السبت، 16 مايو 2020

خطبة العطار لمنظومة منطق الطير الأبيات من 001 - 592 .كتاب منطق الطير للعارف بالله فريد الدين العطار النيسابوري

خطبة العطار لمنظومة منطق الطير الأبيات من 001 - 592 .كتاب منطق الطير للعارف بالله فريد الدين العطار النيسابوري

خطبة العطار لمنظومة منطق الطير الأبيات من 001 - 592 .كتاب منطق الطير للعارف بالله فريد الدين العطار النيسابوري

كتاب منطق الطير للعارف بالله فريد الدين أبو حامد محمد بن أبي بكر إبراهيم بن أبي يعقوب إسحاق العطار النيسابوري

خطبة المؤلف والمدخل لمنظومة منطق الطيرالأبيات من 001 - 592 

بسم الله الرحمن الرحيم

حمداً لله الطهور خالق الروح واهب حفنة التراب الإيمان والروح ، هو الذي شيد عرشه فوق سطح الماء ونثر أعمار الخلق في مهب الرياح وهو من رفع السماء إلى أعلى عليين وأنزل الأرض إلى أسفل سافلين ، وأعطى إحداهما الحركة الدائبة وجعل الثانية على الدوام هادئة وهو من رفع السماء كالخيمة ولكن بلا عمد ثم أحاطها بالأرض وفي ستة أيام خلق سبعة أنجم كما خلق تسع سموات بحرفي الأمر كن وخلق النجوم وكأنها خرز من الحق الذهبي ليكون في مقدور الفلك اللعب بها في كل ليلة وجعل لقفص الجسد أحوالاً مختلفة كما خلق لطائر الروح أجنحة وريشاً من طين وأذاب البحر تسليماً له بالأمر كما دك صرح الجبل رهبة منه وأحال البحر صادي الشفة ظمأ وصير الحجر ياقوتاً والدم مسكاً ومنح الجبل قمة وسفحاً فرفع الرأس له معظماً كما خلق الورد ناري اللون أحياناً وجعل منه قنطرة تعلو سطح الماء أحياناً .

 وأمر بعوضة حقيرة بأن تقف على رأس عدو الله فاستقرت على رأسه طوال أربعمائة عام ، وبحكمته وهب العنكبوت شباكاً فكانت فيها سلامة الرسول ، وعقد للنملة وسطاً دقيقاً كالشعرة ثم كان لها حوار مع سليمان وخلع عليها خلعة الخلافة السوداء كما وهبها سورة طس بلا عناء ، وعندما رأى إبرة مع عيسى اعترض طريق صعوده .

 وأنبت اللعل القاني على قمم الجبال كما نفث الدخان على بستان النيلوفر وبالدم صبغ ذرات التراب حتى أمكن استخراج العقيق واللعل منه ، وأحنت الشمس والقمر جبهتيهما على تراب الطريق ليل نهار وذلك في سجود له ، فأصبحت لهما هذه السيما من السجود وأنى يكون لهذه السيما وجود من غير سجود ؟

 ومن بسطه بدا النهار ناصع البياض ومن قبضه أفعم الليل في السواد .

 ومنح الببغاء طوقاً ذهبياً كما جعل الهدهد للطريق هادياً ، وفي طريقه يحلق طائر الفلك ، ثم يعقد رأسه كالحلقة على بابه ، وأدار الفلك في دورة تتقلب بين ليل ونهار فما أن ينطوي الليل حتى ينتشر الضياء ويقبل النهار ، وعندما ينفخ في الطين يكون خلق آدم ، وهكذا كان خلق الجميع من فقاقيع وبخار ، وأحياناً يكشف الطريق لكلب فيصبح مرشداً وأحياناً يجعل القط للطريق كاشفاً فإذا ما صادق إنسان كلباً أصبح عظيم الرجال ينسب إلى كلب ، وأحياناً يهب السليمانية للجن كما يهب النملة القدرة على الكلام ، وأحياناً يخلق من العصا ثعباناً ويخلق من التنور طوفاناً ، وحينما يحيل الفلك حصاناً نافراً يجعل النار تتطاير من سنابكه وأخرج إلى الوجود ناقة من الصخر كما منح الثور الذهبي المقدرة على الخوار .

 وفي الشتاء ينثر الفضة ، أما في الخريف فينثر الذهب من الخمائل ، وإن يخف أحد النصل الملطخ بالدم فسرعان ما يظهر النصل ملطخاً بدم البراعم ، ويمنح الياسمين خوزات أربع ، كما يهب اللعل قلنسوة قانية كالدم ، وأحياناً يعقد على مفرق النرجس تاجاً ذهبياً ، وأحياناً يحيل قطرات الندى دراً يعلو هذا التاج الذهبي .

 وأمامه فقد العقل توازنه كما فقد سلطانه على الروح ، وحارت السماء في دورتها كما استسلمت الأرض عجزاً في رقدتها ، وجميع الكائنات سواء من قطن قاع البحر أو من حلق في أوج السماء ، ذرات شاهدة على ذاته وانبساط الأرض وارتفاع السماء بحسبهما شاهدين على عظمته ، وقد خلق الريح والنار والتراب والماء ولكن سره خارج عنها جمعاء ، وأحال التراب طيناً طوال أربعين يوماً وبعد ذلك أودع فيه الروح ، فما أن سرت الروح في الجسد ودبت فيه الحياة حتى أنعم عليه بالعقل ليكون به بصيراً حيث منح العقل قوة الإبصار كالعين ثم وهبه العلم ليحصل المعرفة وما أن صار عارفاً حتى أقر بالعجز وغرق في بحار الحيرة وأسلم الجسد للهم فلتكن عدواً إن شئت أو محباً فالجميع تحت إمرته ، 

أما حكمته فقد عمت الجميع ولا عجب في ذلك فهو المهيمن على الجميع ، وفي البداية خلق الجبال كركائز ثم أمر الأرض أن تطفو بعد ذلك فوق سطح البحر ، وما أن استقرت الأرض على ظهر ثور حتى وقف الثور على ظهر سمكة واستقرت السمكة في الفضاء ، وعلى أي شيء استقر الفضاء ؟ 

لم يستقر على شيء مطلقاً فلا شيء إلا العدم وما كل هذه الأشياء إلا عدم مطلق فأمعن التفكير في صنع الله إذ كيف يحفظ هذه الأشياء مستندة إلى العدم وإذا كانت كلها في عالم الوحدانية عدماً فهذه كلها عدم ولا ريب ، والعرش مستقر على الماء والعالم سابح في الفضاء فتجاوز الماء والفضاء فالجميع هو الله والعرش والعالم لا يزيدان عن مجرد طلسم والوجود لله وحده وليس لهذه الأشياء جميعها إلا الاسم ، 

ولتمعن النظر فما هذا العالم أو ذاك إلا الله وحده ولا وجود إلا له وإن كان هناك موجود فهو الموجود وحده ..

 واأسفاه فقد عدم الجميع الضياء حيث عميت الأبصار مع أن الدنيا غاصة بنور الشمس وإذا منحت قوة الإبصار فستفقد عقلك وسترى الجميع ولكن ستفقد نفسك ، ويا للعجب سيسارع الجميع بالهرب ويسوقون الأعذار قائلين : ما هذا الشيء العجب ! ..

 فيا من لا وجود لسواك في طلعتك أنت العالم أجمع ولا وجود لأحد غيرك ، الروح خفية في الجسد أما أنت ففي الروح اختفيت ، فيا خفياً فيما هو خفي ، ويا روح الروح ، ويا من أعظم من الجميع ومقدم على الكل ، إنها جميعاً ترى من خلالك كما ترى أنت من خلال الجميع ، محرابك غاص بالحراس والجند ، 

فكيف يتمكن إنسان قط أن يسلك الطريق صوبك وليس للعقل والروح طريق للطواف حولك كما لن يستطيع شخص قط أن يدرك كنه صفاتك ، وإن كان هناك كنز خفي في الروح فهو أنت وما وضح في صورة الجسم والروح هو أنت أيضاً ، 

وما أصابت جميع الأرواح شيئاً من ذاتك وقد نثر الأنبياء أرواحهم على تراب طريقك وإذا قدر للعقل أن يدرك أثراً من آثار وجودك فلن يستطيع مواصلة الطريق لإدراك كنهك ، ولما كنت الخالد الأوحد في الوجود فالفناء نصيب الجميع على الدوام .

 فيا خفياً في الروح وأنت خارجها ، إن كل ما أقوله ليس أنت وهو أنت أيضاً ، ويا من وقف العقل مشدوهاً أمام أعتابك لقد أفقدته الاتزان في المسير صوبك ، بك أرى العالم عياناً بالتمام ولكن لا أرى أي علامة منك في هذا العالم ، لقد استمد كل شخص منك علامة ولكنني يا عالم الأسرار لم أجد لنفسي منك أي علامة ، 

ومهما أمعن الفلك النظر بعيونه العديدة فما رأى ذرة تراب واحدة في طريقك وما رأت الأرض قط ذرة من ترابك مهما بعثرت من تراب على رأسها لهفة عليك ، أما الشمس فطار عقلها شوقاً إليك كما أخذت تمسح التراب بأذنيها كل ليلة شوقاً إليك والبدر يتناقص من جراء محبتك حتى أسلم الروح مرة كل شهر نثاراً في طريقك ، أما البحر فقد سعى مشتاقاً إليك ، فعاد صادي الشفة بعد أن كان بالماء زاخراً ، 

ووقفت مئات العقبات في طريق الجبل حيث غاصت أقدامه في الوحل حتى الوسط ، واضطرمت النار شوقاً إليك وزاد لهيبها وحرقتها وكأنها فرس جامح ، وأقبلت الريح فاقدة اتزانها بسببك ، كما أقبل التراب معلقاً على أكف الرياح ونضب ماء النهر بعد أن فاض شوقاً إليك ، ووقف التراب على باب محلتك وذل الغبار يجلل مفرقه .. وما أكثر قولي ما دمت لا تخضع لصفة ، وماذا أصنع ما دمت لا أستطيع المعرفة ؟..

 إذا كنت أيها القلب طالباً فكن للطريق سالكاً ، وتذود بالحذر ولتمعن النظر أمامك وخلفك ، وراقب من وصلوا إلى الأعتاب العلية من السالكين فجميعهم سلكوا الطريق متعاقبين ، وفي كل ذرة في الطريق عقبة وخلف كل ذرة طريق جديد إليه ، فكيف يمكنك معرفة أي طريق ستسلك ؟ وأي طريق إلى تلك الأعتاب يوصلك ؟ 

فقد أصبح خفياً ذلك الزمان الذي تبحث عنه عياناً كما أصبح عياناً ذاك الزمان الذي تبحث عنه خفياً ، هكذا تبحث عن عيان فيتحول إلى خفاء وتبحث عن خفاء فيتحول إلى عيان ، وإن تبحث في كليهما فلن تجد له نظيراً حيث يكون خارجاً عن نطاق هذا وذاك فلتكف عن البحث فما فقدت شيئاً وكف عن الحديث فكل ما تقوله ليس إلا ثرثرة ..

 إن كل ما تقوله وما تعرفه نابع منك فلتعرف نفسك فقط لأن هذا الأمر أكبر مائة مرة منك ولتعرف الله بالله لا بنفسك فالطريق إليه منه لا بعقلك ، كما أن وصفه لا يليق بالوصافين ، حيث لا يليق هذا الأمر بالفضلاء ولا بالسفلة فالعجز هنا مساو للمعرفة فما أحاط به شرح كما تنزه عن أي صفة ، ولا نصيب للخلق منه أكثر من الخيال ومعرفة أي خبر عنه ليس أكثر من محال ، وما قيل حسناً كان أم سيئاً قد صدر من نبع الخيال دائماً ، 

فهو يسمو على العلم ويخرج عن العيان لأنه في قدسيته بلا علامة مميزة وما أدرك إنسان أي علامة له غير أنه بلا نظير وما أدرك أي شخص حيلة غير نثر الروح وليس لشخص قط في الصحو أو السكر أن يدرك منه نصيباً " إلا الذي " ، 

فكل ما في العالم وأنت من بينها يمكنك إدراكه وفهمه إلا الله وحده ، وإذا لم يكن يوجد حيث يوجد الإنسان فأنى تستطيع روح آدمية أن تصل إلى إدراكه ؟ إنه أسمى منزلة من الروح آلاف المرات ، لذا فهو يسمو عن كل ما أنطق به .

 سيظل العقل حائراً في محبته ، كما تعض الروح الأنامل مما بها من عجز ، فما الروح إلا هائمة في إدراكه ، كما انفطر القلب فغص بالدماء ، فيا من عرفت الحق لا تقم مثل هذا القياس فلا أمر دون كيفية في القياس ، كما أن العقل والروح عجزا أمام جلاله ، حيث شل العقل وبهتت الروح ، وما أدرك نبي أو رسول أي جزئية من الكل فقد أقبلوا جميعاً عاجزين ساجدين على الثرى ، جاءوا قائلين : " ما عرفناك " فمن أكون أنا حتى أتفاخر بمعرفته ؟ فما عرفه إلا من أنعم عليه بالمعرفة ..

 إذا لم يكن لسواه في كلا العالمين وجوده ، فبمن غيره يليق حبك وهواك ؟ 

لقد زخر البحر بالجواهر ، أما أنت فلن تعرف من هذا شيئاً مهما ضربت أخماساً في أسداس ، وكل من لم يحظ بجواهر ذلك البحر صار عدماً وما وجد من العدم إلا العدم ، 

فلا تقل ذلك ما لم تأتك إشارة بذلك ، ولا تتحدث عن شيء ما لم يأتك به بيان أما هو فلا تليق به الإشارة ولا البيان وليس لإنسان قط علم به ولا عرفان ، 

فتخل عن نفسك فهذا أصل الكمال وكفى وافن نفسك فهذا عين الوصال وكفى فلتفن نفسك فيه حيث في الفناء الخلود ، وكل ما عدا ذلك ضرب من الفضول ولتمض في طريق الوحدانية متجنباً الثنائية وليكن لك قلب واحد وقبلة واحدة وطريق واحد ..

 فيا ابن الخليفة يا من عدمت المعرفة عليك بالاتصاف كأبيك بالمعرفة ، إن كل ما خلقه الحق من عدم إلى وجود قد خرت كلها أمامه في سجود ، وما أن وصل خلقه إلى آدم في النهاية حتى ارتفعت مئات الحجب إعزازاً له ، وقال له الحق : لتكن يا آدم بحر جود وسيقبل أمامك هؤلاء جميعاً في سجود ، أما من أبى السجود فقد مسخ ولعن ، 

وما أدرك هذا السر وما أن اسود وجهه حتى قال : أيها المتعال لا تتركني في ضياعي ولتصلح من أمري ، فأجابه الحق تعالى : أيها الملعون في كل طريق ، ما آدم إلا خليفة وسلطان فلتكن اليوم له طوع البنان ولتحرق في الغد البخور حيثما كان ..

 لقد هبطت الروح إلى الجسد فصار الجزء كلاً ، وليس للإنسان من هذه العجائب غير الطلسم ، إن الروح بالعزة موصوفة ، أما الجسد فبالمهانة موسوم ، ثم اجتمعت الروح الطاهرة بالجسد الخسيس ، وما إن اتحد الطهر بالخسة حتى كان آدم أعجوبة الأسرار ، ولكن ما وقف شخص قط على أسراره وليس أمر كل مسكين هو أمره ، وما أدركنا وما علمنا في أي زمان أنعم علينا بالقلب . .

 ما أكثر ما قلت ، ولكن الطريق صمت مطبق ، فليس لإنسان قط قدرة لإطلاق زفرة ، وما أكثر من خبروا سطح ذلك البحر ، ولكن ما أدرك أحد قط ما بقاعه الكنز في القاع والبحر طلسم فلتحطم في النهاية هذا الطلسم وقيد الجسد ، 

فعندما يفنى الطلسم ستجد الكنز وعندما يفنى الجسد تظهر الروح ، ثم تصبح الروح بعد ذلك طلسماً حيث تصبح روحك جسماً جديداً للغيب ، فاسلك الطريق هكذا وعن النهاية لا تسل وتقبل الألم وعن الدواء لا تسل ..

 وما أكثر الغرقى في هذا البحر الواسع وقد عدمنا أي خبر عن أحد منهم ، ففي مثل هذا البحر الأعظم ، يكون العالم ذرة فيه والذرة منه كعالم ، ولتعلم أن هذا العالم فقاعة في ذلك البحر ، ولتعلم كذلك أن الذرة فقاعة هي الأخرى ، فإن يتلاش ذلك العالم وتلك الذرة فما نقص من هذا البحر إلا فقاعتان فقط ، وهل يعلم الإنسان ماذا يجد في هذا البحر العميق ؟ أيجد حجارة عديمة القيمة أم يجد العقيق ؟

 لقد قامرنا بالعقل والروح والدين والقلب حتى توصلنا إلى معرفة كمال ذرة واحدة ، فأغلق شفتيك ، وعن العرش أو الكرسي لا تسل حتى وإن كنت تسأل كل ذرة فلا تسل فإذا كان في كشف سر شعرة واحدة احترق قلبك فيجب أن تكف عن السؤال شفتك ، ولن يعلم شخص قط تمام كنه ذرة واحدة ، فما أكثر ما تقول وما أكثر ما تسأل والسلام ، وفي طريقه يظل الفلك متقلباً غير مستقر إذ لا يستقر دائماً على أي مستقر ، وفي سلوكه يتملكه الاضطراب إذ أن طريقه حجاب في حجاب ، وسيظل الفلك أسير الحيرة في دورانه وأنى له أن يدرك ما بداخل الحجاب ، وهكذا قضى سنوات طوالاً في اضطراب قضاها دائراً بلا إدراك حول هذا الحجاب ، وإذا كان الفلك لا يدرك ما بداخل الحجاب من سر، فكيف يرفع هذا الحجاب أمام أمثالك ؟.

 أمر العالم خليط من الحيرة والحسرة بل إنه حيرة في حيرة في حيرة وكل أمر فيه لا بداية له ولا نهاية مما أصاب السالكين بالعجز والحيرة ، والسابقون الذين جدوا في سلوك الطريق وفي تعقب هذا الأمر في كل وقت أصيبت أرواحهم بالحسرة وسيطر عليهم العجز والحيرة فانظر أولاً ماذا حدث لآدم وكيف قضى عمره قرين الهم والحزن ، 

ثم انظر إلى نوح وما كان من أمر الطوفان لتدرك مقدار ما تحمله ألف سنة من الكفار ، 

ثم انظر إلى إبراهيم ذي العزيمة القوية وقد جعلوا منزله المنجنيق والغار ، 

ثم انظر إلى إسماعيل المبتلى وقد جعل روحه قرباناً في محراب الحبيب ، 

ثم انظر إلى يعقوب الولهان وكيف ابيضت عيناه حزناً على ابنه ، وانظر إلى يوسف في محاكمته وكيف تحمل العبودية والبئر والسجن ، وانظر إلى أيوب الصابر وكيف عايش الديدان والذئاب ، 

ثم انظر إلى يونس الهائم على وجهه وقد ظل في بطن الحوت فترة ، وانظر كذلك إلى موسى وقد كان فرعون في بداية الأمر له ظئراً والتابوت له مهداً ، وانظر إلى داود صانع الدروع وقد أحالت نار آلامه الحديد شمعاً طيعاً ، وانظر إلى سليمان صاحب السلطان وقد ضم ملكه الريح كما شمل الشيطان ، 

ثم انظر إلى زكريا المفعم بالحرقة قلبه وقد التزم الصمت فما نطق حتى ولو نشروا رأسه ، 

ثم انظر إلى يحيي وقد أهين أمام الجمع وقطعت رأسه ووضعت في الطست وكأنها قطعة شمع ، 

ثم انظر إلى عيسى أسفل المقصلة وكيف هرب من اليهود مرات ومرات ، 

ثم انظر إلى سيد الرسل محمد وأي جفاء وآلام لاقاها من كل ملحد ..

 فإن تنظر إليهم جميعاً تدرك أن التخلي عن الروح أمر يسير وما أكثر ما أقول حيث تلاشى ما سبق أن قلته ولم تتبق وردة واحدة من الغصن الذي غرسته ، وهكذا أصبحت قتيل الحيرة دفعة واحدة ولم يعد لي من حيلة غير العجز والمسكنة ، فيا من أصبح العقل في طريقه طفلاً رضيعاً لقد ضاع عقل الشيخ في البحث عنك ، وبالنسبة لي أنا المجنون متى أصل ؟ 

وإن أصل فإلى إدراك الله متى أصل ؟ فلست مدركاً بالعلم ولا بالعيان كما لن يصيبك النفع أو الضر بالفائدة أو الخسران ، فما أصابك نفع من موسى مطلقاً كما لم يصبك سوء من فرعون مطلقاً ، ويا إلهي من الأبدي غيرك ؟ 

ومن لا حد له ولا نهاية غيرك ؟ 

وإذا كان كل شيء له نهاية فكيف يكون أبدياً من لا يستمر إلى النهاية ؟

 يا خالقي لقد وقعت في الحيرة والاضطراب أما أنت فظللت في سترك خلف النقاب ، فلترفع النقاب ولا تحرق روحي ولا تعذبني أكثر مما أنا فيه فقد غرقت فجأة في أمواج بحرك فلتنقذني من كل هذا الاضطراب وتلك الحيرة ، 

فكم بقيت وسط لجة بحر الفلك ولكنني ظللت خارج تلك الحجب ، فمن هذا البحر المتلاطم أنقذني لقد ألقيتني فيه فمنه خلصني لقد سيطرت نفسي على كلي فإن لم تأخذ بيدي فالويل لي ، كما لوث العبث روحي ولم تعد لي طاقة لتحمل أي عبث فإما أن تخلصني من هذا الفساد وإلا فلتنه حياتي ولتوارني التراب ..

 الخلق يخشونك وأنا أخشى نفسي فما رأيت منك إلا كل خير وما رأيت من نفسي إلا كل شر ، لقد مت وأنا ما زلت على وجه الأرض فرد علي روحي يا واهب الروح الطاهرة ، المؤمن والكافر كلاهما مخضب بالدماء حيث وقع البعض في الحيرة ووقع الآخرون في الهوى فإن تدعهم فتلك هي الحيرة وإن تطردهم فهذا هو الضلال والهوى ..

 ويا إلهي لقد تخضب قلبي بالدم ، وأصبحت في حيرة كالفلك ، فوجهت أقوالي إليك ليل نهار فلا تتخل لحظة واحدة عن تحقيق طلبي وأنا في جوارك دواماً فأنت كالشمس وأنا كالطفل ، فيا واهب المحتاجين ماذا يكون الأمر ؟ 

لو أنك حفظت حق الجوار فبقلب مفعم بالأسى وبروح غاصة بالألم تنهمر دموعي كالمطر اشتياقاً إليك ، وإن كنت أعبر لك عن أسفي فلن أكف حتى أدركك ولو مرة واحدة ، فلتكن مرشدي إذا ما ضللت الطريق ولتعني إذا ما جئت في غير موعدي ، فكل من حاز البقاء في حضرتك أصبح سعيداً بعد أن فنى فيك وأصبح بنفسه غير مكترث ، فلست مستيئساً وقد قر قراري بجوار من يعين واحداً من كل مائة ألف .

 علق أحد الرجال وهو مكبل بالقيد والأصفاد في يديه ، وعندما حانت ساعة ضرب عنقه تعطفت عليه زوجة الجلاد بكسرة خبز ، وما إن أقبل الجلاد ممسكاً سيفه حتى رأى المسكين وكسرة الخبز في يده ، فقال له : من أعطاك أيها الحقير هذا الخبز ؟ 

قال : أعطتني إياه زوجتك ، فما أن سمع الرجل جوابه حتى قال : أصبح قتلك محرماً علينا لأن كل من قضم خبزنا لا يمكن رفع اليد بالسيف نحوه ولا يمكن أن تكره أرواحنا من أكل خبزنا فكيف يحل لي سفك دمك بسيفنا ؟

 إلهي لقد سرت في طريقك وأكلت من خبزك على خوانك ، وعندما يقضم شخص خبز آخر يكون له الكثير من الحقوق لدى صاحب الخبز ، ولما كنت أنت بحر الجود المالك لكل شيء وقد أكلت الكثير من خبزك فلتصفح عني ، ويا إله العالمين لقد أصبحت من العاجزين وعلى اليبس قدت سفينتي فخذ بيدي وكن ناصري فما أكثر ما وضعت يدي عجزاً على رأسي وكأني بعوضة ، فيا غافر الذنب ويا عالماً بعذري لقد احترقت مائة مرة فكيف تريد إحراقي ؟ 

وكم أشعر بالاضطراب حياء منك حيث ارتكبت كثيراً مما يتجافى مع المروءة فاصفح عني ..

 لقد أكثرت من الذنوب وأنا في غفلة ولكنك عوضتني بمئات الأفانين من الرحمة ، فيا إلهي نظرة منك إلي أنا المسكين فإن تر مني شراً يصبح خيراً إن تشملني بنظرة ، لقد أخطأت لأني جهول فاغفر لي ، ولترحم قلبي المهموم وروحي الثكلى ، إن كانت عيناي لا تبكيان في العيان فدموع روحي تنهمر شوقاً إليك في الكتمان ، 

ويا خالقي إن كنت قد ارتكبت الخير أو الشر فكل ذلك كان نتاج جسدي فاعف عن سقطتي وامح عني معصيتي ، لقد فنيت بسببك كما حرت من أجلك ، فإن كنت سيئاً أو خيراً فما لحقني كان بسببك وأنا بدونك نقصان في نقصان ولكنني أصبح كلا إن تشملني بعطفك ، فنظرة واحدة منك صوب قلبي المكلوم تخرجني من كل هذه الهموم ، وإذا ما تركتني دنيا فلن أكون شيا ، ولكن من أكون حتى أكون جديراً بك ؟ 

وكم يكفيني أن أكون عدماً بالنسبة لك وكم يرضيني القول بأني عبدك بل عبد لتراب كلب محلتك ، وأنا لك عبد بذول للروح كما لي وسم كالحبشان منك ، 

وكيف استشعر السعادة إن لم أكن عبداً لك ؟ وقد احترق قلبي حتى حظيت بالعبودية لك ، فلا تتخل عن عبدك الموسوم ولتضع حلقة العبودية في أذني عبدك .

 يا من لا ييأس أحد من فضلك سأظل دائماً موسوماً بحلقة عبوديتك وكل من لا يستعذب قلبه آلامك لا تجعله سعيداً أبداً لأنه ليس جديراً بك ، فزدني إيلاماً يا دوائي فبدون آلامك تموت روحي ، الكفر للكافر والدين للمتدين أما قلب العطار فله آفانين آلامك .

 إلهي أنت مدرك لتوسلاتي ومطلع أيضاً على ليالي المتشحة بالسواد لقد جاوزت أحزاني كل حد فهبني محفلاً للمسرة واشملني بنور يضيء ظلمتي وكن معيني ومعزيني في ذلك المأتم ولا معين لي غيرك فخذ بيدي وامنحني نعمة نور الإسلام وافن نفسي الكثيرة الآثام .

 إنني ذرة ضاعت وسط الظلال ، فما عاد لي من نصيب في هذا الوجود ، أنا ظل ولكني بفضلك شمس مضيئة حيث شملتني بشعاع أنوارك الوضاءة ولعلني ذرة دوارة أقفز وأسبح في ذلك الشعاع ولكن كيف أخرج من الكوة وأمضي في تلك العوالم الوضاءة ؟ وما العمل حتى لا تفارقني روحي وقد اتسم قلبي بالضعف ؟ فإن تفارقني روحي فلا معين لي سواك فلتكن رفيقي حتى دار القرار ، أما إذا خلا المكان مني دون أن تكون رفيقي فالويل لي ، كلي أمل أن تكون رفيقي وأن تكون في عوني على الدوام .

في نعت سيد المرسلين

 الأبيات من ( 244 - 387)

المصطفى سيد الدنيا والدين كنز الوفاء وصدر العالمين وبدرهما ، وهو شمس الشرع وبحر اليقين ونور العالم والرحمة للعالمين ، أرواح الطاهرين تراب لروحه الطاهرة وترابه محرر للأرواح من كل قيد إنه سيد الكونين وسلطان الجميع والشمس الهادية للأرواح وموصل الإيمان للجميع ، صاحب المعراج وصدر الكائنات ظل الحق وسيد شمس الذات ، كلا العالمين يمضيان في ركابه وترابه قبلة العرش والكرسي ، إنه سيد هذين العالمين وصاحب القدوة في الخفاء والعيان وهو أعظم الأنبياء وأفضلهم ومرشد الأصفياء والأولياء إنه المهدي إلى الإسلام الهادي السبل كما أنه مفتي الغيب وإمام الجزء والكل.

هو السيد الذي يفوق كل ما أقول والسباق في كل شيء على الكل وقد قال سيد الكونين عن نفسه : " إنما أنا رحمة مهداة " .

""إشارة إلى الحديث النبوي وأول ما خلق الله نوری ، فـ العطار يعتقد أن أول ما صدر عن الوجود هو النور المحمدي . ثم تم خلق جميع الموجودات من هذا النور المحمدي .""

استمد العالمان اسميهما من وجوده ووجد العرش راحته من اسمه وتم خلق كل شيء كقطرات ندى من بحر جوده كما ظهر العالمان إلى الوجود من طفيله .

نوره مقصد جميع المخلوقات وهو أصل الموجودات والمعدومات ، وما أن خلق الحق نوره المطلق حتى خلق من نوره مائة بحر من نور .

ومن أجله خلق الروح الطاهرة ومن أجله خلق الدنيا ، ولم يكن لخلقه من مقصود سواه ولا وجود لمن هو أطهر ذيلاً منه ، وأول ما بدا في عالم الغيب كان نوره الطاهر بلا أدنى ريب ، وبعد ذلك أصبح نوره خير علم فبدا من بعده العرش والكرسي واللوح والقلم ، فالعالم ما هو إلا علم من نوره الطاهر.

 وآدم وذريته ما هم إلا علم آخر منه ، ولكن ما إن بدا نور الله الأعظم حتى خر ساجداً أمام الخالق وقضى القرون ساجداً ووقف سنوات وأعماراً راكعاً ، فكان مشغولاً طوال سنوات بالقيام حيث قضى عمره كله في الصلاة والتشهد بالتمام ، ومن الصلاة وضح نور تلك البحار الزاخرة بالأسرار فكان فرض الصلاة على جميع البشر ..

هذا النور جعله الحق بمثابة الشمس والقمر ، بل جعله بلا قرين إلى الأبد ، وفجأة فتح أمام بحر الحقيقة طريقاً ظاهراً إلى ذلك النور فما أن رأى بحر الأسرار ذلك النور حتى هاج تيهاً ودلالاً ومن شدة الطلب دار حول نفسه سبع دورات ، فظهرت الأفلاك السبعة الدوارة ، وتحولت كل نظرة صوبت إليه من الحق إلى كوكب بدا في الأفق ساطعاً ، 

بعد ذلك استقر ذلك النور الطاهر ، حيث أصبح العرش العالي ، واتخذ اسم الكرسي ، ثم طلب العرش والكرسي أن يكونا صورة لذاته ثم ظهرت جميع الملائكة من صفاته ..

 ومن أنفاسه ظهرت الأنوار كما وضحت الأسرار في قلبه المفعم بالأفكار ، وسر الروح من عالم فكره وكفى .

""فيها إشارة إلى قوله تعالى : الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) سورة السجدة ""

إذ نفخ الله تعالى فيه نفخة من روحه ، وعندما اجتمعت تلك الأنفاس بتلك الأسرار انبثقت كثرة هائلة من الأنوار ، وما أن وصل طفيل نوره إلى جميع الأمم حتى صار مبعوثاً إلى الجميع ولا جرم .

وصار المبعوث حتى يوم الميزان إلى جميع الخلق في كل عصر وزمان وما أن وجه الدعوة إلى الشيطان حتى أسلم لهذا السبب الشيطان ، ووجه دعوته إلى الجن بإذن من الخالق فبدت لذلك ليلة الجن .

وجعل مقام الأبرار من مقام الرسل حيث دعاهم جميعاً في ليلة واحدة ، ودعوته كانت واضحة حتى للحيوان والعجل والضب على ذلك شاهدان .

ووجه دعوته إلى أصنام العالم فخرت أمامه هاوية ولا جرم .

وذلك الطاهر كان داعياً للذرات لذا سبحت في كفه الحصيات ، فمن من الأنبياء أدرك هذه المرتبة وهذا التكريم ؟ ومن منهم وجه دعوته إلى كل الأمم ؟

 ولما كان نوره أصل كل الموجودات ولما كانت ذاته مانحة كل ذات ، وجب أن تكون دعوته لكل العالمين ولكل المخلوقات في الخفاء والعيان فأقبل عليه الجميع كما أقبلت عليه أمته فكانوا جميعاً قاطفي ثمار همته ، ويوم الحشر يقول من أجل حفنة بلا عمل صالح هذه أمتي فترد بعد هذا شفاعته ، فيرسل الحق الفداء لهذه الأمة إكراماً لروح النبي نور الهدى ، وهو الحاذق في مزاولة أي عمل وعمله يكون على أجمل صورة يتم بها العمل ، وما دام لا يتعلق بشيء مطلقاً فهو لا يحزن على فقدان أي شيء مطلقاً ..

 في كنفه يوجد كل موجود ومن رضائه يتحقق كل مقصود ، إنه سر العالم في مخلوق ، وهو المرهم الشافي لكل قلب مكلوم ، وخاص به فقط كل ما يتصف به ، وأنى لشخص أن يرى مثل هذا ولو في الحلم ، لقد رآه الكل كما رأى هو الكل وهو كما يرى من قبل يرى من بعد ، وبه ختم الحق النبوة كما ختم عليه إعجاز الخلق والفتوة ..

 وجاءت دعوته من أجل الخاص والعام وأتم الله به نعمته على التمام ، ثم أعطى مهلة للكافرين في مجازاتهم بالعقاب حيث كف في عهده عن إرسال العذاب ، الدين والدنيا في كف همته كما وهب حياته من أجل أمته ، وسار في معراجه بالليل فوضح أمامه سر الكل ، وأصبح ذا القبلتين لسمو رفعته وشأنه وظلاً بلا ظل يعلو الخافقين ، وتلقى من الحق أعظم كتاب ، فوجد الاحترام والتقدير من الجميع ..

 زوجاته أمهات المؤمنين ومعراجه تعظيم للمرسلين ، ومن خلفه سار الأنبياء إذ هو رائدهم وعلماء أمته كالأنبياء في مرتبتهم ، وتبجيلاً له ذكر الحق في التوراة والإنجيل اسمه .

""فيها إشارة إلى قوله تعالى : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) سورة الأعراف ""

واستمد الحجر منه المنزلة والرفعة ، فأطلق عليه اسم يمين الله .

ولما له من حرمة أصبح ترابه قبلة ، وما أصاب أمته مسخ ونسخ ، وبعثه قضى على الأصنام وأمته هي خير الأنام.

 والقطرة من ريقه أحالت البئر الجاف يفيض بالماء الزلال في عام القحط والجفاف ، وفلق القمر بأصبعه كما توقفت الشمس عن الإشراق تلبية لأمره ، وله بين كتفيه خاتم النبوة واضح وضوح الشمس .

 وسلك الطريق قاصداً خير البلاد ، فهو خير الخلق في خير القرون .

 واستمدت الكعبة منه التشريف فأصبحت بيت الله وكل من دخلها أصبح آمناً ، وتسلم جبريل الخرقة من يده فبدا مرتدياً الرداء والجبة ، وعظم شأن الأرض في عهده ، حيث حظيت بالمساجد وجعلت كلها طهوراً ..

 ومع أنه أدرك أسرار كل شيء إلا أنه كان أمياً حيث لم يقرأ في أي كتاب ، ولما كان كلامه نابعاً من أقوال الحق فإن عهده أصبح أعظم عهد وكفى ، ويوم الحشر سيفنى الجميع عداه وستخرس كل الألسنة إلا لسانه ، وكم يتشوق حتى اليوم الآخر حيث يتبدل الحال أن يتلقى من الله أي سؤال ، وإذا غاص قلبه في بحر الأسرار انخرط في الصلاة والأذكار ، فكان يقول : أرحنا يا بلال حتى نخرج من ضيق هذا الخيال ، وإذا ما سيطر الاضطراب عليه مرة أخرى كان يقول : كلميني يا حميراء . ""يقصد السيدة عائشة ""

 إذا نظر العقل إلى كل ما بدا منه ، فلا أعلم أكان يحمل روحاً واحدة أو مائة ، وليس للعقل طريق في خلوته ، كما أن العلم لا يعرف وقت حدوثها ، فإذا ما جمعته خلوة أنس بالخليل ، فمهما أجهد جبريل نفسه فلن يسمح له بالمثول ، وعندما بدت سيمرغ روحه ، أصبح موسى من الدهشة شبيهاً بالفاختة ..

 حينما تقدم موسى صوب بساط الجناب الأعلى ، جاء أمر الحق بأن اخلع نعليك ، وما أن اقترب وأصبح بعيداً عن نعليه حتى أصبح غارقاً في النور بالوادي المقدس .

""فيها إشارة إلى قوله تعالى : فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) سورة طه ""

أما في المعراج فكان الرسول سمع ذي الجلال يسمع صوت نعلي بلال ، وعلى الرغم من أن موسى ملك وسلطان فما سلك الطريق هناك وفي قدميه النعلان.

فانظر أي عناية حظى به تابعه في بلاط الحق وذلك إكراماً له حيث جعل تابعه خليقاً بمحرابه وسمح له بسلوك الطريق إليه مرتدياً نعليه .

فما أن رأى موسى العمراني تلك المنزلة وما لتابعه من قربة حتى قال : إلهي لتجعلني من أمته واجعلني تابعاً لهمته .

ومع أن موسى أراد ذلك على الدوام فقد أدرك عيسى سمو هذا المقام ، فلا جرم أنه عندما يترك الخلوة.

 سيدعو الخلق لاتباع دينه ويهبط من السماء الرابعة إلى الأرض واضعاً جبهته على ترابه وروحه تحت أمره وهكذا أصبح المسيح تابعه لذا أسماه الحق باسم المبشر .

 وإن كان لإنسان أن يتكلم فهو أنت وإن تقل كيف رحلت عن هذه الدنيا وكيف عدت ، لحللت مشكلاتنا واحدة واحدة ، وما بقي في قلوبنا أدنى ريبة ، فما رجع شخص قط من البادين والخافين سوى محمد عليه السلام في كلا العالمين ، وما توصل هو إلى إدراكه هناك بالاطلاع والرؤية ، متى سمح لإنسان أن يدركه ؟ 

فهو السلطان والكل أتباعه وهو على الدوام الملك والكل خيله وحشمه وحينما جاء القسم " لعمرك " تاجاً يعلو مفرقه سارع الخلق بالمثول أمام بابه ، وما أن امتلأت الدنيا برائحة شعره المسكية ، حتى أصبح البحر من العطش صادي الشفة ، ومن الذي لا يتعطش لرؤيته وقد شغفت به الحجارة والخشب ؟

وما أن صعدت روح بحر النور حتى ترددت أنات الحنانة بعيداً بعيداً . ""اسم عمود في المسجد النبوي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرتكز عليه عندما كان يخطب في مسجده ""

وغصت السماء المرفوعة بلا عمد بالنور وغرق هذا العمود في الحزن لفراق الرسول ..

 كيف يتأتى لمثلي أن يصفه وجبيني يتصبب عرقاً كالدماء من شدة خجلي ؟

إنه فصيح العالم وأنا أبكمه فكيف أستطيع شرح حاله ؟

ومتى كان وصفه يليق بشخص مهين ؟ فوصفه وقف على خالق العالم وحده ..

 يا من الدنيا بما لها من منزلة تراب لك ومائة روح دنيوية تراب لروحك الطاهرة قد تحير الأنبياء في وصفك كما تملكت الحيرة العلماء والعارفين في كنهك ، ويا من بسمتك شمس وضاءة ، وبكاؤك أمر للسحاب بالإمطار ، كلا العالمين غبار حول تراب قدمك ، ولقد تدثرت بدثار يا رفيع المكانة فارفع رأسك أيها الكريم من تحت الدثار ثم امدد قدميك على قدر هذا الدثار ..

 لقد تلاشت كل الشرائع أمام شريعتك وضاعت أصولها جميعاً أمام مذهبك ، وما دام شرعك وحكمك في الوجود فاسمك مقترن باسم الله صاحب الجود ، وكل نبي أو رسول سارع بالدخول في دينك من كل سبيل .

فإذا لم يكن قد أتى من هو أفضل منك من قبل فلن يأتي من بعدك أحد ولا ريب ، أنت الآخر والأول في هذا العالم وأنت السابق واللاحق معاً ، ولن يصل شخص قط إلى ترابك كما لن يصل أي شخص لمثل هذا العز كذلك ..

 إن سيادة العالمين إلى الأبد وقف على المرسل أحمد ، أما أنا يا رسول الله فما أكثر عجزي إنني صفر اليدين وقد علا التراب مفرقي ، أنت المعين للضعفاء في كل لحظة ولا معين لي في كلا العالمين سواك ، فلتشملني بنظرة أنا المهموم ولتصرف أموري أنا المغموم.

 وإذا كنت قد أضعت عمري في المعصية فإنني الآن قد تبت فاسأل الحق لي المعذرة ، وإن كان لي أن أخاف من " لا تأمن " فلي السلوى في قوله : " لا تيأسوا " .

إنني أقضي ليلي نهاري في أحزان وهموم حتى تكون شفيعي ولو للحظة واحدة ، فإذا جاءت من قبلك الشفاعة دمغت المعصية بخاتم الطاعة .

فيا شفيع التعساء لتتلطف بنا ولتشعل شمع شفاعتك حتى أتقدم كالفراشة بين أمتك خافق الجناحين أمام شمعك ، فكل من يرى نور شمعك ساطعاً يهب كالفراشة روحه طائعاً .

 كفى عين الروح لقاؤك وكفى كلا العالمين رضاؤك .

حبك دواء لآلام قلبي وشمس طلعتك نور روحي وعلى بابك أبذل روحي وأنثر جواهر كلامي.

وكل الجواهر التي تناثرت من لساني نثرتها إكراماً لك من صميم روحي وإن كنت أنثر الجواهر من صميم روحي .

فلأن روحي تستمد منك صفاتها ، فقد ظلت روحي بلا سمة حتى وجدت سمتها منك وهكذا أصبحت صفاتي مستمدة منك ..

 يا صاحب القدر الرفيع هذه حاجتي فهلا تفضلت علي بنظرة فإن ظللنا لا نحظى بهذه النظرة فسنظل دواماً في حيرة ، فلتنقذني يا طاهر الذات من هذا التفكير والشرك والترهات .

ولا تجعل السواد من الذنوب يجلل وجهي وبحق المشاركة في الاسم أسألك أن تكون في عوني.

إنني حدث في طريقك وقد غرقت فيه وأحاطت بي المياه العكرة ، وكلي أمل أن تأخذ بيدي من تلك الحمأة ، وتهدني سواء السبيل ثانية ..

 

حكاية عطف الأمومة

الأبيات من (388 - 405)

سقط أحد الأبناء في اليم فتملك الاضطراب روح الأم ، وأخذ الطفل يضرب بيديه ورجليه في حيرة حتى حمله الماء صوب التيار ، فواصل الماء اندفاعه والطفل يتدحرج فوق سطحه .

وما أن رأته الأم على هذه الحال حتى تمنت أن تكون وسط التيار ، ثم ألقت بنفسها وجذبته وفي نفس اللحظة ضمته وسارعت بإرضاعه واحتضنته ..

يا من جعل عطف الأمومة دليل الشفقة لتدرك قارباً يهوي إلى القاع في تلك اللجة ، فما أن سقطت في دوامة الحيرة حتى وقعت في لجة الحسرة .

فبقيت مضطرباً كذاك الطفل في الماء أضرب بيدي ورجلي من الاضطراب ..

أيها المشفق على فتيان الطريق لتترفق بنا ولتحفظنا بكرمك من دوامة أنفسنا المتردية ، ولترحم قلوبنا المفعمة بالحرقة ، وأعنا على رؤية ما نحن فيه من دوامة ، ولترضعنا من در كرمك ولا ترفع من أمامنا خوان جودك ..

يا من يسمو فوق الوصف والإدراك ويامن أطهر من وصف الوصافين ، ما أدركت أي يد أهدابك فلا جرم أن نكون أتباعك.

 أما أتباعك فهم أحباؤك الأطهار ، وأهل العالم أتباع أتباعك ومن لا يصبح لأحبائك تابعاً فإنه عدو لأصحابك .  أولهم أبو بكر وآخرهم المرتضى .

وهم الأركان الأربعة لكعبة الصدق والصفا ، أحدهم مضرب المثل في الصدق ، والآخر في العدل شمس مشرقة ، وأحدهم بحر في الورع والحياء ، والآخر سلطان أهل العلم والسخاء ..

في مناقب أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه

الأبيات من ( 406 - 418)

السيد الأول هو صاحب الرسول " وثاني اثنين إذ هما في الغار " ، إنه صدر الدين والصديق الأكبر وقطب الحق وله في كل شيء على الجميع السبق ، وكل ما ألقى به الحق من الحضرة العلية في صدر المصطفى ألقى به أيضاً في صدر الصديق فلا جرم أن ألقى الله في قلبه التصديق ، وحينما خلق الله الدنيا والآخرة بلفظة واحدة ، التزم أبو بكر الصمت وأحكم إغلاق فمه ، وكان يقضي ليله حتى الصباح في سجود دائم ، كما كان يتنهد آناء الليل مما به من حرقة ، وسرت أنفاسه معطرة حتى بلاد الصين ، فعطرت دماء غزال التتار ، لذا قال الرسول شمع الشرع والدين " اطلبوا العلم ولو بالصين " .

 

ومكانته نابعة من حكمته ، وما كان لسانه ينطق إلا بكلمة هو ، فحكمته لم ترد على أي لسان وغير اسم الله لم ينطق لسانه .

لابد للإنسان من اعتبار حتى يكون ذا وقار إذ كيف تتأتى جلائل الأعمال من عديم الوقار ، فما أن رأى عمر مقدار شعرة من قدره حتى قال : ليتني كنت تلك الشعرة على صدره فإن قبلت أنت ثاني الإثنين فإنه ثاني الإثنين بعد الرسول .

في مناقب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه

الأبيات من (419 - 430)

سيد الشرع وشمس المتدينين ظل الحق الفاروق الأعظم شمع الدين ، من ختم به الحق العدل والإنصاف ، وكان له في الفراسة قصب السبق على الجميع ، وأول من يسمح له بعبور الصراط هو عمر كما قال الرسول ، وهو أول من يتسلم خلعة من دار السلام فما أعظمه من صاحب مقام سام ، وما أن وضع الرسول يده في يده في البداية حتى حمله معه إلى حيث يوجد في النهاية .

 

بعدله وصل أمر الدين إلى منتهاه ، كما وجد النيل المضطرب راحته إنه شمع الجنة ولا وجود في أي جمع ظل لأي شخص أمام هذا الشمع ، وعندما تتلاشى الظلال أمام نور الشمعة تسارع الشياطين بالهرب بعيداً عنها ، وإذا تكلم فالحقيقة على لسانه وتخرج سافرة من قلبه ، وعندما رآه النبي يحترق في ضراعة قال : كم هو جدير بأن يسمى سراج الجنة ، فأحياناً كانت روحه تحترق من ألم العشق كما كان لسانه يحترق من نطقه بالحق .

في مناقب أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه

الأبيات من (431 - 443)

سيد السنة والنور المطلق بل من استحق لقب سيد النورين ، ذلك الذي غرق في بحار العرفان إنه صدر الدين عثمان بن عفان وتلك الرفعة التي أحرزتها راية الإيمان قد استمدتها من أمير المؤمنين عثمان ، وذلك الرونق الذي حصلته عرصة الكونين قد استمدته من القلب الوضاء لذي النورين ، إنه يوسف الثاني كما قال المصطفى وهو بحر التقوى والحياء وكنز الوفا ، كان شديد الاهتمام بأمور الأهل حتى جعل روحه فداء لهم ، لذا ما أن تولى الأمر حتى قطعوا رأسه على الرغم من شدة اهتمامه بوصل الرحم .

على عهده زاد في الدنيا الفضل والهداية ، وبعدله انتشر الإيمان وفي حكمه ساد القرآن ، قال سيد السادات : إن الفلك يظل دائماً خجلاً من عثمان الملك كما قال الرسول كاشفاً للحجاب إن الحق تعالى لن يجري مع عثمان أي حساب .

وفي يوم البيعة لم يكن موجوداً لذا وضع الرسول يده بدلاً من يده ، فقال أحد الحاضرين كم كنت أود أن أكون غائباً مثل ذي النورين لأحوز هذا التكريم ، فقال له الرسول شمس الدنيا والدين : إن له أن يفعل بعد هذا كل شيء دون خوف ..

في مناقب أمير المؤمنين علي المرتضى رضي الله تعالى عنه

الأبيات من (444 - 456)

سيد الحق وزعيم الصادقين منبع الحلم وبحر العلم وقطب الدين ، ساقي الكوثر والإمام الهادي ابن عم المصطفى وأسد الباري ، إنه المرتضى المجتبى قرين البتول السيد المعصوم صهر الرسول ، وفي بيان كشف الطريق يكون صاحب سر " سلوني " ، وكم يستحق زعامة الدين إذ هو المفتي الحق بكل يقين .

إن علياً فريد في اطلاعه على أسرار الحق وليس للعقل أمام علمه أدنى شك ، وقد قال الرسول " أقضاكم علي " ، كما أن علياً مشغول في ذات الله وإذا كان أحد الأشخاص قد استرد الحياة بنفخة من عيسى فإن علياً قد أعاد اليد المقطوعة بنفخة منه ، كما أصبح صاحب القبول محطم الأصنام بالكعبة وهو معتمد على كتفي الرسول ، في ضميره تكمن مكنونات الغيب ومن بينها سر خروج اليد البيضاء من الجيب ، وإن لم تتضح له اليد البيضاء فكيف كان يستقر ذو الفقار ؟ وأحياناً كانت الثورة تتملكه لما آل إليه حاله ، كما كان يقول سره أحياناً للبئر ، وما وجد له قرين في جميع الآفاق فقد جال في الخلود وما وجد له صفياً بين الخلق .

في تعصب أهل السنة والشيعة

الأبيات من (457 – 502)

يا من وقعت أسير التعصب وظللت أبداً أسير البغض والحب إذا كنت تفاخر بالعقل واللب فكيف تنطق بعد ذلك بالتعصب ؟ 

أيها الجاهل لا رغبة في الخلافة إذ كيف تتأتى لدى أبي بكر وعمر مثل هذه الرغبة ؟! 

لو كانت لديهما الرغبة وهما صاحبا قدوة لأعطى كل منهما لإبنه من بعده الولاية ، ولو كانا قد سلبا الحق من المستحقين لكان منعهما واجباً على الآخرين ، ولكن ما قام هؤلاء بمنعهما بل تركوا القيام بهذا الواجب لمن انتخب ، وإذا كان أحد لم يتقدم لمنع الصديق فلك أن تكذب الجميع وتلزم جانب التصديق ، أما أن تكذب صحابة الرسول فإنك بذلك تنكر أحاديث الرسول ، فقد قال : أصحابي نجوم زاهرة ، وأفضل القرون قرني ، وأفضل الخلق صحابتي وأقربائي ومن حظوا بصداقتي ، وإذا كان الأفضل لديك أسوأ فكيف يمكن أن يقال إنك صاحب نظر ؟ وكيف تجيز لصحابة الرسول أن يتقبلوا بقلوبهم رجلاً غير صاحب قبول أو أن يجلسوه مكان الرسول فمثل هذا الباطل لا يجوز من صحابة الرسول ، وإذا كان اختيارهم خاطئاً فاختيار جمع القرآن يكون كذلك خاطئاً ، إن كل ما يفعله صحابة الرسول هو الحق ولا يفعلون إلا ما يليق بالحق ، فإن كنت تنكر على أحدهم تولي الأمر فإنك تكذب بذلك ثلاثة وثلاثين ألفاً ..

كل من لا يعمل إلا متوكلاً على الله هو من يعقل بعيره ويتوكل ، وكيف يليق بمن يتبع هذا المنطق أن يسلب المستحقين أي حق فتخل عن هذا التفكير وإذا جاز أن تكون الرغبة لدى الصديق لما قال أقيلوني على الإطلاق ، ولو قدر أن لدى عمر قدراً ضئيلاً من الرغبة لما قتل ابنه ضرباً بالدرة .

كان الصديق رجل طريق دائماً ومتخلياً عن الكل وللأعتاب كان ملازماً ، وكم نثر المال والعافية والروح ، فالزم الحياء فمثل هذا الرجل لا يستمريء الظلم ، وقد تطهر من قشور الرواية لأنه كان في لب الدراية ، فمن يتعدى على منبر الدين ليس للرسول أن يجلسه مكانه وإن يدرك شخص هذا كله فكيف يستطيع القول إنه لا حق له في الخلافة ؟

وعمر الفاروق المتسم بالعدل ، كان يخلط الآجر أحياناً ويقتلع الشوك أحياناً كما كان يحمل كومة الحطب على الكتف ويمضي بها وسط المدينة ، أما يومه فيقضيه في رياضة حبس النفس وطعامه لا يتعدى سبع لقيمات وما كان على خوانه غير الملح مع الخل وما كان خبزه من بيت المال وإذا نام فالحصى فراشه والدرة وسادة رأسه وآناء الليل كان يحمل القربة كالسقا ليوصل الماء إلى العجوز كما كان يقضي الليل يقظاً قلبه لتفقد جنده ..

ذات مرة قال لحذيفة : يا صاحب النظر ألم تر مطلقاً نفاقاً في عمر ؟ فمن يبصرني بعيبي في مواجهتي إنما يتحفني بهدية ، فإن كان قد تولى الخلافة خطأ فلم كان نصيبه أسمال الدراويش ؟

وكم افترش مرقعاً من مئات القطع حيث عدم الرداء والكليم ، ومن حكم بهذه القدرة لا يتهم مطلقاً بالتحيز والعصبية ، ومن كان يحمل الدرة أحياناً والطين أحياناً لا يمكن أن يتحمل هذه الشدائد جزافاً ولو قدر وساس الخلافة وفق الهوى لأجلس نفسه في مرتبة السلطنة ، وعلى أيامه خلت مدن المنكرين من الكفر خوفاً منه فإن كنت تتعصب من أجل هذا فلست منصفاً ، ولتمت بهذا القهر لقد مات بالسم أما أنت فستموت بقهره وإن لم تذق سمه ..

أيها الجاهل الجاحد للحق لا تجعل من نفسك مقيماً للخلافة ، فإن كانت نفسك قد سيطرت عليك فستسبب آلاف الآلام والأحزان لك ، وإذا أحد غيرهم قد تولى الخلافة لسيطرت على عهده الآفات والأزمات ، وما دامت الروح تسري في الجسد فليست عهدة الخلق في الأعناق أمراً هيناً ..

حكاية أويس مع الخليفة عمر

الأبيات من (503 - 511)

جاء عمر مضطرباً أمام أويس وقال : لقد ألقيت الخلافة على كاهلي ، فإن يوجد لهذه الخلافة مشتر أبعه إياها ولو بدينار .

وعندما سمع أويس من عمر هذا القول ، قال : صه ، وتخل عن هذا الهزل ، واطرح عنك هذا ، فكل من يريد قطع الطريق ، وجب عليه أن يجد فيه .

عندما علم الناس برغبة أمير المؤمنين في التخلي عن الخلافة صاح الجميع في نفس الآونة ، وقالوا : أيها القائد نستحلفك بالله ألا تجعل الخلق حيارى ، لقد أوكل الصديق الخلافة إليك عهدة وقد تم هذا عن تحقيق لا عن عدم بصيرة ، فإن تعص أمره فكم تتألم روحه بهذا التصرف .

ما أن سمع عمر هذه الحجج المحكمة حتى أصبح التخلي أمراً صعباً بالنسبة له ..  

قول في شهادة المرتضى علي رضي الله عنه وكرم وجهه

الأبيات من (512 - 522)

ما أن فاجأ سيء الحظ الجاهل المرتضى بطعنة ، حتى سارع الجمع بتقديم جرعة ماء للمرتضى ، فقال : أين قاتلي ؟

لتقدموا له الماء أولاً ثم يأتي بعد ذلك دوري إذ سيكون هذا القاتل رفيقي ، فقدموا الجرعة له ، فقال القاتل : أي عذاب هذا ؟

أيريد الحيدر قتلي بالسم هكذا ؟

فقال المرتضى : بحق الخالق لا بأس أن تشرب جرعتي على الإطلاق ولن أخطو خطوة واحدة أمام الحق في جنة المأوى دون أن تكون في صحبتي ..

إذا كان المرتضى لم يمض صوب الجنة دون أن يكون معه قاتله ، فمن تكون شفقته إلى هذا الحد مع عدوه كيف يحقد على صديقه ؟

ومن يغتم هكذا لعدوه كيف تظن به معاداة العتيق ؟

وما دامت الحياة فلن يخلق الله حبيباً للصديق مثل علي ، وما أكثر ادعاءك بأن المرتضى قد ظلم ومن تولى الخلافة قد حرم .

فإذا كان علي أسد الله وتاج السر فلا يمكن أن يقع ظلم أيها الغلام على الغضنفر .. 

حديث سيدنا محمد المصطفى عليه الصلاة والسلام

الأبيات من ( 523 – 538)

نزل المصطفى بمكان ما بالطريق وقال : أحضروا الماء للجيش من البئر ، فذهب رجل ثم عاد مسرعاً .

وقال : إنه مليء بالدم لا بالماء وتساورني الظنون بأن المرتضى قال للبئر أسراره من شدة ما يعاني ، وما أن سمع البئر ذلك حتى خارت قواه فلا جرم إن غص بالدماء ونضب ماؤه ..

من يختلج في روحه مثل هذا الاضطراب كيف يتسع قلبه لحقد ولو بمقدار نملة ؟ أما روحك فاضطرابها وليد التعصب وما كان للمرتضى روح كهذه فالزم الصمت ولا تعقد القياس بينك وبين المرتضى ، لأنه كان بالحق عالماً وفيه غارقاً كما كان في العمل مستغرقاً ومن خيالك هذا متضايقاً ، ولو كان مثلك حقوداً لحارب خيل المصطفى ، ولم لم يتعارك علي مع أي شخص وقد كان أكثر منك شجاعة ؟

وإن لم يكن الصديق على حق ويا للعجب وكان علي صاحب حق لكان إياه قد طلب ..

حينما تقدم جيش أم المؤمنين لمجابهة علي بما لا يتفق والدين ويثير الحقد والضغينة ، اضطر أن يدفع حيدر هؤلاء القوم بالقوة بعد أن اضطر لمثل هذا الهراك والجدال ، ومن استطاع معاركة الإبنة كان يعلم كيف يتعامل مع الأب ..

أنت لا تعرف أيها الحدث عن علي أي شيء إلا العين واللام والياء ، وبسبب هواك لا يقر لك قرار ، أما هو فقد استراح حيث تكون مئات الأرواح له نثاراً ..  

حكاية ماذا أصابك يا علي ؟

الأبيات من (539 - 541) 

كلما قتل أحد الصحابة سيطر الغم على الحيدر .

وكان يقول : لم لا أقتل أنا كذلك ؟

لقد صغرت الروح العزيزة في عيني .

فكان الرسول يقول له : ماذا أصابك يا علي ؟

لقد تولى الله رعايتك ..

 

حكاية بلال ابن رباح

الأبيات من (542 - 548)

ذات يوم ضرب بلال على مكان واحد من جسده مائة عصا وجلدة فسالت منه الدماء بسبب تلك العصي العديدة ولكنه كان دائم الترديد لكلمة : أحد أحد ..

إذا ما غمرك خضم من الذلة فما بقي وقتها حب أو بغض في طريقك ، ومن ابتلي بالذلة فمن الخطأ أن يتعامل مع هؤلاء القوم وما داموا هم هكذا وأنت هكذا فستظل حيران دائماً هكذا .

لقد نجا عبدة الأصنام من أذاك أما الصحابة فقد أوذوا من لسانك فلا تسود بالفضول صحيفتك لأنك تفوز إن حفظت لسانك . 

حكاية  كن رجل حق كرابعة

الأبيات من (549 - 570 )

سواء كان المقصود علياً أم أبا بكر الصديق فروح كل منهما غارقة في بحر التحقيق .

فعندما توجه المصطفى صوب الغار نام المرتضى تلك الليلة في فراشه ، وهكذا أراد الحيدر أن يقدم روحه نثاراً ليحفظ روح الرسول الأكبر كما خاطر الصديق رفيق الغار بروحه .

فكلاهما قدما الروح نثاراً في طريقه وكلاهما نثرا الروح حفاظاً عليه ، فتعصب في الرأي على أنهما بمنطق الرجال قدما الروح نثاراً في سبيل الحبيب ، فإن كنت رجلاً كهذا أو ذاك فهل لك أن تتحمل آلام هذا أو ذاك ؟

فلتكن مثلهما ولتسلك طريق بذل الروح ، وإلا فالزم الصمت وتخل عن هذا الهزل ..

لعلك أيها الغلام تعرف علياً وأبا بكر ، ولكنك تجهل حقيقة الله والعقل والروح ، فطهر الرأس بحق هذه الواقعة وكن رجل حق آناء الليل وأطراف النهار كرابعة ، فما كانت إمرأة واحدة بل إنها بمثابة مائة رجل.

فكم تحملت الآلام من الرأس إلى القدم ، وكانت على الدوام غارقة في نور الحق متطهرة من الفضول وفي الله مستغرقة .

سألها سائل قائلاً : يا صاحبة القبول ماذا تقولين في صحابة الرسول ؟

قالت : إن كنت لا أعرف عن خالق البشر أي سر فكيف أستطيع الإدلاء عن الصحابة بأي خبر ؟

وإن لم أفني الروح والقلب في الحق فلن أكون لحظة مهتمة بالخلق ، وكم أصابت أشواك الطريق عيني فسالت منها الدماء وأنا في غفلة ، ومن أصابته مثل هذه الآلام كيف يجول بقلبه اهتمام بأي رجل أو إمرأة ؟

وإن كنت لا أعرف من أنا فكيف أعرف الآخرين بالقياس ؟

أنت في الطريق لست إلهاً ولا رسولاً فاغلل يدك عن هذا الرد والقبول وتطهر من التبرأ والتولي .

وكن عبداً مطيعاً في هذا الطريق وما دمت حفنة من تراب فتحدث عن التراب واعتبر الجميع أطهاراً ولتطهر قولك .. 

قول في شفاعة الرسول عليه السلام من أجل أمته

الأبيات من (571 - 592)

قال سيد العالم للخالق لتكل إلي أمر أمتي حتى لا يطلع أحد مطلقاً ذات لحظة على ذنوب أمتي.

فقال له الحق تعالى : يا صدر الكبار إن تطلع على تلك الذنوب الكبار فلن تستطيع تحملها وتظل بعد ذلك حائراً ويعتريك الخجل وتختفي من بين الكل ، فإن سمعت قول أهل المجاز لطلبت أن يبعث بك مرة أخرى وإن تبحث عن طاهر ذيل واحد فما أكثر ما تجد من خطائين في هذه الأمة ، ولن تستطيع تحمل كل هذه الذنوب فاترك أمر أمتك للرب ، وإن كنت ترغب في ألا يعلم أحد قط شيئاً عن ذنوب أمتك فإنني يا عالي المقام أرغب في ألا تعرف أنت كذلك ذنوب أمتك ، فلا تضع قدمك بين الجمع وانتبذ لك مكاناً واترك أمر الأمة لي آناء الليل وأطراف النهار .

إذا كان أمر الأمة ليس في متناول المصطفى فكيف يسير هذا الأمر بحكمك في الطريق السوي ؟

فلا تكن مطلق الحكم وكف عن القول وتخل عن التعصب واعقد العزم على قطع الطريق واسلك نفس الطريق الذي سلكوه من قبل وامض في طريقك منشداً السلامة ، وإما أن تضع قدمك في طريق الصدق كالصديق ، 

وإما أن تتخير العدل مثل عمر الفاروق ، أو كن مثل عثمان مثالاً للحياء والحلم ، أو مثل الحيدر بحراً للجود والعلم ، وإلا فلا تنطق بحرف واقبل نصيحتي وامض ولتحث الخطى واكبح جماح نفسك وامض إنك لست رجل صدق وعلم الحيدر ليس موفوراً لديك ، 

إنما أنت أسير نفسك وفي كل لحظة تزداد كفراً فاقتل نفسك الكافرة وكن مؤمناً فإن قتلت النفس تكن بعد ذلك آمناً ، ولا تقبل على هذا الفضول بدفع من تعصبك ولا تروج هذه الرسالة النابعة من نفسك ، وليس من حقك أن تطلق الكلام على أعنته فكيف يحق لك أن تتكلم عن صحابة الرسول ؟

 إلهي ليس لدي هذا الفضول فلتحفظني من التعصب على الدوام ولتطهر روحي من التعصب وإلا فلا كانت هذه القصة في ديواني ..

التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: