01 - مقدمة المحقق والمترجم .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء السادس ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

01 - مقدمة المحقق والمترجم .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء السادس ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

الثلاثاء، 1 سبتمبر 2020

مقدمة المحقق والمترجم .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء السادس ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

مقدمة المحقق والمترجم المثنوي المعنوي الجزء السادس



الكتاب السادس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدمة [ المترجم ]
موسى وفرعون دراسة في ظاهرة الطغيان عند مولانا جلال الدين الرومي
برغم انشغال مولانا بتحرير الإنسان روحيا ، والتأكيد على أن حريته تنبع من داخله هو « 1 » لم يهمل مولانا القوى التي تحد من انطلاق الإنسان نحو عالم التكامل الشخصي والروحي ، ومن ثم نلتقي في مثنوي جلال الدين بهذا النقد اللاذع للقوى السياسية التي كانت حاكمة في عصره ، وغيبة العدالة ، وتعرض البشر للقمع ، وسقوط مصيره في أيدي فراعين البشر ممن يحولون الإنسان خليفة الله في الأرض وأكرم المخلوقات إلى مجرد سائمة يكون كل همه البحث عن لقمة العيش ،
والحياة في مستوى أدنى من حياة الحيوان ، وليس من المهم أن تكون لهجة الخطاب المولوي مباشرة ، فلم يكن بدعا في أن يتناول كل هذه الموضوعات بشكل رمزى ، وإن غلب التصريح أسلوب تعبيره في أحيان كثيرة ،
وهو في هذا يشترك مع أستاذه الروحي سنائي الغزنوي الذي قدم لنا في موسوعته حديقة الحقيقة مدحا مبالغا فيه للحاكم الذي كان يعيش في ظل دولته ،
كما قدم لنا صورة مثلي للحاكم لم يكن نصيب ممدوحه منها أقل القليل ، وقدم صورة للعصر والفساد المتفشي بين الطبقات الحاكمة والظلم الذي يتدرج من أعلى إلى أسفل حتى يكون كله من نصيب المستضعفين « 2 »
..............................................................
( 1 ) أنظر مقدمة الترجمة العربية للكتاب الخامس .
( 2 ) أنظر الترجمة العربية لكتاب حديقة الحقيقة وشريعة الطريقة لسنائي الغزنوي ترجمة كتاب هذه السطور البابين الثامن والتاسع وشروحهما - القاهرة - دار الأمين - 1995 .
 
« 4 »
 
ويربط مولانا بين عدم خشية الناس لله وخشيتهم من السلطة ، فهؤلاء الحكام الجبارون لا يستطيعون إذلال إلا من لا يخاف الله ويخشاهم هم ، وهم كالباب الذي وضعه موسى عليه السلام على ربض القدس لكي يركع جبار وبني إسرائيل عند الدخول إليها :
- وكذلك فإن الحق صنع من اللحم والعظام بابا صغيرا " من الملوك " فانتبه إلى حكمته في هذا .
- هذا ليجعل منهم أهل الدنيا مسجدا لهم ، لأنهم أعداء للسجود لله وحده سبحانه وتعالى .
- وصنع من المزابل محاريب لهذه المساجد ، وأسماء هذه المحاريب الأمير والبطل .
- وهؤلاء الأخساء يخضعون لأولئك الكلاب ، وعار على الأسد أن يكون ميلهم إليه .
- ويكون القط شرطيا لكل من فيه طبيعة الفئران ، ومن يكون الفأر لكي يخاف من الأسد ؟
- فامض إلى لاعق الأطباق يا لاعق القدور ، واكتب عنه أنه سيدك وولي نعمتك .
- ولأقصر القول ، فإن بسطت في هذا الحديث ، وقدمت شرحا عميقا ، فسوف يغضب الأمير لأنه يعلم أن الأمر هكذا . « 1 »
 
 وفي الكتاب الخامس يقدم مولانا في حكاية لم يتمها صورة الأمير عندما يغضب ، ويروع وحده بهراوته حيا بأكمله لأن زاهدا كان يسكن في ذلك الحي تجرأ وكسر جرة الخمر التي كان غلامه يحملها إليه ، ويقدم مولانا
..............................................................
( 1 ) مثنوى مولانا جلال الدين : 3 / 3000 - 3010 .
 
« 5 »
 
الحي تجرأ وكسر جرة الخمر التي كان غلامه يحملها إليه ، ويقدم مولانا صورة حية لأهل الحي يحيطون بالأمير الغاضب حامل الهراوة يتملقونه ويمدحونه بما ليس فيه لكي يعفو عن الزاهد المجرم " ! ! " ولأن مولانا لم يتم حكايته ، لا ندري هل عفا عنه أو نفذ فيه تهديده ووعيده « 1 » 
وتتم المنظومة السياسية عند مولانا بالحديث عن الحاشية ، فلكل حاكم حاشية من جنسه ، ويشير إلى دور الوزير في معاونة الحاكم سواء كان خيرا أو كان شريرا ، فآصف هو وزير سليمان عليه السلام ، وهامان هو وزير فرعون عليه اللعنة ، والسلطة العليا تختار معاونيها من جنسها ومن نفس أخلاقها « 2 » 
يقدم لنا مولانا عالما لا يمكن أن يقال فيه الحق إلا تحت الغطاء « 3 » وعالما من الانهيار الإسلامي التام في صراع الحكام وسفك الدماء وتحطيم المدن من أجل جارية « 4 » ترى كم مرة تكررت في تاريخنا ؟ ! 
وموقف مولانا جلال الدين من الشرطة أو كما يعبر عنها " العسس " نابع من هذا الموقف من الطغيان عموما ، وفي حكاية العاشق الذي طاردته الشرطة فهرب منها ليلقى محبوبته في البستان ، يلفت النظر هذا الهجوم الذي شنه مولانا على الشرطة ، فها هو العاشق يطلق لسانه بالدعاء للشرطة بأن يخلصهم الله من طبيعة الشرطي فيهم ، وما هي هذه الطبيعة ؟ 
أنها أكثر توحشا على الخلق من السلطة التي تقوم بحمايتها ، وأنها لا تريد الخير للناس ، وتفرح إن
..............................................................
( 1 ) مثنوى مولانا جلال الدين : 5 / 3442 - 3593 .
( 2 ) أنظر الكتاب الرابع حكاية الوزيرين اللذين كان اسم كل منهما أبو الحسن ومع ذلك كان أحدهما جوادا أما الآخر فقد أطلق عليه مولانا لقب جلاد أو سلاخ الفقراء " الكتاب الرابع الأبيات 1156 وما بعده .
( 3 ) أنظر الكتاب الخامس الأبيات 3495 وما بعده .
( 4 ) أنظر الكتاب الخامس الأبيات 3834 - 3845 .
 
« 6 »
 
ضيق عليهم السلطان ، وتخوفه دائما منهم ليطلق يدها فيهم . « 1 » 
وفي الكتاب الخامس يقدم صورة ساخرة عن الهارب فزعا إلى داخل دار لأنهم يقبضون على الحمير في الخارج ، وعندما يطمئنه صاحب الدار بأنه ليس حمارا فلم يخاف ، يجيبه بأن التمييز قد انعدم وحتى يثبت ذلك يكون حكم القضاء قد نفذ « 2 » 
ويعتمد مولانا هنا على حكاية شعبية وردت في كل الآداب الشعبية في الدول الإسلامية على اختلاف لغاتها . ويصل الأمر بمولانا أن يقول في تعبير شديد الإيحاء : أثمة مشي في الطريق والعسس يملأونه .
وتقوم فلسفة التاريخ عند مولانا على فكرة الصراع المستمر بين الرسل والأنبياء من ناحية والطغاة والفراعين الذين يريدون استعباد الناس من ناحية أخرى ، نتخلص كل أدوار التاريخ وأكواره في رأى مولانا في هذا الصراع ، التاريخ كله صراع مستمر بين القوى الإلهية الممثلة في الأنبياء والأئمة والأولياء ، والقوى الشيطانية ويمثلها الفراعنة والطواغيت وأرباب الجاه والمال والمرشدين المزيفين ، ويبين مولانا حكمة جعل الإنسان خليفة في الأرض ويلخصها في هذا الصراع المستمر :
- ثم إنه جعل خليفة صاحب صدر ، حتى يكون مرآة لملوكيته .
- ثم وهبه صفاء لا حدود له ، وحينذاك جعل له ضدا من الظلمة .
- ولقد رفع علمين أحدهما أبيض والآخر أسود ، أحدهما آدم والآخر إبليس الطريق .
- وبين هذين المعسكرين العظيمين ، نزاع وصراع ، وما جرى قد جرى .
..............................................................
( 1 ) أنظر الكتاب الرابع الأبيات : 52 - 64 .
( 2 ) أنظر الكتاب الخامس الأبيات : 2541 - 2547 .
« 7 »
 
- وكذلك في النوبة الثانية ظهر هابيل ، ثم ظهر قابيل ضد لنوره الطاهر .
- وهكذا علمان من العدل والجور ، حتى حل دور النمرود في الأدوار .
- صار ضد إبراهيم وخصما له ، وصار هناك عسكران متناحران متقاتلان 
- وعندما لم يرض سبحانه عن طول هذه الحرب ، كانت النار هي الفيصل بين الاثنين .
- فحكم النار وما تأتي به من نكر ، حتى تحل مشكلة هذين الشخصين .
- ونوبة بعد نوبة وقرن بعد قرن لهذين الفريقين ، حتى نوبة فرعون مع موسى الشفيق .
- ولقد دارت الحرب بينهما لعدة سنوات ، وعدما جاوزت الحد وأخذ الملل يزداد .
- جعل الحق من ماء البحر حكما ليرى عن طريقه من يبقى ومن يسبق من هذين الاثنين .
- وهكذا حتى حل دور المصطفى وطوره مع أبي جهل قائد جند الجفاء . « 1 » 
وتتجلى تفصيلات فكرة مولانا في هذا المجال في الصراع بين موسى عليه السلام وفرعون ، وتذكر القصة في أجزاء المثنوى الستة دون أن يكرر مولانا جلال الدين أيا من تفصيلاتها ، ومثل مصور ماهر يقص في كل مجلد جزءً من القصة ، وهذه المعركة لا تجرى في التاريخ فحسب ، بل هي حادثة تجرى أيضا في داخل كل إنسان :
..............................................................
( 1 ) الكتاب السادس : الأبيات : 2160 - 2172 .
 
« 8 »
 
- وكل ما هو في فرعون موجود فيك أنت ، لكن أفاعيك حبيسة جب .
- وا أسفاه ، فإن أحوالك كلها سوف تضعها على كاهل فرعون ذاك .
- فلو تحدثوا عنك سوف يتولد لديك الخوف ، ولو تحدثوا عن آخر سوف يبدو الأمر لك وكأنه أسطورة . « 1 » 
ويذكر نفس المعنى في موضع آخر :
- لقد صار ذكر موسى قيدا على الخواطر، فكم من قائل : ما لنا نحن وهذه الحكايات القديمة؟
- إن ذكر موسى هنا مجرد دريئة وحجاب ، لكن ليكن لك منه نور موسى أيها الرجل الطيب .
- إن موسى وفرعون في وجودك ، وينبغي أن تبحث عن هذين الخصمين في داخلك .
- وهناك نتاج من موسى حتى القيامة ، وليس نورا آخر ، وإن تغير السراج « 2 » 
يقول يوسف بن أحمد المولوي في شرح الأبيات السابقة : " فموسى وفرعون نقد حالك ، موجودان فيك ، واللائق أن تطلب هذين الخصمين في نفسك لأنهما حسب حالك ، وتعلم أن المراد من موسى الروح الإنساني ومن هارون عقل المعاد ، ومن العصا القرآن أو العرفان والإيقان والخواطر الرحمانية التي يعبرون عنها بالوحي الإلهامي ، ومن اليد البيضاء نور التوحيد ، ومن فرعون النفس الأمارة ومن هامان عقل المعاش والوساوس الشيطانية ، ومن السحرة الفسق والعصيان وأعوان النفس من الهوى والشهوة وغيرها ، وهذه كلها في
..............................................................
( 1 ) الكتاب الثالث : الأبيات 971 - 973 .
( 2 ) الكتاب الثالث : الأبيات : 1252 - 1255 .
 
« 9 »
 
الأنفس ما دام سالك طريق أهل الله يصادق فرعون نفسه ، ويخاصم روح بدنه وعقل معاده لا يقدر الوصول لربه ، وإذا أردت الحصة من الآفاق تعلم أن المراد من موسى الدال على الباقيات الصالحات من الوعاظ ، ومن هارون الذي يعاون الناس على الصلاح ومن العصا القرآن لزجر الفساق ، ومن فرعون أصحاب العصيان ، ومن هامان إخوان الشياطين أصحاب الخذلان ، ومن السحرة أهل الدنيا الذين يزينون للناس العصيان والشهوات . « 1 » 
وأغلب الشراح القدامى يتناولون قصص المثنوى من المنطلق السابق ، ولا حديث هناك عن الطغيان وتأثيره في المجتمع والأخلاق ، أو تحليل لسلوكيات المبتلين به ، في حين أن مولانا جلال الدين سعى من خلال هذه القصة بالذات إلى بيان كراهيته للطغيان السياسي واستعباد البشر واستحمارهم والاستكبار عليهم ، وفي هذا المجال يقدم نموذجا عرف طوال عصور التاريخ كنمط للظلم والطغيان ، فلماذا لا نفترض أن مولانا كان يقصد حكام زمانه ، وكان يريد أن يبث هموم نفسه ؟ 
وهل يستبعد هذا الموقف عن مولانا جلال الدين الذي احتفظ بذكريات طفولته في وعيه أو لا وعيه طويلا ؟ وكان يريد برسمه لهذه الصورة القائمة الساخرة لفرعون أن يصور خوارزمشاه وبطانته . 
ولم لا وقد صور محمد خوارزمشاه نفسه في إحدى حكايات المثنوى كملك سفاح يريد أن يبيد مدينة بأكملها ما لم تخرج له " سنيا " من بين أهلها « 2 » وشخصية فرعون في المثنوى شخصية حية ذات حضور وذات عدة أبعاد ، وفي تحليل هذه الشخصية هناك تشابه يصل إلى حد المطابقة بين ما ذكره مولانا وذهب إليه في رسم الشخصية وما ذهب إليه الفلاسفة والمفكرون
..............................................................
( 1 ) يوسف بن أحمد المولوي : المنهج القوى لطلاب المثنوى ج 3 ص 183 .
( 2 ) الكتاب الخامس : الأبيات 846 - 876 .
 
« 10 »
 
القدماء في تحليل شخصية الطاغية وظاهرة الطغيان ، ورسم خصائص الطغيان . 
والأعجب أن مولانا يصور فرعون في أكثر من موضع بأنه أفعى ، وبتقدم علم المصريات صار معلوما أن فراعنة مصر كانوا يحيطون رؤوسهم بشكل يرمز إلى الحية المقدسة والتي تسمى " اوريوس " وذلك من أجل إلقاء الرعب في قلوب الرعية كما نص كارل فيتوفجل في كتابه عن الاستبداد الشرقي ، هذه الأفعي هي نفسها التي ذكرها الفردوسي في الشاهنامه وأنها كانت تتمو من كل كتف من كتفي الضحاك " رمز الطغيان في الشاهنامه والمأثور الفارسي والعربي فيما بعد " ، ولا يعدم هذا الرمز تشابها مع رمز أفلاطون في هذا الصدد ، إذ يشبه الطاغية بذئب ، ويضيف أنه عندما يأكل الإنسان قطعة من لحم الإنسان فإنه يتحول إلى ذئب .
ومن خصائص الفرعون سجود الناس له ، كدليل على الخضوع الذي لا نهاية له وخصيصة من خصائص الاستبداد الشرقي ، وهذا هو ما نص عليه مولانا :
- إن سجود الخلق من نساء وأطفال ورجال ، قد وقر في قلب فرعون فجعله مريضا .
- وخطاب كل إنسان له قائلا : أيها الملك الإله ، قد جعله متهتكا من الوهم 
- حتى جرؤ على ادعاء الألوهية ، صار أفعي ولم يكن يشبع قط . « 1 » ومن صفات الطاغية أيضا والتي يتفق فيها مولانا مع من حللوا ظاهرة الطغيان ، والتي يتفق فيها أيضا الطغاة القدماء مع الطغاة المحديثين ، أن الطاغية يهتم اهتماما فائق الحد بتزيين مظهره ، إنه بتعبير مولانا يرصع
..............................................................
( 1 ) الكتاب الثالث : الأبيات 1556 - 1558 .
 
« 11 »
 
نفسه ، وهو وإن كان لا يساوى دودة ، إلا أنه يحب أن يتجلى دائما بمظهر الطاووس :
- إن ذلك يشبه أمر فرعون الذي رصع لحيته ، وادعى من حماريته أنه فوق منزلة عيسى .
- وكان بدوره قد ولد من أنثى ابن آوى ، وسقط في دن المال والجاه .
- وكل من رأى ماله وجاهه سجد ، وخدع هو بسجود من انخدعوا فيه .
- ومن سجود الخلق وانبهارهم به ، انتشى ذلك الشاذ مهلهل الثياب « 1 » 
ولنمعن النظر ، أو لنرجع البصر إلى بعض الطغاة القدامى والمعاصرين ولنطابق بين أوصافهم وما ذكره مولانا ، وماذا تعنى رصع لحيته غير ارتداء الحلل الفاخرة وأحيانا بعض الأزياء الخاصة والغريبة ، والتحلي بأنواع الحلى والميداليات والأنواط ، ثم الظهور أمام الجياع العراة ، ولا شك أن هذه الزينة المبالغ فيها على الظاهر ، تخفى خرابا بلقع وخواء لا نهاية له في الباطن ، وكل كان الباطن أكثر خرابا وخواءً ، كان الظاهر أبهى زينة وأقشب .
ومعلوم أيضا أن الطاغية - قديما وحديثا - ينأى بنفسه عن الناس ، ويضن بمرأه عليهم ، ويجعل من دونه الحرس والحجاب ، لأنه لا ينبغي أن يراهم الناس كثيرا فيبتذلون ، وهكذا كان فرعون ، فاليوم الذي يلتقي فيه بالناس يوم عيد ، مجرد رؤيته عيد :
- فلم يكن لهؤلاء الأسرى من نصيب إلا الإبعاد ، ولم يكن مسموحا لهم برؤية فرعون .
- ولو كان يصادفهم في الطريق ، كانوا طبقا لذلك القانون ينكبون على وجوههم .
..............................................................
( 1 ) الكتاب الثالث : الأبيات 778 - 781 .
 
« 12 »
 
- كان القانون هو ألا يرى أحد من الأسرى وجه فرعون ذاك في وقت أو في غير وقت .
- وعندما كانوا يسمعون أصوات الحرس في الطريق ، كانوا يستديرون إلى الجدران كي لا يروا وجهه .
- ومن يرى وجهه يكون مجرما ، ويحيق به أشد أنواع العقاب . « 1 » 
وقال كل فلاسفة اليونان وبخاصة أفلاطون أن النتيجة المباشرة لهذا أن ينقلب كل الناس إلى عبيد ، فالناس عندما يتحولون إلى عبيد تجد الناحية الألوهية عند الطاغية ما صدقاتها ، لكن من تناقضات شخصية الطاغية ، أنه في نفس الوقت يمتليء رعبا وهلعا من الناس ، ويظل في انتظار نهايته المحتومة .
ولننظر إلى مولانا يصور فرعون الذي كان يعيش داخل قصره وبين حراسه وحجابه يمتليء رعبا وهلعا من الناس المحتفلين في الميدان ، ويخرجه صياحهم الذي يصل إلى مسامعه على البعد عن طوره :
- وفي نفس الوقت ، ومن ناحية الميدان ، كانت صيحات الخلق تملأ الفضاء وتصل إليهما .
- وخوفا من تلك الأصوات قفز فرعون في تلك اللحظة حافيا صائحا : أي ضجيج هذا حذار .
- أي صوت هذا من ناحية الميدان ، وأي ضجيج يهلع الجنى والشيطان خوفا منه .
- فقال عمران : أطال الله عمر مليكنا ، إن بني إسرائيل مسرورون منك .
- إنهم في مرح وسعادة من عطاء الملك ، فهم يرقصون ويصفقون .
- قال فرعون : ربما يكون الأمر هكذا ، لكن الوهم والفكر قد ملآني تماما . « 2 » 
وبقول أفلاطون ، ومن المشاهدة العينية لكل طاغية أن الطاغية لا يجمع حوله عادة إلا كل منافق ومداهن ، وهم يخافونه ، وهو أشد خوفا منهم ، وكلهم
..............................................................
( 1 ) الثالث : 849 - 853 .
( 2 ) الكتاب الثالث : الأبيات 890 - 895 .
« 13 »
 
بمصطلح مولانا يلعبون نرد الخدمة معكوسا ، وأسوأ خيانة لفرعون ولخطط فرعون تتم على باب مخدع فرعون ، وعلى يد أقرب المقربين إليه ، وهذا يثبت - للمرة المليون - أن الخطر الحقيقي على الطاغية يكمن في أقرب الناس إليه . وتتكرر في التاريخ شخصية بروتوس ، ومن هنا فإن نطفة موسى تنعقد على باب فرعون نفسه ، وموسى نفسه يتربي في أحضان فرعون : - 
- لقد احتال الإنسان ، وكانت حيلته شراكا له ، ومن ظنه حبيبا ، كان سافكا لدمه .
- وأغلق الباب والعدو داخل داره ، وكيد فرعون من هذا القبيل .
- فلقد قتل مئات الآلاف من الأطفال ذلك الحقود ، في حين أن من كان يقصده ، كان داخل داره . « 1 » 
وبتعبير مولانا أن كل ما كان يجرى كان سببه عمى قلب فرعون الذي كان يصارع الإرادة الإلهية ، فقد كان يرى نفسه إلها قادرا على كل شيء ، وبالنظر إلى طبيعة الطغيان نرى أن الطاغية يسرع بنفسه إلى نهايته ، ويسعى إلى حنفه بظلفه ، ويجد ويكدح من أجل نهايته ، وكل لحظة يدق مسمارا في نعشه ، إنه هو الذي يربي الثورة ، بفعاله يغذيها بالوقود اللازم ويقوى في زخمها ، وأعدى أعداء الطاغية هو نفس الطاغية :
- مثل فرعون الذي كان قد ترك موسى ، وأخذ في قطع رؤوس أطفال الخلق .
- كان العدو موجودا في منزل ذلك الأعمى القلب ، بينما انهمك هو في قطع رؤوس الأطفال الآخرين .
- وأنت أيضا سىء مع الآخرين في ظاهرك ، وفي باطنك تصالحت مع النفس ثقيلة الحمل
..............................................................
( 1 ) الكتاب الأول : الأبيات 922 - 924 .
 
« 14 »
 
- إنها عدوتك ومع ذلك تقدم لها السكر، ثم تلقي التهمة على كل إنسان يحبط بك من خارجك.
- إنك كفرعون أعمى البصر وأعمى القلب ، طيب مع عدوك ، مذل للأبرياء .
- فحتام تقتل البرىء يا فرعون ، وتكرم الجسد الملئ بالغرم . « 1 » 
وهذا هو نفس المعنى الذي عبر عنه مولانا في موضع آخر بأن " الطاغية في عين قهره مقهور وفي عين نصره مأسور " . « 2 » 
وقد صورت التناقضات الداخلية في نفسية الطاغية والتي تظهر في سلوكياته بإبداع شديد في مثنوى مولانا ، فالفرعون الذي كان في ظاهره جبارا سفاكا للدماء متكبرا مليئا بالشر ، وكان يرى نفسه قادرا على كل شيء ، كان في الحقيقة على العكس : واهنا معدوم الكفاية خائفا وجبانا ، بحيث يسخر منه الأذكياء والمؤمنون :
- لقد رأى فرعون العنود حية موسى ، فأخذ في طلب المهلة وإبداء اللين 
- وقال الأذكياء : كان ينبغي عليه أن يكون أكثر حدة وغضبا ما دام هو رب الدين .
- وسواء كانت المعجزة أفعى أو حية ، ترى ماذا حدث لألوهيته وكبريائه ؟
- لقد كان يهتف : أنا ربكم الأعلى عند جلوسه ، فما هذا الهلع الذي يبديه من أجل دودة ؟ « 3 »
..............................................................
( 1 ) الكتاب الرابع : الأبيات 1917 - 1922 .
( 2 ) الكتاب الثالث : العنوان السابق للبيت 4564 .
( 3 ) الكتاب الخامس : الأبيات 2444 - 2447 .
 
« 15 »
 
وفي تحليل شخصية الطاغية في الآداب العالمية - وبخاصة الآداب الروائية 
- نرى أن الطاغية مهما كان في الظاهر يبدو مظفرا ومنتصرا ، فهو في الحقيقة مهزوم في أعماقه شاك باك ومعذب برؤى تعد انعكاسا نفسيا حتميا لما يرتكبه من آثام ، وتبدو نهاية الطاغية أول ما تبدو له نفسه في صورة رؤى وكوابيس مهولة ومخيفة تحرمة اللذة التي ينالها كل فقير معدم وهي لذة العيش والنوم وراحة البال :
- أحيانا كنت ترى في النوم أن ملابسك تشتعل نارا ، وأحيانا كنت ترى أن عينيك وفمك قد خيطا .
- وأحيانا ترى وحشايهم بسفك دمك ، أو ترى رأسك بين أنياب حيوان مفترس .
- حينا ترى نفسك منقلبا في مرحاض أو غريقا في سيل عرم من الدم .
- وأحيانا يهتف بك هاتف من هذا الفلك النقي : إنك شقي شقي شقي .
- وأحيانا يهتف بك هاتف صراحة من الجبال ، قائلا لك : إمض إنك من أصحاب الشمال .
- وحينا يأتيك النداء من كل جماد هاتفا : لقد سقط فرعون في الجحيم إلى أبد الآباد .
- وهناك ما هو أسوأ ، ولا أذكره لك حياءً ، حتى لا يزداد طبعك المعكوس سوءا . « 1 » 
ألا تذكرنا كل هذه الكوابيس التي كان فرعون يراها في النوم بنظريات علماء النفس المعاصرين ؟ 
أليست تعبيرا دقيقا عن هجوم اللاوعي على الوعي ؟ وفي الشطرة الثانية من البيت الأخير توجد إشارة عميقة ، أن النتيجة الحتمية لهذه
..............................................................
( 1 ) الكتاب الرابع : الأبيات 2493 - 2499 .
 
« 16 »
 
الكوابيس هي أن الطاغية يزداد سوءا ، فضلا عن أن مواجهته بها تجعله أكثر عتوا واستكبارا ، وأكثر تعطشا للدماء واستعبادا للخلق ، وبين هذين الوجهين كحجرى الرحى يطحن الطاغية ويسرع نحو نهايته المحتومة .
وأسوأ تجليات سمات شخصية الطاغية تظهر عند مواجهته للناس أو مواجهة الناس له ، تفتضح مداهنته ونفاقه وضعفه وخوره وتعلن على الملأ ، وفي الأبيات التالية يبين مولانا ببيان معجز كيف أن فرعون الذي استعبد الناس وأذلهم وأفقرهم وأضعفهم يظهر لهم الشفقة ويتحدث باسمهم وآمالهم ، وحتى يجعلهم يثورون على موسى عليه السلام يقدم لهم موسى كمتمرد يخدع الخلق ويجرهم إلى الذبح :
- قال له فرعون : لماذا أيها الكليم قتلت الخلق وأوقعت فيهم الرعب ؟
- وعند فرارهم سقط الخلق خوفا منك ، وعند فرارهم قتل الخلق من سقوطهم بعضهم فوق بعض منزلقين .
- فلا جرم أن الناس قد اعتبروك عدوا ، ووقر الحقد عليك في قلوب الرجال والنساء .
- وكنت تدعو الناس ، وانقلب الأمر إلى عكسه ، ولا بد للناس من مخالفتك .
- وأنا أيضا وإن كنت أعانى من شرك ما أعانى ، فإنني عقابا لك ، أدبر لك أمرا .
- فاصرف عن قلبك أنك تستطيع خداعي ، أو أن أحدا سوف يتبعك ، إلا ظلك .
- ولا تغتر بما صنعت ، أو أنك أوقعت الرعب في قلوب الخلق .
- فهات أضعاف ما أتيت به ، وتفتضح ، وتذل ، وتصير أضحوكة للغوغاء .
 
« 17 »
 
- فقد كان هناك كثير من المشعوذين والمحتالين أمثالك ، وفي النهاية أفتضحوا في مصرنا . « 1 » 
ولنر ، كم مرة كرر فرعون لفظ الناس والخلق في هذه الخطبة القصيرة ؟
لكن علينا ألا ننسى أنه فرعون ، وفرعون سرعان ما يرتد إلى طبيعته ، ويسمى نفس هؤلاء الناس الذين يتملقهم بالغوغاء " أو العوام كالأنعام " ، وموسى في رأى فرعون هو المسؤول عن قتل الخلق ، والمسؤول عن رعبهم وفرارهم ، أما من قتل فرعون ، وسنوات الرعب التي عاشها الخلق تحت ظل حكمه الفرعوني ، فأمور من السهل نسيانها ، فلا بد أن هذا كله كان لمصلحة الشعب الذي اختاره . وهكذا يرى كل فرعون نفسه واجب الوجود ، لازما لزوم الماء والهواء ، بدونه لا يتم أمر ، ويتوقف الكون عن الدوران ، وهو يعتقد أنه لو انحسر ظله المبارك - لا قدر الله - عن رؤوس الخلق ، فلن يكون بديل له إلا الهرج والمرج والفوضى ، وفرعون الذي بين أيدينا كان يظن أن ماء النيل لا يجرى إلا بأمره وإرادته " ضمن إشارة لسنائي الغزنوي في الحديقة " ومن هنا يوجه فرعون الحديث إلى موسى قائلا :
- وقد اختارني أهل الدنيا ، فهل أنت أعقل منهم يا هذا ؟ ! « 2 » 
وفي الشطرة الثانية : موسى النبي وأول نبي مطالب بالحرية وثائر هو في رأى فرعون مجرد هذا أو في النص الفارسي " فلان " يعنى إنسان مغمور بلا اسم فاقد الأهلية لا يستحق أن يجرى اسمه على لسان فرعون العظيم .
ومن التناقضات الأخرى في شخصية الطاغية ، والتي فهمها مولانا فهما جيدا أن أسوأ مظاهر غضب الطاغية تنصب أول ما تنصب على المقربين
..............................................................
( 1 ) الكتاب الثالث : الأبيات 1067 - 1075 .
( 2 ) الكتاب الثالث : البيت 1083 .
 
« 18 »
 
والمستشارين والمخلصين ، فالطاغية أصلا لا يخطئ ، وإذا خاب وخسر وفشل 
- وهذا هو ما يحدث في الغالب - فإنه لا يستطيع أن يتحمل مسؤولية الفشل والخيبة مهما كان ضليعا فيها 
- وهو في الحقيقة أصلها وأساسها - ومن ثم ينصب غضبه على أولئك المقربين الذين كانوا أول من خدع به وأول من عاونوه وأعانوه على الباطل ، فسرعان ما يقدمون ككباش ، وعامل تهدئة ، ووسيلة تقرب :
- وسمع الملك فقال : أيها الخونة ، لأصلبنكم جميعا بلا إمهال .
- لقد جعلت من نفسي أضحوكة ، وخسرت أموالي " وأنفقتها " على الأعداء .
- حتى ابتعد بنو إسرائيل جميعا عن نسائهم تلك الليلة .
- وضاع المال والكرامة ، ولم يتم الأمر ، أهذا هو العون وأفعال الكرام ؟ ! 
- ولسنوات وأنتم تأخذون الأموال والخلع ، وتنهبون الممالك ، وهي مسلمة لكم .
- وهكذا كان رأيكم ، والعلم ، والنجوم ، وأنتم آكلون بالمجان ، مكرة ، مشئومون .
- لأشنقنكم ، ولأضرمن فيكم النيران ، ولأقطعن أنوفكم وآذانكم وشفاهكم .
- ولآجعلن منكم حطبا للنيران ، ولأجعلن سروركم السالف مرارة عليكم . « 1 » 
والنتيجة أن الطاغية يصبح سئ الظن مليئا بالوساوس بالنسبة للمحيطين به ، يبقى وحيدا تماما ، يرى الكوابيس في النوم ، ويبكي في اليقظة ، وتتجسد أمام عينيه كل جرائمة وآثامه ، ويرى نفسه عيانا بيانا على الباطل :
- وكان موسى شاكيا إلى الله نهارا ، بينما كان فرعون باكيا في جنح الليل .
..............................................................
( 1 ) الكتاب الثالث : الأبيات 920 - 927 .
« 19 »
 
- مناجيا : يا إلهي ، أي غل هذا في عنقي ؟ وطن لم يكن ثم غل ، فمن يجرؤ على قول : ها أنا ذا ؟
- وذلك أنك قد غمرت موسى بالنور ، ومن ذلك جعلتني كدرا هكذا .
- ونجمي لم يكن بأفضل من القمر ، وما دام الخسوف قد حل ، فأية حيلة لي ؟ ! 
- والدور دورى ، وكوسات السلطنة تدق لي ، ومع ذلك فقد خسف قمري ، والناس يدقون على الطسوت .
- إنهم يدقون على الطسوت ويحدثون الضجيج ، ويجعلون القمر مفتضحا بهذا الدق .
- وويلي ، ويلي أنا الفرعون من الدق على الطسوت التي تناديني بربي الأعلى .
- ثم قال فرعون لنفسه : عجبا ! ! ألست أنا المقيم على المناجاة طوال الليل ؟ ! 
- إنني في السر أكون مخلوقا من تراب ومتزنا ، وعندما ألتقي بموسى ، إلام أصير ؟ ! « 1 » 
في الأبيات السابقة ، يصور مولانا فرعون كأحد أبطال التراجيديات القديمة ، يعلم أن كل ما يصنعه ، يتفرق بددا ، يساق بقوة فوق بشرية ، ولا يستطيع أن ينجو من مصيره ، ومهما رأى عمله بلا نتيجة ، لا يستطيع أن ينصرف عنه ، ولا يستطيع أن يفعل سواه ، كأنه يلعب دورا في مسرحية ، ولا يستطيع أن يتفوه بكلمة واحدة بعيدا عن النص ، وهكذا يعترف فرعون أمام نفسه :
..............................................................
( 1 ) الكتاب الأول : الأبيات : 2459 - 2461 و 2463 - 2466 و 2471 - 2472 .
 
« 20 »
 
- فإنني قد انقلبت من انعكاس نار الجحيم على إلى نار ، وصرت غريقا في غضب الله .
- أحيانا من انعكاس غاشية الجحيم علىّ صرت كالحية ، ممطرا للسم على أهل الجنة .
- وأحيانا من انعكاس غليان ماء الحميم ، جعل ماء ظلمي الخلق كالرميم .
- فأنا من انعكاس الزمهرير زمهرير ، أو من انعكاس ذلك السعير علىّ سعير .
- فأنا جهنم على الدرويش والمظلوم الآن ، وويل لذلك الذي أجده ضعيفا فجأة « 1 » .
والطاغية الذي يسرع نحو مصيره هرولة ، لا يستمع إلى نصيحة الناصح الأمين المخلص ، ويعطيها أذنا بها وقر ، وعلى العكس يستمع إلى مشورة المستشار المنافق ، وهكذا كان فرعون ، ضرب بنصيحة زوجته عرض الحائط ، وقبل نصيحة وزيره هامان ، لماذا ؟ 
لأن هامان من جنسه ، ولا يمكن أن يكون أحد وزيرا لفرعون إلا هامان ، ويصور مولانا مشورة هامان قائلا :
- لقد تحدث إلى هامان عندما انفرد به ، فقفز هامان وشق جيبه .
- وأخذ يصرخ ويبكي ذلك اللعين ، وألقى بالعمامة والتاج على الأرض .
- وقال : كيف قال ذلك الوقح كلاما فارغا كهذا في حضور الملك ؟
- لقد أخضعت العالم بأجمعه ، وسويت الأمور بإقبالك الذهبي .
- ودون أي عناد ، يأتي إليك الملوك من المشارق والمغارب ، ويؤدون الجزية " عن يد وهم صاغرون " .
- والملوك يمرغون شفاههم على عتبة بابك فرحين أيها الملك العظيم .
..............................................................
( 1 ) الكتاب الرابع : الأبيات 2523 - 2526 .
 
« 21 »
 
- وجواد كل متمرد عندما يرى جيادنا ، يحول وجهه ويلوذ بالفرار دون عصا منا .
- وكنت حتى الآن معبودا للدنيا وموضع سجودها ، فتحولت إلى أحقر العبيد .
- إن الدخول في لهيب ألف نار ، أفضل من أن يصير سيد مولى لعبد .
- لا ، أقتلني أولا يا " غالبا " ملك الصين ، حتى لا تبصر عيني هذا الأمر " يجرى على " الملك .
- واضرب عنقي أولا يا سيدي ، حتى لا تبصر عيناي هذه المذلة .
- إن هذا الأمر لم يحدث من قبل ، ولا حدث ولا كان ، أن تنقلب الأرض سماءً والسماء أرضا .
- وأن يصير عبيدنا شركاء لنا ، وأن يصير الخائفون منا أذى على قلوبنا .
- وأن تضيء عيون الأعداء فرحا بينما يعمى الأصدقاء ، إذن فقد صارت بطن الأرض لنا خيرا من ظهرها . « 1 » 
ولقد تحدث هامان من مدخل شخصية فرعون : الكبرياء والكبرياء وحده ، ومن ثم شارك في سوق فرعون إلى مصيره المحتوم .
هل كان مولانا يؤمن بالتغيير الجذرى ؟ الواقع أننا نلمح عند مولانا راديكالية مبكرة استخدمها في معرض تكوين الشخصية ، لكن لما ذا نستبعد أنه كان يقصدها بكل أبعادها ؟ فالتغيير لا بد وأن يكون شاملا لا يتوخى التدرج ، وترميم القديم لا يفيد ، بل الواجب أن يقوض البناء من أساسه ويقوم بد لا منه بناء جديد ، وكل واقع جديد لا بد وأن يقوم على أنقاض القديم ، والعالم
..............................................................
( 1 ) الكتاب الرابع : الأبيات 2723 - 2736 .
« 22 »
 
كله في حالة تهدم وبناء ، قديم يمضي وجديد يأتي ، وكل شيء هالك إلا وجهه :
- لقد جاء أحدهم وأخذ يحرث الأرض ، فصاح أحد البلهاء ، ولم يستطع صبرا ، 
- قائلا : لماذا تقوم بتخريب الأرض وكشفها وتحدث فيها كل هذا الاضطراب ؟
- فقال له : إمض أيها الأبله ، ولا تحمل عليّ ، وميز أولا بين العمارة والخراب .
- فمتى ينبت منها حقل حنطة أو تنبثق منها روضة ما لم تصر قبيحة ومخربة هذه الأرض ؟
- ومتى يمكن أن تتحول إلى بستان وفروع وأوراق وثمار ، ما لم تقلب ظهر البطن ويصير عاليها سافلها ؟
- وما لم تشق بالمبضع الجرح الذي إلتأم على تقيح، فمتى يشفى ومتى يصير موضعه ناعما؟
- وما لم تغسل أخلاطك بالدواء ، متى يذهب التهيج ويأتي الشفاء ؟
- إن الخياط يمزق الثوب إربا ، فهل يقوم أحد بضرب هذا الخياط الماهر ؟
- قائلا له : لماذا مزقت هذا الأطلس الفاخر ؟ وما ذا أفعل أنا بهذه القطع الممزقة ؟
- وعندما يراد ببناء قديم أن يعمر ، ألا يقومون في البداية بهدم البناء القديم ؟
- وهكذا ألا يقوم النجار والحداد والقصاب بهد قبل البناء والتعمير ؟
 
« 23 »
 
- وألا يكون من دق النباتات الطبية وسحقها الدواء الذي جعلوا منه عمارة الجسد ؟
- وما لم يطحن القمح ويدق في الطاحون ، متى يمكن لموائدنا أن تزدان به ؟ « 1 » وتكثر هذه الإشارات في مثنوى مولانا ، مما يثبت أنه لم يكن ذلك الصوفي الهائم بين وحدة الوجود ووحدة الشهود ، بل كان مفكرا عظيما ، عينه على الأرض ، يريد أم يجعل من الإنسان مخلوقا سماويا ، ومن ثم ضن به أن تستعبده نفسه فضلا عن أن يستعبده جبار في الأرض ، يريد أن يشارك الله رداء كبريائه .
..............................................................
( 1 ) الكتاب الرابع : الأبيات 2341 - 2353 .

.
* * *
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: