الأحد، 17 مايو 2020

المقالة الرابعة عشرة سؤال الطيور للهدهد في قطع الطريق الأبيات من 1133 – 1564 .كتاب منطق الطير للعارف بالله فريد الدين العطار النيسابوري

المقالة الرابعة عشرة سؤال الطيور للهدهد في قطع الطريق الأبيات من 1133 – 1564 .كتاب منطق الطير للعارف بالله فريد الدين العطار النيسابوري

المقالة الرابعة عشرة سؤال الطيور للهدهد في قطع الطريق الأبيات من 1133 – 1564 .كتاب منطق الطير للعارف بالله فريد الدين العطار النيسابوري

كتاب منطق الطير للعارف بالله فريد الدين أبو حامد محمد بن أبي بكر إبراهيم بن أبي يعقوب إسحاق العطار النيسابوري

المقالة الرابعة عشرة سؤال الطيور للهدهد في قطع الطريق الأبيات من 1133 – 1158 

ما أن سمعت الطيور جميعاً الكلام ، حتى أدرك الكل الأسرار القديمة ، ووجد الجميع نسباً يربطهم بالسيمرغ ، فلا جرم أن تولدت لديهم الرغبة في السير ، ولذا عادوا جميعاً إلى الطريق ، عادوا متحابين وبدا بينهم الوفاق ،

ثم تحدثوا طويلاً مع الهدهد إذ لم يكن بينهم من أعلم منه بالطريق ،

سألوه : أيها المتفقه في الأمر ، كيف يتأتى لنا الإقبال على المسير ؟ إن الأمر جد عظيم ، فكيف يكون السلوك من الضعاف مقبولاً ؟

تكلم الهدهد الهادي في ذلك الزمان وكأنه عاشق لا يقيم للروح أي حسبان ، فقال : إن تقل بترك الروح تصبح عاشقاً سواء كنت زاهداً أو فاسقاً ، وإن يعاد قلبك روحك فانثر الروح يأتيك الطريق حتى نهايته ،

الروح سد في الطريق فكن للروح ناثراً واطرح الحجاب بعد ذلك وأحسن النظر ، وإن يقل لك عن الإيمان تخل وإن يقل لك عن الروح تخل فانثر هذا وذاك ، وقل بترك الإيمان وكذا عن الروح تخل .

إن يقل منكر إن هذا أمر منكر ، فقل : إن العشق أعلى مكانة من الإيمان والكفر ، وأي شأن للعشق مع الكفر والإيمان ؟

وأي شأن للعاشقين مع الجسد والروح ؟

إن العاشق يشعل النار في كل بيدر ويوضع المنشار على رأسه وهو لائذ بالصمت ،

لابد للعشق من الألم والغصة ولابد للعشق من المشاكل والصعوبات ، فيا أيها الساقي إملأ الكأس بدم الكبد فإن عدمته فلتستعره من آلامنا إذ لابد للعشق من آلام تمزق الحجب ، فمزق حجاب الروح أحياناً وخطه أحياناً ،

وذرة عشق تفوق جميع الآفاق ، وذرة ألم تفضل جميع العشاق ، والعشق لب الكائنات على الدوام ولكن لا يكون العشق تاماً بلا إيلام .

كل من له قدم في العشق راسخة ، قد تخطى الكفر والإسلام معاً ، العشق يفتح لك باباً نحو الفقر ، والفقر يظهر لك طريقاً صوب الكفر ،

وللعشق قرابة بكفرك ، وكفرك هو لب فقرك ، وإن ضاع منك الكفر والإيمان ، فمعنى هذا أن جسدك قد فنى وأن روحك قد فاضت ،

بعد ذلك تكون خليقاً بهذا العمل ، إذ لابد لهذه الأسرار من رجل فسر في الطريق كالرجال ، ولا تخف وتخل عن الكفر والإيمان ولا تخف ،

كثيراً ما يعتريك الخوف فتشجع وتخل عن عالم الأطفال وكن كأشجع الرجال أمام الأعمال ،

فإن اعترضت طريقك فجأة مئات العقبات فلا خوف من التعثر في الطريق .

حكاية الشيخ صنعان وعقده الزنار لعشقه الفتاة المسيحية

الأبيات من 1159 – 1564 

كان الشيخ صنعان شيخ زمانه كما كان في الكمال يفوق ما سأذكره عنه ، اعتكف هذا الشيخ في الحرم خمسين عاماً ، ومعه أربعمائة مريد من أصحاب الكمال ، وما كان أحد من مريديه ويا للعجب يستريح من الرياضة ليلاً أو نهاراً ،

واجتمع لدى الشيخ العلم والعمل معاً كما أمسك بزمام الكشف والسر معاً ، وحج زهاء خمسين حجة وقضى عمراً مديداً في أداء العمرة ،

وصومه وصلاته دائبان بلا توقف ، وما توانى عن سنة مطلقاً ، ومن سبقوه من أئمة ، مثلوا بين يديه اعترافاً بسبقه ، وقد استطاع أن يقد الشعرة ، حيث كان عالي المنزلة في المقامات والكرامات ،

وكل من شكا إليه ضعفاً أو علة ، وجد من أنفاسه عافية وصحة ، وكان للجميع قدوة في مجال العلم سواء في القبض أو البسط .

ومع إدراكه أنه قدوة الأصحاب ، فقد رأى نفسه ليالي متوالية على هذه الحال ، رأى أنه رحل عن الحرم ، واستقر ببلاد الروم ، ورأى أنه للأصنام دائم السجود .

وذات ليلة تيقظ عند رؤية هذا الحلم وقال : واحسرتاه في هذا الزمان سقط يوسف الموفق في البئر ، واعترضت عقبة كئود طريقه ، فلا أعلم متى أحرر روحي من هذا الغم ، وقد قلت بترك الروح عندما يكتمل إيماني ،

ولكن لا وجود لإنسان على ظهر الأرض لم تعترض طريقه عقبة كهذه فإن يتغلب على عقبته ينكشف الطريق أمامه إلى نهايته ، وإذا ظل يقف خلف تلك العقبة فعاقبته أن يصبح طريقه بلا نهاية .

آخر الأمر ، قال المتبحر في العلم لمريديه : الآن وجب علينا العمل إذ يجب الإسراع إلى بلاد الروم لندرك تفسير هذا المقام ، سافر معه أربعمائة مريد معتبر مقتدين به في السفر ، 

ساروا من الكعبة إلى أقصى بلاد الروم ثم طوفوا بجميع أرجائها ، وفجأة وقعت عيونهم على بناء شاهق ، وقد جلست على سطحه فتاة .

كانت الفتاة المسيحية ذات روح ملائكية ، بل كأنها نفحة من روح الله ، أشرقت كالشمس في فلك الحسن ، واستقرت في برج الجمال المنزه عن النقصان ، فعلا الاصفرار وجه الشمس كمداً وحسداً لكثرة العشاق بمحراب تلك الفتاة .

كل قلب ارتبط بغدائر تلك الفاتنة ، عقد الزنار لجمال غدائرها ، ومن وقفت روحه على شفة تلك المعشوقة ، سار على رأسه في الطريق لا على قدميه ، 

وعندما تعطرت ريح الصبا برائحة غدائرها غزت التجاعيد وجه الروم كالعبيد بسببها ، 

عيناها فتنة للعشاق وحاجباها في الحسن كالطاق وإذا ألقت نظرة على أرواح العشاق ، سلبتهم الأرواح بغمزة من حاجبيها ،

وانحنى حاجبها على عين في طلعة البدر ، 

واستقر وسطها إنسان العين وما أكثر ما فعل إنسان العين حيث صاد أرواح آلاف الآدميين ، أما وجهها فيبدو تحت غدائرها اللامعة كأنه شرارة وهاجة متأججة ،

وكم أظمأ سراب ثغرها العالمين ، وحول نرجستها الناعسة أشرعت الخناجر فمن مضى ظامئاً إلى عينها أصيب قلبه بخناجر أهدابها ، وقد انعدم الطريق إلى فمها ،

حتى أن كل من تكلم عنه ثبت أنه عديم الخبرة بهذا الفم ، إن فمها شبيه بسم الخياط ولها زنار كالغديرة حول وسطها ولها نونة فضية في ذقنها ، 

وكلامها ككلمات عيسى يعيد الروح لأصحابها وكم سقط العديدون كيوسف غرقى دمائهم في بئر نونتها ، وقد وضعت في شعرها جوهرة لها بريق الشمس ، أما شعرها الأسود فبرقع انسدل على وجهها .

ما أن رفعت النقاب بنت النصارى حتى اشتعلت أوصال الشيخ ناراً ، وعندما بدا وجهها من تحت النقاب ، عقد الشيخ مائة زنار من شعرها ، وكلما تطلع الشيخ أمامه كلما جعل عشق الفتاة المسيحية شغله، حتى فقد قلبه وسقط على الأرض وبدا وكأنه وسط نار متأججة.

وأخيراً ضاع منه كل ما كان يملكه وأفعم قلبه بالدخان من نار عشقه وهكذا استولى عشق الفتاة على قلبه كما سفك كفر غدائرها دم إيمانه ، فتخلى الشيخ عن الإيمان واختار المسيحية ، كما باع العافية واشترى المسكنة ، 

وسيطر العشق على قلبه وروحه حتى سئم قلبه ومل روحه ، ثم قال عندما فقد دينه : أين القلب ؟ إن عشق الفتاة المسيحية أمر مشكل صعب .

وعندما رآه مريدوه متأوهاً أدركوا أن الواقعة قد وقعت وتحيروا جميعاً في أمره وتملكهم الاضطراب والهم بسببه فأكثروا في نصحه ولكن دون جدوى ، فلما وقع ما هو واقع لم يكن له دافع ، وكل من نصحه لم يطعه ، وذلك لأن ألمه لا علاج له ، 

وكيف يطيع العاشق الولهان الأمر ؟

والداء العضال كيف يستجيب لأي دواء ؟

هكذا قضى الشيخ نهاره الطويل حتى المساء ، شاخصاً بصره حيرة وفاغراً فاه حسرة ، وكل مصباح أضاء تلك الليلة ،

استمد الشرارة من قلب ذلك الشيخ المهموم ، وقد تضاعف عشقه مائة مرة تلك الليلة ،

فلا جرم إن فقد نفسه مرة واحدة ، ونفض قلبه من نفسه ومن العالم ، كما نثر التراب على رأسه ، وظل في حزن دائم ،

وما كان ينام أو يقر له قرار لحظة ، وارتجفت أوصاله من العشق وكان يتأوه ويقول :

يا رب ألا لليلتي من نهار ؟

 ألا لشمع الفلك من اشتعال ؟

قد قضيت الليالي الطوال في رياضة ، وما رأى أحد قط ليالي مثلها ، ومن الاحتراق كالشمع فقدت كل قوة ، وما عاد بكبدي من ماء غير دماء القلب ، وأصبحت كالشمعة أقتل بالإشعال والإحراق ،

لذا أحرق بالليل وأقتل بالنهار ، لقد قضيت الليلة أقاسي أهوال القتال ، وغرقت من رأسي إلى قدمي في خضم الدماء ، وفي كل لحظة تعرض لي مئات الأهوال ولا أعلم متى يشرق صبحي ؟

وكل من منى بمثل تلك الليلة ذات مرة أصبح شغله الشاغل في ليله ونهاره إحراق كبده ، وكثيراً ما قضيت النهار والليل في لوعة ،

ولكن تلك الليلة كأنها يوم هلاكي ، بل كأنني كنت قد خلقت ذات يوم من أجل تلك الليلة ، فيا إلهي ألا لليلتي هذه من نهار ؟

ألا لشمع الفلك من اشتعال ؟

يا رب ، أهذه سمات هذه الليلة ؟

أو أن الليلة يوم القيامة ؟

أو أن شمع الفلك قد انطفأ بزفرتي ؟

أو أن حبيبي توارى من الخجل خلف الحجب ؟

الليل طويل حالك الظلمة كشعرها ، ولولا ذلك لسلكت الطريق مائة مرة إلى محلتها ، إنني احترق الليلة من جوى العشق ولم تعد لي طاقة لتحمل إيلام العشق ، أين العمر لأصف ذلتي أو لأتأوه بكامل إرادتي ؟

أين الصبر حتى أكف عن المسير أو أن أعاقر الكئوس كالرجال ؟

وأين الحظ حتى تصحو عزيمتي أو أن تعينني في عشقها ؟

وأين العقل حتى يكون العلم قدوتي أو بحيلة العقل أمثل أمامها ؟

وأين اليد حتى أضع تراب الطريق على مفرقي أو أن أرفع رأسي من تحت التراب والدم ؟

وأين القدم حتى أعاود البحث عن محلة الحبيب ؟

وأين العين حتى أعاود رؤية وجه الحبيب ؟

وأين الرفيق حتى يساعدني في غمي ؟

وأين الصديق حتى يأخذ لحظة بيدي ؟

 وأين القوة حتى أستطيع البكاء والنواح ؟

وأين الفطنة حتى أتصرف بحكمة ؟

ذهب العقل وانقضى الصبر وولى الحبيب فأي عشق هذا ؟ وأي ألم ؟ وأي فعل ؟

رقت قلوب الجميع لحاله واجتمعوا تلك الليلة على أثر نواحه ، وقال له أحد جلسائه : يا شيخ الشيوخ انهض واغتسل من هذا الوسواس .

قال الشيخ : أيها الجاهل ، لقد اغتسلت الليلة بدماء كبدي مائة مرة .

وقال له آخر : أين مسبحتك ؟ وكيف يستقيم بلا تسبيح أمرك ؟

فقال الشيخ : لقد طرحت المسبحة من يدي حتى أستطيع عقد الزنار حول وسطي.

وقال آخر : أيها الشيخ المسن لتسارع بالتوبة إن كان قد حدث خطأ .

فقال الشيخ : لقد تبت عن الناموس والحال حتى أتخلص من المشيخة ومن القيل والقال .

وقال آخر : أيها العالم بالأسرار انهض واجمعنا في الصلاة .

فقال الشيخ : أين محراب تلك الفاتنة حتى لا أشغل بغير الصلاة ؟

وقال آخر : إلى متى هذا الجدل انهض واسجد لله في الخلوة .

فقال الشيخ : إذا كانت حبيبتي هنا لطاب لي السجود أمامها .

وقال آخر : ألا تندم على هذه الفعلة ؟ ألم يؤلمك ضياع إسلامك في لحظة ؟

فقال الشيخ : لا يمكن أن يندم إنسان أكثر من ذلك إذ لم أكن عاشقاً قبل ذلك .

وقال آخر : لقد قطع الشيطان عليك طريقك وألقى فجأة بسهام الخذلان على قلبك.

فقال الشيخ : لتقل للشيطان الذي قطع الطريق علينا ، اقطع فما أجمله من قطع .

وقال له آخر : إن كل خبير يقول : كيف ضل هذا الشيخ القدير ؟

فقال الشيخ : لقد فرغت تماماً من الاسم والسمعة ، وحطمت قارورة النفاق بحجر.

وقال له آخر : إن الأصدقاء السابقين قد تألموا وانفطرت قلوبهم أجمعين .

فقال الشيخ : إن كانت الفتاة المسيحية مسرورة ، فالقلب غافل عن ألم هذا وذاك .

وقال له آخر : لتوافق الأصدقاء حتى نعود الليلة صوب الكعبة مرة أخرى .

فقال الشيخ : إذا لم توجد الكعبة فالدير موجود ، وقد كنت مفيقاً في الكعبة ولكني ثمل في الدير .

وقال له آخر : كن عزوماً على قطع الطريق في تلك الآونة ثم اجلس في الحرم واطلب الصفح والمعذرة .

فقال الشيخ : لقد وضعت على أعتاب المعشوقة رأسي طالباً الصفح فكف يدك عني .

وقال له آخر : إن جهنم في الطريق مقيمة وليس رجل جهنم من يكون على علم وبصيرة .

فقال الشيخ : لو قدر وأصبحت جهنم في الطريق رفيقتي فإن سبعاً منها تحترق بزفرتي .

وقال له آخر : أملاً في الجنة عد وتب عن هذه الفعلة القبيحة وعد .

فقال الشيخ : إن لي حبيباً وجهه كالجنة ، فإن كان لابد لي من جنة فهذه جنتي .

وقال له آخر : لتخجل من الحق ولتعظم الله تعالى بصدق .

فقال الشيخ : إن كان الله حباني بتلك النار ، فلن أستطيع التخلي عنها بمحض إرادتي .

وقال له آخر : لتمض ولتلزم الصمت وعد للإيمان ثانية وبالإيمان تمسك .

فقال الشيخ : لا تطلب مني أنا الحائر غير الكفر ولا تطلب الإيمان ممن أصبح متردياً في الكفر .

عندما لم يجد القول معه أي نفع ، لزم الجميع الصمت وماجت قلوبهم وهاجت ، وغصت بالدماء ، حتى طفحت الدماء خارج هذه القلوب ، ولما حمل تركي النهار ترسه وقطع رأس زنجي الليل بسيفه ، وأصبحت الدنيا في اليوم التالي زاخرة بالغرور ،

وشبيهة بالبحر الغريق في النور النابع من عين الشمس ، جعل الشيخ محلة الحبيب خلوته ، وأصبح شغله الشاغل مع كلاب محلتها واعتكف على تراب طريقها حتى أصبح كشعرة تنسدل على بدر وجهها ،

وظل قرابة شهر صباح مساء في محلتها صابراً ليحظى برؤية شمس وجهها ، ولكن دهمه المرض في النهاية دون الظفر بالحبيب ،

فما أطل أحد برأسه من تلك الأعتاب ، فكان مرقده تراب محلتها ووسادته عتبة بابها .

وعندما لم يتحول الشيخ عن محلتها أدركت الفتاة ما حل بعاشقها ، 

ولكن الفتاة تظاهرت بالعجم

وقالت : أيها الشيخ لم ألم بك الاضطراب ؟

ويا أيها الثمل بشراب الكفر متى كان الزهاد يقيمون بمحلة النصارى ؟

إذا كان الشيخ يلزم نفسه بغدائري فإنها تصيبه بالجنون كل لحظة .

فأجابها الشيخ : إن كنت ترين ضعفي فذلك لأنك سلبت قلبي فإما أن تردي علي قلبي وإما أن توافقيني حبي ، فحققي بغيتي وكفي عن التدلل وتخلي عن التكبر والدلال ، فأنا عاشق مسن غريب فاشمليني بالنظر ،

ولما كان عشقي بعيداً عن الهزل يا معشوقتي فإما أن تقطعي رأسي وإما أن تكوني على وفاق معي ، إنني أبذل الروح فداء لك إذا أمرت بذلك ولكن إذا شئت رددت إلي روحي بكلمة من شفتك ،

فيا من شفتك وغدائرك هنائي وشقوتي إن وجهك الجميل قصدي وبغيتي ، فلا تضرمي النار في جسدي من وهج غدائرك ولا تسكريني بالثملة عينيك .

بسببك اضطرم قلبي ناراً واشتعلت عيني حرقة ، وبسببك فقدت المعين والصبر والرفعة ، وقد بعت الروح والدنيا بدونك ،

ولكن انظري فقد خطت الكيس بسبب عشقك ، إن الدمع ينهمر سيلاً من عيني ، وهذا ما انتظره من عيني إذا عدمتك ، فما أن رأت العين وجهك ، حتى ظل القلب في الغم ثم ضاع مني القلب وظلت العين في مأتم ،

وما رأته عيني لم يره أحد قط ، وما قاساه قلبي من ذا الذي قاساه ؟

لقد فنى القلب وما بقي منه إلا الدم ، فإلى متى أظل أطعم دم القلب إذا كان القلب قد فني ؟

فلا تثقلي على روح هذا المسكين أكثر من هذا ، ولا تقضي على آمالي وتركلينني هكذا .

لقد مضى عمري في الانتظار فربما أجد الوصال في هذا النهار ، في كل ليلة كنت أقيد روحي ، ثم أضحي بها على باب محلتك فأسلم الروح ووجهي مستقر على أديم بابك ، بل أسلم الروح رخيصة كالتراب من أجلك ،

وما أكثر ما بكيت على بابك فافتحي الباب وتلطفي معي لحظة واحدة ، أنت الشمس فكيف ابتعد عنك ؟

 إنني ظلك فكيف أصبر عنك ؟

ومع أنني كالظل من الاضطراب فإنني سأقفز من كوتك وكأنني الشمس وسأطوي تحت جناحي الأفلاك السبعة إذا ما أشرقت برأسك على هذا المضطرب .

فقالت الفتاة : يا من هو خرف من الشيخوخة ، عليك بالتعطر والتكفن والخجل ، إن كانت أنفاسك قد بردت فلا تتغزل ، لقد أصبحت شيخاً فلا تقامر بالروح ، الأفضل لك الآن عقد العزم على الموت من أن تعزم على قصدي ، إن كنت في شيخوختك في حاجة إلى رغيف ، فلن تستطيع تحمل تباريح العشق ،

فامض ، وكيف تستطيع أن تحظى بالملك وأنت لا تستطيع النضال من أجل ما يقيم أودك ؟

قال لها الشيخ : مهما تكثرين من القول ، فلن يكون لي سوى غم عشقك من عمل ، ما الفرق إذا كان العاشق كهلاً أو شاباً ؟ فللعشق تأثيره على كل قلب .

فقالت الفتاة : إن كنت صادقاً في هذا المرام فلتطهر يدك وتغسلها من الإسلام ، فمن يعتنق مذهباً غير مذهب المعشوقة يكن عشقه محصوراً في اللون والرائحة .

قال الشيخ : سأفعل كل ما تقولين وبروحي سأطيع كل ما تأمرين ، لقد أصبحت عبدك يا فضية القوام فألقي بحلقة من غدائرك في حلقومي ..

فقالت الفتاة : إن كنت رجلاً خليقاً بالأعمال ، فعليك أن تفعل بكل قبول أربعة من الأعمال : اسجد أمام الصنم ، وأحرق القرآن ، واشرب الخمر ، وأغلق عينيك عن الإيمان .

أجاب الشيخ : لقد قبلت الخمر ، أما الثلاثة الأخرى فلا حيلة لي بها ، إنني أستطيع احتساء الخمر على شرف جمالك ، ولكن ليس في مقدوري القيام بالأمور الثلاثة الأخرى .

فقالت الفتاة : انهض وتقدم واحتس الخمر ، فعندما تشرب الخمر ستتقدم نشوان فرحاً ..

وأخيراً أخذوا الشيخ إلى دير المجوس ، فزاد اضطراب المريدين وتملكهم الجنون ،

أما الشيخ فقد رأى مجلساً غاية في النضارة ، ورأى النديم غاية في الحسن ، وسلبت نار العشق صفاء عمله كما سلبت غدائر الفتاة المسيحية عمره ولم تتبق له أي ذرة من عقله ولبه ومع ذلك لاذ بصمته ،

وظل يأخذ الكأس من يد معشوقته ويشرب حتى قطع قلبه عن كل أمره ، وما أن اجتمع الشراب وعشق المحبوبة في بقعة واحدة حتى تضاعف عشقه لذلك البدر مائة ألف مرة ، فما أن رأى الشيخ ذات الثغر المليح ،

ورأى الياقوت في حقها المتبسم حتى أضرم العشق النار في روحه وسالت دموعه كسيل دموي صوب أهدابه ، ثم طلب كأساً أخرى وشربها ووضع في أذنه حلقة من غدائرها ..

لقد كان الشيخ يحفظ أكثر من مائة مصنف في الدين ، كما كان أستاذاً في تحفيظ القرآن ،

ولكن ما أن وصلت الخمر إلى أحشائه حتى تخلت عنه دعوته وغزاه التباهي بالباطل وكل ما أدركه ضاع من ذاكرته وما أن أقبلت الخمر حتى ولى كالريح عقله ، كما غسلت من لوح ضميره خمر المعاني التي كانت له من قبل ،

وظل عشق الفتاة مشكلاً بالنسبة له مع أنه تطهر من كل ما عداه ،

 ثمل الشيخ وغلبه عشقه وأصبح كالبحر وقد غصت بالاضطراب روحه ،

ثم رأى المعشوقة ثملة تمسك بالكأس في يدها فأسرع الشيخ صوبها ، وقد لعبت الخمر بقلبه وعقله فطلب من الفتاة أن تقبله ..

فقالت له الفتاة : يا من لست خليقاً بأعمال الرجال ، إنك مدع في العشق ولست خبيراً بالمعاني ، إن العافية لا تتفق مع العشق بل الكفر خليق بالعشق ،

فإن تكن لك قدم راسخة في العشق فإنك تدين بمذهب هذه الضفيرة المتعددة الطيات ..

فضع قدمك في الكفر كما فعلت ضفيرتي حتى لا يكون العشق أمراً ينم عن حماقة فإن تقتد بضفيرتي ،

جاز لك أن تعانقني في تلك اللحظة ، أما إن كنت لا تقبل الاقتداء الآن ، فانهض وارحل فهذه عصاك وذاك رداؤك ..

تحير الشيخ العاشق حيث فقد زمام نفسه وأسلم قلبه من الغفلة إلى قضائه وقدره ، وقد كان قبل أن يغزو رأسه السكر لا يفرغ لحظة من إدراك سر الوجود ،

والآن وقد أصبح الشيخ عاشقاً ثملاً فقد فقد السيطرة على نفسه وكل ما كان في حوزته وما عاد يفيق إلى نفسه وافتضح أمره ،

وما عاد يخشى أحداً ودان بالمسيحية ، وأحدثت الخمر المعتقة عظيم أثرها فيه حيث أخالت الشيخ كالفرجار اضطراباً ،

وقد توفر للشيخ العشق الفتي وما عتق من الخمر كما مثلت أمامه معشوقته فكيف يقدر على الصبر ؟

أخيراً أصبح الشيخ من العشق مفتوناً ثملاً وقد غاب عن وعيه حيث ملك العشق عليه روحه ،

وقال : لقد عدمت القدرة يا قمرية الوجه فتكلمي ماذا تريدين مني أنا الوله ؟

إن كنت مفيقاً ما عبدت الصنم ولكنني وقد ثملت فبإمكاني تمزيق المصحف على أعتاب الصنم ..

قالت الفتاة : الآن أصبحت رجلي فاهنأ بالنوم لأنك على وفاق معي ، فقد كنت قبل الآن غير ناضج في مجال العشق فاهنأ نفساً حيث نضجت والسلام ..

ما أن وصل الخبر إلى النصارى بأن شيخاً لطريقهم قد اختار ، حتى سارعوا بحمل الشيخ ثملاً إلى الدير ، وأشاروا عليه بعقد الزنار ،

وما أن أصبح الشيخ متحلقاً بالزنار حتى انهمك وأحرق الخرقة بالنار ، وتحرر قلبه من دينه ، ولم يعد يتذكر شيئاً عن الكعبة والمشيخة ، وبعد سنين عدة من الإيمان المتين إذا به ينفض يده مرة واحدة من الدين ،

وقال : إن الخذلان قد استهدفني أنا المسكين ، وجعل كل همي عشق الفتاة المسيحية فكل ما تأمرني به أمتثل له ،

وسأفعل أسوأ مما فعلت ، أيام الصحو ما عبدت الصنم ولكن ما أن ثملت حتى عبدت الصنم ، فما أكثر من باعوا دينهم بفعل الخمر ، وأم الخبائث تفعل هذا بلا شك ، ثم قال : أيتها المعشوقة ، ماذا بعد ؟

كل ما قلته فعلته فماذا بعد ؟

لقد شربت الخمر ، وعبدت الصنم بفعل عشقك ، وما رأى أحد قط ما رأيته بسبب عشقك ، من ذا أصبح مفتوناً بالعشق مثلي ؟

وأي شيخ افتضح أمره مثلي ؟

عدت أدراجي خمسين عاماً ، فكانت أمواج بحر الأسرار تتلاطم في قلبي ، ثم قفزت ذرة عشق من كمينها فجأة ، فرفعتنا على رأس اللوح الأول ، وقد فعل العشق أكثر من هذا وما زال يفعل ، وأحال الخرقة ناراً وما زال يعمل ،

العقل الحصيف قارئ أبجد العشق ، أما العشق فهو مدرك أسرار الغيب، لقد حدث كل ما حدث ، فتكلمي ولو قليلاً ، ومتى تتحدين معي؟

إذا كان بناء عشقي راسخ الأساس فكل ما فعلته كان أملاً في الوصل ، والوصل واجب وكذا إدراك الصحبة ، فما أكثر ما أحترق عندما أجد نفسي في وحدة .

قالت الفتاة : أيها الشيخ الأسير ، إن صداقي كبير وأنت جد فقير ، يلزمني أيها الجاهل ذهب وفضة ، فكيف يستقيم أمرك وأنت عديم الفضة ؟

فإن كنت لا تملك ذهباً ، فالو رأسك ، وامض ، وخذ ما تنفقه مني أيها الشيخ ، وامض ، امض حثيثاً كالشمس وسر وحدك والتزم الصبر والشجاعة وكن رجلاً..

قال الشيخ : يا سرورية القد وفضية الصدر ، إنك تحملين عهداً أكيداً على رأسك ، وليس لي سواك أيتها الجميلة الطلعة ، فكفي أخيراً عن الكلام بهذه الكيفية ، إنني في كل لحظة أتخلى عن شيء وألقي رأسي في أي معترك وتحملت كل شيء من أجلك وصنعت كل ما دار بفكرك،

وفي طريق عشقك كل ما كان اندثر كما ولى الكفر والإسلام وكذا النفع والضرر ، فإلام لا أستريح من الانتظار وأنت لم يقر لك معي أي قرار ؟

لقد تحول عني جميع الأصحاب وخاصموا روحي المفعمة بالاضطراب ، هكذا أنت وهكذا هم ، فماذا أصنع ؟

لقد فنى القلب وكذا الروح فماذا أصنع ؟

وإنني أفضل يا مسيحية المذهب أن أكون معك في النار على أن أكون بدونك في الجنة .

في النهاية ، ما أن أصبح الشيخ رجلها حتى احترق قلب ذلك البدر تأثراً بآلامه ، وقالت : إن صداقي أيها الهائم هو أن ترعى لي الخنازير عاماً بالتمام ، وما أن ينقضي العام ونحن معاً ، فإننا نقضي العمر حلوه ومره معاً .

لم يخالف الشيخ أمر الحبيب ، لأن من يعصى الأوامر عادة لا يعصى أمراً للحبيب ، فذهب شيخ الكعبة ومرشد الكبار إلى رعاية الخنازير ليقضي العام بكل اختيار .

في قرارة كل شخص مائة خنزير ، فإما أن يسفك دم الخنزير أو أن يعقد الزنار ، وهكذا تظن يا عديم المروءة ، بأن هذا الخطر قد أصاب الشيخ وحده ،

إن هذا الخطر كامن في قرارة كل نفر ولكنه لا يظهر إلا إذا بدأ في السفر ، فإن لم تكن حذراً من نفسك الشبيهة بالخنزير ،

فأنت جد معذور لأنك لست رجلاً لائقاً بالمسير، فإن تضع قدمك في الطريق يا خليقاً بالأعمال فسترى العديد من الأصنام ومن الخنازير،

فلتقتل الخنزير ولتحرق الصنم في بيداء العشق ، وإلا فكن كهذا الشيخ ذليلاً في مضمار العشق .

في النهاية عندما اعتنق الشيخ المسيحية ، عمت بلاد الروم جميعها الفرحة ، أما جميع رفاقه فكانوا في ضيق وشدة وأصيبوا بالوهن وسوء الطالع والحيرة ، وما أن رأوا ذلك الأسر الذي أحاط به حتى تحولوا عن معاونته ، هربوا جميعاً لما ألم به من شؤم ووضعوا التراب على رؤوسهم لما أصابه من غم ،

ثم أسرع رفيق من بين المريدين صوب الشيخ قائلاً له : يا من ألم بك الوهن ، سنرجع الليلة إلى الكعبة قافلين فبم تأمر ؟ أيجب إذاعة السر ؟

إما أن نتخذ المسيحية مثلك ديناً ونلحق المعرة بمذهبنا ، وإما أن نردك عن هذا الطريق مع أننا عدمنا الحيلة والوسيلة ، ولا يروق لنا أن تكون وحيداً هكذا ، لذا سنعقد الزنار مثلك هكذا ، ولكن إن نضعف عن رؤيتك على هذه الحال ، فسنسارع بالهرب بدونك من هذا المكان ، ثم نجلس معتكفين بالكعبة حتى لا نرى ما نراه في هذه اللحظة .

قال الشيخ : إن روحي غاصة بالآلام والعلل ، فسارعوا إلى أي مكان ترغبون في التو والحال ، وما دمت على قيد الحياة ، فحسبي أن يكون الدير مقري وكذا حسبي تلك الفتاة المسيحية التي تجدد روحي ، إنكم تدركون هل تحررتم أم لا ، وذلك لأنكم لم تسقطوا سقطتي،

فلو سقطت هذه السقطه لكنت رفيقي على الدوام في هذا الغم ، عودوا ثانية أيها الأعزاء فلا أعلم ماذا سيحدث أيضاً ، وأن تسألوا عني قولوا صدقاً ، 

فأين من دارت رأسه ممن زلت قدمه؟

هكذا غصت عيناه بالدم وفمه بالسم ، وكأنه قد سقط في فم تنين القهر ، ولا يرضى أي كافر في العالم عما فعله ذلك الشيخ قضاء وقدراً ،

فما أن أظهروا له وجه الفتاة المسيحية حتى لم يعد يطيق العقل والدين والمشيخة ، وما أن ألقت غدائرها كالحلقة في حلقه حتى لاكت ألسن الخلق جميعاً سيرته ، وأخيراً قال : " إن يقدم أحد على توبيخي ،

فقل ، ما أكثر من سقطوا في الطريق سقطتي ، ففي مثل هذا الطريق الطويل لا أبقيت يا إلهي من يأمن الخوف والخطر " ، قال هذا وأشاح بوجهه عن الرفاق ، ثم أسرع لرعاية الخنازير .

كم بكاه الرفاق لما ألم به من هموم وأحزان وكانوا يبكونه في كل زمان ، وفي النهاية قفلوا عائدين إلى الكعبة وظلت أجسادهم في هزال وأرواحهم في حرقة ، وأما شيخهم فقد ظل وحيداً في بلاد الروم ، وأسلم دينه للريح ،

وعكف على المسيحية ، ومن الخجل ظلوا جميعاً في حيرة واختفى كل فرد منهم في زاوية .

وكان للشيخ رفيق حصيف يقيم بالكعبة ، وقد تخلى بعظيم إرادته عن كل العلائق ، وكان غاية في رجاحة العقل ، كما كان للطريق هادياً ، وما كان لأي شيخ علم وبصيرة أفضل مما له ،

وعندما سافر الشيخ من الكعبة لم يكن هذا المريد موجوداً بها ، وعندما عاد إلى المكان ، وجد سراي الخلوة تخلو من شيخه ، فسأل المريدين عن حال الشيخ ،

فأعادوا عليه جميع أحوال الشيخ ، ثم قالوا : كل ما أصابه كان بفعل القضاء ، وما حدث له بتأثير القدر ،

لقد ربط غديرة الفتاة المسيحية بشعرة منه ، وأغلق الطريق على الإيمان من مائة جهة ، إنه يهيم الآن عشقاً بما لها من طرة وحال ، وقد تمزقت الخرقة كما أصبح حاله محالاً في محال ،

لقد تخلى عن كل شيء امتثالاً لأوامرها حتى أنه يعمل الآن في رعاية خنازيرها ، وفي هذا الأوان جعل السيد المهموم المسبحة ذات المائة حبة زناراً ،

وهذا الشيخ مع أنه ضحى بروحه في طريق الدين إلا أنه لا يستطيع الآن إدراك كفره لتمكنه منه .

ما أن سمع المريد تلك الواقعة ، حتى اربد وجهه وانهمر في البكاء بحرقة ،

وقال للمريدين : أيها الفسقة الفجرة يا من لا تشبهون في الوفاء الرجال أو النسوة ، إن الرفيق الحق واحد بين مائة ألف صديق وفي مثل هذا اليوم يظهر أثر هذا الرفيق ، فإن كنتم رفاق شيخكم فلم لم تبذلوا له عونكم ؟

فليصبكم الله بالخجل ، أهذا آخر الرفقة ؟ أهذا هو الإنصاف والمحبة ؟

عندما وضع ذلك الشيخ يده على الزنار كان يجب على الجميع عقد الزنار ، ولم يكن من الواجب الإفلات من جانبه عمداً ، بل كان واجب الجميع أن يكونوا نصارى ، فليست هذه هي الصحبة والوفاق بل ما فعلتموه

كان عين النفاق ، فمن كان مخلصاً للصديق عليه أن يحافظ على صداقته حتى ولو أصبح كافراً ،

ففي وقت الشدة يعرف الصديق ، أما في وقت السعادة فللإنسان ألف صديق ، ولكن عندما سقط الشيخ في فم التمساح ، هرب الجميع خوفاً من المعرة ، إن للعشق أساساً من سوء السمعة ، وعديم التجربة من ينكر هذا .

قال الجميع : لقد قلنا له كل ما قلته مرات ومرات بل قلنا أكثر منه ، وعزمنا على أن نظل جميعاً معه لنقضي العمر نشاركه فرحه وغمه ، ونبيع الزهد ونشتري الفضيحة كما نطرح ديننا جانباً ونختار المسيحية ،

ولكن رأي شيخنا المجرب أن نبتعد عنه كلية فعندما لم يجد من صحبتنا أي نفع له سارع بإبعادنا عنه ، فرجعنا جميعاً امتثالاً لأمره ، وها قد ذكرنا القصة ولم نخف شيئاً من سره .

بعد ذلك قال للأصحاب ذلك المريد ، أما كان لعملكم من مزيد ؟

لا مكان لكم سوى أعتاب الحق ، فكان الواجب أن تكونوا في حضور دواماً ، كما كان الواجب أن يتسابق كل واحد منكم في التضرع إلى بارئكم ،

فما أن يراكم الحق لا يقر لكم قرار فسرعان ما يرد عليكم شيخكم بلا انتظار ، فإن كنتم قد تحررتم من شيخكم فلم رجعتم عن باب خالقكم ؟

ما أن سمع الجميع القول ، حتى طأطأ الجميع الرؤوس من العجز ، فقال أحدهم : أي فائدة من الخجل الآن لقد وقعت الواقعة ،

فهيا ننهض مسرعين علينا بأن نلزم أعتاب الحق ، وننثر التراب تضرعاً وعلينا أن نرفع ضراعتنا حتى نصل في النهاية إلى شيخنا .

رحل الجميع من بلاد العرب إلى الروم ، وظلوا معتكفين مختفين طوال الليل والنهار ، ولزم كل واحد أعتاب الحق يكثر من التضرع أحياناً ومن النحيب أحياناً ، وظلوا هكذا أربعين يوماً وليلة بالتمام ، ولم يشيحوا مطلقاً عن أول مقام ، وقضوا الأربعين ليلة دون نوم أو طعام ،

وكذا الأربعين يوماً دون خبز أو ماء ، ومن تضرع هؤلاء القوم الأطهار ، أصيب الفلك بالهياج والغليان ، وارتدى الملائكة في هبوطهم وصعودهم لباس المأتم الأزرق .

وفي نهاية الأمر أصاب سهم دعاء ذلك المقدام هدفه ، فبعد أربعين ليلة كان ذلك المريد الطاهر يقيم في الخلوة ومن نفسه قد تطهر ،

وفي الصباح هبت عليه ريح مسكية فانكشفت الدنيا أمام قلبه واضحة جلية ، ورأى المصطفى مقبلاً كالبدر ، وقد أسدل على صدره ذؤابتين سوداوين ، وكان ظل الحق بادياً في شمس وجهه كما كانت كل مائة روح دنيوية تساوي شعرة واحدة منه ، جاء متهادياً في مشيته مبتسماً ،

فكان يفني نفسه فيه كل من رآه ، وعندما رآه ذلك المريد قفز من مكانه قائلاً : أعني يا رسول الله وخذ بيدي ، يا هادي الخلق بمشيئة الله ، لقد ضل شيخنا الطريق ، فاهده .

قال المصطفى : يا من يتصف بعلو همته ، تقدم ، قد خلصت شيخك من ربقته ، ولتجعل الهمة العالية شغلك ولا تنطق بحرف حتى تمثل أمام شيخك ، لقد كان يفصل الشيخ عن الحق من زمن مديد غبار ذو سواد شديد ،

فرفعنا هذا الغبار من طريقه وما تركناه وسط ظلمته ، ومن أجل الشفاعة نثرت قطرات ندى كثيرة على كل زمانه ،

والآن وقد تلاشى الغبار من طريقه وحلت التوبة وولت المعصية ، فاعلم يقيناً أن مائة عالم من المعصية تتلاشى من الطريق أمام زفرة توبة واحدة ، وإذا تحركت أمواج بحر الإحسان فإنها تمحو ذنوب الرجال والحسان .

قال المصطفى له هذه الكلمات القليلة عن شيخه ثم اختفى من أمام نظره .

ذهب الرجل لما ألم به من مسرة ، وصاح فامتلأت السماء جلبة ، وأخبر جميع الرفاق وبشرهم ، وعزم على قطع الطريق ، فسار بأصحابه منتحباً مهرولاً ، حتى أدركوا الشيخ لدى الخنازير ،

فرأوا الشيخ مسروراً وسطها وكالنار لا يقر له قرار بينها ، وكان قد طرح الناقوس من فمه كما كان قد قطع الزنار من حول وسطه ، وألقى عمامة الشرك ، كما طهر قلبه من المسيحية .

ما أن رأى الشيخ رفاقه من بعيد ، حتى رأى نفسه يتوسط لجة من نور ، وخجلاً مزق الرداء الذي كان يرتديه ، وبيد العجز والذلة نشر التراب على رأسه ، وكان أحياناً يذرف دمعاً دامياً كالمطر ،

وأحياناً ينفض يده من روحه الزكية ، وكانت حجب الفلك تحترق بآهاته كما كانت دماؤه تحترق حسرة على ما أصاب جسده ، وعادت إليه دفعة واحدة كل ما ضاع منه من حكمة وأسرار وقرآن ومعرفة ،

عادت كلها إلى ذاكرته جملة ، وتحرر من الجهل والذلة ثانية ، وما أن اطلع على حاله ، حتى خر ساجداً منتحباً ، وتخضب كالوردة بدماء قلبه وتصبب عرقاً من شدة خجله .

لما رآه أصحابه على هذه الحال ، أخذوا بما أصابه من هموم وسرور ، فساروا صوبه حيارى ، ونثروا أرواحهم شكراً لله ،

وقالوا للشيخ : يا من تكشفت الحجب أمامك لقد انقشع السحاب ثانية من أمام شمسك وولى الكفر من طريقك ، وحل الإيمان ، وانقضت عبادة أصنام الروم واستقرت عبادة الرحمن ،

وتحركت أمواج بحر القبول حيث أصبح شفيعك الرسول ، فوجب شكر عالم العالم في هذا الزمان ، فاشكر الحق فما أقساه من موقف محزن والمنة لله ، إذ أوجد وسط بحر القار طريقاً واضحاً كالشمس ،

ومن يعرف كيف يجعل الظلمة نوراً يعرف كيف يمنح التوبة للمكثرين الذنوب ، إذ عندما يشعل نار التوبة فإنها تحرق كل الذنوب ولا تذر .

وعند هذا الحد أختصر القصة ، فنهايتها العزم على قطع الطريق ، حيث اغتسل الشيخ وارتدى الخرقة مرة أخرى ، وتوجه مع رفاقه صوب الحجاز .

بعد ذلك رأت الفتاة في منامها أن الشمس سقطت بجوارها ، وفتحت الشمس فمها في ذلك الوقت

وقالت : عليك بالإسراع خلف شيخك واعتنقي مذهبه وكوني ترابه ، ويا من دنسته كوني على طهره ، فحينما جاءك كان يسير في طريقك من باب المجاز ، فعليك أن تسلكي أنت طريقه من باب الحقيقة ،

 لقد قطعت عليه طريقه فتقدمي أنت إلى طريقه ، وعندما جاء إلى الطريق كان يجب أن تكوني له خير رفيق ، لقد وليت عن طريقه فاسلكي الطريق إليه ، وما أكثر ما ترديت في الغفلة فلتفيقي منها .

ما أن استيقظت الفتاة المسيحية من نومها حتى انبثق النور كالشمس من قلبها ، وأفعم قلبها بالألم ويا للعجب ، وهكذا لم يعد يقر لها قرار ،

وتلك الآلام من الطلب قد أضرمت النار في روحها الثملة ، فأصبحت واهنة حيث ضاع منها قلبها ، ولم تعد تعلم ماذا يمكن أن ينتج عن روحها المضطربة ، وقد رأت نفسها إحدى عجائب العالم ،

حيث اضطرب أمرها كما عدمت الرفيق والعالم الذي يخلو من علامات الطريق ، الصمت فيه واجب وليس للسان أن ينطق .

ويا للعجب لقد كانت قبل الآن تظهر الكثير من التدلل والطرب ، ولكنها الآن أسرعت مولولة ممزقة الأردية ، أسرعت ناثرة التراب على رأسها مخضبة بالدماء ، وبقلب مفعم بالألم وجسد عاجز واهن ،

 أسرعت خلف الشيخ والمريدين ، وهرولت غارقة في العرق وكأنها السحاب وجرت في أثرهم وهي غاية في الاضطراب .

 

سارت بين الصحاري والقفار وهي لا تعرف أين المسار ، وأخذت تشكو شدة عجزها واضطرابها كما أخذت تمسح التراب بوجهها ،

ثم صاحت قائلة : إلهي الكريم المسير للأمور ، إنني إمرأة عاجزة عن إتيان أي أمر ، ولقد قطعت الطريق على رجل خليق بك فلا تقطع علي الطريق ، فقد كان جهلاً مني ذلك ، ولتكف بحر غضبك عن الاضطراب ،

 لقد تصرفت بجهل وأخطأت فتجاوز عني ، وكل ما فعلته لا تؤاخذني به أنا المسكينة ، ولقد قبلت الدين فلا تقبلني مارقة بلا دين .

بالداخل أخبر الشيخ بحضور الفتاة المسيحية بالخارج وقيل له : لقد تعرفت على أعتابنا واستقر أمرها على سلوك طريقنا ، فعد وتقدم صوب معشوقتك وكن رفيقاً أنيساً لمحبوبتك .

عاد الشيخ في الحال من الطريق وكأنه الريح ، فدب الاضطراب مرة أخرى بين مريديه حتى قالوا جميعاً : ما هذا التهور ؟

وما هذه التوبة ثم العجلة والتسرع ؟

أتعود ثانية إلى العشق ؟

لعلك تبت توبة غير نصوح ، فشرح الشيخ لهم حال الفتاة حتى أقر كل من سمع ذلك بترك الروح ، بعد ذلك عاد الشيخ وأصحابه إلى حيث توجد الفاتنة ، فرأوا وجهها في صفرة الذهب كما فقدت غدائرها لكثرة ما بالطريق من تراب ، رأوها حاسرة الرأس حافية القدم ممزقة الثياب وقد رقدت كما يرقد الميت على التراب .

ما أن رأت الفتاة شيخها حتى أصاب الإغماء الجريحة قلبها فما أن استسلمت الفتاة في إغمائها حتى نثر الشيخ دموع عينيه على وجهها ، وحينما وقع نظر المعشوقة على الشيخ انهمرت دموعها كسحابة الربيع ،

وألقت عينها على عهد وفائه وطرحت نفسها بين يديه وقدميه وقالت : لقد احترقت روحي لما ألم بك من اضطراب ،

فلم أستطع تحمل الحرقة أكثر من هذا وراء تلك الحجب ، فاطرح هذه الحجب حتى أكون على بصيرة واعرض علي الإسلام حتى أسلك الطريق .

ما أن عرض الشيخ الإسلام على الفتاة حتى ثارت الضوضاء بين جميع الأصحاب ، وما أن أصبحت الفتاة من أهل العيان حتى ذرف الجميع بحاراً من الدمع ،

وفي النهاية بعد أن أدركت المعشوقة طريقها سرعان ما وجدت المعرفة وسرى ذوق الإيمان في قلبها ، ومن حلاوة الإيمان لم يعد يقر لها قرار ، وأحاطت بها الهموم دون أن يكون لها مواس

فقالت : أيها الشيخ لقد وهنت طاقتي وما عدت أحتمل الفراق ، سأودع هذه الدنيا المليئة بالصداع فالوداع يا شيخ صنعان الوداع ، فإذا نضب معين كلامي فاعف عني أنا العاجزة ولا تخاصمني .

قالت الفتاة هذا القول وأسلمت الروح ونثرت على الحبيب ما تبقى لها من روح ، واختفت شمسها تحت الغيوم .

وا أسفاه لقد تخلت عنها روحها ذات الهموم ، ولقد كانت في بحر المجاز مجرد قطرة ، فأسرعت بالعودة صوب بحر الحقيقة ،

ونحن جميعاً سنرحل عن هذا العالم كالريح ، إنها قد ولت ونحن جميعاً سنرحل كذلك ، ما أكثر ما يحدث مثل هذا في طريق العشق ويعرف هذا كل شخص أدرك العشق ،

وكل ما يقال في الطريق في حيز الإمكان ففيه الرحمة واليأس والكفر والإيمان ، ولن تستطيع النفس إدراك هذه الأسرار ، كما أن النجس لا يستطيع أن ينال سبقاً ، ويجب أن يسمع هذا بإذن الروح والقلب لا أن يسمع بما صنع من الماء والطين اللازب ،

وفي كل لحظة تشتد المعركة بين القلب والنفس فأكثر من النواح فالحزن شديد وقاس .

التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: