الثلاثاء، 26 مايو 2020

كتاب العظمة . الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي

كتاب العظمة . الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي

كتاب العظمة . الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي

كتاب العظمة الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي

كتاب العظمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما الحمد للّه مبدع الثاني في المثاني ، ومودع المعاني في المعاني ، مقيم السّبعة أعلاما ، ومنزّل القرآن العظيم إماما ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما .

حضرة تميّز الأول باب أوله باء ، وآخره ميم

ولما كانت الباء أول موجود مقيّد ، وكانت في المرتبة الثانية من الوجود . كان لها العمل في عالم الكون السّفلي .

فأول معمول يليها هي الحاكمة عليه بالذات .

ثم إذا كان معمولا ممن يطلب وجودا آخر يستند إليه ، عمل فيه ذلك الاستناد عمل الباء ، وإن اختلف وجه الحكم ؛ فصورة العمل واحدة .

غير أن في هذا الباب الذي في هذه الحضرة ،

أربع كلمات قدسية :

اسم الاسم وهو مكون الباء .

ثم الاسم : وهو مكون اسم الاسم .

ثم كلمة العموم الإيجادي .

ثم كلمة الاختصاص .

وهذه الكلمات كلها ( صدرت على حكم الكون الأسفل ، مع علوها ورفعتها ، ولهذه الكلمات الوجودية ) عشرون شخصا . منهم أموات ، وأحياء ، ونوّم .

فالأحياء : عشرة أشخاص ، منهم ستة حياتهم سفلية ، وأربعة حياتهم برزخية ، وما فيهم من له حياة علوية .

والأموات : ثمانية .

والنّوم : اثنان .

ولكل واحد من هؤلاء الأشخاص منازل يعرفون بها ، ومن هذه المنازل يكون لهم الحكم في العالم .

فالحيّ الأول : له منزلتان .

والثاني : له أربعون منزلة

والثالث : له خمس منازل .

والرابع : له خمسون منزلة .

والخامس : له ثماني منازل .

والسادس : له أربعون منزلة .

وهذه منازل أهل الحياة السفلية .

وأمّا أهل الحياة البرزخية :

فالأول : له ثلاثون منزلة .

والثاني : له مائتا منزلة .

والثالث : له أربعون منزلة .

والرابع : له مائتا منزلة .

والميّت :

الأول : له منزلة واحدة .

والثاني : له ثلاثون منزلة .

والثالث : له منزلة واحدة .

والرابع : له ثلاثون منزلة .

والخامس : له منزلة واحدة .

والسادس : له منزلة واحدة .

والسابع : له ثلاثون منزلة .

والثامن : له عشر منازل .

والنائم الأول : له ثلاث مائة منزلة .

والنائم الثاني : له ثمانية منازل .

فإذا مرّ السالك على هؤلاء الأشخاص أفاده كل شخص من العلوم والأسرار على قدر منازله .

فأول ما يمر على الحي الأول ، ثم على النائم الأول ، ثم على الحي الثاني ، ثم على الميت الأول ، ثم على الميت الثاني ، ثم على الحي الثالث ، ثم على الحي الرابع ، ثم على الميت الثالث ، ثم على الميت الرابع ، ثم على الحي الخامس ، ثم على النائم الثاني ، ثم على الحي السادس ، ثم على الميت الخامس ، ثم على الحي السابع ، ثم على الميت السادس ، ثم على الميت السابع ، ثم على الحي الثامن ، ثم على الحي التاسع ، ثم على الميت الثامن ، ثم على الحي العاشر .

فليلزم السالك مع هؤلاء الأشخاص الروحانيين ، إذا مرّ بهم في سفره الروحاني ما يستحقون من الآداب .

فإن للحي آدابا تخصّ حضرته ، وللميت كذلك ، وللنائم كذلك .

وإذا تلقى السالك منهم أسرارهم ، وما يهبونه من الحكم الإلهية ، يتلقاها بالقبول والتسليم .

فإنها من العلوم الإلهية الرفيعة المنار ، المحرقات سبحاتها ، والظاهرة آياتها .

وجماع أدبه أن يلقي السمع وهو شهيد . فإذا تميّز في هذه المشاهدة غاب ثمّة المشهود في الشاهد .

عرف حينئذ خلاف علماء الكشف الإيماني في هذا الباب لماذا يرجع .

فإن طائفة من أهل الكشف الإيماني ألحقت هذا الباب بمقام العظمة ،

وقالت :  إنه جزء منها ووصف لها ، ولا بد .

وطائفة قالت : إنه ليس من مقام العظمة ، ولكنه مفتاح لكل مقام إلهي ، إلّا لمقام القهر والغلبة ، فإنه يناقض معناه .

فلعدم المناسبة لم يصح أن يكون له مفتاحا أصلا . غير أن في هذا الباب ثلاثة أشخاص لم تدركهم المشاهدة لأنهم في حال فناء محقق .

ومعنى قولي : الفناء المحقق تحرز من الفناء غير المحقق . والفرق بينهما : أن الفناء المحقق : كما يفنى صاحبه عن شهود نفسه .

كذلك يفنى عنه الغير ، لتحققه بحالة الفناء ؛ فلا تظهر له صورة أصلا مشهودة ، لغلبة الحق عليه ظاهرا وباطنا ، فلا يرى كما أن الحق لا يرى .

والفناء الذي هو غير المحقق :

يفنى عن نفسه ، وصورته ظاهرة لغير جليسه فقد استحكمت المشاهدة على باطنه خاصة .

ومقام الفناء المحقق : يكون في الدار الآخرة مطلقا لكل مشاهد ، لأن المشاهدة هناك تعم ذات المشاهد . وهنا ليس كذلك في حق كل شخص .

فهؤلاء الثلاثة أشخاص المغيّبون على هذه الحالة . فإن أردت أن تعرف أماكنهم ، فانظر الواحد منهم بين الحي الأول والنائم الأول تثبّت هناك عسى تشملك بركة غيبته . وما له سوى منزل واحد .

وأمّا الثاني فمكانه من الحي الثالث والرابع ، فتثبّت هناك أيضا طالبا بركته ، وما له سوى منزل واحد .

وأمّا الثّالث : فمكانه بين الحي الرابع والميت الثالث فتثبت هناك قليلا . وله ست منازل . وهو أخفى من صاحبيه . فإنه ما ثم ما يدل عليه ألبتّة . لأنه هو الدليل على نفسه .

فجماعهم ثلاثة وعشرون شخصا لا غير فإذا أحكم الإنسان مسائل هذا الباب وتحققها وقبلها علما .

أحاط علما بأمور تكاد لا تتناهى ، فأحرى بالموجودات .

وقد أشبعنا القول في هذا الباب في كثير من كتبنا على ضروب مختلفة .

وهذا الكتاب من الفتوحات فهو جار على ما أعطاه الفتح الإلهي المكي . وإن قيدناه في غيره فالتنزل لها وبقوتها .

واعلم :

أن هؤلاء الأشخاص وإن كانوا ثلاثة وعشرين فليسوا من جنس واحد بل من عشرة أجناس .

ومعنى أجناس حضرات إلهية . صدر كل جنس عن حضرة مخصوصة بإذن اللّه .

فمنهم من ظهر من جنسه شخص واحد فصاعدا ، فمنها حضرة البهاء ، والرفعة ، والشرف ، والإنيّة ، واللطف ، والهوية ، والحياة ، والنور ، والرحمة ، واليمن .

فالحي الأول : من حضرة البهاء .

والنائم الأول : من حضرة الرفعة .

والحي الثاني والسادس والعاشر من حضرة الشرف .

والميت الأول والثالث والخامس والسادس والفانين المحققين من حضرة الإنيّة .

والميت الثاني والحي الثالث والميت الرابع والسابع من حضرة اللطف .

والحي الرابع : من حضرة الهوية .

والحي الخامس والثامن : من حضرة الرحمة .

والنائم الثاني والحي التاسع من حضرة الحياة .

والحي السابع : من حضرة النور .

والميت الثامن : من حضرة اليمن .

والفاني الثالث : من حضرة أخرى خلاف هذه العشرة وهي حضرة الوقاية ولها اسم الواقي مهيمن عليها .

فإذا أردت أن تعرف كم مسألة إلهية في هذا الباب فانظر ما يجتمع لك من المنازل التي فيه .

فهي عيون المسائل مع أعداد الأشخاص ضعفين من أجل نعوتهم بالحياة والموت والنوم والفناء .باب من الحضرة عينها أوله ألف ، وآخره نون وهو الباب الثاني من سبعة أبواب من هذا الكتاب

ولمّا كان هذا الكتاب يتضمن مقامات السبعة الأبدال لهذا بيّنّاه على سبعة أبواب . وهؤلاء الأبدال وإن كانوا سبعة فمنهم أربعة هم أوتاد الأرض .

وهؤلاء الأوتاد وإن كانوا أربعة . فمنهم القطب والإمامان .

 

وقد تكلمنا في حقيقة القطب والإمامين في كتاب « منزل القطب والإمامين » من « الفتوحات المكية » ، ونبهنا على طرف منه في كتاب " مواقع النجوم " .

فالقطب : يحفظ المركز .

والإمام الأيمن : يحفظ عالم الأرواح .

والإمام الأيسر : يحفظ عالم الأجسام .

والأوتاد الأربعة : يحفظون الشرق والغرب والجنوب والشمال .

والأبدال السبعة : يحفظون أقاليم الكرة علوا وسفلا فهم سبعة بالشخص ، وأربعة عشر بالحكم .

فأول هذا الباب ألف المدح ، وآخره نون الكون ويتصرف الثناء بين المكوّن والمكوّن فيثني المكوّن على المكوّن فثناؤه على نفسه . ويثني المكوّن على المكوّن حقيقة ويجني ثمرة ثنائه بما يليق بحقيقته .قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ[ الإسراء : 84 ] .

فثناء المكوّن قول القائل :فإذا مدحت فإنّما أثني على نفسي * فنفسي عين ذات ثناءوثناء المكوّن قول الآخر :إذا نحن أثنينا عليك بصالح * فأنت الّذي تثني فوق الّذي نثني لكن الثناء على الألوهية بالربوبية من أعجب ما سمعته الآذان وسطرته الأقلام .

ولكن لما قامت الألوهية هنا مقام الذات ، ونابت منابها ؛ لأنها الوصف الأخص والنعت الأعلى ، والاسم الأسنى لذلك أثنى عليها بالربوبية وغيرها من أسماء الثناء كالملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، إلى غير ذلك .

هذا وإن كان الثناء من المكوّن بأي اسم كان . فإن كل كون يكون حظه من الثناء بذلك الاسم على قدره في علمه بمنشئه من وجه حقه لا من وجه سببه ، وقدره في علمه راجع إلى قدر قبوله ، وقبوله على قدر استعداده .

واستعداده الأكمل على قدر نشأته ، مفردا كان أو مركبا ، ذا جسم أو غير جسم

والعالم كله أعلام منصوبة للدلالة عليه سبحانه من حيث ما هو ناصب لها ومن حيث ما أودع فيها ، لا من حيث ما هو عليه تعالى ، ومن حيث ما يعرف نفسه .

لأنه يتقدس ويتعالى عن تعلّق الأفكار به ، وتحصيلها له عند منتهى سفرها وإلقائها عصا تسيارها ، فإنها ما انتهت في سفرها ،

وما ألقت عصاها بعدما وفّت حقيقتها في المطلب ، إلّا في بحر العجز والحيرة ، وخلف حجاب العزّة والغيرة ، ولكن نعم ما سافرت هذه الأفكار ، ونعم ما حصلت في طريقها من الأسرار ،

لكن ما أوتي عليها إلّا من مفارقة ذاتها وجولانها في غير ميدانها ، والمطلوب إليها أقرب من حبل الوريد .

وقد قال القائل :

قد يرحل المرء لمطلوبه  ...  والسّبب المطلوب في الرّاحل

فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ[ السجدة : 17 ]

هو قرة الأعين ، وشفاء لما في الصدور ، من علل طلبه والبحث فيما لا مبحث فيه . فلو سكنت لرأته منها مخبرا عنها ، وله ما سكن لا لغيره . ولغيره ما لم يكن لا له . فهو أغنى الشركاء عن الشرك .

من قال هذا للّه ولوجوهكم فهو لوجوهكم ليس للّه منه شيء .

لا تقبل الحضرة الإلهية حكما دنّسه الكون بظهوره فيه شركا .

يا ناظرا لحكمة من خارج  ....  إنسانك الحكمة يا ناظر

يقول العبد :  

الكبرياء للّه ، والعظمة للّه ، أو الحمد للّه .

فيأخذها الحق منه ، أخذ عزيز مقتدر ، من عبد لاه غير مفتكر .

عندما يصل النطق إلى لام الخفض من الحمد للّه . يأخذه الحق مقدسا قبل أن يدنسه الكون وتبقى « لاه » صفة محققة للعبد حيث أراد أن يحمده .

وهو غير قادر على ذلك .

فجهل نفسه فكيف يعرف غيره وهذا باب عظيم أسراره كثيرة لولا التطويل لعرفناك بعددها وأشخاصها ونعوتهم وحضراتهم مثل الأول

 

ولكن مداره من جهة جناب الحق على ثلاثة أقطاب :

* قطب يتضمن أربعين ركنا من أركان المجد .

* وقطب يتضمن ثمانية أركان من أركان الحياة الأزلية .

* وقطب يتضمن أربعة أركان من أركان الديمومة ، فتفيض أركان المجد من سبحاتها على سبحات الديمومة ، فتنتشر على صفاء بحر الألوهية ؛ فيضرب لها شعاع في حقائق الربوبية ؛ فيضيء منها العالم .

فهو النور الذي فيه يسعون ، كما تفيض أيضا أركان المجد من سبحاتها على سبحات الحياة ، فينتشر على صفاء بحر المعرفة الإنيّة.

فيضرب لها شعاع في أكناف الرحمة الإيمانية ، فيكون عنها الوجود المحفوظ .

فهذا روح هذا الباب ومعناه ، لخّصناه لأصحابنا ؛ أهل الكشف والوجود والجمع ؛ ليتحققوا به إذا وقفوا عليه . وباللّه التوفيق .

باب من الحضرة نفسها وهو باب أوله ألف وآخره ميم وهو الباب الثالث من سبعة

هذا ألف الثناء وميم الوصف ، وبينهما بحور زواخر كيانية تموجها رياح إلهية ، زعازع لا تبقي هذه الرياح على ظهر هذه فلكا يجري إلا تكسّر ألواحه ، وتغرق أهله ، ثم ترمي بالكل إلى السيف ، فينشأون خلقا آخر فتبارك اللّه أحسن الخالقين .

لكن مدار هذا الباب ، وإن كان عسير المدرك ، سامي التجلي على أربعة أقطاب :

قطب : يتضمن مائتا ركن من أركان الرحمانية .

وقطب : يتضمن أربعمائة ركن متصلة من أركان التوبة . وخمسة أركان من أركان الهوية .

وقطب : يتضمن ثمانية أركان من أركان الجناب الرحموتي .

وقطب : يتضمن أربعين ركنا من أركان الملك والشرف .

فتفيض أركان الجناب الرحموتي من سبحاتها على صفاء نهر الرحمانية ، فيضرب له شعاع في زوايا الكون فيعرفون من ذلك النور .

العارفون المفتوحة أبصارهم بنور الكشف مآل الكون وعاقبته ، وإلى أين يرجع بعد انقضاء مدته ؟

وفي الباب الذي قبله يعرف من أين صدر ؟

وتفيض أركان الملك والشرف من سبحاتها على أركان صفاء نهر الهوية . فيضرب لها شعاع في زوايا البرزخ فيضيء على أهله ويشرف فيعرفون بذلك النور . من كشف غطاؤه عنه مراتب الخلق ونتائج أعمالهم وكشوفات أبصارهم ومطالعات أسرارهم ، فطوبى لمن أشرقت أرضه بهذه الأنوار ، وجمع بين الدارين في هذه الدار ، فاستراح من ذلة الوقفة ولحق بأهل الاستثناء عند نفخة الصعقة ، ثم طوبى له وحسن مآب .

فهذا أخصر ما يمكنني من إيضاح ما يتضمنه هذا الباب ، ومسائله أكثر من نصف مسائل الباب الأول من هذا الكتاب .

وطلب الاختصار منعنا من ذكر أعداد المسائل في كل باب لكن أكثرها مسائل الباب السابع الآتي آخر الكتاب

باب من الحضرة نفسها وهو باب أوله ميم ، وآخره نون وهو الباب الرابع من سبعة

ميم الثناء ، ونون نتائج الأعمال . وبينهما أفلاك تدور ومياه تغور وتدور على العالم بأسره .

هذه الأفلاك ثمانية عشر ألف ألف دورة . تعطي للسعداء في هذه الدورات نورا شعشعانيا لا ظلمة بعده ، وتعطي للأشقياء ظلمة ظلمانية لا نور بعدها .

وتعطي للعصاة من أهل التوحيد سدفة بعد انقضائها .

أعني الدورات يعقبها نور لا ظلمة بعده .

وتعطي للمنافقين المتظاهرين بأكمل الطاعات سدفة يعقبها ظلمة مركزية سفلية لا نور بعدها ولا علو .

وفي هذا الباب ، وعند وجود هذه الحركات تتمايل أغصان سدرة المنتهى ، تحمل خزائن الأعمال مملوءة نورا ،

وترتفع أغصان شجرة الزقوم ؛ تحمل خفراء من الأعمال مملوءة ظلمة ،

فتتفتح خزائن السدرة ، فتنتشر الأنوار بين يدي عمّالها ، فترى نورهم يسعى بين أيديهم ،

وتنفتح خزائن الشجرة الملعونة فتنتشر ظلماتها بين يدي عمالها ، حتى أن أحدهم إذا أخرج يده لم يكد يراها ،

ويضرب بالخزائن بعضها في بعض ؛ فترمي بخزائن أخر ليس فيها شيء ، وترمي بخزائن أخر فيها نور وظلمة على السواء ،

وترمي بخزائن أخر نورها يغلب على ظلمتها ، وترمي بخزائن أخر ظلمتها تغلب على نورها . فتبدو المراتب على حسب ما ذكرنا .

فإذا انقضى الأمر بعد تعاقب هذه الأدوار ، وتكرير النهار على النهار . يتعلق العالم بأغصان الشجرتين فترتفع هذه بأصحابها إلى الجوار ، وتنزل هذه بأصحابها إلى الدرك الأسفل من النار .

ومدار هذا الباب وإن عظمت خطوبه وكثرت أسراره ،

وفاتت الإحصاء على ثلاثة أقطاب :

قطب : يتضمن سبعة أركان من أركان العزّة .

وقطب : يتضمن ثلاثة أركان من أركان الجمال المطلق .

وقطب : يتضمن ركنا واحدا من أركان الحقيقة .

وينقسم هذا الركن إلى شعبتين :

شعبة : تعم جميع أركان المقامات كلها .

وشعبة : تخص مقام الإنيّة من حيث التحقق بها لا من حيث السريان .

فتفيض أركان العزّة من سبحاتها على صفاء مرآة ذلك الجمال المطلق .

فيضرب لها شعاع على عالم الرحمة الاختصاصية فيتزاورون بها في جنات المعارف والأسرار ويتسامرون له .

وبهذا النور تقع المشاهدة هنا لأصحابها والرؤية هناك لأهلها ، كما تفيض أيضا أركان العزّة من سبحاتها على صفاء نهر الحقيقة ، فيضرب لها شعاع في زوايا مقامات العبودية فيرون بها من يلجأون إليه فيخاطبونه تأنيسا لتوقع الحاجة .

كما ورد : " تعرّف إليّ في الرخاء أعرفك في الشّدّة "  أورده العجلوني  ولفظه : « تعرّف إلى اللّه في الرّخاء يعرفك في الشدّة ".

غير أن هذه الأنوار إذا انتشرت على صفاء نهر الحقيقة ، اكتسبت من ذلك النهر صفاء ، يندرج صفاء سبحاتها فيه اندراج نور الكواكب في نور الشمس ، فتسري الأنوار المتولدة منهما ، من حيث الشّعبة العامة في جميع المعلومات على ضروبها من النفي والإثبات .

وبذلك النور يدرك العلماء معلوماتهم على مراتبها ومن حيث الشعب الخاصة لمقام الإنيّة تسري في الصدور خاصة فتنشرح بها .

وذلك هو النور الإسلامي المعوّل عليه :

أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ[ الزمر : 22 ] . وقوله :نُورٌ عَلى نُورٍ[ النور : 35 ] .

فهذا نور الشرح والفتح لتحصيل المعارف والعلوم بذلك النور الآخر المتقدم ذكره . فافهم .

وباللّه التوفيق .

حضرة الاشتراك الباب الأول منها أوله ألف وآخره دال وهو الباب الخامس من سبعة  

هذه ألف الالتجاء لحضرة مشاهدة الخطاب .

والدّال : دال العلة التي لها خلق البارىء الكون في مقام جمعية العبد وتعظيمه ، ومقام وحدانية الحق تعالى وعظمته .

قال اللّه تعالى :وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ( 56 ) [ الذاريات : 56 ] .

أي : ليتذلّلوا إليّ .

ولا يتحقق العبد بالعبودية التي هي الذلّة إلّا بعد معرفته بنفسه ، أنه مربوب ومقهور مجبور لسيد قادر قاهر يفعل ما يشاء فيعرف ما ينبغي لسيده من أوصاف السيادة والملك ، ويعرف ما ينبغي له من أوصاف العبودية فإذا صحت له هذه المعرفة حينئذ يذل حقيقة حالا وقولا وعقدا لعز سلطان سيده .

فما أبدع قول الحق سبحانه :وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ( 56 )[ الذاريات : 56 ] .

ولم يقل إلّا ليعرفون فيعبدوني . ولو قال ذلك لكانت المعرفة به من العلوم الكسبية . والمعرفة به سبحانه ضرورية موجودة في فطر الخلق :لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ[ الروم : 30 ] أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى[ الأعراف : 172 ] .

كل مولود يولد على الفطرة .

ولما كانت المعرفة به ضرورية قال ليعبدون فنبّه على السبب الذي أوجد لأجله الثقلين وخرج من هذا الخطاب أمم أمثالنا كثيرون من الروحانيات والعالم الأرضي .

وسبب ذلك أنهم فطروا على المعرفة والعبادة فليس لهم في العبادة كسب ، ولذلك ليس لهم جزاء على أعمالهم .

إنما هي عبودية محضة ، ليس لهم رائحة مشم من الربوبية مثل ما للثقلين .

قال في إبليس :أَبى وَاسْتَكْبَرَ[ البقرة : 34 ] .

وفي فرعون :مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ[ غافر : 35 ] .وما ذكر هذا الوصف عن غير الثقلين أصلا.

فإذا كنى العبد عن نفسه بنون نفعل ، فليست بنون التعظيم ، وإذا كنى عن الحق تعالى بضمير الإفراد ، فإن ذلك لغلبة سلطان التوحيد في قلب هذا العبد ، وتحققه به حتى سرى في كليته ، فظهر ذلك في نطقه لفظا كما كان عقدا وعلما ومشاهدة وعينا ، وهذه النون نون الجمع .

فإن العبد وإن كان فردانيّ اللطيفة ، وحدانيّ الحقيقة فإنه غير وحداني ولا فرداني من حيث لطيفته ومركبها وهيكلها وقالبها .

وما من جزء في الإنسان إلّا والحق تعالى قد طالب الحقيقة الربانية التي فيه . إن تلقى على هذه الأجزاء ما يليق بها من العبادات .

وهي في الجملة وإن كانت المدبرة فلها تكليف يخصها يناسب ذاتها . فلهذه الجمعية يقول العبد للّه تعالى :

"لك نصلي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد ، وإياك نعبد » وأمثال هذا الخطاب .

رواه ابن خزيمة . ""... قال : وكان يقول إذا فرغ من لعنة الكفرة وصلاته على النبي واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات ومسألته : اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ونرجو رحمتك ربنا ونخاف عذابك الجد أن عذابك لمن عاديت ملحق ثم يكبّر ويهوي ساجدا " .""

ولقد سألني سائل من علماء الرسوم عن هذه المسألة عينها . كان قد حار فيها .

فأجبته بأجوبة منها هذا فشفى غليله والحمد للّه .

ولهذا الباب أسرار لطيفة ومعان دقيقة أضربنا عن إيرادها في هذا المختصر لأسباب ولكن قد تأتي مفرقة في " الفتوحات " .

فإن هذه « الفتوحات المكية » تضمنت « خمسمائة كتاب وستين كتابا » هذا أحد هذه الكتب ، وهو من فصل المنازل . وهذا الفصل مائة منزل وبضعة عشر منزلا .

كل منزل كتاب ،

وهذا الباب على ثلاثة أقطاب :

قطب يتضمن سبعين ركنا من أركان رفيع الدرجات .

وقطب يتضمن ركنين من البهاء .

وقطب يتضمن أربعة أركان من أركان الديمومية .


فتفيض أركان الرفعة من سبحاتها على صفاء نهر المكالمة الإلهية ، الجاري من نهر التوحيد ، فيضرب لها شعاع في زوايا عالم الأمر فيشرق.

ولأجل هذا النور لا يمسهم في عبادتهم لأن هذا النور يحملهم فيها فهم المحمولون ألحقنا اللّه بهم .

ويفيض ركنا البهاء من سبحاتها على صفاء نهر العزّة فينعكس الشعاع عليه .

فيكون انعكاسه سببا لتحقق الأولياء بمقام العبودية والحرية بخروجهم بهذا النور عن رق الأكوان فهم العبيد الأحرار ، الذين ليس لأحد عليهم سلطان .

وتفيض أركان الديمومية من سبحاتها على صفاء نهر الكمال فيضرب له شعاع في زوايا الكون المنفصل فيظهر له بذلك النور عين الجمع والوجود فينغمس فيها فيلحق بالكون المتصل ويزول الشرك .

* إن الكون المنفصل عبارة عن وصف النفس بما ليست عليه .

* الكون المتصل ما له دعوى البتة تلعب به يد الأقدار حيث شاءت لا حراك له ولا سكون من نفسه .

قيل له : أنت . فلم يجب .

قيل له : ما أنت . فلم يجب .

قيل له : فإيش تريد أن تكون ؟

أثبتناك فلم تجب ؟ أو نفيناك فلم تجب ؟ !

فقال فانيا في خطابه عن خطابه بخطاب الأمر للأمر من نفس هذا المختص :

جوابك في كلامك ، وسؤالك .

فإنك أثبتني ونفيتني .

فلو كنت لي مني مثبتا لم تقل أثبتناك .

ولو كنت لي مني منفيا لم تقل نفيناك .

فكيف يجيب من لا ثبوت له ولا انتفاء .

أنت أنت أيها الأمر في أنت وفي أنا .

فأنا غير أنت أيها الأمر وأنت غير أنا .

فأنت إذا أنت لأنت ، لا لأنا ، ومن ضرب الواحد في نفسه لم يخرج له سوى نفسه .

فاسأل ولا تسأل فما يجيبك غيرك فذم وامدح ، وهذا المفتاح فمن شاء فليفتح .

واللّه الموفق لا ربّ غيره .

وقد علم كل أناس مشربهم .

باب آخر منها أوله ألف وآخره نون وهو الباب السادس من سبعة

اعلم : أن اللّه تعالى لمّا أوجد عالم الهياكل الظلمانية والقوالب الجسمانية أوجدهم في الكون المنفصل ، فظهرت عنهم الدعاوى المهلكة والدعاوى الصادقة ، عن غير الحقيقة التي طولبوا بها .

فأمّا أصحاب الدعاوى المهلكة ، فادّعوا الربوبية مطلقا فهلكوا ، وكانوا من الخاسرين وهم طائفتان :

* طائفة ادعت القوة لها كفرعون ، وغيره .

* وطائفة ادعت أن القوة للّه ، والفعل لها . وهم المعتزلة ومن تابعهم .

فهؤلاء أصحاب الدعاوى المهلكة .

وأمّا أصحاب الدعاوى الصادقة :

فهم أصحاب غفلات مع العقد السليم فللّه معهم لغزان .

إن أخذهم بعقدهم ابتداء سلموا من غير مشقة ، وإن أخذهم بغفلتهم شقوا ثم شفع فيهم عقدهم فانتقلوا إلى دار السعادة ، ولكن لم يشموا رائحة من الكون المتصل ، الذي هو عين الجمع والوجود .

وثمّ طائفة من أصحاب الدعاوى الصادقة نظر الحق إليهم بعين العناية فهداهم ليستخلصهم لنفسه ، واصطنعهم في دار الامتزاج قبل الرحلة إلى دار التخليص . فعجّل لهم التخليص هنا .

ففرّق بين ظلمتهم ونورهم شهودهم الذي أشهدهم .

فأفنوا ثمّ أفنوا ثمّ أفنوا  ....  فكانوا في الوجود لسان حقّه

وأبقوا ثمّ أبقوا ثمّ أبقوا  ....  فصرّفهم على مقدار وفقه

وما أفنوا ، ولا أبقوا فكانوا  ....  لهو المستور في أطوار خلقه

فناداهم عبيدي من عبادي  ....  فردّوا من تناديه بحقّه

مقيم لا يزال يراك فيه  ....  وتبصره على تحقيق صدقه

فإن أخرجته منه فأهلا  ....  وسهلا وليكن إخراج شوقه

إليّ نزل بتركيب نزيه   ....  عن التّحليل مقرون بأفقه

وريّ بعد شرب نال منه  ....  على قدر ولكن بعد ذوقه

فلما ألحقهم بالكون المتصل ناداهم فلم يجيبوا فتعطلت الأسماء في حقهم ، وما ظهر لها أثر في لطائفهم .

فبعد هذا المشهد العلي ، والحال السنيّ ردّهم إلى الكون المنفصل ، فنطقوا بلسان التقوى فيه ، لا بلسان الدعوى ، فكانوا حاكين ما نصّ لهم ، تالين ما أمروا بتلاوته ، لا طالبين ؛ فهم الشهود الأمناء ، وهم الأبرياء الأخفياء لا يعرفهم سواه .

مجهولة أحوالهم من حيث الشّبه بالصورة ، واختلاف البواعث والمعاني .

فهم يأكلون ويشربون ، ويركبون ، وينكحون ، ويمزحون ، ويضحكون .

ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ[ الفرقان : 7 ] .

انظر ماذا فعلت مشاركة الصور ، وإن اختلفت السور ، فبهذا اللسان نطقوا ، وعن هذه الحقيقة ترجموا ، ولو عثر عليهم رجموا .

هكذا قال ابن عباس رضي اللّه عنه فسبحان من سترهم بهم عن أعين المنكرين ، وإن كانوا مسلمين صالحين .

قال بعض العارفين : « لا يبلغ أحد درجة الحقيقة حتى يشهد فيه ألف صدّيق أنه زنديق » .

معنى هذا الكلام لو نطق بما يقتضيه مقامه وحاله المستور .

لكن لا ينطق إلّا بأمر المعتاد ، فيخفى بين العباد ، فيحيا طيب العيش ، نزيه المكان ، كثير الإمكان ، فهذه أحوال أرباب هذا الباب مجملة .

ومدار هذا الباب على ثلاثة أقطاب :

قطب يتضمن سبعين ركنا من أركان العلم .

وقطب يتضمن ستة أركان من أركان الوراثة .

وقطب يتضمن خمسين ركنا من أركان النور .

فتفيض أركان العلم من سبحاتها على صفاء نهر العبودية ، فيضرب لها شعاع في أركان الولاية . فذلك نور الأولياء فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ[ الزمر : 22 ] ،لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ[ الحديد : 19 ] .

وتفيض أركان النور من سبحاتها على صفاء نهر الهداية ، فيضرب لها شعاع في محجّة السالكين إلى اللّه ، فحيثما وقع ذلك النور فالطريق الظاهر به طريق السعادة والمجانب له طريق الشقاوة .

فمن كوشف بهذا النور ، فإنه معصوم ، إن كان نبيّا .

ومحفوظ ، إن كان وليا .

والفرق بين العصمة والحفظ :

أنّ العصمة تعمّ الذات كلها ،

والحفظ يتعلق بالجوارح مطلقا . ولا يشترط استصحابه في السر ،

فقد تخطر للولي خواطر لا يقتضيها طريق الحفظ لكن لا يظهر لها حكم على الجوارح ألبتّة .

فاعلم ، واللّه الموفق .

حضرة تميّز الثاني باب أوله ألف وصل وآخره نون وهو الباب السابع

إذا لاح علم الهداية للبصائر طلبته اللطائف بهياكلها ، وذلك لأن العبد إذا أشرقت لعينه أنوار النور ، حصل له التميّز علما لا غير .

فيرى طريق المقامات العلية والمشاهد القدسية ، عليها الآثار النبوية بالعلامات الربانية ، والآيات الرحمانية ، والدلالات الإلهية .

ويرى عكس هذا الطريق من جميع الوجوه ، ويرى نفسه عليه ، أو بينهما . فإن خلع عليه رداء التوفيق مشى بالموافقة على الطريقة المثلى المحقوقة بالسّبحات العلى ، القائدة إلى المورد الأحلى بالمقام الأجلى ، حيث الشهود الأسنى ، والمكانة الزلفى ، والمرتبة العظمى ، حيث تنكشف أسرار المودة في القربى ، عند حجاب العزّة الأحمى ، بساحل بحر العمى .

أل ليت التّراجم مخبرات   ....   بما يبدو إلى البصر الغريب

من الأسرار في فلك المعالي   ....   إذا يسري على الحكم العجيب

فتبصر ناطقا بلسان غيب   ....   غريبا في غريب ، في غريب

وقام له سرّ الاستقامة في كل شيء من حيث أن كل شيء منه بدا ، وإليه يعود .

فليس ظهور الاستقامة فيما يطلق عليه في الاصطلاح اسم المستقيم.

فإن الكرة مستقيمة في التدوير . وليس اسم الاستقامة على الخط المستقيم بأولى من غيره .

لو قيل لكل غصن من أغصان الشجرة على اختلافها ودخول أغصانها بعضها على بعض : لماذا خرجت عن حدّ الاستقامة الذي مشى عليها هذا الغصن الآخر ؟

لقال : بل سله لما خرج عن حد الاستقامة التي أنا عليها ؟

فمن رأى وجود الأشياء منه سبحانه ابتداء ونشأ .

ورأى رجوعها إليه عودا ، ورأى معيّته في الأشياء بين البدء والعود . لم ير معوجا .

بل كان يرى استقامة محضة لا غير .

فالعارف إذا سأل الاستقامة .

إنما يسأل معرفة حكمة الأشياء في وضعها ، ووجوه الحق فيها .أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ[ الشورى : 53 ] .

فإذا اتضح للعبد طريق السعادة وطريق الشقاوة ، ورأى غاية الطريقين إلى اللّه تعالى . فلا يخلو هذا العبد .

إمّا أن يلحظ نفسه وما يعطيه طبعه . وإمّا أن لا يلحظ ذلك .

فإن لم يلحظ ذلك : فلا يقع له التميز من الطريقين من حيث الغاية . فلا يسأل النجاة من النار ، ولا يسأل نعيم الجنان .

بل ينظر في الطريقين نظر متنزّه قد تسامى عن حكم الأكوان فيه .

وذلك إذا كان الاسم " اللّه " في غاية الطريقين حينئذ يكون بهذه المثابة .

فإن لحظ نفسه : في هذا المشهد مع الاسم « اللّه » في الغاية فصّل برؤيته نفسه ما في الاسم « اللّه » من الإجمال فهرب من النار ، وطلب الجنة .

فإن رأى غاية كل طريق الاسم الخاص به فرأى في طريق السعادة الاسم المنعم ، ورأى في طريق الشقاوة الاسم المبلي ، فرّ من اللّه إلى اللّه .

فرّ من المبلي المنتقم إلى المنعم ، والاستعاذة به .

قال : أعوذ بك منك . فإنه هرب منه إليه ، ولا سيما إن شاهد أهل الخبرة والتيه ، الذين تخيلوا في ضلالتهم أنهم على هدى يشتد تعوذه لعظيم سلطان هذا المكر .

حيث مكر بهم من حيث لا يشعر ونسَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ[الأعراف : 182 ] .

فإن الضال إذا عرف أنه ضال ، فهو على هدى في ضلالته ، لكن يكون ظالما مستكبرا عالما فيرجى له .

لأن العالم لا يمكن له أن يلتبس عليه معلومه بعد قيام العلم ، وحضوره معه .

لكن كما قال تعالى :وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا[ النمل : 14 ] .

هذا وصف العالم تشم عليه روائح السعادة .

وقال في الشقي المطلق الجاهل :أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ[ الأعراف : 12 ] .

فسبب إبايته وتكبره جهله . بخلاف الأول الذي سبب إبايته عن الانقياد بالظاهر تكبره على جنسه .

فإن العالم لا يتمكن له الإباية بباطنه لحصول العلم عنده .

فهو منقاد مطيع باطنا . معتاص جموح ظاهرا . وأمره إلى اللّه .

وقد تكلمنا عليه في كتاب " لا إله إلا اللّه " مستوفى فإن هناك محله ومكانه .

ثم إن السعيد المجتبى إذا عاين معارج المهتدين الذين يقدموه زمانا ورأى صفاء أنوارهم لما تخلصت عن ظلماتهم .

وتلك الضياءات اللامعة المستخلصة من ظلمة الكون الثقلى بالضرورة يرى نوره دون أنوارهم في الصفاء والشعشعانية .

وقد يكون فوق من رأى بالرتبة والفضيلة وهو لا يشعر لما يرى من المفاضلة بين النورين ، وما يعلم أن سبب قصور نوره أنه للعلاقة الماسكة له لبقاء هذه الجثة الظلمانية وشغله بها ، وعدم تخلصه منها .

فيسأل حينئذ ربه تعالى في العروج به على معارج هذه الأنوار التي تراءت له رغبة في الصفاء المحض الذي لا يشوبه تكدير وتكثر .

رغبته في ذلك والحاجة وطلبته إلى أن يتخلص كما تخلصوا فيكون صفاؤه عند ذلك على قدر ما اتصف من المعارف الإلهية وتحقق به من الصورة المعلومة .

فهذه صورة عالم هذا الباب .

ومداره على ثلاثة أقطاب :

قطب يتضمن خمسة أركان من أركان الهوية.

وقطب يتضمن أربعة أركان من أركان الديمومية .

وقطب يتضمن ركنا من أركان الإنيّة .

فتفيض أركان الهوية ، وركن الإنية من سبحاتها على صفاء نهر الديمومية .

فيضرب لها شعاع في زوايا الجنّة والنار ، فيكون شعاع نور الهوية في جهنم فيقع الحجاب :كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ( 15 )[ المطففين : 15 ] .

فالهو مصحوبهم أبد الآبدين ويكون شعاع نور الإنيّة في الجنان فتكون الرؤية :وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ( 22 ) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ( 23 )[ القيامة : 22 ، 23 ] .

فالإنيّة مصحوبهم أبد الآبدين ، ونهر الديمومية يمد الدارين بحقيقته في شعاع كل نور ، ولهذا هؤلاء في السعادة دائمون ، وهؤلاء في الشقاوة دائمون .

عصمنا اللّه وإيّاكم من غوائل الفتن وصرف عنّا وجوه المحن إنه ذو الآلاء والمنن .

فصل فهذا منزل العظمة قد أعطى من حقائقه

فهذا منزل العظمة قد أعطى من حقائقه قدر ما قبله استعداد الوقت صاحبه .

يصغر إذا كان من أرواح التسخير حتى يصير كالوضع لا غير .

وأمّا نحن في هذا المنزل فلا نصغر بل نفنى ونفنى عن نفنى بلا نفنى بل به عنه ، ولا غير ولا أثر ولا مخبر ولا خبر ولا رجوع بعد هذا الفناء بأنا لكن بهو .

فيكون الراجع الهو لا الأنا .

فيتسامى إذ ذاك عن الاتصاف بالصغر والتعرض للحكم .

كما قال « أبو يزيد » : « ضحكت زمانا وبكيت زمانا ، وأنا اليوم لا أضحك ولا أبكي » . وقيل له : كيف أصبحت ؟ فقال : « لا صباح لي ولا مساء . إنما الصباح والمساء لمن تقيد بالصفة وأنا لا صفة لي » .

والحمد للّه رب العالمين ، وصلى اللّه على محمد وعلى آله .

هذا التنزل مكّي والمحلّ قونوي يوناني فما تخلص من آثار الحكم الفكرية إلّا بعد أن جعله اللّه له من بين يديه ومن خلفه رصدا .

ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم . وحسبنا اللّه ونعم الوكيل .

نسخ من نسخة قوبلت من أصل نسخ من خط المؤلف وقرىء عليه فصح جهد الطاقة والحمد للّه وحده .

قوبل من أصل قوبل من أصل نسخ من خط المؤلف وقرىء عليه فصح جهد الطاقة والحمد للّه وحده .

ملاحق كتاب العظمة

ملحق 1 في معرفة منزل العظمة الجامعة للعظمات المحمدية

إنّ العظيم إذا عظّمته نزلا   ....   وإن تعاظمت جلّت ذاته فعلا

فهو الّذي أبطل الأكوان أجمعها  .....  من باب غيرته وهو الّذي فعلا

وليس يدرك ما قلنا سوى رجل  .....   قد جاوز الملأ العلويّ والرّسلا

وهام فيمن يظنّ الخلق أجمعه  .....   تحصيله وسها عن نفسه وسلا

ذاك الرّسول رسول اللّه أحمدنا  ....  ربّ الوسيلة في أوصافه كملااعلم

أن لهذا المنزل أربعة عشر حكما :

الأول : يختص بصاحب الزمان .

والثاني والثالث : يختص بالإمامين

والرابع والخامس والسادس والسابع : يختص بالأوتاد .

والثامن والتاسع والعاشر والأحد عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر : بالأبدال .

وبهذه الأحكام يحفظ اللّه عالم الدنيا .

فمن علم هذا المنزل علم كيف يحفظ اللّه الوجود على عالم الدنيا . ونظيره من الطب علم تقويم الصحة . كما أنه بالأبدال تنحفظ الأقاليم ، وبالأوتاد ينحفظ الجنوب والشمال والمغرب والمشرق .

وبالإمامين ينحفظ عالم الغيب الذي في عالم الدنيا وعالم الشهادة ، وهو ما أدركه الحس .

وبالقطب ينحفظ جميع هؤلاء ، فإنه الذي يدور عليه أمر عالم الكون والفساد .

وهؤلاء على قلب أربعة عشر نبيا وهم :

آدم ، وإدريس ، ونوح ، وإبراهيم ، ويوسف ، وهود ، وصالح ، وموسى ، وداود ، وسليمان ، ويحيى ، وهارون ، وعيسى ، ومحمد سلام اللّه عليهم وعلى المرسلين والحمد للّه رب العالمين .

ولكل واحد ممن ذكرنا طريق يخصه ، وعلم ينصه ، وخبر يقصه ، ويرثه من ذكرناه ممن ليست له نبوة التشريع ، وإن كانت له النبوة العامة .

فلنذكر من ذلك ما تيسر فإنه يطول الشرح فيه ، ويتفرع إلى ما لا يكاد أن ينحصر .

ولهم من الأسماء الإلهية :

اللّه ، والرب ، والهادي ، والرحيم ، والرحمن ، والشافي ، والقاهر ، والمميت ، والمحيي ، والجميل ، والقادر ، والخلاق ، والجواد ، والمقسط .

كلّ اسم إلهيّ من هذه ينظر إلى قلب نبيّ ممّن ذكرنا ، وكل نبيّ يفيض على كل وارث .

فالنبي كالبرزخ بين الأسماء والورثة ، ولهم من حروف المعجم حروف أوائل السور ، وهي : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والنون .

هذا لهم من حيث الإمداد الإلهي الذي يأتيهم في قلوبهم ، وإنما الذي يأتيهم من الحروف في صور خيالهم بالإمداد أيضا فالدال ، والذال ، والعين ، والنون ، والصاد ، والراء ، والألف ، والطاء ، والحاء ، والواو ، والضاد ، والغين ، واللام ، والميم ، والتاء ، والكاف ، والباء ، والسين ، والقاف ، والياء ، والهاء ، والحرف المركب من لام الألف الذي هو للحروف بمنزلة الجوهر .

وهذه الحروف من عالم الأنفاس الإلهية ، وما تركب من الكلمات من هذه الحروف خاصة مما وقع عليها الاصطلاح في كل لسان بما تكون بها الفائدة في ذلك اللسان . فإن تلك الكلمات لها على ما قيل لي خواص في العالم ليست لسائر الكلم .

وأمّا الأرواح النورية فعين لهؤلاء الأنبياء منهم أربعة عشر روحا من أمر اللّه ينزلون من الأسماء - التي ذكرناها - الإلهية على قلوب الأنبياء وتلقاها حقائق الأنبياء عليهم السلام على قلوب من ذكرناه من الورثة ، ويحصل للفرد الواحد من الأفراد وراثة الجماعة المذكورة ،

فيأخذون علم الورث من طريق المذكورين من الأرواح الملكية والأنبياء البشريين ،

ويأخذون بالوجه الخاص من الأسماء الإلهية علوما لا يعلمها من ذكرناه سوى محمد صلى اللّه عليه وسلم فإن له هذا العلم كله .

لأنه أخبر أنه قد علم علم الأولين وعلم الآخرين .

اعلم

أن للّه كنوزا في الطبيعة التي تحت عرش العماء ، اكتنز فيها أمورا ، فيها سعادة العباد . كاكتزان الذهب في المعدن .

وصور هذه الكنوز صور الكلمات المركبة من الحروف اللفظية فلا تظهر ، إذا أراد اللّه إظهارها ، إلّا على ظهر أرض أجسام البشر على ألسنتهم .

وإنفاقها والانتفاع بها عين التلفظ بها ، مثل قول الإنسان .

"لا حول ولا قوة إلّا باللّه العليّ العظيم "

فهذه الكلمات من الكنوز المنصوص عليها من اللّه على لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم ،

وأول ما أظهرها اللّه تعالى على لسان آدم عليه السلام فهو أول من أنفق من هذا الكنز في الطواف بالكعبة حين أنزله جبريل فطاف به بالكعبة

فسأله : ما كنتم تقولون في طوافكم بهذا البيت ؟

فقال جبريل عليه السلام :

كنا نقول في طوافنا بهذا البيت " سبحان اللّه، والحمد للّه ، ولا إله إلّا اللّه ، واللّه أكبر".

فأعطى اللّه آدم وبنيه من حيث لا تعلمه الملائكة كلمة « لا حول ولا قوة إلا باللّه العليّ العظيم » .

فقال آدم لجبريل عليهما السلام : وأزيدكم أنا : "لا حول ولا قوة إلّا باللّه العليّ العظيم."

فبقيت سنّة في الذكر في الطواف لبنيه ، ولكل طائف به إلى يوم القيامة .

فأخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن هذه الكلمة أعطيها آدم عليه السلام من كنز تحت العرش . رواه البخاري ومسلم وابن حبان

"" فقال لي : « يا عبد اللّه بن قيس » قلت : لبيك يا رسول اللّه ، قال : " ألا أدلك على كلمة من كنز من كنوز الجنة ؟ " قلت : بلى يا رسول اللّه فداك أبي وأمي ، قال : « لا حول ولا قوة إلا باللّه » . ""

فالكنوز المكتنزة تحت العرش ، إنما هي مكتنزة في نشأتنا ، فإذا أراد اللّه إظهار كنز منها ، أظهره على ألسنتنا ، وجعل ذلك قربة إليه ، فإنفاقه النطق به .

وهكذا جميع ما اكتنزه مما فيه قربة ، وما ليس بقربة ممّا هو مكتنز ، بل يخلق في الوقت في لسان العبد ، وكانت صورة اختزانه - إذ لا يختزن إلّا أمر وجودي - أن اللّه لما أراد إيجاد هذا المكتنز ،

تجلى في صورة آدمية ، ثم تكلم بهذا الأمر الذي يريد أن يكتنزه لنا أو لمن شاء من خلقه ، فإذا تكلم به أسمعه ذلك المكان ، الذي يختزنه فيه فيمسك عليه ، فإذا أنشأ اللّه ذلك المكان صورة ظهر هذا الكنز في نطق تلك الصورة ، فانتفع بظهوره عند اللّه ،

ثم لم يزل ينتقل في ألسنة الذاكرين به دائما أبدا ، ولم يكن كنزا إلّا فيمن ظهر منه ابتداء ، لا في كل من ظهر منه بحكم الانتقال والحفظ .

وهكذا كلّ " من سنّ سنّة حسنة ". رواه ابن خزيمة وابن ماجة   

ابتداء من غير تلقف من أحد مخلوق إلّا من اللّه إليه فتلك الحسنة كنز اكتنزها اللّه في هذا العبد من الوجه الخاص ، ثم نطق بها العبد لإظهارها ، كالذي ينفق ماله الذي اختزنه في صندوقه فهذا صورة الاكتناز - إن فهمت  .

فلا يكون اكتنازا إلّا من الوجه الخاص الإلهي ، وما عدا ذلك فليس باكتناز .

فأول ناطق به هو محل الاكتناز ، الذي اكتنزه اللّه فيه .

وهو في حق من تلقفه منه ذكر مقرب كان موصوفا بأنه كنز ، فهذه كلها رموزه لأنها كلها كنوزه .

وبعد أن أعلمتك بصورة الكنز والاكتناز ، وكيفية الأمر في ذلك لتعلم ما أنت كنز له ، أي : محل لاكتنازه ، مما لست بمحل له إذا تلقنته ، أو تلقفته من غيرك فتعلم عند ذلك حظك من ربّك وما خصّك به من مشارب النبوة.

فتكون عند ذلك على بينة من ربك فيما تعبده به ، ولا تكون فيما أنت محل لاكتنازه وارثا ، بل تكون موروثا فتحقق ما ترثه وما يورث منك .

ومن هذا الباب مسألة بلال الذي نص عليها لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قوله له :  " بم سبقتني إلى الجنة " . رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والترمذي.

يستفهمه إذ علم أن السبق له صلى اللّه عليه وسلم فلما ذكر له ما نص لنا قال : بهما . أي : بتينك الحالتين فمن عمل على ذلك كان له أجر العمل ، ولبلال أجر التسنين وأجر عملك معا .

فهذا فائدة كون الإنسان محلا للاكتناز .

وأمّا تسنين الشّرّ فليس باكتناز إلهي ، وإنما هو أمر طبيعي ، فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول معلما لنا :  "والخير كله بيديك " .

أي : أنت الذي اكتنزته في عبادتك ، فهو يجعلك فيهم واختزانك ولذلك يكون قربة إليك العلم به ، ثم قال :"والشّرّ ليس إليك" . رواه مسلم وابن خزيمة والحاكم في المستدرك وأبو داود ورواه غيرهم

"" وفى رواية مسلم : عن علي بن أبي طالب عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال : « وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك أنا بك وإليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك »

وإذا ركع قال : « اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي »

وإذا رفع قال : « اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد »

وإذا سجد قال : « اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك اللّه أحسن الخالقين » .

ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم " اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت " .""

أي : لم تختزنه في عبادك . وهو قوله تعالى :ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [ النساء : 79 ] .

فأضاف السوء إليك والحسن إليه ، وقوله صدق وأخباره حقّ . وأمّا قوله :قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ[ النساء : 79 ] .

أي : التعريف بذلك من عند اللّه ، والحكم بأن هذا من اللّه وهذا من نفسك .

وهذا خير وهذا شر .

معنى( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) ولهذا قال في حق من جهل الذي ذكرناه منهم .فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً.

أي : ما لهم لا يفقهون ما حدثتهم به فإني قد قلت :ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فرفعت الاحتمال أو نصصت على الأمر بما هو عليه .

فلما قلت : ( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ). يعلم العالم باللّه أني أريد الحكم والإعلام بذلك أنه من عند اللّه لا عين السوء .

ولمّا علم ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : " والخير كله بيديك والشر ليس إليك " .

وكذلك قوله تعالى :وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ( 7 ) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ( 8 )[ الشمس :

7 ، 8 ] فجورها أنه فجورها ، وتقواها أنه تقوى .

ليفصل بين الفجور والتقوى . إذ هي محل لظهور الأمرين فيها .

فربّما التبس عليها الأمر وتخيلت فيه أنه كله تقوى .

فعلّمها اللّه فيما ألهمها ما يتميز به عندها الفجور من التقوى ، ولذا جاء بالإلهام ولم يجئ بالأمر .

فإن اللّه لا يأمر بالفحشاء ، والفجور فحشاء . فالذكر للأصل وهو القطب .

والتحميدان أعني تحميد السرّاء والضرّاء لما انقسم التحميد بلسان الشرع .

بين قوله : ( في السراء ) الحمد للّه المنعم المتفضل ،

وبين قوله : ( في الضراء ) الحمد للّه على كل حال ، وما له في الكون إلّا حالة تسر ، أو حالة تضر ، ولكل حالة تحميد ،

وهي قوله تعالى لنا في كتابه عن إبليس :ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ[ الأعراف : 17 ] .

وقام على كل جهة من هذه الجهات من يحفظ إيمانه منها جعل الأوتاد أربعة للزومهم هذه الجهات لكل وتد جهة أي الغالب عليه حفظ تلك الجهة خاصة .

وإن كان له حفظ لسائر الجهات " كأفرضكم زيد "  رواه الحاكم " أفرض أمتي زيد بن ثابت ".

و " أقضاكم عليّ " رواه الطبراني ، و « كالجماعة تحمل ما لا يقدر الواحد على حمله إذا انفرد به .

"" قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأرفق أمتي لأمتي عمر بن الخطاب وأصدق أمتي حياء عثمان وأقضى أمتي علي بن أبي طالب وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل يجيء يوم القيامة أمام العلماء برتوة وأقرأ أمتي أبي بن كعب وأفرضها زيد بن ثابت " ."" رواه الطبراني

فلكل واحد من الجماعة قوة في حمله ، وأغلب قوته حمل ما يباشره من ذلك المحمول. فلولا الجماعة ما انتقل هذا المحمول لأن كل واحد واحد لا يقدر على حمله فبالمجموع كان الحمل .

كذلك هذا الأمر . فهذه سبعة .

وأمّا الأبدال : فلهم حفظ السبع الصفات في تصريف صاحبها لها ، إذ لها تصرف في الخير ، وتصرف في الشر ، فتحفظ على صاحبها تصريف الخير ، وتقيه من تصريفاتها في الشر .
فهذه جملة الأربعة عشر التي ذكرناها لقوم يعقلون من المؤمنين إذا أنصفوا ، ومن حصل له حفظ ما ذكرناه فذلك المعصوم ، وتلك العصمة .

ما ثم غير هذين في الظاهر والباطن وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[ الحجرات:16 ].

وإذا علمت هذا وانفتح لك مقفله مشيت لكل واحد من الذي عيّنّا لك على ما له مما ذكرناه من الأسماء الإلهية ، والحروف الرقمية المعينة ، والأفهام الموروثة من النبيين المذكورين والأرواح النورية، فيحصل لك ذوقا جميع ما ذكرناه وكشفا لمعناه فلا تغفل عن استعماله .

وفي هذا المنزل من العلوم .

علم الأذكار المقربة إلى اللّه تعالى ،

وعلم الأسماء الإلهية ،

وعلم اختصاص الرحمة وشمولها ،

وعلم الأسماء المركبة التي للّه ،

وعلم عواقب الأمور ،

وعلم العالم ،

وعلم مراتب السيادة في العالم ،

وعلم الثناء بالثناء ،

وعلم الملك والملكوت ،

وعلم الزمان ،

وعلم الجزاء ،

وعلم الاستناد ،

وعلم التعاون ،

وعلم العبادة ،

وعلم البيان والتبيين ،

وعلم طرق السعادة ،

وعلم النعمة والمنعم والإنعام ،

وعلم أسباب الطرد عن السعادة التي لا يشوبها شقاء ،

وعلم الحيرة والمتحيرين ،

وعلم السائل والمجيب ،

وعلم التعريف بالذات والإضافة وأيّ التعريفين أقوى .

هذه أمهات العلوم التي يحوي عليها هذا المنزل ،

وكل علم منها ، فتفاصيله لا تنحصر إلّا للّه تعالى . أي يعلم مع علمه بها أنها لا تنحصر ، لأنها لا نهاية لها .

ومنها تقع الزيادة في العلم لمن طلبها ، ومن أعطيها من غير طلب . وهو قوله :وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً[ طه : 114 ] .

فإن تناهى العلم في نفسه فإن المعلوم لا ينتهي .

وقد نهيت النّفس عن قولها  ....  بالانتها فيه فلم تنته

لجهلها بالأمر في نفسه .... لذاك قالت إنّه ينتهي

وقد رأينا نفرا منهم .... بمكّة يجول في مهمه

قد حكمت أوهامهم فيهم .... فانحاز ذو اللّبّ من الأبله

واعلم  أن عالم الإنسان لما كان ملكا للّه تعالى كان الحق تعالى ملكا لهذا الملك بالتدبير فيه وبالتفصيل .

ولهذا وصف نفسه تعالى بأن "وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ"[ الفتح : 4 ]

، وقال :وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ[ المدّثر : 31 ] .

فهو تعالى حافظ هذه المدينة الإنسانية لكونها حضرته التي وسعته وهي عين مملكته ، وما وصف نفسه بالجنود والقوة إلّا وقد علم أنه تعالى قد سبقت مشيئته في خلقه أن يخلق له منازعا ينازعه في حضرته ويثور عليه في ملكه بنفوذ مشيئته فيه وسابق علمه وكلمته التي لا تتبدّل سماه الحارث ،

وجعل له خيلا ورجلا وسلّطه على الإنسان فأجلب هذا العدو على هذا الملك الإنساني بخيله ورجله .

ووعده بالغرور بسفراء خواطره التي تمشي بينه وبين الإنسان فجعل اللّه في مقابلة أجناده أجناد ملائكته ،

فلما تراءى الجمعان وهو في قلب جيشه جعل ميمنة ومسيرة وتقدمة وساقة

وعرفنا اللّه بذلك لنأخذ حذرنا منه من هذه الجهات

فقال اللّه تعالى لنا أنه قال هذا العدو .ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ[ الحجرات : 16 ] .

وهو في قلب جيشه في باطن الإنسان فحفظ اللّه هذا الملك الإنساني بأن كان اللّه في قلب هذا الجيش ، وهذا العسكر الإنساني في مقابلة قلب جيش الشيطان ، وجعل على ميمنته الاسم الربّ ، وعلى ميسرته الاسم الملك ، وعلى تقدمته الاسم الرحمن ،

وفي ساقته الاسم الرحيم ، وجعل الاسم الهادي يمشي برسالة الاسم الرحمن ، الذي في المقدمة إلى هذا الشيطان ، وما هو شيطان الجان وإنما أعني به شيطان الإنس .

فإن اللّه تعالى يقول :شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ[ الأنعام : 112 ] ،

وقال :مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ ( 4 ) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ( 5 ) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ( 6 )[ الناس : 4 - 6 ] .

فإن شياطين الإنس لهم سلطان على ظاهر الإنسان وباطنه ،

وشياطين الجن هم نوّاب شياطين الإنس في بواطن الناس ،

وشياطين الجن هم الذين يدخلون الآراء على شياطين الإنس ، ويدبرون دولتهم فيفصلون لهم ما يظهرون فيها من الأحكام ،

ولا يزال القتال يعمل على هذا الإنسان المؤمن خاصة فيقاتل اللّه عنه ليحفظ عليه إيمانه ، ويقاتل عليه إبليس ليرده إليه ، ويسلب عنه الإيمان ، ويخرجه عن طريق سعادته حسدا منه .

فإنه إذا أخرجه تبرأ منه وجثا بين يدي ربه الذي هو مقدم صاحب الميمنة ويجعله سفيرا بينه وبين الاسم الرحمن ، وعرّفنا اللّه بذلك كله لنعرف مكايده .

فهو يقول للإنسان بما يزين له ( أكفر ) فإذا كفر يقول له :إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها[ الحشر : 16 ، 17 ] .

لأن الكفر هنا هو الشرك ، وهو الظلم العظيم

ولذلك قال :وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَيريد المشركين ، فإنهم الذين لبسوا إيمانهم بظلم وفسره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما قاله لقمان لابنه :يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[ لقمان : 13 ] .

فعلمنا بهذا التفسير أن اللّه أراد بالإيمان هنا في قوله :وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ[ الأنعام : 82 ] .

أنه الإيمان بتوحيد اللّه ، لأن الشرك لا يقابله إلّا التوحيد .

فعلم النبي صلى اللّه عليه وسلم ما لم تعلمه الصحابة ، ولهذا ترك التأويل من تركه من العلماء ولم يقل به ، واعتمد على الظاهر ، وترك ذلك للّه ،

إذ قال :وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ[ آل عمران : 7 ] .

فمن أعلمه اللّه بما أراده في قوله ، علمه بإعلام اللّه لا بنظره ، ومن رحمة اللّه بخلقه أنه غفر للمتأولين من أهل ذلك اللسان العلماء به إذا أخطأوا في تأويلهم فيما تلفظ به رسولهم .

إمّا فيما ترجمه عن اللّه ، وإمّا فيما شرع له أن يشرعه قولا وفعلا ، وليس في المنازل الإلهية كلها على كثرتها ما ذكرنا منها في هذا الكتاب ، وما لم نذكر من يعطي الإنصاف ويؤدي الحقوق ولا يترك عليه حجة للّه ولا لخلقه فيوفي الربوبية حقها والعبودية حقها ،

وما ثم إلّا عبد ورب إلّا هذا المنزل خاصة هكذا أعلمنا اللّه بما ألهمه أهل طريق اللّه الذي جرت به العادة أن يعلم اللّه منه ورثة أنبيائه .

وهو منزل غريب عجيب أوله يتضمن كله ، وكلّه يتضمن جميع المنازل كلها .

وما رأيت أحدا تحقق به سوى شخص واحد مكمّل في ولايته لقيته بإشبيليّة ، وصحبته وهو في هذا المنزل ، وما زال عليه إلى أن مات رحمه اللّه .

وغير هذا الشخص فما رأيته مع أني ما أعرف منزلا ، ولا نحلة ، ولا ملّة إلّا رأيت قائلا بها ومعتقدا لها ومنصفا بها باعترافه من نفسه .

فما أحكي مذهبا ولا نحلة إلّا عن أهلها القائلين بها ، وإن كنّا قد علمناها من اللّه بطريق خاص ، ولكن لا بد أن يرينا اللّه قائلا بها لنعلم فضل اللّه عليّ وعنايته بي حتى أني أعلمت أن في العالم من يقول بانتهاء علم اللّه في خلقه ، وأن الممكنات متناهية ، وأن الأمر لا بد أن يلحق بالعدم والدثور ، ويبقى الحق حقا لنفسه ولا عالم .

فرأيت بمكة من يقول بهذا القول ، وصرح لي به معتقدا له من أهل السوس من بلاد المغرب الأقصى .

حجّ معنا وخدمنا وكان يصرّ على هذا المذهب حتى صرح به عندنا ، وما قدرت على ردّه عنه ، ولا أدري بعد فراقه إيّانا هل رجع عن ذلك ، أو مات عليه ؟

وكان لديه علوم جمة وفضل إلّا أنه لم يكن له دين وإنما كان يقيمه صورة عصمة لدمه.

 هذا قوله لي ويعطيه مذهبه . وليس في مراتب الجهل أعظم من هذا الجهل .

واللّه يقول الحق وهو يهدي السبيل .

ملحق 2 حضرة العظمة

إنّ العظيم الّذي تعظّمه .... أفعاله ليس من يقول أنا

ومن يقل إنّما تعظّمه .... أحسابه لا أرى له ثمنا

فلا تعظّمه إنّه رجل .... يحشر يوم الحساب في الجبنا

يدعى صاحبها عبد العظيم ، وحال هذا العبد الاحتقار التام مع كونه محلا للعظمة فيفنيه عن نفسه ،

وما رأيت أحدا يحكم هذا المقام إلّا شخصا واحدا من حديثه الموصل ، وأخبرني شيخي أبو العباس العريني من أهل العليا من غرب الأندلس أنه رأى واحدا أيضا من أهل هذه الحضرة ،

وقد تلبس كالحلاج فيعظم جسمه في أعين الناظرين بالأبصار ، وأمّا حكمها في النفوس فكثير الوقوع ، فإنه تقع أمور كثيرة يعظم في النفوس قدرها بحيث لا تتسع النفس لغيرها ، ولا سيما في الأمور الهائلة التي تؤثر الخوف في النفوس .

وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[ الحج : 32 ] .

وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ[ الحج : 30 ] .

إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[ لقمان : 13 ] .

ولكن في نفس الموحد يشاهد عظمته في نفس المشرك لا في نفسه فيشاهده ظلمة عظيمة إذا أخرج يده فيها لم يكد يراها .

واعلم  أن العظمة حال المعظّم ( اسم فاعل ) لا حال المعظّم ( اسم مفعول ) إلّا أن يكون الشيء يعظم عنده ذاته فعند ذلك تكون العظمة حال المعظّم لأن المعظّم ( اسم فاعل ) ما عظمت عنده إلّا نفسه فهو من كونه معظما نفسه كانت الحال صفته ، وما عظم سوى نفسه ، فالعظمة حال نفسه ، وهذه الحالة توجب الهيبة والإجلال والخوف فيمن قامت بنفسه .

قال بعضهم :

كأنّما الطّير فوق أرؤسهم .... لا خوف ظلم ولكن خوف إجلال

لما في قلوبهم من هيبته وعظمته ،

وقال الآخر :

أشتاقه فإذا بدا  ....  أطرقت من إجلاله

لا خيفة بل هيبة  ....  وصيانة لجماله

وهذه الأسباب كلها موجبات لحصول العظمة في نفس هذا المعظم إلّا من عظمة الحق في القلوب لا توجبها إلّا المعرفة في قلوب المؤمنين ، وهي من آثار الأسماء الإلهية . فإن الأمر يعظم بقدر ما ينسب إلى هذه الذات المعظمة من نفوذ الاقتدار وكونها تفعل ما تريد ولا رادّ لحكمها ، ولا يقف شيء لأمرها فبالضرورة تعظم في قلب العارف بهذه الأمور ،

وهي العظمة الأولى الحاصلة لمن حصلت عنده من الإيمان ،

والمرتبة الثانية من العظمة هي ما يعطيه التجلي في قلوب أهل الشهود والوجود من غير أن يخطر لهم شيء من تأثير الأسماء ، ولا من الأحكام الإلهية بل بمجرد التجلي تحصل العظمة في نفس من يشاهده ،

وهذه العظمة الذاتية لا تحصل إلّا لمن شاهده به لا بنفسه ، وهو الذي يكون الحق بصره ولا أعظم من الحق عند نفسه ، فلا أعظم من الحق عند من يشهده في تجليه ببصر الحق لا ببصره ،

فإن بصر كل إنسان وكل مشاهد بحسب عقده وما أعطاه دليله وهذا الصنف من أهل العظمة خارج عمّا ارتبطت عليه أفئدة العارفين من العقائد فيرونه من غير تقييد فذلك هو الحق المشهود ،

فلا يلحق عظمتهم عظمة معظم أصلا ، وما أحسن ما جاء هذا الاسم حيث جاء في كلام اللّه ببنية فعيل فقال : عظيم .

وهي بنية لها وجه إلى الفاعل ووجه إلى المفعول .

ولما كان الحق عظيما عند نفسه كان هو المعظّم والمعظّم فأتى بلفظ يجمع الوجهين كالعليم سواء ، وقد يرد هذا البناء ويراد به الوجه الواحد من الوجهين كالاسم الحليم ، هذا لسان الظاهر وعلم الرسم .

وأمّا علم الحقيقة المعتمد عليه عند العارفين .

فكل فعيل في أسماء الحق وصفاته ونعوته كالحليم والعليم والكريم فلا فرق بين هذه الأسماء وبين العظيم في دلالتها على الوجهين ، وذلك لكونه هو الظاهر في مظاهر أعيان الممكنات فما حلم إلّا عنه ولا تكرم إلّا عليه .

ألا ترى حكم إيجاد المرجح إيجاده عند المتكلمين إلّا بالقدرة أو القادرية عند بعضهم ، أو بكونه قادرا عند طائفة فهو القادر ، ولا يترجح الممكن إلّا بالإرادة كما قلنا في القدرة على ذلك الترتيب والمساق فهو المريد .

فالمريد إذا أراد ترجيح الوجود على العدم في المخلوق إن لم يكن هو القادر على ذلك ، وإلّا فعدم الإرادة أو وجودها على السواء .

فيحتاج المريد إلى القادر بلا شك والعين واحدة ما ثمّ عين زائدة مع اختلاف الحكم .

فلهذا قلنا في هذا البناء في حق الحق بطلب الوجهين ولا يقدر أحد من الطوائف من العلماء باللّه على مثل هذا العلم الإلهي إلّا العلماء الراسخون من أهل اللّه الذين هوية الحق علمهم كما هي سمعهم وبصرهم فاعلم ذلك .

واللّه يقول الحق وهو يهدي السبيل. 

*

تم بحمد الله رب العالمين

عبد الله المسافر بالله

التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: