الثلاثاء، 26 مايو 2020

كتاب شق الجيب بعلم الغيب بكن ويكون ودرّ الدر . الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي

كتاب شق الجيب بعلم الغيب بكن ويكون ودرّ الدر . الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي

كتاب شق الجيب بعلم الغيب بكن ويكون ودرّ الدر . الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي

كتاب شق الجيب بعلم الغيب بكن ويكون ودرّ الدر الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي

كتاب شق الجيب بعلم الغيب بكن ويكون ودرّ الدرر

تأليف الشّيخ الأكبر محيي الدّين محمّد بن علي بن محمّد ابن العربي الحاتمي المتوفى 638 هـ ضبطه وصحّحه وعلّمه عليه الشيخ الدّكتور عاصم إبراهيم الكيّالي الحسيني الشّاذلي الدّرقاوي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه رب العالمين ، الذي وفقني للسباحة في علم اليقين ، وقوّاني على إخراج الدرر من أصداف العبارات ، والاستعارات العجيبة ، والأوضاع الجديدة ، الواردة على قلبي بإلهام ربي ، وهي في الحقيقة درر عوارفه في حق العارفين .

والصلاة على خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .

وبعد

فلما فرغت من كتاب اليقين بالتماس الولد العزيز الأعز محسن الدين ، وقد رغب في حفظه ، ووافقه الولد العزيز ذو النسب الصحيح والحسب الصريح زين العابدين ، زينهما اللّه بإخلاص المخلصين ، فخطر ببالي في أثناء اشتغالي بالصلاة ، بين العشائين ، أن ألتقط منه ما يحتاج إليه طالب معرفة العالم الكبير ، وأسمّيه :

بـ « شق الجيب بعلم الغيب بكن ويكون ودرّ الدرر » .

فاستخرت اللّه تعالى فيه فوجدت شرح الصدر . فعافصتني هذه الخطبة نشرت بعد الفراغ عن صلاة العشاء ،

وقلت :اعلم يا طالب درة المعرفة ، أنّ الشيء الذي يصدق إطلاق القدم عليه لا يخلو من أن يكون مستغنيا بجميع الوجوه عن غيره أو لا .

فإن يكن فهو ذات اللّه الأحد الواحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد .

وله القدم على الصفات ثابت من حيث الذات .

وهذا القدم عبارة عن ما لا يسبقه شيء بالسبقات السبع :

الذاتية ،

 والمصدرية ،

والعلية ،

والمكانية ،

والزمانية ،

والرّتبيّة ،

والطبيعية .

وإن لم يكن مستغنيا بجميع الوجوه عن غيره فلا يخلو من أن يكون داخلا تحت أمر كن بالإيجاد والإفاضة أو لا .

فإن يكن داخلا فلا يخلو من أن يكون سرمديا أو لا . فإن يكن داخلا فهي الصفات المفتقرات في القيام إلى الذات ، ولها القدم ثابت على قيام الأفعال من حيث المصدري ، وإن يكن فهي الأفعال المفتقرات في صدورها إلى مصادرها ، ولها القدم ثابت على الآثار الظاهرة بسببها من حيث العلى .

والعبارة عن هذين القدمين هي أن لا يكونا داخلين تحت الأمر . فإن لم يكن سرمديا فلا يخلو من أن يكون مسبوقا بزمان إفاقي أو لا ،

فإن لم يكن فهي بالبسائط الحقيقية التي وجدت بالفيض الإيجادي بلا واسطة ، المفتقرة إلى فيض الإيجاد والإبقاء ، والنسبة التي وجدت بالفيض الأمري بواسطة العقل ، المفتقرة إلى فيض الأمر ، ووساطة العقل ،

وهذا القدم عبارة عن ما لا يسبقه الزمان الإفاقي ، وإن كان مسبوقا فهو كالمتولدات المفتقرة إلى مفرداتها بالتركيب ، وإلى فيوض المفردات الإيجادية والأمرية ، وإلى المؤلّفات كلها . وهذا القدم عبارة عن طول الزمان كالعرجون القديم ، والبينونات القديمة .

ثم اعلم أن الآثار الظاهرة بسبب العقل الصادر عن الصفة الدّال عليها اسم الموجد الخلاق ، الثابتة للذات حين تجلّيه ليعرف ممكن الوجود ، وهو عبارة عما يكون متساوي الطرفين في الجواز ،

 وهو على قسمين :

- مقوم نفسه . - وغير مقوم نفسه .

فالمقوم نفسه على قسمين :

- مفرد . - وغير مفرد .

فالمفرد المعبر عنه بالجوهر على قسمين :

- إيجادي . - وأمري .

فالإيجادي : الذي هو البسيط الحقيقي لا يخلو من أن يكون قابلا لنقوش الفيوض المتواترة ، الفائضة من حضرة الحق المتعالي أو لا .

فإن يكن فهو اللوح المحفوظ المعبر عنه بالعقل ، الذي هو أثر أول فيض مخصوص بالحكمة وظلها . وقد أشار النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى أوليته في مرتبته بقوله :

« أول ما خلق اللّه العقل ». أورده العجلوني في كشف الخفاء والديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب  وأورده غيرهما .

وهو أول شيء عقل به بعقال الإمكان ، بحيث عقل نفسه وموجده ، وأنه مأمور بالاستفاضة في المرتبة اللوحية ، وبالإفاضة في مرتبة الخلافة ، وإن لم يكن قابلا لنقوش الفيوض لا يخلو من أن يكون ملاقيا للّوح أو لا ، فإن يكون فهو المداد المعبر عنه بالنور المحمدي ،

المشار إليه وإلى أوليته بقوله : « أول ما خلق اللّه نوري » 

وفي حديث آخر : « فإن المداد نوري »   

وهو أثر أول فيض مخصوص بالقدرة وظلها .

وإن لم يكن ملاقيا للّوح فلا يخلو من أن يكون أقرب الأوليات إلى حضرة الحق المتعالي أو لا .

فإن لم يكن فهو الدواة المعبّر عنه بالروح الأحمدية المشار إلى أوليتها في مرتبتها بقوله : « أول ما خلق اللّه روحي »  .

وهو أثر أول فيض مخصوص بالإرادة وظلها ، وإن يكن أقرب الأوليات إلى اللّه تعالى فهو القلم المعبر عنه بالخفي عند عارفي أرباب الطريقة من الصوفية المشار إلى أوليته في مرتبته بقوله : « أول ما خلق اللّه القلم » .

ثم النون : وهي الدواة ، وهو أثر أول فيض مخصوص بالعلم وظلّه .

وتيقن بأن العلم ما لم يفض لم تتيقظ الإرادة ، وما لم تتيقظ الإرادة لم تنتبه القدرة ، وما لم تنتبه القدرة لم تتقن الحكمة للقدر المقدر والمراد المعلوم .

فالحكمة متقنة للقدر المقدور .

والقدرة منبعثة بأمر الإرادة المخصصة لما في العلم .

والعلم منتظر لتجلي اللّه الأحد الواحد .

والأمري : لا يخلو من أن يكون قابلا للتأليف أو لا .

فإن لم يكن فهو جوهر النفس المعبر عنه بالعرش الفائض من لوح العقل بأمر الحق ، من حيث تعقّله موجده فصار ظل القلم .

وإن يكن فلا يخلو من أن يكون ذا فعل أو لا .

فإن يكن فهو جوهر الصور ؛ الفائض من لوح العقل بأمر الحق ، من حيث تعقله ؛ أنه مأمور بالإفاضة فصار ظل الدواة .

وإن لم يكن فهو جوهر المادة الفائض من لوح العقل بأمر الحق من حيث تعقله أنه مأمور بالاستفاضة .

فصار ظل المداد غير المفرد المعبر عنه بالجسم . وهو عبارة عما يصدق عليه إطلاق التأليف والتركيب الحاصل من فيض أمر العقل .

وهو على قسمين :

- مؤلف .

- ومركب .

فالمؤلّف : عبارة عما وجد من ائتلاف جوهري الصورة والمادة لا في زمان إفاقي .

والمركّب : عبارة عما وجد من جوهرين فصاعدا في زمان إفاقي مفتقرا إلى الفيوض الفلكية ونيّراتها وما فوقها .

والزمان الآفاقي : عبارة عن بدء حركة الأفلاك وتعداد أوقاتها .

والزمان الأنفسي : عبارة عن مقادير اللّه تعالى .

وقد أشار اللّه تعالى في آية واحدة إلى هذين الزمانين بقوله :فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[ السجدة : 5 ] .

فاليوم إشارة إلى الزمان الآفاقي الأنفسي .

وألف سنة مما تعدون إشارة إلى الزمان .

والذي غير مقوم نفسه عرض ، وهو لا يخلو من أن يجوز طرآنه على الممكنات كلها أولا .

فإن يجز فهو الضعيف اللاحق بالوجود عند دخوله تحت ذل التكوين وتقيده بقيد الإمكان .

وإن لم يجز فلا يخلو من أن يبقى مع من يقوم به كبقائه أو لا .

فإن يبق فهو كالحيّز للمفردات المعبّر عنها بالجواهر والمكان للأجسام المركبة والمؤلفة ، وما يختص بالمؤلفات كتدوير الأفلاك ، وإن لم يبق فهو كضوء الشمع على الجدار ، وصفرة الخجل ، وحمرة الوجل ، والغضب حالة الجدل ، مما يختص بالمركبات . وهو ما لا يبقى زمانين .

- والحيّز : عبارة عما ظهر مع كل موجود مفرد ، بحيث لا يسع فيه غيره .

- والمكان : عبارة عما ظهر مع الجسم ، بحيث لا يسع فيه غيره كالطبع .

وأقسام العرض عشرة :

الحيّز ، والمكان كما مرّ ذكرهما .

والزمان الآفاقي الحاصل منه الثواني ، والساعات ، والشهور ، والأعوام ، والقرون ، والأحقاب - بعد الفتق ، والكيف ، والكم ، والوضع ، والإضافة ، والملك - وأن يفعل ، وأن ينفعل .

ثم اعلم : أن اللّه تعالى جعل الحيّز دالّا على استوائه إلى السماء .

والزمان : دالا على الأزل والأبد .

والكيف : دالا على اللطف ، والقهر ، والرضا ، والغضب .

والكم : دالا على الأسماء الحسنى .

والإضافة : دالة على الأسماء المضافة كالإله ، والرب .

والوضع : دالا على الهداية والضلالة والنفع والضر .

والملك : دالا على صفة مالكيته وتحقيق قوله :وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما[ المائدة : 18 ] .

والفرق بين الملك ( بضم الميم ) والملك ( بكسرها ) بيّن لأن الملك ( بالضم ) يصدق إطلاقا على جميع الممكنات .

وبالكسر : لا يصدق إلّا على المؤمنين الذين اشترى اللّه منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ؛ فدخلوا بحكم البيع والشراء في دائرة ملكيته ( بكسر الميم ) ، بعد أن كانوا داخلين في ملكه ( بضم الميم ) كسائر الممكنات .

وأكملهم من خصّه اللّه بخصوصية العبودية .

وأن يفعل : دالا على صفة فاعليته ، وتحقيق قوله :فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ[البروج :16] .

وأن ينفعل : دالا على حكمته المتقنة للقدر المقدور المراد من المعلوم ، والقدرة لا تتعلق بشيء خال عن الحكمة . ومن شأن الحكيم أن لا يفعل شيئا عبثا ، وشاكلة الحكمة الصواب .

فاللّه الحكيم خالق العالم على شاكلته .

وجعل المقوم نفسه دالا على ذاته القائم بنفسه . كما جعل غير المقوم نفسه دالا على ما بيّناه من قبل .

وقال لنبيّه صلى اللّه عليه وسلم :قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ [ الإسراء : 84 ] .

ثم اعلم : أن خاتم التراكيب أخص أنواع الحيوان ، وهو الإنسان .

الذي هو أبعد الأشياء عن حضرة الوحدة في الصورة ، وأقرب الأشياء إليها في المعنى .

وكل فرد من أفراده عالم تام صغير بالجثة كبير بالمعنى ، فيه شيء ليس في العالم الكبير بالجثّة وهو مرآة مدركة ، ذوق مشاهده ، عكس جمال الشاهد المنطبع فيها المعبر عنها باللطيفة الأنانية .

التي هي عبارة عن الحقائق التي قامت بها المفردات الإيجادية والأمرية ، والمؤلفات والمركبات أحدثها الفيض من اللّه تعالى عند تجليه بالصفة الواحدية .

ليعرف المعبر عنه باللطيفة الحقيّة ( بالحاء المعرّاة ، والقاف ) من البدن المجتمع فيها العناصر الأربعة ، من حيث الاعتدال التام ، القابل لفيوض المفردات الإيجادية والأمرية ، التي هي الجواهر والأجسام المؤلفة اللطيفة ونيّراتها إليه ليكون مرآة لوجه اللّه ذي الجلال والإكرام والجمال والكمال .

وبها صار الإنسان أشرف الموجودات المشرّف بسجود الملائكة وخلافة الأرض وعمارتها .

وسخّر له ما في السماوات وما في الأرض جميعا . وهي الأمانة الكبرى المودعة في الحضرة العظمى المستورة عن أعين أهل السماوات العلى والأرضين السّفلى من أخص الخواص من عباده المخلصين وقليل ما هم .

وهم الأعظمون الأجر ، الأقلون العدد فانظر بعد بعين اليقين بكمال متابعة خير النبيين عليهم الصلاة والسلام في وجود العالم . وتيقين بأنه شخص واحد .

الأفلاك : بدنه الغير المحلول . والعناصر الأربعة وطبائعها أخلاطه الأربعة ، والطبائع المختصة بها .

والكواكب الثابتة والسيارة : حواسه الظاهرة والباطنة ، وقواه الخادمة والمخدومة .

والملائكة : قواه الروحانية الصالحة .

والجن المؤمن : قواه الزكية النفسانية .

والشيطان الكافر اللعين : قواه الفاسدة المخصوصة باللطيفة القالبية .

والنفس الكلية : لطيفته النفسية .

والعقل الكلي : لطيفته القلبية .

والمداد النوري : لطيفته الروحية .

والقلم القدسي الخفي عن عين العقل ، التي لم تكن منورة بنور الحق الفائض من روزنة قلب النبي صلى اللّه عليه وسلم لطيفته الخفية ( بالخاء المعجمة ) .

والفيض الفائض بتجلي الأحد الواحد ليعرف لطيفته الحقيّة ( بالحاء المعرّاة ، والقاف ) .

والشهادة ظاهر برقه مما تراه حواسه : العين الظاهرة .

والغيب : باطنه مما تراه حاسة البصيرة الباطنية .

والفصول الأربعة نفوسه الأربع :

الأمّارة الشتوية ،

واللوّامة الربيعية ،

والملهمة الصيفية ،

والمطمئنة الخريفية .

والمواليد : الثلاثة الحروف ، والأباجاد ، والكلمات ،

والإنسان الذي هو خاتم لأبنية التراكيب ، كلامه الكامل الذي يحسن السكوت عليه . فإنه المقصود من الحروف والأباجاد والكلمات ، والشقي والسعيد ، والخبيث والطيب منه ، والجحيم والجنة ، شعور المتكلم بخبثه والتألم به وبطيبه والتنعم به ، والربع المسكون من الأرض المكشوفة التي هي مستقر المواليد ، ومزرعة الآخرة ، ودار الكسب وقابلة الكون والفساد بدنه المحلول المنفعل كل لمحة .

والجبال : عظامه .

والأنهار : عروقه .

والأشجار : أشعاره .

والأقاليم السبعة : أعضاؤه .

وقس البواقي على ما رمزته إلى أصولها ، إن كنت من أهل الاستنباط ، وتيقن بأن المرآة الكاملة الأحقية عن الشروق والغروب ، والدائرة مع الحق في شؤون التجليات كلها أبد الآباد لطيفة أنانية خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين محمد الأمين عليه الصلاة والسلام .

أصالة ، ولمن قبله من النبيين ، ولمن بعده من الأولياء تبعية .

ولقد صدق الصدوق عليه الصلاة والسلام حين يحدث بنعمة ربه من حيث أمره به :

"أنا سيد ولد آدم ولا فخر " رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك والترمذي في جامعه الصحيح

وفي حديث آخر :

« لو كان موسى حيّا لما وسعه إلّا اتباعي » .

وقد اطلعنا من حيث اليقين أن معلم موسى متبع شريعته الزهراء اليوم ، وبها يربي أصحابه .

ثم اعلم : أن وجدان ذوق مشاهدة عكس جمال المرآة الشاهد المنطبع فيها ، والشاهد المتجلي حجب إدراك ذوق عكس جماله ، فحق أن يقول :يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ[ المائدة :

54 ] ، ثم بالصبر على المشاق في طلبها ، ثم بالتقوى عن وقع الغبار والأكدار على وجهها والتراكم ، ثم بالإحسان في مراتبها ومراعاتها ، بمحاذاة الوجه دائما من غير انحراف . إلى هذا السرّ أشار ونص القرآن حيث قال لنبيّه عليه الصلاة والسلام :فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ[ هود : 112 ] .

وحقّ له أن يقول : « شيبتني هود وأخواتها » . رواه أحمد وابن أبي شيبة في مصنفه رواه الحاكم في المستدرك وأبو يعلى في مسنده ورواه غيرهم

والإيمان بلا طهارة الظاهر والباطن لا ينفع .

والصبر بلا توكل لا يصح .

والتقوى بلا توبة لا تنجح . والإحسان بلا قسط في الأمور لا يتم .

ولأجل هذا أثبت اللّه ولايته ، ومحبته للمؤمنين ، والصابرين ، والمتقين ، والمحسنين ، والمطهرين ، والمتوكلين ، والتائبين ، والمقسطين ،

بقوله :وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ[ آل عمران : 68 ].وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[ آل عمران : 146 ].

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ[ التوبة : 4 ] .إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[ البقرة : 195 ] .وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ[ التوبة : 108 ] .إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ[ آل عمران : 159 ] .إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ[ البقرة : 222 ] .إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[ المائدة : 42 ] .

ولا يمكن التمتع بولاية اللّه تعالى ، ومحبته إلّا بعد الاحتراز عما لا يحبه اللّه ،

كما بيّن في كتابه بقوله :

فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ[ آل عمران : 32 ] .إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ[ القصص : 77 ] .وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[ آل عمران : 140 ] .إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ[ النحل : 23 ] .إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ[ القصص : 76 ] .إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ[ الأعراف : 31 ] .إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[ البقرة : 190 ] .

فالمتمتع بالولاية أو المحبة ينبغي أن يكون بريئا عن الكفر ، والفساد ، والظلم ، والخيانة ، والاستكبار ، والفرح بغير الحق .

المورث للبطر ، وعن الإسراف الذي هو الإفراط ، والاعتداء الذي هو التفريط . متّقيا عن صحبتهم وموالاتهم .

وقد منع اللّه تعالى عنها [ المؤمنين ] بقوله :لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً[ آل عمران : 28 ].

وفي آية أخرى قال :لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ[ الممتحنة : 1 ].

وفي آية أخرى قال :يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ( 57 ) [ المائدة : 57 ] .

ثم اعلم : أن مشاهدة عكس جمال الشاهد المشهود ، المحب المحبوب ، المنطبع في المرآة المعبر عنها باللطيفة الإنسانية يكون صورته نورية وذوقية خالصة غير مشوبة بالمعنى ، والنور ، والصورة ، ولا يمكن الخلاص عن الغلط الواقع في كل واحد منهما ، بداية ، ووسطا ، ونهاية ؛ إلّا بالتمسك بما في سورة الإخلاص من وجوب وجود اللّه تعالى ووحدانيته ونزاهته عن جميع ما يكون خاصة الممكن إجمالا وتفصيلا .

ثم اعلم : أنه ليس لهذا الذوق نهاية ، لأن تجليات الحق المتعال غير متناهية ، وبكل تجلّ تزيد سعة المرآة وصفاؤها ، وبقدر السعة والصفاء يزداد حسن عكس جمال الشاهد المنطبع فيها ، وبقدر زيادة الحسن تزداد قوة إدراك المرآة وذوق حسن عكس الجمال أبد الآباد .

ثم اعلم : أن اللطيفة القلبية المكنّى عنها بذات الصدور عبارة عن قابلية حاصلة عن اجتماع العناصر في هيئة معتدلة تامّة مستفيضة من الأجرام اللطيفة الفلكية ،

ونيّراتها مستعدة لقبول فيض الكرسي ، المعبّر عنه بالفلك الأطلس الساذج ، عن نقوش الكواكب المعروض عليه ، التي كانت نقوشها محسوسة بالرصد ، مقسومة على السماء الدنيا ، المزينة بزينة الكواكب ، الثابتة .

المنوطة بها صلاح الدنيا وفسادها ، وسعادة أهلها ونحوسهم ، وبذلك سمّي بالسماء الدنيا لدنوّها منّا المشرفة بشرف الاستواء المعدّى بإلى بعد الفتق لتسوية السماوات السبع ، وتدبر كل أمر سماء منها مخصوصة بكوكب سيار من الكواكب السبعة المسماة بالجوار الكنّس وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ[ يس : 40 ] .

المحرك للأفلاك الثمانية بالجبر من المشرق إلى المغرب على خلاف حركتها غالبا بلا واسطة الأفلاك والأنجم ، وفيض العرش المعبر عنه بالنفس الكلية التي هي جوهر غير مفارق ، وغير قابل للتأليف مغلوبا .

وبهذه اللطيفة القابلية القلبية يمتاز الإنسان من الحيوان لأنها تبقى بعد خراب البدن المحلول المشاهد الذي به يشارك الحيوان في قبول الفيوض الفائضة من الأجرام اللطيفة الفلكية ، ونيّراتها .

واللطيفة النفسية : عبارة عن قابلية حاصلة من فيض الكرسي والعرش مستعدة لقبول فيض العرش غالبا واللوح مغلوبا بلا واسطة الكرسي .

واللطيفة القلبية : عبارة عن قابلية حاصلة من فيض العرش واللوح مستعدة لقبول فيض اللوح غالبا والمداد مغلوبا بلا واسطة العرش .

واللطيفة السّرّية : عبارة عن قابلية حاصلة من فيض اللوح والمداد مستعدة لقبول المداد غالبا ، والدواة مغلوبا بلا واسطة اللوح .

واللطيفة الروحية : عبارة عن قابلية حاصلة من فيض المداد والدواة مستعدة لقبول فيض الدواة غالبا والقلم مغلوبا بلا واسطة .

واللطيفة الخفية ، ( بالخاء المعجمة والفاء ) : عبارة عن قابلية حاصلة من فيض الدواة والقلم مستعدة لقبول فيض القلم غالبا ، وفيض تجلي اللّه بالصفة الواحدية ليعرف مغلوبا بلا واسطة العرش والدواة .

واللطيفة الحقيّة ، ( بالحاء المعرّاة والقاف ) : عبارة عن قابلية حاصلة من العلم وفيض تجلّي اللّه بالصفة الموجدية المغلوب مستعدة لقبول فيض تجليه بالصفة الواحدية غالبا ، والواحدية مغلوبا في البداية .

وفيض تجلي الصفة الأحدية غالبا ، والذاتي مغلوبا في الوسط .

ولقبول الفيوض كلها من حيث الاعتدال التام غير غالب ولا مغلوب . كما أن البدن المحلول الذي هيّأه اللّه تعالى في هيئة معتدلة تامة ، ليكون مشيمة لجنين البدن المكتسب في مضيق بطن معالم الكون والفساد حق خاتم التراكيب الذي هو الإنسان .

والبدن المكتسب : عبارة عن اجتماع الأمريات المتفرقات في العنصريات المستكنة فيها حين اجتماعها في هيئة معتدلة حين جذبها فيض النفس المدبر لها لعلة المجانسة إليه لتكون متشبهة متثبتة .

والباء في غير المنفصل عنه في البرزخ والحشر ، والجنة والجحيم أبد الآباد ، وغلافا للمرآة المعبر عنها باللطيفة الإنسانية ، ولولاه ما أمكن الإشارة إلى أحد أنّه زيد وبكر ، شقي أو سعيد ، وكما أن الامتياز بين زيد وبكر في عالم الشهادة بالبدن المحلول للإنسان الذي هيّأه اللّه في أحسن هيأة معتدلة ، وخلقه في أحسن تقويم ، وفي أحسن صورة ، ففي عالم الغيب بالبدن المكتسب .

فإذا فهمت هذه الأسرار ما هممت في طرق بيانها ، كن موقنا مطمئنا على ما في سورة الإخلاص من الإلهيات وعلى صدق ما أخبر به الأنبياء عليهم السلام من المغيبات وعلى ختم النبوة على النبي الأمّيّ محمد العربي صلى اللّه عليه وسلم لتكون من المخلصين الذين لا يقدر الشيطان على إغوائهم كما أخبر عنه نص التنزيل .فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( 82 ) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( 83 )[ ص : 82 ، 83 ] .

وصلى اللّه على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين  .

وصل وتنبيه لمن له لبّ نبيه

اعلم :

أن هذه العلوم ليست مما تدرك بالعلل والمنى ، ولا وصلها الرجال بالهوينا والقصور ، بل جدّوا واجتهدوا ولم يفتروا نهارا ، ولا ناموا ليلا ، ولا سحبوا ذيلا .

آذانهم مصمتة ، وألسنتهم صامتة ، واعتزال دائم ، وفكر حاضر ملازم ، رداؤهم الحياء والسكينة ، والوقار مئزرهم في حضرة الأسرار ، هذه حالتهم آناء الليل وأطراف النهار .

ولا سبيل أن يقف على هذه الإشارات إلّا أربابها . وهي أمانة بيدك ، يا من حصلت بيده . فإن كان من أهلها حصل له مراده ، وإن كان من غير أهلها فليبحث عن أربابها وأهلها ، واللّه تعالى يقول :إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها[ النساء : 58 ] .

وكل شيء لم تفهمه ، ولم يبلغ به علمك ، ولم يتصرف فيه عقلك ، فهو أمانة بيدك ، واللّه تعالى يكرمك بنور البصائر ، ويصلح السرائر ، ويصفّي الضمائر ، ويلحق الإماء بالحرائر ، إنه الملئ بذلك والقادر عليه .

فصل قال السالك أشّهدني الحق الأنهار وقال لي تأمّل وقوعها

قال السالك :

أشّهدني الحق الأنهار ، وقال لي : تأمّل وقوعها .

فرأيتها تقع في أربعة أبحر .

الواحد : يرمى في بحر الأرواح .

والثاني يرمى في بحر الخطاب .

والنهر الثالث : يرمى في بحر الشكر .

والنهر الرابع : يرمى في بحر الحب .

ويتفرع من هذه الأنهر الأربعة أربعة .

ويتفجر من ذلك البحر المحيط ثم يرجع إليه بعد الامتزاج بهذه الأبحر الأربعة .

فقال لي :

هذا البحر المحيط . . يجري ، لكن ادعت السواحل أنها لها ، فمن رأى البحر المحيط قبل الأبحر والأنهار ثم الأبحر فذلك صدّيق .

ومن شاهده دفعة واحدة فذلك شهيد .

كما أن من شاهد الأنهار ، ثم الأبحر ، فذلكم صاحب دليل .

ومن شاهد الأبحر ، ثم الأنهار ، ثم البحر ، فذلك صاحب آفات ، لكنه ناج .

ثم قال :

من كان من أهل عنايتي أنشأت له مركبا ، فجرى به في الأنهار ، فإذا رمت به في الأبحر جرى فيها حتى ينتهي إلى البحر المحيط .

فإذا انتهى إليه علم الحقائق ، وكشف الأسرار ، وإلى هذا البحر ينتهي المقربون .

ثم قال :

فالمؤمن به صدّقه وانصرف ، والعالم قام له البرهان فأقرّ بصدقه واعترف ، والجاهل نظر فيه وانحرف ، والشاكّ تحيّر وتوقف ، والظّان تخيّل وما عرف ، والناظر يطلع ويتشوف ، والمقلد مع كل صنف تعرّف .

فصل قال السالك فلقيت بالجدول المعين  

قال السالك :

فلقيت بالجدول المعين ، وينبوع أرين فتى روحاني الذات ، وربّانيّ الصفات ، فقلت : أين تريد ؟

قال :

أرسلت إلى المشرقين ، إلى مطلع النيّرين ، إلى موضع القدمين ثم أنشدني وحيّرني :

فلا تنظر بطرفك نحو جسمي   ....   وعدّ عن التّنعّم بالمغاني

وغص في بحر ذات الذّات تبصر   ....   عجائب ما تبدّت للعيان

وأسرار تراءت مبهمات   ....   مستّرة بأرواح المعاني

فمن فهم الإشارة فليصنها   ....   وإلّا سوف يقتل بالسّنان

ثم قال :

لا يعرف كلامي إلّا من رقى مقامي .

قلت : أين تريد ؟

 قال : أريد مدينة الرسول في طلب المقام الأزهر ، والكبريت الأحمر .

فقال لي : يا طالب مثلي أما سمعت قولي :

يا طالبا لطريق السّرّ تقصده   ....   ارجع وراك ففيك السّرّ والسّكن

ثم قال :

بينك وبين المطلوب أيّها السّر اللطيف ثلاثة حجب من لطيف وكثيف .

الحجاب الأول : مكلل بالياقوت الأحمر ، وهو الأول عند أهل التحقيق .

والآخر : مكلل بالياقوت الأصفر ، وهو الثاني الذي عليه أهل التفريق .

والثالث : مكلل بالياقوت الأكهب، وهو الثالث الذي اعتمد عليه أهل البرازخ في الطريق.

فاصحب الرفاق ، وجب الآفاق ، واعمل الركاب ، واقطع البيان ، وامتط اليعملات ، ومز نشاط الذاريات ، واركب البحار ، واخترق الحجب والأستار ، في هذا السر الشريف .

واعلم :

أن الاسم يدل على المسمى ، والكل فيك فاقنع بما يكفيك ، وامسك عما لا يعنيك .

ثم أنشد بعدما أرشد :

فانظر إلى الحكمة مجهولة   ....   غطّى عليها شفعنا السّاتر

وأظهر الحكمة منثورة   ....   العالم الثّابت ، والدّاثر

صلّى عليه اللّه من واحد   ....   نور على أرواحنا باهر

ما طلع البدر وشمس الضّحى   ....   وانتظم الأوّل والآخر

فصل قال السالك فبينما أنا نائم وسر وجودي متهجد قائم

قال السالك :

فبينما أنا نائم ، وسر وجودي متهجد قائم ، جاءني رسول التوفيق ، يهديني سواء الطريق ، ومعه براق الإخلاص عليه لبد الفوز ولجام الخلاص ، فكشف عن سقف محلى ثم زج بي من صفاة الصفا في الهوا فسقط عن منكبي رداء الهوى ، وأوتيت بالخمر واللبن .

فشربت اللبن ميراث تمام تمكين ، وتركت الخمر حذار أن أكشف السر بالسكر فيضل من يقفو أثري . ولو أوتيت بالماء بدلها لشربت الماء .

فإن خلاصة التمكين في قوله تعالى :وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ( 107 ) [ الأنبياء : 107 ] .

وأمّا لو كان الشراب عسلا ، ما اتخذ أحد الشريعة قبلا ، لسرّ خفي في النحل ، فيه هلاك القلوب بالمحل .

قال السالك :

فارتفعت الهمة لطلبه ، وبادرت لاختراق حجب هوَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [ النور : 26 ] ، إليكموها ساعدكم السعد صفقة رابحة ، وحالة مباركة صالحة .

فرؤياه جلّا ، وفقده عمّا ، ثم قام عجلا ،

وأنشد مرتجلا :

غرست لكم غصن الأمانة يانعا   ....   وإنّي لجّاني بعده ثمر الغرس

تولّعت بالتّبليغ لمّا تبيّنت   ....   أمور تعرقيتي عن الإنس والأنس

ورحت وقد أبدت بروقي وميضها   ....   وجزت بحار الغيب في مركب الحسّ

ونمت وما نامت جفوني غديّة   ....   وتهت بلا تيه على الجنّ والإنس

فيا نفس هذا الحقّ لاح وجوده   ....   فإيّاك والإنكار يا نفس يا نفس

يالعزم العزم ، وأسأل اللّه العون ، ما دمت مدبر الكون ، فطال واللّه ما أنهكتني المشقة ، وقطع بي بعد الشقة ، وهذه وصيتي .

فاعلم دللتك بها على الطريق الأرفق فالزم ، والسر الذي في زمزم هو لما شرب له فالزم .

قال السالك :

كان ما كان فهو مصروف إليكم ، وإنما هي أعمالكم ترد عليكم ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا .فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ( 7 ) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ( 8 )[ الزلزلة : 7 ، 8 ] .

ثم قال : هيهات أين الكرم من الإيثار ؟

الكرم سيادة ، والإيثار عبادة . الكرم مع الرئاسة ، والإيثار مع الخصاصة .

ثم قال : يا بني اقصد باب مولاك إلى ما إليه ناداك محبك ومولاك .

قال : يا سيدي هل تعرف لهذا الباب مفتاحا .

قال : أي والعليم الفتاح .

رأيت البيت مقفولا   ....   لسر السر قد ملكا

سألت اللّه يفتحه * فقال : بمن ؟ فقلت بك

قالت : ناولنيه .

قال : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.

قلت له : قد عرفت حقيقة مكانه ، فزدني في نعته وبيانه .

قال : له أربعة أسنان ، أتقنها الحكيم الرحمن .

فيها أربع حركات تحوي جميع البركات .

فإذا فعلت ما ذكرته لك وأحكمته فزت بالمفتاح وملكته . فالق أيها الطالب بالك ، أصلح اللّه حالك .

حافظ على العلوم اللدنية والأسرار الإلهية ، وإياك وإفشاء سر الربوبية . أجل القلوب ، وجاهد النفوس ، اجمع بين الظاهر والباطن ، يتضح لك الراحل والقاطن وتأمل السرّين في مجمع البحرين ، ولأي فائدة اتخذ البحر مسلكا على سائر المسالك .فصل في إشاراتهم

ولمّا سئلت عن غاية لا تدرك ، وصفة لا يحاط بها علما ولا تملك ، تعيّن عليّ أن ألوّح لك منها على مقدار فهمك ، وأوقفك من شأنه على ما قدّر أن يكون لك منها ، وقف للناس موضع القدمين ، وخذ من العلم حرف العين ، اخرق السفينة تلج المدينة ، اجعل في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [ هود : 40 ] ولا تعرّج على من قال "سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ"[ هود : 43 ] .

هما سفينتان لهما في الوجود معنيان ،

الواحدة : سلامتها من الفتق .

والأخرى : نجاتها من الرتق .

لا تدفع الخاتم إلى أحد ، ولا تأمن عليه أمّا ولا ولد ، انشر البساط ، واترك الناس في هياط ومياط ، اطو البساط ، واعدل إلى الانقباض ، من الانبساط ، لا تهز الجزع في كل وقت فإنه مقت ، لا يغلب على مقلك النوم فتنفش غنمك في حرث القوم ، لا تكن جبّارا فيخدعك الطريق ، حتى يصيّرك ضجيج الغريق فاجهد في سلوكك هذه المقامات .

واعلم :

أن من أراد المقامات سلّم الأمور إليه ؛ فسلّم الأمور إليه ، وتوكل في سلوكك عليه . فطلبت منه الحقيقة فقيل لي : حتى تفنى عن الطريقة .

إشارة : إيّاك أعني فاسمعي يا جارة .

إشارة : إذا حضر الحبيب والرقيب فخاطب الرقيب بلسان الحبيب ليسمعك الحبيب وتفهم لسانه فتأمن غوائل الرقباء .

إشارة : الحكم مودعة في الهياكل .

إشارة : الحكمة اليمانية لطيفة . من يضع شكلا فليضعه مستديرا ، فإنه لا بدّ من الرياح تزعجه فيتدحرج ولا ينكسر . فالشكل الكروي أبقى .

إشارة : إنما عملك مردود عليك ، فاجن ما غرست .

إشارة : انظرني في الشمس ، واطلبني في القمر ، واهجرني [ في ] النجوم .

ثم قال : لتكن طير عيسى اطلبني في العيس .

ثم قال لي : إذا رأيت البقر ، والخيل ، والحمير ، فاركب البغال ، واستند إلى الجدار .

ثم قال لي : إذا كنت النمط الأوسط فسافر ، ثم إذا ركبت البغل فلا تنظر من أي طرق أنت فتهلك .

لطيفة : إذا دعيت الأسرار بلسان الأمر . . .

إذا دعيت الأسرار بلسان الأمر ، أدبرت للعزة التي عليها وإذا دعيت بلسان اللطف أقبلت فقيرة .

إشارة : فإن فلك الزمهرير أكبر من فلك البحر المستدير .

ثم قال : شغلتنا ملاحظة الأغيار عن مباشرة هذه الأسرار .

تنبيه : قال : إنّا نظمنا لك الدرر والجواهر في السلك الواحد . . .

قال : إنّا نظمنا لك الدرر والجواهر في السلك الواحد ، وأبرزنا القول في حضرة الفرق المتباعد ، فلهذا ترى الواقف عليه ، يكاد لا يعثر على سر النسبة التي أودعتها لديه ، إنما هي رموز وأسرار ، لا تلحقها الخواطر والأفكار ، إن هي إلّا مواهب من الجبار ، جلّت أن تنال إلّا ذوقا ، ولا تصل إلّا لمن هام بها عشقا وشوقا .

ثم قال : لم ضرب له الميقات ؟ قال : ليعلم أنه تحت رق الأوقات .

قال : لم جاء العدد بالليل ولم يجئ بالنهار ؟

قلت : لاحتجابك تحت الأبصار .

قال : لم طلب رؤية الأحباء مع ثبوت الإيمان ؟

قلت : ليجمع بين العلم والعيان .

وفي مثل هذا قيل :

ألا فاسقني خمرا ، وقل لي هي الخمر   ....   ولا تسقني سرّا إذا أمكن الجهر

وبح باسم من تهوى ودعني من الكنى   ....   فلا خير في اللّذّات من دونها ستر

قال : لم دللناه على أربعة من الطير ؟

قلت : إشارة إلى العناصر لا غير .

قال : فلم كان الوحي في المنام ؟

قلت : لئلا يكون للحسّ بساحته إلمام .

إشارة : لا تأخذ من اللبن سوى زبدة المحض ، وعليك بروح الأشياء .

ولا تأخذ من العسل سوى ما ادخره النحل لنفسه .

ولا تشرب من خمر العلوم إلّا السلافة التي لم تعصرها الأرجل .

ولا تشرب من المياه إلّا المعصر ، فإن ماء التقطير فيه مزيد علم .

تنبيه : إذا ضرب القفل على الصندوق امتنع المال من المصارفة . . .

إذا ضرب القفل على الصندوق امتنع المال من المصارفة ، وحياته فيها لأنه خلق بها . وهو مجبول على الحركة ، وتداول الأيدي .

والدليل على ذلك : الق سمعك إلى التابوت المقفل تسمع المال يتحرك في جوانب التابوت ، فإذا استطعت أن تفتح القفل فلا تكسره فإنك محتاج إلى ادّخاره وقتا ما .

القفل لسانك فافهم !

فصل هذا باب يدق وصفه ويمنع كشفه هى

هذا باب يدق وصفه ، ويمنع كشفه ، هي أسطار نور خضر خلف حجاب البيان ، يلوح لمن سبقت له المشيئة بوقوفه عليها حتى تودعه ما لديها . فاستعمل المجاهدة عساك تلتذ بالمشاهدة .

و قال عليه الصلاة والسلام في سر التثليث : « لن تهلك أمّة أنا أولها ، وعيسى آخرها ، والمهدي وسطها » أورده المناوي في فيض القدير

فانخفض الطرفان والوسط ، وانتظم الملك وارتبط .

فأتى بثلاثة على حكم نشأة وتقابل الهيئة ، وإن كل إنسان لا بد له من إحدى الدارين لا محالة فنقول في سرّائها : الحمد للّه المنعم المتفضل .

ونقول في ضرّائها : الحمد للّه على كل حال .

فصل ثم نظرت بطرفي نحو السماء فرأيتها مزيّنة بالنجوم  

ثم نظرت بطرفي نحو السماء فرأيتها مزيّنة بالنجوم ، فمنها اهتداء ومنها رجوم ، ورأيت مقامات الخلفاء ، ومصابيح الظلماء ، فوجدتها ثمانية وعشرين ، وحضراتهم اثنتي عشرة لتتم الأربعين .

فقيل لي : هذه منازل السالكين ، وينابيع الحكم المخلصين .

قال : فلما سمعت أنّه أسر من الكتاب أماني ، خفت أن يقطعني عن إلمامي ، فنهضت من تلك الظلمة المدلهمة ، وتركت بها براق الهمة ، ورفعت عن أسرة اللطائف ، ومتكآت الرفارف إلى أن وصلنا مقام المماثل فيه تماثل السراج .

قال : هذا حظك من كوني ، فأين حظك [ من ] عيني .

فقلت : أيها المشير : المناسبة تكون بالنظير الملازم ، ويكون بالذات واللازم .

فقال المشير : أريد مناسبة النظير .

فقلت : في رسمي رسمك، وفي نعتي نعتك ، والإجمال أحسن من التفصيل في هذا القبيل.

ثم كشف لي عن شجرة البستان الكلية ؛ الموصوفة بالمثلية .

فنظرت إلى شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وثمرها بيد آلات الاستواء ، وبين أغصانها الغراب والغربة والعنقاء ، وفي ذرى أفنانها العقاب ، والمطوّقة الورقاء . فسلمت على الشجرة فحيّت أحسن مني

وقالت :

اسمع أيها السالك في المسالك أنا الشجرة الكلية الجامعة المثلية ذات الأصول الراسخة والفروع الشامخة ، غرستني يد الأحد في بستان الأبد مستورة عن تصاريف الأمد ، فأنا ذات روح وجسد ، وثمري مقطوف دون يد حملت من ثمر العلوم والمعارف ، ما لا تستقل بحمله العقول السليمة وأسرار اللطائف ،

ورقي فرش مرفوعة ، وفاكهتي غير مقطوعة ولا ممنوعة ، وسطي هو المقصود ، وفروعي في هبوط وصعود ،

ونشأتي كالفلك في الاستدارة ، وفروعي منازل الأرواح الطيارة ، زهري كالكواكب السيارة تتكون المعادن عن سيرانها ،

أنا شجرة النور والكلام ، وقرة عين موسى عليه السلام ، لي من الجهات اليمين الأنفس ، ومن الأمكنة الوادي المقدس ،

ولي من الزمان الآن ، ومن المساكن خط الاستواء ، واعتدال الزمان في الدوام والبقاء ، والسعادة دون الشقاء ، جنتي دان وفني عني كأنه نشوان ، له لطافة وجنان ، على جميع الحيوان .

لم تزل أفناني للأرواح اللوحية ، كنار داود فيّ ، لها تأثيرات الشعاعات اليومية ، ساترا ظلّي وممدود لأهل العناية ، وجناحي منشور على أهل الولاية ، تهب على الأرواح باختلاف تصاريفها ، فتخرج أغصاني عن ترتيب تأليفها ، فتسمع لذلك التداخل نغمات توله العقول العلوية على سمو أوجها ، فنّها يسقي الحكمة ، ويزيل الهموم بحسن إيقاع النغمة ، فأنا الظلّ الممدود ، والطلح المنضود ،

والمعنى المقصود :

كلمة الجود . فأوجدني من أوجدك عند التقابل ، وأظهرني من أظهرك على التماثل .

فأنا من قوتك صادرة ، وبصورتك ظاهرة ،

وأودعني حقيقتين :

- حقيقة أعرف بها .

- وحقيقة أكون ما شئت بسببها .

ورقيقة مني إليك ، تنزلني إذا اشتهيتك عليك ، وبها حضرت بين يديك . فلما سمع أن بيني وبينه رقيقة ممتدة ، وهو قد تحقق بحقائق المودة ، ووقع النكاح المعنوي ، واجتمع الماءان ، في الرحم الآن فهو يتردد بين شوقين ، يغرب في غربين ويشرق في شرقين . فوجدت في ذاتي امتلاء لم أكن أعرفه قبل ذلك .

وسدّت المجاري والمسالك ، فحركت الرقيقة الإلهية فأجابني .

 فقلت : يا إلهي ما هذا الذي أصابني ؟

فقال : تنفس بذكري لتظهر عنك كلمة أمري .

إشارة :  

ثم قالت الشجرة : أنا الحقيقة اللامعة لما عندي من السعة والمطاوعة ، تلبس بكل حالية لبوسها .

أمّا نعيمها وأمّا بؤسها ، ولكنني وهب إلىّ أن أهب العلوم ولست بعالمة ، وأمسخ الأحكام ولست بحاكمة ،

لا يظهر شيء لم أكن فيه ولا يحصل له طالب مدرك ولا يستوفيه .

فبهذا القدر عظمت في أعين المحققين .

فها أنا قد أنبأت عن حالي ، وأظهرت صدقي عن مجالي .

فصل خطبة الغراب الحالك

فقام الغراب فقال :

أنا هيكل الأنوار ، وحامل الأسرار ، ومحل الكيف والكم ، وسبب الفرح والغم ، أنا الرئيس المرؤوس ، ولي الحس والمحسوس بي ظهرت الرسوم ، ومني قام عالم الجسوم ، أنا أصل الأشكال وبمراتب صورتي تضرب الأمثال .

فأنا المصباح في الرياح ، أنا السلسلة على صنوان والجناح ، أنا البحر الذي يصفق موجه ، أنا الفرد المعدود وزوجه ، عرضي دار كرامة لأوليائه ، وعمقي دار إهانة لأعدائه .

وأنا بوطيقى الحكم ، وموسيقى النغم ، وجامع حقائق الكلم إلى المنتهى ، وعليّ عوّل أولو النّهى ، وأنا أمني ما أمنح من النهي ، أنا الغاية وليست لي غاية ، من أجلي أخذ من أخذ ، وبسببي ندب من ندب ، أنا المطوقة باليمين أنا في قبضة الحق المبين ، دعاني الحق إلى حضرته فأتيت ، وناداني إلى معرفته فلبّيت ،

أنا صورة الفلك ، ومحل الملك على أصح الاستواء ، وعنّي كنى بالمستوى ، أنا اللاحق الذي لا يلحق كما أن العقاب السابق الذي لا يسبق . هو الأول وأنا الآخر ، وله الباطن ولي الظاهر ، قسم الوجود بيني وبينه ،

أنا أظهرت عزّه ، وكونه توقف على حكمه ، سرّى فيه علمي ، وسرّى في علمه إذا دفعته ، وأوهبه مالي ليفيده ، وإذا أفدته شكرني لأزيده ، وقامت طائفة ممّن تدّعي العقل الرصين على زعمها ، وقضت على شيمتهم بحكمها .

فناظرتني قبيح الهجاء ، وخلعوا عني خلعة حسن الثناء ، فجاز عليهم وبال ما كانوا يعملون ، وحاق

بهم ما كانوا به يستهزئون . كأني بهم في غمرة يستصرخون فيجابون :اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ[ المؤمنون : 108 ] .

وإذا كان في عرض أهل الثناء الحسن ، في حظي فاكهون هم وأزواجهم في روضة يحبرون ، وقد أثنى عليّ الشرع فلا أبالي .

أنا السّرّ المستوي   ....   خلقت بلا بنان

وأنا الّذي توارى   ....   جسمه عن العيان

فالّذي يرى وجودي   ....   لتصاريف الزّمان

علمه أكمل علم   ....   شأنه أعظم شأن

هام بي لمّا رآني   ....   في مقاصير الجنان

لا أسمّيه فإنّي   ....   خائف حد السّنان .

فهذا يا كعبة الحسن قد أوضحت لك مقامات أمّهات الأكوان .

فصل ولما دعتني دواعي الاشتياق إلى ما أودع اللّه من الأسرار

ولما دعتني دواعي الاشتياق إلى ما أودع اللّه من الأسرار في هذه الطباق

قال : مرحبا بهذا الابن السعيد ، والطالب المستفيد .

يا أيها الابن ما الذي أوصلك إلينا ، وما السبب الذي أنزلك علينا ، فخدمت بساطه ، واستغنمت انبساطه ، أدام اللّه أيام الوالد المقدم المعظم ، وعدل قسطاسه وأبرم ، أمّ رأسه ، وحرّر أنفاسه ،

لما عرف العبد أنك صاحب العلمين والصورتين ، وحامل سرّ الإنيتين أراد أن يقف عليها منك مواجهة ، وأن يسمعها بحضرتك مشافهة .

فقال : همة شريفة ، وداعية سلطانية منيفة ، ثم دعا بترجمانه ، صاحب لسانه ،

وقال له : اصعد إلى منبر استوائنا ، واذكر بعض ما عندنا ، وعند حاجبنا من سرائر معلوم الكونين والصورتين .

فصعد الخطيب وتكلم ، وقال بعد أن بسمل وصلى ثم سلّم :

الحمد للّه الذي جمع لآدم عبده ، وخليفته ، ورسوله ، بين يدي ، وحباه بصورتيه ومنحه سورتيه ، وأودعه سريرتيه ، وحصل فيه قبضتيه ، وهداه نجوتيه ، وأنجب له سبيله وخاطبه بكلمتيه ، وأمره على ملائه ،

واستلخفه على كونيه ، واصطفاه برسالتيه ، واختصه بخلافتيه ، وكرّمه بمشاهدتيه ، وخصّه بجنتيه ، ووهبه معرفتيه ، وأنزله بين علميه ، وأشهده مركزه وقاب قوسيه ، وأسكنه في البرزخ متن كتابيه ، لإظهار صفتيه .

فقام عظيم الشأن سلطانا على الأعيان ، واستوزر له الزبرقان ، الذي هو نظير الرؤية في الإنسان ، فيعلو وينمو فيفضل ، ويدنو فيخل فيزيل . فوزيره مثله ، وعلى صورته .

وصورته له وجهان ، وطريقان ، وسيران ، وتجليان ، ومحقان ، وإدباران وإدبار ومحق في كل أوان ، عند العالمين بما في الصفة العلوية من الإحكام والترتيب والإتقان ، واعتدال الأوزان .

وله محق واحد ، وإدبار واحد عند العامة ، فله الضّدّان ، وسرعة التأثير في الأكوان ، وهو شبيه بالإنسان من جميع الوجوه ؛ القباح والحسان ، وله التقابلان .

وإليه ينظر الثقلان ، وفيه سرّان ، وبدايتان وغايتان ، ونقصانان وكمالان ، وسرّان وأمران ، وتأثيران ، وحكمان ، وله يدان ، ورجلان ، وعينان ، وأذنان ، وثديان ، وعلوان وسفلان ، ويمينان وشمالان ،

وفوقان وتحتان ، وخلفان وأمامان ، وحاجبان وقلبان ، ولسانان ، ومعرفتان ، وأثيران ، وعرشان ، وكرسيان ، وروحان ، وتبييضان وتحميران ، وتسويدان ، وتكليسان ، وحياتان وموتان ، واعتدالان وانحرافان ، وعقدتان .

وفيه من كل شيء اثنان ، فسبحان من فطره وفطر الخليفة آدم على هذا الإتقان ، مولى الامتنان ، والصلاة والسلام على الحقيقة المحمدية صاحب الإمامة المطلقة ، والخلافة المحققة ، ما اتصلت الأرواح بالأرواح ، والأبدان بالأبدان .

ثم نزل وتكلم الأب فقال :

اعلم يا بني شرح اللّه صدرك ، ورفع في ذروة التوحيد قدرك :

أن اللّه تعالى لمّا كان على الحقيقتين ، وأبان عنهما بالقبضتين في الموطنين ، وأنبأ عنهما في عالم العبارات بالحرفين ، وجعلهما على السوا في الفطرتين ، والنعيمين والعذابين ، والطاعتين والمعصيين ، باعتدال الكفين ،

وجعل الآخرة ذات دارين ليحط بالعالمين ، وفيها يقع الميز بين الفريقين ، كما وقع في أوان القبضتين قبل أخذ الميثاقين ، وجعل الدنيا برزخين .

وأظهر الكافر في صورة المؤمن والمؤمن في صورة الكافر لذي عينين ، وجعلهما محل تمحيص وبلوى للطائفتين ، فوجّه إليهم على لسان واحد منهم حكمين ، فأمر ونهى لتميز الكلمتين .

ثم قلت : يا بني أنت جامع القبضتين ، وصاحب الحكمتين ، وحامل الصورتين ، فأخبرني عن السر الذي يرد المعادن إلى معدنين ، وأوقفني على الكنزين الأبيضين ، والأحمرين ، وعن سر كل وصفين . كالجلال والجمال ، والانفصال والاتصال ،

والتركيب والتحليل ، والتجميل والتفصيل ، والفناء والبقاء ، والإثبات والمحو ، والسكر والصحو ، والرب والعبد ، والحرّ والبرد . وما أشبه ذلك .

فإمّا أن تخبرني بحقيقة تجمع لي هذه المعاني وإمّا بتفصيل هذه المباني .

فقال : أمّا بالتفصيل فيطول ، وإيضاح الحقيقة الجامعة أولى بالوقت

فأقول :

إن الأشياء المنفعلة إنما تبعث من فاعلها على حقيقة وجوده في الأعيان ، ولهذا لم يبق أبدع من هذا العالم في الإمكان ، وأبين ما يكون ذلك في الإنسان ، أذله الجود المطلق ، والفيض المحقق ، فإن تفطنت فقد أبنت لك عن درج التحقيق ، وألفيتك عن الطريق ، فأدرج عليه حتى تعاين أسرار التفصيل لديه .

وأمّا بحثك عن الكنزين ، والأمر الذي يردّ المعادن إلى معدنين

فاعلم أن هذا الأمر على مرتبتين :

المرتبة الواحدة : في المشاهدة تسمى خرق العوائد ، وهي تصريف المحسوس على حكم همم النفوس ، وهي مختصّة بأرباب الهمم ومعادن الحكم ، وقوتهم تسري في الأرواح بقلب صفات أعيان الأشباح . فهذه صناعة علمية وصورة حكمية لأنها روحانية موادّها سماوية ، إكسيرها مقرون بسعادة الأبد ، وفعله مشاهدة الأحد ، يتصرف في العقل تصرف الأفعال بالأسماء .

وأمّا المرتبة الأخرى :

فهي صناعة علمية ، موقوفة على عناية أزلية تورث الجنان ومجاورة الرحمن ، ولهذا قال في الكتاب المبين :نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [ الزمر : 74 ] . لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ[ الصافات : 61 ] .

وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [ المطففين : 26 ] .

فمن أراد أن يقف عليها ، ويصل إليها ، فإنها الكنز الذي لا يهدم جداره ، والزند الذي لا يظهر أواره .

هي حكمة لا يودعها اللّه تعالى إلّا للأمناء من عباده ، المتأهلين لحضرة إشهاده ، فإذا أراد إنما يستعمل الفكر المحرق ، لما قام به من الشوق المعلق ، فأنتج له أن هذا الأمر موقوف على معرفة الحكمة وإنها موضوعة بين النور والظلمة ، موقوفة على المعدن والنبات محكوم عليها لعدد شهود الزمان ، ولكن قصر به الفكر عن تعيين ذاته ، وعن الإدراك لجميع صفاته .

فصل ومن ذلك قال : فلمّا قام بنفس الملك خاطر السعادة

ومن ذلك قال :

فلمّا قام بنفس الملك خاطر السعادة ، والتوجه إلى طريق الاستفادة ، والبحث عن الأمر الذي به دوام الملك فقام بعض حكمائه ، وأخصّاء علمائه

وقال :

أيها الملك مطلبك في قدرتي ، وحاجتك تحت قوّتي ، ولكن قد لا تعرف قدرها فيحرمك اللّه خيرها .

فأنا أنبهك أولا عن كيفية إيجادها ، وحسن إسعادها ، بأنها من اللّه بمكان ، وكأنها شاركت القدرة في إيجاد الأعيان ، فهي حكمة علوية ، مدرجة في صناعة علمية ، لتعلم أيها الملك أن اللّه هو الحكيم الخبير ، وأنه على كل شيء قدير ، وأنه قبل كل شيء ، وأنه أوجد الأشياء لا من شيء ، ولكن مع اتصافه بهذه القدرة المحققة ، النافذة المطلقة ، لم يوجد لهذي المعادن ابتداء ، حتى خلق الأفلاك ، العلوية والروحانية السماوية ، واللمحات الأفقية ، وأودع كل فلك روحانية كوكبية تحتوي على خاصية بها ، وعند وجودها خلق الأرض والسماء والهواء والأثير .

ثم أوجد فيها منها دائرة الزمهرير ، ثم أجرى الشمس والقمر ، والنجوم مسخرات بأمره ، وخصّ كل متكون من هذه الأجرام بسرّ من مكنون سرّه ، تظهر المعادن في أعيانها ، وتخلصت بكرور أزمانها .

فإذا كان اللّه مع قدرته ونفوذ إرادته ، وقوة علمه لم يوجد شيئا من المعادن إلا بعد خلق هذه الأدوات ، وأجرى هذه المسخرات . فكيف تطمع أنت أيها الملك أن تكون فعالا لهذه الحكمة مع عدم هذه الأدوات وتحصيل هذه الآلات .

فإن قدرتك قاصرة ، وصفقتك إن لم تحصّل هذه الآلات خاسرة ، وما فعل اللّه شيئا من هذه الأدوات ، وقدم هذه الآلات مع غنائه عنها إلّا لحكمة علمها من علمها ، وجهلها من جهلها .

قال الملك : فكيف السبيل إلى تحصيل هذه الأدوات ، وتركيب هذه المقامات .

فقال الحكيم : أيها الملك ألست ساكنا تحت خطّ الاستواء ، وإنّك من أهل السواء ؟

فقال الملك : نعم .

فقال الحكيم : من أراد أن يعلم أصل نشأة العالم، وترتيب هيئتي من خط الاستواء نعرّفه.

فقال الملك : كيف أصنع ؟

فإني لا أجد في نفسي قوة تصور هذه الأسباب والمقدمات ، وإيجاد هذه التأليفات والمركبات .

فقال الحكيم : إن اللّه تعالى قد منحني للقوة على نبأ ما يماثلها ، وإقامة ما يشاكلها ، ووهبني أسرار كيفياتها وكمياتها ولي أصحاب من الحكماء أهل الفطنة والذكاء أشدّ بهم أزري ، وأحكم بمشاورتهم أمري ، ليقضي غرضي المولى وتقوم له هذه الروحانية العلى .

فسرّ الملك بما قاله الحكيم ، وزال عنه ما كان أحاط به من الهموم .

فقال الحكيم : فاخترق مخاريق هذا الجبل العظيم ، ينظر فيه ؛ أين نقطة دائرة المركز الذي تقوم النشأة به ، وترتب عليه نظام الهيئة فرأى الرياح والنجورات التي تنحل من مسام ذلك الجبل تصير كالدائرة تتحرك في موضعها ، ولا تتعدى إلى غير مهيّئها ، فعمل الحيلة حتى روح ذاته فالتحق بالأطيار ، وسوّى جناحيه وطار ، واخترق معظم تلك الرياح محلقا في جوهرها ينزل بنزولها ويسمو بسموّها إلى أن انتهى إلى موضع لا يتعدى النازل فيه على الصاعد ولا الصاعد على النازل .

فقال الحكيم : اللّه أكبر . قام الملك ؛ وظهر .

فأراد بذلك المركز المعتدل أرضا ذات أشجار وبقول ، وأدار عليها الماء فدار ، وأدار عليها الهوى فصفق النسر بجناحيه وطار ، وأدار به دائرة الزمهرير وخلق به الفلك الأسير .

فلما أكمل هذه الأركان لإنشاء ما يريده من المعادن والنبات والحيوان ، لم ينفصل عنها ما أراد لأنها أشباح بلا أرواح وإناث بلا ذكور .

فاحتاج إلى إقامة النجوم الثابتة ، والبروج الحاكمة ، والكواكب السيّارة ، وحركة أفلاكها ، وفتح مسالك أملاكها فأقامها فكانت الآباد العلويات ، وهذه الأمهات السفليات فتناكح بالحقائق الروحانيات ، والرقائق السماويات ، فتولد بينهما أبناء الحكيم ؛ المعدنيات ، والنباتيات ، والحيوانيات ، ولم تبلغ قوة هذا الحكيم فوق هذا الحد ، ولكنه وفّى بالقصد .

فلما استوت هذه البنية على حسب ما أعطته الرؤية ، وحسن النيّة ، وجرت الأقلام ، وأعطت قواها الروحانيات ، وظهرت التكوينات والانفعالات ، وأشرف الملك الكريم ، على ما فعله الحكيم ، وعاين تكوين الحكمة في هذه الأجزاء ، وعرف أن الأمر لا يقوم إلّا بوجود الأرض والسماء ، فأعجبه ما رأى من حسن الرأي ، فأدركه الطيش والوله .

فخاف عليه الحكيم التأله فأعمل الحيلة والنظر حتى لاح له ما أراد ،

فظهر وشرع في إنشاء بستان ذي أفنان ، ففيه من كل وليد وقهرمان ، ومن الحور الحسان ، والنخيل والرمان ضروب وألوان ، ينساب فيها الجداول انسياب الشعابين بين تلك الأزهار والبساتين ، وأنشأ فيها قصورا من الذهب والفضة البيضاء ، وأسكنها من كل جارية غضاء ، وفرشها بالحرير من السندس والإستبرق والعبقري المرفود .

وجعل حصباءها الياقوت والمرجان ، والزمرد ، والجوهر وترابها المسك ، فثبت الملك . وآكامها العنبر .

ثم شرع في بناء دار أخرى ذات لهب وسعير ، وبرد وزمهرير ، وقيود وأغلال ، وسرابيل من قطران وأفاعي كأنها النحت ، وأساور عظيمة السحت ، وعقارب مكنونة من الشحت ، وبيوت مظلمة ومسالك ضيقة ، وكروب ، وغموم ، ومصائب ، وهموم .

ثم أشرف الملك على الدّارين فقال : انظر ما بين المنزلتين فرأى ما رآه ، وسأله ما السبب الذي دعاه ؟

فقال الحكيم : جعلت لك هذه الدار دار الرضا ، تنعم بها من أطاعك وأولاك ، وجعلت هذه الأخرى دار الغضب تعذب بها من عصاك وعاداك .

واعلم :

أن اللّه تعالى ما أسكنك في هذه الدّار إلّا لتجعلها دار اعتبار ، فتتفكر وتعتبر ، وتتذكر وتزدجر ، وتعظم من سوّاك وعدلك ، وصوّرك فجمّلك ، وأولاك وملكك وعلمك ، وإن كنت طائعا لربك عادلا لرعيتك فتصير إلى النعيم عند اللّه تعالى ، كما تصير أنت ومن أطاعك إلى هذا النعيم . وإن كنت عاصيا جائرا ، في حكمك ظالما ، فستصير إلى ضيق وعذاب أليم ، فخف ربك ودينك وأصلح مع اللّه قلبك ، وأنذر قومك ، وطهر ثوبك ، ولا يحجبك سلطان عادتك ، عن تحصيل أسباب سعادتك ، فإن الدنيا لمحة بارق ، وخيال طارق . كم ملك مثلك قد ملكها ، ثم رحل عنها وتركها ، ولا بد لك من الرحلة عنها إلى الأخرى . فإمّا أن يعمر درجها وإمّا أن يعمر دركها .

واعلم :

أن اللّه تعالى قد جعلك ملكا على خلقه ، وأقامك بين الحق والباطل في مقام حقّه ، لا لقصور قدرته عن صلاح الخلق وتدبيره ، وتصريفه في إظهار الملك وتسخيره ، وإنما ضرب لك بك مثالا في عالم الفناء ، لتستدل به على ترتيب الملك الإلهي في دار البقاء ، ولهذا جعل في هذه الدنيا ظلا زائلا ، وغرضا مائلا ، وجعلك عنها راحلا ، فهي جسر منصوب على بحر الهلاك ، قد أبادت من القرون الماضية ،

والأمم الخالية ، والجبابرة الطاغية ، والفضلاء ، والحكماء ، والأدباء ، والعقلاء ، والأولياء ، والأنبياء فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ( 8 ) [ الحاقة : 8 ] .

وأنت أيها الملك على قاعدة مذهبهم ، وعن قريب تلحق بهم ، فإمّا إلى النعيم في دار الخلود بجوار الصمد ، وإمّا إلى عذاب الأبد . فاجهد في تحصيل أدوات النجاة ، والبقاء فإن الدنيا متاع ، والآخرة خير لمن اتقى .

فصل ومن ذلك ثم قال الحكيم

ومن ذلك :

ثم قال الحكيم : فأدر سماواتك ، واستنزل روحانياتك ، عسى ينجلي عنك غمامها ، ويبدو لك بدر تمامها .

فإن الحقائق الروحانية والرقائق السماوية تتأذّى ( مما تتأذى ) به الإنسانية ، فالحذر الحذر من صفقة القدر ، واطلب الشيء من معدنه ، ودبره في موطنه ، فإنه من تولد من الحقائق الطيبة الممزوجة بالأثقال ، لا بد لمن أراد أن يكمل ذاته من مباشرة الأزبال . فإنه عنها تتكون وبها يتحقق وجوده ، ولا يغرنّك التحاق الأسافل بالأعالي ، والتحام الأباعد بالأداني . فإن للمعادن مواطنا ، ولكل ساكن مسكنا ، فمن حال بينها وبين معادنها ، ودبرها في غير موطنها ، تسقط في يديه ، ودار وباله عليه ، وكانت صفقته خاسرة وتجارته بايرة .

فإن كنت إلى تدبير هذه الصنعة ، وإيجاد هذه الحكمة بالأشواق ، فانزل عن هذه الطباق ، وسل عن الجبل المعروف فتجد مطلوبك وإني أودعك إياه ، وأنزلك في محيّاه وأعرفك بمعنّاه ، وأتحفك بسره ومعناه ، وأفرق لك حكمته في مماته وحكمته في محياه ، فانهض معي بلا حول ولا قوة إلّا باللّه .

فرحل بي إلى خط الاستواء .

فإذا بالجبل المذكور يعانق عنان السماء . فنزل إليه شخص من سراة الأرواح في نسيم الأرواح ، لطيف الإشارة ، فصيح العبارة .

فقال : مرحبا ، وأهلا وسهلا .

فقال الشيخ : هذا الغلام قد أنزلته عليك ، وسلمته إليك ، له همّة في طلب الحكمة ، وتشوق إلى معدن الرحمة ، فسلمني إليه ووقف ، وقبلني الآخر ولم يتوقف ، وسرّى معه وانصرف ، إلى أن أدخلني على الملك فقبلت يمنى بساطه ، وانبسط فسررت بانبساطه فعرف مقصدي فأخذ بيدي ، وأشار إلى بعض رعيته .

وقال : سر به في ملكي ثم مكّنه من حاجاته .

فأخذني المملوك ، وكان من أحسن المماليك ، فاخترق بي جميع المسالك ، فرأيت ملكا عظيما ، وسلطانا جسيما ، بديع الترتيب والنظم ، رفيع الكيف مدوّن الكم .

ما من مسلك فيه إلّا عليه حافظ ، ولا مجلس إلّا وعليه واعظ ، فمن عرف ما أودع في تدبيره الحكيم من العلوم ، دبّر منه حكمته بصفة تقويه ينظر إليها روحانيات النجوم .

ومما رأيت في ذلك الجبل صهريجا معلقا في الهواء عليه قبّة عظيمة محكمة البناء ، يسقط من تلك القبة حجارة رخوة بصفة هندسية روحانية في ذلك الصهريج ، وفيه سرب ينتهي إلى صهريج آخر .

معلق في الهواء فترسب تلك الحجارة فتثقل .

وعندهم نهر يسمى نهر الغريب يجري في طرقات مدبرة في سرب حتى ينتهي إلى ذلك الصهريج ، فإذا امتلأ طفت الحجارة حتى تسامت فم صهريج مصنوع من الكبريت فيعود ذلك الماء حميما فيطبخ تلك الأحجار ، فتكون منها الحكمة وهي التي تسمى الكيمياء .

فصل ومن ذلك حضرة موسوية ثم رجعنا نبتغي سماء الكلام

ومن ذلك :

حضرة موسوية ثم رجعنا نبتغي سماء الكلام ، لنقف على ما ورثناه من موسى عليه الصلاة والسلام ، فلما دخلنا عليه ، وخضعنا بين يديه ، سلّمنا وخدمنا ، فأكرمنا واحترمنا ، وجمع لنا بين إقبال الأخوّة والأبوّة ، إثبات الشرف مقام النبي محمد عليه الصلاة والسلام ووفى بمقام النبوة .

فقلنا له : ما حظّنا منك لنخبر به عنك ، وأوقفنا على ما لديك ، وما صرف الرحمن فيه النظر إليك .

فشال الحجاب ، وانفتح الباب من خلفه جنتان ،ذَواتا أَفْنانٍ،فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ،فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ،فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ،كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ.

فقال : هذا لمن حرم في دنياه الأمان .

ثم شال عن يساره الحجاب فانفتح الباب من خلفه جنّتان ،مُدْهامَّتانِ،فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ،فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌفِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ،حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ،لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ،مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ.

فقال : هنا لمن عاش بالأمانة وبقيت الأعيان ، فاطلب الأعيان بالعيان ، فشاهدنا ما أخبر اللّه به في السورة التي يذكر فيها :الرَّحْمنُ ( 1 ) عَلَّمَ الْقُرْآنَ ( 2 ) خَلَقَ الْإِنْسانَ ( 3 ) عَلَّمَهُ الْبَيانَ ( 4 )[ الرحمن : 1 - 4 ] غير أن جنى الجنتين ليس بدان ، فلما قصرت أيدينا عن تناول شيء منها ، سألته ما السبب الذي قصر بنا عنها .

فقال : يا ولي تناولها موقوف على التركيب الثاني ، إن فهمت بتعظيم معرفته الثاني وأنت في التركيب الأول فاصبر حتى تتحول .

فإذا سرت روحانيتك في جسمك ، ووسمت وسمك وعرفت سعادتك ، وتقف على سر حجرها وأحجارها ، فهنا يبدو لك شرف الاعتدال ، وصورة التمام والكمال ، ويظهر لعينك استواء المنحرف الميّال ، ويبقى العلم ويذهب الخيال ، وتتضح المعاني ويزول الإشكال ، وينحفظ التركيب باعتدال التركيب ، وتبرز حقيقة الأبد ، ويدوم البقاء بالديمومة الإلهية ، من غير أمد ، وتلوح كيفية التولد ، وماهية التعبد ، والتحاق الأجانب بالأقارب ، وتنوع المراتب باختلاف المذاهب ، وسرور الروح والنفس ، بتحصيل الجمال والأنس ، وتقف على سر إجابة دعوة المضطر ، وإن كان كافرا ، وهدى الطالب وإن كان جائرا ، وتعلم أن اللّه لا يضره معصية عاص ، ولا تنفعه طاعة طائع ، ولم يسم بالمانع ، والجوادّ ليس بالمانع .

ثم قال : نادى يا حنّان يا منّان ، يا رؤوف يا قديم الإحسان ، يا من جعل معدن النبوّة أشرف المعادن ، وموطن الأحكام أرفع المواطن ، أنت الذي سوّيت فعدّلت ، وفي أي صورة ما شئت ركّبت ما سويت .

يا واهب إذ لا واهب ، ويا مانح المثوبات لأهل المكاسب ، أنت الذي وهبت التوفيق ، وأخذت عبدك ومشيت به على الطريق ، وخلفت فيه الأعمال المرضيّة ، والأقوال الزكية ، وأنطقته بالتوحيد والشهادة ، ويسّرت له أسباب السعادة ، ثم أدخلته دارك ، ومنحته جوارك ،

وقلت له : هذا بعملك ولك ما انتهى إليه خاطر أملك ، فناديته كما أمرتني فأجاب ، وقرعت بابه بهذه الكلمات ففتح ورفع الحجاب . فلما تجلى ذلك الجبل الراسي ، وخررت على رأسي ، فانصرف الإدراك إلى القلب فأبصر ،

وقال : أين هذا من مقام اللّه أكبر .

قال : فأستره فيسترني فيبدو   ....   لذي السّترين آيات جسام

فمنها العين والتّحكيم فيها   ....   ومنها الانزعاج والاصطلام

أكاسير تردّ الميت حيّا   ....   ويمطر عند رؤيتها الجهام

فهذا للقرآن قد فكّرت فيه   ....   وجدت الحقّ حقّا يا غلام

ثم قال : إنّا نظمنا لك الدرر والجواهر في المسلك الواحد ، وأبرزنا لك القول في حضرة الفرق المتباعد، ولهذا ترى الواقف عليها لا يكاد يعثر على سرّ النسبة التي أودعها لديك.

قال :

حمدت إلهي والمقام عظيم   ....   فأبدى سرورا والفؤاد كظيم

وما عجبي من فرحتي كيف قورنت   ....   بترحة قلب جلّ فيه عظيم

وما ناله الصّدّيق في وقت كونه   ....   وشمس سماء الغرب منه عديم

مذاق ولكن الفؤاد مشاهد   ....   إلى كلّ ما يبديه وهو كتوم

فأشخاصنا خمس وخمس وخمسة   ....   عليهم ترى أمر الوجود يقوم

ومن قال إنّ الأربعين نهاية   ....   لهم فهو قول يرتضيه كليم

وإن شئت أخبر عن ثمان ولا تزد   ....   طريقهم فرد إليه قويم

فسبعتهم في الأرض لا يجهلونها   ....   وثامنهم عند النّجوم لزيم

فعند فنا حاء الزّمان ودالها   ....   على فاء مدلول الكرور يقوم

مع السّبعة الأعلام والنّاس غفّل   ....   عليم بتدبير الأمور حكيم

وفي الرّوضة الخضراء اسم عداته   ....   وصاحبها بالمؤمنين رحيم

ويختصّ بالتّدبير من دون غيره   ....   إذا فاح زهر أو يهبّ نسيم

تراه إذ ناوأه في الأمر جاهل   ....   كثير الدّعاوى أو يكيد زنيم

فظاهره الإعراض عنه وقلبه   ....   غيور على الأمر العزيز زعيم

إذا ما بقي من يومه نصف ساعة   ....   إلى ساعة أخرى وحلّ صريم

فيهتزّ غصن العدل بعد سكونه   ....   ويحيى نبات الأرض وهو هشيم

ويظهر عدل اللّه شرقا ومغربا   ....   وشخص إمام المؤمنين رحيم

وقال :

تدبّر أيّها الحبر اللّبيب   ....   أمورا قالها الفطن المصيب

وحقّق ما رمى لك من معان   ....   حواها لفظه العذب العجيب

ولا تنظر إلى الأكوان تشقى   ....   ويتعب جسمك الفذّ الغريب

أمّا بعد حمد اللّه الذي تقدم ، والصلاة التي ختم بها الحمد وتمم .

ثم قال :

وكنت نويت أن أجعل في هذا الكتاب ما أوضحته تارة وأخفيه أخرى .

فأوّله أين يكون من هذه النسخة الإنسانية مقام الأنبياء ،

وثانيه مقام الإمام المهدي المنسوب إلى بيت النبي مقام الطيبين ، وأين يكون ختم الأولياء وطائفة الأصفياء إذ الحاجة إلى معرفة المقامين ، والإنسان آكد من كل مضاهاتها الأكوان الحدثان .

لكنني خفت نزعة العدوّ الشيطان ، أن يصرخ بي في حضرة السلطان .

فيقول على ما لا أنويه ، وأحصل من أجله في بيت التنويه فسترت الشاة بالقززان صيانة لهذا الجسمان .

ثم رأيت ما أودع الحق من الأسرار لديه ، وتوكلت في إبرازه عليه .

فجعلت هذا الكتاب لمعرفة هذين المقامين ومتى تكلمت على مثل هذا فأنا أذكر العالمين ، ليتبين الأمر للسامع في العالم الكبير الذي يعرفه ويعقله ، ثم أضاهيه بسرّه المودع في الإنسان الذي ينكره ويجهله ، فليس غرضي في كل ما أصنّف في هذا الفن معرفة كل ما ظهر في الكون ، وإنما الغرض تنبيه الغافل على ما وجد في هذا العين الإنساني ، والشخص الآدمي . ثم أبين لك ما يجهله من الشيء الذي تعقله وتعرفه بأولى الإشارات في أصداف العبارات .

تنبيه : ولما لم يتمكن القاصد للبيت العتيق

ولما لم يتمكن القاصد للبيت العتيق ، أن يصل إليه حتى يقطع كل فج عميق ، ويترك الإلف والوطن ، ويهجر الخلد والفطن ، ويفارق الأهل والولد ، ويستوحش في سيره من كل أحد ، حتى إذا وصل الميقات ، خرج من رقّ الأوقات ، وتجرد عن مخيطه ، وخرج من مركزه إلى بسيطه ، وأخذ يلبي من دعاه ، بشيء ما كان قبل ذلك وعاه فصعد وقد لاح له على علم الهدى ، ودخل الحرم ولثم الحجر .

فإن الطريق الذي سلكت عليه ، والمقام الذي طلبته وانفردت إليه ، هو مقام فردانية الأحد ، ونفي الكثرة والعدد ، لا يصح معه التعريج على كون ، ولا يقبل إلّا ما تحققه عين .

ولما لم تعلم بحوادث الكون همتي ، وتشوقت إليه كلمتي ، كان الحق سبحانه وتعالى وجهتي ، ونزهتي ، عن ملاحظة جهتي ، وكنت لا أشهد أينا ، ولا أبصر كونا .

ومن ذلك أقول :

أقول وروح القدس تنفث في النّفس   ....   بأنّ وجود الحقّ في العدد الخمس

ولكنّني أدعى على القرب والنّوى   ....   بلا كيف بالبعل الكريم وبالعرس

فقال :

فالجسم فلك بحر الجود يزعجه   ....   ريح من الغرب بالأسحار مشحون

وراكب الفلك ما دامت تسيّره   ....   ريح الشّريعة محفوظ وميمون

فلا تزال كموج الملّقيات به   ....   يقول للكائنات في الورى كونوا

فكلّ قلب سها عن سرّ حكمته   ....   في كلّ كون فذاك القلب مغبون

فافهم فديتك سرّ اللّه فيك ولا   ....   تظهره فهو عن الأغيار مكنون

وغر عليه وصنه ما حييت به   ....   فالسّرّ ميت بقلب الحرّ مدفون

ثم عطف عليّ عطف النشوان يغازلني مغازلة الهيمان ،

ويقول :

« ردّني برداء الكتم ، فإني أنا الختم . بفقدي تذهب الدول وتلحق الأواخر بالأول » .

قد كان ما كان ممّا لست أذكره   ....   فظنّ خيرا ، ولا تسأل عن الخبر

ثم قال :

فمن كان ذا كشف علوي ، وعزم قوي ، شقّ على قلبي حتى يرى شمس ربي .

فمن امتطى عنق الأشياء طلب ولحق ، ومن نزل إلى زلول الكتم نجا والتحق ، إلّا إن كان كما فعله وفعله من قبلي خفي رمز ، ودرج معنى في معمى ، ومن دون ذلك البحر المذكور أرخينا الستور .

ولمّا صحّ أن الختم متقدم الجماعة يوم قيام الساعة ، ثبت أن له حشرين ، وأنه صاحب حكمين . وصاحب هذا السرّ هو رهن بيدك وقد علق فلا تيأس ، وأمسك عليه فتنكس ، ووجه الأمر عند ذلك في إفشاء هذا السر المكتوم ، والكتاب المختوم إفشاء تعريض لا تصريح وإعلام وتنبيه وتنويه .

ولمّا تلقيت منه الأمر على هذا الحدّ ، دخلت تحت هذا العقد ، فلزمني الوفاء بالعهد ، فأنا الآن أبدي وأعرض ، وإيّاك أعني واسمعي يا جارة .

وكيف أبوح بسرّي ، وأبدي مكنون أمري ، وأنا الموصي به غيري ، فيما يوضح نظمي ونثري .

 ثم قال :

نبّه على السّرّ ولا تفشه   ....   فالبوح بالسّرّ له مقت

على الّذي تبديه فاصبر   ....   واكتمه حتّى يصل الوقت

فمن كان له قلب وفطنة ، شغله طلب الحكمة عن البطنة ، ووقف على ما رمزناه ، وفك المعمى الذي لغزناه ، ولولا خوف إفشاء السرّ الإلهي لشافهنا به الوارد والصادر ، وجعلناه قوت المقيم وزاد المسافر .

واللّه الكفيل بالهداية إلى سواء السبيل .

ولو شاء لهداكم أجمعين .

فصل بل وصل ولمّا نزّل عليّ الأسرار

بل وصل ولمّا نزّل عليّ الأسرار ، وسطعت عن مسام أشعته الأنوار ، اغتسلت بالماء القراح ، فأعكست الأنوار إلى محل الإلهام فجرت جداولها ، وأنهارها ، واشتد الريح الغربي فتموجت بحارها ، فدخل الموج بعضه إلى بعض ، وأسرع إلى ما أبرمه بالمبرم والنقض فلا تبصر إلّا سحابا مركوما ، وموجا مختوما ، في بحر لجّيّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض .

فتأمل هذه الإشارات في نفسك ، واجمع عليها بقلبك وحسّك ، فإن الزمان شديد ، جبار عنيد ، وشيطان مريد .

فانسلخ منهم انسلاخ النهار من الليل ، وإلّا لحقت بأصحاب الشرور والويل ، وقد نصحتك فاعلم ، وأوضحت لك السّبل فالزم . فأقامني الحق مقام البحر الذي علا موجه فطما ، ودخل بعضه في بعض فهما ، وأنا في حالة لا يعرفه إلّا من كابدها ،

ولا يصفها إلّا من شاهدها كما قيل :

لا يعرف الشّوق إلّا من يكابده   ....   ولا الصّبابة إلّا من يعانيها

فأقمت متكئا إلى اليمين ، ونزّلت قلبي في مقام عليين ، إذ هو محلّ الحق ، ومقعد الصدق ، وقد غمره الماء ، وأحاط به الأنواء ، فلم تزل أمواجه تصفق ،

وأرياحه تزعج وتسبق إلى أن برقت لي منه بارقة كخرق الإبرة ، فرشح منها قدر رأس الشعرة ، رأيت فيها عبرة ، ولم ير إلّا شخصا ملكيا أنشأها نشأ فلكيا لاقترابه ، فعرفت أن ذلك الشخص جسمانية هذا الكتاب ، الذي أنزل الحق عليّ ، وأبرزه للعيان على يديّ ، وإنه قطرة من ذلك البحر المتموّج ،

ورشحة من ذلك الموج الأوهج ، فانظر وتأمل أيها المولى الأكمل ، هذه الأسرار التي لا تتخلص بالفكر ، إذ هي من حضرة ما لا خطر على قلب بشر ، ولا وعتها أذن واعية ، ولا أدركتها حقيقة بصر .

عجبت من بحر بلا ساحل   ....   وساحل ليس له بحر

وصبحة ليس لها ظلمة   ....   وليلة ليس لها فجر

وكرة ليس لها موضع   ....   يعرفها الجاهل والحير

وقبّة خضراء منصوبة   ....   جارية مركزها العمر

من خطب الحسناء في خدرها   ....   متيّما لم يغله المهر

أعطيتها المهر وأنكحتها   ....   في ليلة حتّى دنى الفجر

فالشّمس قد أدرج في ضوئها   ....   القمر السّاطع والزّهر

فقد رمزنا في الصفات أمرا يعجز عنه ، ولا يصل إليه أحد إلّا ما قدّر منه ، فإن الموج والغبار بالامتزاج يزيد النار .

لغزت أمورا إن تحقّقت يسرّها   ....   فذلك علم ربّك النّافع

غطس الغاطس ليخرج ياقوتها الأحمر في صدفة الأزهر ، فيخرج من بعد ذلك البحر صفر اليدين ، مكسور الجناحين ، مكفوف العين ، أخرس لا ينطق ، مبهوت لا يعقل ، فسئل بعد ما رجع إليه النّفس ، وخرج من سدفة الغلس .

 

فقيل له : ما رأيت ، وما هذا الذي أصابك ؟

فقال : هيهات لما تطلبون ، وبعدا لما ترومون ، واللّه لا ناله أحد ، ولا تضمن معرفته روح ولا جسد ، وهو العزيز الذي لا يدرك ، والموجود الذي لا يهلك ولا يملك ،

وإذا حارت العقول وطاشت الألباب في تلقي صفاته هذا مقام الأنبياء ، ومنزل الأمناء ، وحضرة البلغاء وكل واحد من الواصلين إليه على قدر علمه ، وقوة عزمه .

فما كان شملهم المقام وعمّ ، فمنهم التامّ الأتم ، فإنه من يقف على هذا العلم ، ولا مقام لهذا الحكم ، يروم ما لا يحصل له وذلك لما ذهل عنه وجهله وكفاك أن تعلم وهذا غاية العجز .

قل للباحث على ما لا يصل إليه ، والطالب فوق ما يبتغيه : هل يعرف من الحق غير ما أوجده فيه ؟

ثم قال للعارف :

أخرنا على المريد بالتعلّق ، وعلى اللّه الإيجاد والتخلق ، ولو فتحنا عليك بابا لوسعها ، والتجأ بعضها إلى بعض لرأيت أمرا يهولك شطره ، ويطيب لك خيره وخبره ولكن فيما ذكرناه تنبيها على ما سكتنا عنه وتركناه ،

وصيّره الحق سبحانه وتعالى ، فزانه صبره ، وهو موضوع نفوذ أمره إلّا منه وهو حجاب تجليه ، وترقي تدلّيه ، ثم نظر طالبا أين موضع قدميه ؟

وأين موضع نعليه ؟

فانبعث من تلك الطريقة أشعة في الخلاة ، استدارت أنوارها كاستدارة المرآة اللطيفة الكيف ، الفارغة الجوف ، معلومة المنازل ، عند السالك والداخل ،

فجعل ذلك الكور ، وأنشأ ذلك الدّور ، كرسيا لقدميه ، وحضرة لنفوذ ما يصدر من الأمر بين يديه ، فيخرج الأمر منه متحد العين ، حتى وصل الكرسي انقسم قسمين ، إذ كان المخاطب من ذلك الموضع إلى أسفل موجودين اثنين ،

وإن كان واحدا فمن جهة أخرى ، وعلى ذلك الواحد تتابع الرسل تترى ، فإن المخاطب لجميع الأشياء إنما هو الإنسان ليس ملك ولا جان ، فإن الملك والجان جزء منه ، وأنموذج خرج عنه ، فله بعض الخطاب ، والإنسان كل الكتاب المنبّه عليه بقوله :ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ[ الأنعام : 38 ] .

ثم بقوله :ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ[ الأنعام : 38 ] .

كما نبّه على الحقيقة المحمدية التي هي أصل الإنشاء ، وأوّل الابتداء فقال :وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ[ الرعد : 39 ] .

فنحن الكتاب الأجلى ، وهو الإمام الأعلى . فالإنسان الكتاب الجامع ، والليل المظلم ، والنهار المشرق الساطع .

فمن علوّ مرتبه وسموّ منزلته ، وإنه واحد بالنظر إلى قواعده ، وخمسة بالنظر إلى مملكته ، وستة بالنظر إلى جهاته ، وسبعة بالنظر إلى صفاته ،

وثمانية بالنظر إلى سجيّته ، وتسعة بالنظر إلى مراتبه ، وعشرة بالنظر إلى إحاطته ، وإحدى عشر بالنظر إلى ولايته ، وهو روح القدس .

ثم قال : وتركنا تعين ما ذكرته موقوفا على نفسك حتى تطّلع على ذلك ببصرك عند شروق شمسك ، وقد نبّهنا عليها في هذا الكتاب بالتضمين .

ففد فؤادك وقوّ اجتهادك . عسى أن يفتح لك بابا من عنده عند مواظبتك على الوفاء والتصديق بوعيده ووعده .

ومن ذلك إشارة :

مناقب المعارف والحكم موقوفة على ارتفاع الهمم .

فقلت له : ارفع الهمّة .

فقال : مضى زمان رفع الهمّة .

فقلت : اللهم ارفع بي الزمان ، وبغير زمان زال الزمان فلا زمان .

ارفع الهمة في الزمان تنل ما نبهتك عليه ، فالترقّي دائما أبدا .

ومن ذلك : ما لك يضرب لك المثل بعد المثل ، ولا تتفكر كم تخبط في الظلمة وتحسب أنك في النور ، لا يغرنّك اتساع أرضه كلها شوك ولا فعل لك .

كم مات فيها من أمثالك ؟

كم خرقت من نعال ؟

فوقفوا ولم يتقدموا ، ولم يتأخروا جوعا وعطشا .وصية

لا راحة مع الخلق ، فارجع إلى الحق فهو أولى لك .

فإن عاشرتهم على ما هم عليه بعدت من الحق .

وإن عاشرتهم على ما أنت عليه قتلوك .

فالستر أولى لك .

 تنبيه : تحفّظ من الصاحب فهو العدوّ الملازم .

تحفّظ من الصاحب فهو العدوّ الملازم .

فدلّه على الحق ، واشغله به ، فإنه سيشكر لك ذلك عند اللّه .

وبعد :

أن سهّل اللّه بضروب نعمه بإنجاز هذا الكتاب من إشارات الصوفية .

فإن العلم محصور المعلومات في ثلاثة :

فإمّا علم يتعلق بحضرة الدنيا وأسبابها ، وما يحصل منها .

وإمّا علم يتعلق بالآخرة .

وإمّا علم يتعلق بالحق تعالى .

علم الأذواق من :

الصحو ، والسكر ، والشرب ، والهيبة ، والأنس ، والإثبات ، والمحو ، والمحق ، ومحق المحو ، وفناء العين .

والأنبياء عليهم السلام هم الذين جمعوا هذه العلوم . والعلماء الذين هم ورثة لهم . وما عدا هذين الصنفين . فإنما بالبعض .

وأقول للناظر في هذه العجالة :

قد أثبتّ لك فيه كثيرا من دقائق الحقائق فيما يتعلق بك وفيما يتعلق بالأسرار الإلهية ، ولقد نبهتك على الكنزين ، وأجريت لك كلاما من إشارات الصوفية ،

وتنبيهات حكمية ، ومقامات فردانية لتفهم ما قلت لك ، فإني أظهرت لك معنى من معاني ، ورفعت لك الستر .

واعلم ، وفقك اللّه ، أن هذه الأسرار من العلوم التي يجب سترها ولا يجوز كشفها .

واللّه الموفق بمنّه وكرمه .

*

تم بحمد الله رب العالمين

عبد الله المسافر بالله

العودة إلى الفهرس

الموضوع التـــــــالي .... الموضوع الســـابق

شق الجيب بعلم الغيب على منتدي إتقوا الله ويعلمكم الله

التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: