقة من كتاب “ الفتوحات المكية “ لمحيي الدين بن عربي . وخاصة الباب رقم 559 . 
*   ورد ذكر هذا الكتاب ضمن فهارس مخطوطات : برلين - الديوان الهندي ( انكلترا ) - باتنا - دار الكتب المصرية - الأزهر - الإسكندرية - المكتبة الأحمدية ( حلب ) - الظاهرية ( دمشق ) . 
*   يقول عماد عبد السلام رؤوف  إنه يوجد نسخة من هذا الكتاب في مكتبة الأوقاف ببغداد رقمها 7074 وتاريخها 1139 هـ، وأولها : “ أما بعد ، فإنه لما كان العلم باللّه تعالى أعظم العلوم قدرا . . . وكانت الفتوحات المكية التي ألفها الولي الكبير والقطب الأعظم . . . ابن عربي الحاتمي الطائي المغربي الأندلسي . . . أعظم الكتب المصنفة في هذا العلم نفعا . . . “ . 
*   أحال الجيلي في هذا الكتاب إلى الكتب الآتية : “ الناموس الأعظم “ - “ قطب العجائب “ - “ الكهف والرقيم “ - “ الكمالات الإلهية “ - “ إنسان عين الوجود “ - “ كشف الستور عن مخدرات النور “ - “ الجزء 19 من الناموس الأعظم “ . 
35 - “ كشف الغايات “ 
*   شرح لكتاب التجليات لمحيي الدين بن عربي . 
*   يقول د . زيدان ، كما تقول د . ترجمان . أنه يوجد نسخة مخطوطة من هذا الكتاب في المكتبة الوطنية في باريس ضمن مجموعة لمؤلف مجهول ،ولكن أسلوب الشارح يقارب أسلوب الجيلي في شرح مشكلات الفتوحات .
36 - “ بحر الحدوث والقدم وموج الوجود والعدم “ . [ مفقود ] . 
ذكره في مراتب الوجود ، ص 14 . 
37 - “ الوجود المطلق المعرّف بالواحد الحق “ . [ مفقود ] . 
ذكره في مراتب الوجود ، ص 14 . 
38 - “ رسالة أربعون موطنا “ . 
*   رسالة في مقامات الطريق الصوفي وأصناف المجاهدات . . يوجد نسخة منها مخطوطة في دار الكتب المصرية تحت رقم 1727 م  . 
39 - “ مراتب الوجود “ . 
*   تحدث فيه الجيلي عن معرفة اللّه سبحانه من معرفة الوجود ، ورتب الوجود مراتب بلغت الأربعين ، آخرها مرتبة الانسان الكامل . 
*   ورد اسم هذا الكتاب في فهارس مخطوطات عديدة أهمها : برلين - الديوان الهندي ( انكلترا ) - بلدية الإسكندرية - دار الكتب المصرية - هيدلبرج - فاتيكان - شهيد علي ( تركيا ) - رضا باشا - حاجي محمود ( تركيا ) - حالت أفندي ( تركيا ) - مراد بخاري ( تركيا ) - ليدن ( هولندا ) - الأوقاف ( بغداد ) - الجامع الأحمدي ( طنطا - مصر )  . 
*   طبع الكتاب عدة طبعات : النمسا ،أكاديمية العلوم ،عام 1956 ( ارنست بنرت ) - وفي القاهرة . دار الطباعة المحمدية ، دون تاريخ . 
*   أحال الجيلي في كتابه هذا على عدد كبير من كتبه السابقة وهي : “ الوجود المطلق المعرّف بالواحد الحق “ - “ الكمالات الإلهية في الصفات المحمدية “ - “ الناموس الأعظم والقاموس الأقدم “ . - “ شمس ظهرت لبدور زهرت “ - “ الإنسان الكامل “ - “ بحر الحدث والقدم وموج الوجود والعدم “ - “ حقيقة الحقائق التي هي للحق من وجه ومن وجه للخلائق “ - “ كتاب الألف “ - “ كتاب النقطة “ - “ قطب العجائب وفلك الغرائب “ - “ المملكة الربانية المودعة في النشأة الإنسانية “ - “ إنسان عين الوجود في وجود عين الانسان الموجود “ - “ الكتاب المرقوم في شرح التوحيد المجهول المعلوم “  . 
    3 -  شخصيات أثرّت في الجيلي
أساتذة الجيلي المعاصرين له : 
رغم انتشار الطرق الصوفية في أقاصي البلاد الإسلامية وأدانيها في القرن الثامن الهجري ، إلا أن عبد الكريم الجيلي لم يكن مريدا لطريقة صوفية - بالمعنى التقليدي . 
بل نراه - على غرار الأكابر - يستفيد من مشايخ ، ويعترف بالأخذ عنهم ، دون أن يشكلوا حجابا على تجربته الشخصية ومساره الفردي . 
التقى الجيلي في بداياته ، عام 798 هـ ، بالشيخ محمد بن إسماعيل المكدش ، 
وهو بحسب عبارة الجيلي نفسه : فقيه عارف ، أي جامع للعلمين : الكسبي والوهبي . 
ولم نعلم أن الجيلي تتلمذ للمكدش ، وجلّ ما نعلمه أنه زاره في بلدته “ الأنفة “ ورأى من زيارته له بركات كثيرة  . 
كما يذكر الجيلي ، في ديباجة كتابه “ مراتب الوجود “ ، الشاعر الصوفي الشيخ أبو بكر بن محمد الحكاك [ ت 799 هـ ] ، وينّبه إلى وجود ديوان شعر له ، وينسب إليه بيتا من الشعر ، يقول فيه :
وقد تبنّيت آبائي على ثقة   .....   ولا محالة أني وجه كل أب
ويورد الجيلي اسم الحكاك ، في كتابه مراتب الوجود ، لا على أنه من مشايخه أو استفاد منه أو زاره أو التقى به ، بل يورده على سبيل المثال لمن يبلغ مرتبة “ المشيخة في الحقيقة “ ، بمطالعة كتب الحقيقة وفهمها لا بشيء من أعمال الطريق  . 
ولكن في كتابه “ المناظر الإلهية “ ، يذكره - بعد موته - بصفة الأخوة ، فيقول : 
أخونا العارف ، لسان المعارف ، أبو بكر بن محمد الحكاك ، رحمه اللّه . 
أما الشيخ “ البارع في الحقيقة “ ، والذي اتّخذه الجيلي معلما له ، ويقول بأنه لا يعرف أحدا ممن أدرك من رجال زمانه على طريقته ، وأنه غربيب الأولياء . 
فهو إسماعيل الجبرتي  [ 722 - 806 هـ ] . 
كما نظم فيه جملة قصائد ، منها ما ورد في كتابه “ الانسان الكامل “  ، نختار أبيات ثلاثة تعبّر عن مكانة الجبرتي لديه ، يقول :
يا ابن إبراهيم يا بحر الندى   .....   يا ذا الجبرتي الجبور طبيبه
ألعبدك الجيلي منك عناية   .....   صباغة صبغ المحب حبيبه
أنت الكريم بغير شك وهو ذا   .....   عبد الكريم ومنك يرجى طيبه
وقد أسهم الجبرتي بسبب كثرة صحبه وأتباعه من الملوك والولاة والعلماء ، في إحياء الحياة الصوفية في اليمن ، وعمل على انتشار فكر ابن عربي خاصة ، جاعلا كتبه جزءا من ثقافة العصر في تلك المناطق من جهة . 
ومن جهة ثانية دليلا للسالكين ، إذ يخبرنا الجيلي أن شيخه الجبرتي يحرّض مريديه على قراءة كتب ابن عربي ، ويرى أنها تقرّب المسافة البعيدة على المريد ، وتسهّل الطريق الصعب .

ونتج عن تبنّي الجبرتي لمقالات ابن العربي ، وتأسيسه تيارا صوفيا يمنيا على تعاليمه العرفانية ، أن ورث الشقاق الفقهي المستمر حول “ مقولات ابن العربي وشخصه أحيانا “ . 
وانقسم فقهاء اليمن بشأنه قسمين : 
قسم اتّصف بالموضوعية العلمية وإن كان يبالغ أحيانا في استخدام عبارات الثناء ، وقسم عدائي يتطرف غالبا في هجومه عليه . 
ويشهد له فقيه معاصر ، ومعاشر له ، هو عبد الرحمن بن زكريا ، المعروف بـ “ نقّاد الأولياء “ ، بالصدق والوصول ، فيقول عنه :
 “ واللّه ، ما مثل الشيخ إسماعيل لا في الشام ولا في اليمن ولا في العراق ولا في الحرمين “  . 
أسس الجبرتي طريقة صوفية يمنية عرفت باسمه : “ الجبرتية “ . 
ويقول مرتضى الزبيدي بأنها شعبة من الأهدلية ، وترجع في سلسلتها إلى الطريقة القادرية ، نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني  . 
وبذلك يكون الجبرتي قد شبك الطريقة القادرية بتعاليم ابن العربي في كيان صوفي يمني ، وأسهم في دخول أفكار ابن العربي في أوساط الطرق الصوفية . 
وإذا دققنا في أصحاب الجيلي وأسماء الصوفيين الواردة في كتبه ، نجد معظمها
من تلامذة الشيخ الجبرتي ومريديه ، من أمثال : 
المزجاجي ، والمعبيدي ، ومحمد بن شافع ، وقطب الدين بامزاحم ، والمسن  ، والرداد  . 
فالجيلي لم يؤسس - على المستوى البشري - مدرسته أو حتى شبكة علاقات شخصية ، بل اكتفى بالانكباب على تجربته وتدوين مشاهده ، ولقاءات أخوية أثناء وجوده في مسجد الجبرتي ، أو في بيت من بيوت أخوانه ، مشاركا في حلقة من حلقات السماع التي نشطت وتطورت في اليمن بجهد الجبرتي . 
أما الشخصية المعاصرة ، والبارزة ، التي التقى بها الجيلي ، فهي : 
خواجة بهاء الدين محمد بن الشاه نقشبند الأويسي  [ 717 هـ - 827 هـ ] ، صاحب الطريقة النقشبندية .

الماضي الحي : 
تميز نتاج الجيلي بقلّة النقول عن السابقين ، وانتسب - جملة وتفصيلا - إلى عين الابداع . . 
وإننا عندما نطالع سطوره تنشأ لدينا معارف جديدة ، بعيدة عن أن تكون إعادة قراءة لتراث سابق أو تصنيف جديد لمعلومات معروفة ، بل إبداع على مستوى الحياة واللغة معا . 
ورغم وثوق الجيلي الشديد بمساره الروحاني ، ومشاهداته العرفانية ، إلا أن ذلك لم يمنعه من رؤية الآخر ، والاستشهاد بأقواله ، والشهادة له ، وربما العكس يصبح الآخر ضروريا لتقدير الذات وتقييم مكتسباتها ومواهبها . . 
ومن أشخاص “ الآخر “ السالفين ، يبرز وجهان : 
الأول هو أبو الغيث بن جميل .
والثاني هو محيي الدين ابن العربي .
ينقل الجيلي أقوالا عديدة لأبي الغيث بن جميل ، وأشهرها عبارته التي سارت في أوساط الصوفية ، وأصبحت من جملة الأقوال التي يعرفها الجميع تقريبا ، وقلّة من يعرف قائلها ، وهي : “ خضنا بحرا وقف الأنبياء بساحله “ . . 
ويلقّب الشيخ أبو المغيث بشمس الشموس . وكان في حداثته وقبل دخوله في القوم ، من جملة قطّاع الطريق . 
ثم تاب وتصوّف على يد الشيخ علي بن أفلح ، وهو من أشهر مشايخ زبيد وقت ذاك . 
وعندما بدأت تكثر “ كراماته “ في بلدته ، نصحه شيخه بالخروج من زبيد والذهاب إلى الشيخ علي الأهدل . ويقول أبو الغيث في أيام نهايته : خرجت من عند ابن أفلح لؤلؤة عجماء فثقبني الأهدل . 
وتوفي عام 651 هـ ، وعمره يتجاوز التسعين عاما  . 

أما محيي الدين ابن العربي ، فقد كان بالنسبة للجيلي هو الآخر بامتياز : 
شرح مؤلفاته ، ومنها “ رسالة الأنوار “ ، و “ مشكلات الفتوحات “ ، و “ التجليات “ ؛ واتفق معه في نتائج عديدة لا تكاد تحصى ؛ واختلف معه أيضا في مسائل معدودة .
 إذن ابن العربي هو المحاور الأول للجيلي من خارج تجربته الشخصية . 
يقول عنه في مقدمة شرحه لرسالة الأنوار : 
“ سيد هذه الطائفة وإمامها ، وخبير هذه الجماعة وعلّامها ، الشيخ الإمام العارف ، وارث الأنبياء ، وخاتم الأولياء ، برهان الشريعة المحمدية ، وعماد الحقائق الإلهية ، بحر الندا ونجم الاهتدا . . . صفوة أرباب المجاهدة وعمدة أصحاب المشاهدة . . . “ ، 
ثم يشهد له بأن أكثر أقوال الصوفية مستندة إليه ، لذلك كثر الإنكار عليه . 
وعلى الرغم من علّو هامة ابن عربي في أفق نظر الجيلي إلا أنه لم يملأ حدقة العين ، فظل الجيلي صاحب تجربة صوفية جديدة ، وشبه متخصصة بموضوع “ الإنسان الكامل “ ، 
وظل كل الآخرين بالنسبة إليه : 
إما مرّبين لعبوا دورا على مستوى مجاهداته النفسية ورياضاته من أمثال شيخه الجبرتي ، وإما محاورين لتجربته ومرآة ينظر فيها ليرى ملامحه ؛ وهذا موقع ابن العربي . 

4 - نهج الجيلي في الكتابة والتأويل 
تحفّظ المسلمون في استخدام لفظ “ تأويل “ ، لأن هذا اللفظ ورد في القرآن الكريم ، في سياق تفسير كلام اللّه ومعرفة قصده سبحانه في خطابه ، على التحديد ، وهذا ممتنع . 
وفي المقابل لم يتحفظ الجيلي في استعماله للفظ “ تأويل “ ، ولكنه أطلقه على تلقي الكلام الإنساني وإرساله لا على الكلام الإلهي . 
وقدّم لنا - في كتابه غنية أرباب السماع - نظرية في التأويل ، تضاهي وتفوق في كثير من الجوانب ، ما يعتبره فلاسفة اللغة من مستجدات العصر ! 
وتتمحور نظريته اللغوية حول قطبين هما : اللفظ والمعنى [ الدال والمدلول ]

وعلى ضرورة ألا يقتصر المتلّقي على ظاهر الألفاظ بل يعبر منها إلى بواطن معانيها . 
يقول في “ غنية أرباب السماع “ منبها على وجوه الاستماع - أي وجوه التلقي والفهم - للنص الواحد :
 “ فإني لما رأيت قصور الفهوم من أطوار المعاني ، ووقوف العلوم من عوام أرباب السماع على ظاهر ألفاظ الأغاني ، أردت أن أفتح بابا لأهل السماع ، إلى حسن الاستماع ، وأكشف نقابا لأهل الأغاني ، عن مخدّرات المعاني ، المحجوبة عن أعين العامة ، بصور ألفاظ المعاني ، فاستخرت اللّه تعالى . . . في وضع كتاب . . . حتى أذن لي في وضع هذا الكتاب ، المسمّى : غنية أرباب السماع ، في كشف القناع ، عن وجوه الاستماع “ . 

ويمكننا اختصار نظريته في أربع فقرات هي الآتية :
أولا - رتبة المتّلقي وفهم المعنى 
إن اللفظ الواحد - عند الجيلي - يحرّك في الأفهام معان متعددة ، بقدر تعدد السامعين [ أو القراء ] لهذا اللفظ . 
والسبب في تعدّد المعاني والإفهام للفظ الواحد ، هو أن كل سامع للفظ يفهمه بحسب حاله ومقامه . 
فالمعنى يتحدد عند المتلّقي لا عند المرسل . المرسل يقول اللفظ ، والسامع يضع المعنى .

يقول الجيلي في كتابه غنية أرباب السماع : “ . . . واعلم أن المستمعين ، وإن اشتركوا في سماع مجرد الألفاظ ، فقد تباينوا في سماع معانيها . فربّ كلمة موضوعة لمعنى القرب ، قد فهم منها معنى البعد ، وبالعكس على قدر المقام والمستمع ( . . . ) ثم أعلم أن اختلاف الفهوم فيما يسمع ، منوط بمقام السامع ، كما تقدّم ذكره ، على قدر قابليته ، لا يحسن أن يتعدى مقامه ضرورة . ومن هنا وقع الخلاف بين سائر العالمين ، في جميع ما اختلفوا فيه ، لأن كلا يحمل المعنى على ما يقتضيه أمره . . . “ “ 1 “ . 
إذن ، لقد دلّ الجيلي على أن الصراع على المعنى ينشأ من اختلاف الفهوم العائد إلى اختلاف القابليات ومواقع الأقدام في المعرفة والسلوك . 
يقول الجيلي : “ . . . فأهل السماع مختلفون في حمل المعاني على قدرهم ، فما من يسمع في مقام التوبة ، كمن يسمع في مقام العبادة ؛ ولا من يسمع في مقام العبادة ، كمن يسمع في مقام الزهد ؛ ولا من يسمع في مقام التوكل ، كمن يسمع في مقام الرضى ؛ ولا من يسمع في مقام الرضى ، كمن يسمع في مقام المحبة ؛ ولا من يسمع في التلوين ، كمن يسمع في التمكين ؛ لأن الناس مختلفون في طلب اللّه تعالى ( . . . ) وكل سامع من هؤلاء له فيما يسمعه تأويل يليق بحاله “  .
ثانيا - تعدد الفهوم وسلم المعاني : 
بعد أن توقفنا مع الجيلي مدللا على دور “ مقام الشخص “ في فهم المعنى ؛ نجده في مكان آخر يلملم هذا الانتشار للمعنى في سلّم رباعي . فيقسّم أرباب الطريق الصوفي إلى أربع فئات متراتبة ، تضم أصناف الأحوال والمقامات . وهذه الأربعة هي : مرتبة النسك ، ومرتبة السلوك ، ومرتبة الحب ، والأخيرة هي مرتبة الجذب . 
يقول ، مبينا اندراج أهل المقامات في هذه المراتب الأربع : “ . . . وتجمع هذه الأصناف كلّها أربعة أجناس ؛ وهي : الناسك ، والسالك ، والمحبّ ، والمجذوب . 
لأن لفظة النسك تجمع العبّاد والزهّاد والمتوكلين وأمثالهم ، ولفظة السلوك تجمع أهل
قصد المخالفات ، ولفظة الحب تجمع المريدين وسائر أهل الطلب للّه ، ولفظة الجذب تجمع الواصل والعارف . . . “ . 
إذن ، كل لفظة تأخذ معناها من رتبة المتلّقي ، وتتعدّد المعاني ، لا إلى ما لا نهاية ، بل تنتهي إلى درجات أربع في سلّم معنوي . 
ويجعل الجيلي كتابه “ غنية أرباب السماع “ نموذجا يدلّ فيه القارئ على أسس السماع الصوفي [ التلّقي ] في المراتب الأربع لأهل الطريق . 
ونماذج الجيلي على ثلاثة أشكال : 
الشكل الأول هو ألفاظ مفردة يتداولها البلغاء والفصحاء في الشعر والنثر ، 
والشكل الثاني هو قصائد ، 
والشكل الثالث المقامات والأحوال . 
ونكتفي بأن نأخذ نحن نموذجا واحدا من هذه الأشكال الثلاثة لنبين تعدّد الفهوم في سلّم معاني رباعي الدرجات عند الجيلي . 
ونختار نموذجنا من الشكل الأول وهو الألفاظ المفردة . 
يورد الجيلي ، في الباب الأول من غنية أرباب السماع ، مائة لفظة مفردة متداولة في الشعر والنثر ، ويبين تدرج معانيها بحسب رتبة المتلّقي في الطريق الصوفي . 
ويهدف من وراء إيراد تاويلاته إلى بناء نهج خاص بالصوفية عامة ، وبه خاصّة ، في التأويل . 
يقول في تأويل لفظة “ الرياح “ المفردة : “ الرياح قد يؤولها الناسك بالبواعث والعزائم أيام الحركة الشديدة في العبادة . ويؤولها السالك بالنفحات الإلهية المقرّبة للطريق ، الموصلة للعبد إلى اللّه تعالى . 
ويؤولها المحب بأنفاس المحبوب . ويؤولها المجذوب بأحوال آثار التجليات ، لأنها تمر كالريح ، فلا دوام للحال “  . 
وفي تأويل لفظ “ البان “ ، يقول الجيلي : 
البان : يسوغ تأويله للناسك ببيان الحق وظهوره على الباطل ، وقد يؤوله بالاستقامة على الطاعة ، لأن غصن البان إنما يشبّه غالبا باستقامة القامة أو باللين ؛ فإذا كان المراد من ذكره لين حركته ، فيؤوله الناسك حينئذ بميل النفوس تارة للطاعة ، وتارة للفترة . 
ويسوغ أن يؤوله السالك بالمخالفات نظرا إلى ميلان الغصن . . . ويسوغ أن يؤوله المحب بالمحبوب ، فإذا كان في الجانب الإلهي أوّله باسمه القائم والقيوم ، وأمثال ذلك ، لأن البان إنما يذكر غالبا كناية واستعارة عن القامة . ويؤوله المجذوب بالأحدية “  . 
هذا ، ولا يحصر الجيلي التأويلات بما أورد ، ولكنه يظهرها على سبيل المثال ، وبقصد إرساء نهج التأويل بمعزل عن الجزئيات .

ثالثا - التأويل الإلهامي . .
فتوح التأويل : 
يبني الصوفية معرفتهم اليقينية على الإلهام ، على النور الذي يقذف في الصدر ؛ والجيلي يجعل التأويل الصوفي نفسه نوعا من المعرفة الإلهامية والفتوح الرباني . 
وبذلك يختلف عن باقي التأويلات بمصدره اللدني ، وبضرورة خضوعه إلى معايير بعديّة . 
فالصوفي يصرف وجه قلبه ، عند استماع “ اللفظ “ أو قراءته ، لا إلى معاجم اللغة ومجازها ورموزها بل إلى اللّه تعالى ، وينتظر أن يعلّمه ما لم يكن يعلم ، بمناسبة السماع أو القراءة . 

يقول الجيلي في كتابه غنية أرباب السماع ، ما نفهم منه أن التأويل نوع إلهام : 
“ إعلم أن جميع ما أشرنا إليه من تأويل هذه الألفاظ [ المفردة ] ، بما أوّلناها به ، ليس بمقصور ، ولا محصور على ذلك . بل لكل كلمة من هذه الكلمات تأويلات كثيرة تفجأ عباد اللّه تعالى ، من غير تعمل ولا اجتلاب ، لأن أسماع قلوبهم مصروفة إلى باب خزائن جود اللّه تعالى ومواهبه ، فتفجأهم تلك المعاني ،من غير سابقة علم بها ، فلا تتوهم أنهم يتعلّمون ذلك من حالة الواجد “ .

إن تأويل النص وفهمه هما من جملة المواهب الإلهية التي تفجأ الإنسان ،لكأنهما يتنزّلان في قلبه . وهذا لا يعني أن الصوفي معفى من النظر في الأصول اللغوية والشرعية ، بل يعني ذلك أنه لم يستدل بالأصول لإنتاج معرفته التأويلية ، وإنما قامت هذه الأصول بدور الشاهد على التأويل ومشروعيته ، وأمدته - بعد حدوثه - بما يحتاجه من مبررات وحجج وبراهين . 
إذن ، الأصول - اللغوية والشرعية والعقائدية - تشّكل عند الجيلي ضوابط التأويل وشروط مشروعيته ، فلا يحق لإنسان أن يطلق عنان قلبه في قبول معان وتأويلات قبل أن يتقن علم العقيدة ويعرف ما يجوز إطلاقه على الجناب الإلهي وما هو ممنوع . . وينبّه الجيلي على الفروق الجوهرية بين التأويل وبين التشبيه والتمثيل وغيره ، موضحا أنه يحق للمتلّقي تأويل الألفاظ لتصبح دالة على اللّه ، دون أن يقع في تشبيه الحق أو تمثيله أو تسميته باللفظ المؤول . . . 
يقول مبينا الفروق بين التأويل والتشبيه : 
“ الممنوع في الجناب الإلهي إنما هو التشبيه ، فلا يجوز أن تشبّه الحق بشيء ، ويجوز أن تأوّل الأشياء من حيث فهمك ، على قدر متعلقك به ؛ فإذا قال قائل : ما أحسن القمر ( . . ) مثلا : يجوز أن تأوّل ، من حيث فهمك القمر بالحق ، فتقول : ما أحسن جمال الحق تعالى ( . . . ) ، ولا يجوز أن يشبّه القمر بالحق ، لأنه يتعالى عن ذلك . فالسماع كلّه تأويل لا تشبيه “ . 

ويقول ، ما نفهم منه ضوابط التأويل وشروطه : 
“ ان التعمّل [ في استجلاب التأويل ] جائز للمتواجد ( . . . ) ولكن على شرط التنزيه ، وعدم الخروج عن قيود التشريع ، من غير تشبيه ، ولا تمثيل ، ولا تسمية للفظ مما يأول به ( . . . ) فإنك إذا لازمت على ذلك يفتح اللّه لك ، حتى لا تمر بلفظة إلا ويرد عليك من فضل اللّه تعالى ما يسوغ تأويله به “ .

رابعا - كتابة الجيلي : 
إن “ الحقائق الوجودية “ التي تكشفت للجيلي ، ويريد أن يشاركنا بها ، ليست من
جنس المعاني التي تعبّر عنها اللغة الظاهرة وتبديها . لذلك اختار الجيلي - أسوة بغيره من الصوفية - لغة الرمز والإشارة ، مقّلبا بذلك الحقائق المراد توصيلها للأفهام بين طوري الإخفاء والإظهار . 

يقول في قصيدته العينية دالا على أسلوبه في الإظهار والإخفاء [ بيت 127 - 129 ] :
وها أنا ذا أخفي وأظهر تارة   .....   لرمز الهوى ، ما السرّ عندي ذائع
 وإيّاك أعني فاسمعي جارتي ، فما   .....   يصرّح إلّا جاهل أو مخادع
 ولكنني آتيك بالبدر أبلجا   .....   وأخفيه أخرى ، كي تصان الودائع
 ونتيجة لهذا الأسلوب في التعبير ، يقوم اللفظ الظاهر بدور فاعل في عملية التوصيل والكتابة ، فهو ليس حجابا وليس سدا ، وفي الوقت نفسه لا يتوجب تحطيمه للوصول إلى المعنى ، بل العكس اللفظ هو باب وستار خفيف يشف عما وراءه من المعنى . . 
يقول الجيلي في [الإنسان الكامل ، 1 / ص 79] : “ لا تكتف بظاهر اللفظ بل اطلب ما وراء ذلك“
ويتبع الجيلي هذا الأسلوب في كافّة ما يكتب ، يقول عن كتابه الإنسان الكامل ، [ ج 1 / ص 80 ] : “ فجميع ما أبرزناه في هذا المسطور ( . . . ) إذ وضعنا جميعه بين رمز في عبارة وبين لغز في إشارة “ . 
فالرمز مفتوح على تعدّدية المعنى ، والإشارة لغز تحتاج إلى التفتيش في “ الذاكرة “ عن حل . وفي القصيدة العينية نماذج عديدة للرموز والإشارات : الرموز من أمثال “ وسرب من الغزلان “ فليراجع شرح المؤلفة [ البيت رقم 13 ] . 
أما الإشارات فهي أكثر من أن تحصى ، ومعظمها يجد معناه بالرجوع إلى قصص “ حياة الأنبياء “ كما وردت في النص القرآني . . 

ويمكننا أن نستشف نظرية صوفية في الرمز والإشارة : فالرمز هو لفظ يأخذ معناه من نص كاتبه ، ويظل المعنى الذي يعطيه القارئ أو المتلّقي في نطاق الاحتمالات ، مثلا “ الغزلان “ [ البيت رقم 13 ] هو رمز من عالم الحيوان يأخذ معناه من سياقه في القصيدة ، ومن معرفتنا بتجربة الجيلي الصوفية .
أما الإشارة فهي معقودة بالألغاز ، وتلعب دورا هاما في التواصل ، لا من فرد إلى فرد ، بل في التواصل على مستوى الجماعة . ومعظم رجال الصوفية يستفيدون إشاراتهم من النص القرآني ، وفي أغلب الأحيان ، من حياة الأنبياء كما نصها القرآن . 
وهذا الرجوع إلى حياة الأنبياء إلى “ التاريخ المقدس للإنسان “ ، وتصوير التجربة الصوفية والمعاناة بلغة إشارة نبوية ، يشكّل وسيط فهم ولقاء بين أشخاص الجماعة ، ويخرج بالتجربة الصوفية في فرديتها إلى المساحة المشتركة بين ناسها . 

5  - القصيدة العينية 
يقول الجيلي في الإنسان الكامل أنه ألّف قصيدة سمّاها “ البوادر الغيبية في النوادر العينية “ ، وهي : “ قصيدة عظيمة لم ينسج الزمان على كمّ الحقائق مثل طرازها ، ولم يسمح الدهر بفهمها لاعتزازها “. 
ونضع بين قوسين ، الانطباع الذي يحدث لدينا عند قراءة هذا الكلام ، لنفسح المجال أمام مساءلة القصيدة ومقارنتها وتحليلها ، لتكوين رأي موضوعي حول قيمتها العلمية في حقل التصوف . 
ونقسم عملنا حولها إلى عدة فقرات هي الآتية :

أولا - فرادة القصيدة العينية : 
هل صحيح أن العينية - كما قال الجيلي - هي قصيدة عظيمة لم ينسج الزمان على كم الحقائق مثل طرازها ؟ 
جوابنا هو : نعم ولا . 
عندما كتب الجيلي قصيدته ، كان ابن الفارض قد فارق عالمنا بما يزيد على القرنين ، ولا نعلم إلى أي مدى يعرف الجيلي الشاعر الصوفي الكبير عمر بن الفارض ، المعاصر لابن عربي . فهو لم يكد يذكره فيما نعرفه من كتبه ، وهذا مستغرب . 
تضمن ديوان ابن الفارض قصيدة شهيرة ، حظيت بشروحات عديدة ، هي “ القصيدة التائية “ المسماة : “ نظم السلوك “ ، والتي تزيد أبياتها على سبعمائة ، ومطلعها :
سقتني حميا الحب راحة مقلتي   .....   وكأسي محيا من عن الحسن جلّت
فأوهمت صحبي أنّ شرب شرابهم   .....   به سرّ سرّي في انتشائي بنظرة
وبالحدق استغنيت عن قدحي ومن   .....   شمائلها لا من شمولي نشوتي
ونستطيع أن نقول أنه لا يضاهي قصيدة الجيلي العينية في تاريخ الشعر الصوفي إلا قصيدة ابن الفارض التائية . 
بل لو قصدنا المقارنة لقلنا أن الجيلي استعاد في قصيدته جملة موضوعات صاغها ابن الفارض قبله ، وخاصّة فيما يتعلق بالمجاهدات والحب الإلهي ونظرية الجمال . 
فالقصيدتان تعبران بامتياز عن رؤية الصوفي للألوهية والوجود والإنسان ، وعن نمط حياته الموسوم بالمجاهدات والمعاناة . 
ولكن رغم هذا التماثل بين القصيدتين في أكثر من وجه ، إلا أن عينية الجيلي تتفرد بأمور تجعلها مميزة في تاريخ الشعر العربي عامة ، لا الشعر الصوفي فقط ، مما يصبح معه ادّعاء الجيلي ، بتفرّد قصيدته وانعدام طرازها في الزمان مقبولا . 

ومن هذه الأمور : 
1 - إن القصيدة العربية متّهمة بالتفكك ، بحيث يشّكل البيت الواحد أحيانا معنى مكتملا . وهنا نصدف قصيدة عربية تمتاز بوحدة الموضوع وتسلسل المعنى على امتداد ما يزيد على خمسمائة بيت من الشعر . 
2 - تقول هذه القصيدة شعرا جماع ما يشتمل عليه النثر الصوفي من فكر ، فقد نظم الجيلي في قصيدته هذه أفكاره الصوفية عامة ؛ في وحدة الوجود والإنسان الكامل والحب والجمال والمجاهدات . . . إنها قصيدة تعبّر بالكامل : عن شخص منشئها وفكره ، وهذا نادر في الشعر العربي . 
3 - نصف القصيدة تقريبا يروي فيه الجيلي سيرته الروحية ، فنراه منذ برز لمعة من النور الإلهي ، ثم ولد في الأرض ، وعشق ووحّد وتعبّد وجاهد . . وختاما ،
تحقق بالمقام المحمدي وأصبح خليفة في الوجود . والقصائد التي تتضمن “ السيرة الشخصية للشاعر “ مفقودة - على حد علمنا - في الشعر العربي . 
4 - يتسم خطاب الجيلي في قصيدته هذه بالجرأة والمباشرة وعدم التورية في أماكن عديدة درج الشاعر العربي على الالتفاف حولها ، واستخدام اللغة ليموّه المعنى . هذه المباشرة في القول نادرة في النص الصوفي ولا نكاد نجدها إلا في شطحات الصوفية .

ثانيا - القصيدة العينية ومسألة الفهم : 
هل صحيح أن العينية - كما قال الجيلي - هي قصيدة لم يسمح الدهر بفهمها لاعتزازها ؟ 
جوابنا هو : نعم ولا . 
تصدى عبد الغني النابلسي وهو لا يزال يافعا إلى شرح القصيدة العينية ، وجاء شرحه على صيغة “ نص صوفي وضع على نص صوفي “ . مما جعل الشرح يحتاج أحيانا إلى شرح ، وإلى ترجمة من اللغة الصوفية إلى اللغة العامة . 
كما أن نهج النابلسي في الشرح - على أهميته وسبقه - اعتمد الإجمال ، فلم يتوقف عند كل بيت من القصيدة ليشرح مفرداته ومعانيه ، بل ضم الأبيات المتتابعة في موضوعات وعمد إلى شرحها على وجه الإجمال . مما أبقى الغموض واللافهم ساكنا في الألفاظ والمعاني . 

وعندما عزمت على شرح القصيدة العينية ، شعرت كمن يتهيأ ليقيم حوارا عبر الزمان . 
وذكرت الحكيم الترمذي الذي ترك أسئلة حول الولاية ، أجاب عليها ابن العربي في فتوحاته ، وحاوره على بعد قرون . . 
وحين لمست أن الحوار المرتقب ضروري للكشف عن طاقات الروح “ النائمة “ في تكوين إنسان هذا الزمان ، بدأت الكتابة - المغامرة . 
وانتهجت التفصيل في شرحي للقصيدة ، فكنت أتوقف عند ألفاظ كل بيت لأبيّن دلالاتها في معاجم اللغة ، وبعد ذلك أؤلف معاني الألفاظ في معنى كلّي للبيت الواحد . 
كما انتهجت البيان فحاولت ترجمة الرموز من المعجم الشخصي للشاعر إلى
المعجم الشعري العام ، كما حرصت - قدر الاستطاعة - على تفكيك ألغاز الإشارات . 
ولا يخفى ما في انتهاج التفصيل والبيان من التحدي والصعوبة ، إذ يستحيل معهما الالتفاف حول معنى أو المراوغة ، بل لابدّ من الدخول في ذرّ الموضوع واكتشاف المعنى . 
هل سمح الدهر بفهم القصيدة العينية ؟ 
ربما استطعت أن أقدّم فهما ، ولكن هذا الفهم لا أدّعي أنه يستقصي حدّ القصيدة ، و “ يطلع “ منها ، بل يحرص على أن يقدّم للقارئ نصا مفهوما على مستوى اللفظ والمعنى ، وفي الوقت نفسه لا يكون حجابا على غيره من الفهوم الممكنة ، بل العكس ربما يكون فاعلا في توليد معاني جديدة و “ مطالع “ جديرة بالتأمل .

ثالثا - بنية القصيدة : 
تتألف القصيدة العينية من جملة أجزاء متلاحمة متلاحقة ، لكأن الجيلي عندما وضع الحرف الأول منها كان في أفق الرؤية عنده الحرف الأخير . 
لذلك سوف نتجرأ على وحدة النفس الشعري المتجلي في القصيدة ، ونقسمها إلى أقسام اعتبارية بحسب تسلسل الموضوعات . 
وغنيّ عن البيان ، أن هذا التقسيم ليس ثابتا ولا نهائيا بل يقبل التحرّك والتجزّوء . وسوف نكتفي نحن هنا بالخطوط الكبرى للقصيدة تاركين تشعب أفكارها ؛ إما للفقرة المخصصة لأفكار القصيدة ، وإما ليطالعها القارئ في ثنايا شرحنا المنشور . 

وفيما يأتي نورد أقسامها الكبرى : 
*  من البيت ( 1 ) إلى البيت ( 16 ) : بطاقة هوية . 
يقدم الجيلي في هذه الأبيات بطاقة هوية يعرّف فيها القارئ عن نفسه . وقد يخيّل لمن يطالع القصيدة أن هذه الأبيات هي في النسيب الذي درج عليه شعراء العرب في مطالع قصائدهم . ولكن نظرة متفحصة تؤكد لنا أن الجيلي هنا يقدم بطاقة هوية يعلن فيها عن نفسه ، يقول : أنا عاشق سكران ، لن أصحو من سكر الغرام ، لأن الهوى خمر لن تفارق أضالعي أبدا . 
ونعرف أن هذا العاشق الوالع عاش زمن الرند يجر ذيول اللهو في ساحة اللقا
ويجني ثمار القرب ؛ ولكن لابد من الخروج من الجنة ، ومفارقة بداية التاريخ وصفو العلاقة ، وذوق النار . 
*   من البيت ( 17 ) إلى البيت ( 29 ) : معاناة الشاعر في الحب وتعبيره بلغات الأنبياء . 
يصور الجيلي في هذه الأبيات ما يعانيه من شدة الحب وبعد الديار . وحتى يكسب حبّه ومعاناته سمة قدسية ، يرجع إلى التاريخ المقدّس المشترك ليتواصل عبره مع الجماعة ، فيعبر عن لوعته ووجده بالإشارة إلى مشاهد من حياة تسعة من الأنبياء ، هم : نوح وأيوب وإبراهيم ويونس وشعيب وزكريا ويحيى ويوسف ويعقوب ، عليهم السلام أجمعين . 
*   من البيت ( 30 ) إلى البيت ( 69 ) : توجّه الشاعر إلى محبوبه ، بوصف حاله في العشق ومكانة معشوقه لديه . 
يظهر الشاعر تذلله للمحبوب وخضوعه وطاعته ، وتلفه وفناء روحه ، وتفرّده بغرام لا يقاس به غرام ، وبأنه لا مسامع في آذانه للملام . . 
ولا يكتفي الشاعر بتصوير مشاعره ، بل يبلّغ محبوبه بأن كل شيء في العالم الخارجي المحيط به لا يحجب المحبوب بل يشف عنه . . فالعاشق يسمعه في ريح الصبا وفي نغمة الطير ، ويتخيله في البرق والرعد ، ويبصره في كل ما يطالع . 
*  من البيت ( 70 ) إلى البيت ( 112 ) : أسرار الشريعة . 
يفصّل الجيلي في هذه الأبيات أسرار العبادات ، التي هي أركان الإسلام . فيتكلّم على الشهادة والصلاة والصيام والزكاة والحج . 
ونرى كيف يمارس العشاق عباداتهم ، وكيف يقوم الباطن في حضرة المعبود بموازاة الظاهر ، فيؤدي القلب حركة كلّما تحرك البدن . . وهذا القسم من القصيدة يعتبر من النصوص النادرة في تاريخ الفكر الصوفي ، ربما نجد - فيما سلف - إشارات متفرقة إلى أسرار العبادات ، ولكن لم يسبق أن رأينا صوفيا يأخذ كل عبادة بمفردها ويتتبع حركاتها حركة حركة ، في الظاهر والباطن معا . 
فلينظر في شرح القصيدة خاصة “ عبادة الحج “ إذ أوردها الجيلي - على تنوعها وكثرتها -
بتمام تفاصيلها ( من البيت رقم 80 إلى البيت رقم 112 ) . كما أورد الجيلي المعاني نفسها في كتابه الإنسان الكامل ج 2 / ص ص 86 - 91 فلتراجع . 

*   من البيت ( 113 ) إلى البيت ( 126 ) : المقام المحمدي . 
بعد إتمام عبادة الحج ، يتوجه الحاجّ نحو المدينة المنورة لزيارة روض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وهذا العمل البدني يقابله في الباطن عزم على التحقق بالمقام المحمدي . . حمى درست رسومه ، وأوج منيع دونه البرق لامع ، ولكن الجيلي سرى على بازل يجوب الفلا جوب الصواعق وليس له دون المرام موانع . 
*   من البيت ( 127 ) إلى البيت ( 159 ) : وحدة الوجود . 
يشرح الجيلي في هذه الأبيات رؤيته للألوهية وتجلي الحق عزّ وجلّ في الكائنات ، وعلاقة الحق بالخلق . وينتهي إلى القول بأنه ما ثمة شيء سوى اللّه في الورى ، وأنه هو تعالى تجلى في الأشياء حين خلقها ، فهو موجد الأشياء وهو وجودها وعين ذوات الكل ، وفي تجليه في الكائنات تسمّى بأسماء هن مطالع للحق . 
*  من البيت ( 160 ) إلى البيت ( 185 ) : نظرية الجيلي في الجمال : الجمال الإلهي والجمال الكوني . 
يرى الجيلي بأن جمال الكائنات ليس ذاتيا بل هو انعكاس للجمال الأوحد الإلهي . ويطالب القارئ بأن يوحّد الجمال ولا يشرك به أحدا من خلقه ، وفي الوقت نفسه لا ينحجب عنه لقبح بصورة ، بل يشاهده أينما ولّى وجهه . 
*   من البيت ( 186 ) إلى البيت ( 280 ) : وصايا صوفية . . 
يوجّه الجيلي القارئ - المريد إلى أن يبيع نفسه ، ويخلع أوصافه ، ويتشجع لينال قرب النوافل ، فيعمّ الحق قواه كلّها ، يكون يده ولسانه وسمعه . . 
ويوصيه بأن يغص في بحار التوحيد ، ويترك التشبيه والتنزيه ، فيشبهه في تنزيهه وينزهه في تشبيهه . ولا يطلب فيه الدليل ، ويكتفي بالإيمان وحسن التتبع . 
ثم في البيت رقم ( 218 ) ، يعلن بأنه ثمة أصول في الطريق الصوفي خاصة بأهله . . وأبرزها : تسليك النفس وإقامة الحرب عليها ، مقاطعة من واصلنا أيام غفلة ، اللوذ بالأولياء ، إدامة ذكر الحبيب ، التسليم لشيخ بارع في الحقيقة إن ساعدنا القدر بلقائه . 
*   من البيت ( 281 ) إلى البيت ( 535 ) : الجيلي يروي سيرته الروحية . 
بعد أن فصّل الجيلي لطالب السعادة أصول الطريق الصوفي ، ينصحه بالا يستبعد حصول ذلك له بل يثق بأن الوصول إلى عالي الرتب والرؤية ممكن ، وبين يدي هذه الثقة سوف يقص عليه قصته الشخصية منذ بدايته وبروزه لمعة من النور الإلهي ، إلى نحو انتهائه إنسانا كاملا ، خليفة في الأرض .

رابعا - أهم أفكار القصيدة العينية : 
ضمّن الجيلي قصيدته العينية أمهات الأفكار التي نثرها في مؤلفاته الأخرى . 
وهذه الأفكار لم يبتدعها الجيلي في تاريخ التصوف ، بل يمكن القول أنها موضوعات وقضايا طرحت في الوسط الصوفي ، بعد القرن السادس الهجري ، للتأمل والتجربة العرفانية . وفيما يأتي نتطرق باختصار إلى هذه الأفكار ، بالإضافة إلى ما سبق تفصيله عند الكلام على بنية القصيدة [مثلا : أسرار العبادات ، الطريق الصوفي . . ]:

أ - العشق الإلهي . 
اختلفت آراء المسلمين حول مسألة “ عشق اللّه “ ، وأنكر فريق منهم أن تكون علاقة الإنسان بربه هي علاقة عشق وتعشّق ، ورأوا أن المسموح في هذا المجال ، هو ما ورد في النص الديني ، أي علاقة الحب لا العشق . 
ولكن ، بعد القرن الخامس الهجري ، شاع لفظ العشق ، وأصبح مقبولا لدى عامة الصوفية ، وتوالت نصوصهم في العشق واصفة أحوالهم . 
ونختصر رؤية الصوفية للحب والعشق ، بأن هذه العاطفة اللاملموسة ، غير معترف بها عندهم وليست صادقة ، ما لم يقم عليها شاهد ؛ وشاهد الحب والعشق هو : الفناء . 
يفنى المحبّ ليبقى محبوبه ، تفنى مراداته لمصلحة مرادات حبيبه ، وتفنى أهواؤه ومطالبه وشهواته ليبقى بدلا منها ما يشاء محبوبه ويرضى . . وكلّما ازداد الحب ازداد الفناء .
بحيث أنه لا يصدق الحب ويكمل حتى يقول المحبّ لمحبوبه : يا أنا .
وقد استعصى حال الفناء العشقي على الدخول في لغة الكلام ، لذلك عبّر كل صوفي عن حالته العشقية بلغة يوحي ظاهرها بالاتحاد ، مع تحذيره القارئ من أن يتوهم بين الإنسان واللّه اتحادا أو حلولا . .
 يقول الجيلي في القصيدة العينية التي ننشرها :
تنزّه ربّي عن حلول بقدسه   .....   وحاشاه ، ما بالإتّحاد مواقع 
ويرى الجيلي بأن البداية هي ميل الإرادة نحو الآخر ، والنهاية هي العشق وظهور العاشق بالصورتين . . وما بين الميل والعشق يقطع الإنسان مراتب سبع ، فيكون المجموع تسع .

يقول الجيلي : “ واعلم أن الإرادة لها تسعة مظاهر في المخلوقات : 
المظهر الأول هو الميل وهو انجذاب القلب إلى مطلوبه . 
فإذا قوي جدا سمي ولعا ،وهو المظهر الثاني للإرادة . 
ثم إذا اشتد وزاد سمي صبابة ، وهو إذا أخذ القلب في الاسترسال فيمن يحب فكأنه انصبّ كالماء إذا أفرغ لا يجد بدّا من الانصباب ، وهذا هو المظهر الثالث للإرادة . 
ثم إذا تفرّغ له بالكلية وتمكّن ذلك منه سمى شغفا ، وهو المظهر الرابع للإرادة . 
ثم إذا استحكم في الفؤاد وأخذ عن الأشياء سمّي هوى ، وهو المظهر الخامس . 
ثم إذا استوفى حكمه على الجسد سمى غراما ، وهو المظهر السادس للإرادة . 
ثم إذا نما وزالت العلل الموجبة للميل سمي حبا ، وهو المظهر السابع . 
ثم إذا هاج حتى يفنى المحب عن نفسه سمّي ودا ، وهو المظهر الثامن للإرادة
ثم إذا طفح حتى أفنى المحب والمحبوب سمى عشقا وفي هذا المقام يرى العاشق معشوقه فلا يعرفه (. ) وهذا آخر مقامات الوصول والقرب.
 فيه ينكر العارف معروفه فلا يبقى عارف ولا معروف ولا عاشق ولا معشوق ، ولا يبقى إلا العشق وحده . 
والعشق هو الذات المحض الصرف الذي لا يدخل تحت رسم ولا اسم ولا نعت ولا وصف ، فهو - أعني العشق - في ابتداء ظهوره يفنى العاشق حتى لا يبقي له اسما ولا رسما ( . . . ) 
فإذا امتحق العاشق وانطمس أخذ العشق في فناء المعشوق والعاشق . فلا يزال يفنى منه الاسم ثم الوصف ثم الذات فلا يبقى عاشق ولا معشوق ، فحينئذ يظهر العاشق بالصورتين ويتصف بالصفتين فيسمّى بالعاشق ويسمّى بالمعشوق . . . “  .

ب - وحدة الوجود : 
عرفت البشرية نظرية وحدة الوجود على أنها التي تقول بأن اللّه والإنسان من طبيعة واحدة ، مما يمكن معه أن يرجع الإنسان إلى اللّه ويتحد به إتحادا ماهويا . 
وحيث أن الإسلام أكد على تنزيه اللّه سبحانه عن مخلوقاته كافة ، وأنه ليس كمثله شيء ، وأنه لا يحلّ في مخلوق ، ولا يتّحد به مخلوق . . لذلك أصبح الكلام على وحدة الوجود محفوفا بالخطر . 
وقد ظهرت فكرة وحدة الوجود ، وفي صيغتها الإسلامية - في الحقل الصوفي - مع محيي الدين ابن العربي ، وانتشرت من بعده في أوساط الصوفية الأفراد . 
وهي لا تقول بأن اللّه والإنسان من طبيعة واحدة ، بل هما من طبيعتين متغايرتين ، محافظة بذلك على التنزيه الإلهي . 
ورغم قولها باثنينية وجودية ، إلا أن الدارسين نسبوا أقوال الصوفية إلى الوحدة لأنهم حصروا الوجود الحقيقي باللّه وحده عزّ وجلّ ، والمخلوقات كلّها “ ملحقة بالعدم “ ما شمت رائحة الوجود ، بل هي صور قائمة بتجلي الحق فيها . 

فاللّه عز وجلّ يخلق المخلوقات ، يخرجها من عدمها إلى الوجود بتجليه فيها ، ولكن حيث أن حقيقتها العدم فليس فيها طاقة لاستقبال الوجود والاحتفاظ به ، لذلك تسقط في العدم مباشرة . . واللّه سبحانه ، يجدّد خلقها باستمرار ، يتجلّى فيها بآثار أسمائه لتظل صورا منصوبة . فالوجود بأكمله مرآة تعكس وجود الحق ، فمن ينظر إلى الكائنات يشهد الحق فيها ، إنها “ مرائي “ الحبيب ، “ وفي كل مرأى للحبيب طلائع . . . “ . 
يقول الجيلي ( الإنسان الكامل ج 2 / ص 87 ) ذاكرا سر كلمة الشهادة : “ إعلم انه لما كان الوجود منقسما بين خلق حكمه السلب والانعدام والفناء ، وحقّ حكمه الإيجاد والوجود والبقاء ، كانت كلمة الشهادة مبنية على سلب وهي “ لا “ ، وإيجاب وهي “ إلا “ ، معناه : لا وجود لشيء إلا اللّه “ .

ج - الإنسان الكامل : 
ظهرت الكتابة بوضوح حول “ الإنسان الكامل “ ، حول شخصه وأدواره على مستوى خلق الأكوان ومدار وجود الإنسان ، مع محيي الدين ابن العربي . 
أما عبد الكريم الجيلي فهو صاحب الاختصاص في تاريخ التصوف الإسلامي بهذا الموضوع . 
وقد أوردت عبارة “ صاحب الاختصاص “ معرّفة لا نكرة ، لأن موقع الجيلي فرضها ، فهو أول من تخصّص ب “ الإنسان الكامل “ في الحقل الصوفي . . لقد وقف كتاباته كلّها تقريبا على التعريف به ، وهذا يعني أن علومه الصوفية ومشاهداته تمحورت حول هذه المسألة . 

وتتلخص فكرة “ الإنسان الكامل “ [ - معرّفة وهي غير العبارة النكرة : إنسان كامل ] ، بأن نور رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هو “ مظهر الإلوهية “ ، و “ نسخة الحق “ ، هو أصل الوجود . 
وهو أول ما خلق اللّه عزّ وجلّ ، ومن هذا النور خلق الأكوان كلّها . . فهو الحق المخلوق به كل شيء ، وهو حقيقة كل شيء . 

وبعد الخلق عليه مدار العوالم كلّها من أولها إلى آخرها : في الوجود وفي المعرفة والتحقيق . . 
وهو واحد لا يتعدّد بذاته ولا يتكرر ، ولكن له تجليات في خلفائه من جنس الإنسان . . 
وقد ألف الجيلي كتابا أسماه “ الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل “ ، والعنوان بحد ذاته يدعو إلى التأمل ؛ فهو يقرر بأن هذا السفر يجمع معارف السابقين ويصادر معارف اللاحقين في موضوع الإنسان الكامل . 
وزيادة في التأكيد يقدم الجيلي في عنوانه معرفة الأواخر على معرفة الأوائل ، لا لضرورة السجع فقط .
إذن ، بحسب رأي الجيلي ، كل ما يريد أن يعرفه الطالب في موضوع الإنسان الكامل فهو مجموع في هذا الكتاب ، ولن يأتي اللاحقون بجديد مفقود في هذا الكتاب . 

وأفرد الجيلي في كتابه هذا بابا اعتبره عمدة أبواب الكتاب ، بل الكتاب من أوله إلى آخره شرح لهذا الباب ، وهو الباب الموفى الستون [ حوالي 4 صفحات فقط ] ، تكلّم فيه بأسلوب مباشر وبإيجاز شديد على الإنسان الكامل ، وأنه بالاتفاق هو محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم . 
ويخبرنا عن حقيقته ، فيقول : 
“ إن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود ، من أوله إلى آخره ، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الأبدين ؛ ثم له تنوّع في ملابس ويظهر في كنائس ، فيسمى به باعتبار لباس ولا يسمى به باعتبار لباس آخر . 
فأسمه الأصلي الذي هو له محمد ، وكنيته أبو القاسم ، ووصفه عبد اللّه ، ولقبه شمس الدين “ .
ويخبرنا الجيلي أنه اجتمع به صلّى اللّه عليه وسلم في صورة شيخه الجبرتي : 
“ فقد اجتمعت به صلّى اللّه عليه وسلم وهو في صورة شيخي الشيخ شرف الدين إسماعيل الجبرتي ، ولست أعلم أنه النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وكنت أعلم أنه الشيخ ، وهذا من جملة مشاهد شاهدته فيها بزبيد سنة ست وتسعين وسبعماية . وسر هذا الأمر تمكنه صلّى اللّه عليه وسلم من التصور بكل صورة “ . 

ويسارع الجيلي إلى إبعاد تهمة التناسخ عن مقولته ، فيقول للقارئ : 
“ إياك أن تتوهم شيئا في قولي من مذهب التناسخ ( . . . ) بل إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم له من التمكين في التصور بكل صورة حين يتجلى في هذه الصورة . وقد جرت سنته صلّى اللّه عليه وسلم أنه لا يزال يتصور في كل زمان بصورة أكملهم ، ليعلي شأنهم ويقيم ميلانهم ، فهم خلفاؤه في الظاهر وهو في الباطن حقيقتهم “ . 
وإذا أردنا أن نفهم شهود الجيلي بمنطق عقولنا الظاهر ، نرجع إلى تمكّن جبريل عليه السّلام من التمثّل بصور بشرية . . ومن الأمثلة عليها هو تمثّله عليه السّلام في صورة دحيّة الكلبي ،وظهوره للنبي صلّى اللّه عليه وسلم وصحابته ، وجلوسه وكلامه وقيامه ، كل ذلك في صورة دحيّة . 
ويلخص الجيلي في هذا الباب ، ما فصله في كتابه بأكمله ، من مقابلة الإنسان الكامل لجميع الحقائق الوجودية بنفسه . . “ يقابل العرش بقلبه . . . ويقابل الكرسي بانيته ، ويقابل سدرة المنتهى بمقامه ، ويقابل القلم الأعلى بعقله ، ويقابل اللوح المحفوظ بنفسه ، ويقابل العناصر بطبعه . . . “ ، وهكذا يفصّل الجيلي جزءا جزءا من العالم وما يقابله من الإنسان الكامل .

د - الجيلي يكتب سيرته الروحية :

1 - السيرة والرؤية : 
أقول ، إن مدونات الناس تنقسم في نظري إلى قسمين كبيرين ، يتفرّع الواحد
منهما إلى فروع عديدة متشعبة ، وهذان القسمان هما : 
الكتابات التي تدّون الحياة والواقع ، 
والكتابات التي تدّون الأفكار والنظريات . 
وأقول أيضا ، إن الكتابات التي تدّون للأفكار والنظريات والرؤى الفكرية ليست دائما صادقة ، بل تصدق أحيانا ، وأحيانا تتشابه في ضبابية وتغيب عن المقصود ، وبالتالي نتسلح بأدوات جبارة من الأصول لنزن بها النظريات والرؤى الفكرية . 
أما الكتابات التي تدّون للسيرة الذاتية أو لمشاهد من الواقع فهي - على الأغلب - صادقة ، إن تأكد لدينا صدق الراوي .

2 - لماذا السيرة الروحية ؟ 
يذكر الجيلي في كتابه الإنسان الكامل ، السبب الذي دعاه إلى كتابة سيرته الروحية ، يقول ( ج 2 / ص 96 ) : “ إن مقام القربة هي الوسيلة ، وذلك لأن الواصل إليها يصير وسيلة للقلوب ( . . . ) إلى التحقق بالحقائق الإلهية . 
والأصل في هذا ، أن القلوب ساذجة في الأصل عن جميع الحقائق الإلهية ، ولو كانت مخلوقة منها ، بنزولها إلى عالم الأكوان اكتسبت هذه السذاجة ، فلا تقبل شيئا في نفسها حتى تشاهده في غيرها ، فيكون ذلك الغير لها كالمرآة أو الطابع ، فتنظر نفسها في ذلك الشيء فتقبله لنفسها ، وتستعمله كما تستعمل ذلك الشيء بحكم الأصالة . . . 

وقلب الولي الواصل إلى مقام القربة وسيلة الأجسام ( . . . ) إلى التحقق بالحقائق الإلهية لظهور الآثار ؛ فلا يمكن الولي أن يتحقق جسده بالأمور الإلهية إلا بعد مشاهدته كيفية تحقق ولي من أهل القربة ، فيكون ذلك الولي وسيلته في البلوغ إلى درجة التحقق . وكل من الأنبياء والأولياء وسيلتهم محمد صلّى اللّه عليه وسلم “ . 
إذن ، إن الولي الواصل إلى مقام القربة ، وهو أعلى مقام يصل إليه ولي وليس بعده إلا مقام النبوة ، يصبح للقلوب الإنسانية الخالية من الحقائق الإلهية كالمرآة . 
وعندما تشاهد القلوب في هذه المرآة ما تقبله لنفسها تستعمله وتسعى لتحصيله . 
وبناء عليه ، فقد أراد الجيلي من كتابة سيرته الروحية أن يبين للسالك كيفية تحققه ووصوله إلى مقام القربة ، لتكون روايته هذه وسيلة للسالك لبلوغ درجة التحقق . 

ولا ينسى الجيلي من أن يوضح بأن وسيلة كل الأنبياء والأولياء لظهور آثار الحقائق الإلهية عليهم هو محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم .
ومن مراقبة أحوال الناس في معايشهم نؤيد الجيلي فيما ذهب إليه ، إذ تقوم - أحيانا - كتابة السيرة بوظيفة هامة في حياة المهتمين بالمجال موضوع السيرة ، وتظهر قيمتها التربوية والإنسانية في أحيان عديدة . 
ونظرة على رفوف المكتبات ترينا أنها تغصّ بعشرات الكتب عن السيرة الذاتية لفقراء أصبحوا من أصحاب الملايين ، أو لنكرات صاروا قادة سياسيين ، أو سيدات خرجوا من دائرة التهميش إلى حدقة الوجود . . . وهكذا . 
فالسيرة الذاتية تحرّض القارئ ، تحرك في داخله الرغبة في السير والإقدام ، وتكسر لديه الشعور بالقلة والضعف ، وتزرع الثقة بالنفس وبالجنس البشري . . 
ويهمس حديث من الأعماق : إن كان - هذا رغم ظروفه - قد وصل إلى ما نرى ، فما الذي يمنعني أنا من الوصول ؟ ! 

كتب الجيلي سيرته الروحية ، التي احتلت نصف مساحة قصيدته العينية ، لتكون وسيلة للآخرين لبلوغ مقام القربة . . فرأينا بدايته ، شخصا من عوام المسلمين ، المؤمنين بالغيب ، ويدل على مقامهم قوله تعالى :"رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ"[ آل عمران : 193 ] ؛ وشهدنا مجاهداته ورياضاته وعشقه وفناءه . . 
إلى أن نظر الحق عبده فدخل في عداد المحققين ، وانتسب إلى أهل القرب الإلهي ، الذين بنى اللّه أساس هذا الوجود عليهم ، وأدار أفلاك العوالم على أنفاسهم ، وهم محل نظر الحق من العالم ، بل “ هم محل اللّه في الوجود “ ، ولا يريد الجيلي بلفظ “ المحل “ الحلول ولا التشبيه ولا الجهة ، 
بل يريد به أن أهل القرب الإلهي هم محل ظهور الحق تعالى بإظهار آثار أسمائه وصفاته فيهم وعليهم .
وحيث أن الجيلي وصل إلى مقام القربة . وحقّ له بالتالي أن يجعل سيرته مرآة للآخرين ، فما هو مقام القربة ؟

3 - مقام القربة : 
يرى الجيلي أن اللّه تعالى جعل مطلق أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم على سبع مراتب ، وهي :
الإسلام ، والإيمان ، والصلاح ، والإحسان ، والشهادة ، والصديقية ، والقربة . وما بعد هذه المرتبة السابعة إلا النبوة ، وقد انسد بابها بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم . 
وبعد أن بيّن مراتب ناس الأمة ، فصّل أركان كل مرتبة ، وصولا إلى “ الولاية الكبرى “ ، إلى مقام القربة . 
يقول في وصفه : “ وأما القربة فهي عبارة عن تمّكن الولي قريبا من تمكّن الحق في صفاته ، وهذا مشاع كما يقال قارب فلان العالم فلانا يعني في العلم والمعرفة ، وقارب مسلم التاجر قارون موسى يعني في المالية . 
فالقربة هي ظهور العبد في تنوعات الأسماء والصفات بقريب من ظهور الحق فيها ، لأنه يستحيل أن يستوفي العبد حقيقة صفة من الصفات ؛ ولكنه إذا انصرف على سبيل التمكين فيها لا يستعصي عليه شيء مما يطلبه : فعلم ما تشوف لعلمه ، وفعل ما أراد حدوثه في العالم مثل إحياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص ، وغير ذلك مما هو الجوار “ . 
إذن ، مقام القربة هو الولاية الكبرى . . هو “ قبول ذات العبد الاتصاف بصفات الرب قبولا أصليا حكميا قطعيا ، كما يقبل الموصوف الاتصاف بالصفة “ ، وصيرورته : خليفة اللّه في الأرض
وإذا أردنا أن نعرف - باختصار - إلى أين يصل الولي في مساره الروحاني ، وما هي المواهب الإلهية التي يتمتع بها .
ننقل نصا للجيلي ، يعرفنا بما نريد ، يقول : 
للولي ثلاث معارف باللّه ( . . . ) المعرفة الثالثة ، هو الذوق الإلهي الذي يسري في وجود العبد ، فينزل بها في حقه من غيبه إلى شهادته ، يعني تظهر أثار الربوبية في جسده ، فيكون يده لها القدرة ، ولسانه له التمكين ، ورجله لها الخطوة ، وعينه لا يحجب عنه شيء ، وسمعه يصغي إلى كل متكلم في الوجود “ .

خامسا - تحقيق نص القصيدة ونسخ المخطوطات : 
كنت يافعة عندما أسمعني والدي ، وصية صوفية في بيت من الشعر . . لقد كنت تابعة للنظر العقلي في أغلب قناعاتي ، وكان يريدني أن أقيم الإيمان فوق أوجه المعقول ، 
فقال لي :خذ الأمر بالإيمان من فوق أوجه   .....   
ونازع إذا نفس أتتك تنازعولم أكن أعرف قائل هذا الشعر ، ولم يشر والدي إلى صاحبه ، حتى كان يوم اهتممت فيه برجالات التصوف ، وتجرّدت إرادتي لنشر القصيدة العينية لعبد الكريم الجيلي ، فعملت على تحصيل نسخ مخطوطة لهذه القصيدة من أماكن متباعدة من العالم ، وحين قرأتها وجدت البيت الذي يطوف كثيرا في الذاكرة ، من ضمن أبياتها . . 
فاطمأنت النفس لتمام السياق . 
حصلت على حوالي الاثني عشرة صورة لمخطوطات للعينية ، وبعد النظر فيها قررت مقارنة تسع منها ، وإلغاء الباقي لأنه يثقل الحواشي دون فائدة تذكر . . وأنهيت المقارنة مع شرحي للقصيدة منذ حوالي ست عشرة سنة ، ولكن لم يأن أوان ظهورها إلا اليوم . 

الخاتمة 
نختم كلامنا على الجيلي وأسلوبه وقصيدته العينية بإظهار موقع الشعر عند الصوفي ، في إطار جدلية تاريخية بين الإسلام والشعر . 
وأقول ، يلتقي أرسطو في تقديره للشعر برجالات الصوفية الكبار ، فهو يرى أن الشعر الحق تعبير عن الإنسانية الكاملة  ، وعديد منهم في أصدق لحظة من حياتهم ، لحظة الموت ، نطق بالشعر ، إذ لم يجد ما يعبّر بشفافية عن جوهر إنسانيته إلا الكلام المقطّع الذي يتسع لكل أشكال “ آه “ النفس الانساني . 
وعديد منهم أيضا ، محفوظة أخبارهم في كتب الطبقات ، أتلفهم بيت من الشعر ، حتى أضحت مسألة “ الشعر والموت “ ظاهرة صوفية في القرنين الثالث والرابع الهجريين . 

وها هو أبو الحسين النوري يسمع قوّالا ينشد :
لا زلت أنزل في ودادك منزلا   .....   تتحيّر الألباب عند نزوله 
فيتواجد ، ويغيب في وجده عن جسده ، فيمشي الجسد على أرض أجمة قطع قصبها وبقيت أصوله أحدّ من السيف ، وظل يمشي مأخوذ الوعي يعيد بيت الشعر والدماء ترشح من قدميّه .
وكان ذاك الحادث سبب موته بعد ثلاثة أيام ، لم يكد يصحو فيها .
أما أبو علي الروذباري فإنه فتح عينيه في آخر لحظة ، وقال : هذه أبواب السماء قد فتحت ، وهذه الجنان قد زينّت .
وأنشأ يقول :
وحقّك لا نظرت إلى سواكا   .....   بعين مودةّ حتى أراكا
أراك معذّبي بفتور لحظ   .....   وبالخدّ المورّد من جناكا 

وآخر نفس لأبي سعيد الخراز قال فيه :
حنين قلوب العارفين إلى الذكر   .....   وتذكارهم وقت المناجاة للسرّ
أديرت كؤوس للمنايا عليهم   .....   فأغفوا عن الدنيا كإغفاء ذي السكر
همومهم جوّالة بمعسكر   .....   به أهل ودّ اللّه كالأنجم الزّهر
فأجسامهم في الأرض قتلى بحبّه   .....   وأرواحهم في الحجب نحو العلا تسري
فما عرّسوا إلا بقرب حبيبهم   .....   وما عرّجوا عن مس بؤس ولا ضر
والشبلي ، حين قارب الرحيل ، وتأكد لديه الرجوع ، ظل طوال الليل يردد أبياتا للحلّاج . . لقد استطاع بعض الصوفية أن يحوّل أشد لحظات الإنسان فردية وهي لحظة الموت ، إلى لحظة صحبة ومشاركة . 

فالحلّاج شارك الشبلي لحظة الموت عبر أبياته :
كل بيت أنت ساكنه   .....   غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجّتنا   .....   يوم يأتي الناس بالحجج

والحلّاج سار إلى لقاء ربه . وهو يردد أبياتا لأبي الحسن النوري ، ظل يقول :
ما أن ذكرتك إلّا همّ يقتلني   .....   ذكري وسرّي وقلبي عند ذكراكا
حتى كأنّ منك يهتف بي   .....   إيّاك ، إيّاك والتّذكار إيّاكا
أما ترى الحقّ قد لاحت شواهده   .....   وواصل الكّلّ من معناه معناكا ؟
وأمام هذه الظاهرة الصوفية ، التي ترينا بأن الشعر - في لحظة ما ، وموضوع ما - أقدر من النثر على التعبير عن وجدان الصوفي وأفكاره وتجربته الجوانية . . 
نقول بأننا نرجح أن تحرّك قصيدة الجيلي العينية ، وجدان وفكر شرائح متنوعة من الناس ، لا الإنسان الصوفي فقط ؛ ونرى : 
إنها تهمّ الصوفي لما فيها من تصوير للحياة الروحية الأصيلة المؤيدة بروح القدس . . 
وتهم الشاعر الحديث لما تحويه أبياتها من فكر يؤكد على وظيفة الفن وعلاقة الأدب بالفلسفة . . 
وتهم النحوي لما تضمّه من مفردات منحوتة من الحرف بقلم جريء . . 
وتهم الفيلسوف ليقابل بين معطيات النظر والفكر وبين علوم المكاشفة الصوفية وتصورات الصوفي للألوهية والوجود والإنسان . . 
وتهم الفقيه لما تقدم من إضافات هامة على مستوى ممارسة المسلم لعباداته ، وتظهر أسرارا مخبؤة في خزائن الأفعال . . 
وتهم عالم العقيدة لأنها تكشف عن الكيفية التي يصوغ فيها الصوفي عقيدته في التوحيد ، ومراتب التوحيد لديه ، ومفهومه للذات والصفات والأسماء الإلهية . 
ختاما . . 
قد نقبل مقولات الجيلي أو نرفضها ، ولكن لا نستطيع أن نغفل عن حضوره في الفكر الصوفي عامة ، وفي الشعر الصوفي خاصة . . 
إنه إلى الآن آخر الشعراء المبدعين قبل زمن التقليد . 
د . سعاد الحكيم بيروت / شباط 2004
.
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: