الثلاثاء، 1 سبتمبر 2020

22 - الهوامش والشروح 3440 - 3780 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الخامس ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

22 - الهوامش والشروح 3440 - 3780 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الخامس ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

الهوامش والشروح 3440 - 3780 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الخامس ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

شرح حكاية ذلك الأمير الذي قال للغلام أحضر خمرا فذهب الغلام 
 ( 3439 ) : الحكاية التي تبدأ بهذا البيت قال فروزانفر : أنها تشبه حكاية واردة في إحياء علوم الدين للغزالي ، بطلها أبى الحسين النوري الذي حطم دنان خمر كانت تحمل للمعتضد العباسي ، ( مآخذ / 187 ) ، وبالطبع عدل مولانا في تفصيلاتها كعادته في كل القصص التي ينقلها عن المصادر لكي يعبر من خلالها عن معان خاصة به ، والعنوان به بعض التناقض ، فإذا كانت الخمر حلالا في ذلك العهد الذي يصفه بأنه عهد عيسى فما وقوف الزاهد في الشارع للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وكسره لجرة الخمر التي يحملها الغلام من هذا المنطلق ؟ !

وهناك بالطبع من فقهاء الإسلام من قال بأن الخمر محرمة في الأديان الآخر على أساس أن تحريمها في الإسلام لأنها تذهب العقل وهذا شأنها في كل العصور ( جعفري :

12 / 475 - 476 ) ، ولابد أن مولانا جلال الدين كان يقصد خمرا أخرى لكي يصف الأمير معاقر الخمر بأنه " حلو الروح " ، وكهف المساكين و " المخمورين " ، ومشفق وسخى القلب 


“ 590 “

في حين أننا بتقدم الحكاية سوف ندرك من أخلاق هذا " الأمير " ، وتصرفاته ما يناقض كل هذه الصفات التي وصفه بها ، وسوف تقدم له النصائح بالبعد عن الخمر ، ويظل موقف مولانا جلال الدين ممن يجلسون على كرسي الإمارة " واضحا " كما عبر عنه في الكتاب الثالث ( الأبيات التي تتحدث عن طغيان فرعون وعن باب الحطة الذي يذل الجبارين وفي الكتاب الرابع عن الوزير المقتر البخيل ، وحيثما عن له الحديث عن جبارى الأرض ) ،

والأمير الذي يقدمه هنا والجو العام للقصة يشير إلى بعض أمراء المسلمين الذين ضربوا بتعاليم الدين عرض الحائط وعله غلف الحكاية بعهد عيسى عليه السّلام لكي يبعد الشبهة عن نفسه ، فأغلب الظن أنه كان يصف واحدا من أمراء السلاجقة العديدين الذين كانوا يحكمون إمارات الأناضول المختلفة في عهده وعندما وصفه بأنه " كهف المخمورين " ، كان يسخر منه .

( 3446 - 3453 ) : أي خمر هذه يا ترى التي يجد منها العوام والخواص الخلاص ! ! غير تلك الخمر الإلهية التي تقوم جرعتها بفعل آلاف الدنان من الخمور الأخرى ، ففي هذه الخمر الإلهية مادة خفية ، تشبه تماما تلك القوة الروحية التي تجعل من رجال الله وهم متلفعون بعباءاتهم سلاطين على الدنيا وملوكا ، لا تنظر إذن إلى خرقهم الممزقة ، إنها دريئة تخفيهم عن أعين العوام ، تحميهم من أذاهم ، كما يسود الذهب لكي يحمى من اللصوص ، انظر إلى الجواهر ، يقوم الجواهري بتسويدها حتى لا يتعرف اللص عليها ( انظر الكتاب الرابع ، الأبيات 2171 - 2173 ) ،

ومن هذا القبيل دفنت الروح في الجسد كما تدفن الكنوز في الخرابات ، وذلك من أجل حجبها عن كل لعين لاحق له فيها ، ومن هنا كان جسد آدم سدا أمام نظر إبليس إليه ، فنظر إليه ولم يبصر روحه ( انظر الكتاب الثالث ، الأبيات 2301 - 2302 ) .

( 3455 - 3460 ) : ينطلق مولانا في وصف الخمر التي اشتراها الغلام بما يوحى بأنه لم يكن يقصد تلك الخمر الدنيوية " فأراد بالأمير الروح وبالغلام النفس ومن الجرتين العقل والقلب ومن الرهبان أرباب الرياضات والمجاهدات من أهل الإسلام ، ولو انبعث نور العشق الإلهى من قلب سلطان الإرشاد وأرشد المريد لوضع الله على رأس المريد تاج الكرامة وأعطاه الدرجات العاليات ( مولوى 5 / 501 ) ،

ولأثار هذا الشراب فتن العشق وأشواقه ، ولعلم جميع الناس من سادة وعبيد أنهم دون هذا العشق سواسية ولامتزجوا معا بحثا عنه وطلبا له ، ولعلم الملوك أن عرشهم ما هو إلا لوح من خشب ( انظر الكتاب الرابع ، الأبيات 908 - 909 والبيت 661 ) ، ولتحولت العظام ( وهي جماد الجسد ) ، إلى أرواح ، وكل هذه


“ 591 “ 

متضادات إن كان ثم صحو لكنها عند السكر ممتزجة امتزاج اللحم بالبر في ذلك الطعام المسمى بالهريسة ، فلا فرق إذا لا غرق أي لا سحو واستغراق في الفروق .

( 3462 - 3471 ) : يصور مولانا الزاهد بأنه ذلك المستغرق في الرياضات المتعصب ، الذي توجهت إليه الأحزان من كل صوب ، وأصابته الدنيا بجراحها ، فكأنه زاهدٌ ليس حبا في الزهد أو طلبا لطريق الله ولكن زهد في الدنيا كرد فعل لخداعها إياه ومكرها به ولكثرة ما أصابه من مصائب فيها ومن جراح من جرائها ، وهذا النوع من الزهاد يكون ضيق الصدر ، يتمنى لو استطاع أن يهدم هذا العالم ويبنيه من جديد فإن كان مضطرا إلى الإقامة وسط الناس ، لقى الناس من عنته الكثير فينزل إلى الشوارع لأول بادرة من حزن أو انقباض ،

ومن خلال حوار هذا الزاهد نعرف أن الأمير طالبٌ ( للحق ) مثله مثل أي إنسان سوى ، وندرك هنا أن الخمر هنا هي الخمر المادية العادية ، ويستبعد الزاهد من أمير طالب عقله مرتبط بعقول الآخرين ، وهناك عقول تعتمد عليه أن يفقد وعيه ، خاصة وأنه ليس مفيقا بلا خمر ، فماذا تكون النتيجة إذ شرب هذا الضعيف العقل الخمر ؟ !

( 3472 ) : الحكاية التي تبدأ بهذا البيت يذكر استعلامى أنه لم يعثر على أصل لها قبل مولانا ، ويذكر أن الألقاب التي ذكرها مولانا جلال الدين في العنوان من الألقاب الشائعة في أيام السلاجقة والخوارزمشاهيين ( 5 / 377 ) ، ويرى زرين كوب أن هذه الحكاية ذات أصول تاريخية عن بعض حكام بلخ ( مسقط رأس مولانا جلال الدين ) ، ( سر نى را ، ص 311 ) ،

 وليس من المستبعد أن تكون الحكاية قد تمت في حضور بهاء ولد ( والد جلال الدين ) وأن يكون قد قصها عليه فيما بعد ، وبقيت في ذاكرته مثل كل شئ عن بلخ وبلاد ما وراء النهر التي عاش فيها طفولته المبكرة ، والحكاية ضربت هنا لبيان أن ضعيف العقل لا يزيده ضعفا بشرب الخمر ، كما أن مفرط القصر يبين قصره المفرط بالهم بالقيام كما يفعل طوال القامة .


( 3480 - 3492 ) : المخاطب هنا هو الأمير : إنك لا تملك عقلا شديد اليقظة والذكاء بحيث " تريحه " ، قليلا بالخمر ، فما أشبهك بعبد حبشي يصبغ وجهه بالنيلة وهو أصلا لا يحتاج إليها ، وإن الإنسان ليبحث عن انعدام الوعي إذا كان عنده وعى أصلا ، ويقول الزاهد أن هذه " الخمر " ، إذا كان الله سبحانه وتعالى أحلها في زمن عيسى عليه السّلام للعوام فلابد أنه حرمها على الخواص الذين يطلبون وجه الله ، وقصة تحريم الخمر في الإسلام شهيرة فليطلب من تفسير الجلالين على الآية الكريمة
 

“ 592 “

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( المائدة / 90 ) ، والعشاق يسكرون من خمر المعرفة ومن ثم حرمت عليهم هذه الخمر ، إنهم ينظرون إلى طريق الحق وينتظرون منزل الوصول إليه فلابد أن يكونوا في غاية اليقظة والانتباه ، والعقل الذي تتمتع به أيها الأمير ،

هو عقل يغيب عن الوعي دائما وشمسه في غياب وكسوف مستمرين رغم وعورة الطريق ، وإنك لهذا تضلل المرشدين في هذا الطريق ، وتجعل رعاياك هالكين ضالين وما أحراك بأن تعود هذه النفس على الزهد ، فلا تجعلها تتمرد عليك بتعويدها على التنعم ، وأفطمها عن لذائذ الدنيا ، وخذها بالاخشوشان ، إنها لص فاشنقها أو أقطع يدها ، أو قيد هذه اليد وإلا كسرت قدمك وأذلتك ، اسخر منها واجعلها تأكل التراب .


( 3495 - 3506 ) : ها هو الأمير الذي كان مولانا يصفه بأنه أمير المؤمنين وكهف المستجيرين في صدر الحكاية يسفر عن وجهه الحقيقي ويستشيط غضبا وينهمر بالشتائم الخارجة على الزاهد ويذهب نفسه لتأديبه ويقف له وهو ( الأمير ) ، على قارعة الطريق يتهمه بهذه التهمة التي يتهم بها الطغاة الدعاة دائما بأنهم طلاب شهرة لا أكثر ولا أقل ، كل هذا والزاهد المسكين يختفى من غضبته هذه تحت الأغطية ، يهمس لنفسه قائلا : المرآة فقط هي التي تستطيع أن تواجه هذه الأمير بقبح وجهه ودمامة منظره ، وجهها الصلب الذي لا يخشى الكسر ( كانت المرايا من الحديد المصقول ) هو الذي يستطيع أن يواجه الأمير بقبحه وجبروته وجرأته على الحق .


( 3507 ) : الحكاية التي تبدأ بهذا البيت ، قال استعلامى ( 5 / 378 ) انه لم يجد لها أصلا ولا يعرف أي حاكم لمدينة ترمذ كان سيد شاه ترمذ هذا ، بينما ذكر زرين كوب ( سرني 1 / 311 ) ، أنها ربما كانت من بقايا بعض الحكايات الشعبية عن بعض الحكام المحليين في ترمذ من الأسرة الحاكمة التي كانت معروفة باسم أسرة " السيد الأجل " ، على كل حال أيا كانت أصول الحكاية ، فإنها تؤكد ما ورد من أنه لا يمكن نقد الطاغية في وجهه ولا يمكن أن تقال الحقيقة في شأنه إلا " تحت اللحاف " .


( 3516 - 3534 ) : لا يزال الأمير في عنفوان غضبه وصياحه ورفسه للأبواب ( في منتصف الليالي ! ! ) بحيث نهض الناس من نومنهم - وهم جماعة - يلتمسون من " الفرد " الغاضب العذر للزاهد المسكين الذي نصحه نصيحة في محلها ، لقد كان أقاويل الناس كلها تحط من قدر الزاهد من أجل أن تنقذه من غضبه الأمير : فهو ضعيف العقل ، وهو زاهد

“ 593 “ 
وشيخ ، وهو في حالة قبض دائما ، وهو أيضاً لم ير جزاء لزهده هذا ، وصار سعيه تبابا كأنه سعى اليهود لا إخلاص فيه ، وهو بلا أصل ، وحيد ، مسكين ، قابع في داره عبوس قمطرير ، ثم إن عينه تؤلمه ، وهو مجتهد دون يقين ودون حزم ، على الاحتمال والوهم والظن ، ثم إنه لا يبحث عن " الرئاسة " ، أي لن ينافسك أيها الأمير الأجل ، حتى في عبادته ليس ثابتا على حال ، إنه يشكو إلى الله دائما أنه غير مفلح في دنيا وغير مفلح في عبادة ، وأحيانا ينعى حظه من الدنيا ، أن الآخرين يطيرون بأجنحة المعرفة وهو مجرد

( زاهد ) مقطوع الجناح ، إنه أيها الأمير ذو لون واحد ، سجين لطريقة واحدة من طرق المعرفة هي الزهد ، وكل سجين للون واحد يكون في ضيق واكتئاب ، إننا حتى نخشى عليه من كثرة اكتئابه ، أن ينتحر وينهى حياته ، حزنا على ما أصيب به من خيبة وما حاق به من أحزان .

( 3535 ) : يبدو أن مولانا انهمك في قصة هذا الزاهد وحالته وانقباضه ويأسه وقنوطه " من الهجر " وأراد أن يثبت أن الهجر قد يؤدى بالعارف إلى " الانتحار " ، فساق قصة عن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أغلب الظن أنها من القصص المنتحلة أو الموضوعة ، وإن كان فروزانفر قد ذكر أن هناك بعض الأخبار في سيرة ابن هشام ورواية عن ابن عباس في دلائل النبوة تصلح أن تكون أساسا لهذه القصة ( مآخذ / 188 ) .

عن ابن عباس إن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم لما نزل عليه الوحي بحراء مكث أياما لا يرى جبريل فحزن حزنا شديدا حتى كاد يعدو إلى بثير مرة وإلى حراء مرة ، يريد أن يلقى نفسه منه ، فبينا رسول الله كذلك عامدا لبعض تلك الجبال ، إذا سمع صوتا من السماء فوقف رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم صعقا للصوت ! !

( جعفري 12 / 494 ) . كما مر بنا ذكر مولانا لمحاولة الشيخ محمد سروزى الغزنوي إلقاء نفسه من فوق الجبل لأنه لم يوفق في الوصول إلى الجمال الإلهى ( انظر 2670 من الكتاب الذي بين أيدينا ) وفي البيت رقم 3540 كشف الحجاب : أي أدرك نور النبوة من داخله .

( 3541 - 3548 ) : يعلق مولانا : كيف أن الناس يفكرون في الانتحار عند كل محنة يواجهونها وهم يتحملون أصل المحن داخل أنفسهم ، أي تلك " النفس " ، التي تعتبر أصل كل المحن ، وهناك من يضحون بأنفسهم ، وأنا في حيرة من أولئك الذين يضحون بحياتهم وأرواحهم ، لكن ألا يضحى كل منا بحياته ويهب كل عمره لشئ ما ، فما أسعده ذلك الذي يضحى بجسده من أجل روحه ، وإذا كان كل إنسان مستعدا للقتل في سبيل شئ قد لا يبقى بعده ، ويضيع المشتاق والمشتاق إليه ، فلماذا لا تكون التضحية بالروح في سبيل هذا العشق ،

“ 594 “

كما كان ذلك المقبل العظيم محمد بن عبد الله صلّى اللّه عليه وسلّم ، يريد أن يفعل ، إنه العاشق والمعشوق والعشق فكلها واحد ( تذكرة الأولياء ، 189 في قول لأبى اليزيد البسطامي عن استعلامى 5 / 380 ) ، إن مائة حياة كانت في هذا القتل ( عن البقاء بعد الفناء ، انظر مقدمة الترجمة العربية على الكتاب الثالث ) ، فإذا كان أهل الهوى في نوى بعد نوى وهجر بعد هجر فارحموهم أيها الكرام فلستم تعرفون ما بهم من عذاب .

( 3552 ) : " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " ( أحاديث مثنوى ، ص 7 ) ، و " الراحمون يرحمهم الرحمن " ( انقروى 5 / 750 ) .

( 3562 - 3570 ) : لم يعد هناك من بد من التقرب إلى الأمير والتشفع للزاهد عن طريق النفاق ، لقد بلغ غضبه قمته " والطاغية أصل الغضب " ، ولم يعد هناك إلا التقرب إليه عن طريق مدحه بما هو ليس فيه ويرى استعلامى أن الأبيات هنا في مدح " الإنسان " لكن إذا جاز هذا من البيت 3571 فلا ينطبق على الأبيات التي قبلها التي يوصف فيها الأمير بالجمال واللطف والخد المورد إلى آخره ، والكريم ابن الكريم ابن الكريم في حديث نبوي هو يوسف عليه السّلام ( مولوى 5 / 515 ) ولعل استعلامى انطلق من يوسف بن أحمد المولوي الذي فسر الأبيات هذا التفسير الذي فحواه : أي جمال يطلبه الإنسان من الخمر وهو من جمله الله تعالى بنفخته وجعل وجهه كشمس الضحى ، وجعله منورا لكوكب الزهرة ( مولوى 5 / 515 ) ، وإلى مثل هذا التفسير ذهب إسماعيل الانقروى ( 5 / 753 - 755 ) .

( 3571 - 3582 ) : من هنا يترك مولانا قصة الأمير والزاهد " دون أن يتمها فلا نعرف إن كان قد عفا عنه أو انتقم منه " ويتحدث عن الإنسان الكامل ذي الأبعاد التي تخرج عن هذا العالم واحتياجات هذا العالم ، إن الوجود كله في شوق إليه ،

 ذلك الإنسان المتصل بالبحر الكلى ، فكيف يتوق إلى قطرة من خمر هذه الدنيا ، الإنسان الذي قال الله فيه : وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ، وقالإِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، إنه هو الجوهر الذي سخرت له كل الأعراض وكل الخليقة " يا ابن آدم خلقتك لأجلى وخلقت كل الأشياء لأجلك " ( أحاديث مثنوى ، ص 181 ) ،

لقد سخر له العقل والتدابير واللب ، ومع ذلك فقد باع نفسه رخيصا ، " كان أطلس فخاط نفسه على خرقة " ، إنك أصل كل علم ومع ذلك تبحث عن العلم في الكتب ، لك قلب يسع الخالق الذي لا يسعه الأرض والسماء ، وهكذا ففي وجود في حجم قطرة الظل اختفى بحر ، وفي جسده حدة ثلاثة أذرع ، هناك عالم أكبر قد انطوى :

“ 595 “ 

أتزعم انك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر
وأنت الكتاب المبين الذي * بأحرفه يظهر المضمر
أتراك تبحث عن السرور خارج نفسك وأنت معدن السور ، كيف تكون شمسا وتطلب السرور من ذرة ، وكيف تكون معدن السرور " كوكب الزهرة " ، وتطلب السرور من جرة ، والروح التي لا توصف ذلك العالم العجيب تجعل لها كيفية للسرور ، والشمس ، الشمس العظيمة تحبس في عقدة الرأس أو عقدة الذنب " أدنى هبوط الكواكب وفيه يقع الكسوف " ( لأفكار مفصلة حول موضوع تكريم الإنسان عند فكر مولانا جلال الدين ، انظر مقدمة الترجمة العربية للكتاب الرابع ، من مثنوى جلال الدين ، تحت عنوان الإنسان ذلك العالم الكبير ) .

( 3583 - 3590 ) : يرد الأمير بأنه لا يقتنع بهذه السعادة التي يتحدثون عنها ، إنه " خدن " لهذه " الخمر ، ويصف أحوال في السكر بها ، وأن من جرب لذة هذا السكر لا يمكن أن يقبل تلك اللذة التي يتحدثون عنها ، إنها لذة خاصة بالأنبياء ، لأن الأنبياء قانعون بلذة القرب من الحق ، وذلك لأنهم ذاقوها ، ومن ذاق عرف ، ومن هنا فهم عشاق للمحجوب الحي ، ومن عشق محبوبا حيا ، كيف يأنس بمحبوب ميت من أنس بالآخرة كيف يأنس بالدنيا ؟ !

( 3591 - 3598 ) :وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ( العنكبوت / 64 ) ، ويكرر مولانا في المثنوى هذه الفكرة القائلة بأن كل شئ في الدنيا حتى الحجر شاهد بوجود الحق وعالم الغيب بشرط أن يفتح عين باطنه ( انظر 1019 و 3903 من الكتاب الثالث ) ،

والعبارة المذكورة في العنوان ليست حديثا نبويا بل تنسب حينا إلى الإمام على رضي اللّه عنه وحينا إلى الإمام على زين العابدين السجاد رضي اللّه عنه ( استعلامى 5 / 382 ) ،

ويقابل مولانا جلال الدين بين عالمين : عالم من الأحياء وعالم من الموتى ، ومن ثم فإن من صار حيا بالنفس الإلهى لا يهنأ له عيش في دار الموتى فطعامها يليق بالأنعام ، ومن أنس برياض الجنة لا يقيم في هذه القمامة ، والروح لا تستريح إلا إذا عادت إلى موطنها في عليين أما من يقيم في هذا البعر فهو دودة ، والكأس الطهور وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً هو للثملين بالله ، وذلك الذي لم يأنس بعدل عمر رضي الله ، يقول عن الحجاج بن يوسف الثقفي سفاح بنى أمية ، أنه عادل ، والبيتان التاليان مأخوذان من حديقة سنائى

( حديقة الحقيقة ، الأبيات 6962 - 6970 )

ويشيران إلى أن الدنيا مجاز للآخرة ، وصورة طفولية ، مجرد صورة لا نفع فيها ، والحقيقة الكبرى هناك في الآخرة ، في العالم الحي الباقي ، والفكرة عند سنائى أكثر تفصيلا .

“ 596 “ 

( 3599 - 3615 ) : وهكذا لأن الكفار من عشاق الصورة فقد صورا الأنبياء على جدران الأديرة والكنائس وقنعوا بهذه الصور ، ونحن لا تهمنا هذه الصور في شئ ، فنحن ما زلنا في نوبة ضياء محمد بن عبد الله صلّى اللّه عليه وسلّم ودينه حي في نفوسنا وقلوبنا فلا حاجة لنا بتصويره على الجدران ولا حاجة بنا إلى الضلال ، فإن كانت صورة أحدهم قد بقيت في الدنيا ، فإن الآخر صورته في كبد السماء ، وهناك إنسان جلس يستعرض نفسه ويتحدث إلى الآخرين بالنقاط ، وهناك إنسان آخر يعيش مع الحق تعالى في آلفة ويتحدث إليه .

إن أذن جسده تسجل الكلام الذي يسمعه هنا لكن أذن باطنه تجذب إليه أسرار عالم الوجود ، وعينه الظاهرة مركزة على البصر لكن عين السر حائرة فيما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى( انظر عن الفرق بين العينين الكتاب الرابع الأبيات 2641 - 2644 وشروحها ) ،

وبينما تكون قدمه ( الظاهرة ) في صف الصلاة ، تكون قدمه الباطنة طوافة حول الفلك وهكذا فعدد أعضاءهم ، هناك أعضاء ظاهرة هي التي تموت بموتهم وهذه لا يهمنا أن تصور على الجدران ، إنما يهمنا تلك الأعضاء التي هي خارج الزمان والتي لا تموت ، وفي نفس الوقت لا يمكن تصويرها لأنها معاني ، إنها تتبع ولا تصور ، وما للأنبياء يكون للأولياء ، ومن ثم فإن ذلك الولي الذي هو ولى الدولتين ( دولة الظاهر ودولة الباطن ) ،

 وإمام القبلتين ( قبلة الكعبة ووجه الله ) ، إن مثل هذا الولي الذي اقتبس أسرار الأنبياء وتمثل بهم لا تلزمه خطوات الولاية التي تلزم الناس العاديين فلا خلوة ولا أربعينية تلزمه

( عن الخلوة والأربعينية انظر الكتاب الثالث 1616 ) بالنسبة لهؤلاء البشر الذين نجو من حلقات الضياء والظلام في الليل والنهار ووضعوا أقدامهم في نور الأبدية ، لا حاجة هناك إلى خلوة ، إنه كامن في قرص الشمس ( في منبع النور ومصدره ) .

وما أشبه هذا القول بقول سعدى :
إن الليل بالنسبة لأولياء الله * يتلألأ كأنه النهار المضي 
وهذه العادة ليست بقوة الساعد * بل يهبها الله الوهاب ( انقروى 5 / 713 )

وقد مر في الكتاب الرابع قصة أبى عبد الله المغربي الذي لم ير ظلمة الليل طيلة ستين عاما ( انظر الأبيات 598 - 606 من الكتاب الرابع ) . لم تعد هناك خشية ولا مرض وبحرانه ( الروحي ) انتهى تماما .

 لم يعد بين الشك وبين اليقين ، لقد تبدل كفرهم إلى إيمان كامل ، لا شئ لديهم إلا الألف المجردة ( الاستقامة المجردة بلا إضافة نقطة أو غيرها وبلا انحناء ) ،

“ 597 “

خرج عن أوصافه ودخل في أوصاف الحق فذاب فيها ، صار عاريا من كسوة الطبع أي من أدران المادة وإضافات الجسد ، وأصبحت روحه عارية محتاجة إلى ذلك الحبيب الذي يطيل العمر ، فألبسه الله تعالى رداء القدس والملكوت من أوصافه جل شأنه ، فسما به من حضيض الوجود إلى قمته ، هذا هو الأمير الحقيقي ، وليس الأمير إياه المعربد من أجل الخمر والذي لن يعود إليه مولانا أبدا .


( 3616 - 3625 ) : وهكذا صفا هذا الولي وهذا الأمير الحقيقي على البشر من كدره ، وعندما يصفو الماء يسمو عن وعائه ويبقى الكدر في قاع الوعاء ، إن هذه التراب الثقيل يعطل الروح عن سيرها ، وهو رفيق سوء يقعد رفيقه عن السمو والعلو ، لكن تلك الروح كانت قوية وقاومت هذا الطين وسمت عليه وتخلصت منه ، لقد كانت قبلته عندما سمعت أمره تعالىقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّولم تكن هي وحدها التي تعاني هذا العقاب وهذا الهبوط وهذا الذل ، كان هاروت أيضاً كذلك بالرغم من أنه كان من ملائكة السماء ، كان يظن هو وماروت أنهما لن يذنبا وأنهما معصومان من الذنوب فلما هبطا إلى أرض الذنوب ، ارتكبا من الذنوب ما لا يرتكبه الإنسان العادي في عمر طويل ، لقد ابتعدا عن مصدر النور ، فتسرب منهما النور

( انظر الكتاب الثالث ، 796 وما بعده ، و 2674 من الكتاب الرابع و 3003 من الكتاب السادس ، والكتاب الأول 3334 - 3364 و 3429 - 3430 والكتاب الثاني :

2475 - 2478 ) مثل تلك السلة التي رأت نفسها وهي مغموسة في ماء البحر مليئة بالماء ، فانصلت عن البحر فأصبحت خالية تماما ، لم تكن تعرف أن الماء من البحر وليس منها ، ولما احترق كبدها من الفراق اشفق عليها بحر الرحمة واستدعاها إليه ، هذه الرحمة الجياشة من لدن الخالق الرحيم الرحمن لا علة لها ، وقد لا تسبقها طاعة ، إنه العطاء الإلهى الذي لا يريد سببا .

( 3625 - 3634 ) : فاجعل الله هدفك وحوم حول بحر الرحمة وحول أولئك الذين يعيشون بالقرب منه من الأولياء وكمل الرجال ، مهما رأيتهم صفر الوجوه فديدن من ينتظر لقاء الله أن يكون أصفر الوجه وهذا اللون هو اللون الجدير بهم ، فإن حمرة الوجه دليل على أن صاحبه لا ينتظر شيئا ولا يشتاق إلى شئ ، إن الطمع في لقاء الله طموحٌ لا حد له ، إنه يجعل الإنسان نحيلا أصفر الوجه ذليلا وإن كان صحيح الجسد فإن جالينوس نفسه يتحير من صفرة وجهه هذا لقد طمعت في أنواره ، والرسول صلّى اللّه عليه وسلّم قال : [ من طمع ذل نفسه ] لكن العشق


“ 598 “

يسمو بالإنسان ومن ثم ينبغي أن يكون الحديث النبوي [ طوبى لمن ذلت نفسه ] ( انظر 3796 الكتاب الثالث ) والنور بلا ظل هو النور الحقيقي فكن طالباً له ، ولا تطلب النور ذا الظل الذي يشبه النور الداخل من فتحات غربال والمعنى الموجود في البيت 3733 ورد في الكتاب الأول ( البيت 136 ) والمقصود أن الحديث المباشر أفضل في هذا المجال حتى يدرك كل إنسان أن المائدة الإلهية من المعارف والمعاني إنما تمد ( للصائمين ) عن موائد الدنيا المبتعدين عنها ، أما المدعون ( الذباب ) فسواء لديهم الألفاظ والمعاني التي تحتوى عليها هذه الألفاظ .

( 3635 - 3646 ) : عودة إلى الخيط الجامع يبين أجزاء هذا الكتاب أي قصة إياز فلا يكاد السلطان يطلب من إياز أن يفسر له سر غرامه بالسترة الجلدية والحذاء الريفي حتى يترك مولانا القصة وينصرف إلى موضوع آخر وكأنه أحس أن القارئ ( أو السامع ) لم يعد جاهلًا بالسر ، لكن السؤال هنا يحمل صيغة الجواب وكأن السلطان يقول : إنني أعرف سر تعلقك هذا ، لكنك لابد سوف تقدم لنا تفسيراً ( جديداً ) لهذا المجال القديم ، فالأحوال متشابهة ومتكررة ، لكن العارف يقدم لها تفسيراً جديداً ، ويحس من جرائها بشعور جديد ، لأنها لابد وأنها نابعة من منبع جديد هو عين أسرار عالم الغيب ، دعك من عالم الحواس الخمسة والجهات الستة ، وإن كنت أعلم أن هذه الأحوال الباطنة لا تتأتى في بيان ، بل لابد أن تنبىء بأمثلة من هذا العالم الظاهر ، إن لطف الحبيب يجعل حتى تلك المرارة التي نحس بها من الفشل ألذ من السكر ، ولو أن ذرة واحدة من هذا السكر الذي وهبه اللطف الإلهى تنزل في هذه الدنيا لحولت كل مراراتها إلى شهد ، وتيار اللطف الإلهى سار في الكون ، وليس مجرد حالة واحدة ، بل آلاف الأحوال ، تأتى من الغيب ثم تعود ، والماء الذي يجرى في جدول ليس فيه سدود ليس ماءً واحداً فكل العالم في لبس من خلق جديدأَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ( ق 15 ) ،

عالم سرور العارف ليس ماءً راكداً بل ماء متجدد ، كل يوم سرور جديد ، وكل يوم فكرة جديدة تحل بالقلب كالضيف ثم تمضى
( الفكرة موجودة في الكتاب الثالث بالنسبة لجذرى القبض والبسط في القلب انظر الأبيات 360 - 363 )

وهكذا فإن قلبك هذا كأنه منزل إبراهيم عليه السّلام ( القلب أيضاً هو كعبة الجسد ) ، تنزل عليه الضيوف فلا بد إذن أن تكون كإبراهيم عليه السّلام مكرماً للضيوف ماداً موائدتك لهم ، وإياك أن تضيق بفكرة نزلت على قلبك بل أكرمها لأنها لن تلبث أن تعود إلى العدم ( أي عالم الغيب ) فهذا العالم أي عالم العدم هو أصل الوجود .

“ 599 “

( 3647 ) : القصة التي تبدأ بهذا البيت لم يجد لها أي من مفسري المثنوى مصدراً قبل مولانا جلال الدين ولعله ألبس أفكاره بعض الشخصيات فالمرأة هي النفس والرجل هو العقل الطالب للكمال أو القلب الباحث عن الله والضيف هو الواردات الغيبية التي ينبغي بفرح المضيف لها لا أن يبدي ضيقه .


( 3666 - 3670 ) : إن الضيف أو الوارد الغيبي ، أو كما يتضح فيما بعد الرجل الذي كان ولياً من أولياء الخضر عليه السّلام ، ( الأولياء المسافرون الجوابون في البلاد دوماً ) يدعو على نفسه التي سمحت له بالاستراحة من السفر وأخرت العودة إلى أصله ومنبعه ، فهذه الاستراحة قاطعة للطريق ، لقد كان وجه الرجل كالشمعة نورانياً ، وكانت الصحراء تمتلئ من نوره ( انظر حكاية أبى عبد الله المغربي في الكتاب الرابع وشرح الأبيات 3599 - 3615 من الكتاب الذي بين أيدينا وحكاية الدقوقى من الكتاب الثالث ) ، لقد كانت الفكرة التي وقرت من قبل الرجل المضيف أن الضيف كان ولياً كبيراً وأنه كان سيمنحهما الحياة الخالدة ( الفناء في الله ) .

( 3676 - 3695 ) : يعود مولانا جلال الدين إلى الحديث عن ضيوف " الفكر " والمقصود الواردات القلبية والأحوال التي تترى على الإنسان والتشبيهات والتغيرات هنا تذكر بالأبيات 1314 - 1325 ، وغالباً ينظر مولانا إلى الإنسان على أنه " مجرد فكر " وما بقي عظام وعروق :
يا أخي إنك لست سوى فكرك وما بقي منك هو مجرد عظام وعروق .

فإن كان فكرك ورداً فأنت بستان ورد وإن كان فكرك شوكاً فأنت وقود لموقد الحي ( الكتاب الثاني البيتان 278 - 279 ) وفي الأبيات التالية يتحدث مولانا عن القبض والبسط ( الحزن والسرور ) أو الأفكار التي تسبب الحزن والأفكار التي تسبب السرور وفي كتاب سابق شبهها مولانا بالكسب الذي يعقبه الإنفاق أو الدخل الذي يعقبه الإنفاق وسكر السرور الذي هو ثمرة بستان الحزن والبسط الذي هو سعة وإنفاق والقبض الذي منه يكون الدخل
( انظر الكتاب الثالث الأبيات 3733 - 3769 وشروحها ) كما وردت فكرة عبوس السحاب والبرق وفضل ذلك على البستان في الأبيات المذكورة من

“ 600 “ 

الكتاب الثالث وانظر إلى مولانا يتبع تيار الأفكار عند المرء وكيف تتراوح هذه الأفكار بين الحزن والسرور لكن لله تعالى لطفاً مخفياً في ثياب القهر وقهراً مخفياً في ثياب اللطف ويتحد القهر واللطف في التأثير ( انظر الأبيات 545 - 548 من الكتاب الرابع والكتاب الخامس 1507 و 1510 ) المهم أن تكون متيقناً من هذا صبوراً على البلاء متقبلًا لكل ما يأمر به الله تعالى ، فرحاً بقهره انتظاراً لما يعقبه من لطف ، إن هذا الفكر سوف يعود إلى الله تعالى فيخبره عن سلوكك معه ، عن أسلوب تعاملك مع هذا الضيف النازل بك ، وادع الله إن حل بك البلاء واعتبر بأيوب عليه السلام ، لقد حل به البلاء لسبع سنوات فلم يعبس في وجه هذا البلاء ولذا قال الله تعالى عنهإِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ( ص / 44 ) وكان جزاؤه المغتسل البارد والشراب وأهله ومثلهم معهم ، رب أعذنى من شرها وأنلنى من برها ، وإن حل بك اللطف فقل : رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ ( النمل 19 ) .


( 3696 - 3707 ) : هذه الفكرة العابسة الحزينة على مثال السحاب الممطر منه يكون للأرض البوار الحياة ، وكم خلق الحزن والحرمان من أعمال عظيمة في حين يكون من الترفه والفرح المستمر موت القلب وموت الروح بل ترهل الجسد ، فلا تعبس في وجه الفكرة العابسة ، ابتسم في وجهها ، فلعل فيها جوهراً مهدى إليك وأنت لا تدرى ، حتى وإن لم تستفد ، فمتى كانت الفائدة هي الهدف ، إنك بهذا الرضا تزيد عاداتك الطيبة عادة جديدة ، قد تنفعك هذه العادة فيما بعد وقد تقضى بها حاجاتك ، وفكر إن الفكرة التي تمنعك من السرور هي بأمر الله تعالى وحكمته ، فانظر فيها إلى حكمة الله من جميع جوانبها ، ولا تنظر إليها هوناً إن كنت حقاً من رجال الطريق وفتى من فتيانه ، فلعل فيها حسن طالعك وإقبالك وعطاء الحق لك ، ربما كانت هي الأصل في انطلاقك ووصولك إلى ما تطمح إليه ، في حين أنه من الممكن أن تعتبرها أنت فرعاً من الفروع ورد عليك وصار عقبة في طريقك ، فإن اعتبرتها فرعاً ، ظللت في انتظار أصلها ، والانتظار مر يا بنى ، ومن الانتظار يعانق الموت ليل نهار ، فعانق هذه الفكرة ، بدلًا من معاناة الانتظار فالانتظار أشد من الموت الأحمر ( انظر 2134 من الكتاب الذي بين أيدينا ) .

( 3708 - 3715 ) : عودة إلى قصة إياز وكان آخر ذكرها في البيت 3637 . والحديث من السلطان عن رجولة إياز تلك الرجولة التي يثبتها عند موقفين عند الغضب وعند الشهوة ( انظر

“ 601 “

الكتاب الذي بين أيدينا الأبيات 2892 وما بعده وشروحها ) فهذه هي الرجولة الحقيقية ومتى كانت الرجولة بالذكر ، إذا كان الأمر هكذا ، فالحمار أكثر رجولة من الرجال ، وإذا كنت تريد وصف الرجال فارجع إلى القرآن الكريم وأقرأ في سورة التوبةفِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ( آية 108 ) واقرأ في سورة النور : رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ( آية 37 ) واقرأ في سورة الأحزابمِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ( آية 32 ) ، لكن الأجساد الضخمة موجودة في سوق القصابين ومن جعل همه بطنه وما يملأ به هذا البطن فليس عقلًا ، بل هو أقل من الذيل وأقل من الإلية .

( 3716 ) : الحكاية التي تبدأ بهذا البيت لم يجد مفسروا المثنوى أثراً لها قبل مولانا ، ويبدو أنها من الفكاهات الشعبية التي تتناقلها الألسنة لكن الحكاية هنا تبدو في غير موضعها ، فأمر الرجل لابنته أن تسيطر على نفسها وهي في قمة شهوتها أمر مثير للسخرية ، لأن هذا الأمر لا يتأتى من الرجال المسلطين على شهوتهم فكيف يتأتى من امرأة ؟ ولا يزال كثرة القصص ذات الإطار الجنسي ( ولا أقول المدلول الجنسي فلم يقدم مولانا حكاية واحدة ذات مدلول جنسي ) في هذا الجزء يثير التساؤل ، هل كان مولانا قد ضاق من الأمثلة التراثية في أن تفعل فعلها ، فنزل إلى مستوى أقل المريدين لكي يضمن لأفكاره أن تصل ؟ الله أعلم .

( 3737 ) : طبقاً لقاعدة التداعى يقدم مولانا مثالًا آخر لذلك الذي يبدو " رجلًا " بل و " صوفيا " لكن نفسه مسلطة عليه فهو يذهب إلى ميدان القتال ، لكنه ليس رجل قتال ، إنه " صوفي " من إياهم من أولئك الصوفية المدعين الذين يظنون التصوف اكلًا وصوفاً ولواطاً ، ويتحدث عن انخداع العوام بأمثال أولئك الصوفية المزيفين فيتوهم أنه شيخ وأنه مرشد وأنه قطب ، ويصدق هذا الوهم مثل المعلم إياه الذي أوقع صبيان المكتب في روعه أنه مريض ( انظر الحكاية بالتفصيل في الكتاب الثالث ابتداءً من البيت 1523 ) ، لقد ظن أنه من عظماء المجاهدين في الجهاد الأكبر ( جهاد النفس ) فمن ثم ماذا يبدو الجهاد الأصغر ( الغزو ) إلى جواره جولات جهاده الصوفي ؟ لقد عارك الصوفي في غير معترك ، وهجم على صورة الأسد الذي توهمه ( على طواحين الهواء ) ، فقالت له التجربة ، تعال ، والامتحان والتجربة في طريق كل مدع تنتظره لتفضح ادعاءه ( انظر عن الامتحان 740 - 747 من الكتاب الثالث وشروحها ) .

( 3744 ) : الحكاية من هذا البيت غير مقنعة ، وفيها بعض " تساهلات " مولانا ، وهي على كل


“ 602 “

حال قليلة في المثنوى . فمتى كان الأسرى يقتلون في الإسلام ؟ ومتى كان قتل الأسرى يعتبر غزواً ؟ كان المقصود فضح الصوفي المدعى للشجاعة ، لكن ليس على حساب قيم الإسلام في الجهاد .

( 3756 - 3758 ) : ما أشبهك وأنت مستكين لهذه النفس الأسيرة بهذا الصوفي الذي لم يستطع أن يقتل أسيره بل وانتصر عليه واعتلاه ذلك الأسير المغلول ، وإذا كنت هكذا أمام امتحان النفس وهو امتحان يسير بالنسبة لما سوف تصادفه من امتحانات في حياتك فماذا أنت صانع فيها ؟ .

( 3780 ) : يقول استعلامى ( 5 / 389 ) أن المقصود بالحكاية هنا هو العباضى لا العياضي ، وهو في معظم نسخ المثنوى العياضي بالياء وقال ولى محمد أكبر آبادي في شرحه أنه أبو بكر محمد بن أحمد العياضي من فقهاء سمرقند لكنه العياضي دون تشديد الياء ووزن الشعر يستدعى تشديدها ( الشارح : ليست مشكلة فالشاعر الفارسي يتصرف في التشديد عند الوزن ) ،

ويضيف استعلامى : إنه من الصعب تحديد من هو المقصود ، والعياضي الوحيد المذكور قبل مولانا موجود في الباب الثاني من كتاب أسرار التوحيد باسم أبى الفتوح العياضي كشاهد لإحدى كرامات أبي سعيد دون أن يقول لنا من هو أبو الفتوح هذا ، ويواصل استعلامى إنه قرأ ما يشبه هذه الرواية في تذكرة الأولياء عن الشيخ أحمد بن خضروية ( البلخي ) من أنه ظل فترة يضيق على " نفسه "

التي بين جنبيه وذات يوم كان جماعة ذاهبين إلى الغزو ، وألحت على النفس أن اذهب معهم كنت أعلم أن النفس لا تهدى إلى طريق الحق وأن في إلحاحها هذا مكراً ، فكبحت جماحها وضيقت عليها الخناق فاعترفت في النهاية قائلة كنت أريد أن تقتل وتغتر بشهرة الشهاد وبأنك صرت محبوباً للخلق ، وأنجو أنا أيضاً من هذا التعب وهذه الرياضة " الصوفية " لكنه ما لم يذكره استعلامى ، وما لم يذكره فروزانفر وتجاهله تماماً أن الأبيات الأولى تذكر بقوله خالد بن الوليد رضي الله عنه الشهيرة " لقد شهدت ألف غزوة أو زهاءها فما بقي في جسدي ضربة سيف أو طعنة رمح ، وهكذا أموت على فراشي كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء " ،

هذا التجاهل شبيه بتجاهل الشراح الفرس لرواية عمر بن الخطاب وسارية رضي الله عنهما الواردة في الكتاب الثالث
( انظر مناقشات الرواية تعليقات الأبيات : 508 - 516 من الترجمة العربية للكتاب الثالث )
ومن الممكن بل المرجح أن اسم العياضي من لدن مولانا أو اسم للصوفى لم يعرف بعد ، وأن مولانا وفق بين ما ورد عن 

“ 603 “

خالد رضي الله عنه حين موته وبين الرواية المروية عند أحمد بن خضروية في تذكرة الأولياء ونسج منها حكاية .
.
* * *

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: