السبت، 16 مايو 2020

مقدمة المحقق والتمهيد لكتاب منظومة منطق الطير .كتاب منطق الطير للعارف بالله فريد الدين العطار النيسابوري

مقدمة المحقق والتمهيد لكتاب منظومة منطق الطير .كتاب منطق الطير للعارف بالله فريد الدين العطار النيسابوري

مقدمة المحقق والتمهيد لكتاب منظومة منطق الطير .كتاب منطق الطير للعارف بالله فريد الدين العطار النيسابوري

كتاب منطق الطير للعارف بالله فريد الدين أبو حامد محمد بن أبي بكر إبراهيم بن أبي يعقوب إسحاق العطار النيسابوري

تقديم المحقق:-

أعلام التصوف الفارسي ثلاثة ، هم على التوالي سنائي الغزنوي وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي .

وقد حاز فريد الدين العطار هذه المنزلة الكبيرة بفضل ما قدمه للمكتبة الشرقية من مؤلفات ما زالت حتى اليوم تحظى بعظيم التقدير من جميع المهتمين بالتصوف الإسلامي داخل العالم الإسلامي ، ولدى جميع المستشرقين الذين أولوا التصوف الإسلامي جل اهتمامهم وعظيم همتهم .

وإذا كانت جميع كتب فريد الدين العطار تحظى - حتى اليوم - بعظيم التقدير ، فأعظمها جميعا وأوسعها شهرة منظومته الخالدة ( منطق الطير ) والتي تشهد بإبداع صاحبها في النظم ، وتعد دليلا عظيما على تفوق الفرس في نظم القصة الشعرية منذ قرون عديدة ، كما أن المنظومة فوق كل ذلك واحدة من شوامخ الفكر الصوفي الإسلامي ، ولا غنى لأي مهتم بالتصوف الإسلامي عنها .

ونتيجة لما حظيت به هذه المنظومة الفريدة في فكرها وحبكة قصتها ، أقدم عدد كبير من المستشرقين على دراستها ونقلها إلى لغاتهم ، فقد ترجمت إلى اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية ، وحظيت كذلك باهتمام مفكري الشرق ، فترجمت إلى اللغتين الهندية والتركية .

ونتيجة للصلات العميقة الجذور بين الأدبين العربي والفارسي ، وكذلك الصلات الوطيدة بين التصوف العربي والتصوف الفارسي ، أقدمت على ترجمة هذه المنظومة إلى اللغة العربية ، لتكون في متناول.

القارئ العربي المهتم بالتصوف الإسلامي ، والذي لم تتح له الفرصة لمعرفة اللغة الفارسية ، وليدرك مثقفونا أن الأدب الفارسي مليء بالكنوز التي تستحق منهم اهتماما كبيرا لا يقل عن اهتمامهم بالفكر الأوروبي ، ولعل هذا الاهتمام يحقق ما نصبو إليه من تكامل بين الثقافات الإسلامية المختلفة ، أملا في تدعيم أواصر الأخوة بين شعوب العالم الإسلامي ، وبخاصة الشعبين العربي والإيراني.

وأخيرا أقدم عظيم شكري لكل من قدموا لي يد العون لإتمام هذه الترجمة ، سواء تمثل هذا العون في مشورة أتحفوني بها ، أو في كتاب أعانني على إنجاز الترجمة والدراسة حول المنظومة ، أو أي عون ساعدني على إتمام هذا العمل الكبير الذي يسعدني أن أقدمه إلى المكتبة العربية واللّه الموفق. ، بديع جمعة

الفصل الأول التعريف بفريد الدين العطار 

أولا : اسمه ولقبه وكنيته وأسرته :

إن الغموض يكتنف سيرة العطار ويلقي ظلالا على كل جانب من جوانب حياته ، ويمتد هذا الغموض إلى اسمه ولقبه وكنيته : اسمه باتفاق أغلب المؤرخين وكتّاب التذاكر هو « محمد » فقد ورد في ( مصيبت ‌نامه ) ما ترجمته :

واسمي محمد ، وقد أتممت هذا - أيها العزيز - على غرار ما فعل محمد

أما لقبه : فباتفاق أغلب المؤرخين هو : فريد الدين ، ويقول الأستاذ نفيسي إن مؤلف كشف الظنون عند الحديث عن جوهر الذات وجواب نامه ذكر أن لقبه « زين الدين » وهذا خطأ ، فمن المرجع أنها كانت فريد الدين وحصل تحريف من الكاتب أو من الطباعة. ! ؟

كما يقول الأستاذ نفيسي إنه تخلص بهذا الاسم في اثنين وثمانين غزلية من مجموع الغزليات التي وصلتنا من إنتاجه والبالغ عددها أربع وخمسون وسبعمائة غزلية .

وكنيته - كما يقول عوفي - أبو حامد ، ولأنه كان معاصرا للعطار فإن قوله يرجح أقوال الآخرين الذين قالوا إن كنيته " أبو طالب "

ولكننا نجد فريد الدين كثيرا ما كان يذكر اسمه على أنه « العطار » فقد قال في منطق الطير في ختم المنظومة :

لقد نثرت يا عطار نافجة المسك المليئة بالأسرار، على هذا العالم في كل آونة.

وهذا الاسم الذي تخلص به العطار كثيرا ، قد لصق به منذ كان يعمل صيدليا ويملك دكانا للعطارة .

أما والد العطار فاسمه إبراهيم وكنيته « أبو بكر » ، وكان يعمل عطارا هو الآخر ، وكان من مريدي الشيخ الصوفي قطب الدين حيدر في قرية " كدكن" إحدى قرى نيسابور .

وعلى الأرجح فإن والده عمر كثيرا ، ربما إلى أن ألف العطار منظومته « أسرار نامه » ويحتمل أن يكون توفي عن ثمانين عاما وذلك في الفترة الواقعة بين عامي 590 هـ و 605 هـ .

والدته : ويفهم من « أسرار نامه » - على حد تعبير فروزانفر - أن أمه كانت على قيد الحياة يوم وفاة والده ، كما يستفاد من « خسرو نامه » أنها توفيت أثناء تأليف هذا الكتاب ، وأنها كانت من أهل المعنى ، وقد بكاها العطار في خاتمة « خسرو وكل » ؛ فقد قال:

« لم يكن لي أنس إلا بأمي ، وقد ذهبت ، كم أشدت أزري هذه الضعيفة التي كانت خليفة من مملكة الدين ، لقد كانت ضعيفة كالعنكبوت ، ولكنها كانت لي حصنا ودرعا » .

وكانت كما يقول : رابعة الثانية بل أتقى من رابعة ، بقيت تسعة وعشرين عاما تلبس حقير الثياب وخشنها ، وكانت تقوم الليل دعاء وبكاء .

أجداده : أما عن أجداده فيذكر بروان جده وجد والده على أنهما « مصطفى » « وشعبان » وذلك نقلا عن كشف الظنون لحاجي خليفة .

ولكن الأستاذ نفسي يعترض على هذين الاسمين ، فمصطفى لم يرد ضمن تسلسل اسم العطار في الكتب الموثوق في صحتها ، أو التي ألفت في عصره .

كما أن اسم « شعبان » لم يسبق أن تسمى به أحد في إيران حتى القرنين السادس والسابع الهجريين ، وقتما كان يعيش العطار وأسرته ، فهذه الأسماء التي على غرار الشهور العربية مثل محرم وربيع ورجب وشعبان ورمضان قد راجت بعد ذلك في أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع في غرب آسيا وآسيا الصغرى ومصر . ثم انتشرت هذه الأسماء بعد ذلك في أماكن عدة  .

وأنا أوافق الأستاذ نفسي على اعتراضه هذا ، فلا نجد كتابا آخر من كتب التراجم يذكر اسم جد العطار على أنه « مصطفى » أو اسم جد والد العطار على أنه « شعبان » إلا حاجي خليفة ، وهو لا يؤخذ برأيه ، لأن المعروف في أغلب كتب التراجم أن جد العطار اسمه اسحق ويكنى بأبي يعقوب .

وبعد ، فإن الاسم الحقيقي للعطار هو :

"فريد الدين أبو حامد محمد بن أبي بكر إبراهيم بن أبي يعقوب اسحق العطار "

أولاده :

أما عن أخبار من خلفهم العطار من أبناء فالشك يكتنف كل ما قيل عنهم فمن قائل إنه لم ينجب مطلقا . ومن قائل إنه أنجب ولدا واحدا .

وهناك قصة يرويها أحد كتاب التراجم ، وقد أوردها « روحاني » في مقدمة ترجمته الفرنسية لإلهي نامه :

" إن العطار كان له عشرة أبناء وقد وقعوا في أسر قطاع الطريق . . . - وهؤلاء اللصوص أخذوا يضربون أعناقهم الواحد تلو الآخر ، والعطار في كل مرة يرفع عينيه إلى السماء وهو يبتسم ، وما أن جاء دور ابنه العاشر والأخير حتى قال ذلك الابن : ما أقسى ذلك الأب الذي يبتسم وهو يرى أولاده يموتون تلك الميتة ، فيرد العطار قائلا : بني العزيز لا حول لنا ولا قوة أمام من يأمر بهذا - أي اللّه - ، وما أن سمع اللصوص ذلك الجواب حتى أطلقوا سراح الولد العاشر ، وألقوا بأنفسهم كتب التراجم يذكر اسم جد العطار على أنه « مصطفى » أو اسم جد والد العطار على أنه « شعبان » إلا حاجي خليفة ، وهو لا يؤخذ برأيه ، لأن المعروف في أغلب كتب التراجم أن جد العطار اسمه اسحق ويكنى بأبي يعقوب.

وبعد ، فإن الاسم الحقيقي للعطار هو :

"فريد الدين أبو حامد محمد بن أبي بكر إبراهيم بن أبي يعقوب اسحق العطار

أولاده ":

أما عن أخبار من خلفهم العطار من أبناء فالشك يكتنف كل ما قيل عنهم فمن قائل إنه لم ينجب مطلقا . ومن قائل إنه أنجب ولدا واحدا .

وهناك قصة يرويها أحد كتاب التراجم ، وقد أوردها « روحاني » في مقدمة ترجمته الفرنسية لإلهينامه  :

« إن العطار كان له عشرة أبناء وقد وقعوا في أسر قطاع الطريق . . . - وهؤلاء اللصوص أخذوا يضربون أعناقهم الواحد تلو الآخر ، والعطار في كل مرة يرفع عينيه إلى السماء وهو يبتسم ، وما أن جاء دور ابنه العاشر والأخير حتى قال ذلك الابن : ما أقسى ذلك الأب الذي يبتسم وهو يرى أولاده يموتون تلك الميتة ،

فيرد العطار قائلا : بني العزيز لا حول لنا ولا قوة أمام من يأمر بهذا - أي اللّه - ، وما أن سمع اللصوص ذلك الجواب حتى أطلقوا سراح الولد العاشر ، وألقوا بأنفسهم وأول كتاب أرخ له هو « لباب الألباب » المؤلف عام 617 هـ، ولكنه لم يشر على الإطلاق إلى تاريخ ولادته.

ثانيا : تاريخ ميلاده العطار ومدة حياته

وكذلك « تاريخ كزيده » المؤلف عام 730 هـ لم يشر هو الآخر إلى تاريخ ولادة العطار ولا مدة حياته .

ثم يأتي بعد ذلك نفحات الأنس لجامي ، وفيه يقول : « وحضرة الشيخ استشهد في 627 هـ على يد الكفار وسنه المبارك في ذلك الوقت - كما يقولون - 114 سنة .

أي أن تاريخ ولادته هو عام 513 هـ . ولكن مما يجعلنا نشك في صحة هذه التواريخ أن جامي لم يسق الدليل على صحتها مكتفيا بقوله « كما يقولون » وهذه العبارة تدفع الإنسان إلى الشك أكثر من اليقين ، كما أنه لم يحدد لنا من هؤلاء الذين يقولون .

هل هم العامة ؟ أو أنه أخذها عن مصدر سابق موثوق به .

ثم يأتي دور « دولتشاه » فيقول : « ويمتاز العطار بأنه كان معمرا . . ، فقيل إنه بلغ المائة والأربع عشرة سنة، وقد ولد في عصر السلطان سنجر في السادس من شعبان عام 513 هـ.

ونلاحظ أن دولتشاه نفسه رغم أنه يحدد تاريخ ولادة العطار بالشهر واليوم إلا أن قوله يدعو إلى الشك أيضا في صحته فقوله « قيل إنه . . . . . . . . »

لا تحسم خلافا بل تثير شكا ، وربما أنه أراد أن يثبت صحة رأيه فحدد لنا شهرا معينا ويوما محددا لهذه الولادة حتى يؤثر على القارئ فيأخذ برأيه ولو كان دولتشاه صادقا فيما يقول لأخبرنا من أين استقى هذا التاريخ .

وقد نقل صاحب « خزينة الأصفياء » عن صاحب « مخبر الواصلين » عدة أبيات هذه ترجمتها :

شيخ الدنيا والدين فريد الدين ، شمس فلك الصدق واليقين

عمره مائة وأربع عشرة سنة ، وذلك من لطف اللّه المتعال

واعتبر العقل تاريخ وفاة ذلك المسعود ، موافقا لجملة "بلبل الجنة والجنان " .

وجملة : « بلبل جنة وجنان » بحساب الجمل تعني 627 هـ ، وعلى هذا فيكون مولده عام 513 هـ ومدة حياته 114 سنة .

ونلاحظ أن هذا المرجع هو الآخر لم يذكر لنا المصدر الذي استقى منه المؤلف هذه التواريخ .

ويذكر أمير علي في كتابه « روح الإسلام » تاريخ ولادة العطار على أنها عام 545 هـ . ويعلق على هذا الأستاذ عزام بقوله :

"وهذا غلط لا شك فيه . ومن الأدلة عليه أن الشاعر يتكلم في منظومته "

إلهي نامه » عن السلطان سنجر كلامه عن الأحياء وسنجر مات سنة 552 هـ فلو ولد الشاعر سنة 545 هـ لكان كلامه هذا عن سنجر وهو دون العاشرة من عمره " .

ولكن بمراجعتي لمنظومة العطار « إلهي نامه » لم أجد إلا نصوصا

ثلاثة ذكر العطار فيها سنجر ولا تدل - كما قال عزام - على أنه يتحدث عن سنجر حديث الأحياء ولذا فاعتراض الأستاذ عزام مردود ، خاصة وأنه لم يذكر لنا هذه الأبيات التي يشير إليها حتى يؤكد بها كلامه هذا .

لنترك هؤلاء الكتاب السابقين ، ونناقش آراء الباحثين في العصر الحديث لعلنا نظفر منهم بما يضع الأمور في نصابها .

ولكننا نجد أن التضارب يسيطر على كتاباتهم أيضا . وهذه طائفة من أقوال الباحثين في العصر الحديث .

نلاحظ أن جارسان دي تأسي في مقدمة ترجمته لمنطق الطير قد اكتفى بنقل

تاريخ ولادة العطار عن دولتشاه وهو عام 513 هـ دون أن يرجحه أو يفنده .

أما بيزي Pizzi فقد تابع جارسان ودولتشاه كذلك وحدد تاريخ ولادته بعام 513 هـ

وأضاف قائلا : وقد عاش عمرا طويلا زاد على مائة عام وعشرة "3 " والأستاذ محمد بن عبد الوهاب القزويني يقول في مقدمة تذكرة الأولياء ، نشر إيران عام 1321 هـ ، وذلك بعد ذكره ذلك التضارب الذي وقع فيه المؤرخون قديما حديثا حول تحديد سنة ولادته ومدة عمره.

"ولذا اختلف الناس في طول عمره ، فالقاضي نور اللّه ، ومحمد.

دارا شكوه في سفينة الأولياء ، وتقي كاشي ، ورضا قليخان يقولون إن العطار بلغ 114 عاما ، ولكن من المحقق أنه عاش حتى بلغ السبعين وبضع سنوات ، فهو يقول في ديوانه ما ترجمته :

وإذا كان الموت قد أشرف على الوادي مائة مرة ، فإن عمرك قد جاوز الستين إلى ما بعد السبعين ببضع سنين .

ثم يقول : ولا يعلم أنه عاش أكثر من هذا القدر .

والقزويني يحدد عصر العطار استنادا إلى فقرة جاءت في مقدمة تذكرة الأولياء للعطار ، وهذه ترجمتها :

"مثلت ذات يوم أمام مجد الدين الخوارزمي ، فرأيته باكيا ، فقلت خيرا . قال : ما أكثر العلماء الذين كانوا يشبهون الأنبياء عليهم السلام في هذه الأمة - فقد قال الرسول - علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل . . »

ثم يقول القزويني : « وفاة الشيخ مجد الدين كانت عام 606 هـ أو 616 هـ ، فعلى وجه التقريب يعلم أن عصر العطار هو نفسه عصر الشيخ مجد الدين » .

وهكذا نجد أن القزويني ينهي كلامه دون أن يحدد عاما معينا لمولد العطار وإنما اكتفى بالشك في عام 513 هـ الذي ذكره دولتشاه دون أن يذكر الحجج والأسانيد التي تدعوه إلى هذا الشك.

أما المستشرق الإنجليزي براون فذكر أن مولد العطار كان سابقا على 545 هـ أو 550 هـ  ولكن دون أن يذكر حججه وأسانيده التي تؤيد رأيه

ويعلق الأستاذ نفيسي على أن عمر العطار قد بلغ 114 عاما فيقول : في رأيي إن هذا يكاد يكون محالا أو في حكم النادر الذي يقبله العقل ويسوق على ذلك براهين عدة أهمها .

كان العطار - كما يقول هو - من تلاميذ الشيخ نجم الدين كبرى ، وقد ولد هذا الشيخ عام 540 هـ ، فإذا كان العطار قد ولد حقيقة عام 513 هـ لكان أكبر من نجم الدين بحوالي سبعة وعشرين عاما ، فهل يعقل أن يلجأ العطار إلى من يصغره سنا بسبعة وعشرين عاما ليكون له مريدا ، والعطار لم يكن ذا منزلة صغيرة . . . .

فقد اطلع على أربعمائة كتاب وكان الناس يقصدونه طالبين علمه ومعرفته .

وسند آخر يسوقه نفيسي ، فيقول : إن العطار لم يذكر في شعره أنه بلغ أكثر من التسعين . . . ثم يورد أبياتا يخبرنا فيها بأنه وصل إلى حد المشيب ، وأنه تعدى السبعين بل وصل إلى حد التسعين ، فقد قال ما ترجمته : -

- وهكذا وضح أمره إذ نهض ذلك الشيخ ذو التسعين عاما ، وقد عقد الزنار وهو على هذه الحال .

وعلى هذا فالأستاذ نفيسي يحدد مدة عمر العطار بتسعين عاما بالإضافة إلى أنه يرجح أن وفاة العطار كانت عام 627 هـ ، أي أن عام ولادته - كما يرى - هو 537 هـ

ولكن هذا البيت الذي ساقه نفيسي ليس دليلا قاطعا لأنه لا يتحدث فيه عن نفسه بل يتحدث فيه عن شيخ آخر .

ويشاركني هذا الرأي الأستاذ فروزانفر والأستاذ روحاني .

والأستاذ فروزانفر يرى أن العطار ولد عام 540 هـ :

وأنه عاش أكثر من السبعين ، ولكن أقل من الثمانين ، وهو يؤكد وجهة نظره بعدة قرائن، هذه أهمها.

1 - إن العطار لم يذكر في شعره أنه بلغ أكثر من السبعين إلا ببضع سنين .

2 - إن العطار ذكر بعض المشايخ ذكره للأموات وهم :

ركن الدين آكاف المتوفى عام 549 هـ ، وأبو منصور مظفر بن أردشير عبادي المتوفى عام 547 هـ ، ومحيي الدين محمد بن يحيى الذي قتل في وقعة الغز .

3 - إشارة العطار إلى حادثة قحط نيسابور في بعض كتبه إشارة شخص لم يكن حاضرا إياها . وقد وقع بنيسابور أكثر من قحط عام 532 ، 543 ، 552 هـ .

ولكن بعد أن ذكرنا كل هذه الآراء التي قالها جمع كبير من أصحاب التراجم والباحثين ، أي التواريخ نراه صحيحا لمولد العطار ؟

في رأيي أن أصح التواريخ لولادة العطار ما يقع بين عامي 545 هـ : 550 هـ . وذلك لعدة أدلة :

أولا : الرأي القائل بأنه ولد عام 513 هـ رأي خاطىء فأول من ردد هذا التاريخ دولتشاه وهو معروف بأغلاطه وأخطائه ثم تناقله المؤرخون من بعده ، كما أن هذا التاريخ مرفوض كذلك استنادا إلى الأدلة التي ذكرتها من قبل نقلا عن الأستاذ نفيسي والأستاذ فروزانفر .

ثانيا : إن العطار لم يذكر أنه بلغ أكثر من السبعين إلا ببضع سنين ، وأقواله بطبيعة الحال خير مصدر يعتمد عليه في تأريخ حياته ، فهو يقول محدثا نفسه ما ترجمته .

إن كنت قد قضيت سبعين عاما ، فليس هذا بعجيب ، ولكن العجيب أن نفسك تزداد سوءا في كل لحظة .

كما قال ما ترجمته :

- لقد جثم الموت أمام مدخل الوادي مائة مرة ، والآن تخطى عمرك الستين ووصل إلى ما بعد السبعين ببضع سنين .

وعلى هذا فلا نستطيع أن نقول إنه عاش أكثر من السبعين إلا ببضع سنين ، وإذا كنا نفترض بأن وفاته كانت عام 627 هـ فعلى هذا الفرض يكون مولده ما بين عامي 545 ، 550 هـ.

ثالثا : إن عوفي - وهو المعاصر للعطار - اعتبر العطار من الشعراء الذين عاشوا بعد عصر سنجر ، ونحن نعرف أن سنجر توفي عام 552 هـ فلو كان العطار قد ولد عام 513 هـ لكان قد عرف كشاعر قبل وفاة سنجر ، وعلى هذا فهو لا بد وأن يكون قد ولد في أواخر حكم سنجر ، بين عامي 545 ، 550 ه كما حددنا .

ولكن بعد كل هذا ، هل يعد هذا التاريخ الذي حددناه لمولد العطار قاطعا ؟ بطبيعة الحال : لا ، ولكنه أكثر التواريخ قبولا في رأيي ، إلى أن يظهر الدليل القاطع بعد ذلك في أثر من آثاره المفقودة .

ثالثا : دخوله في الطريق الصوفي

عرف فريد الدين النيسابوري بالعطار لأنه كان يعمل بالعطارة والطب ، ويقال إن العطار قد ورث العطارة عن أبيه الذي اكتسب منها ثروة طائلة حتى قيل إنه أصبح مالكا لجميع حوانيت العطارة في نيسابور .

ولكن هل ظل شاعرنا طوال حياته عطارا وطبيبا ؟

للإجابة على هذا السؤال نجد أن الشائعات تتدخل ، وتحاول أن تنسج حول هذه القضية هالة من الأقاويل والأباطيل :

يقول عبد الرحمن الجامي في كتابه نفحات الأنس : « ذات يوم كان العطار في دكان عطارته فجاءه هناك فقير ، وقال له عدة مرات : أعطني شيئا اللّه ، فلم يأبه بالفقير . فقال الفقير : أيها السيد كيف تموت ؟

فقال العطار : كما ستموت أنت .

فقال الفقير : أيمكنك أن تموت مثلي ؟

فقال العطار : نعم . فوضع الفقير قدحه تحت رأسه وقال : اللّه ! وأسلم الروح .

فتغير حال العطار وتخلص من متجره توا ، وجاء إلى هذا الطريق » .

ورواية دولتشاه قريبة من هذه الرواية ، وإن كانت بها بعض الإضافات البسيطة ويختمها دولتشاه بقوله : « وذهب إلى صومعة الشيخ العارف ركن الدين الاكاف ، وطلب التوبة على يد هذا الشيخ ، وشغل بعد ذلك بمجاهدة نفسه وبالرياضة الروحية ، وظل في حلقة الدراويش عدة سنين . . . .

ويفهم من روايتي جامي ودولتشاه أن تحول العطار إلى التصوف كان فجائيا ، وهذا الأمر يدعو إلى الشك والريبة ، وهناك أكثر من دليل على كذب هذه القصة.

أولا : كان العطار نفسه مولعا بالصوفية منذ صغره ، فهو يقول في مقدمة تذكرة الأولياء ما ترجمته .

وباعث آخر - لتأليف الكتاب - هو أنني بلا سبب كنت أشعر منذ الطفولة بمحبة زائدة تجاه هذه الطائفة تموج في قلبي ، كما كانت أقوالهم تسعدني في كل آونة .

أي أنه كان بالصوفية شغوفا منذ الصغر ، وعلى هذا فإننا نستبعد أن يكون قد تحول تحولا مفاجئا إلى الطريق الصوفي .

ثانيا : يخبرنا العطار بأنه ألف « مصيبت ‌نامه » ، « وإلهي نامه » في دكانته حيث قال ما ترجمته :

مصيبت ‌نامه وهي حسرة العالم ، وإلهي نامه وهي الأسرار المشهودة - بدأتهما في الصيدلية وسرعان ما فرغت من كلتيهما .

وعلى هذا فالعطار كان صوفيا قبل أن يهجر دكانه ، والحقائق الصوفية في هذين الكتابين لا يمكن أن يتفوه بها مريد جديد ، بل صادرة عن شيخ خبر الطريق وعرفه معرفة تامة .

ولكن ، إذا كان العطار صوفيا منذ صباه ، فلم هجر دكانه ؟

لا بد وأن حالة الوجد غلبت عليه وزاد عشقه الصوفي ، فأصبحت العطارة حجابا في طريقه ، وعلى عادة الصوفية ، تخلص من هذا الحجاب ، ومن كل العلائق الدنيوية وتوجه إلى الخانقاه ، ليكون خالصا للعبادة وليحصل أكبر قدر من المعرفة الإلهية والحكمة الذوقية .

ولكن ، ما مدى صحة ما قاله دولتشاه من أن العطار بعد أن ترك دكانه توجه إلى صومعة الشيخ ركن الدين الآكاف ؟

للإجابة عن هذا السؤال يحسن بنا أن نتكلم عن شيوخ العطار .

رابعا : شيوخ العطار

اختلف الباحثون فيما بينهم حول الشيوخ الذين اتصل بهم العطار أو تأثر بهم . فمن قائل إنه كان أويسيا ، وآخر يقول أنه من أتباع نجم الدين الكبرى ، وثالث يرجح أنه من مريدي الشيخ ركن الدين الآكاف ، ورابع يرى أنه من أنصار الشيخ مجد الدين البغدادي ، وخامس يستنتج من مدائح العطار للشيوخ أنه كان من أنصار الشيخ أبي سعيد بن أبي الخير . . .

وقبل أن نصل إلى رأي قاطع في ذلك يحسن بنا أن نذكر بعض هذه الآراء تفصيلا .

يقول دولتشاه إن العطار بعد أن هجر دكانه توجه إلى صومعة ركن الدين الأكاف ، وعاش فيها فترة يتعبد وذلك ، بالمجاهدة والرياضة الروحية . . ..

معنى ذلك أن العطار من مريدي هذا الشيخ ، وإذا كنا انتهينا إلى أن العطار ولد بين عامي 545 هـ و 550 هـ فلا يمكن أن يكون من مريدي هذا الشيخ لأن ركن الدين الأكاف توفي عام 549 هـ .

ويقول دولتشاه أيضا ، إن العطار قد أصاب الطريق بنظرة وقعت عليه من الشيخ قطب الدين حيدر والعطار ما زال في دور الطفولة ، ولذا فإن العطار ألف كتابه « حيدر نامه » إهداء لهذا الشيخ.

ولكن هذا القول مردود كذلك ، لأن حيدر نامه من الكتب المشكوك في صحة نسبتها إلى الشيخ العطار ، كما أن فروزانفر يضيف إلى ذلك قوله : « إن هذه الرواية لا أساس لها من الصحة وقد انفرد بروايتها دولتشاه دون غيره . . . . وعلى هذا فنحن لا نستطيع أن نصدق هذا القول .

ويقول جامي : إن البعض يقولون إن العطار أويسي .

والأستاذ فروزانفر يشرح لنا المقصود بالأويسية ، فيقول :

وأويسي في تعبيرات الصوفية يقصد به الشخص الذي لا يأخذ بظاهر المشيخة ، وإنما من استفاد بروحانية الرسول المعظم أو أحد المشايخ ، ومن اكتسب الفيض وقد طهر باطنه وأضاء بنور المعرفة قلبه ،وتم سيره وسلوكه بتأييد من روحانية ذلك الشيخ .

ولكننا لا نعلم أن أويس القرني قد أسس مذهبا أو طريقة صوفية ، كما لم يخبرننا أحد معاصريه بأنه كان صوفيا بل كان زاهدا ، ففي وقته لم يكن للصوفية وجود ، إذ أن الصوفية بدأت في الظهور في العام الأخير من القرن الثاني وأويس كان من رجال القرن الأول الهجري .

ويقول فروزانفر إن مدح العطار للشيخ أبي سعيد بن أبي الخير كمدح المريد لشيخه ، دليل آخر على أن العطار لم يكن أويسيا .

ويقول جامي كذلك : وهو - أي العطار - مريد للشيخ مجد الدين البغدادي ثم أورد ما حدث بينهما وأثبته العطار في مقدمة تذكرة الأولياء .

حقيقة كانت هناك لقاءات بين العطار وغيره من متصوفة زمانه ، ومن هؤلاء الذين التقى بهم الشيخ مجد الدين البغدادي المقتول عام 606 هـ . أو 616 هـ  وهذه اللقاءات كان يحدث فيها تأثير وتأثر ، فلا أشك في أن العطار قد تأثر بهذا الشيخ ولكن ليس كل التأثر ، وأعتمد في هذا الرأي على ما جاء في كتابه تذكرة الأولياء ، لأننا لا نشك في صحة نسب هذا الكتاب إلى العطار ، ولأن الروايات التي ذكرت عن اتصال العطار بشيوخ آخرين لا تعتمد على سند قوي من مؤلفات العطار يمكن أن يقف إلى جوار هذا السند .

ويقول الأستاذ نفيسي اعتمادا على قول الشيخ سليمان بن إبراهيم صاحب كتاب ينابيع المودة - إن العطار كان من أنصار الشيخ نجم الدين كبرى . ويستدل على ذلك بما قاله العطار في كتاب مظهر الصفات ص 295 : « كنت عند شيخي وسندي الشيخ نجم الدين الكبرى قدس سره ، فحدثني هذا الحديث فغلب عليه الوجد والحال القوي فبكيت معه فحقرت الدنيا في أعيننا ، وقلعنا حب الدنيا عن قلوبنا " .

كما قال في نفس الكتاب ص : 137 " كنت ذات ليلة عند شيخي وسندي الشيخ نجم الدين الكبرى قدس سره ، فحدثني هذا الحديث فغلبت عليه الوجد والحال القوي وبكيت فحقرت الدنيا في أعيننا" .

معنى هذا أن العطار كان مريدا للشيخ نجم الدين الكبرى ، ولكن إذا عرفنا أن الشيخ سليمان اعتمد في ذلك على كتاب مدسوس على العطار ولم يسنده أحد مطلقا إلى العطار قبل عام 1291 هـ  سنة تأليف ينابيع المودة - وهذا الكتاب هو مظهر الصفات ، ويرجح أنه نفس الكتاب المعروف باسم « مظهر العجايب » الذي ثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه لعطار آخر .

وعلى هذا فاعتبار العطار من مريدي الشيخ نجم الدين كبرى قول مردود لا يوجد ما يؤيده من الأسانيد القوية .

ويقول الأستاذ فروزانفر إن العطار قد تأثر بالشيخ أبي سعيد ابن أبي الخير المتوفى عام 440 هـ .

والدليل على ذلك أنه أكثر من مديحه فقد ذكره في تسع حكايات بمصيبت ‌نامه وفي خمس حكايات بإلهي نامه وفي ثلاث حكايات بمنطق الطير ، وفي حكاية واحدة بأسرار نامه . وكل هذه الحكايات تعظم أبا سعيد غاية التعظيم .

وهذا ليس بغريب لأن طبيعة الشاعر تنزع دائما إلى الشعر والشعراء فما بالك إذا كان أبو سعيد والعطار يتفقان في أكثر من صلة ، أولها صلة الشعر ،

 وثانيها صلة التصوف والعرفان . كما أن العطار يشير في بعض أبياته إلى أن ما وصل إليه من علم ومعرفة مستمد من روحانيات الشيخ أبي سعيد فضل اللّه بن أبي الخير .

- إنني أدرك أن كل حظ أجده في هذا الزمان من أنفاس أبي سعيد .

- كما أنني أحظى في كل لحظة ، بنصيب وافر من سبل مدده .

ولكنني أضيف إلى هؤلاء كلهم شيخا آخر ما زال أثره قويا حتى الآن في تفهمنا لديننا الإسلامي ، هذا الشيخ صاحب التأثير في العطار هو أبو حامد الغزالي ؛ والأدلة على ذلك كثيرة :

أولا : كان أبو حامد الغزالي شافعيا ، وقد تابعه العطار في ذلك .

ثانيا : أول من أعلن الحرب على الفلسفة كان الإمام الغزالي وقد تابعه العطار في هذه الحرب ( وسأشير إلى ذلك تفصيلا فيما بعد ) .

ثالثا : العطار متأثر في بعض قصصه بالغزالي وخير دليل على ذلك قصة منطق الطير نفسها فقد أخذ أصولها عن « رسالة الطير للغزالي » وسأشرح ذلك عند الحديث عن منطق الطير بين الخلق والنقل " .

وكذلك أخذ العطار أصول قصة الشيخ صنعان عن الفصل العاشر من تحفة الملوك للغزالي ( وسأشير إلى ذلك أيضا عند الحديث عن قصة الشيخ صنعان ).

 رابعا : لقد قام الغزالي بالتدريس فترة بنيسابور ولابد وأنه ترك آثارا عظيمة بها ، فكان لها أثرها في تفكير العطار بعد ذلك .

وبناء على كل ما تقدم فإنني أميل إلى أن العطار قد تأثر بأكثر من شيخ ، وأنه لم يكن يتبع طريقة معينة من الطرق الصوفية التي كانت سائدة في عصره ، وإنما أخذ من كل طريقة ما كان يروق له منها .

خامسا : ثقافته

أول ما يتطرق إلى الذهن من ثقافة العطار هو ما يتصل بتخلصه ، وأقصد بذلك فن الطب والتطبيب ، فعمله في هذا المجال في بداية حياته خير دليل على أنه كان عالما بأصول الطب المعروفة في عصره ، وهو يشير إلى ذلك في منظومته مصيبت ‌نامه فيقول ما ترجمته

كان بالصيدلية كل يوم خمسمائة شخص يطلبون مني أن أجس نبضهم .

ويقول بعض المؤرخين : إن أستاذه في هذا الفن هو مجد الدين البغدادي الطبيب الخاص للسلطان محمد خوارزمشاه .

ولكنني أعتقد أن معلم العطار الأول لفن الطب والده فقد كان عطارا هو الآخر ، فورث العطار عنه مهنته .

وبالنظر إلى مؤلفاته العديدة نستطيع أن نستنتج أنه كان على علم كبير بأصول الفقه الإسلامي ، كما كان للقرآن حافظا وللحديث مطلعا ،

ولعلم الكلام دارسا . فكثيرا ما يتحدث عن مسائل فقهية في كتاباته أو يستمد فكرة من معاني القرآن والحديث .

وكان العلم النافع في عقيدته هو الفقه والتفسير والحديث وما عدا ذلك لا فائدة منه للإنسان ، ولا يصل به إلى حد النجاة .

وقصص العطار الخاصة بأخبار السلاطين والملوك أمثال محمود الغزنوي وسنجر وخوارزمشاه والإسكندر توضح لنا أن العطار كان على علم كبير بالتاريخ .

والعطار بجانب ذلك كان شغوفا بقراءة سير السابقين من المشايخ والأئمة ؛ وكتابه « تذكرة الأولياء » خير دليل على ذلك .

وقد قرأ كتبا كثيرة حتى يجمع مادة هذا الكتاب حتى وصل مجموع ما قرأه من كتب السير والتراجم أربعمائة كتاب والعطار ، رغم إعلانه الحرب الشعواء على الفلاسفة والفلسفة ، كان على علم بالفلسفة وعلم الكلام ، وخير دليل على ذلك تناوله فكرة وحدة الوجود ووحدة الشهود في كتابه منطق الطير ، كما أنه تأثر بالفلسفة في مسألة تفاوت الجسم والروح ، وكذلك بخصوص حركة الجوهر وسير أجزاء العالم صوب الكمال المطلق والثواب والعقاب الأخروي .

والعطار كأي شاعر - اطلع على الإنتاج الأدبي السابق عليه وكذلك كان على علم بالأوزان والقوافي والموسيقى ، وكل ما يساعده على الجودة وحسن الصنعة في نظمه .

وقصة الشيخ صنعان تخبرنا أن العطار كان على علم تام بالديانات السماوية السابقة ، وعلى معرفة بأصولها ورسومها .

أضف إلى فنون ثقافته سعة إدراكه لقوانين علم النجوم ، فبعض أقواله تتضمن حلا لبعض مظاهر الطبيعة وأسرارها ، وخير دليل على ذلك تلك الحكاية التي وردت بمنطق الطير نسخة باريس ص 144 وتحمل أرقام الأبيات من

 ( 3616 ) إلى ( 3626 ) .

بعد هذه النظرة إلى ثقافة العطار يمكننا أن نقول إنه كان على إلمام كبير بأغلب فنون الثقافة في عصره ، فشاعر عظيم ومفكر كبير كالعطار لم يكن يرضى أن يترك فنا من فنون الثقافة في عصره دون أن يطلع عليه ويأخذ بنصيب منه

سادسا : نظرته إلى الفلسفة والفلاسفة

تابع العطار الحملة الشعواء التي بدأها أبو حامد الغزالي ضد الفلسفة فحاول الإقلال من شأنها ومن شأن المشتغلين بها ، وذلك لأن الفلسفة تتصل بالعقل والعطار ينفر من العقل ويجعله قاصرا أمام إدراك الأسرار الإلهية . ولذا فإن العطار يجعل الفلسفة هي الأخرى قاصرة أمام عالم الروحانيات ، بل إنه يفضل الكفر على الفلسفة ، فقد قال في آخر منظومته منطق الطير ، ما ترجمته :

كيف تعرف عالم الروحانيين من بين حكمة اليونانيين ؟

ولن تكون رجلا في حكمة الدين إن لم تفارق هذه الحكمة .

وكل من يحمل هذا الاسم ( أي فيلسوف ) في طريق العشق ، فلن يكون خبيرا في مجال الدين بالعشق .

وبحق المعرفة ، كم أفضل هنا كاف الكفر على فاء الفلسفة .

ولكن ، لماذا وقف العطار هذا الموقف من الفلسفة والفلاسفة يقول الأستاذ فروزانفر ، ربما أن السبب الأصلي الكامن وراء ذمه الحكمة والفلسفة يرجع إلى أن أكثر المعلمين والمتعلمين لهذا الفن في تلك الأيام ، كانوا قد أصابهم الجمود على أقوال ومصنفات أبي نصر الفارابي وأبي علي بن سينا ، وجمدوا على الآراء المنقولة عن حكماء اليونان ، وأن النظرة الحرة ، الطليقة كانت تعوزهم . بعكس الأدب والفقه ، فقد كان الأدباء والفقهاء يستندون في أقوالهم إلى القرآن الكريم والحديث وكل ما يتعلق بالدين .

وبطبيعة الحال تابع العطار مفكري عصره في ذلك ودعا إلى الاعتماد على القرآن والحديث وهجر الفلسفة وحكمة اليونانيين ، فقال أيضا ما ترجمته .

- ويكفي رجل الدين حكمة السيرة ( المحمدية ) ، فانثر التراب على مفرق اليونانيين من طريق الدين .

وإذا كان موقف العطار هكذا من الفلسفة ، فلا بد وأن يكون له نفس الموقف من علم الكلام فهو يقول .

- ولكن إن يقطع علم الجدل الطريق ، فهو هكذا كثيرا ما يقطعه على العارفين .

على الرغم من أن العطار كان يحارب الفلسفة والفلاسفة ، وكذلك

علم الكلام ، إلا أنه بلا شك قد تأثر بمنهجهما في الكلام ، وقد أشرت إلى ذلك من قبل .

كما أن طبيعة التصوف لا تتفق مع طبيعة الفلسفة وعلم الكلام ، فالتصوف يعتمد على القلب أما الفلسفة وعلم الكلام فيعتمدان على العقل ، والعقل مذموم لدى الصوفية . وعلى هذا فليس غريبا أن يهاجم العطار الفلسفة وعلم الكلام رغم تأثره بمنهجهما في العرض والاستدلال .

سابعا : مذهب العطار

اختلف الباحثون قديما وحديثا حول تحديد مذهب العطار ، فبعضهم يقول إنه من أنصار المذهب السني ، والبعض الآخر يدعي أنه شيعي متعصب ، والبعض يجمع بين الرأيين ، فيقول إنه شيعي ، ولكنه كان يظهر أنه سني حتى لا يتعرض لعنت أهل السنة وإيذائهم .

ولكي نعرف الحقيقة يجب أن نعرض لجملة من الآراء ثم نعلق عليها بعد ذلك مستندين إلى أقوال العطار وظروف حياته .

يقول « جارسان دي تأسي » في مقدمة ترجمته الفرنسية لمنطق الطير :

كان العطار سنيا لا شيعيا وهو يناصر الخلفاء الثلاثة الأول في مقدمة منظومته - منطق الطير - وإن أفكار العطار السنية تبعد كثيرا من الفرس عن قراءة مؤلفاته.

ويقول الأستاذ نفيسي : إن العطار سني شافعي .

ويقول الدكتور عزام : إن العطار سني متشدد .

ويقول الأستاذ فروزانفر : إن ظاهر آثار العطار توحي بأنه سني المذهب ، فهو يمدح الخلفاء الثلاثة الأول ، كما يمدح الشافعي وأبا حنيفة .

هذه آواء الباحثين الذين يرون أن العطار كان سني المذهب .

وعلينا أن نعرض بعدها لجملة من آراء الباحثين الذين يرون أنه كان شيعي المذهب .

اعتبر القاضي نور اللّه الششتري العطار شيعيا خالصا ، وقد أوّل كل مدائحه لصحابة الرسول عليه السلام ليثبت أنه شيعي .

ويقول المستشرق الروسي « بارتلس » مما لا شك فيه أنه - أي العطار - قد قاسى كثيرا من أجل عقيدته الشيعية المتغالي فيها ، ولذلك حكم عليه بالقتل إلا أنه تعلق بأذيال الفرار ، وبذلك فقد كل ثروته حتى أصبح في شيخوخته شديد الفقر ، ومات في منفاه ، وأغلب الظن أن موته كان في مكة .

لا شك أن الأغلاط تكثر بهذه العبارة ، فلم يحدثنا أحد أن موته كان بمكة ، فالكل يعترف بأنه مات في نيسابور ، وقبره بها حتى الآن ، والظاهر أن بارتلس اعتمد في ذلك على « لسان الغيب » و « مظهر العجائب » المدسوسين على العطار ، وعلى هذا فأقوال بارتلس يجانبها التوفيق تماما .

 

ويتابع جان ربيكا - المستشرق الألماني - أقوال بارتلس فيقول :  

« بالرغم من أنه - أي العطار - تربى تربية متأثرة بالتشيع ، فإن مؤلفات معاصريه تدل على أنه كان سنيا ، ولعل ذلك منه تقية لأنه في النهاية يقر بالتشيع ، وهذا ما عرضه للاضطهاد من أهل السنة حتى أنهم نهبوا داره وهددوه بالقتل ، وإن كان هذا لا يبدو صحيحا والأرجح أن سبب حقد أهل السنة عليه يرجع إلى حملاته العنيفة على علماء السنة ، وذلك لتهالكهم على حب الدنيا وعلى ريائهم ونفاقهم ولكراهيته للترك ".

ويوضح لنا بروان - المستشرق الإنجليزي - الأساس الذي بنى عليه بعض المؤرخين كلامهم عن اضطهاد العطار وفراره إلى مكة خوفا من القتل فيقول : إن العطار نسب إليه كتاب « مظهر العجايب » وهو عبارة عن منظومة في مدح علي بن أبي طالب . . . .

ويبدو أن نشر العطار لهذه المنظومة كان سببا في إذاعة روح السخط والتعصب لدى أحد الفقهاء السنيين من أهل سمرقند ، فأمر بإحراق نسختها واتهم صاحبها بالإلحاد وأنه حقيق بالموت والإعدام ، ثم أمعن في الكيد له فاتهمه بالكفر لدى براق التركماني وحرض العامة على هدم منزله والإغارة على أمتعته ، واضطر العطار بعد ذلك إلى أن يرحل ويلجأ إلى مكة . . .

ويعلق الأستاذ جولبنارلي المترجم التركي لمنطق الطير - على هذه الحكاية وأمثالها فيقول :

" ويؤخذ من هذا كله أنه في القرن التاسع الهجري أو بعد هذا القرن وجد عطار آخر أو كتبت كتب باسم العطار ، كتبها شيعي باطني ، وإن كتاب مظهر العجايب ولسان الغيب وشترنامه وما يشبهها قد كتبت باسم العطار لتترنم بالتشيع المغالي فيه وقد تكون هذه الكتب من تصنيف هذا العطار الآخر .

وفي رأيي أن العطار كان سنيا ولم يكن شيعيا ، فكل كتبه ومنظوماته تثبت ذلك ، فما ألف منظومة إلا وأثبت فيها مدح الخلفاء الراشدين جميعا ، ولم يفضل واحدا منهم على الآخرين ، أما إذا كانت منظومة من منظوماته قد وصلتنا وقد خلت من مدح الخلفاء الثلاثة السابقين فلا شك أن بعض غلاة الشيعة قد مدوا أيديهم لهذه المنظومة ورفعوا منها مدح أبي بكر وعمر وعثمان .

كما أن العطار يعلن حربا شعواء على التعصب والمتعصبين في مقدمة « منطق الطير » حتى أنه اعتبر المتعصب جاهلا فهو يقول .

يا من وقعت أسير التعصب وظللت أبدا أسير البغض والحب ، إن كنت تفخر بالعقل واللب فكيف وقعت أسير التعصب ؟ . . . .

فيا جاهلا لا رغبة في الخلافة إذ كيف تتأتى الرغبة لدى أبي بكر وعمر . . . . ؟

ولكن إذا سلمنا بأن العطار كان سني المذهب فأي مذهب من مذاهب السنة كان يتبع ؟

يكاد أغلب المؤرخين في العصر الحديث يجمعون على أنه كان شافعيا .

 خاصة وأن الصوفية في ذلك العصر - في الغالب - كانوا يفضلون المذهب الشافعي على غيره .

ولكنني أعتقد أن العطار لم يكن متعصبا في شافعيته - إن كان حقيقة شافعيا - والأدلة على ذلك كثيرة .

أولا : لقد ذكر أبا حنيفة وترجم له ومدحه في كتابه تذكرة الأولياء كما ذكر الشافعي .

ثانيا : إن الشيخ السبكي صاحب طبقات الشافعية الكبرى لم يذكر اسم العطار بين الشافعية الذين ذكرهم .

ثالثا : إن العطار خص أحمد بن حنبل بحكاية من حكايات منطق الطير ولم يخص الشافعي بحكاية مثلها .

رابعا : إن الصوفي بطبيعته يحاول أن يكون فوق المذاهب ، وإن كان في بعض المسائل الفرعية يرجح فتوى أحد هؤلاء المشايخ الأربعة على الآخرين ، ولكنه لا يتقيد بالتبعية لواحد معين .

خامسا : إن ذم العطار للتعصب ينطبق على التعصب بين السنة والشيعة أو بين الفرق السنية بعضها والبعض الآخر ، خاصة وأن هذا العصر كثرت فيه المشاحنات بين الشافعية والحنفية .

ثامنا : بعض النكات في حياته

من المعروف عن الأدباء عامة والشعراء خاصة في القرون الوسطى

أنهم كانوا يتنقلون بين قصور الملوك والأمراء مادحين من يدفع أكثر ، جاعلين ألسنتهم أبواق دعاية لهؤلاء الملوك والأمراء فلم تكن هناك صحافة ولا إذاعة فكان الشعراء هم الذين يقومون بمهمة وسائل الإعلام في عصرنا الحديث ، وبالطبع كان الشاعر يفني نفسه في ممدوحيه ، يقول ما لا يعتقد ويمدح من لا يستحق أملا في الهبات والعطايا .

فهل كان فريد الدين العطار على شاكلة هؤلاء ؟

لم يؤثر عنه أنه فعل ذلك فقد كان فريد الدين على ثراء في بداية حياته ، فذلك الشخص الذي يأتيه كل يوم خمسمائة مريض فيجري الكشف الطبي عليهم ويبيع الدواء لهم ، لا بد وأن يكون ثريا ، وليس في حاجة لأن يستجدي أي ممدوح .

كما لم يؤثر عن العطار أنه أهدى كتابا من كتبه إلى أحد أو ختم منظومة من منظوماته بمدح ملك أو أمير ، كما فعل سنائي الشاعر الصوفي ، فقد ختم « سير العباد إلى المعاد » بمدح "أبي المفاخر سيف الدين محمد بن منصور" قاضي سرخس .

والدليل على أنه لم يمدح أحدا في حياته موجود في كتاب منطق الطير حيث قال ما ترجمته .

شكرا للّه ، فلم ألجأ إلى قصر ، ولم أكن ذليلا لكل حقير .

ولم أطعم خبز ظالم مطلقا ، ولم أختم كتابا بذكر أحدهم مطلقا .

ولكن هل ظل العطار على هذه الحال من الثراء والغنى ؟

أظن أن حاله تبدلت بعد أن هجر الصيدلية ، وأنه وصل إلى حالة

قريبة من الفقر ، فكان طعامه الخبز الجاف يبلله بدموع عينيه ؛ حيث قال - وعندما أقيم مائدة من خبز خشن ، فإنني أبلله بدموع عيني .

كما يبدو من شعره أيضا أنه كان يحب العزلة ولا يثق في الخلق ، حتى أنه شبه نفسه في الديوان بمالك الحزين .

يقولون لي : ما له قد آثر العزلة ، لا ؟ إنني أصادق اللّه في هذه العزلة .

ولا صديق لي بين الخلق ، وإن كنت أفعل ذلك فهذا لأنني في الطبع كمالك الحزين .

* * *

وشيء آخر ردده الباحثون كثيرا ، وانقسموا في الرأي إزاءه ، هذا الأمر هو لقاء جلال الدين الرومي بالعطار ، فهل التقيا حقيقة ؟

قال براون: « . . . وسار الوالد - بهاء الدين ولد - حتى اجتاز مدينة نيسابور في سنة 608 هـ - 1212 م وزار هناك الشيخ « فريد الدين العطار » ويقال إن هذا الشيخ أخذ الطفل « جلال الدين » بين ذراعيه وبشره بمستقبل عظيم ثم باركه وأعطاه نسخة من منظومته « إلهي نامه » . . . » .

ويقول البعض إن هجرة بهاء ولد كانت عام 616 هـ أو 617 هـ ولكن جامي كان قد ذكر أن الكتاب الذي قدمه العطار لمولانا هو « أسرار نامه »  لا « إلهي نامه » كما ذكر براون .

وليس هذا بغريب ، فمن عادة الصوفية أثناء الرحيل الإسراع بلقاء كل رجل مشهور تسنح لهم الفرصة لزيارته - خاصة وإن العطار كان من الرجال المشهورين والشعراء البارزين ، ولا بد وأن بهاء ولد كان على شوق لرؤيته ، فانتهز هذه الفرصة .

كما أن هذا اللقاء لا غرابة في حدوثه إذا عرفنا أن التواريخ التي ذكرت كلها لحدوث اللقاء سابقة على وفاة العطار .

هذه بعض النكات التي مرت بها حياته وليست كلها ، وكتب التراجم زاخرة بمثل هذه النكات ، مما يجعلني أكتفي بهذه النبذة البسيطة دون الإفاضة في هذا الأمر أكثر من هذا الحد .

تاسعا : وفاة العطار

كما اختلف الباحثون قديما وحديثا حول تحديد سنة ولادته ، فقد اختلفوا في تحديد سنة وفاته حيث تضاربت الأقوال تضاربا عجيبا ، فأول تاريخ حدد لوفاته هو عام 586 هـ وآخر تاريخ هو 727 هـ .

فجامي قد حدد عام وفاته بعام 627 هـ ، ودولتشاه ذكر ثلاثة تواريخ لوفاته هي 589 هـ ، 619 هـ ، 627 هـ .

وكتاب ( هفت إقليم ) أرخ لوفاة العطار برباعية حدد فيها عام وفاته بحساب الجمل وهذه ترجمتها :

الشيخ العطار فريد الزمان مرشد الملوك وسلطان الفقر

وقد استشهد هذا المرشد في طريق الفقر ، فصار تاريخ وفاته لذلك "راه فقر"

وبحساب الجمل تكون عبارة « راه فقر » تساوي العدد : 586

والأستاذ نفيسي يعترض على ذلك قائلا : إن هذه القصيدة كتبت بعد موت العطار بما يزيد على قرنين من الزمان وطريقة حساب الجمل لم تعرف إلا في أواخر القرن الثامن الهجري .

وصاحب خزينة الأصفياء نقل عن صاحب « مخبر الواصلين » أبياتا يحدد فيها عام وفاة العطار وقد حدده ، بحساب الجمل وذكر لذلك تاريخين .

جملة : « قبله أهل جنت » وهي تساوي 626

وجملة : « بلبل جنت وجنان » وهي تساوي 627

أي أن تاريخ وفاته في رأي صاحب « مخبر الواصلين » يقع بين عامي  626 هـ ، 627 هـ

ولكن أي تاريخ حدده شاهد قبره ؟

ذكر شاهد القبر أن وفاته كانت عام 586 هـ ، ولكنه أضاف قائلا ، إن ذلك في عهد هولاكو خان .

وهذا بلا تفكير خطأ فاحش فهولاكو لم يتقدم صوب العالم الإسلامي إلا عام 651 هـ.

ويذكر صاحب جوهر الذات أن العطار توفي عام 727 هـ .

ولا شك أن المؤلف اختلط عليه الأمر ، إذ أنه كان يقصد 627 هـ فأخطأ في كتابتها

ويتابع هؤلاء المؤلفين أغلب الباحثين في عصرنا الحديث ومنهم الأستاذ سعيد نفيسي والأستاذ ذبيح اللّه صفا والمستشرق الإنجليزي براون وغيرهم من الباحثين .

ولكن بجانب هؤلاء جماعة أخرى من الباحثين يرون أنه قتل قبل عام 627 هـ بسنوات ، ما بين عامي 618 ، 619 هـ.

يقول الأستاذ فروزانفر : إن الفتح والقتل العام بنيسابور بدأ يوم السبت الخامس عشر من صفر عام 618 هـ ، وعلى هذا يكون استشهاد السيد الشيخ في النصف الثاني من صفر عام 618 هـ .

والمستشرق الإيطالي بيزي يرى أن وفاة العطار تمت بين عامي 607 ، 616 هـ .

ومن ذكر تاريخ وفاة العطار في حدود عام 618 ، 619 هـ يريد أن يربط بين وفاته وبين قصة قتله التي ذكرها دولتشاه ، وإذا عرفنا أن هذه القصة لا تستند إلى واقع وبالتالي فإن هذين التاريخين ، وكذلك أي تاريخ آخر غير عام 627 هـ يجب أن يقابل بالشك.

وعلى هذا فإنني أتابع القائلين بأن العطار توفي عام 627 هـ وذلك للأدلة الآتية .

1 - لا شك أن إجماع أغلب المؤرخين على تحديد سنة وفاة العطار بعام 627 هـ يلزمنا بقبول هذه السنة تاريخا لوفاته ، وقد قام الأستاذ نفيسي بعمل إحصاء للتواريخ التي ذكرت على أن العطار توفي في إحداها فظفر عام 627 هـ بأكبر نصيب إذ ذكر تسعا وعشرين مرة .

2 - سبق أن ذكرت أن ولادة العطار تمت في رأيي - ما بين عامي 545 هـ و 550 هـ وأنه عاش أكثر من السبعين ببضع سنوات وعلى هذا فأقرب التواريخ لوفاته هو عام 627 هـ.

3 - قال العطار في إحدى منظوماته يتحدث عن نجم الدين كبرى ، وذلك نقلا عن الترجمة التركية لمنطق الطير والتي قام بها الأستاذ جولبنارلي .

اينجين كفتست نجم الدين مارا * آنكه بوده ، در جهان از أوليا

- وهذا ما قاله نجم الدين لنا ذلك الذي كان من الأولياء في الدنيا .

ونلاحظ أن الفعل « بوده » في الزمن الماضي ، مما يؤكد أن العطار قال هذا البيت بعد وفاة نجم الدين كبرى ، ونحن نعرف أن وفاته كانت عام 618 هـ ، وعلى هذا فالعطار كان على قيد الحياة بعد هذا العام .

4 - يقول الأستاذ نفيسي إن العطار تحدث عن بعض معاصريه كما يتحدث الإنسان عن الأموات وهؤلاء المعاصرون هم :

سعد الدين الحموي المتوفى عام 605 هـ ، ومجد الدين الخوارزمي المتوفى عام 616 ه ، وعلاء الدين تكش خوارزمشاه المتوفى عام 617 هـ ، وقطب الدين حيدر المتوفى عام 618 هـ.

5 - لقاء العطار ببهاء ولد وابنه جلال الدين الرومي عام 616 هـ أو 618 هـ وإهداؤه كتاب « أسرار نامه » لجلال الدين يثبت أن العطار كان على قيد الحياة حتى عام 618 هـ.

6 - يذكر المؤرخون أن خواجة نصير الدين الطوسي التقى العطار بنيسابور - وهذا اللقاء تم بين عامي 612 ، 618 هـ قبل أن يرحل الطوسي من نيسابور  ومعنى ذلك أيضا أن العطار كان حيا حتى عام 618 هـ.

7 - برغم أن كتب التاريخ قد ذكرت أن المغول قد خربوا كل مظاهر الحياة في نيسابور وقتلوا كل حي وأحرقوا كل عود أخضر ، إلا أن هذا - في رأيي - على سبيل المبالغة في وصف فداحة الغزو ، فلا يعقل مهما كانت ضراوة المعركة أن يصيب الموت والقتل كل ساكني نيسابور عام 618 هـ ، ولا بد من نجاة البعض ، ولم لا يكون العطار من بين الناجين ، وبخاصة أنه لم يشارك في حمل السلاح والكفاح كنجم الدين كبرى مثلا ؟

ولذا فإنني أرى أن العطار استطاع بطريقة أو أخرى أن يهرب من القتل العام سنة 618 هـ وظل على قيد الحياة حتى توفي عام 627 هـ .

8 - إن التواريخ التي ذكرت بعد عام 627 هـ كلها وجدت في كتب تم تأليفها في زمن متأخر نسبيا عن عصر العطار ، ولذا لا يعتمد عليها في تحديد عام وفاة العطار .

قصة وفاة العطار :

يقول جامي : « وحضرة الشيخ استشهد في عام 627 هـ على يد الكفار . . . »

ولكن دولتشاه يفصل لنا قصة قتله فيقول :

" لقد أسره أحد جنود المغول وأراد قتله ، فتدخل أحد مريدي الشيخ وطلب أن يدفع مبلغ ألف درهم ليفدي بها روح العطار ، فقبل المغولي ، ولكن العطار لم يوافق على ذلك ، وقال : سيتقدم من يدفع أكثر من هذا المبلغ ، فلا تقبل .

وقال مغولي آخر مازحا :

لا تقتل هذا الشيخ ، إنني أدفع ثمنا له صندوقا من التبن ، فأسرع العطار بالموافقة على هذه الصفقة الأخيرة ، وقال : إن ثمني لا يتعدى أكثر من هذا . فزاد ذلك من حنق المغولي فقتله .

وهذه القصة لا تعدو أن تكون خرافة ، فعام 627 هـ لم تحدث فيه غارة على نيسابور : ويحتمل أن يكون كتاب التراجم - كما قال الأستاذ روحاني - قد كتبوا القصة بعد وفاة العطار بمدة مديدة حيث انسدل ستار النسيان على الحوادث . ولكن كانت لهم نفوس غمرها الإعجاب بروحانية العطار فظنوا أن وليا كالعطار لم يكن ليموت إلا شهيدا في جو من الخوارق والعجائب والكرامات ، ولم يخطر ببالهم أن قيمة الشاعر لا يغض منها شيء لو أنه مات ميتة طبيعية .

وهناك خرافة أخرى تتصل بقصة مقتله مؤداها : أن العطار بعد أن ضربت عنقه حمل رأسه بين يديه وعدا مدة من الزمن وهو يؤلف كتابه « بيسرنامه »  «أي كتاب المقطوع الرأس».

وهذا الأمر لا يحتاج إلى أي جهد في إثبات بطلانه ، فالعقل لا يمكن الموافقة على هذه الخوارق التي لا تروج إلا لدى السذج من العامة كما أن هذا الكتاب مدسوس على العطار ، فلا يمكن عقد أي صلة بينه وبين العطار .

وأخيرا لا يسعنا إلا أن نكذب كل هذه الأباطيل التي لا تعدو أن تكون من باب الخرافات التي لا تستند إلى واقع من حياة الشاعر ، وأن نعترف بأن العطار توفي وفاة طبيعية عام 627 هـ.

قبر العطار :

يقول الأستاذ نفيسي نقلا عن « إمام زاده محمد مرزوق » : أما مقبرة فريد الدين العطار رحمه اللّه عليه فهي تقع غرب نيسابور وهي بقعة مسدسة تقريبا ترتفع عن الأرض مقدار ثمانية أذرع وقد كتب على أعلى المدخل جهة الجنوب « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » يا زكي الطاهرين ، من كل آفة يقدسه ، العاصي عبد العلي .

وقد كتبت على النصب الحجري في أعلى القبر هذه العبارة « اللهم صلى على النبي الوصي والبتول والسبطين .

وزين العباد والباقر والصادق والكاظم والرضا والتقي والنقي والعسكري والمهدي صلوات اللّه عليهم".

وهذا القبر تم بناؤه في عام 891 هـ أيام الأمير الغازي حسين بايقرا وهو أحد أفراد الأسرة التيمورية ، وكان شيعيا متعصبا لذا اهتم بكتابة أسماء الأئمة الاثني عشرية على قبر العطار حتى يوحي للجميع بأن العطار كان شيعيا .

ولكن هل هذا القبر هو أول قبر بني للعطار ؟

بطبيعة الحال ، لم يكن أول قبر ، فقد بني له قبر عادي يوم وفاته ، ثم شيد القاضي يحيى بن صاعد عمارة بجواره امتثالا لأمر ابنه المتوفى وقد كان من محيي العطار ، ثم خربت هذه العمارة فأعاد الأمير نظام الحق والدين عليشير بناء عمارة أخرى لتكون مزارا للشيخ يزوره الناس للتبرك به .

وما يهمني من كل ذلك هو النص الذي كتب على شاهد القبر ، وقد اطلعت على صورتين لهذا النص ، الأولى أوردها جارسان دي تأسي في مقدمة ترجمته لمنطق الطير عام 1862 م ،

والثانية أوردها الأستاذ نفيسي في كتابة « جستجو . . . » الذي ألفه عام 1321 هـ . ش ونص جارسان يبلغ عشرين بيتا أما نفيسي فيزيد عليه ثلاثة أبيات ، وهذه ترجمة لذلك النص.

01 - هذه جنات عدن في الدنيا ، عطر العطار مهجة من دنا

02 - إنه قبر ذي المكانة العالية ، من كان تراب طريقه كحل الفلك الأزرق.

03 - والعطار هو شيخ العالم الفريد ، وكل الأولياء له مريدون .

04 - وما أعجبه من عطار ، فقد تعطرت الدنيا على رحبها بشذى أنفاسه .

05 - وفي دكانه حيث تعيش الملائكة، كان الفلك زجاجة مليئة بأقراص الليمون.

06 - وحتى يوم القيامة سيظل لتراب نيسابور شرف عظيم بفضل صاحب هذا المقام العالي .

07 - وقد أحال تراب نيسابور ذهبا ، فمولده بزروند ومقره بكدكان .

08 - وقد عمر اثنين وثمانين عاما في سابور ، واستقر به الحال اثنين وثلاثين عاما في شادياخ

09 - وفي عام ستة وثمانين وخمسمائة هلك بالسيف ذلك الشبيه بالشمس الوهاجة

10 - هلك في عهد هولاكوخان ، واستشهدت روحه الطاهرة

11- والعارفون باللّه حق المعرفة ، تخلوا عن أرواحهم فداء له

12 - روح اللّه تعالى روحه ، ربّ أكثر من بره وفتوحه .

13 -  وقد تمت هذه اللوحة لذلك العالي المنزلة في زمان دولة سيد الدنيا

14 - حضرة السلطان أبي الغازي حسين ، ظل الحق وظهير وملاذ الخافقين

15 - والقضاء والقدر جعلاه من الصولة ، حتى أنه يقدم لعدوه من العسل سما

16 - وما أن سمع أنو شيروان بعدله ، حتى أصاب السرور روحه

17 - وبفضل عدل ذلك الملك الشجاع استطاع الماعز أن يمشط لحيته بمخلب الأسد

18 - خلد اللّه تعالى ملكه ، وفي بحار العدل أجرى فلكه

19 - وكم أدرك التوفيق ذلك الأمير الكبير ، كما أصبح ملاذا وملجأ للأمير والفقير

20 - والأمير الجواد عليشير ، كم كان الفلك بعوضة صغيرة أمام همته

21 - وهو صاحب خيرات بلا كبر ولا رياء ، وهو مظهر الأنفاس المقدسة الطاهرة

22- وقد أبعد النفس عن الطمع والشهوة ، فهو كالحكماء فخره بفقره

23 - وهو يعيش في فلك أقوال العطار على الدوام حتى أدركت روحه مجال التحقيق

 لا شك أن تأليف القصيدة بعد موت العطار بسنوات طوال تقدر بأربع وستين ومائتي سنة ، أوقع ناظمها في أخطاء أشرت إلى بعضها في ثنايا البحث وأجملها سريعا هنا : -

1 - تابع من قبله في تحديد عمر العطار بمائة وأربع عشرة سنة وهذا خطأ

2 - ذكر نيسابور على أنها « سابور » وهذا خطأ أيضا

3 - ذكر أن مولده في « زروند » ولعله يقصد « زورابذ » وهي ناحية بنيسابور .

4 - وكد كان هي كدكن التي نسب دولتشاه العطار إليها وهي قرية من قرى خراسان .

5 - حدد عام وفاته بعام 586 ه ثم أردف قائلا : إن ذلك في عهد هولاكو ، وهذا لا يحتاج إلى جهد لإثبات بطلانه ، فلم يتقدم هولاكو إلى العالم الإسلامي إلا عام 651 هـ.

وبهذا ينتهي الحديث عن العطار من الناحية التاريخية ، بعد أن تحدثت عن رحلة حياته من المولد إلى الوفاة ، وما اتسمت به هذه الرحلة من أحداث ونكات وذلك في إيجاز شديد .


الفصل الثاني منظومة منطق الطير

تمهيد : مؤلفات العطار

يرتبط اسم فريد الدين العطار بالعديد من الكتب ، حتى أوصلها البعض إلى مائة وأربعة عشر كتابا ، أي بعدد سور القرآن الكريم .

ولا شك أن هذا العدد مبالغ فيه ، إذ لم يذكر جامي من مؤلفاته إلا أسرار نامه فقط ، وذكر دولتشاه أربعة عشر كتابا ، وذكر القزويني واحدا وعشرين كتابا ،

أما جولبنارلي التركي وريتر الألماني فقد أوصلا مؤلفات فريد الدين العطار إلى ثلاثين كتابا ، وأخيرا قام الأستاذ سعيد نفيسي بعمل إحصاء لجميع أسماء الكتب التي قيلت إنها من تأليف العطار ، فوصل العدد إلى ستة وستين كتابا ومع هذا فإن الكتب الصحيحة النسب إلى فريد الدين العطار ، والتي وصلت إلى أيدينا تسعة كتب فقط ، هي :

1 - تذكرة الأولياء

2 – أسرار نامه

3 – إلهي نامه

4 – پند نامه

5 – خسرو نامه

6 - الديوان

7 – مختار نامه

8 – مصيبت ‌نامه

9 - منطق الطير

وجميع هذه الكتب شعرية ، عدا كتاب ( تذكرة الأولياء ) الذي تناول فيه بالشرح والدراسة أحوال عدد كبير من مشايخ التصوف ، ويقع في جزئين كبيرين وقد أشرف على طبعه وتصحيحه العلامة محمد بن عبد الوهاب القزويني .

 

كما أن هذه الكتب قد نشرت وترجم بعضها إلى لغات عدة ، أما عن الترجمة إلى اللغة العربية ، فلم يترجم منها إلا كتاب ( يند نامه ) أي كتاب النصيحة.

وبالتالي تكون الترجمة العربية التي يتضمنها هذا الكتاب هي الترجمة الثانية لأحد أعمال العطار ، وكم آمل أن تلقى بقية كتب العطار ومنظوماته عناية دارسي اللغة الفارسية في العالم العربي فيقبلون على دراستها ونقلها إلى اللغة العربية .

نقد وتحليل منظومة منطق الطير

أولا : التعريف بالمنظومة : -

لا شك أن منظومة منطق الطير من أعظم ما نظم في الأدب الفارسي عامة وفي الأدب الصوفي خاصة ، فالقالب القصصي الممتع الذي ركبت فيه بجانب المعاني الروحية التي شملتها أعطتها هذه الأهمية بين كتب التصوف ولا يكاد يذكر اسم فريد الدين حتى يذكر بجانبه اسم « منطق الطير »

فقد أصبح فريد الدين علما على « منطق الطير » وأصبح « منطق الطير » علما على فريد الدين العطار .

ويشاركني في هذا الرأي كل الذين كتبوا عن العطار دون استثناء .

فبراون المستشرق الإنجليزي يقول : « إن منطق الطير من أهم مثنويات الصوفية وأوسعها شهرة . . . » .

ويقول بارتلس المستشرق الروسي : « من أحسن ما فاضت به قريحة العطار المنظومة المعروفة باسم « منطق الطير » .

ومنظومة منطق الطير تعرف أحيانا باسم « مقامات الطيور » ، وإنني أعتقد أن العطار أخذ اسم المنظومة من القرآن الكريم ؛ إذ يقول اللّه تعالى : "وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين" .

وجميع الطيور التي تحدث عنها العطار طيور حقيقة ، لها وجود في عالمنا الأرضي ، أما إله الطير والذي رمز له باسم « سيمرغ » فطائر وهمي لا وجود له في الكون مطلقا والعطار يقص لنا قصته في أول منطق الطير ويخبرنا بأنه ينتسب إلى بلاد الصين .

- وابتداء أمر السيمرغ ، ويا للعجب ، أنها مرت بديار الصين في منتصف الليل مزدانة الإهاب .

ولكن هل العطار مبدع هذا الاسم ، أم آخذه عن غيره ؟

يقول بيزي : اسم هذا الطائر الخرافي هو « سيناميرغا » في الأفستا ، و « سين مورغ » أو « مورو » في البهلوية ، ولكن معناه يدل على شيء يختلف تماما عما استعمله العطار .

أما المستشرق الإيطالي « أنطونيو » فيقول :

« إن هذا الاسم - أي سيمرغ - من أصل فارسي خالص وقد ذكر في الأفستا ، وفي البهلوية مرتبطا بشجرة الحياة التي تنمو في ماء بحر « فاركاش » ، وأن نصا بهلويا هو « مينوك خرد » الفصل 62 ، جاء فيه أن عش هذا الطائر على شجرة طيبة وهي تعطي بذورا كثيرة ، وأغصانها تنثر بذورا تحيل الأرض خصبة إذا ما وقعت عليها » .

ويفهم من أقوال هذين المستشرقين أن طائر السيمرغ طائر ذو مكانة عند الإيرانيين قبل الإسلام ، وأنه يعيش حيث الخير والنماء والرائحة الزكية ، وقد أعاد العطار إليه الحياة بعد أن نسيه الإيرانيون مدة طويلة من الزمن ، ولكنه حرف في نطقه بعض الشيء ، حتى يتمكن من إتمام الجناس بين لفظتي « سيمرغ » « وسي مرغ » وحتى يتمكن من الوصول إلى فكرته عن « وجدة الشهود » في آخر المنظومة .

ولكن كيف أنطق العطار الطيور ؟

لا شك أن العطار أفاد في هذا الصدد من قصة سيدنا سليمان عليه السلام وحديثه مع الطير ، والقرآن الكريم تكثر به الآيات التي تفيد أن للطير لغتهم الخاصة :

« حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » .

 

كما أنطق اللّه سبحانه وتعالى الهدهد ، فقد قال الهدهد موجها حديثه إلى سليمان عليه السلام : « فَقالَ : أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ ، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ » .

إلى غير هذه الآيات التي أنطقت الطير ، وبذلك وجد العطار في القرآن الكريم مادة صالحة لمنظومته منطق الطير ، كما أن العطار أفاد كذلك من الكتب السابقة التي أنطقت الطير ككتاب « كليلة ودمنة » وغيره من الكتب .

والعطار أنطق الطير بدلا من الإنسان ، وجعلها تسعى جاهدة حتى

تدرك الاتصال باللّه ، وهذا ليس بغريب ، فاللّه يذكر أن الطير تسبح اللّه كما يسبحه الإنسان :

"ألَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ » .

ولكن كيف تمكن العطار من توليد الفكرة الصوفية من خصائص بلبل أو بومة مثلا ؟

يجيب المستشرق الألماني ريتّر على هذا بقوله :

إن الوسيلة إلى ذلك هي الوسيلة الفنية أو الصناعة التي نعتبرها عصا السحر في الشعر الفارسي والمفتاح الذي فتح به ما استغلق من معانيه ، فعند الكائنات التي لا تنطقها الطبيعة ترتبط هذه الوسيلة الفنية بأخرى ألا وهي لغة الحال « زبان حال » فإذا بدأ الكلام جماد أو كائن ليست له لغة الإنسان ليتحدث عن نفسه أو يقول شيئا ، فلن يقول إلا تأويلا شعريا خياليا لخصائصه .

وإن العطار مبرز في هذا الفن لا يشق له غبار ، وإن قدرته على استخدام هذه الطريقة تثير الدهشة في نفس القارئ .

أي أن ريتر يعتقد أن العطار يسقط شعوره ومعتقداته على هذه الطيور على أن يخص كل طائر بما يوافقه من طباع وخصائص .

وهذه طريقة تعليمية ناجحة أفضل بكثير من الطريقة النظرية التي يلقى فيها الشاعر أو الكاتب بكل آرائه وأفكاره في صورة كلمات جافة لا تنبض بالحياة ، ولكن عرض هذه الأفكار في صورة حوار مسرحي تجذب

انتباه القارئ وتساعده على تتبع خيوط هذه المسرحية ومعرفة دور كل ممثل أو طائر يظهر على خشبة المسرح ، والحكمة من ظهوره والموعظة التي يمكن أن يخرج بها من وراء دور كل طائر .

" الفن الشعري "

منظومة منطق الطير تندرج تحت فن المثنوي ، ويقصد به التزام القافية بين شطري البيت الواحد دون التزامها في آخر الأبيات كلها ، وهذا الضرب فارسي النشأة لم تعرفه الأشعار العربية ، وإن كان بعض الشعراء الذين كانوا من أصل فارسي قد استخدموه في نظم الأشعار العربية المتأخرة التي عرفت باسم « المزدوج » منذ نهاية القرن العاشر الميلادي ( الرابع الهجري ) .

أما عن الوزن الشعري للمنظومة فهو الرمل :

فاعلاتن فاعلاتن فاعلن * فاعلاتن فاعلاتن فاعلن

على أن المقياس الأخير فاعلن أحيانا يأتي في آخر الأبيات على صورتين أخريين هما : فاعلات ، فاعلاتن .

كما أنه المقياس « فاعلاتن » الذي يأتي في حشو الأبيات قد يصبح « فعلاتن » وكلا المقياسين جميل تستريح له الاذان وتستمع بموسيقاه « 2 »

وعلى هذا نرى أن هذا البحر رخو يساعد الشاعر على حرية التعبير فهو ليس بحرا جامدا يلزم شاعره بصورة واحدة ، وهذا ما دفع بيزي إلى أن يقول:

« ونحن نلحظ أن البحر الذي اختاره للنظم قد أعانه على الإجادة فهو بحر رخو عذب له جرس محزون جميل ، وهو يختلف اختلافا كبيرا عن ذلك البحر العنيف الذي اختاره الفردوسي للشاهنامه » .

عدد أبيات منطق الطير :

يختلف هذا العدد باختلاف النسخ فبينما نجد العدد في نسخة باريس 1857 م يصل إلى 4647 بيت ، نجده في ترجمة إسطنبول 1962 م يصل إلى 4931 بيت ، ولكن للأسف لم أطلع على النسخة التي اعتمد عليها « جولبينارلي » في ترجمته التركية .

ونسخة أصفهان 1319 هـ عدد أبياتها 4703 بيت بينما نسخة أصفهان 1334 ه . ش يصل فيها العدد إلى 4717 بيت .

هذا الاختلاف في العدد موجود بين النسخ والترجمات التي اطلعت عليها ولا بد أن هذا الاختلاف موجود أيضا بين النسخ الأخرى لمنطق الطير والتي لم يسعدني الحظ بالاطلاع عليها .

والأستاذ نفيسي يقول إن النسخ المعتبرة هي التي يصل العدد فيها إلى 4650 بيت .

وقد جاء هذا الاختلاف في العدد نتيجة لأن بعض النسخ تورد حكايات لا توجد في النسخ الأخرى فنجد مثلا أن الحكايات التي تبدأ بالأرقام التالية للأبيات في نسخة باريس لا وجود لها في نسخة أصفهان

1319 هـ ولا في نسخة أصفهان 1334 هـ وهذه الحكايات تبدأ بالأرقام التالية في نسخة باريس 1857 م .

3499 ، 3410 ، 3539

كما أن هناك حكايتين بنسخة أصفهان 1334 هـ لا وجود لهما في نسخة باريس 1857 م ، وهاتان الحكايتان موجودتان بصفحة 124 ، وصفحة 148 من نسخة أصفهان 1334 هـ

إلى آخر هذه الاختلافات التي أشرت إليها خلال الترجمة العربية لمنظومة « منطق الطير » ، وكلما دعا الأمر إلى الإشارة .سنة تأليف الكتاب :

تورد بعض نسخ « منطق الطير » سنة تأليف الكتاب وبعضها لا تذكر هذه السنة ، وقد جاءت سنة تأليف الكتاب تحت عنوان هو « ختم كتاب » . وقد اطلعت على هذه الخاتمة في نسخة أصفهان 1334 هـ ، ولكن لا وجود لها في نسختي باريس 1857 م وأصفهان 1319 هـ .

وهذه الخاتمة تحدد عام 583 هـ تاريخا لانتهاء الشيخ فريد الدين العطار من تأليف الكتاب .

فقد قال العطار ما ترجمته : -

 وقد فتح اللّه الأبواب تفضلا منه واتفق ذلك مع ختم هذه النسخة .

وذلك يوم الثلاثاء وقت الظهيرة في اليوم العشرين من شهر اللّه .

وفي صفاء وذوق وراحة ووقت طيب يتتالى بالرحمة

وذلك بعد مرور 583 عام من هجرة الرسول ذي الجلال

وقد قال العطار كلاما عن جميع الرجال ، فإذا كنت ذا شهامة ، فتذكره بالخير

وبعض النسخ تذكر عام 573 هـ بدلا من عام 583 هـ ، كما أن جارسان دوتاسي ذكر أن تاريخ إتمام منطق الطير عام 1175 م أي 571 هـ .

ولكن أصح هذه التواريخ هو عام 583 هـ وهو ما يتفق عليه معظم الباحثين الآن .

ولكن متى بدأ العطار نظمه لمنطق الطير ؟ لا أحد يدري لهذا السؤال جوابا ، كما أن العطار لم يشر إلى ذلك .

ومما لا شك فيه أن منطق الطير يعتبر أعظم كتب العطار على الإطلاق وأوسعها شهرة وذيوعا في العالم أجمع ، ولا يشاركه في هذه الشهرة من كتبه غير تذكرة الأولياء . وهذه الشهرة جعلت الكثيرين من الباحثين في العصر الحديث يهتمون به كما اهتم به أصحاب التراجم في جميع العصور التي تلت العطار ، هذا الاهتمام جعل أكثر من باحث أجنبي يترجمه إلى لغته ، فقد ترجم إلى الأردية والتركية والفرنسية والسويدية والإنجليزية .

وهذه القيمة العظيمة لمنطق الطير جعلت العطار يتيه عجبا ويقول ما ترجمته :

- لقد ختم عليك منطق الطير ومقامات الطيور كما ختم على الشمس بالنور .

- وهذه المقامات طريق كل حائر ، كما أنها ملاذ لكل مضطرب

وكل من لم يتنسم قولا من هذا الأسلوب ، فما أدرك قيد شعرة من طريق العشاق

وإذا تيسر لك أن تقرأه كثيرا ، فبلا شك سيزداد حسنا في كل مرة لديك

ولقد نثرت الدر من بحر الحقيقة ، كما ختم عليّ الكلام وهذا هو الدليل .

وإن تلاشت هذه الأفلاك التسعة من الوجود ، فلن تضيع نقطة واحدة من هذه التذكرة .

لقد صدق العطار فعلى الرغم من مرور أكثر من سبعمائة عام ومنطق الطير له مكانته بين النفوس ، ولم تؤثر فيه أحداث الزمان ، فظل باقيا يشهد بعظمة صاحبه فريد الدين العطار .

ثانيا - بنية الكتاب : -

* يبدأ العطار الكتاب على عادة الشعراء في زمانه بالمناجاة ،

* ثم ينتقل إلى مدح الرسول محمد عليه السلام ،

* ثم مدح الخلفاء الأربعة « أبي بكر وعمر وعثمان وعلي »

* ثم كلمة في ذم التعصب بين السنة والشيعة

* ومكالمة بين عمر بن الخطاب وأويس

* ثم ماذا حدث بين علي وقاتله ،

* ثم حديث للرسول ،

* ثم قول في شفاعة الرسول عليه السلام .

وإلى هنا تنتهي المقدمة .

ونلاحظ على هذه المقدمة أن العطار مدح فيها الخلفاء الأربعة ، ولكن بعض غلاة الشيعة يعمدون إلى كتب العطار ويحاولون حذف مدح الخلفاء الثلاثة « أبي بكر وعمر وعثمان » والإبقاء على مدح علي حتى يدعوا أن العطار كان شيعيا ولذا فإن بعض نسخ منطق الطير خالية من مدح الخفاء الثلاثة الأول لهذا السبب.

كما أن القصة التي ذكر فيها الحوار بين عمر بن الخطاب وأويس جعلت البعض يدعي أنه أويسي كما ذكرت من قبل .

وإصرار العطار على ذم التعصب دليل على أنه بعيد كل البعد عن أي تعصب لأهل السنة أو للتشيع ، وأنه كان مسلما متصوفا ومترفعا عن كل تعصب مذهبي.

بعد ذلك يبدأ في سرد القصة - قصة الطير - ويقسمها إلى خمس وأربعين مقالة بيانها كالآتي : -

المقالة الأولى : في جمع الطيور للبحث عن إله واحد يتوجهون إليه بالعبادة .

المقالة الثانية : حديث الهدهد مع الطير في طلب السيمرغ الذي اتخذوه رمزا للإله المنشود ، ثم يخبرهم الهدهد بابتداء أمر السيمرغ .

من المقالة الثالثة إلى المقالة الثانية عشرة : سرد أعذار كل طائر على حدة وهي بمثابة أعذار السالكين في الطريق إلى الحضرة العلية .

المقالة الثالثة عشرة : عذر جميع الطيور .

المقالة الرابعة عشرة : سؤال الطير الهدهد عن طريق السير .

المقالة الخامسة عشرة : اتفاق الطير على التوجه صوب السيمرغ .

المقالة السادسة عشرة : مشاورة الطير للهدهد حول الطريق وما به من عقبات وصعاب يجب اجتيازها .

من المقالة السابعة عشر إلى المقالة الثامنة والثلاثين . عودة إلى أعذار الطير وبيان استفساراتهم ورد الهدهد عليهم .

وفي نهاية المقالة الثامنة والثلاثين يعرض العطار للأودية السبعة .

وهنا نلاحظ أن جارسان قد دمج الوادي الأول مع المقالة الثامنة والثلاثين ولكن نسختي أصفهان تفردان للوادي الأول عنوانا مستقلا تابعا للمقالة الثامنة والثلاثين ، والوادي الأول هو " وادي الطلب " .

من المقالة التاسعة والثلاثين إلى المقالة الرابعة والأربعين : بيان الأودية الستة الباقية وهي : أودية العشق ، المعرفة ، الاستغناء ، التوحيد الحيرة ، ثم الفقر والفناء .

المقالة الخامسة والأربعون وهي الأخيرة : في طريق الطير صوب السيمرغ ، ثم يتبعها العطار بتصوير ذهاب الطير صوب السيمرغ ومثولها في حضرته وأخيرا خاتمة الكتاب .

 

وفي بعض النسخ يوجد « ختم الكتاب » يحدد فيه العطار سنة تأليفه .

أي أن الكتاب ينقسم إلى مقدمة وموضوع وخاتمة ، ولكن أثناء عرضه للمقدمة أو للموضوع أو للخاتمة كان يسرد حكايات وقصصا بلغ عددها مائة وإحدى وثمانين حكاية في نسخة باريس 1857 هـ، ومائة وتسعا وسبعين حكاية في نسخة أصفهان 1319 هـ.

وهذه الحكايات سيقت لتوضح أفكار القصة الرئيسية وهي حكايات تختلف طولا وقصرا حسب موضوعها، وأقصر حكاية تتكون من بيتين (ص: 132 منطق الطير نسخة باريس 1857م).

وأطول الحكايات على الإطلاق قصة الشيخ صنعان ، وسأناقش أصول هذه القصة بعد الحديث عن منطق الطير بين الخلق والنقل .

ثالثا : منطق الطير بين الخلق والنقل :

يقول "بيزي Pizzi " إن الأسطورة التي هي موضوع الكتاب - منطق الطير - ليست من بنات أفكاره - أي العطار - لأنه لم يبتدعها .

وإنما كانت قصة من القصص ذات الطابع الشعبي . وكانت معروفة مألوفة فنحن نعلم أن « ابن سينا » قد عرض لها بكيفية فلسفية » .

ولكن بالنظر إلى « رسالة الطير » لابن سينا وجدت أن الرسالتين مختلفتان في جوهرهما .

فابن سينا له وجود في الرسالة ويطير مع الطير ، أما العطار فلا وجود له في منطق الطير إلا بارائه ولا وجود لشخصه ، ثم إن رسالة الطير فيها صيادون قد أمسكوا بالطير في شباكهم ولا أثر لذلك في منطق الطير وربما أن الشباك في منطق الطير هي نفوس الطير ورغباتهم الشريرة .

كما أن وديان منطق الطير سبعة ولكن جبال رسالة الطير ثمانية ، كما أن الغرض من رحلة الطير في منطق الطير هو الفناء في اللّه والاتحاد معه ، أما الغرض من الرحلة في رسالة الطير هو أن يخلصهم الملك من الشباك .

ثم إن الطير في رسالة الطير قد عادت أدراجها بعد أن حظيت بمقابلة الملك ، ولكن طيور منطق الطير لم تعد من رحلتها لأنها فنت في ذات الإله فلا وجود لها ، وكيف تعود وقد أدركت بغيتها من الرحلة الشاقة .

ورسالة الطير ترجمها السهروردي إلى الفارسية وقد آثرت أن أطلع عليها بالفارسية وخاصة أن الشيخ الفاضل « عمر بن سهلان الساوجي » قد شرحها بالفارسية أيضا - لأرى مدى التقارب والتباعد بين منطق الطير وبينها .

وهكذا نرى أن هناك اختلافا جوهريا بين الرسالتين يجعلنا نجزم بأن العطار لم يستفد منها .

خاصة وأنه يكره الفلاسفة ولا يثق في كلامهم وهو الذي قال في منطق الطير :

وكاف الكفر هنا - بحق المعرفة - لأفضل كثيرا لدى من فاء الفلسفة .

وإذا كان هناك تشابه بين الرسالتين في شيء فهو تشابه بين الأسماء وبين رحلة الطير في كل منهما ولكن ما أعظم الفارق بين الرحلة الصوفية في منطق الطير والرحلة الفلسفية في .

إذا لم يكن العطار قد تأثر بابن سينا في « رسالة الطير » ، فهل تأثر بأبي العلاء في « رسالة الغفران » والتي كتبت عام 424 هـ ؟ .

رسالة الغفران لأبي العلاء تحكى رحلة « ابن القارح » للعالم الآخر ومروره بالجنة والنار وسؤاله من وجدهم بالجنة « بم غفر لك ؟ » كما كان يسأل كل من يجده في النار بقوله " ألم يغفر لك قولك ؟ " .

وبعد أن لجأ إلى الرسول وطلب منه الشفاعة تشفع له الرسول ، فغبر الصراط إلى الجنة . ومر هناك بأقوام عديدين واطلع على أحوالهم ، ثم عبر الجنة إلى الجحيم ورأى أهله ، ثم عاد مرة أخرى إلى الفردوس .

وكان في كل مرة يحادث من يمر بهم ولكن الملاحظ أنه قصر كلامه على الشعراء دون غيرهم .

وهكذا نجد أن منطق الطير تختلف تماما عن "رسالة الغفران"  .

فالسالكون في منطق الطير هم طيور أما السالك هنا فهو من بني البشر وهو ابن القارح .

كما أن الغرض الرئيسي من منطق الطير هو الاتحاد مع الذات العليّة ، ولكن الغرض الرئيسي في « رسالة الغفران » هو شرح حال الجنة والنار ومن يسكنون في كل واحدة منهما .

ومن حادثهم « ابن القارح » في « رسالة الغفران » هم من الشعراء دون غيرهم ونحن لا نجد أثرا لذلك في منطق الطير .

الشيء الوحيد الذي فيه تشابه بين الرسالتين هو أن الشفاعة « لمحمد » وحده عليه السلام ، وهذا الاعتقاد شركة بين المسلمين فلا فضل للعطار ولا للمعري في ذلك .

ويقول الأستاذ نفيسي « يقول مؤلف مجالس المؤمنين وهو يتكلم عن مؤلفات العطار . . . إنه يسير على نهج سنائي . . .

وقال ذلك أيضا مؤلف روضات الجنات ، وهذا صحيح لا يحتاج إلى ترديد ، لأن زعيم جميع الشعراء الصوفية في إيران قبل القرن السادس هو سنائي ، وهو الشخص الذي أوصل الشعر الصوفي إلى أوج عظمته ، خصوصا وأن العطار قد اطلع على آثاره فمنطق الطير ما هو إلا عبارة عن سير الروح في المدارج المختلفة ووصولها إلى حد الكمال والاتحاد والوحدة مع اللّه ، وهذا ما أوضحه سنائي في مثنويته سير العباد إلى المعاد » .

لا شك أن العطار تأثر بسنائي وكان يكبره وقد مدحه كثيرا في كتبه . وربما أفاد العطار من « سير العباد » في وصف بعض مدارج السالكين ، ونزعاتهم وشرودهم ، والعقبات التي تقف في طريقهم ، ولكن رغم هذا فبنية قصة « منطق الطير » تختلف عن بنية « سير العباد إلى المعاد » في أكثر من اتجاه :

أولا : سنائي يطل علينا برأسه من خلال كتابه فهو الذي يترقى في الطريق ويمر بأوديته المختلفة أما العطار فلا وجود له في منطق الطير بل الوجود كله للطير والعطار يحركها من وراء ستار .

ولعل ظهور سنائي في كتابه يشبه ظهور " ابن سيناء " في " رسالة الطير ".

ثانيا : سنائي يسمى الصفات البشرية بأسمائها ، فيقول مثلا : صفة صورة الحقد  صفة صورة البخل ، صورة الطمع ، صورة التكبر . . .

إلى غير ذلك مما يعرض له سنائي ، أما العطار فيرمز لها بالطيور وأعذارها وأسئلتها .

ثالثا : العطار يجعل المرشد هو الهدهد ، أما سنائي فيجعل المرشد من بني البشر الذين تطهروا من كل الأدران والعلائق الدنيوية .

رابعا : سير العباد إلى المعاد يمثل رحلة ثنائية ، أما رحلة منطق الطير فجماعية .

خامسا : سنائي يذكر في كتابه الطير والحيوان والإنسان أما العطار فيخص قصته بالطير فقط.

سادسا : العطار ينفر من المدح للتكسب أما سنائي فقد ختم منظومته بمدح أبي المفاخر سيف الدين محمد بن منصور قاضي سرخس ، أملا في عطاياه .

إذا كان العطار لم يأخذ فكرة منظومة « منطق الطير » من « رسالة الطير » لابن سينا ولا من « رسالة الغفران » لأبي العلاء .

ولا من « سير العباد إلى المعاد » لسنائي فممن أخذها إذن ؟

إن العطار أخذ المضمون العام لقصته من « رسالة الطير » للغزالي .

ويقول ريتر في هذا الصدد :

إذا ما تصدينا لقصة « منطق الطير » فمما يسعدنا أن نعرف المصدر الذي استقى منه الشاعر فكرته ، إنه « رسالة الطير » من تصنيف "محمد الغزالي" ( المتوفي عام 505 هـ - 1111 م ) بالعربية ، وتصنيف أخيه أحمد ( المتوفي عام 517 هـ : 1123 م ) بالفارسية .

وإن خصائص الأسلوب في القصة العربية تجعل الترجمة وعرة ، ولعل النص الفارسي هو الأصل .

أي أن ريتر Ritter يعتبر المصدر الرئيسي لقصة منطق الطير هو « رسالة الطير » للغزالي وخاصة الترجمة الفارسية التي قام بها أحمد الغزالي ، وقد بحثت عن الترجمة الفارسية فلم أجدها ، فاطلعت على الأصل العربي .

وقبل أن نعطي حكما يجب علينا أن نستعرض « رسالة الطير » للغزالي أولا ، ثم ندرك مواطن الالتقاء أو الاختلاف بعد ذلك ، وهذا ملخص واف لرسالة الغزالي :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

اجتمعت أصناف الطيور على مختلف أنواعها وتباين طباعها وزعمت أنه لا بد لها من ملك واتفقوا أنه لا يصلح لهذا الشأن إلا العنقاء ، وقد وجدوا الخبر عن استيطانها في مواطن الغرب . . .

فجمعتهم داعية الشوق ، وهمة الطلب فصمموا العزم على النهوض إليها والاستظلال بظلها والمثول بفنائها والاستعداد لخدمتها .

وإذا الأشواق الكامنة قد برزت من كمين القلوب ، وإذا هم بمنادي الغيب ينادي من وراء الحجب ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) .

لازموا أماكنكم ، ولا تفارقوا مساكنكم ، فإنكم إن فارقتم أوطانكم ضاعفتم أشجانكم ، فدونكم والتعرض للبلاء والتحلل بالفناء . . .

فلما سمعوا بنداء التعذر من جناب الجبروت، ما ازدادوا إلا شوقا وقلقا وأرقا . . .

ثم نادى لهم الحنين ودب فيهم الجنون ، فلم يتلعثموا في الطلب اهتزازا منهم إلى بلوغ الإرب ، فقيل لهم بين أيديكم . . . الجبال الشاهقة والبحار المغرقة وأماكن القر ومساكن الحر فيوشك أن تعجزوا دون بلوغ الأمنية فتخترمكم المنية ، فالأحرى بكم مساكنة أوكار الأوكار قبل أن يستدرجكم الطمع .

وإذا هم لا يصغون إلى هذا القول ولا يبالون بل رحلوا . . .

وامتطى كل منهم مطية الهمة قد ألجمها بلجام الشوق وقومها بقوام فرحلوا من محجة الاختبار ، فاستدرجتهم محن الاضطرار فهلك من كان من بلاد الحر في بلاد البرد ، ومات من كان من بلاد البرد في بلاد الحر وتصرفت فيهم الصواعق ، وتحكمت عليهم العواصف ، حتى خلصت منهم شرذمة قليلة إلى جزيرة الملك.  ونزلوا بفنائه والتمسوا من يخبر عنهم الملك . .

فأخبر بهم فتقدم إلى بعض سكان الحضرة من يسألهم ما الذي حملهم على الحضور ، فقالوا حضرنا ليكون مليكنا ،

فقيل لهم : أتعبتم أنفسكم فنحن الملك شئتم أو أبيتم ، جئتم أو ذهبتم ، لا حاجة بنا إليكم ، فلما أحسوا بالاستغناء والتعذر أيسوا . . .

وشملتهم الحيرة وقالوا : لا سبيل إلى الرجوع فقد تخاذلت القوى وأضعفتنا الجوى فليتنا تركنا في هذه الجزيرة لنموت عن آخرنا . . . !

فلما عمهم اليأس وضاقت بهم الأنفاس تداركتهم أنفاس الإيناس وقيل لهم هيهات فلا سبيل إلى اليأس . . .

فإن كان كمال الغنى يوجب التعذر والرد ، فجمال الكرم أوجب السماحة والقبول ، فبعد أن عرفتم مقداركم في العجز عن معرفة قدرنا فحقيق بنا إيواؤكم . . .

فإنه يطلب المساكين الذين رحلوا من مساكنة الحسبان . . .

ومن استشعر عدم استحقاقه فحقيق بالملك العنقاء أن يتخذه قرينا ، فلما استأنسوا بعد أن استيأسوا وانتعشوا بعد أن تعسوا ووثقوا بفيض الكرم . . .

سألوا عن رفقائهم فقالوا : ما الخبر عن أقوام قطعت بهم المهامة والأودية . امطلول دماؤهم أم لهم دية ؟ فقيل هيهات . هيهات..

( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ). . .

والذين غرقوا في لجج البحار ولم يصلوا إلى الدار بل التقمتهم لهوات التيار .

قيل هيهات« وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ ».

فالذي جاء بكم وأماتهم أحياهم ، والذي وكل بكم داعية الشوق حتى استقللتم الفناء والهلاك في أريحية الطلب دعاهم وحملهم وأدناهم وقربهم فهم حجب العزة وأستار القدرة . . .

قالوا والذين قعد بهم اللؤم والعجز فلم يخرجوا : قيل : هيهات" وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ ". . .

أنتم اشتقتم أم نحن شوقناكم . نحن أقلقناكم فحملناكم وحملناهم في البر والبحر .

فلما سمعوا ذلك واستأنسوا بكمال العناية وضمان الكفاية كمل أهتزازهم وتم وثوقهم ، فاطمأنوا وسكنوا واستقبلوا حقائق اليقين بدقائق التمكين . وفارقوا بدوام الطمأنينة إمكان التلوين . . .

(إلى هنا انتهت رسالة الطير للغزالي )

وبعد أن عرضت « رسالة الطير » كما عرضت من قبل بنية « منطق الطير » وجب علينا أن نبحث عن مواضع الالتقاء بين القصتين وهي :

اجتماع الطير للبحث عن ملك . .

الاتفاق على أن العنقاء أو السيمرغ ملكهم –

التصميم على الوصول إلى هذا الملك برغم أخطار الطريق وأهواله –

هلاك الكثرة في السفر ووصول القلة إلى الحضرة –

ما كان من حاجب الحضرة في كلا القصتين –

الحيرة التي تملكت الطير بعد لقاء حاجب الحضرة لها

انفراج أسارير الطيور بعد أن حظيت بالمثول أمام الحضرة -

ولكن العطار بخياله الخصب قد أضاف الكثير من عنده إلى ما أخذه عن الغزالي * فلم يكن مجرد ناقل بل كان مبدعا كذلك .

فهو قد سمى الطيور بأسمائها - وحدد لنا مرشدا وهاديا ، هو الهدهد ، كما توسع في ذكر المخاطر التي تعرض لها الطير في الطريق ، أضف إلى ذلك أنه أنطق الطير الغاضبة لكي تعبر عن غضبها رامزا بذلك إلى القاعدين عن السلوك ، ولكن الغزالي اكتفى بالسؤال عن القاعدين بعد المثول أمام الحضرة .

كما غير العطار في الهدف الرئيسي للقصة فبينما نجد هدف « رسالة الطير » هو المثول أمام الحضرة والاضطلاع بالخدمة في البلاط الإلهي .

نجد أن هدف « منطق الطير » صوفي محض يتلخص في الرغبة في الترقي والوصول إلى حد الفناء في اللّه بالاتحاد معه في وحدة شهودية .

كما تعرض العطار لذكر أودية أو مقامات الصوفية وسماها بأسمائها وهذا لا نجده في رسالة الطير .

كما أن العطار حدد لنا عدد الطيور التي حظيت بالقبول على خلاف الغزالي الذي قال إن شرذمة من الطير هي التي وصلت إلى الحضرة .

وقد وقف العطار على العدد ( ثلاثين ) حتى يستطيع استخدام الجناس المركب بين " سيمرغ " وهو اسم الإله بالفارسية ، وبين « سي مرغ » وهو العدد الذي وصل وهو بمعنى ثلاثين طائرا .

وقد استخدم هذا الجناس استخداما بارعا أعانه على الوصول إلى فكرته ، وهي فكرة « الفناء في اللّه » عن طريق وحدة الشهود .

وهكذا نرى أن عالم العطار الفكري في « منطق الطير » أغنى بكثير من عالم الغزالي الفكري في « رسالة الطير » وذلك راجع إلى قصر رسالة الطير وطول « منطق الطير » لا إلى أن العطار يفوق الغزالي .

فهذا ما لا يستطيع أحد أن يدعيه .

وهكذا نرى أن العطار كان ناقلا خالقا لمنظومته « منطق الطير » فقد استعان أولا برسالة « الطير » للغزالي ، كما استعان ببعض أفكار سنائي في "سير العباد إلى المعاد " في وصف مدارك السالكين .

وإن كان تأثره بسنائي يقل كثيرا عن تأثره بالغزالي ، وأخيرا لا شك أنه كعادة المؤلفين المسلمين تأثر بالقرآن والحديث ؛ فكثيرا ما يشير إلى معنى آية أو معنى حديث .

كما أن العطار لا بد وأنه قرأ الكثير من كتب التراجم الفارسية والعربية ، حتى يستطيع أن يمدنا بهذا السيل الجارف من حكايات منطق الطير ،

والتي تعرض فيها لسيرة العديد من رجالات الصوفية المشهورين . حتى يعتبر الدارسون للتصوف منطق الطير - بجانب قصته الرمزية - كتابا من كتب تراجم الصوفية .

 

وبجانب هذا النقل والتأثر فإن العطار أضفى على القصة الكثير من خياله الخصب وقريحته المتقدة وعلمه الواسع مما ضمن لكتابه المنزلة الكبيرة التي ما زال يتمتع بها حتى الآن في جميع أنحاء العالم .

رابعا : حكاية الشيخ صنعان

لم يقتصر العطار في سرد قصة منطق الطير على المقالات الرئيسية التي تحكي قصة سلوك الطير للطريق ، ولكنه كان يذيّل هذه - المقالات بحكايات يشرح فيها فكرة المقالة أو يتحدث فيها عن شيخ من السابقين وكراماته ، وهذه الحكايات لها غرض تعليمي أفضل من الدعوة الصريحة المباشرة .

وأطول هذه الحكايات على الإطلاق حكاية « الشيخ صنعان » فقد بلغ طولها أربعمائة وستة أبيات ، طبقا لنسخة باريس 1857 م ، وأربعمائة وتسعة أبيات ، طبقا لنسخة أصفهان 1334 هـ .

وقد أوردها العطار بعد المقالة الرابعة عشرة ليؤكد بها قوله عن العشق وأنه أفضل من الكفر والإيمان معا .

ولكن هل هذه القصة من إبداع العطار أو أنه تأثر فيها بسابقيه ؟

للإجابة عن هذا السؤال يجدر بنا أن نعرض لقصة الشيخ صنعان كما ذكرها العطار ، ثم نقارنها بالقصص القريبة الشبه منها :

كان الشيخ صنعان يقطن مكة مع أربعمائة من مريديه ، وكان على قدر كبير من الصلاح والتقوى ، ثم رأى فيما يرى النائم أنه رحل إلى بلاد الروم وسجد للصنم ، ورؤية الصالحين صادقة ، فأسرع بالذهاب إلى بلاد الروم مع مريديه ، وما أن وصلوا حتى رأوا فتاة ، تجلس على سقف بناء مرتفع ، وكانت غاية في الجمال فتعلق بها قلب الشيخ في التو والحال ، فساد الاضطراب جميع مريديه ، فبذلوا له النصح دون جدوى ، وأخيرا أصبحت خلوة الشيخ محلة الحبيب ، ولما أدركت الفتاة مقدار شغفه بها عرضت عليه شروطها وهي :

السجود أمام الصنم ،

وإحراق القرآن ،

وشرب الخمر ،

والبعد عن الإيمان .

فقبل في بداية الأمر شرب الخمر دون غيرها ، وما أن شرب الخمر ، حتى حمله النصارى إلى الدير ، وبعد أن تمكنت منه الخمر ، وسيطر عليه العشق ، قبل أن يكون مسيحيا وأحرق الخرقة ، ثم عرض على الفتاة الاقتران بها ، فاشترطت أن يكون صداقها خدمة الخنازير عاما كاملا ، فقبل الشيخ .

وحاول مريدوه إصلاحه دون جدوى فأسرعوا بالعودة إلى الكعبة والغم يسيطر عليهم ، والفضيحة تكتنفهم .

 

وكان للشيخ صنعان صديق يقطن الكعبة ولكنه لم يكن بها يوم رحيله ، فعندما عاد إلى الكعبة وجد الخلوة تخلو من شيخها فسأل مريديه ، فأخبروه بما حدث له ، فاغتم وحزن حزنا شديدا ، وعنف مريديه لمفارقتهم شيخهم ،.

ثم أسرع مع المريدين بالسفر إلى بلاد الروم للحاق بالشيخ ، وواصلوا التضرع والتشفع أربعين ليلة فاستجاب اللّه لتضرعهم ، وذات ليلة رأى أحد المريدين الرسول عليه السلام فطلب منه الشفاعة للشيخ عند اللّه ، فتشفع له الرسول الكريم ، فتخلى الشيخ عن الزنار ولبس الخرقة ثم عاد الجميع إلى مكة ثانية .

وبعد رحيله رأت الفتاة في نومها أن الشمس قد سقطت بجانبها وطلبت منها الإسراع صوب شيخها ، فأسرعت خلف الشيخ حتى وصلت إليه بالحجاز ، فاضطرب الشيخ حين علم بقدومها ولكنها طلبت منه أن يعرض عليها الإسلام ، وما أن أسلمت حتى أسلمت روحها . . .

"للتعرف على القصة كاملة يحسن قراءتها في هذا الكتاب ، وهي مدرجة بعد المقالة الرابعة عشرة مباشرة  "

هذه قصة الشيخ صنعان كما رواها العطار ، فما أصولها إن لم يكن العطار مبدعها ؟

يقول بعض المؤرخين إن قصص الذين ذهبوا إلى الدير من المسلمين كثيرة ، وسأذكر أشهر هذه القصص مع ترجيح أهم مصدر استقى منه العطار قصته :

يذكر أحمد الأبشيهي في كتابه : المستطرف في كل فن مستظرف الجزء الأول  أن الشيخ عبد اللّه الأندلسي كان يسكن بغداد ، وكان من أصحابه الجنيد والشبلي ، وعدد مريديه إثنا عشر ألفا ، ثم ذهب إلى بلاد الروم وتعلق بفتاة الأمير هناك فتخلى عنه أصحابه وعادوا إلى بغداد ، ثم حاول أن يقترن بالفتاة فكان صداقها خدمة الخنازير . فعاد إليه أصحابه مرة أخرى ولكنه لم يأبه بنصحهم .

ولكن بعد أيام ثلاثة فوجئوا بالشيخ أمامهم وقد تخلى عن كفره وعاد إلى سابق عهده . ثم عادوا جميعا إلى بغداد ، فاحتفى به الجميع وعلى رأسهم الخليفة .

ولكن الفتاة المسيحية تعلقت به وأسرعت خلفه إلى بغداد وقد ساعدها في ذلك الخضر بعد أن أخبرها بضرورة اعتناقها الإسلام ، فاعتنقته .

وبعد وصولها بغداد لزمت زاوية شيخها وأكثرت من العبادة حتى هزلت فمرضت وتوفاها اللّه ، فحزن الشيخ عليها حزنا أودى بحياته .

ونحن نرى بعض التقارب بين الحكايتين في ذهاب الشيخين إلى بلاد الروم ثم كون الصداق في كلا الحالتين رعاية الخنازير ، ثم توبة الشيخين وعودتهما إلى ديارهما ، ثم لحاق الفتاة في كل منهما بشيخها واعتناقهما الإسلام .

ولكن هناك أوجه للخلاف بين الحكايتين ، فالشيخ صنعان يسكن مكة أما الشيخ عبد اللّه الأندلسي فيسكن بغداد ، كذلك الاختلاف في عدد المريدين وفي عدد من صحبوا كلا من الشيخين في رحلته إلى بلاد الروم .

كما نجد أن - الخليفة له ذكر في قصة الأندلسي ولا أثره له في حكاية الشيخ صنعان .

واختلاف الحكايتين كذلك في سبب وفاة المعشوقة ، فالأبشيهي ذكر أن الوفاة نتيجة للعبادة المتصلة ، أما العطار فقد جعل الوفاة نتيجة لمتاعب الطريق .

كما أن الأبشيهي ذكر الخضر في قصته ، ولا أثر له في قصة العطار .

وعلى هذا فر بما يرى البعض تأثر العطار بمظاهر الالتقاء بينه وبين ما ذكره الأبشيهي ولكن مظاهر الاختلاف بينهما تحد من الموافقة على تأثر العطار بما ذكره الأبشيهي .

ومن بين الذين ذهبوا إلى الدير كذلك مدرك بن علي الشيباني

وقد كان يعيش بالعراق ، وكان يذهب إلى الدير كثيرا ، فتعلق بحب فتى مسيحي اسمه « عمرو » فتخلى عن الإسلام واعتنق المسيحية ونظم شعرا وصف فيه حاله هذه ، كما تحدث فيه عن رسوم وآداب المسيحين .

ولكننا لا نجد في هذه القصة تقاربا بينها وبين قصة الشيخ صنعان إلا ذهابهما إلى الدير ، مما يجعلنا نرفض تأثر العطار بهذه القصة .

وشيخ آخر هو « ابن السقا » وكان قارئا للقرآن حسن الصوت وكان يعيش في بغداد ثم ذهب إلى بلاد الروم حاملا رسالة من الخليفة ، فوقع هناك في حب فتاة الملك فطلب الاقتران بها ، فاشترطوا عليه اعتناق النصرانية فقبل .

ولكن لا يوجد دليل على أن العطار تأثر بهذه القصة ونسج قصته على منوالها ، فلا وجه للشبه بينهما إلا في الذهاب إلى الروم واعتناق المسيحية من أجل المعشوقة .

ولكن إذا كان العطار لم يأخذ قصته من هذه ولا من تلك ، فمن أين أخذها ؟

يقول الأستاذ مجتبي مينوي :

وقد أخذ العطار هذه الحكاية من كتاب الغزالي ، فقد ورد هذا الاسم في تحفة الملوك . . . والمقصود من الشيخ صنعان عند العطار هو ، الشيخ عبد الرازق الصنعاني الذي ذكر في تحفة الملوك ،

ولقد أورد الشاعر التركي كلشهري الذي ترجم منطق الطير إلى التركية حكاية الشيخ صنعان تحت عنوان « حكاية الشيخ عبد الرزاق » .

وقد اتفق الأستاذ فروزانفر مع مينوى في ذلك ، فأرجع قصة الشيخ صنعان إلى ما جاء بالباب العاشر من تحفة الملوك لأبي حامد الغزالي .

ووجب علينا أن نعرض قصة الشيخ عبد الرازق الصنعاني كما ذكرها الأستاذ فروزانفر في كتابه « شرح أحوال ونقد وتحليل آثار شيخ فريد الدين محمد عطار نيشابوري » .

في حكايات مثل هذه ، كان في الحرم شيخ اسمه عبد الرازق الصنعاني وكان رجلا عظيما وصاحب كرامات ، وكان شيخا لما يقرب من ثلاثمائة مريد .

وذات ليلة رأى في منامه صنما يجاوره ، فهب من نومه وتمكن الضيق منه وشغل قلبه ، فذهب إلى بلاد الروم وصحبه كل مريديه ووصلوا ذات يوم إلى مكان ما ورأوا كنيسة ، فنظر الشيخ فإذا به يرى على السقف فتاة مسيحية ، فوقع في التو في عشقها . . .

وسرعان ما خلع المرقع ولبس ثياب الرهبان وعقد حول وسطه الزنار . . .

فقال المريدون : ما هذه الحالة ؟

فأجاب : إن ما أصابنا بسبب القلب ، ولا يمكننا مخالفة القلب ، فشرط الأعمال صدق الظاهر والباطن . . .

وبعد طول نقاش بينهما عاد المريدون من الدير وتركوه إلى القضاء والقدر ، وبدأ يعمل في خدمة الخنازير .

وكان له مريد بخراسان وكان رجلا عظيما فعرف هذه الحالة فأسرع صوب مكة وقال للمريدين : أين الشيخ ؟

فأخبره المريدون بما وقع للشيخ .

فقال لهم : لما لم تقيموا حيث يقيم ؟

فقالوا كنا نرغب في ذلك ولكن الشيخ رفض وانتهى الحديث بينهما إلى أن أعد الشيخ والمريدون عدتهم للسفر إلى بلاد الروم .

وفي ذات أمسية رأى ذلك الشيخ الرسول عليه السلام فسأله الرسول ماذا تفعل ببلاد الروم ؟

فأجابه الشيخ سائلا : وماذا أنت فاعل ببلاد الكفر ؟

فقال الرسول عليه السلام : جئت لكي أخلص شيخا عوتب من قبل .

فاستيقظ الشيخ في الحال ، ورأى شيخه يلقي عن نفسه رداء الرهبان وقطع الزنار ، ثم أحضر الماء واغتسل وجدد إسلامه وأعاد ارتداء لباس الإصلاح وحينما عرفت الفتاة هذا الحال أقبلت إليه ، وطلبت منه أن يعرض عليها الإسلام فعرضه عليها وأسلمت وعادوا جميعا إلى الكعبة ".

إذا قارنا بين قصتي الغزالي والعطار نجد أن أركان القصة فيهما واحدة .

ولكن نجد بعض الاختلافات اليسيرة ، فعدد المريدين في قصة الغزالي ثلاثمائة وفي منطق الطير أربعمائة .

كما نجد اختلافا في قصة إسلام الفتاة المسيحية في القصتين كما أن نهاية القصة مختلفة في الكتابين فتحفة الملوك لم تشر إلى وفاة الفتاة المسيحية بعكس منطق الطير .

كما أن العطار بخيال الشاعر حاول الإفاضة في المناقشة الممتعة التي حدثت بين الشيخ ومريديه بعد أن انحرف ، وكذلك في مناجاة الشيخ لمعشوقته .

وعلى هذا فيمكن الموافقة على أن العطار أخذ فكرة قصته من تحفة الملوك للغزالي وأضاف إليها الكثير من خياله الشعري ، فجاءت على هذه الصورة التي وجدناها عليها في منطق الطير .

ولكن من هو الشيخ صنعان :

ذكرت من قبل أن الأستاذ مينوى يرى أنه الشيخ عبد الرازق بن همام وتابعه في هذا الرأي الأستاذ فروزانفر ، فمن هو الشيخ عبد الرازق بن همام :

يخبرنا ياقوت الحموي في نهاية الحديث عن مدينة صنعاء باليمن :

ومن مشايخها الشيخ عبد الرازق بن همام بن نافع أبو بكر الحميري أحد الثقات المشهورين . . وكان مولده عام 129 هـ ، وأنه التقى بأحمد بن حنبل ، ولكن في آخر حياته أصيب الشيخ بالعمى فضعفت الثقة في الأحاديث التي كان يرويها ، كما اتهمه البعض بالتشيع .

وربما أن إسناد هذه القصة إليه جاء نتيجة لتشيعه ، فحاول خصومه التمادي في اتهامه حتى أوصلوا هذا الاتهام إلى حد الكفر واعتناق المسيحية .

الفصل الثالث آراء العطار في منطق الطير

أولا - المرشد والمريد :

بدأ العطار منظومته « منطق الطير » بعقد اجتماع للطيور حيث رحب بها واحدا واحدا .

ثم اجتمعت جميع طيور العالم لتبحث عن ملك لها لأنه لا يمكن أن تعيش بلا ملك.

أي أنها جاءت مريدة ، ثم اعتلى الهدهد المنبر وأخذ يشرح لهم ضرورة السير والبحث عن هذا الملك وبين لهم أين يوجد ، وبعد أن شرح لهم الطريق ، أجروا القرعة ليختاروا مرشدا لهم فأصابت القرعة الهدهد ، وأصبح الهدهد مرشدهم يأتمرون بأمره وهم مريدون للحضرة العلية وقد وصف العطار حالهم قبل إجراء القرعة وبعدها فقال ( 1565 - 1590 ) :  

* وعزموا عزما أكيدا على قطع الطريق بل تعجلوا السير في الطريق .

* وقال الجميع : يجب أن يكون لنا رائد في طريق البحث ، يكون له علينا العقد والحل .

* ويكون مرشدنا في الطريق، لأنه لا يمكن قطع الطريق اعتمادا على الغرور.

* ولابد لهذا الطريق من حاكم قوي ، لعلنا نستطيع أن نجتاز ذلك البحر العميق.

* وسننفذ أوامر حاكمنا بأرواحنا ، ولن نقطع الطريق إلا بحكمه وأمره .

* واقترعوا وكان اقتراعا موفقا واستقر اقتراعهم على الهدهد العاشق .

* فجعله الجميع مرشدهم ، فإن أمرهم بذلوا أرواحهم .

* وتعهد الجميع على أن يكون هو رئيسهم ، وأن يكون مرشدهم في الطريق وهاديهم .

* والحكم حكمه والأمر أمره ولن يبخل أحدهم عليه بالروح أو بالجسد .

وفي هذه الأبيات يوضح العطار بعض معتقدات الصوفية التي تتعلق بالشيخ والمريد وهي :

1 - لابد وأن يكون السالك لديه الرغبة في المسير ، وهذا واضح من عزم الطير الأكيد على قطع الطريق .

2 - لا يمكن قطع الطريق بلا مرشد أو دليل حتى يستطيع أن يهديهم في المسير ويوضح لهم ما يعترضهم من عقبات ، وذلك لأن المريد لا يستطيع قطع الطريق معتمدا على نفسه دون هداية مرشد أو شيخ ، وذلك لأن المريد جاهل بمراحل الطريق فإذا ما سار بمفرده أخطأ المسير فالطريق جد طويل ومشكل ، وما الشيخ إلا ملاذ وملجأ للمريد في المسير ، يلجأ إليه المريد ليوضح له كل ما يصعب عليه فهمه من مراحل الطريق ، كما كانت تفعل الطير مع الهدهد .

والعطار يشير إلى هذه المعاني فيقول ( 1674 : 1673 )

* ولا بد للطريق من شيخ ولا تسر بمفردك ولا تسلك هذا البحر عن طريق التخبط والعمى .

* ولا بد لك من شيخنا في قطع الطريق حتى يكون ملاذا لك في كل أمر .

* وإذا كنت لا تعرف الطريق من البئر مطلقا ؛ فكيف يمكنك قطع الطريق بلا دليل .

* وليست لك عين بصيرة كما أن الطريق ليست قصيرة ، والشيخ في طريقك هو هادي الطريق .

3 - على المريدين طاعة جميع أوامر الشيخ طاعة عمياء حتى ولو أمرهم ببذل الروح وإفناء النفس ، وأن يكون هو الحاكم بأمره وما على المريدين إلا إطاعة حكمه وأوامره ولا حق لهم في مناقشة أحكامه ، فله الأمر وعليهم الطاعة .

والولاية في رأي العطار منحة إلهية لا تتم بالمجاهدة والرياضة بل يهبها اللّه سبحانه وتعالى لمن أراد ،

فالعطار يشير إلى أن الشيخ يصل إلى الولاية بنظرة تصيبه من صاحب الحضرة فترفعه هذه النظرة إلى مكانة المرشد أو الشيخ ،

وقد أشار إلى ذلك في المقالة السابعة عشرة حينما رد الهدهد على ذلك الطائر الذي سأله لماذا حظى بالمكانة العالية دون سائر الطير ، فرد عليه قائلا (1632 -  1633).

  فقال : أيها الطائر لقد كان سليمان يديم النظر صوبي في كل آونة .

ولم أحصل على ذلك بالفضة أو الذهب ، وإنما تتأتى هذه المكانة من نظرة واحدة .

والدليل على أن الولاية منحة إلهية لا تستند على المجاهدة والعبادة قصة ذلك المجرم الذي قتل ، ثم رآه صوفي في نومه ينعم بالجنة فسأله سر ذلك ، فأخبره أنه حظى بهذه المكانة رغم إجرامه بنظرة وقعت عليه وهو مقتول من حبيب العجمي . ( مقالة 17 ، حكاية 2 )

ومن صفات الشيخ - في رأي العطار أيضا - أن يكون قد وصل إلى إدراك الحقيقة كما يكون قد خبر الطريق وطاف بكل وديانه ، فقد قال على لسان الهدهد ( 668 ، 680 ، 681 )

- وجئت وقد أمدتني الحضرة بالمعرفة ، وصرت صاحب أسرار بالفطرة .

- ولقد قضيت السنين في البحر والبر ، وكم أصابني الاضطراب من قطع الطريق .

- ولقد جبت الوادي والجبل والبيداء ، كما طفت العالم في عهد الطوفان .

هذه بعض آراء العطار عن الشيخ والمريد في « منطق الطير » وسيجد القارئ بعض الآراء الجزئية الأخرى أثناء قراءته للترجمة .

ثانيا - اللّه والعالم

التصوف هو الصلة التي تحدد العلاقة بين اللّه والإنسان حتى تصل به إلى حد الفناء في اللّه والبقاء بعد الفناء ، ولذا يحسن بنا أن نوضح الصلة التي تربط اللّه بالإنسان كما يراها شاعرنا العطار في منطق الطير .

ولكن قبل أن نتعرض لهذه الصلة يجب أن نعرف كيف خلق.

الإنسان كما ذكر العطار في مقدمة منطق الطير فهو يقول :

إن اللّه سبحانه وتعالى أحال التراب طينا مدة أربعين يوما ، وبعد ذلك أودع في الطين الروح ، وما أن سرت الروح في الجسد وأصبح الجسد بها حيا ، منحه اللّه العقل ليكون الإنسان به مبصرا .

ثم يقول :

وعندما هبطت الروح إلى الجسد صار الجزء كلا ، والروح تتصف بالطهارة أما الجسد فصفته الذلة والمهانة ، وسرعان ما اجتمعت الروح الطاهرة بالجسد المهين ، وما أن اتحد السمو بالخسة حتى كان آدم أعجوبة الأسرار .

أي أن الإنسان كما يرى العطار - وغيره كثيرون من المتصوفة - مكون من جسد ينزع إلى الشهوات والعودة إلى أصله الخسيس ، وروح نزاعة إلى الطهر والعودة إلى أصلها الرفيع والرقي إلى واهبها ، وكذا فادم خليط من عنصري الخير والشر ، ولذا اهتم الصوفية دائما بالروح وأهملوا الجسد .

ويقول العطار على لسان اللّه سبحانه وتعالى موجها الكلام إلى داود عليه السلام ( 3094 )  .

- ولما لم يكن هناك عوض لي فلا تكن بدوني ، وأنا يكفيني الروح فكن روحا ، ولا تكن جسدا .

أما عن مظاهر الصلة بين اللّه والإنسان والعالم فتتمثل في رأي العطار في أكثر من مظهر وهذه أهمها :

1 - الصلة بين اللّه والعالم هي الصلة بين البحر والقطرة وما البحر إلا اللّه وما القطرة إلا العالم .

- وحضرة الحق بحر خضم عظيم ، وقطرة صغيرة منه تساوي جنات النعيم .

ومن يملك البحر يملك القطرة ، وكل ما عدا البحر هوس وجنون .

2 - والصلة الثانية هي صلة الظل بالشمس ، فالعالم ما هو إلا ظل اللّه سبحانه وتعالى ، وقد أكثر العطار من الحديث عن هذه الصلة في مواضع كثيرة من منطق الطير .

ففي المقالة الثالثة عشرة حينما سأل طائر الهدهد أن يوضح لهم الصلة التي تربط السيمرغ بالطير ،

قال الهدهد : عندما رفع السيمرغ النقاب فإن وجهه بدا كالشمس المشرقة ، وسقطت منه مئات الألوف من الظلال على التراب ، وقد نثر ظله على العالم فأصبحت تلك الطيور ، وصورة طير العالم جميعها ما هي إلا ظل للسيمرغ .

ويقول العطار مخاطبا السيمرغ :

إن كل ثوب يكسو المروج ما هو إلا ظل للسيمرغ ونحن نعرف السيمرغ في هذا الظل ، لأن السيمرغ لا ينفصل عن الظل ، ولا ينبغي للإنسان أن يبقى أسير الظل ويتخبط فيه ، وإنما يجب عليه أن ينظر في ظل السيمرغ وسيرى الشمس وسط الظل ، وإذا ما فتح باب للمعرفة فسترى كيف تتلاشى الظلال في الشمس ، وتشاهد كذلك أن كل شيء هو الشمس ( 1030 - 1069 )

والعطار يريد بذلك أن يقول إن للّه وجودا في خلقه كما أن للسيمرغ وجودا في ظله ،

وهو يدلل على صدق ذلك بوجود الإسكندر في رسوله الذي كان متخفيا دائما وليس لأحد عين يستطيع أن يعرفه بها ( 1103 - 1109 ) .

والعطار أورد بيتا في منظومته « أسرار نامه » يجمع بين فكرة أن الكل ظل للّه ، وفكرة الأشياء آثار قوته الخالقة .  

- إن وجود كل شيء هو ظل جلالتك ، وإن كل شيء آثار قوتك الخالقة .

وفي صورة أخرى أوردها العطار في منطق الطير ، حيث قال :

" لقد سبق للسيمرغ أن ألقت ريشة في الصين فأثارت الاضطراب هناك واتخذ كل واحد صورة من هذه الريشة ،

وكل من رأى هذه الصورة بدأ يصنع مثلها ولو لم تظهر صورة هذه الريشة لما وجد في الدنيا هذا العراك وتلك الضوضاء ،

وكل آثار الخلق هذه تنبثق من عظمة السيمرغ وجميع الكائنات صورة من ريشتها .  

والعطار يشير إلى فكرة الظل والشمس بوضوح تام في مقدمة منطق الطير وهو يناجي ربه فيقول ( 192 ) .

- ولما كنا متلازمين دائما ، فأنت كالشمس ونحن كالظل .

3 - وصلة أخرى تربط بين اللّه والعالم ، وهي الصلة التي تربط بين الكنز والطلسم :

فالعطار يقول في المقدمة : ( بيت رقم 53 ) .

- العرش والعالم لا يزيدان عن مجرد طلسم ، واللّه الموجود وحده ، وليس لهذه الأشياء جميعها غير الاسم .

ثم يقول : وما أكثر من خبروا سطح ذلك البحر ولكن لم يدرك أحد قط ما بقاعه فالكنز في القاع وما الدنيا إلا طلسم ، وفي نهاية الطلسم سيتحطم قيد الجسد ، وستجد الكنز عندما يفنى الطلسم أولا ، وستظهر الروح عندما يفنى الجسد أولا ، وبعد ذلك فما روحك إلا طلسم آخر ، فروحك للغيب جسد آخر ، وما الغيب إلا اللّه ( 131 - 134 )

ويعلق الدكتور عزام على ذلك بقوله :

" ومن العبارات الشائعة في كلامه - أي كلام العطار - : إن العالم طلسم والكنز الذي وراءه هو اللّه فقد شاع بين الناس أن كل كنز عليه طلسم إذا حل هذا الطلسم فتح الكنز . فهذا العالم في رأي العطار.

نقوش إذا قرئت وفهمت اهتدى الإنسان إلى الكنز المخفى وراءها أي عرف الحقيقة التي تدل عليها هذه النقوش وليس هذا الكنز سوى اللّه .

ويقرب من هذا ما رواه الصوفية في حديث قدسي : " كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني " .

وقد اجتمعت هاتان العبارتان في بيت واحد هو :

- أنت معنى وما عداك مجرد اسم - أنت كنز والعالمون طلسم  

4 - كما يشير العطار إلى أن الصلة بين الانسان وربه شبيهة بصلة العبد بسيده ، فالعطار يناجي اللّه فيقول ( 225 - 227 ) .

أنا بالنسبة لك عبد بذول للروح ولي وسم كالحبشان منك ، وإن لم أكن عبدك فكيف أكون سعيدا ؟

وقد احترق قلبي حتى أصبحت عبدا لك ، فلا تبع عبدك الموسوم ، ولتضع حلقة العبودية في أذني عبدك .

ويقول الدكتور عزام معلقا على الصلة بين اللّه والعالم - كما يراها العطار - فيقول :

" ليست آراء العطار في اللّه والعالم مبتكرة في جملتها وإن كان فيها ابتكار في التفصيل والتصوير ، فقد سبقه إليها جماعة من المسلمين وفلاسفة الأفلاطونية الحديثة من قبل فالقول بأن المحسوسات ليست ذات وجود حق ، وأن العالم ظل من اللّه أو انعكاس عنه معروف في الأفلاطونية الحديثة وبين الفلاسفة والمتكلمين من المسلمين . . . »  

كما أن رأيه في أن الصلة بين الإنسان وربه هي صلة العبد بسيده تعد محور الدعوة الإسلامية فلا فضل للعطار فيها .

إذا كانت الصلة بين العالم واللّه هي الصلة بين الظل والشمس أو الصلة بين القطرة وبحر الوجود فسرعان ما يتلاشى الظل في الشمس وتذوب القطرة في البحر ، وإذا كانت هذه الصلة هي الصلة بين الطلسم والكنز ، فما أسرع أن يتحطم الطلسم ليظهر الكنز ، أي أن العالم على هذه الصور الثلاث عدم لا وجود له ، ولا وجود إلا للّه الأعظم وهو صاحب الوجود وحده ،

وإلى هذا المعنى يشير العطار بقوله في المقدمة :

والعرش مستقر على الماء والعالم سابح في الفضاء ، واعبر الماء والفضاء فالجميع هو اللّه ، والعرش والعالم لا يزيدان عن مجرد طلسم ، واللّه وحده وليس لهذه الأشياء كلها إلا الاسم ، فامعن النظر فما هذا العالم أو ذاك إلا اللّه وحده ، إذ لا وجود إلا له ، وهو الموجود وحده ( 52- 54 ) .

وما دام الوجود للّه وحده وما عداه عدم فلا يمكن أن يصدر عن العدم فعل فالفاعل هو اللّه وحده .

وهذا المبدأ الصوفي يتضح لنا في قصة منطق الطير ، فبعد أن قطعت الطير الأودية ووصلت إلى السيرغ أخبرت بأن ما رأته وعرفته وقالته لم يكن هو : ويقول أحد الدارسين لمنطق الطير « يحتمل أن يكون الغرض هنا لم يكن كما ظنت من قبل ، فإن عملها لم يكن عملها في الواقع وإن كل الأودية التي عبرتها وكل الشدائد التي صادفتها ليست إلا من عمل اللّه . . .  

أي أن اللّه هو الفاعل وحده وما الإنسان إلا واسطة أو وسيلة لقدرة اللّه ، وأن عمله في هذه الحالة كان عملا سلبيا ويشعر الإنسان أن اللّه هو الذي قدره على أن يفعل ما فعل ، وبذلك نجد أن جميع النشاط وأن جميع الذاتية تمضي في اللّه .  

وما دام اللّه هو الفاعل وحده فلا سلطان إلا له ، وما سلطان الدنيا إلا شيء زائل لا قيمة له ، وإلى هذا المعنى يشير العطار كثيرا في كتابه " منطق الطير " :

ففي نهاية القصة عندما وصلت الطير إلى الحضرة وحظيت بحاجب الحضرة وسألها عن مقصودها ، أخبرته الطيور أنها جاءت ليكون السيمرغ لهم سلطانا فيرد عليها قائلا : ( 4147 - 4148 ) .

- فقال صاحب الحضرة : أيها العجزة : يا من تلوثتم بدماء القلب كالوردة .

- فإن تكونوا أو لا تكونوا في الدنيا فهو السلطان المطلق الأبدي .

كما أن محمودا الغزنوي يرد على ذلك الذي حادثه في دار القرار وسأله عن حاله فيها وقد أسماه سلطانا ، فقال له : ( 907 - 909 ) .

"إن سلطاني خيال وغرور ، إذ كيف تكون السلطنة لحفنة من السقط ، اللّه وحده هو السلطان مالك الدنيا وهو الحقيق بهذه السلطنة ، وما أن رأيت عجزي وحيرتي حتى شعرت بالمعرة من سلطنتي . . . "  

وما دام اللّه هو السلطان وحده والخلق ظل له فهو في غنى عن الخلق ، وطاعتهم لن تنفعه بشيء كما أن معصيتهم لن تضره بشيء فكل شيء لديه متوفر وخاصة العلم والأسرار وطاعة الملائكة " .

فالهدهد يرد على ذلك الطائر الذي سأله عن الهدية التي يجب أن يحملها كل طائر إلى السلطان الأعظم بقوله : ( 3143 - 3144 ) .

- كل ما تحمله من هنا موجود هناك ؛ فكيف يكون حمله جميلا منك ؟

- العلم والأسرار وطاعة الملائكة متوفرة هناك .

وإذا كان اللّه في غنى عن الخلق وطاعتهم أو معصيتهم ، فالخلق لا غنى لهم عن اللّه سبحانه وتعالى إذ لا عوض له بين الجميع : ( 3093 - 3094 ) .

- كل شيء تجد له عوضا إلا أنا ، فلن تجد لي عوضا ولا شبيها .

- ولما لم يكن لي عوض ، فلا تكن بدوني ، ويكفيني منك الروح فكن روحا ولا تكن جسدا .

وإذا كان الإنسان في حاجة إلى اللّه دائما ولا يمكن أن يكون في غنى عنه مطلقا ؛ فيجب عليه أن يكون وفيا للّه جزاء كل هذه النعم التي أنعم اللّه بها عليه ( 2660 - 2663 ) .

« فاسمع لكل حرف يقال عن الإنصاف والوفاء . . . وإذا كنت وفيا فاعزم على سلوك الطريق . . . وكل من يخرج عن حيز الوفاء لا يليق بباب المروءة .

كما يجب على الإنسان ألا يكون جسورا جريئا مع اللّه سبحانه وتعالى : ( 2722 ) .

- ولكن كيف يتجرأ العالم بالسر الحافظ له متشبها بالجسور الوقح ، فلتخجل .

ولكن أحيانا يتجرأ العبد من شدة الحب .

وكل من يعرف الرب في كل شيء ولا يعرف ربّ من ربّ ، فإذا ما تجرأ فمن فرط الحب ( 2728 ) .

ولكن كل من يتجرأ في حضرة السلطان الأعظم عليه بطلب المعذرة :

" وكل من يتجرأ في هذه الأعتاب سيطلب المعذرة وسيعود إلى رشده ، فإذا أخطأ القول ولم يقل حقا ، فإنه يعرف كيف يعتذر بلطف"( 2770 - 2771 ) .

هذه أهم سمات الصلة بين اللّه والعالم كما عبر عنها العطار في منطق الطير ولعله أوضح بعض جوانب هذه الصلة في منظوماته الأخرى ولكننا ألزمنا أنفسنا بما جاء في منطق الطير دون غيره » .

ثالثا - العشق الإلهي

لقد أطال العطار الحديث في منطق الطير عن العشق . إذ أن العشق هو القوة الخفية التي تدفع السالك على المضي قدما في الطريق رغبة في لقاء المحبوب الأزلي ؛ وهو اللّه سبحانه وتعالى .

وقد اعتبر العطار وغيره من الصوفية العشق أعلى مكانة من الإيمان والكفر فهو يفوقهما معا ( 1152 ) .

- كل من كانت له قدم في طريق العشق راسخة ، فقد تخطى الكفر والإسلام معا.

وقد ساق العطار قصة : « شيخ صنعان » ليؤكد هذا المعنى .

كما اعتبر العطار العشق أسمى مكانة من العقل ، أما العقل فقاصر أمام العشق وقد أشار العطار إلى ذلك كثيرا فمن أقواله : ( 3326 ، 3327 ،30331) .

"العشق نار أما العقل فدخان ، وما أن أقبل العشق حتى ولي العقل الفرار مسرعا ، والعقل ليس متخصصا في ميدان العشق ، كما أن العشق ليس وليد العقل وإذا نظرت إلى الأمور بعين العقل فسترى العشق بلا بداية ولا نهاية " .

والعشق يسمو بالعاشق حتى يجعله يفنى في ذات المعشوق :

فالشيخ محمود الطوسي ينصح أحد المريدين بقوله : ( 3937 - 3957 ) .

"عليك بإفناء نفسك في العشق تماما حتى تصبح في الضعف كالشعرة دواما ، وما أن تصبح كشعرة ضعيفة ، فأليق مكان بك حيث طرة المعشوق ، وكل من يصبح شعرة في محرابه ، فإنه يكون شعرة من شعره بلا ريب " .

ولا شك أن الحب الإلهي كحب شيء لا سبيل إلى الوصول إليه ، وهذا الحب الذي يتخذ وسيلة للبحث عن اللّه أو عن سبب الوجود الذي لن يكون شخصا هو الموضوع الأصلي لقصتي « منطق الطير » و « مصيبت نامه » .

والعشق نوعان

عشق دائم ، وهو عشق المعرفة ،

وعشق زائل وهو عشق الصورة الذي يزول بزوال الصورة ،

وعشق المعرفة هو عشق اللّه ذلك الحبيب الأبدي الدائم ،

أما عشق الصورة فهو عشق الماديات الفانية البالية ،

وقد تكلم العطار كثيرا عن عشق الصورة وعدم جدواه وضرورة البحث عن حبيب لا يفنى ولا يزول ،

فهو يقول في المقالة الخامسة والعشرين :

- إن عشق الصورة ليس هو عشق المعرفة ، إنما هو اللعب بالشهوة يا حيواني الصفة .

- وإن الجمال الذي ماله النقصان ، يكون في عشقه للرجل كل خسران .

- ومن يعشق عالم الغيب ، فهذا هو العشق الحق ، إذ أنه خلى من كل عيب .

كما أن الهدهد يرد في المقالة الثالثة على البلبل وهو يتباهى بعشق الوردة ، فيقول له : يا من تعلقت بالصورة ، لا تتباه أكثر من ذلك بعشق الجميل . . . فعشق شيء مآله الزوال يصيب العاقلين بالضجر والملل . . . " .

كما أن العاشق الحق هو الذي يعشق شيئا ثابتا لا يتلون ولا يتغير فالهدهد في المقالة السابعة يرد على الحجلة وهي تتيه غرورا بتعلقها بالجواهر ويخبرها بأن تعلقها بالجواهر لا أساس له من الصحة لأن الجوهر ما هو إلا حجر اصطبغ بالعديد من الألوان . وإذا زالت عنه الألوان عاد حجرا عديم القيمة ، ثم يدلل على صدق قوله بقصة سيدنا سليمان وفص خاتمه ، وكيف أنه فضل الحياة الآخرة على الدنيا ونعيمها إذ كان في إمكانه إخضاع العالم لسلطانه بفص خاتمه هذا . .

وما دمنا نتحدث عن الجواهر والذهب فالعطار يرى أن عشق الذهب يصيب الإنسان بالهموم والبلايا ، وهو دليل الكفر ، وفي الآخرة تمسخ صورة عابد الذهب ، وهذا ما حدث بالنسبة لرجل كان يكنز الذهب ، وما أن مات حتى رآه ابنه في نومه وقد عاد إلى البيت على هيئة فأر يبحث عن الذهب لينثره ، ولينصح ابنه لكي لا يكون عبدا للذهب : ( 994 - 1000 ) .

كما خصص العطار المقالة ( الثالثة والعشرين ) والحكايات التي تليها بذم عشق الذهب ، وأثره السئ على الصلة بين الإنسان واللّه سبحانه وتعالى .

والعاشق يفضل المعشوق على كل ما عداه من نعيم وملك وأموال .

والدليل على ذلك قصة ذلك الوقاد الذي كان محمود الغزنوي ينزل عليه ضيفا . وفي آخر زيارة قال السلطان محمود للوقاد « اطلب ما تبغي ، وأنا أحققه لك في التو والحال ، ولو طلبت أن تكون ملكا ، لما توانيت في تحقيق ما تريد . ولكن الوقاد يقول : إنني أطلبك أنت ولا حاجة بي إلى هذا أو ذاك ( 2856 ) .

- أنا لا أطلب ملكا ولا سلطنة ، ولكن كل ما أطلبه منك هو أنت .

كما أن إياز ( غلام محمود ) قد رفض ذلك الملك العريض الذي عرضه عليه محمود الغزنوي لأن هذا الملك سيشغله عن رؤية محمود والتمتع بمنادمته ومجالسته . ( 3057 - 3081 ) .

وهذه رابعة تناجي اللّه وتطلبه هو راغبة عن النار والجنة ( 3182 - 3189 ) .

والعاشق الحق هو الذي يتخلى عن روحه طواعية من أجل محبوبه ويتضح ذلك من قصة الفقير الذي وقع في حب حاكم مصر ، ثم خيرّه حاكم مصر بين القتل وترك البلاد جزاء جرأته على حبه فاختار المسكين الرحيل ، فما كان من الحاكم إلا أن أمر بقتله لأنه غير جاد في عشقه ، لأنه لو كان جادا لما خاف الموت ولقدم روحه بلا تردد . . . ( 1924 - 1939 ) .

والعشق الإلهي يشغل العاشق عن الاهتمام بأمور الغير ، والدليل على ذلك أن رابعة سئلت عن الصحابة فكان جوابها أنها مشغولة بحب اللّه عما سواه . . . ( 561 - 570 ) .

وفي حديث قدسي معناه أن عادة اللّه قتل من يحبونه ويدفع ديتهم ، والدية هي اللّه نفسه .

رأى ذو النون في سفر له أربعين صوفيا موتى على الأرض فقال مخاطبا اللّه :

يا إلهي كم من الرجال سوف تقتل ؟

فأجاب الصوت الإلهي ، هذا ما نعرفه وحدنا ، نحن نقتل ونقدم الدية ، فيقول ذو النون : إلام تقتل ؟

فأجاب اللّه : ما دامت الدية في خزانتي ، فإنني أقتل من يحبني ،

ولكن إذا ما فنى فناء تاما وتلاشى فأنا أظهر له وجهي . وأهدى إليه خلعة جمالي  وسيصبح بعد ذلك ظلا ، يمحى تحت شمس اللّه ( 2553 - 2569 ) .


والعاشق غيور في عشقه ، ومنطق الطير به أكثر من دليل على ذلك :

كان الشبلي غيورا في حبه وسبب غيرته أن محبوبه الأزلي « وهو اللّه » قد خص إبليس بتوجيه الحديث إليه رغم أن هذا الحديث كان سبابا ولعنات .

فكم كان الشبلي يتمنى أن توجه له هذه اللعنات ، المهم أن يحظى بمخاطبة اللّه ، سبحانه وتعالى ( 3254 - 3268 ) .

ودليل آخر هو غيرة الملك من العظمة التي ركن إليها كلبه رغم ما يعيش فيه من عز ونعيم ( 2240 - 2260 ) .

والغيرة في الحب تبدو كذلك في عشق السلطان لابن وزيره ، حتى.

أنه لم يكن يسمح لأبويه برؤيته ولا يسمح للفتى بمغادرة مجلسه ، وإذا قدر وابتعد الغلام عن مجلس السلطان ، فإنه يقطع رأسه من الغيرة ( 4263 - 4423 ) .

ومن الخير للعاشق أن يتحمل أذى المعشوق من أن يحوز الرضا من غيره ( 3265 ) .

- إذا رماك المعشوق الثمل بحجر . . فهذا أفضل من أن تنال جوهرة من الغير .

وحتى لو كان المعشوق يؤذي العاشق فيجب على العاشق ألا يغمض له جفن . فآلام العشق يجب أن تؤرقه دائما .

فلقد مر معشوق بعاشقه فوجده نائما فكتب له وريقة فيها بعض الكلمات منها : « لتخجل إن كنت عاشقا ، فأي شأن للنوم بعين العاشق ، وإذا نام العاشق فلا يكون ذلك إلا في الكفن . . . وإذا كنت بالعشق جاهلا ، فلتهنأ بالنوم لأنك لست للعشق أهلا . . . ( 3505 - 3508 - 3509 ) .

والنوم ما هو إلا تخلي العاشق عن العشق ، والعاشق الذي يتخلى عن معشوقه طواعية يستحق البلاء والمتاعب ، والدليل على ذلك قصة التاجر الذي باع جاريته الجميلة ثم حاول أن يستردها بدفع ألف دينار زيادة على ثمنها ، ولكن دون جدوى ، فكان فريسة للهم والحزن على سوء تصرفه وتخليه عن معشوقته . ( 2228 - 2239 ) .

والعاشق سرعان ما يشعر بالندم والحسرة إذا أصاب المعشوق أي ضرر ، وهذا هو حال الملك الذي وقع في حب فتى وزيره ثم أمر بقتله من الغيرة ، ولكن ما أن ثاب إلى رشده حتى تملكه الهم والحزن وظل أربعين ليلة في حيرة واضطراب لا يقر له قرار . . . ( 4263 - 4423 ) .

وجزاء من لا يحسن العشق الإلهي أن يطرده اللّه سبحانه وتعالى من عشقه فاللّه سبحانه وتعالى يطرد من عشقه من يشغل بأي أمر من الأمور عن عبادته ، والدليل على ذلك قصة العابد الذي عبد اللّه أربعمائة سنة ثم شغل فترة بتغريد طائر فوق شجرة في بستان يتوسط داره ، فكان جزاؤه أن تخلى اللّه عن عشقه . ( 2016 - 2119 ) .

هذه أهم السمات التي تحدد معالم العشق والتي تحدد الصلة بين العاشق والمعشوق ، ولكثرة ما أحاط الصوفية العشق بهالة من السمو والرفعة نجد العطار يعلى من مكانة العاشق حتى يجعل من مقدوره الإتيان ببعض الخوارق : ( 2729 ) .

- إنه شبيه بالمجنون من شدة العشق ، كما أنه يسير على سطح الماء من قوة العشق .

ومن آثار العشق في رأي العباسة ، أن العشق إذا وقعت ذرة منه على رجل سالك فإنها تولد منه امرأة ، وإذا سقطت ذرة عشق على امرأة سالكة فإنها تولد منها رجلا ، والدليل على ذلك أن آدم بذرة عشق أنجبت حواء ، كما أن مريم بذرة عشق أنجبت عيسى ( 3539 - 3550 ) .

ولكن ما السر في أن العطار والصوفية جميعهم قد أطالوا الحديث في العشق ؟ إن السر كامن في أن العشق يمد السالك بذخيرة تساعده على سلوك الطريق حتى ولو كان غاية في الضعف الجسماني ، فهو يمد الروح بطاقة دافعة لها على المضي في طريق المعرفة حتى تصل إلى إدراك الفناء ( 1741 ) .

- ومن كان في الضعف أكثر عجزا من النملة ، فإن العشق سيمده في كل لحظة بقوة هائلة .

كما أن اهتمامهم بالعشق راجع - كما يقول الدكتور عزام - إلى أنه.

القوة الخفية التي تحت الإنسان على الطلب والعمل والإقدام ، والتي تهيب بالإنسان إلى العظائم ، وترفعه عن الدنايا وتساعده على أن يعرف نفسه ومبدأه ومنتهاه ، وخالقه ، وهلم جرا . . فهي الوجدان أو ملكة قريبة منه متصلة به .

كما أن العشق هو مفتاح التصوف . . . .

ولذا كان نصيب العشق في كلام الصوفية وافرا ، وحظه من أقوال العطار عظيما .

رابعا - الطريق الصوفي غايته الإدراك و"الاتحاد" الفناء في الله

الطريق الصوفي ليس طريقا بالمعنى المفهوم ، لدى عامة الناس ، بل هو طريقة للمجاهدة ووسيلة لضبط النفس ، ولكنه يشبه الطريق الأرضي في كونه يتكون من مراحل تختلف بين السهولة والوعورة ، وهو شبيه بطريق بين جبلين تكثر به النتوءات والصعوبات لا يسلكه المسافر إلا بشق الأنفس ، وليس في مقدور كل مسافر أن يسلكه فالبعض يخشى مخاوف الطريق فيكفّ عن السفر ، والبعض يقطع بعض أوديته ولكن سرعان ما يهلك في الطريق .

والقلة هم الذين يستطيعون الخوض في هذا الطريق والوصول إلى غايته .

وغاية الطريق الصوفي هي إدراك اللّه سبحانه وتعالى ، ولكن ما وسيلتهم إلى هذا الإدراك ، هل يدركونه بالعقل ؟

هيهات هيهات للعقل أن يقوى على إدراك اللّه سبحانه وتعالى ، فالعقل عاجز عن إدراك سر المخلوقات فكيف به يجرؤ على معرفة سر الخالق ؟

ولقد أفاض العطار في بيان عجز العقل عن إدراك الحقائق الكونية ، وعن إدراك اللّه سبحانه وتعالى ، بل جعله قاصرا أمام العشق الإلهي ، ومن أقوال العطار في قصور العقل هذه الأقوال :

يناجي العطار اللّه سبحانه وتعالى في مقدمة « منطق الطير » فيقول :

- وليس للعقل والروح طريق للطواف حولك ، ولا يمكن لشخص قط إدراك كنه صفتك . . ( 62 ) .

- وإذا قدر للعقل أن يدرك أثرا من آثار وجودك . فلن يستطيع أن يسلك الطريق إلى إدراك كنهك . ( 65 ) .

كما يوضح العطار أن الطريق إلى اللّه نابع منه لا من العقل :

- اعرف نفسك باللّه ولكن لن تعرفه بنفسك ، فالطريق إليه نابع منه لا من العقل ( 91 ) .

بل إن العطار يدعو السالك لكي يحرق العقل لأنه يقف عقبة في طريق السالك :

- أي عمل هذا الذي تفعله ؟

كالرجال تقدم ، واحرق العقل وكالمجنون تقدم ( 4085 ) .

ويجعل العطار العقل عاجزا أمام إدراك سر الفناء ، فهو يقول في وصف وادي الفقر والفناء ( مقالة 44 ) ( 3934 - 3936 ) .

- ولكن إذا ما مضى رجل طاهر في البحر ، فإنه يفنى فناء حقيقيا ولن يبقى له أثر .

- وتصبح حركته هي حركة البحر ، وما أن يفنى حتى يصل إلى مجال الحسن .

- ويصبح غير موجود وهو موجود، وعندما يتم هذا ، فإن هذا خارج عن نطاق تصور العقل.

وليت العطار اعتبر العقل قاصرا . أمام ادراك اللّه وحده ، بل إنه تعدى ذلك وجعله قاصرا أمام العشق الإلهي :

- العشق نار هناك أما العقل فدخان ، وما أن يقبل العشق حتى يولي العقل الفرار مسرعا .

- والعقل ليس متخصصا في ميدان العشق ، وليس العشق وليد العقل .

ولكن لماذا لا يثق العطار بالعقل هكذا ؟

إن هذا ناتج من اعتقاده بأن العقل قرين الشيطان :

- لقد تسلطت نفسك على روحك ، كما سيطر الشيطان على عقلك ( 2878 ) .

فإذا كان العطار يلغي أثر العقل هكذا في إدراك كنه اللّه ، فما وسيلة السالك إذا لهذا الإدراك ؟

إنه العشق ، فالعشق هو الذي يمد العاشق بذخيرة تساعده على سلوك الطريق .

 ومن كان في الضعف أكثر عجزا من النملة فإن العشق يمده كل لحظة بقوة هائلة. (1741).

والفرق بين العقل والعشق أن الأول مخالط للطبيعة ، والثاني من الذات الإلهية فهو مدرك لها دائما . وعلى هذا فلا بد للعاشق من ذخيرة للسالك حتى يستطيع مواصلة السير في الطريق الصوفي .

ولقد قلت من قبل إن الطريق ما هو إلا مجاهدة النفس البشرية حتى تتخلص من كل العلائق وتتطهر وتسلك الطريق لا تفكر في شيء سوى الغاية التي تسعى إليها .

وهذا الطريق يختلف بين حال ومقام . وقد أكثر الصوفية من التكلم عن المقامات والأحوال وتكفي هذه الإشارة الموجزة لتوضيح الفرق بين الحال والمقام .

يقول أبو نصر السراج :

. . المقام معناه مقام العبد بين يدي اللّه عز وجل ، فيما يقام فيه من العبادات والمجاهدات والرياضات والانقطاع إلى اللّه عز وجل .

ويقول أيضا في تعريف الحال :

..أما معنى الأحوال فهو ما يحل بالقلوب أو تحل به القلوب من صفاء الأذكار.

وقد حكي عن الجنيد رحمه اللّه أنه قال : الحال نازلة تنزل بالقلوب فلا تدوم .

وليست الحال من طريق المجاهدات والعبادات والرياضات كالمقامات . . . .

ويختلف الصوفية فيما بينهم في عدد المقامات والأحوال كما يختلفون في أسمائها ويمتد اختلافهم إلى ترتيبها ، وسأذكر المقامات والأحوال كما ذكرها اثنان من كبار الصوفية لنرى مدى الاختلاف ، وبعد ذلك أتكلم عن تقسيم العطار لطريقه ، وهو يختلف تماما عن تقسيم هذين العالمين وأعني بهما السراج الطوسي ، والكلابادي صاحب التعرف .

المقامات عند السراج الطوسي :

التوبة - الورع - الزهد - الفقر - الصبر - الرضا - التوكل .

أما الأحوال عنده فهي :

المراقبة - القرب - المحبة - الخوف - الرجاء - الشوق - الأنس - الطمأنينة - المشاهدة - اليقين .

أما المقامات والأحوال عند صاحب التعرف فقد ذكرها دون أن يفرق بين ما هو مقام منها وما هو حال ، واكتفى بقوله « نريد أن نخبر الآن ببعض المقامات . . . »

وهذه هي المقامات في رأيه :

التوبة - الزهد - الصبر - الفقر - التواضع - الخوف - التقوى - الإخلاص - الشكر - التوكل - الرضا - اليقين - الذكر - الأنس - القرب - الاتصال - المحبة .

وهكذا نجد اختلافا في العدد وفي الترتيب بل وفي الأسماء .

ولا غرابة في هذا الاختلاف فالطريق إلى اللّه بعدد أنفس الخلائق ، ورغم ذلك فالاختلاف ليس كبيرا .

أما إذا نظرنا إلى تقسيم العطار للطريق في منطق الطير فسنجد أن الاختلاف بينه وبينهما عظيم فهو يقسم الطريق إلى سبعة أودية فقط وهي :

وادي الطلب - وادي العشق - وادي المعرفة - وادي الاستغناء - وادي التوحيد - وادي الحيرة - وادي الفقر والفناء .

وهذا هو وصف العطار للطريق بمراحله السبع بإيجاز .

أولا : وادي الطلب :

واد مليء بالتعب ، ولا بد فيه من الجد والجهد عدة سنوات ، كما يجب التخلي فيه عن المال والملك وعن الكل ، كما يجب التطهر من كل العلائق ، وعلى السالك ألا يأبه في هذا الوادي بمخاوف الطريق ، على أن يتساوى لديه الكفر والإيمان ، كما يجب ألا يكف لحظة عن الطلب ، فإن تواني لحظة عن الطلب فهو مرتد ، وعليه أن يقدم روحه نثارا في هذا الوادي ، كما يجب أن يتحلى بالصبر حتى لا ييأس في أول مراحل الطريق . . .

ثانيا : وادي العشق :

كل من سار فيه فهو في نار وحرقة ، لا يعرف الكفر من الإيمان ، كما يتساوى أمامه الخير والشر ، والعقل غير جدير بهذا الوادي فهو عاجز عن إدراك أسرار العشق .

والعشق يوجب على السالك أن يقوم بأي عمل مهما صعب من أجل المعشوق ، والسالك في ذلك الوادي يجب أن يتخلى عن كل ما يملك ، فالعشق والإفلاس قرينان ، والعاشق يقدم روحه طواعية تلبية لأمر المعشوق ، ولكن يكره أن - تكون هناك واسطة بينه وبين معشوقه ، كما حدث في قصة سيدنا إبراهيم مع عزرائيل حينما حان موعد وفاته ( 3443 : 3455 ) .

ثالثا : وادي المعرفة :

في هذا الوادي يختلف سالك الروح عن سالك الجسد ، وتتفاوت المعرفة بين السالكين كل حسب مقدرته ، فبعضهم يدرك المحراب والبعض يدرك الصنم ، وكلما واصل السالك المسير كلما زادت معرفته بالأسرار ، ولا بد للسالك من أن يتصف بالكمال حتى يستطيع مواصلة السير ، كما يجب على السالك ألا يقنع بما يحصله من معرفة بل عليه أن يقول دائما « هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ؟ » حتى يصل إلى ذي العرش المجيد ، وهذا الوادي طريق طويل لا تبدو له بداية ولا نهاية ، وعلى السالك أن يبعد النوم عن عينيه وأن يكون في سهاد وأرق دائمين . . .

رابعا : وادي الاستغناء :

وفيه يجب على السالك أن يتخلىّ عن كل شيء في الدنيا ، فكل ما فيها تافه لا قيمة له ، فما هذه البحار الشاسعة إلا بركة صغيرة ، وما الأفلاك والأنجم إلا كورقة شجرة ، كما يجب على السالك ألا يطمع في شيء مطلقا ؟ فما العالمان إلا كذرة رمل تافهة .

وإذا ما أضاء برق الاستغناء فإن لهيبه يحرق مائة عالم في لحظة واحدة ، وعلى السالك أن يتخلى عن روحه في هذا الوادي ، وأن يقطع كل صلة له بقلبه لأن من يسلك هذا الوادي بالروح والقلب يكون أكثر شركا من المشركين أنفسهم .

خامسا : وادي التوحيد :

وهو منزل التجريد والتفريد ، وفيه يرى السالك الكثرة قلة حتى يصل الكل إلى أن يكون واحدا ، ولا أهمية للأزل ولا للأبد في هذا الوادي ، ومن لم يفن من السالكين في الوحدة والاتحاد فهو غير جدير بالإنسانية ، وعندما يصل السالك إلى مجال التوحيد ، فإنه لا يشعر بالمكان ولا بنفسه ، ويصبح الجزء كلا ، بل ويتلاشى الكل والجزء وتتلاشى فيه الأعضاء والروح ويصبح العقل عديم القيمة في هذا الوادي ، وفي هذا الوادي تختلط الصورة بالصفة .

وما أن يصل السالك إلى حد التوحيد والتفريد ، فإنه يصل إلى حد الاضطراب وعدم القدرة على أن يفرق بين نفسه وبين ربه لأن هذا الوادي فيه تتلاشى الثنائية ولا بقاء إلا للوحدانية .

سادسا : وادي الحيرة

وفيه يصاب السالك بالألم والحسرة وينخرط في عمل متواصل ويكون عرضة للأحزان دواما ، وتنهال عليه المصائب في كل لحظة فتكثر آهاته ، وكل ما حصلت روحه من التوحيد يضيع منه في هذا الوادي دفعة واحدة ،

ولا يعرف السالك أهو موجود أم غير موجود !

 أهو ظاهر أم خفي !

فالسالك في هذا الوادي لا يعرف كنهه ، ويكون قلبه مفعما بالعشق ولكن لا يعرف من المعشوق ، ويكون حائرا بين الكفر والإسلام ، وقد ساق العطار قصة الشيخ « نصر آباد » دليلا على ذلك ، إذ حج أربعين مرة ثم ترك ذلك كله وطاف حول معبد النار من شدة اضطرابه وحيرته دون أن يشعر بما يفعل ( 3899 : 3912 ).

سابعا : وادي الفقر والفناء :

أهم ما يميز هذا الوادي هو النسيان ، ولا سبيل أمام القلب في هذا البحر الخضم إلا الفناء ، ونهاية المطاف في هذا الوادي تختلف من سالك إلى آخر كل حسب طهره وعزيمته ، فمرتكبو الخطايا يسيرون إلى القاع أذلاء ولكن من تتطهر نفوسهم يفنون فناء حقيقيا وتصبح حركة كل واحد منهم هي حركة البحر .

وهكذا يتم الاتحاد وما الاتحاد إلا فناء السالك عن ذاته وفنائه في اللّه ، وإذا ما مضى السالك عن الجميع فهذا هو الفناء ،

وإذا ما فنى عن الفناء فهذا هو البقاء بعد الفناء وهذا بدوره يؤدي بنا إلى الحديث عن الفناء في منطق الطير.

خامسا - الفناء وصوره في منطق الطير

الفناء الصوفي هو الحال التي تتوارى فيها آثار الإرادة والشخصية والشعور بالذات وكل ما سوى الحق .

فيصبح الصوفي وهو لا يرى في الوجود غير الحق ولا يشعر بشيء في الوجود سوى الحق وفعله وإرادته .  

ولا تشير كلمة « الفناء » إلى ناحية واحدة من التجربة الصوفية هي الناحية السلبية ، ولكن لها ناحية إيجابية هي التي عبر عنها الصوفية بكلمة « البقاء » لأن الفناء عن شيء يقتضي البقاء بشيء آخر .

فالفناء عن المعاصي يقتضي البقاء بالطاعات ، والفناء عن الصفات البشرية يقتضي البقاء بصفات الألوهية ، والفناء عما سوى اللّه يقتضي البقاء باللّه وهكذا .  

وليس المقصود بالفناء ذلك المعنى الشائع ، وهو الفناء بالموت بل المقصود أن يفنى الصوفي عن الأخلاق الذميمة ويبقى بالأخلاق الحميدة ، ويفنى عن صفاته من علم وقدرة وإرادة ويبقى بصفات اللّه الذي له وحده العلم والقدرة والإرادة ، وأخيرا يفنى عن نفسه وعن العالم حوله ويبقى باللّه ، بمعنى أنه لا يشهد في الوجود إلا اللّه .

وبهذا ينبغي أن يفسر ما يقول الصوفية في الفناء :

إنه ليس بموت لأن الذي يعدونه فانيا يعيش على هذه الأرض ، وليس هو حلول اللّه في.

الإنسان كما في بعض النحل وإلى هذا يشير صاحب الرسالة القشيرية :

" . . وإذا قيل فنى عن نفسه وعن الخلق فنفسه موجودة والخلق موجودون ، ولكن لا علم له بهم ولا به ولا إحساس ولا خبر ، فتكون نفسه موجودة والخلق موجودين ، ولكنه غافل عن نفسه وعن الخلق أجمعين غير محس بنفسه ولا بالخلق » .

وكلمة الفناء تدور حول ( الأنا ) ، لذا فمن واجب الصوفي ألا يشعر بذاتيته ، لأن شعوره بالأنا أو بالذاتية فيه شعور بالإثنينية والشعور بالإثنينية شرك ، ولذا فالنتيجة المطلوبة من الفناء هي رفع الإثنينية .

ويسوق العطار قصة عن معشوق الطوسي وفيها لا يشعر بأنيته :

زار شاب معشوق الطوسي وهو مريض وبدأ في قراءة الفاتحة حتى شعر المريض بأنفاسه

فقال الطوسي : إذا كنت تقرأ الفاتحة فلتصب اللّه بأنفاسك.

إن هذه الأنفاس لا تليق بهذا المسكين ، فينبغي أن ينال هو كل شيء لا أنا .

وهذا الفناء في اللّه أو الاتحاد مع اللّه يتخذ مظهرا ينقسم إلى عدة صور ولا يبدو عند كل صوفي كما يبدو عند الآخر ولا يكون له نفس الصورة في كل الحالات ، وإن تعبيرات الصوفية تصف هذا في ألوان متباينة .

وإذا ما تعرضنا لأقوال العطار عن الفناء وصوره في منطق الطير لوجدنا أنه يعبر عن الفناء بأكثر من صورة :

1 - فناء السالك في اللّه كفناء القطرة في البحر ، وقد وضح العطار هذه الصورة في نهاية الحديث عن وادي الفقر والفناء فهو يقول :

إذا هاج وماج البحر الكلي ، فهل تبقى نقوش على صفحة البحر ؟

إن كلا العالمين نقش ذلك البحر . . وكل من أصابه الفناء في بحر الكل فهو دائما فان بال ؛ والقلب في هذا البحر الغاص بالفناء لا يجد شيئا إلا الفناء . . . وإذا فنى نجس في بحر الكل ، صار إلى القاع ذليلا بصفاته ، ولكن إذا مضى فيه رجل طاهر فسيفنى فناء حقيقيا ولن يبقى له أثر ، فتصبح حركته هي حركة البحر . . . » .

2 - يشبه العطار فناء السالك في اللّه بفناء الظل في الشمس :

فالعطار يقول في نهاية القصة وذلك بعد أن وصلت الطير إلى السيمرغ ، وتم اللقاء بينها وبين السيمرغ ثم تم لها الفناء .

- لقد انمحوا فيه في النهاية على الدوام ، كما يفنى الظل في الشمس والسلام .

كما يشرح العطار هذه الفكرة في كتاب آخر له ، هو « مختار نامه »

فيقول : " إن النبي يقول للسالك : إذا أردت أن تخرج عن نفسك ، وأن تفنى ؛ فلا بد وأن تصبح لا شيء في ذات اللّه ، كن ظلا يضيع في الشمس ، كن لا شيء واللّه عالم بكل شيء " .

ويتحدث كذلك عن هذه العلاقة في إجابة اللّه سبحانه وتعالى على سؤال لذي النون يسأله فيه عمن يقتلهم اللّه ، فكان جواب اللّه إني أقتلهم ، وإذا ما فنى السالك تماما فأنا أسيّر له شمس وجهي ، وألبسه ثوبا من جمالي ، وأجعله ظلا في طريقي ، وأجعل شمس نفسي تشرق ، وإذا ما أشرقت شمس وجهي ، فكيف يستطيع الظل أن يبقى في طريقي ؟

وإذا تلاشى الظل في الشمس فإنه يصبح لا شيء واللّه يعلم كل شيء . (2553 -2569).

3 - الصورة الثالثة من صور الفناء هي صورة التحول إلى نور ، وهذه الصورة واضحة في حكاية الفراشات الثلاث ومحاولة إدراكها لنور الشمعة فطارت فراشة وما أن رأت الشمعة وسط ردهات القصر حتى أسرعت بالعودة وأخذت تصف الشمعة ، ولكن ناقدهم سفه رأيها ، فطارت أخرى وطافت حول الشمعة ثم عادت وقصت على الجمع ما رأت ، ولكن ناقدهم لم يقنع بكلامها وسفّه رأيها كذلك ، فطارت فراشة ثالثة وألقت بنفسها في نار الشمعة فاحترقت كلها في النار وأفنت نفسها كلية وهي غاية في السرور ، وما أن شملتها النار عن آخرها حتى احمرت أعضاؤها كلون النار ، لذا ما أن رآها ناقدهم حتى قال لقد أصابت هذه .

أي أن الفراشة الثالثة هي التي أدركت الفناء الحقيقي وذلك لخروجها عن طبيعة تكوينها وتحولها إلى نور ، وهكذا كان التحول إلى نور صورة من صور الفناء.

4 - الملاحظ أن الصور الثلاث السابقة يتخذ فيها الفناء صورة التلاشي التام ، ولكن في الصورة الرابعة يبدو الفناء على أنه ظهور وجود خاص في مادة عامة للكون ،

وهذا الفناء يبدو في صورة تحول المحب إلى شعرة لامكان لها إلا في ذؤابة الحبيب ،

وتبدو هذه الصورة في حديث الشيخ محمود الطوسي لأحد مريديه إذ يقول له :

"امض إلى الفناء دائما ، حتى تفنى نفسك في العشق تماما ، وعندما تصبح كالشعرة في الضعف . . . فأليق مكان بك طرة المعشوق ، وكل من يصبح كالشعرة في محرابه فإنه يكون شعرة من شعره بلا شك . . " ( 3937 - 3940 ) .

والملاحظ أن العطار يشرح فكرة فناء المحب في محبوبه ، وارتقائه إليه حتى يصبح هو ذاته ؛ بقصص دنيوية ،

والمثال الكلاسيكي المألوف دائما هو المجنون وليلاه ، ولكن العطار أضاف إلى هذين العاشقين القديمين عاشقين أحدث عهدا هما « محمود » و « إياز » وإن كان يذكر المجنون في بعض حكاياته .

يقول العطار : " وإذا ما تلاشى أحد من بين الجمع فهذا هو الفناء ، وإذا ما فنى عن الفناء فهذا هو البقاء " ( 3942 ) .

ويقول أيضا : " اغمض عينك ثم افتحها وتلاش ثم تلاش ثم تلاش في تلك الحال الثانية ، ثم امض قدما ، فقد تأتّى لك أن تصل إلى عالم التلاشي " .

والملاحظ أن العطار يصف الوصول إلى الفناء ، غير أنه لا يوضح طريق البقاء . فنحن نلاحظ في نهاية القصة أن الطيور بعد أن أصابها الفناء أدركت البقاء دون أن يوضح لنا العطار كيف أدركته ، لأن توضيح ذلك خارج عن نطاق الشرح والتفسير ،

فقد قال :

عندما انقضت أكثر من مائة ألف من القرون ، وكانت قرونا بلا زمان إذ لا بداية ولا نهاية ، أسلمت الطير أنفسها إلى الفناء الكلي بكل سرور ، وما أن غاب الجميع عن رشدهم حتى ثابوا إلى رشدهم ، وتقدموا إلى البقاء بعد الفناء ، ولكن ليس لأحد قط سواء من المحدثين أو القدماء أن يتحدث عن ذلك الفناء وذلك البقاء . . .

إذ أن شرح ذلك بعيد عن الوصف والخبر ، ولكن في طريق مثل طريق أصحابنا ، أيمكن شرح البقاء بعد الفناء ؟ وأنىّ يمكن إتمام ذلك . . . (4241 - 4247) .

ويربط العطار بين الفناء والذلة وبين البقاء والسمو والشرف ، فهو يقول « وان لم يصبك النقصان في الفناء ، فلن ترى السلامة مطلقا في البقاء ، وفي الطريق تلقى إليك الذلة في البداية ثم ترتقي فجأة بالعزة ، فصر إلى العدم حتى تدرك الحياة في أثر ذلك ، فما دمت موجودا فكيف تصل الحياة إليك ، وإن لم تمح في الذلة والفناء فكيف يصلك من العز إثبات البقاء " ( 4259 - 4262 ) .

وقد قص العطار قصة طويلة تؤيد هذه الفكرة وهي تدور حول ذلك الملك الذي يأمر وزيره بقتل ولده الحبيب ، غير أن حصافة الوزير تقنع الملك بوخامة عاقبة تلك النوبة من الغضب التي تسيطر عليه .

ويقول ريتر ( Ritter ) إننا لا نعرف من هذه القصة شيئا عن حالة البقاء الصوفي وما يميزه ، والقصة تصف في براعة حالة الشقاء الظاهري للنفس ، والفناء الخلقي لدى إنسان كان يحب شيئا يكمن فيه جمال الحياة والشباب ، وقد حطمه غير أن الحظ أعاده اليه .  

ويكمل ريتر تعليقه على هذه القصة ( من البيت رقم 4263 إلى رقم 4423 - طبعة باريس ) –

فيقول : « إذا شئنا استنادا إلى هذه القصة أن نشرح فكرة الفناء والبقاء فإن ذلك لا يكون بالمعنى العادي.

الاصطلاحي لهاتين الكلمتين ، فإن الفناء هنا بواسطة الشعور بالذنب مما يعقد الموازنة بينها وبين حال الطير التي تملكها الخجل حينما وجدت أن سجل ذنوبها موجود في بلاط السيمرغ ، وإن هذه الحال عرفت عند الشاعر بالفناء . . .

أما البقاء فهو حال سعيدة لم يستطع الشاعر أن يصفها ولم يشأ أيضا أن يقوم بوصفها ، وإنما أراد العطار أن يثير في قارئه حب الاستطلاع بقصة معبرة رائعة . . .

ونحن لا نخطىء إذا ما سلمنا بأن الشاعر لم يقصد بالسفر إلى اللّه والبقاء بعد الفناء أن يقول شيئا ملموسا متميزا ، كما أن الصوفية لا يعرفون إلا القليل الذي يذكرونه عن هذا البقاء ، وإن الروعة الحقيقية لتتركز في الفناء » .

أي أن ريتر يرى أن الغاية التي يسعى إليها الصوفي والهدف الأسمى الذي يتطلع إليه هو الفناء في اللّه ، وما هذا السفر إلا وسيلة لإدراك هذا الهدف ، وما هذا البقاء بعد الفناء إلا بقاء بصفات اللّه بعد الفناء عن صفاته ، وهو بقاء بالأخلاق الحميدة بعد الفناء عن الصفات الذميمة ، وما أن يدرك السالك هذا الهدف الأسمى وهو الفناء ، فسرعان ما ينعم اللّه عليه بالبقاء .

بعد أن تعرضنا لشرح معنى الفناء عند العطار وبعد أن عرجنا كذلك على فكرة البقاء بعد الفناء ، نجد سؤالا يدور في الذهن يبحث عن إجابة ،

هذا السؤال هو : هل يجيز الفناء في اللّه عند العطار أن يكون الصوفي إلها ؟

إن الطيور في نهاية المطاف قد أدركت أنها هي السيمرغ وأن السيمرغ هو هي : هل يريد العطار بذلك أن الطير أصبحت اللّه ؟

وإذا كان الجواب بالإيجاب ، فهل معنى ذلك أن العطار يتفق في ذلك مع الحلاج في قوله « أنا اللّه » أو مع بايزيد وهو يقول « سبحاني ما أعظم شأني » ؟

قبل الإجابة عن هذه الأسئلة جميعا يجدر بنا أن نعرّف وحدة الوجود ووحدة الشهود تعريفا موجزا للغاية دون التعرض للتفريعات العديدة :

يرى ابن العربي أن الوجود حقيقة واحدة ذات وجهين الوجه الأول الباطن وهو الحق ، والثاني الظاهر وهو الخلق ، وهو يرى أن التعدد والكثرة أمر قضى به العقل القاصر والحواس الظاهرة القاصرة ، ولا فرق عند ابن عربي بين الواحد والكثير أو الحق والخلق إلا بالاعتبار والنظر العقلي القاصر ، فالعين واحدة كما يقول :

جمع وفرق فإن العين واحدة  ....  وهي الكثيرة لا تبقى ولا تذر  

ويعلق المستشرق الإنجليزي نيكلسون على هذا القول بقوله :

ويعرف أهل هذه الفرقة بأصحاب وحدة الوجود " ويقول ريتر Ritter : " . . . وعند صوفي وحدة الوجود يكون اللّه هو الصوفي نفسه . . . » .

وواضح أن الاعتراف بوحدة الوجود في صورتها المجردة قضاء تام على كل معالم الدين المنزل ومحو لهذه المعالم محوا كاملا ، ولهذا نجد أوائل المؤلفين في التصوف يرددون الإنذار والتحذير من الوقوع في وحدة الوجود ، ويكررون بأن اللّه تعالى مخالف للحوادث مخالفة تامة ، وأن أي اتصال به يوصف بأنه اتحاد بذاته ، كفر وضلال .

أما وحدة الشهود فمعناها الفناء عن شهود التكثر والتعدد لا نفي هذا التكثر والتعدد في ذاته ذلك الذي يؤكده مذهب وحدة الوجود ، فالمؤمن بوحدة الشهود لا يشهد في الوجود إلا الله ، أما المؤمن بوحدة الوجود فهو يسقط التكثر والتعدد في الوجود العيني ، ولا شك أن هناك فارقا بين الغيبة عن شيء ( التكثر ) وبين نفي هذا الشيء .

وهذا هو الفارق بين مذهب وحدة الوجود ووحدة الشهود .

ووحدة الشهود حال أو تجربة يعانيها الصوفي لا عقيدة ولا علم ولا دعوى فلسفية يحاول برهنتها أو يطالب الغير بتصديقها .

بعد هذه المقدمة الموجزة لبيان الفرق بين وحدة الوجود ووحدة الشهود يمكننا أن نجيب عن الأسئلة التي أثيرت من قبل :

نحن نعرف أن الطيور بعد أن حظيت بحضرة السيمرغ وبعد أن أضاءت بجوارهم شمس القرب . 

وجدت الطيور أنهم في مقابل ثلاثين طائرا ، أي أنهم في مقابل أنفسهم وقد أجاد العطار في ذلك الموقف استعمال الجناس بين كلمتي

« سي مرغ » بمعنى « ثلاثين طائرا » و « سيمرغ » إله الطير ،

فقد رأت الطير أنفسها السيمرغ بالتمام ، كما رأت أن السيمرغ هو أنفسها بالتمام فلم تعد ترى فارقا بينها وبين السيمرغ . . . فما كان منها إلا أن طلبت من السيمرغ شرح هذا الحال ،.

فأجاب السيمرغ بأن الحضرة مرآة ساطعة كالشمس فكل من يقبل صوبها يرى نفسه فيها . . . " ( 4193 - 4232 ) .

أي أن العطار بناء على هذه الأقوال - من الداعين إلى وحدة الشهود ، فصورة الفناء كما عرضها في آخر القصة هو فناء عن شهود التكثر والتعدد .

 

ولكننا نجد العطار يقول بعد ذلك : ( 4230 ) .

"وقد فنت الطير في النهاية على الدوام كما يفنى الظل في الشمس والسلام » أي أنه بناء على هذا القول - وأقوال أخرى يشبه فيها الاتحاد باتحاد القطرة مع البحر - من المؤمنين بوحدة الوجود ، فما سبب هذا التضارب ؟

يقول المستشرق الألماني ريتر Ritter : من الأفكار المنسوبة خطأ إلى العطار القول بوحدة الوجود ، ولكن الحقيقة أن العطار يبتعد عن تأليه الصوفي ويبتعد كذلك عن الحلول والاتحاد ، وهو يضيف إلى هاتين الكلمتين كلمة أخرى وهي في رأيه « وحدة الاستغراق في اللّه » .

وريتر يستند في رأيه هذا على قول العطار على لسان الهدهد وهو يرد على الطير وهي تسأله عن الصلة التي تربطها بالسيمرغ في المقالة الثالثة عشرة :

" . . . وصور طير العالم جميعها ما هي إلا ظلها ؛ فاعلم هذا أيها الجاهل ، فإذا عرفت أولا فستصل اتصالا وثيقا بتلك الحضرة ، فإذا عرفت فتبين الحقيقة وكن حذرا ، وإذا عرفت فلا تكن مفشيا سرا ، وكل من صار هكذا فإنه يكون مستغرقا ، فحاش اللّه أن تقول أنا الحق ،

وإذا لم تصر مثلما قلت فأنت لست اللّه ، ولكنك مستغرق في الحق دائما ، وكيف يكون المستغرق حلوليا ، وكيف يكون هذا الكلام من شأن الفضولي ؟ . . . "

 ( 1056 - 1061 ) .

أي أن ريتر يعتبر العطار مؤمنا بمبدأ « وحدة الاستغراق في اللّه » وليس حلوليا ولا من القائلين بعبارة « أنا اللّه » كما قالها الحلاج .


يقول الدكتور أبو العلا عفيفي :

 « لم تظهر فكرة وحدة الوجود في صورة نظرية كاملة منسقة قبل محيي الدين بن عربي المتوفي عام 638 هـ . . .

ولم يكن ابن العربي أول من أرسى دعائم مذهب كامل في وحدة الوجود وحسب ، بل ظل حتى اليوم الممثل الأكبر لهذا المذهب ، ولم يأت بعده ممن تكلموا في وحدة الوجود نثرا أو شعرا إلا كان متأثرا به أو ناقلا عنه أو مرددا لمعانيه بعبارات جديدة . . . » .

ونحن نعرف أن العطار كان معاصرا لمحيى الدين بن العربي ، ولكن لم أجد فيما قرأت من كتب إشارة إلى أن العطار اتصل بابن العربي أو تأثر به في مذهبه " وحدة الوجود " .


وعلى هذا فإنني أستطيع أن أقول بلا تردد أن العطار من أنصار وحدة الشهود ، ولكنه كشاعر لا يعرف لنفسه ضابطا فسرعان ما نجده يورد عبارات كثيرة لا تتفق مع مبدئه ،

فهو مشتت الفكر متشعبه ، وليس مفكرا دقيقا في تفكيره ، وليس منظما واضحا ، فهو في بعض الحالات التي يسيطر فيها الوجد عليه وتغلب عليه ملكة الشعر يسترسل في الإنشاد دون قصد ، فيطلق عبارات يفهم منها الاعتقاد بوحدة الوجود ، أما قول ريتر من أن العطار ينادي « بوحدة الاستغراق في اللّه »

فهذا - في رأيي - مبدأ وسط بين وحدة الوجود ووحدة الشهود أراد به ريتر أن يخرج من ذلك التضارب البادي في كلام العطار ولكن كل ما يهمني من كلام العطار هو ما جاء بطبيعة الحال في منطق الطير ،

ونهاية القصة دليل واضح على أن العطار من أنصار وحدة الشهود وأن الأقوال التي قالها ويشتم منها الاعتقاد بوحدة الوجود قد جاءت عن غير قصد نتيجة لحالة الوجد الشديدة التي كانت تسيطر عليه ، ونتيجة لأنه شاعر ثرثار أحيانا لا يعرف كيف يجعل لكلامه حدودا يقف عندها .

وإذا كان العطار مؤمنا بوحدة الشهود وليس من أنصار وحدة الوجود فهو ليس حلوليا ولا من أنصار دعوتي « أنا اللّه » للحلاج أو «سبحاني ما أعظم شأني» لبا يزيد ، ويكفي لإثبات صحة هذا القول ذكر هذين البيتين (1159،1061) .

- وكل من أصبح مستغرقا هكذا ، حاش للّه أن يقول " أنا الحق " .

- فمتى كان الرجل المستغرق حلوليا ؟

ومتى كان هذا القول من شأن الفضولي ؟

وهكذا نرى أن العطار لا يجعل التصوف وسيلة يترقى بها السالك ليكون إلها ، بل يجعله طريقا للاتصال باللّه والفناء عن الصفات الذميمة للبقاء معه بالصفات الحسنة .


سادسا - العطار والملامتية

يقول المستشرق الإيطالي انتونيو بيزاني في كتابه القيم "قصة الأدب الفارسي" .

" إن عنصرا ملامتيا يبدو متخللا كل الشعر الغنائي التقليدي الفارسي وكأنه مدح للكفر وللبدعة وللخمر فهو يذكر دائما مع مدح هذه الأشياء ، وان الأمثلة القديمة لهذا العنصر تجدها في الشعر الغنائي خاصة التي ترمز إلى المسيحية . . .

وإن هذا العنصر يتحول ويتغير بنفسه إلى صورة صوفية وأروع مثال لها هو قصة الشيخ صنعان ، وقد قص قصته فريد الدين العطار في منطق الطير . . ".


حقا إن العطار قد تحدث عن الكفر والإيمان وعن الخمر في هذه القصة ، بل جعل الشيخ صنعان يفضل جانب الكفر على الإيمان في بداية الأمر من أجل محبوبته وهذا كفر واضح في نظر العامة ، ولكن في نظر الخاصة لا يعتبرونه هكذا ، فهم يرفعون من مكانة العشق حتى يجعلوه يفوق الكفر والإيمان ، وهذا ما قاله العطار في قصته ، ولكن كل ما يهمني الآن من هذه النبذة هو : هل كان العطار ملاميتا أم لا ،

مع علمنا بأن الملامتية أول ما نشأت نشأت في نيسابور  بلد العطار ؟

للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نعرّف الملامتية أولا :

يقول الدكتور أبو العلا عفيفي :

" ما المراد بالملامة التي ينتسب إليها الملامتية ؟

أهي لوم الملامتي نفسه ؟

أم لوم الناس إياه ؟

أم لوم الملامتي الدنيا وأهلها ؟

أما لوم الدنيا فليس من نظام اللامتي في شيء لأن في تعاليمهم الصريحة النهي عن ذم الدنيا ، أما المعنيان الآخران فيدخلان في جوهر الفكرة الملامتية ،

وإليهما تشير كثير من تعريفاتهم . . . » .


وبعد هذا التعريف الموجز نسأل :

هل تتفق آراء العطار وهذه المبادئ الخاصة بالملامتية ؟

إن العطار يتفق معها في بعض الأفكار ويختلف معها في البعض ، فهو يتفق معها شأنه في ذلك شأن الصوفية جميعا - في ذم النفس البشرية وإثبات عجزها دائما ، ولكنه لا يتفق معهم في شأن ذم الناس للصوفي فهو يرفع من مكانته ، كما أنه يختلف معهم في موقفهم من الدنيا ، فهو كثيرا ما يذمها ويكيل لها السباب ويشبهها أحيانا بموقد حمام أو بيت العنكبوت ، ويصفها بأنها دار فناء وبلاء وطمع ، كما أنها دار شدة ومحنة .


وبجانب ذلك نجد أن مبادئ العطار تخالف في كثير منها مبادئ الملامتية فمن أصول الملامتية ترك الكلام في دقائق العلوم والإشارات، وقلة الخوض فيها...


ولكننا نجد العطار يتحدث بالرمز كثيرا ويشير إلى إشارات الصوفية ، كما أنه يتحدث في دقائق العلوم الإلهية ، فهو يتحدث عن الفناء والبقاء بعد الفناء وهما من الإشارات التي يصعب على أغلب العامة فهمها .

كما أن غاية الطريق لدى الملامتية - كما يذكر السهروردي - الإخلاص في الأعمال وتحريرها من كل معنى من معاني الرياء ، وهذا يقتضي مراقبة دقيقة للنفس وعدم الفناء فيها .

ونحن نعرف من سرد قصة منطق الطير أن الغاية التي يريد العطار الوصول إليها هي الفناء التام ورؤية الخلق بعين الزوال .

هذه بعض الأفكار التي تحدد بوضوح أن العطار ليس ملامتيا ، وليست هذه كل الحجج والأسانيد بطبيعة الحال .

بعد ذلك يجدر بنا أن نوضح موقف العطار من النفس البشرية ومن الدنيا .


( أ ) العطار والنفس البشرية :

العطار يذم النفس دائما ويشبهها في بعض الأحايين بالكلب الذي لا يطيع أمرا مطلقا ، فالنفس بمثابة العدو الأول له ، وبمثابة اللص الذي يسرق منه أسرار الطريق ؛ فهو يقول : « إن نفسي لي عدو ، فكيف أقطع الطريق إذا كان رفيقي لصا ، فالنفس كالكلب لم تطع لي أمرا مطلقا ، ولا أعلم كيف أحرر الروح من ربقتها. ( 1940 - 1941 )


وإذا كانت نفس العطار عدوه الأول فلا سبيل إلى الكمال إلا بإفناء النفس :

وإن تفن نفسك ذات يوم فستصبح في إشراقة حتى ولو كانت الليالي كلها حالكة .

كما يشبه العطار النفس البشرية في جبروتها بفرعون ، ويربط بينها وبين الشيطان في ارتكاب الآثام والمعاصي :

"وما دامت لك نفس وشيطان ، ففي داخلك فرعون وهامان » ( 2951 ) .

كما أنه يشبهها كذلك بالثعبان والعقرب فيقول : « فطهر نفسك من الصفات الدنية ، ولتصر بعد ذلك إلى العدم وأنّى لك أن تعلم ما بجسدك من أدران وأوساخ فالثعبان والعقرب خفيان تحت حجبك ، وقد ناما وأخفيا نفسيهما " ( 3702 - 3704 ) .

 

وإذا كانت النفس البشرية يصورها العطار هذا التصوير البشع ويصفها بأنها كالكلب أحيانا وكالثعبان والعقرب أحيانا أخرى ، كما يقرنها بالشيطان ويصفها بأنها كفرعون في ظلمه وجبروته ، إذا كان العطار يصورها هكذا ، فلابد وأنه سيحاول التخلص من ربقتها والتخلي عن سلطانها وهو يدعو اللّه أن يخلصه منها ، لأن السالك إن لم يتخلص منها فلا خلاص له من الهموم والبلايا .


وهكذا نجد العطار يذم النفس البشرية ويصفها بصفات الخسة والدناءة ، شأنه في ذلك شأن الزهاد والصوفية ، فهو لا يعد في هذا المضمار مبرزا بل إنه تأثر في ذلك بالقرآن الكريم وأقوال الفقهاء والشيوخ الذين سبقوه .


ب - العطار وذم الدنيا : -

الدنيا دار فناء والآخرة دار بقاء ، ولذا يسعى الصوفية دواما إلى الفناء حتى يحظوا بالبقاء بعد الفناء ، أي أنهم يسعون إلى التخلص من الدنيا وآثامها وشرورها حتى ينعم اللّه عليهم بالمكانة العظيمة في الآخرة فيحظون بالبقاء الأبدي بعد أن أفنوا أنفسهم وقطعوا كل صلة لهم بالدنيا الغرور .


والعطار كعامة الصوفية - دون الملامتية - يذم الدنيا وينفر منها ، ويدعو إلى التخلص منها في كثير من أبياته في منطق الطير ، وهو يشبهها في مواضع كثيرة بموقد مشتعل إذ لا يستقر فيها إنسان في هدوء وسكينة ،


فالعطار يقول على لسان الهدهد :

يا من أقل همة من المخنث ، إنك كلب فوق موقد نار فماذا تصنع ؟ وما الدنيا الدون إلا هذا الموقد ، وما قصرك إلا حفنة من تراب هذا الموقد . . . " ( 2126 - 2127 ).


كما أن العطار يصفها كذلك بأنها شبيهة ببيت العنكبوت وما الساكن فيها إلا كذبابة تتردى في هذا البيت حتى يصيبها الفناء والبلاء بعد أن يمتص العنكبوت دمها :

- إن الدنيا ومن يرتزق فيها أشبه بذبابة داخل بيت العنكبوت ( 2158 ) .


كما يحذر العطار السالكين من الدنيا ويعتبرها نارا محرقة يجب التحرز منها :

- وما نارك إلا الدنيا فابتعد عنها ، وافعل كما فعل الأبطال ، وكن حذرا من هذه النار . ( 2179 )


وإذا كانت الدنيا على هذه الصورة في نظر العطار فلا يمكن أن تكون محببة إلى قلبه بلى على العكس من ذلك نجده يدعو إلى التخلي عنها ، ويعتبر أن الخطوة الأولى في الطريق يجب أن تقترن بالتخلي عن الدنيا : « فإن تتخل عن الدنيا في كل لحظة ، فستكون لك الخطوة الأولى عندما تمعن النظر " ( 3601 ) .


وهكذا نجد العطار في منطق الطير قد ذم النفس البشرية ووصفها بأنها كالكلب شأنه في ذلك شأن جميع الصوفية وشأن الملامتية أيضا ،.


ثم نجده يذم الدنيا وينفر منها وهو يتفق في ذلك مع الصوفية ، ولكنه يخالف الملامتية في هذا الصدد ، فهم يأمرون مريديهم بألا يتعرضوا للدنيا بالذم ، فقد روي عن أبي حفص أنه رأى أحد أصحابه وهو يذم الدنيا وأهلها ،

فقال : أظهرت ما كان سبيلك أن تخفيه ، لا تجالسنا بعد هذه ولا تصاحبنا .

بعد هذا نستطيع أن نحكم بلا تردد بأن العطار كان صوفيا مؤمنا بالفناء ، ولم يكن على الإطلاق ملامتيا ، كما لم يؤثر عنه أنه كان من أنصار فرقة صوفية من الفرق التي سادت عصره ،

فلم نجد بين المراجع الموثوق في صحة أخبارها أية إشارة إلى فرقة العطار ولذا سنكتفي بأن نقول أنه كان صوفيا بعيدا عن التعصب والتحزب ،

فما أكثر ما ذم التعصب والمتعصبين في مقدمة منطق الطير ، وفي كتبه ومنظوماته الأخرى .


سابعا : رأي العطار في الشيطان

لا شك أن العطار يتفق مع الروح الإسلامية في موقفها من الشيطان في النفور منه ، وأنه يلقى بمن يتبعون أوامره ووسوسته إلى التهلكة وأطلق عليه كما ذكر في القرآن لقب « الملعون » فقد قص قصة إبائه السجود كما أمره اللّه في مقدمة منطق الطير إذ قال ( 121 : 124 ) .

ومن أبى السجود - لآدم - فقد مسخ ولم يدرك هذا السر ، وما أن اسود وجهه حتى قال : يا غني لا تتركني ضائعا وأصلح من أمري ! فقال.

الحق تعالى : أيها الملعون في الطريق إن آدم ما هو إلا خليفة وسلطان ، فكن اليوم عينا لوجهه ، وفي الغد أحرق له البخور " .

كما أشار العطار إلى أن إبليس قد أصيب بالعديد - من البلايا لأنه حاول التفاخر على آدم وقال : « أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ »  


والعطار يشير إلى ذلك بقوله :

ولا تقل: « أنا »، فكلمة أنا تجلب العديد من البلايا حتى لا تبتلي بشرور إبليس. ( 1912 ).

ولكن كل ما يهمني من حديث العطار عن الشيطان هو تلك الأفكار التي حاول فيها شاعرنا إعلاء شأن الشيطان ومحاولة تبريره لعدم سجوده كما أمره اللّه سبحانه وتعالى.


فنحن نجد العطار قد رفع من مكانة إبليس وجعله في مرتبة المعلم فقد قص العطار قصة سيدنا موسى وهو يطلب سرا من اللّه فما كان من اللّه إلا أن أحاله إلى إبليس ليتعلم منه هذا السر ، فبحث سيدنا موسى عن إبليس كثيرا وسأله عن هذا السر فما كان من إبليس إلا أن قال له : " تذكر دائما هذه العبارة : ( لا تقل أنا ) حتى لا تصبح على شاكلتي " ( 2915 ) .

 

والأمر الثاني الذي يلفت النظر أن بعض الصوفية كالشبلي مثلا يحترقون غيرة من إبليس لأن اللّه سبحانه وتعالى قد خصه بالكثير من اللعنات وأنه جادله كثيرا ، وكم يتمنى الواحد منهم أن يكلمه اللّه سبحانه وتعالى ولو باللعنات :

"وروحي التي أغلقت عينها عن كلام العالمين قد احترقت غيرة من إبليس في هذا الزمان ، فما أكثر ما وقع عليه خطاب اللعنات ، وإن هذه الزيادة لتصيبني بالحسرات . ( 2259 - 3260 ) .


والموقف الثالث الذي يستحق النظر بدهشة هو تبرير العطار لرفض الشيطان السجود لآدم كما أمره اللّه سبحانه وتعالى ، ويعلل العطار ذلك بأن اللّه قد أمر الملائكة بالسجود حتى لا يروا ذلك السر الذي يخفيه عنهم ويريد أن يعطيه لآدم عليه السلام فرفض إبليس السجود حتى يدرك هذا السر وهو سر الروح الحية

 

كما يقول ريتر - وفعلا استطاع إبليس برفضه السجود أن يدرك هذا السر ، فاستحق غضب اللّه ، وأراد اللّه أن يرديه قتيلا ، ولكن إبليس طلب منه أن يمهله إلى يوم القيامة ، فيمهل اللّه الشيطان بناء على طلبه ، إلا أنه يلعنه .

 

وفي هذا يقول العطار : ( 3237 ، 3239 ، 3244 ، 3247 ) .

ولما لم يضع إبليس رأسه على الأرض رأى السر الذي كان خفيا ، وقال له الحق تعالى : يا جاسوس الطريق لقد سلبت هذه المكانة بالسر ،

وبما أنك رأيت ذلك الكنز الذي أخفيته فسأقتلك حتى لا تفشي سره في الدنيا . . .

فقال يا ربي : لتمهل هذا العبد والتمس الحيلة لمن سقط في الأمر ، 

فقال الحق تعالى : لقد أعطيتك مهلة ولكنني طوقت رقبتك بطوق اللعنة ، وسأطلق عليك اسم الكذاب حتى تظل مجرما آثما إلى يوم القيامة ، وبعد ذلك قال إبليس : إذا ظهر أمامي الكنز الطاهر فأي خوف لي من اللعنة . . . .


ويلاحظ أن العطار خوفا من اعتراض البعض عليه لهذا السبب الغريب ، قد نسب هذا القول إلى عمر بن عثمان المكي أستاذ الحلاج والمتوفي عام 296 هـ ، وقد ورد في تذكرة الأولياء ( ص 246 ) أن له كتابا اسمه كنج نامه ، كما أشار إليه العطار في هذه الحكاية .

ولكن هذا الكتاب لا وجود له الآن وذكر العطار لهذا التبرير دليل على إيمانه به ، ولذا فقد ذكرته على أنه من معتقدات العطار الخاصة .

وبعد فليست هذه الآراء كل آراء العطار بل إنها بعض معتقداته وآرائه في منطق الطير وحده دون باقي منظوماته العديدة


ثامنا مكانة العطار :-

بعد أن انتهينا من دراسة شخصية العطار ودراسة كتابه منطق الطير ، يجب أن نعرف مكانة ذلك الشاعر بين شعراء قومه .

يجمع المؤرخون على أن عمد التصوف الفارسي ثلاثة : سنائي والعطار وجلال الدين الروحي .

فعلام استحق العطار هذا التكريم ، وهذه المنزلة الرفيعة ؟

للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نعرف آراء أصحاب التراجم قديما وحديثا في شعر العطار وشخصه .

يقول جامي : إن ذلك القدر من أسرار التوحيد وحقائق الأذواق والمواجيد التي بالمثنويات والغزليات الخاصة بالعطار لم ترد في كلام أي واحد من الطائفة فجزاه اللّه سبحانه وتعالى عن الطالبين المشتاقين خير جزاء   .


أما دولتشاه في تذكرة الشعراء فيقول :

إنه - أي العطار - يعد من كبار المتصوفة ويعد شمعة عصره ولا شبيه له في علمه ، وكان يستلهم شعره من الغيب . . . "

وذكر جامي ودولتشاه أن مولانا جلال الدين الرومي التقي في صغره بالعطار ، ولذا لا نجد غرابة في تكريم الرومي له دواما ،

فقد قال الرومي ما ترجمته :

- لقد طاف العطار بمدن العشق السبع ، وما زلنا نحن في منعطف جادة واحدة

العطار روح وسنائي عيناه ، ونحن خلفنا سنائي والعطار

ولم يكتف جلال الدين بذلك بل إنه اعتبر كل ما وصل إليه من تفوق في مضمار التصوف مدين به للعطار ، حتى إن أخطاءه ، استمدها أيضا من العطار . .

حتى الأخطاء التي تفوهت بها يا عزيزي ، نتيجة ما سمعته عن العطار أيضا .

وإذا عرفنا أن جلال الدين الرومي هو مؤسس الطريقة المولوية ؛ فلابد وأنه غرس حب العطار في قلوب أصحابه ، ولذا نرى شعراء المولوية - كما يقول جولبنارلي مترجم منطق الطير للتركية - يحيطون اسم العطار بهالات من الحرمة والقدسية ، فالشاعر « محمد أفندي » - وهو من شعراء القرن الثالث عشر الميلادي - يقول في إحدى غزلياته :   

- إن مصباح طبعي يشتعل عن قاسم الأنوار ، ويتنسم أنفه عطر الفناء من العطار .

وحاول بعض المؤلفين منذ زمن بعيد عقد مقارنة بين العطار والرومي ، فقد ذكر مؤلف « هفت إقليم » أن صوفيا كبيرا سئل عنهما ، فقال : إن الرومي بلغ قمة الكمال كالنسر في طرفة عين ، والثاني بلغ القمة نفسها ولكن كالنملة بعد سير طويل ودأب لا يفتر .

ويقول بيزي المؤلف الإيطالي معلقا على هذه المقارنة :

إن هذا الحكم صحيح وفي موضعه ، فلا وجود لشاعر صوفي في السابقين ولا اللاحقين وصل إلى ما وصل إليه الرومي فتجاوز غيره بمراحل كالعطار ، ومع أن العطار كان شيخا للرومي ، فإن العطار يصف سفر النفس خلال الحياة كضرورة لازمة ولا سيما في منطق الطير ، ويجعل هذا السفر سفرا مرهقا متعبا ، غير أن الرومي لثقافته الرفيعة يبدو أكثر رقة وإنسانية » .

وعلى الرغم من اتفاق المؤرخين على تفوق الرومي على العطار ، فإن الرومي قد اقتبس من العطار كثيرا من أفكاره ، ففي المثنوي خمس وثلاثون حكاية هناك احتمال قوي بأنها مأخوذة من منظومات العطار .

كما أن الرومي أورد في كتابه « فيه ما فيه » حديثا مفصلا في سر الحديث

« يا ليت رب محمد لم يخلق محمدا »

وهذا بعينه وحرفه مقتبس من مصيبت نامه للعطار . . .  

ولم يقف تعظيم العطار على الرومي ومن تبعوه بل شاركهم في ذلك الشعراء والصوفية والباحثون حتى عصرنا الحاضر .

 يقول كاتبي النيسابوري :

- إنني كالعطار من روضة نيسابور ، ولكنني شوك في صحراء نيسابور وهو وردها .

أما الحاج ميرزا عبد المجيد ملك الكلام مجدي كردستاني المتوفي عام 1305 هـ فقد كتب بخط يده بيتين من الشعر على نسخة من ديوان العطار هذه ترجمتها :  

- إن العطار كاشف أسرار الوجود ، وإنه كسنائي من فيض الإله

- فأقرا كلامه دائما كما تقرأ القرآن ، فإنه يحيل أهل الشكوك أهل شهود .

هذه آراء مواطنيه ، ولكن هل اقتصر تكريمه وتعظيمه على مواطنيه وحدهم ؟ بالطبع لا فقد شاركهم في ذلك كل من أرخوا للعطار في العالم كله .

وهذه آراء نخبة من غير الإيرانيين .

قال بيزي في كتابه : قصة الشعر الفارسي الجزء الأول .

"والعطار وإن عدم العبقرية الشعرية اللامعة التي يتميز بها النبغاء من الشعراء ، فإنه لا يعدم بحال من الأحوال الشعور النبيل والشعور الإنساني ، وهو يقود الإنسان بعنف إلى الكمال في أبعد مدى ويريد أن يصل به إلا ما لا سبيل إلى الوصول إليه . غير أنه مع ذلك لا ينسى من يتألمون في الأرض ، كما أنه يجدّ في البحث ، ويجد عزاء وسلوى في عبارة لينة معسولة يوجهها إلى كل البائسين من العظماء والأذلاء " .

ربما بنى بيزي رأيه في محاولة العطار قيادة الإنسان بعنف إلى الكمال على ما وجده في منطق الطير من وصف للطريق وما به من صعوبات كثيرة ومقدار ما تحمله الطير خلال الرحلة الشاقة .

وبجانب هذه الآراء توجد كثرة أخرى من المؤلفين في كل بلاد العالم تعلي من شأن العطار وتعظمه وتكبر منزلته الأدبية والصوفية ، والعطار لم يحظ بهذه المرتبة العالية إلا بتفوقه الحقيقي على غيره ولم يشاركه هذا التفوق إلا جلال الدين الرومي فقط .

ولكن إذا كانت هذه آراء الغير في العطار ، فما رأيه هو في نفسه ؟

 رأي العطار في نفسه :

على الرغم من أن الصوفية لا يتكلمون عن أنفسهم ، إلا أن طبيعة الشاعر لدى العطار غلبت على طبيعة الصوفي في هذا الأمر ، ولذا كثيرا ما نجد العطار يتكلم عن نفسه ، ويوضح مكانته ، وعلو شأنه ويكفي لإثبات صحة ذلك ذكر ما جاء في خاتمة « منطق الطير » ومنها هذه الأبيات :

- وأهل الصورة غرقى بحار كلامي ، وأهل المعنى رجال أسراري .

- ونظمي يتسم بخاصية عجيبة ، فهو يولد معنى جديدا في كل آونة .

- وإذا تيسر لك أن تقرأه كثيرا ، فسيزداد بلا شك حسنا في كل مرة لديك .  

- وحتى يوم القيامة لن يكتب شخص قط كلاما مثلي أنا الولهان .

- ومن بحر الحقيقة نثرت الدر ، كما ختم الكلام عليّ ، وهذا هو البرهان .

وأخيرا لا يسعنا إلا أن نقف إجلالا لذلك الشاعر العظيم والصوفي الكبير الذي ما زال الناس ينغنون بجمال شعره ، وبعظم أفكاره ، وبرغم.

مرور سبعة قرون ونصف قرن على وفاته فلم تنجب إيران ما يفوقه في هذا المضمار إلا شاعرا واحدا فقط هو جلال الدين الرومي ، الذي كان يعترف للعطار بالسبق والفضل .

تمهيد قبل البدء في سرد منظومة منطق الطير :

تعد منظومة منطق الطير أشهر منظومات العطار ، وشهرتها هذه جعلت الكثيرين يخطونها بأيديهم قبل عصر الطباعة ، وأدى هذا الاهتمام إلى كثرة مخطوطاتها كثرة لا تكاد تحظى بها إلا قلة من كتب الأدب الفارسي . .

وفي العصر الحديث طبعت هذه المنظومة طبعات كثيرة سواء في إيران أو خارجها وقد أتيحت لي أثناء ترجمة المنظومة ، الفرصة للاطلاع على ثلاث طبعات ، هي :

1 - طبعة باريس بإشراف جارسان دي تأسي عام 1857 م .

2 - طبعة إصفهان بإشراف ميرزا محمد حسينخان عام 1319 ه .

3 - طبعة إصفهان بإشراف ميرزا محمد حسينخان كذلك عام 1334 هجرية قمرية .

والملاحظ أن الطبعة الأولى في إصفهان كانت على الحجر أما الطبعتان الأخريان فبالطباعة الحديثة .

وقد فضلت نسخة باريس لتكون الأساس في ترجمتي لعدة أسباب :

1 - ذكر جارسان دي تأسي في مقدمة ترجمته الفرنسية لمنطق الطير المخطوطات التي أعانته في طبع المنظومة ،

أما حسين خان فلم يشر إلى المخطوطات التي يحتمل أنه رجع إليها ، مما يجعلنا نظن أنه اعتمد على مخطوطة واحدة قام بطبعها دون تحقيق ، مما يجعل طبعة باريس أكثر دقة .

2 - قام جارسان بتصحيح أخطاء طبعته في مقدمة الترجمة الفرنسية المنشورة عام 1862 م ، أما حسين خان فلم يشر إلى أي أخطاء مطبعية لا في طبعته الأولى ولا في الثانية .

3 - رقّم جارسان أبيات نسخته ، مما يجعلها سهلة التناول ، وكذلك سهولة الرجوع إلى أبياتها في حالة البحث والدراسة .

4 - أجمع الباحثون على أن طبعة جارسان أفضل الطبعات ، وكان هذا باعتراف الإيرانيين أنفسهم كذلك .

وليس معنى هذا أنني لم أفد من نسختي إصفهان ، بل صححت بعض أبيات نسخة باريس طبقا لما جاء بنسختي إصفهان حتى يستقيم المعنى . .

وفي أثناء مراجعتي الأخيرة للترجمة وردت من إيران طبعة جديدة لمنطق الطير ، أشرف عليها الدكتور محمد جواد مشكور ، وتم طبعها بطهران عام 1347 هـ ، فأفدت منها في تصحيح بعض المعاني التي وردت مختلطة في الطبعات الثلاث السابقة ، كما أفادتني أيضا في التعليقات التي كتبت في آخرها ، سواء أكانت تعليقات الناشر ، أو تعليقات الأستاذ حسن قاضي طباطبائي والتي أوردها الناشر في نهاية طبعته .

وكما حظيت منظومة منطق الطير بالعديد من المخطوطات والكثير من الطبعات ، فقد حظيت بترجمات عديدة إلى كثرة من اللغات منها :

الهندية والتركية والفرنسية والإنجليزية ، وربما إلى لغات أخرى لا علم لي بها .

وقد أفدت في ترجمتي العربية من الترجمة الفرنسية لجارسان 1862 م ، والترجمة التركية لجولبنارلي عام 1962 م .

واللّه أسأل أن أكون بجهدي المتواضع قد وفقت في تقديم العطار لقراء اللغة العربية من خلال منظومته منطق الطير ، كما أرجو اللّه أن يوفقني ويوفق غيري من المهتمين بالأدب الفارسي لترجمة جميع منظومات العطار للمكتبة العربية .

واللّه ولي التوفيق . . .


التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: