الأربعاء، 13 مايو 2020

تاسعا شرح الأبيات 449 - 494 الجيلي يروي سيرته الروحية الجزء الخامس .كتاب إبداع الكتابة وكتابة الإبداع لشرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية

تاسعا شرح الأبيات 449 - 494 الجيلي يروي سيرته الروحية الجزء الخامس .كتاب إبداع الكتابة وكتابة الإبداع لشرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية

تاسعا شرح الأبيات 449 - 494 الجيلي يروي سيرته الروحية الجزء الخامس .كتاب إبداع الكتابة وكتابة الإبداع لشرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية

كتاب إبداع الكتابة وكتابة الإبداع عين على العينية العارف بالله عبد الكريم الجيلي شرح معاصر للقصيدة العينية د. سعاد الحكيم 

تاسعا الأبيات من ( 449 ) إلى ( 494 ) الجيلي يروي سيرته الروحية  الجزء الخامس

(449) وغيّبت عن تلك المشاهد كلّها   .....   وعنّي وعن غيبوبتي أنا زامع

(450) فلا أنا إن حدّثت يوما مخاطب ،   .....   وإن أسمعوني القول ما أنا سامع

(451) ولا أنا إن كلّمتهم متكلّم   .....   ولا أنا إن هم نازعوني منازع

(452) فلمّا فنى منّي وجود هويّتي   .....   وباع البقا بالموت من هو بائع

(453) خبتني فكانت فيّ عنّي نيابة   .....   أجل عوضا ، بل عين ما أنا واقع

(454) فكنت أنا هي وهي كانت أنا وما   .....   لها في وجود مفرد من ينازع

(455) بقيت بها فيها ولا تاء بيننا .....   وحالي بها ماض كذا ومضارع

(456) ولكن رفعت النّفس فارتفع الحجا   .....   ونبّهت من نومي فما أنا هاجع

(457) وشاهدتني حقّا بعين حقيقتي    .....   فلي في جبين الحسن تلك الطلائع

(458) جلوت جمالي فاجتليت مراءتي.....   ليطبع فيها للكمال مطابع

(459) فأوصافها وصفي ، وذاتي ذاتها   .....   وأخلاقها لي في الجمال مطالع 

(460) واسمي حقّا اسمها ، واسم ذاتها   .....   لي اسم ولي تلك النّعوت توابع    

(461) فشمسي في أفق الألوهة مشرق   .....   وبدري في شرق الرّبوبة طالع

(462) ونفسي بالتّحقيق يا صاح نفسها   .....   وليس لتوحيدي من الشّرك رادع

(463) فمن نظرتها عينه فهو ناظري ،   .....   وتبصرها عين إليّ تطالع

(464) ويمدحها بالشّكر من هو مادحي.....   ويثني بحمدي من لها الحمد رافع

(465) ويعبدني بالذّات عابدها ، كما   .....   لها خضعت أحشاء من لي خاضع

(466) تجيب إذا نوديت باسمي ، وإنّني   .....   مجيب إذا ناديتها ، لك فازع

(467) وقد محيت أوصافنا في ذواتنا    .....   كما فنيت عنّي نعوت ضرائع

(468) فأفنيتها  حتّى  فنيت  ولم    .....   ولكنّني  بالوهم  كنت أطالع

(469) كذا الخلق فافهم ، إنّه متوهّم  .....   وهذا فقشر كي يضلّ مخادع

(470) وها هي ما كانت سوى مخزن ولي.....   هناك من الحسن البديع بدائع

(471) فلمّا قبضت الإرث من مخزن الهوى   .....   تناقض عن جدرانه ، فهو واقع

(472) فكانت كعنقا مغرب وصفت وما   .....   حوت غير ذاك الوصف منها البقائع

(473) هي الذّات طاحت إن عرفت إشارتي   .....   نجوت وإلّا فالجهالة خادع

(474) وهاك حديث المنحنى غير أنّه   .....   على الورد من قشر الكمام قمائع

(475) غزال لها عينان بالسّحر كحّلا   .....   فواحدة فقعا وأخرى فواقع

(476) كثوب له طول ولكنّ لونه   .....   حكى ورق الرّيحان اخضر يانع 

(477) فما الطّول إلا الثوب واللون عينه   .....   إذ الحكم للمحكوم في الأمر تابع

(478) وما الثّوب طولا لا ، ولا الّلون ذاته   .....   وما ثمّ إلا الثّوب تلك المجامع

(479) زرعت لك المعنى بلفظي فاجن ما .....   منحتك من أثمار ما أنا زارع

(480) فإنّي لمّا أن تبدّت هويّتي   .....   خفيت ، وإن تغرب فإنّي طالع

(481) وليست سواي لا ولست بغيرها.....   ومن بيننا تاء المخاطب ضائع

(482) فإنّي إيّاها بغير تأوّل   .....   كما أنّها إيّاي ، والحقّ واسع

(483) فكلّ عجيب من جمالي مشاهد.....   وكلّ غريب من كمالي شائع

(484) وكلّ الورى طرّا مظاهر طلعتي   .....   مراء بها  من حسن وجهي لامع 

(485) ظهرت بأوصاف البريّة كلّها   .....   أجل في الكلّ نوري ساطع

(486) تخلّقت بالتّحقيق في كلّ صورة ،   .....   ففي كلّ شيء من جمالي لوامع

(487) وما الكوّن في التّمثال إلا كدحية    .....   تصوّر روحي فيه شكل مخادع

(488) فصفني بأوصاف الأنام جميعها.....   فإنّي لذيّاك المحاسن جامع

(489) وعن كلّ تشبيه فإنّي منزّه ،   .....   وفي كلّ تنزيه فإنّي مضارع

(490) وجسمي للأرواح روح مدبّر.....   وفي ذرّة منه الأنام  جوامع

(491) ولو لم يكن في الحسن منّي لطيفة   .....   لما كانت الأجفان فيّ تطالع

(492) ولولا لذاتي في الكمال محاسن   .....   تلوح لما مالت إليها الطّبائع

(493) فهيكل شخصي كلّ فرد بسيطه   .....   لجوهر أنواع المحاسن جامع

(494) إنّي على تنزيه ربّي لقائل.....   بأوصافه عنّي فحقّي صادع

 شرح الأبيات :-

( 449 ) وغيّبت عن تلك المشاهد كلّها   .....   وعنّي وعن غيبوبتي أنا زامع

المفردات :

وغيبت : وذهبت عن الإحساس . المشاهد : جمع  مشهد ، وهو ما يشاهد السالك في عالم الحس من معان معقولة وروحانية .

أنا زامع : أنا غائب ، ذاهل .

المعنى :

يخبرنا الجيلي عن شهوده وذهوله في مواطن الشهود ، يقول ؛ وغبت عن مشاهدة فنائي وجمعي . . . حتى أنني عني وعن غيبوبتي أنا غائب ، ذاهل.


 ( 450 )فلا أنا إن حدّثت يوما مخاطب ،   .....   وإن أسمعوني القول ما أنا سامع

المفردات :

فلا أنا إن حدثت يوما مخاطب : إن حدثت الناس يوما ، فلست أنا الذي أخاطبهم .

ما أنا سامع : لا أسمعهم .

المعنى :

يخبرنا الجيلي هنا أنه حاضر لمحبوبه فقط ، وظاهره يتعامل مع الناس بما يناسب ، فيقول ؛ إن حدّثت الناس فلست أنا الذي يتكلم معهم ويخاطبهم ، ولو اسمعوني القول لا أسمعهم .

وهذا الفصل بين البدن والقلب ، بحيث ينتسب البدن إلى عالم الناس ، وينتسب القلب إلى المحبوب وتسكن الأنا فيه ، مألوف لدى عشاق الصوفية .

وهذه سيدة العشق رابعة تقول : فالجسم مني للجليس مؤانس ، وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي ...

فالعاشق وإن غاب وجدا في مشاهدة معشوقه ، فإن بدنه يستمر في تأدية وظيفته الحياتية والاجتماعية.


 ( 451 )ولا أنا إن كلّمتهم متكلّم   .....   ولا أنا إن هم نازعوني منازع

المفردات :

ولا أنا إن كلمتهم متكلم : حتى لو كلمت الناس فلست أنا المتكلم .

نازعوني : خاصموني . منازع : مخاصم .

المعنى :

يتابع الجيلي تفصيل حضوره للّه ، وأن الأنا التي تخصه لا تشعر بحضور الناس وإن كانت تتعامل معهم ، يقول ؛ حتى لو كلمت الناس ، فالناظر يراني أكلمهم ، ولكنني غائب عن كوني متكلما .....

وكذلك فإن خاصموني أو جادلوني ، فقد يراني الناظر أجادلهم وأنازعهم ، ولكنني غائب عن كوني مجادلا لهم ومنازعا .

 

( 452 ) فلمّا فنى منّي وجود هويّتي   .....   وباع البقا بالموت من هو بائع

المفردات :

فلما فنى مني وجود هويتي : إشارة إلى فناء الهوية .

وباع البقا بالموت : وكان الموت هو ثمن البقاء ، بمعنى اشترى الجيلي البقاء باللّه ودفع موته ثمنا لذلك .

المعنى :

يقول الجيلي ؛ ولما فنيت هويتي ، اشتريت بقائي باللّه ، ودفعت موتي ثمنا لهذا البقاء .

ونلاحظ هنا أن العبد بعد فنائه سيترقى في مراتب البقاء ، وبقاء العبد هو بقاء مظهري يتلقى تجليات الحق تعالى ، تجليات الأفعال والأسماء والصفات ؛ وهذا ما سيفصّله الجيلي في الأبيات اللاحقة حيث نرى العبد في قمة فنائه وذهاب هويته قد أصبح محلا للتجليات الإلهية ، ففارق بذلك مرتبته الكونية وتحقق بمرتبته القدسية ...

 

( 453 ) خبتني فكانت فيّ عنّي نيابة   .....   أجل عوضا ، بل عين ما أنا واقع

المفردات :

خبتني : خبّأتني ، أي سترتني وأخفتني . فكانت فيّ عني نيابة : كانت الحضرة الإلهية قائمة فيّ ، نائبة عني . أجل عوضا : بدلا مني . بل عين ما أنا واقع : بل عين الأنا التي تخصني ، عين ذاتي .

المعنى :

أخفت الحضرة الإلهية الجيلي وسترته ، وتجلّت نيابة عنه ، عوضا وبدلا منه . . . بل تجلّت به وكانت عين ذاته .

يقول الجيلي في [ الإنسان الكامل ج 1 / ص 37 ] ، باب تجلي الأسماء : “ فإذا

تجلى الحقّ لعبده من حيث اسمه اللّه ، فني العبد عن نفسه ، وكان اللّه عوضا عنه له فيه ، فخلّص هيكله من رقّ الحدثان ، وفكّ قيده من قيد الأكوان ، فهو أحديّ الذات وأحديّ الصفات ، لا يعرف الآباء والأمهات .

فمن ذكر اللّه فقد ذكره ، ومن نظر اللّه فقد نظره ، وحينئذ أنشد لسان حاله بغريب عجيب مقاله : خبتني فكانت فيّ عني نيابة ( . . . ) واسمي حقا اسمها واسم ذاتها     ( . . . ) “  ويورد الجيلي في هذا النص من كتابه الإنسان الكامل الأبيات كاملة من رقم 453 إلى رقم 460 .


( 454 ) فكنت أنا هي ، وهي كانت أنا وما   .....   لها من وجود مفرد من ينازع

المفردات :

هي : الإشارة إلى الحضرة الإلهية .

المعنى :

يفصّل الجيلي هنا معنى بقاء العبد باللّه ، ويبين كينونة الإنسان الفاني حين يتجلى عليه الحق تعالى باسمه اللّه . وهي كينونة خاصة ، يبقى فيها العبد باللّه بعد فناء أنيته وهويته .

فالعبد هنا فان ، وهو في فنائه يذهب ، ولا يبقى إلا الحق ؛ لذلك يقول الجيلي : “ أنا هي “ ، لأنالأنا “ لا وجود لها بل فنيت في “ هي “ ؛ و “ هي “ أي الحضرة ، هي التي تقوم نيابة عن العبد الفاني ؛ لذلك يقول : “ وهي كانت أنا “ . . . .

باختصار ، حين يتجلى الحق على عبد فالفناء للعبد والبقاء للحق عزّ وجلّ ، وليس له تعالى من ذات العبد منازعا ينازعه الوجود .

 

( 455 ) بقيت بها فيها ولا تاء بيننا   .....   وحالي بها ماض كذا ومضارع

المفردات :

بها : بالحضرة الإلهية . فيها : في الحضرة الإلهية . ولا تاء بيننا : ارتفع من بيننا الخطاب ، فلا يخاطب أحدنا الآخر مناديا إياه ب “ يا ، أو يستخدم ضمير المخاطب وهو التاء فيقول أكلت وشربت . . .

وحالي بها ماض كذا ومضارع : وحالي الحاضر هو كما كان في الماضي وكما سيبقى في المستقبل ، إنه هو هو .

المعنى :

يخبرنا الجيلي عن بقائه بعد الفناء ، يقول ؛ بقيت بعد فنائي بإبقاء الحق لي ، بقيت بالصفات الإلهية ، مستهلكا في حضرة الحق لا وجود لي خارجها . .

ولكنه بقاء لا تعبّر عنه أثنينيّة المخاطِب والمخاطَب . . [ورد في اللمع للطوسي ص 461 ،463 ] من شطحات أبي يزيد : “ لا يبلغ المتحابان حقيقة المحبة حتى يقول الواحد للآخر : يا أنا .

ويقول أبو يزيد : ألبسني أنانيتك حتى إذا رآني خلقك قالوا : رأيناك ، فتكون أنت ذاك ، ولا أكون أنا هناك “ . . ..

ويعلق الطوسي بقوله ؛ "هذا وأشباه ذلك يصف فناء الصوفي ، وفناءه عن فنائه ، وقيام الحق عن نفسه بالوحدانية ، وكل ذلك في حديث قرب النوافل " .

 

( 456 ) ولكن رفعت النّفس فارتفع الحجا   .....   ونبّهت من نومي فما أنا هاجع

المفردات :

رفعت النفس : أزلت النفس ورفعت حكمها . الحجا : العقل . فما أنا هاجع : لن أهجع ، فما أنا غافل .

المعنى :

يتابع الجيلي تفصيل فنائه ، ويعلّمنا هنا من تجربته الشخصية أن نفوسنا البشرية هي حجاب يحجبنا بالهوى عن رؤية الحق ، وأنها أيضا تستخدم العقل وحججه ليزين الباطل بوهم الصواب ،

فيقول ؛ “ ولكن رفعت النفس فارتفع الحجا “ بمعنى أنه حين قهر نفسه ورفع أحكامها ولم يبق لها حكما ينفذ في الحياة ، وجد أن حكم العقل قد ارتفع معها .

والسبب الذي جعل الجيلي يربط بين النفس وبين الحجج العقلية هو أنه حين تكون النفس أمارة بالسوء فإنها تستخدم العقل وحججه لإنفاذ أهوائها .

والعقل في مقدوره أن يقارب بحجة منطقية بين مطالب النفس وبين مذاهب الشريعة . باختصار ، إن العقل في استطاعته أن يشرّع الهوى ، ويبرّر الأحقاد .

ولكن عندما تطمئن النفس وتسكن إلى الحق لا تأمر بهوى ، لذلك تنتفي أهمية المجادلة العقلية ، وتتجلى الشريعة ساطعة لا ينازعها عقل ولا نفس .

وحين تتجلى الشريعة ساطعة فكأنما الجيلي كان نائما وانتبه ، والناس - على ما ورد في الحديث الشريف - نيام إذا ماتوا انتبهوا .

والجيلي هنا يخبرنا أنه بعد موت نفسه وموت مطالبها انتبه من غفلته وحضر مع اللّه عزّ وجلّ ، وأنه بعد هذا الانتباه والحضور لن يغفل ثانية أبدا .

 

( 457 ) وشاهدتني حقّا بعين حقيقتي   .....   فلي في جبين الحسن تلك الطلائع

المفردات :

شاهدتني : شاهدت نفسي . حقا : إنني حق . بعين حقيقتي : في حقيقة وجودي . الطلائع : جمع  طلعة .

المعنى :

يتابع الجيلي مسيرته في الفناء ، ويخبرنا عما يجد بقوله ؛ حين فنيت عن نفسي وانتبهت من غفلتي ، فارقت رتبتي الكونية وحصّلت بقائي باللّه ورتبتي القدسية ، عندها شاهدت نفسي على حقيقتها ، وعلمت أن جوهر وجودي هو : حق .

 ونقول إن كان المحاسبي يرى أن العقل هو جوهر الإنسان ، ويرى الصوفية عامة أن جوهر الإنسان إرادة ، فإن الجيلي يرى أن الحق هو جوهر الإنسان . يقول في الإنسان الكامل [ 1 / 70 ] : “ والحق عند العارفين [ هو ] حقيقة ذواتهم “ .

نتساءل ماذا يقصد الجيلي بقوله : “ إن الحق هو جوهر الإنسان الكامل “ .

هل يريد أن يقول إن الإنسان في تدرجه إلى الكمال يقارب الاتحاد باللّه وتنتفي إثينيّة الخالق والمخلوق ، أو أن الإنسان عند وصوله إلى الكمال يصير هو اللّه ؟!

كلا ، لأن هذا التفكير ينافي العقل ، على حد تعبير الإمام الغزالي ؛ وتتلخص رؤية الجيلي بأن الإنسان بعد أن يتجلى له اللّه عزّ وجلّ ، يسحقه ويمحقه ثم يمحوه ويفنيه عن نفسه وعن كل شيء ، ولا يتركه الحق عزّ وجلّ مغيّبا في فنائه مستغرقا في العدم ، بل يقيم فيه لطيفة إلهية ، وهذا ما نسميه بمقام “ البقاء باللّه “ .

وهذه اللطيفة الإلهية التي تقوم في العبد نيابة عن وجوده السابق قد تكون ذاتية وقد تكون صفاتية ، وعليها تقع كل التجليات الإلهية ، من تجليات أسمائية أو صفاتية أو فعلية ...

وإن كانت اللطيفة الإلهية المقامة في العبد الفاني ذاتية ، يصبح الهيكل الإنسانيّ لهذا العبد هو الفرد الكامل والغوث الجامع ، وعليه يدور أمر الوجود ، وهو الخليفة لا يحجب عنه شيء ويفعل ما يشاء بقدرته تعالى : [ راجع الإنسان الكامل ، ج 1 / ص 44 ] .

 

( 458 ) جلوت جمالي فاجتليت مراءتي   .....   ليطبع فيها للكمال مطابع

المفردات :

جلوت : أظهرت ، والجلوة ضد الخلوة . فاجتليت مراءتي : صقلت مراءتي وهيّأتها . مطابع : جمع مطبع بمعنى نقش .

المعنى :

وبعد أن شاهد الجيلي حقيقة وجوده ورأى أنه لطيفة إلهية قائمة بإقامة اللّه لها ، وإنه ليس سوى مرآة تظهر عليها الكمالات الإلهية ، صقل هذه المرآة وجلاها حتى تظهر فيها نقوش الكمال على أكمل صورة وأتمها .

والإنسان الكامل ، أي الفاني عن نفسه والباقي بالحق ، هو مرآة الاسم اللّه ، الجامع للأسماء والصفات . [ راجع الإنسان الكامل ، 1 / 16 ] .

 

( 459 ) فأوصافها وصفي ، وذاتي ذاتها   .....   وأخلاقها لي في الجمال مطالع

المفردات :

فأوصافها : أي أوصاف الحضرة الإلهية . مطالع : جمع مطلع ، موضع الطلوع .

المعنى :

وحين نقشت الكمالات الإلهية على مرآة الجيلي تجلى التوحيد ساحقا كل شريك ، فما ثمة وصف في الوجود ولا ثمة ذات في الكائنات تدّعي البقاء أمام تجلّي الحق تعالى . فأوصاف الحضرة تسحق أوصاف العبد وتظهر على مرآته ، وذاته تفنى فلا يبقى إلا ذات الحضرة المتجلي ، ويظهر العبد بأخلاقها في كل حسن مرئي .

لذلك قال الجيلي فأوصافها وصفي ، وذاتي ذاتها ، وأخلاقها لي في الجمال مطالع .

 

( 460 ) واسمي حقّا اسمها ، واسم ذاتها   .....   لي اسم ، ولي تلك النّعوت توابع

المفردات :

واسمي حقا اسمها : أي ما يدل عليّ يدل على الحضرة ، لأن الاسم هو الدلالة على المسمى . واسم ذاتها : الدلالة على ذاتها .

المعنى :

يرى الجيلي أنّ اللّه سبحانه خلق الإنسان على صورته تعالى ، حيا عليما قادرا مريدا سميعا بصيرا متكلما ، وحلّاه بأوصافه وسمّاه بأسمائه ، فهو تعالى الحي والإنسان هو الحي وهكذا ....

فانضاف إلى الإنسان جميع ما للحق ، ثم تفرد الحق بالكبرياء والعزة ، وانفرد الإنسان بالذل والعجز [ را جع الإنسان الكامل ج1 - ص 9 - 51 ].

وتجدر هنا الإشارة إلى أنه ما كل إنسان يتمتع بالصورة التي يؤكد الصوفية على إبرازها والتحقق بها ، وذلك لأن الإنسان بعد خلقه في أحسن تقويم قد تطرأ عليه علل كونية تحط به من على تكوينه إلى حضيض حيوانيته ، كما أنه قد يرقى بالسلوك إلى رتبة قدسيته ويتحقق بكونه صورة الكمالات ومرآتها .

 

( 461) فشمسي في أفق الألوهة مشرق   .....   وبدري في شرق الرّبوبة طالع

المفردات :

الألوهة : الألوهية هو اسم للمرتبة الجامعة لحقائق جميع الموجودات بما فيها الأضداد ، والتي تعطي كل ذي حق حقه من مراتب الوجود ، ولا يكون ذلك إلا لذات واجب الوجود تعالى وتقدس [ راجع الإنسان الكامل ، ج1 23]..

مشرق : ظاهر ، والشروق إشارة إلى الظهور كما أن الغروب هو إشارة إلى البطون .

الربوبة : الربوبية هو اسم للمرتبة المقتضية للأسماء التي تطلبها الموجودات ، فدخل تحتها الاسم العليم والسميع والبصير والقيوم والمريد وغير ذلك ، لأن كل واحد من هذه الأسماء والصفات يطلب ما يقع عليه ، والربّ لغة هو المصلح المدبّر ، لذلك بالربوبية ينظر الرحمن إلى الموجودات [ راجع  الإنسان الكامل ج1 :29 ] .

المعنى :

يقول الجيلي ؛ إنه بعد فنائه ، أشرقت شمسه وطلع بدره .

وأشرقت شمسه بمعنى : أنه ظهر في أفق صفة الألوهة ، ونتج عن ذلك أنه أعطى كل ذي حق حقه من ذاته ...

وطلع بدره بمعنى : أنه ظهر متصفا بصفات الربوبية ، ونتج عن ذلك أنه ينظر إلى الخلق بعين الرحمة والتواصل .

 

( 462 ) ونفسي بالتّحقيق يا صاح نفسها  .....  وليس لتوحيدي من الشّرك رادع

المعنى :

يؤكد الجيلي هنا على المعنى الذي بدأه منذ البيت رقم ( 453 ) ، وهو فناؤه عن نفسه وبقاؤه بالحق ، هذا البقاء الذي تجلى على صورة توحيد خلّص شهود الجيلي من كل ظل أو شبهة يمكن أن تجرح نقاء التوحيد ، فلا نفس ولا صفة ولا اسم ولا رسم ولا أي شيء يقوم في الجيلي ويمنعه أو يردعه عن التوحيد التام الكامل ....

ولنستمع إليه يقول في المعنى نفسه [ الإنسان الكامل ، 1 / 53 ] : “ وكن أنت بلا أنت ولا أنت ، بل يكون اللّه هو المدبّر لك كيفما شاء ، أعني كما تقضيه أوصافه والأسماء .

فأرم بهذا القشر الساتر ، وكل اللباب الزاهر ، وافهم حقيقة وجهّت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين “ .

 

( 463 ) فمن نظرتها عينه فهو ناظري   .....   وتبصرها عين إليّ تطالع

المعنى :

يقول الجيلي : “ فمن نظرتها عينه فهو ناظري “ ، بمعنى أن من ينظر إلى الحضرة يره ...

ومن جهة ثانية : “ تبصرها عين إليّ تطالع “ أي من ينظر إلى الجيلي ير الحضرة . فالإنسان هنا امّحت صفاته الشخصية ليصبح مرآة تظهر عليها الكمالات الإلهية ، لذلك إحدى صفات الولي كما ورد في الخبر أن تذكّر رؤيته باللّه .

 

( 464 ) ويمدحها بالشّكر من هو مادحي  .....   ويثني بحمدي من لها الحمد رافع

المفردات :

ويثني بحمدي : يقول الجيلي في الإنسان الكامل [ ج 2 / 83 ] :

حقيقة الثناء أن تتصف بما وصفته به من الاسم أو الصفة التي أثنيت عليه وحمدته بها “ ؛ بكلام آخر ، يعني أن يثني عبد على ربّه هو أن يتصف بما أثنى عليه به من صفة أو اسم ، فإن أراد مثلا أن يحمد اللّه عزّ وجلّ باسمه الكريم فحقيقة حمده هي أن يتصف بالكرم وهكذا ...

المعنى :

يرى الجيلي إن من يمدحه ويثني عليه فهو في حقيقة الأمر يمدح الحضرة الإلهية ويثني عليها ...

ومن يرفع الحمد إلى الحضرة فهو في الوقت نفسه يحمد الجيلي ....

والواقع أن المدح والثناء من جهة والشكر والحمد من جهة ثانية معان متقاربة ، إلا أن المدح والثناء تستوجبهما صفات الممدوح نفسه ، لذلك لا نحصي ثناء على اللّه عزّ وجلّ لأننا لا نحصي جميل صفاته ، فالثناء على اللّه أو على الإنسان سببه الصفات الذاتية التي يتحلى بها المثنى عليه السلام .

أما الحمد والشكر فتستوجبهما نعم اللّه عزّ وجلّ ، نشكر ونحمد عند المنع والعطاء . باختصار ، وعلى الأغلب ، المدح والثناء يرتبطان بصفات الممدوح ، والشكر والحمد يرتبطان بما يصل من المشكور والمحمود من نعم.

 

 ( 465 )ويعبدني بالذّات عابدها كما   .....   لها خضعت أحشاء من لي خاضع

المعنى :

قراءة أولى :

يقول الجيلي : “ ويعبدني بالذات عابدها “ ، أي كل من عبد اللّه فكأنما عبده .

وهذه الجملة التي يستوقفنا الشطح الظاهر في ألفاظها ، وتتحفّز أعماقنا من تجرّوء مخلوق على قول هكذا عبارة ، نتوقف عندها لنرى لماذا قالها الجيلي ، ولنتكهن ماذا قصد بها ؟ .

نبدأ بأن نقول إن المؤمن منا كلما تدفّق إيمانه وغمر مشاعره كلّها ، فإنه عندما يجد أمامه إنسانا يمجّد اللّه يشعر بالإعزاز كأنما هو الذي يتمجّد ، وعندما يجد أمامه إنسانا ينكر اللّه عزّ وجلّ يشعر بالعداء كأنّما هو الذي ينكر .

فالمؤمن يشعر بالتوحّد الشعوري مع ما يؤمن به ، ويصبح لديه كل ثناء على ما يؤمن به كأنما هو ثناء عليه ، والعكس صحيح . . .

ولكن مهما كانت مشاعرنا تجاه هذا العابد للّه ، تبقى هذه العبارة شطحا غير مقبول ، ونحن هنا لن يأخذنا الشطح كذلك وننكر قصيدة الجيلي كلّها ، لأننا وجدنا فيها بعض عبارات شطحت عن حدّ العقل الشرعي ؛ بل نتمتّع ونستفيد من كل الأمور التعليمية التي أوردها في قصيدته ، ونقف عند شطحاته ، ولنا أن نتشدّد بها أو نتسامح كما يتناسب مع مزاجنا العقلي ؛ والجواهريّ الجيّد هو الذي عندما يجد كنزا لا يرمي به كلّه ويتلف جواهره بحجة أنه وجد فيه حصاة أو وجد فيه حجرا ينكره ، بل يأخذ ما يعرف من الجواهر ويترك جانبا ما لا يعلم منها ، لا يتعامل به . . .

وهكذا نحن مع شطحات الصوفية نأخذ جواهر أقوالهم ، نستفيد من لآلىء تجاربهم ، نشحذ الهمم من تأجج عاطفتهم الدينية ، ونتوقف عندما نجهل ؛ فعندما يتعارض ما نعلم من الشرع مع ما نجهل من أقوالهم ، نأخذ ما نعلم ، وما يتفق مع الشرع ، ونترك ما نجهل .

وقد لا نعترض عليهم تسمّحا ، ولكن لا بأس علينا إن لم تتحمل مشاعرنا هذا التسمّح ، واعترضنا .

فالشرع أولى بالفهم - لديهم ولدينا من غريب أقوالهم .....

نسلّم لهم أقوالهم وغريب شطحاتهم ، ولكن ننبه إلى أنه يكفر كلّ من يرددها على وجه التقليد ، فلا يجوز مطلقا أن نقلّد على عدم معرفة بالوجه الشرعي فيما يتعارض ظاهره مع الشرع الواضح .

والجيلي نفسه يقول في هذه القصيدة البيت ( رقم 271 )وسلّم له - أي للشيخ - مهما تراه ولم يكن على غير مشروع ، فثم مخادع “ أي نسلم لهم أفعالهم وأقوالهم لأننا ربما نخدع عن قصدهم بظاهر قولهم ، وغاية ما نستطيعه هو أن نسلّم لهم ، دون أن نقلّدهم .

قراءة ثانية :

لعل الجيلي عندما قال : “ ويعبدني بالذات عابدها “ ، أراد المعنى اللغوي للعبادة وهو الخضوع ، فيكون مراده : “ ويخضع لي بالذات من يخضع لها [ الألوهة ] “ .

ويؤكد الشطر الثاني هذه القراءة ، لأنه جاء متمما لفعل الخضوع.

 

 ( 466 )تجيب إذا نوديت باسمي ، وإنّني   .....   مجيب إذا ناديتها لك فازع

المفردات :

لك فازع : فزع إليه بمعنى لجأ ، وفازع هنا بمعنى مسارع .

المعنى :

قول الجيلي : “ تجيب إذا نوديت باسمي “ ، معناه أنه إذا ناداه أحد باسمه وقال مثلا : يا جيلي .

فالحضرة هي التي تجيب ، وهنا إشارة إلى فناء العبد ليس مجرد الفناء الشعوري بل “ فناء الاسم “ ؛ أي يفنى من الإنسان اسم العبد حين يتجلى عليه تعالى بالأسماء الإلهية ...

وقوله : “ وإنني مجيب إذا ناديتها لك فازع “ ، معناه وإذا نادى القارئ أو السامع الحضرة ، فالجيلي يسارع إليه مجيبا ؛ وهنا إشارة إلى ترقّي العبد من مقامفناء اسمه “ إلى مقام “ البقاء بعد الفناء “ .

هذه المعاني نفسها نجدها في كتابه [ الإنسان الكامل ج 1 / ص 16 وص 35 ].

يقول في ص 16 : “ واعلم أن الحق سبحانه وتعالى جعل هذا الاسم أي الاسم "اللّه" مرآة للإنسان ، فإذا نظر بوجهه فيها علم حقيقة كان اللّه ولا شيء معه ،

وكشف له حينئذ أن سمعه هو سمع الحق ، وبصره هو بصر الحق ، وكلامه هو كلام الحق ...

وقدرته هي قدرة اللّه تعالى ، كل ذلك بطريق الأصالة .

ويعلم حينئذ أن جميع ذلك إنما كان منسوبا إليه بطريق العارية والمجاز وهي للّه بطريق الملك والتحقيق .

قال اللّه تعالى :وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ[ الصافات : 96 ] ..

ومن حصل له هذا الشهود أي من يشهد نفسه في مرآة الاسم “ اللّه “كان مجيبا لمن دعا اللّه ، فهو إذا مظهر لاسمه اللّه .

ثم إذا ترقّى وصفا من كدر العدم إلى العلم بوجود الواجب ، وزكّاه اللّه بظهور القدم من خبث الحدث ، صار مرآة لاسمه اللّه ؛ ومن حصل له هذا المشهد أي من صار مرآة لاسمه “ اللّه “ كان اللّه مجيبا لمن دعاه ، يغضب اللّه لغضبه ويرضى لرضاه. “ .

وأقول ، إننا نحاول أن نتصوّر بعقولنا ، كيف يحصّل الإنسان مشهدا يشهد فيه نفسه في مرآة الاسم “ اللّه “ ، ثم لا يزال يترقّى ويتصفّى من العدم والحدث ، حتى يحصّل مشهدا يصبح فيه هو مرآة للاسم “ اللّه “ ...

أقول ، إن عقولنا تتعب ، وتكاد لا تستطيع إن تتصوّر هذه المراتب ؛ لذلك نتوقف في تصوراتنا عند حدود المتاح العقلي ، ونسلّم فيما تبقّى .

نسلّم بأنّ اللّه عزّ وجلّ فتح للإنسان آفاق كمال لم يفتحها لمخلوق غيره ؛ خلقه بيديه ، نفخ فيه من روحه ، كلّمه تكليما ، أرسل إليه رسله ، أنزل له موائد من السماء ، اختار منه سلالة أنبياء اصطفاهم وصفّاهم وطهّرهم وفضّلهم على بقية خلقه من الجنس البشري .

ونسلّم كذلك بأنّه على قدم كلّ نبي توجد جماعة تتبعت الأثر حتى وصلت إلى دائرة القربى . . .

اقتربت من النبي وقاربته دون أن تحصّل النبوة أبدا ، بل بقيت تترقّى في مراتب الولاية ، وتتنعّم بما ينعكس عليها من كمالات أنبيّائها ، وتتكرم بعلامات القرب الإلهي من علم وتصريف ، ونحن ننتظر في عالم غربتنا ويعدنا ، علّها ترجع إلينا من هاتيك الأماكن بقبس ينير معالم الطريق .

 

( 467 ) وقد محيت أوصافنا في ذواتنا   .....   كما فنيت عنّي نعوت ضرائع

المفردات :

ضرائع : جمع ضارع أي مشابه .

المعنى :

عندما قال الجيلي هنا ؛ “ وقد محيت أوصافنا في ذواتنا “ فهو يشير بذلك إلى محو الصفة في الذات .

والصفة كما يعرّفها الجيلي ، هي ما يوصّل إلى فهمنا حالة الموصوف ، وأنها هي التي تقرّبه من عقلنا ، وتوضّحه في فكرنا .

ويرى الجيلي أن الصفة أساسا هي مجهولة ، وغير متناهية ؛ فمثلا الإنسان إنما يدرك منه ذاته أما ما فيه من صفات كالشجاعة والكرم والعلم مثلا فإنها لا تدرك بشهود ، وإنما تبرز لنا وتظهر شيئا فشيئا ، وعلى قدر محدد .

إننا لا نرى الكرم في الكريم ولكن إذا ظهر كرمه مثلا في موقف معين ، وشوهد أثر هذه الصفة عليه ، حكم له بها وقيل عنه كريم ، وهكذا فالصفة لا ترى ولا تشاهد ولا تدرك ، وهي غير متناهية ؛ ولا نعلم منها إلا آثارها الظاهرة في الوجود .

فالصفة في واقع الأمر كامنة في الذات تظهر آثارها في المناسبات ، ونعلم منها على قدر ظهورها .

وهنا عندما قال الجيلي : “ وقد محيت أوصافنا في ذواتنا “ فهو يعلمنا بأنه وصل إلى التحقق بالحقيقة وغابت صفاته في ذاته .

بمعنى آخر ، لقد وصل إلى مقام فناء الصفات ، وأن صفاته كلّها من شجاعة وكرم وغيرهما . . .

قد غابت في ذاته ، ومحيت آثارها فلم يعد يظهر عنه أي أثر لصفة من صفاته . . .

أما الشطر الثاني من البيت وهو قوله : “ كما فنيت عني نعوت ضرائع “ ، فيعني أن نعوته كذلك ضارعت صفاته في الفناء وشابهتها ، ففنيت وغابت ، واختفت آثارها في الوجود . . .

ونقول إنّ الصفة والنعت تتشابه معانيها من حيث اللغة ، أما إذا دققنا في الحس اللغوي للمفرد نجد أن الصفة تنبع من الذات وتلتصق بها ، أما النعت فهو وصف يطلقه الغير على الذات لأنه يراه منه .

فإنسان صفته الكرم هو كريم ، وإنسان ننعته بالكرم وقد لا تكون صفته الكرم البتة . . .

فالنعت هو وصف يطلق من خارج على ذات لاحتمال اتّصافها به . . . باختصار النعت هو الوصف بصفة ، ويؤكد ذلك قوله تعالى :سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ[ الصافات : 180 ] .

فالوصف إذا نعت من خارج يحتمل الصواب والخطأ . والصفة تنبع من داخل وتظهر آثارها للرائي وهي تشابه الاسم في دلالتها على الموصوف أو على المسمّى . والجيلي هنا عندما قال بفناء الصفات أتى بحرف الجر “ في “ ، وعندما قال بفناء النعوت أتى بحرف الجر “ عن “ ، فالصفة لنشوئها من الذات تعود وتفنىفي الذات “ ، والنعت لنشأته من الغير ، أي من الرائي والمشاهد ، يعود ويرتد إلى الغير ويفنى “ عن الذات “ ، فلا تعرف به .

 

( 468 ) فأفنيتها حتّى فنيت ، ولم تكن   .....   ولكنّني بالوهم كنت أطالع

المفردات :

فأفنيتها : أي فأفنيت عرفاني بها ، أي أفنيت ما أعرفه عن الحضرة الإلهية .

ولم تكن : أي ولم تكن هذه المعرفة موجودة حقيقة . أطالع : انظر .

المعنى :

يتابع الجيلي وصف فناء صفاته ، فيقول ؛ إنه أفنى كل ما يعرفه عن الحضرة الإلهية ، وذلك لأن كل معرفة هي نظرية ، وهو لا يريد الاهتداء إلى اللّه تعالى بطريق النظر . . .

أفنى الجيلي النظريات كلها ، وأفنى ما يعرفه عن الحضرة كله ، وأفنى التصورات التي كانت تتنزّل بالحضرة الإلهية من الغيب المطلق إلى التمثيل أو التشبيه ،

أفنى كل ما يعرفه وكل ما يراه من آثار الحضرة في الكائنات . . .

وبعد أن أفنى كل ما يعرفه عن الحضرة ، وجد أنه قد فني عن ذاته وعن معرفة ذاته . لأن من عرف نفسه فقد عرف ربه ، ومن فنيت عنه معرفته بربه فني عن معرفه نفسه .

ويكمل الجيلي الكلام على معرفة الحق تعالى فيقول ، وهذه المعرفة باللّه لم توجد عندنا في الحقيقة أبدا بل كانت دائما من نتاج تصوراتنا وعقولنا ، واللّه عزّ وجلّ بخلافها لأنه تعالى ليس كمثله شيء ، ولا تحده تصوراتنا ولا تسعه معرفتنا .

ويرى الجيلي أن الوهم هو الذي كان يصور لنا أن معرفتنا هذه باللّه هي حقيقة الوجود الإلهي .

باختصار ، إن كل معلوماتنا عن اللّه عزّ وجلّ ، وكل معرفتنا به تعالى ، ما هي إلا تصورات عقلية ، يزين لنا الوهم أنها حقيقة ، واللّه عزّ وجلّ بخلاف كل ذلك .

 

( 469 ) كذا الخلق فافهم ، إنّه متوهّم ،   .....   وهذا فقشر ، كي يضلّ مخادع

المفردات :

متوهم : موجود في الوهم ، له وجود وهمي غير حقيقي . مخادع : مخدوع .

المعنى :

ولا يكتفي الجيلي بجعل معرفتنا باللّه وهما إنسانيا ، بل ها هو ينظر إلى الخلق كله على أنه وهم ، ويقول ؛ “ كذا الخلق فافهم ، إنه متوهم، أي وحقيقة المخلوقات أيضا هي وهم ، فافهمها أيها القارئ وأيها السامع ، ولا تدع الأوهام والظواهر تحجبك .

فالمخلوقات لم تستقل أبدا بوجود حقيقي ، وهل أتى عليها يوم من الدهر ونعمت فيه بوجود ذاتي غير معار . . .

فالمخلوقات إذن - كما يرى الجيلي - ليس لها من الوجود إلا الوهم ، ووهم الوجود هذا هو كالقشر الذي وضع قصدا على الحقيقة الواقعة ، ليضلّل المخدوع فلا يعلم بأن الموجودات لم توجد أبدا ، ولم تتمتع بالوجود الحقيقي أبدا

 

( 470 ) وها هي ما كانت سوى مخزن ولي  .....  هناك من الحسن البديع بدائع

المفردات :

وها هي : أي معرفة اللّه التي توردها النصوص . ولي هناك : أي ولي في مخزن العلم .

المعنى :

يقول الجيلي : “ وها هي ، ما كانت سوى مخزن “ ، أي وها هي معرفتي الظاهرة عن اللّه والتي استفدتها من قراءة النصوص الدينية ، وإن كانت وهما وتصورا إلا أنها حفظت الأسرار وخزنتها ، حتى لا ينالها إلّا مستحق ....

بكلام آخر ، إن المعرفة الحقيقية باللّه عزّ وجلّ كامنة كالجوهر المخزون في النصوص الظاهرة ، وهي لا تتكشّف من النصوص إلا لمن يستحقها .

والجيلي هنا يباهي بأن له في مخزن الأسرار الكثير من العلوم المكنوزة ، وأن له هناك من الحسن البديع بدائع .....

ويرى في [ الإنسان الكامل ج 2 / ص 89 ] ، أنّ الأسرار المودعة لا تتكشف لمن يطلبها بالقول والكلام ، بل تتكشف لمن استحقها بحاله ،

فيقول : أسرار اللّه تعالى وديعة عند الولي لمن يستحقها ، لقوله تعالى :فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ[ النساء : 6 ] .

 

( 471 ) فلمّا قبضت الإرث من مخزن الهوى  .... تناقض عن جدرانه ، فهو واقع

المفردات :

تناقض عن جدرانه : انقضّ وتهدم . فهو واقع : غير قائم.

المعنى :

يتابع الجيلي صورة المخزن الذي يكنز أسرار الشريعة ، فيقول : “ ولما قبضت الإرث من مخزن الهوى “ ، أي ولما أخذت ما يخصني من الأسرار المخزونة في ظاهر الحروف والكلمات ، تناقض هذا المخزن عن جدرانه ، أي تناقضت جدران الكلمات ووقعت المظاهر أمام تجلي الحقائق الساطعة ...

وقد استخدم الجيلي هنا لفظ “ الإرث “ ، وهذا الاستخدام يستحق التوقف ، فالجيلي يرى أنّ كل معرفة حقيقة ، وكل سر من الأسرار اختزنته الحروف الظاهرة فهو في الأصل للإنسان الكامل الواحد ، أي محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، ومنه إرثا لكل الأولياء التابعين ، فكل سر يعلمه وليّ أو مقرّب فهو من المعرفة الموروثة وليس من المعرفة المبتدعة .

 

( 472 ) فكانت كعنقا مغرب وصفت وما .....  حوت غير ذاك الوصف منها البقائع

المفردات :

عنقاء مغرب : طائر موجود بالاسم فقط ولم يوجد في الواقع أبدا ، ويكني العرب بالعنقاء عن كل أمر مجهول أو مستحيل ....

وقد استعار الصوفية عبارة عنقاء مغرب “ ليعبروا بها عن الشيء المعقول ، والموجود في الذهن وفي الاسم فقط ، والذي لم يوجد في الحسّ أبدا ، ويعرفه الجيلي بقوله هو : “ اسم وضع على معنى ، ليحفظ رتبته في الوجود “ . البقائع : جمع بقعة من الأرض .

المعنى :

يستخدم الجيلي في هذا البيت رمز عنقاء مغرب ، هذا الطائر الأسطوري الذي لم يوجد إلا في الاسم ، ويقول عن العنقاء بأنها “ وصفت وما حوت غير الوصف منها البقائع “ ، أي نعرف من العنقاء أوصافها فقط ، لأن الأرض لم تحو منها إلا هذه الأوصاف .

ثم يستفيد الجيلي من غياب العنقاء في الحقيقة ، وبقائها في الاسم ، ليشتكي من إفلاس الإنسان ومن تقصير معرفته باللّه عزّ وجلّ .

فالجيلي ، وكل إنسان ، لا يعرف من اللّه عزّ وجلّ ولا يملك منه تعالى ، إلا أسماء سمّى بها نفسه تعالى في كتابه الكريم .

فالاسم هو الذي بيدنا فقط من المسمى ، وهو دليلنا الوحيد إليه ....

يقول الجيلي في [ الإنسان الكامل ج 1 ص 16 ] مقارنا بين علاقة الاسم والمسمى في اللّه عزّ وجلّ وفي العنقاء : “ إن مسمّى عنقاء في نفسه عدم محض ، فكذلك مسمّى اللّه تعالى في نفسه وجود محض ،

فهو [ أي مسمى عنقاء ] مقابل لاسم اللّه باعتبار أن لا وصول إلى مسمّاه إلا به . . فكذلك الحق سبحانه وتعالى لا سبيل إلى معرفته إلا من طريق أسمائه وصفاته"

 

( 473 ) هي الذّات طاحت إن عرفت إشارتي   ..... نجوت وإلّا فالجهالة خادع

المفردات :

طاحت : فاضت ، عمّت .

المعنى :

بعد أن اشتكى الجيلي من تقصير المعرفة الإنسانية باللّه ، ومن أننا لا نملك منه تعالى إلا أسماء سمّى بها نفسه ،

يقول : “ هي الذات طاحت، أي إن هي إلا الذات الإلهية قد طاحت وعمّت ، فغمرت الأسماء والصفات كلها ، واستهلكتها في أحديتها .

وذلك لأن الأسماء والصفات الإلهية ، وإن كانت معاني يدركها الإنسان ويفهمها ، إلا أنه لا وجود لها مستقل ومغاير عن وجود الذات الإلهية ؛ ففي الواقع أن الذات الإلهية عمّت فغمرت ، ولم تبق لاسم أو لصفة وجودا .....

ثم يتابع الجيلي بقوله : “ إن عرفت إشارتي نجوت ، وإلا فالجهالة خادع “ ، أي إن عرفت ما أشرت إليه هنا من استهلاك الأسماء والصفات في أحدية الذات نجوت من حجب المظاهر ، وإن لم تفهم إشاراتي خدعك الجهل وخدعت ، لجهلك بأن الذات تغمر بأحديتها الصفات والأسماء كلها ، وإنه لا وجود لسواها .

 

( 474 ) وهاك حديث المنحنى غير أنّه   .....   على الورد من قشر الكمام قمائع

المفردات :

قمائع : حجب تقمع الرؤية .

المعنى :

بعد أن بيّن الجيلي أن الإنسان لا يملك من معرفته باللّه إلا أسماء وأوصافا ، وأن هذه الأسماء وهذه الأوصاف لا وجود لها مستقلا عن الذات ، يتابع الكلام على علاقة الذات بالأسماء والصفات ، فيقول ؛ وسأحدثك الآن على علاقة الذات بالأسماء والصفات ، غير أن حديثي سيكون بالمثال والتشبيهات قمعا للحقائق وحجبا لها وصيانة .

 

( 475 ) غزال لها عينان بالسّحر كحّلا   .....   فواحدة فقعا وأخرى فواقع

المفردات :

فقعاء : بارزة اللون . فواقع : جمع  فقعاء .

المعنى :

يستخدم الجيلي هنا رمز الغزال وعينيه ليدل على الحقيقة وتجلّياتها .

فالحقيقة أو الذات هي المرموز إليها بالغزال .

والعينان هما التجلّيان : العين الأولى ترمز إلى التجلي في الوحدة ، والعين الثانية ترمز إلى التجلي في الكثرة .

 

( 476 ) كثوب له طول ولكنّ لونه   .....   حكى ورق الرّيحان اخضر يانع

المفردات :

الريحان : كل بقل طيب النبت واحدته ريحانه .

المعنى :

يستخدم الجيلي هنا رموز أخرى إضافة إلى الغزال وعينيه ، وهي الثواب ولونه وطوله ؛ ليمثّل العلاقة بين الذات والأسماء والصفات .

فالثوب في التشبيه كالذات ، واللون والطول هما كالصفات في علاقتهما بالذات . فالثوب له طول وله لون ، وهو أيضا لا يظهر في الواقع إلا متجلّيا في صفاته .

 

( 477 ) فما الطّول إلا الثوب واللون عينه   .....   إذ الحكم للمحكوم في الأمر تابع

المعنى :

يتابع الجيلي صورة الثوب وطوله ولونه ، فيقول : “ فما الطول إلا الثوب واللون عينه “ بمعنى إن الطول لا يوجد وحده مستقلا عن الثوب ، بل الطول هو طول الثوب ، واللون كذلك لا يوجد وحده مستقلا بل اللون هو لون الثوب . وهذا يقود الجيلي للمقولة التالية ، “ إذ الحكم للمحكوم في الأمر تابع “ ، بمعنى إن الحكم الذي نطلقه على الثوب فنقول طويل أو أخضر إنما هو في حقيقة الأمر حكم يتبع المحكوم أي الثوب ، فنقول ثوب طويل وثوب أخضر ؛ فالحكم يرجع إلى الذات ، إلى الثوب ، والصفة تتبع الموصوف ولا تستقل بذاتها.

 

 ( 478 )وما الثّوب طولا لا ولا الّلون ذاته   .....   وما ثمّ إلا الثوّب تلك المجامع

المفردات :

المجامع : مجموع الكل ، مجموع الذات والصفات .

المعنى :

يتابع الجيلي صورة الثوب وطوله ولونه ، فيقول ؛ “ وما الثوب طولا ، ولا اللون ذاته “ بمعنى وليس الثوب هو الطول وحده ، أو اللون وحده ، بل يمكن القول إنّ الثوب هو المجامع أي مجموع الكل . فالذات هي الجامعة لكل صفاتها .

 

( 479 ) زرعت لك المعنى بلفظي فاجن ما   .....   منحتك من أثمار ما أنا زارع

المعنى :

ينهي الجيلي صوره التشبيهية ورموزه ، التي تمثّل العلاقة بين الذات والصفات ، بحثّ القارئ على جني ثمارها ،

فيقول : “ زرعت لك المعنى بلفظي فاجن “ ، أي جعلت لك المعاني كالزروعات ، وزرعتها لك في أرض الألفاظ وشجرها ، وما عليك أيها القارئ إلا أن تمد يدك إلى ثمار الحقائق الدانية قطوفها على شجر الألفاظ .

 

( 480 ) فإنّي لمّا أن تبدّت هويّتي   .....   خفيت ، وإن تغرب فإنّي طالع

المفردات :

تبدت : ظهرت . تغرب : تغيب ، تختفي ، تفنى .

المعنى :

بعد أن وصل الجيلي إلى مقام الفناء وشهد بقاءه بعد الفناء ، رأى أن لا وجود حقيقي له ولا لأي شيء في الكون . فالخلق متوهم لأن الذات الإلهية تسحق بأحديّتها كل صفة وكل أثر لصفة ...

فآثار الصفات التي هي الأوصاف قد فنيت في الصفات ، والصفات فنيت في الذات ؛ وما هي إلا الذات طاحت وعمت كل شيء . . .

وقد دافع الجيلي عن فكرته بالصور التمثيلية السابقة ، وهنا يعود الجيلي لتصوير بقائه بعد الفناء ، وتصوير هوية هذا البقاء ، الذي هو بقاء كل واصل إلى قرب الولاية ،

فيقول : “ فإني لما أن تبدّت هويتي خفيت ، وإن تغرب فإني طالع “ ، بمعنى فإنني أفنى وأختفي ما أن تتبدّى أحكام الحضرة الإلهية على أنها هويتي ، وإن تغيب أحكام الحضرة الإلهية عن الظهور فيّ ، فإنني أعود للظهور بحقيقتي الإنسانية الخلقية .

 

وهكذا تقوم علاقة جدلية ، على أرض ذات الإنسان الواصل إلى البقاء باللّه ، بين أحكام الحضرة الإلهية وبين أحكام الحضرة الإنسانية الخلقية . فتارة تظهر على ذات هذا الإنسان أحكام الحضرة الإلهية ، وهذا مقام قرب النوافل الذي يتحقق فيه العبد بأن الحق تعالى هو سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ...

وتارة أخرى تظهر على أرض ذاته كل أحكام الحضرة الخلقية الكونية ، فيتحقق العبد بالذل والافتقار والعجز ..

يقول الجيلي ، [ في الإنسان الكامل ج 2 ص 49 وما بعد ] ؛ مقارنا بين علامات الساعة الكبرى واشراطها وبين علامات قيامها في كل فرد من أفراد الإنسان : “ . . . فكما أن من إمارات الساعة الكبرى أن تلد الأمة ربّتها ، وأن ترى الحفاة العراة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان ،

كذلك الإنسان علامة قيام ساعته الخاصة به ظهور ربوبيته سبحانه وتعالى في ذاته ، فذات الإنسان هي الأمة ، والولادة هي ظهور الأمر الخفي من باطنه إلى ظاهره ، لأن الولد محله البطن ، والولادة بروز إلى ظاهر الحس ،

فكذلك الحق سبحانه وتعالى موجود في الإنسان بغير حلول ، وهذا الوجود باطن فإذا ظهر بأحكامه وتحقق العبد بحقيقة كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، ظهر الحق تعالى في وجود هذا الإنسان ، فتمكن من التصرف في عالم الأكوان ..

" كما يقول أيضا في المعنى نفسه في [ الإنسان الكامل ج 1 ص 19 ] : “ فالأمر في الإنسان دوري ، بين أنه مخلوق له ذل العبودية والعجز ، وبين أنه على صورة الرحمن فله الكمال والعز . . .

[ فهو أي الإنسان ]  الجامع لوصفيّ النقص والكمال ، والساطع في أرض كونه بنور شمس المتعال

 

 ( 481 )وليست سواي لا ، ولست بغيرها   .....   ومن بيننا تاء المخاطب ضائع

المعنى :

يتابع الجيلي الكلام على كيفية بقائه باللّه بعد فنائه عن كل شيء ، ويصور بالكلمة وجوده هذا في حال البقاء ، فيقول ؛ “ وليست سواي ، لا ولست بغيرها “ ، بمعنى وليست الحضرة الإلهية سواي وأنا لست غيرها .

وبما أنه لم يعد هناك غير فقد انتفت الحاجة للكلام “ بأنا وأنت “ ، أي ارتفع ضمير المخاطب ولم يعد يداخل الكلام والنجوى بين العابد والمعبود ، بين العاشق والمعشوق ...

يقول السراج في [ اللمع 461 - 463 ] : “ لا يبلغ المتحابان حقيقة المحبة حتى يقول الواحد للآخر : يا أنا .

ويقول أبو يزيد البسطامي : ألبسني أنانيتك حتى إذا رآني خلقك قالوا : رأيناك ، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك “ .

ويعلق السراج على قول أبي يزيد قائلا : “ فهذا وأشباه ذلك تصف فناءه [ أي فناء أبي يزيد ] وفناءه عن فنائه ، وقيام الحق عن نفسه بالوحدانية ، وكل ذلك في حديث قرب النوافل “ .

وهكذا يعلمنا الصوفية بأنهم تدرجوا في مراتب القرب ، تعبّدوا اللّه بالفرائض وتقرّبوا إليه بالنوافل حتى أحبّهم ، وصار سمعهم وبصرهم وكل قواهم ...

ولكن مهما فني الإنسان وسحق ومحق تحت تجليّات الحق يبقى عبدا مخلوقا .

يقول الجيلي في [ الإنسان الكامل ج 1 ص 21 ] : “ واعلم أن إدراك الذات العلية هو أن تعلم بطريق الكشف الإلهي أنك إيّاه وهو إيّاك ، وأن لا اتحاد ولا حلول ، وأن العبد عبد والرب رب ، ولا يصير العبد ربا ولا الرب عبدا ، فإذا عرفت هذا القدر بطريق الذوق والكشف الإلهي الذي هو فوق العلم والعيان ، ولا يكون ذلك إلا بعد السحق والمحق الذاتي ، وعلامة هذا الكشف أن يفنى أولا عن نفسه بظهور ربّه ، ثم يفنى عن ربّه بظهور سر الربوبية ، ثم يفنى ثالثا عن متعلقات صفاته بمتحققات ذاته . . . “ .

ويقول في ذلك شعرا في [ الإنسان الكامل ج 1 ص 25 ] :

قلبي بكم متصلب ... ..... متسكن متقلب

وخيال حبكم به ... ..... ... أبداً يجيء ويذهب

ما أنتم مني سوى ..... ... نفسي فأين المهرب

ألقيت نفسي فاغتدت ... ...... مما لكم أتقلب

وتركتني فوجدتني ... ..... لا أم ثم ولا أب

وجحدت ما قبلي وما ...... بعدي ولا أتريب

ونفيت عني الاختصاص ...... بوجهه يتقرّب

أنا ذلك القدوس في ...... قدس العماء محجب

أنا ذلك الفرد الذي ... ....... فيه الكمال الأعجب

أنا قطب دائرة الرحى ..... ... وأنا العلا المستوعب

وأنا العجيب ومن به ....... ... مما حوى ذا المعجب

فلك المحاسن فيه شمس ...... مشرق ولا مغرب

لي في العلا فوق المكان ....... مكانة لا تقرب

في كل منبت شعره ....... ... مني كمال معرب

وبكل صوت طائر ... ...... ... في كل غصن يطرب

وبكل مرأى صورتي ..... ... تبدو وقد تتحجب

حزت الكمال بأسره ....... فلأجل ذا أتقلب

وأقول إني خلقه ... ...... والحق ذاتي فاعجبوا

نفسي أنزّه عن مقا ...... لتي التي لا تكذب

اللَّه أهل للعلا ... ...... ... وبروق خلقي خلب

أنا لم كن هو لم يزل ...... فلأي شيء أُطنِب

ضاع الكلام فلا آلا ... ....... ... م ولا سكوت معجب

جمعت محاسني العلا ..... ... أنا غافر والمذنب


 ( 482 )فإنّي إيّاها بغير تأوّل   .....   كما أنّها إيّاي ، والحقّ واسع

المفردات :

تأول : تأويل .

المعنى :

يتابع الجيلي تفصيل شهوده لذاته في مقام البقاء باللّه ، فيقول ؛ فإني إياها بغير تأول “ ، بمعنى : شهدت أنني أنا هي ، أي الحضرة ، وشهودي هذا لا تطلبوا مني تأويله بالعقل لأنه شهود بغير تأول وتأويل.

بكلام آخر ، اقبلوا مني هذا الشهود من غير تأويل ، كما قبلته أنا دون أن ألجأ إلى العقل في محاولة تصنيف أو تأويل ، كأن أقول عنه مثلا إنه اتحاد بين ذاتين ، أو إنه حلول للحق في ذات العبد .

فالجيلي هنا شهد أنه الحضرة ، وقبل شهوده دون أن يحاول ترجمته إلى مقولة عقلية .

ومن ناحية ثانية ، شهد الجيلي بأن الحضرة هي ذاته دون تحديد أيضا ، فيقول ؛ “ كما أنها إيّاي والحق واسع “ ، أي وإن كانت الحضرة هي ذاتي ، إلا أنها لا تنحصر في مشهد دون مشهد ، أو في تجل دون تجل ، فالحق واسع يسع كل المظاهر لا يحدّه مظهر دون مظهر .

 

( 483 ) فكلّ عجيب من جمالي مشاهد   .....   وكلّ غريب من كمالي شائع

المعنى :

نلاحظ أن الجيلي بدأ منذ البيت ( رقم 445 ) يروي علينا ما أنعم اللّه به عليه من القرب ، وما منحه من نعم المقربين ، والبيت ( رقم 445 ) أشعرنا ببداية تنعّم الجيلي في القرب ،

لقوله : “ ولما مضى ليلي وولّت نجومه وأشرق شمسي في الألوهة ساطع “ ، فليله إذن قد ولّى ، وها هي شمسه تسطع في مراتب القرب . هذا القرب الذي سيفصّل مظاهره هنا ، والذي نجده إذا رجعنا إلى كتابه الإنسان الكامل .

في بداية كتاب [ الإنسان الكامل ج 1 ص 34 وما بعد ] نجد صورة مفصّلة لما يمكن أن يمنحه إنسان من نعم القرب والولاية .

ونقول ، إن الإنسان عند وصوله إلى ذرى القرب تخلع عليه الصفات الإلهية خلعها ، فنراه يسمع بسمع جديد ويبصر ببصر جديد ، وكذلك في قواه ، يفنى عن قوته السابقة ليبقى بقوة جديدة أعلى وأعظم .

وهذا ما غاب على معظم المقلّدين للصوفية ، إذ عندما وجدوا نصا يحدّث عن الفناء والغيبة قلّدوا النصّ وغابوا عن الحضور في عالمهم ، وغاب عنهم أن غيبة الواصل ، وفناءه هي سبب لحضور أعظم ، ولبقاء أعظم وأعلى .

فالإنسان الفاني يبقى باللّه عزّ وجلّ ، واللّه عزّ وجلّ حضور كامل شامل لكل مكان وأوان.

حضور للجزء والكل ، للغيب والشهود . ويشرح الجيلي في مقدمة الإنسان الكامل التجليات الإلهية على الإنسان الواصل إلى مقام البقاء ، وتتدرج هذه التجليات من تجليات الأفعال إلى تجليات الأسماء وصولا إلى تجليات الصفات .

ففي المرتبة الأولى يتجلى الحق سبحانه وتعالى في أفعاله على العبد ، وهذا التجلي عبارة عن مشهد يرى فيه العبد جريان القدرة الإلهية في الأشياء ، فيشهده سبحانه وتعالى محرّك الأشياء ومسكّنها ، بنفي الفعل عن العبد وإثباته للحق .

والعبد في هذا المشهد ، أي في مشهد تجلي الأفعال ، مسلوب الحول والقوة والإرادة .

وبعد تجلي الأفعال يتجلى اللّه تعالى على عبده بالأسماء الإلهية [ الإنسان 1 / 35 - 36 ] ، فإذا تجلّى تعالى على عبد من عبيده في اسم من أسمائه ، اصطلم العبد تحت أنوار ذلك الاسم ؛ فمتى نادى إنسان الحق تعالى بذلك الاسم أجابه العبد لوقوع ذلك الاسم عليه ؛

وكلما تجلى اللّه تعالى في اسم من أسمائه ، كاسمه اللّه أو الرحمن أو الرب ، فإنه يصبح أعز مما قبله في الترتيب ، وذلك لأن تجلي الحق في التفصيل أعز من تجليه في الإجمال ؛ فظهوره لعبده في اسمه الرحمن تفصيل لإجمال ظهر به عليه في اسمه اللّه وهكذا ...

 وقد عبّر الجيلي في قصيدته عن تجليات الأسماء ( من البيت 453 وما بعد ، حتى البيت رقم 466 ) ، فلتراجع .

وبعد تجلي الأسماء ينتقل العبد ، إذا قوّاه اللّه ، إلى تجليات الصفات ، ويشرح الجيلي تجلّي الصفات في [ الإنسان الكامل ج 1 ص 37 - 38 ] ، فيرى أنه إذا تجلت ذات الحق سبحانه وتعالى على عبد ، بصفة من صفاتها ، سبح العبد في فلك تلك الصفة إلى أن يبلغ حدّها بطريق الإجمال لا بطريق التفصيل . فإذا سبح العبد في فلك

تلك الصفة وامتلكها بحكم الإجمال استوى على عرش تلك الصفة فكان موصوفا بها ، فحينئذ تتلقاه صفة أخرى ، فلا يزال كذلك إلى أن يستكمل الصفات جميعها ....

ولسنا هنا في مجال عرض نظرية الجيلي كاملة بل نأخذ منها قدر ما تستلزم هذه القصيدة التي نشرحها ؛ والقدر الذي تستلزمه الأبيات القادمة هو التوقف عند سبعة من أهل تجليات الصفات .

فمنهم [ 1 ] من تجلّى الحق له بالصفة الحياتية فكان هذا العبد حياة العالم بأجمعه يرى سريان حياته في الموجودات جميعها ؛ جسمها وروحها ....

 ومنهم [ 2 ] من تجلّى اللّه عليه بالصفة العلمية ، وذلك أنه لما تجلّى عليه بالصفة الحياتية السارية في جميع الموجودات ذاق هذا العبد بقوة أحدية تلك الحياة جميع ما هي عليه الممكنات ، فحينئذ تجلت الذات عليه بالصفة العلمية فعلم العوالم بأجمعها ، على ما هي عليه من تفاريعها من المبدأ إلى المعاد ....

ومنهم [ 3 ] من تجلّى اللّه عليه بصفة البصر . . . فكان بصر هذا العبد موضع علمه ، فما ثمّ علم يرجع إلى الحق ، وما ثم علم يرجع إلى الخلق ، إلا وبصر هذا العبد واقع عليه . فهو يبصر الموجودات كما هي عليه في غيب الغيب . والعجب كل العجب أنه يجهلها في الشهادة .

ومنهم [ 4 ] من تجلّى اللّه عليه بصفة السمع ، فيسمع نطق الجمادات والنباتات والحيوانات وكلام الملائكة واختلاف اللغات . . .

ومنهم [ 5 ] من تجلّى اللّه عليه بصفة الكلام ، فكانت الموجودات من كلام هذا العبد.

ومنهم [ 6 ] من تجلّى اللّه عليه بالصفة الإرادية ، وكانت المخلوقات حسب إرادته . . .

ومنهم [ 7 ] من تجلّى اللّه عليه بصفة القدرة ، فتكونت الأشياء بقدرته في العالم الغيبي .

ولنرجع إلى أبيات الجيلي لنراه يفصل لنا من البيت ( رقم 483 ) ، أي الرقم الذي نشرحه الآن ، إلى البيت ( رقم 520 ) ، تجليات الصفات الإلهية السبع عليه ؛

وهي : الحياة والعلم والبصر والسمع والكلام والإرادة والقدرة.

ولعل اقتصار الجيلي هنا على الصفات السبع مرجعه إلى أن الجيلي يرى ؛ أسوة بالصوفية ؛ الإنسان على صورة الرحمن ، والرحمن اسم ينضوي تحته جميع الأسماء الإلهية النفسية وهي هذه السبع التي اقتصر عليها هنا . [ را . الإنسان الكامل ، ج 1 / ص 20 - 22 ] .

وابتداء من هذا البيت سيرتفع الجيلي أمام أعيننا على قاعدة الكمال ، وسيدور متمهلا لنرى أوجه كماله ، ونرى ما حلّاه اللّه به من جميل صفاته .

وأولها صفة الحياة ، وقد أشار أيضا إلى تحليه بهذه الحياة في كتابه الإنسان الكامل فقال : “ وكنت في هذا التجلي مدة من الزمن أشهد حياة الموجودات فيّ ، وانظر القدر الذي لكل موجود من حياتي ، كل على ما اقتضاه ذاته ، وأنا في ذلك واحد الحياة غير منقسم بالذات ، إلى أن نقلتني يد العناية عن هذا التجلي إلى غيره ....

 “ فالجيلي إذن ، على ما قال في كتابه الإنسان الكامل ، وعلى ما نفهمه من قوله هنا ، قد حلّاه اللّه الحيّ بصفته ، فشهد بأن كل عجيب في الكون هو من جماله ، وشهد أن كل غريب ظهر وشاع في الوجود فهو من كماله .

لذلك قال : “ فكل عجيب من جمالي مشاهد ، وكل غريب من كمالي شائع “ .

أما سبب استخدام الجيلي للفظ عجيب مع الجمال فذلك لأن الجمال يدهش ، إذ كل جميل إذا طغى جماله أدهش وأعجب . وسبب استخدامه للفظ غريب مع الكمال ، لأن الكمال مستبعد عقلا ومستغرب في عالم يشارك النقص في بناء وجوده .

ويقول الجيلي في [ الإنسان ج 2 ص 12 ] : “ لا يدهشك الجمال ولا يرعشك الجلال ، ولا تستبعد استيعاب الكمال “ .

 

( 484 ) وكلّ الورى طرّا مظاهر طلعتي   .....   مراء بها من حسن وجهي لامع

المفردات :

الورى : الخلق ، المخلوقات . طرا : كافة ، جميعا . مراء : جمع مرآة .

المعنى :

يتابع الجيلي تفصيل تجلّي صفة الحياة فيه فيقول : “ وكل الورى طرا مظاهر طلعتي “ ، أي ويظهر وجهي ، وأطلع في كل الكائنات . . . فكل الكائنات هي مرآء يلمع بها حسن وجهي .

 

( 485 ) ظهرت بأوصاف البريّة كلّها   .....   أجل في ذوات الكلّ نوري ساطع

المعنى :

يتابع الجيلي تفصيل تجلّي صفة الحياة فيه ، فيقول ؛ إنه هو الذي يظهر في كل وصف ظهر به مخلوق ، وإن نوره هو الذي يسطع في ذات كلّ مخلوق .

 

( 486 ) تخلّقت بالّتحقيق في كلّ صورة   .....   ففي كلّ شيء من جمالي لوامع

المفردات :

تخلقت : أصبحت خلقا .

المعنى :

يتابع الجيلي تفصيله صفة الحياة فيقول : “ تخلقت بالتحقيق في كل صورة “ ، أي تنوّعت صوري ، فكل صورة في الكون قد تخلّقت بها ، حين تحققت بها ...

لذلك ففي كل شيء من جمالي لوامع ، بمعنى جمالي يلمع في كل شيء.

 

 ( 487 )وما الكوّن في التّمثال إلا كدحية   .....   تصوّر روحي فيه شكل مخادع

المفردات :

دحية : إشارة إلى دحية الكلبي ، وكان من أجمل الصحابة وجها ، وقد ورد في الخبر أن جبريل عليه السّلام كان يأتي النبي صلّى اللّه عليه وسلم في صورته .

المعنى :

يفصّل هنا الجيلي البيت السابق ، الذي يؤكد فيه على تخلقه في كل صورة ، مستندا إلى الخبر الذي ورد بأن جبريل عليه السّلام كان يأتي النبي صلّى اللّه عليه وسلم أحيانا في صورة دحية الكلبي [ أخرجه أحمد 2 / 107 بسند صحيح ، وأورده الحافظ في الإصابة 3 / 191 عن النسائي ، وصحّح إسناده ] .

 وقد استخدم الجيلي هذا الحدث ليبين أن العالم كلّه هو في المثال كدحية ، أي أن العالم كله هو مجرد مظهر ، هو عبارة عن شكل يخدع الناظر ، بحيث أن الناظر ينحجب بهذا الشكل فلا يدرك الروح المتصوّرة فيه ، كما خدع الصحابة بدحية حتى أخبرهم النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه جبريل ...

والجيلي يقول هنا ؛ إن روحه هي التي تصوّرت في جسم الكون ، فكان الكون أو الوجود هو الشكل أو المظهر ، وكان الجيلي - الانسان الكامل - الذي تجلت فيه صفة الحياة هو الروح ، أي روح الكون أو روح الوجود ...


( 488 ) فصفني بأوصاف الأنام جميعها   .....   فإنّي لذيّاك المحاسن جامع

المعنى :

يتابع الجيلي تفصيل تجلّي صفة الحياة فيه ، فيقول للسامع ؛ صفني بكل وصف ، وذلك لأنني أجمع كل أوصاف الموجودات . 


( 489 ) وعن كلّ تشبيه فإنّي منزّه   .....   وفي كلّ تنزيه فإنّي مضارع

المفردات :

مضارع : مشابه أو مشبّه .

المعنى :

يتابع الجيلي تفصيل صفة الحياة فيه ؛ فبعد أن طلب من السامع أن يصفه بكل أوصاف الوجود ، وأن يشهد كل جمال كوني من حسنه نابع ، يحذره هنا من أن ينحجب بالتشبيه أو التنزيه ، فيقول له : “ ومن كل تشبيه فإني منزه، أي نزّهني عندما يصلك خبر يفيد التشبيه .

ومن جهة ثانية ، يقول له : “ وفي كل تنزيه ، فإني مضارع “ ، أي وشبهني في التنزيه .

فالجيلي يطلب من القارئ أو السامع أن لا ينسى حقه من التشبيه حين ينزّهه ، ولا ينسى حقّه من التنزيه حين يشبهّه ....

وهذا يطرح للأذهان علم الكلام الصوفي ، الذي لم يمش مع التنزيه الإلهي إلى حد التعطيل الصفاتي ، ولم يمش مع التشبيه الإلهي إلى حد التجسيم .

بل نزّه اللّه تعالى في كل مشهد وفي كل تجل تشبيهي ، ولم ينس التشبيه الإلهي في كل مشهد تنزيهي .

فالحقيقة - كما يراها الصوفي - تشبيه في تنزيه ، وتنزيه في تشبيه .

ونحن لا نعرف اللّه عزّ وجلّ إلا إذا نزّهناه حين تشبيهنا له ، وشبّهناه حين تنزيهنا له .

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الجيلي هنا ، وأسوة برجال الصوفية ، يرى أن الذات الإلهية منزّهة عن المعرفة البشرية ؛ وأن كل تنزيه نقاربه فإنما هو محدث مثلنا ، واللّه عزّ وجلّ منزّه عن تنزيهنا له . 

يقول الجيلي في [ الإنسان الكامل ج 1 ص 32 ] : “ التنزيه عبارة عن انفراد القديم بأوصافه وأسمائه وذاته ، كما يستحقه من نفسه لنفسه ، بطريق الأصالة والتعالي . . .

فليس بأيدينا من التنزيه إلا التنزيه المحدث ، والتحق به [ تعالى ] التنزيه القديم “ . . .

ويقول أيضا في التشبيه : “ التشبيه الإلهي عبارة عن صورة الجمال ، لأن الجمال الإلهي له معان وهي الأسماء والأوصاف الإلهية ، وله صورة وهي تجليات تلك المعاني فيما يقع عليه من المحسوس أو المعقول .

فالمحسوس كما في قوله : رأيت ربّي في صورة شاب أمرد ، والمعقول كقوله تعالى : “ أنا عند ظن عبدي بي ، فليظن بي ما شاء “ . . .

ولا شك أن اللّه تعالى في ظهوره بصورة جماله باق على ما استحقه من تنزيه ، فكما أعطيت [ الخطاب هنا للقارئ ] الجناب الإلهيّ حقّه من التنزيه ، فكذلك أعطه من

التشبيه الإلهي حقّه “ . . .

هكذا إذن الأمر عند الصوفية ، تشبيه في تنزيه ، وتنزيه في تشبيه .

 

( 490 ) وجسمي للأرواح روح مدبّر   .....   وفي ذرّة منه الأنام جوامع

المعنى :

يتابع الجيلي بيان تجلّي صفة الحياة فيه ، فيقول : “ وجسمي للأرواح روح مدبر “ ، وقبل أن نشرح هذا القول ، نتوقف عند رؤية الجيلي للعلاقة بين الروح والبدن في الإنسان .

فالبدن أو الجسم هو صورة الإنسان ، والروح هو معناه . للإنسان بدن هو صورته ، وروح هي معناه . فإذا كان الأغلب على الإنسان مقتضيات البدن والجسم أي مقتضيات البشرية والشهوانية فإن روحه تكتسب الرسوب المعدني ، وتتقيد في البدن سجينة العادة والطبيعة .

أما إذا كان الأغلب على الإنسان الأمور الروحانية ، من دوام الفكر الصحيح وإقلال الطعام والكلام ، فإن بدنه يكتسب اللطف الروحي ، فيخطو على الماء ويطير في الهواء [ را . الإنسان الكامل ، 2 / 9 ] .

 

ولسنا هنا في معرض بحث ترقّي الإنسان في مقاماته ، ولكن لنقول :

إن العلاقة بين البدن وبين الروح هي علاقة حميمة . فالإنسان مهما ترقّى في الروحية لا يفارق بدنه ، بل بدنه يتابعه في التنور والروحانية ؛ بكلام آخر يترقى الإنسان ببدنه وبروحه معا من بدايات البشرية إلى أعلى المراتب الروحية . وهذا الاتحاد في الإنسان بين بدنه وروحه يفسر لنا لماذا عندما يصل الإنسان إلى مقام قرب النوافل ، ويصبح الحق سمعه وبصره ويده ولسانه ، فإنه إذا مسح بيده أبرأ الأكمه والأبرص ، وكذا في بقية قواه وأوداتها .

وعندما يقول الجيلي هنا ؛ بأن جسمه هو الروح المدبر لأرواح الوجود ، فهو يريد أن يقول إن جسمه الذي هو صورته قد أصبح هو المعنى والروح التي تمد أرواح الوجود بالحياة والرعاية والمراعاة والتدبير ؛ بكلام آخر إن جسمه هو روح أرواح الوجود . . .

وقوله : “ وفي ذرة منه الأنام جوامع “ تعني أن كل الخلق والمخلوقات ، على كثرتهم ، وعلى تعدادهم ، تسعهم ذرة من جسم الجيلي وهي تكفيهم حتى يجتمعوا فيها .

 

( 491 ) ولو لم يكن في الحسن منّي لطيفة   .....   لما كانت الأجفان فيّ تطالع

المفردات :

لطيفة : الأمر الدقيق اللطيف الروحاني في مقابل الكثيف البدني .

الأجفان : العيون . تطالع : تنظر .

المعنى :

يتابع الجيلي تفصيل تجلّي صفة الحياة فيه ، فيقول : “ ولو لم يكن في الحسن مني لطيفة “ ، بمعنى ولو لم يكن في كل أمر جميل شيء لطيف مني ، لما رأت العيون الجمال في الجميل .

بكلام آخر ؛ أنا السر اللطيف المودع في جمال كل جميل ، وأنت أيها الناظر تنظر في الواقع إلى جمالي اللطيف المودع في كل جميل ، ولولا وجود جمالي [ صفة الجمال الإلهي ] في الجميل لما نظرت إليه .

 

( 492 ) ولولا لذاتي في الكمال محاسن   .....   تلوح ، لما مالت إليها الطّبائع

المفردات :

تلوح : تظهر . الطبائع : جمع طبع .

المعنى :

يتابع الجيلي تفصيل تجلّي صفة الحياة فيه ، فيقول ؛ ولولا أن جمال ذاتي يظهر ويلوح في كل كامل ، لما انجذبت طباع البشر نحو الكمال.

 

 ( 493 )فهيكل شخصي كلّ فرد بسيطه   .....   لجوهر أنواع المحاسن جامع

المفردات :

فهيكل شخصي : صورة شخصي ، جسمي . بسيطه : من البساطة والوحدة التي هي ضد التركيب والتعدد . فرد : مفرد ، وهو الوحدة التي قد تكون مبنية على التركيب .

المعنى :

يتابع الجيلي تفصيل وجود العبد الذي تجلّت فيه صفة الحياة ، وهذا العبد هنا هو الجيلي ، وكيف أنه يصبح حياة العالم بأجمعه ، تسري حياته في الموجودات جميعها ، جسمها وروحها ، ويشهد كيفية سريان حياته في الموجودات ، ذوقا إلهيا كشفيا غيبيا عينيا [ را . الإنسان الكامل ، 1 / 38 ] .

ويعلمنا الجيلي هنا ؛ بأن بسيط كل مفرد في هيكل شخصه ، أي في جسمه ، يجمع جوهر أنواع المحاسن .

 

( 494 ) وإنّي على تنزيه ربّي لقائل   .....   بأوصافه عنّي ، فحقّي صادع

المفردات :

حقي : هويتي الحقيقة . صادع : ظاهر ، بيّن .

المعنى :

بعد أن فصّل الجيلي ما يتصف به ، وقد تجلت على ذاته ذات الحق سبحانه وتعالى بصفة الحياة ، يقف منبها على قوله بالتنزيه .

فالعبد ، وإن تجلت على ذاته ذات الحق بصفة من صفاته تعالى ، إلا أن صفات الحق سبحانه منزهة عن أوصاف العبد ،

لذلك يقول الجيلي : “ وإني على تنزيه ربي - لقائل - بأوصافه عني “ ، أي وإني أقول بتنزيه أوصاف ربي عن أوصافي .

أما قوله : “ فحقي صادع “ ، فتعني أن حقيقتي ظاهرة وبيّنة ؛ ويريد الجيلي هنا أن يقول ، إنه وعلى الرغم من قوله بالتنزيه ، فتحقق الصفات الإلهية في حقيقة ظاهر وبيّن .

  العودة إلى الفهرس    

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: