الأربعاء، 3 يوليو 2019

السفر التاسع فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الفقرة السابعة عشر .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي جامعها لإظهارها عبدالله المسافر بالله

السفر التاسع فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الفقرة السابعة عشر .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي جامعها لإظهارها عبدالله المسافر بالله

السفر التاسع فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الفقرة السابعة عشر .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

موسوعة فتوح الكلم في شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي جامعها لإظهارها عبدالله المسافر بالله

09 - The Wisdom Of Light In The Word Of Joseph  

الفقرة السابعة عشر :
كتاب تعليقات د أبو العلا عفيفي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي 1385 هـ :
الفص التاسع حكمة نورية في كلمة يوسفية
(1) حكمة نورية في كلمة يوسفية
(1) يبحث هذا الفص في «عالم المثال» و ما يتصل به من القوة الخيالية في الإنسان و ما ينكشف للإنسان بواسطة اتصاله بالعالم المثالي من صور الوجود الروحاني كالصور التي ترى في الأحلام.
و العالم المثالي نوراني كما يقولون- أي غير مادي- جرياً على الاصطلاح الفارسي- في تسمية كل روحي لطيف نوراً، و كل مادي كثيف ظلمةً، و لكن الصور النورانية التي يحتويها قد تبدو في العالم المحسوس متجسدة متشخصة، و تدرَك فيه على نحو ما تدرك الكائنات المادية.
و أهم مسألة يعرض المؤلف لذكرها هنا مسألة الرؤيا وصلتها بقوة الخيال في الإنسان من جهة، و بالعالم المثالي من جهة أخرى، ثم صلة الرؤيا بالوحي و منزلتها منه.
غير أنه لا يقف عند هذا الحد، بل يصبغ المسألة صبغة ميتافيزيقية أخرى فيتوسع في معنى الخيال بحيث يجعله الحضرة- أو الحال- التي تظهر فيها الحقائق الوجودية في صور رمزية. فكل ما يظهر للحس أو للعقل مما يجب تأويله لمعرفة حقيقته خيال. و لهذا لم يتردد في القول بأن حياتنا كلها حلم من الأحلام، و أن كل ما نراه من صور الوجود الخارجي خيال في خيال، و أن النور الحقيقي أو الوجود الحقيقي هو اللَّه. بعد ذلك يشرح بالتفصيل معنى وجود العالم و نسبته إلى اللَّه، و معنى الوحدة و الكثرة و العلاقة العِلّية بين اللَّه و العالم.
أما اقتران اسم يوسف بهذه «الحكمة النورية» فلصلته بتأويل الأحلام كما
ورد في قصته، لأن يوسف قد كشف عن العالم المثالي على الوجه الأكمل، و كان عالماً بالمراد من الصور المرئية المثالية.
و المراد «بالحكمة النورية» المعرفة الخاصة بذلك العالم النوراني الذي هو عالم المثال. فبهذه الحكمة نعرف أسرار هذا العالم و ندرك صلته بحضرة الخيال في الإنسان. و لهذا قال «انبساط نورها على حضرة الخيال»: أي انها تلقي الضوء على ما خفي من ظواهر حضرة الخيال. هذا إذا أعدنا الضمير في نورها على الحكمة النورية.
و لكن القيصري و جامي يعيدان الضمير على «الكلمة اليوسفية» أي روحانية يوسف التي يقولان إن نورها منبسط على حضرة الخيال، بحيث إن كل من يعلم علم الرؤيا من بعده إنما يأخذ عن مرتبته و يستمد من روحانيته. و ليس لهذا التخريج ما يؤيده من نصوص الكتاب.

(2) «و قال يوسف عليه السلام: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ... إلى في خزانة خياله».
(2) يذهب إلى أن ما يُرى في الأحلام على صورته الواقعية أو على صورة أخرى غير صورته قد يكون نتيجة قصد و إرادة من الرائي أو من المرئي أو من كليهما، و قد يحصل عن غير قصد و لا إرادة منهما.
فإذا وقعت الرؤيا نتيجة لقصد و إرادة كان للقاصد علم بما قصد، و إذا وقعت من غير قصد و إرادة من أحد، لم يكن للمرئي علم بما رآه الرائي و لا للرائي علم بما رأى إلا بعد حصول الرؤية.
و هذا النوع أدخل في باب الرؤيا الصادقة و أكمل لأنه إدراك مباشر لما في خزانة الخيال. و قد كانت رؤية يوسف لإخوته في صورة الكواكب، و لأبيه و خالته في صورة الشمس و القمر غيرَ مرادة له و لا لأحد من المرئيين بدليل أنه لم يكن يعلم عن هذا الأمر شيئاً و أنهم لم يكن لهم علم بما رآه. و لذلك أدرك يعقوب قيمة رؤيا ابنه و صدقها فقال له «يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً».
أما الرؤيا عن قصد من الرائي فأمر يرى إمكانه معظم الصوفية. و يحدثنا ابن العربي نفسه أنه كان يستطيع في أي وقت شاء أن يستحضر في حلمه أو في يقظته صور مشايخه فتتمثل أمامه و يخاطبها بما يريد. و لعل غير الصوفية أيضاً يزعمون هذا الزعم و إن كانوا لا يذهبون في تفسير هذه الظاهرة مذهبهم. راجع ما ذكرناه عن الهمة و خلق الأشياء بواسطتها: الفص السادس: التعليق الثامن: قارن ما يذكره المؤلف عن «الصدق» في كتابه مواقع النجوم ص 83 - 85. راجع أيضاً شذرات الذهب لابن العماد ج 5 ص 196 في كلام صدر الدين القونوي عن تمكن شيخه ابن العربي من الاجتماع بروح من شاء في نومه أو يقظته.

(3) «و سأبسط من القول في هذه الحضرة بلسان يوسف المحمدي».
(3) حاول أن يعقد صلة بين الرؤيا التي رآها يوسف في منامه ثم أوَّلها و قال بعد أن تحققت: «هذا تَاوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا»، و بين قول النبي صلى اللَّه عليه و سلم: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا».
فقال إن الأصل هو ما قال النبي محمد عليه السلام و هو أن الناس نيام و أن كل ما يرونه أحلام، و أن يوسف لما رأى رؤيته ثم أوَّلها فيما بعد إنما خيل إليه أنه استيقظ من نومه، و لكنه لم يستيقظ و لم يزل في نومه حتى مات: و كذلك كل إنسان و هذا معنى قوله «فكان (أي يوسف) بمنزلة من رأى في نومه أنه قد استيقظ من رؤيا رآها ثم عبَّرها، و لم يعلم أنه في النوم عينه ما برح». فاليقظة إذن هي النوم بعينه، و ليس ما نسميه نوماً إلا حالًا من حالاتها، و ليس ما نراه في اليقظة أو في المنام إلا خيالًا يجب تأويله.
و لهذا يفرِّق بين يوسف النبي الذي وصف العالم المحسوس بأنه العالم الحق و قابل بينه و بين عالم الأحلام في قوله: «هذا تَاوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا»، و بين ما يسميه «يوسف المحمدي» أي يوسف الذي يتكلم بلسان محمد و يشرح قوله: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» بالمعنى الذي أشرنا إليه
و الذي يزيده المؤلف تفصيلا فيما بعد.

(4) «اعلم أن المقول عليه «سوى الحق» أو مسمى العالم ... كالظل للشخص و هو ظل اللَّه».
(4) في هذا الجزء من الفص أثر واضح للفلسفة الزرادشتية: على الأقل في الاصطلاحات و التشبيهات التي يستعملها ابن العربي إن لم يكن في صميم الأفكار ذاتها.
فهو يرى أن الحقيقة الوجودية لها ناحيتان- و قد أشرنا إلى بعض خصائص هاتين الناحيتين فيما سبق- الحق، و ما سوى الحق: أو اللَّه و العالم و يرمز لهما بالنور و الظلمة، أو بالشخص و ظله. و لكن لكي يكون لشخص من الأشخاص ظل، يلزم أن توجد ذات يقع منها الظل، و ذات أخرى أو ذوات يقع عليها الظل، و نور يسبب الظل. و كذلك الحال في ذلك الظل الوجودي الذي يتكلم عنه. فالحق هو الذات التي يمتد منها الظل، و أعيان الممكنات هي الذوات التي يقع عليها الظل- لطيفاً في عالمها المعقول، كثيفاً في عالمها المحسوس- و النور هو اسم اللَّه الذي تجلى به على الممكنات فأظهر الحد ما بين الحق و الخلق.
و يتصوره ابن العربي على أنه أشبه شي ء بالقوة الخالقة في طبيعة الوجود تدفعه دائماً إلى الظهور و التعَيُّن في الصور.
"يقول القيصري إن اسم النور يطلق على الوجود الإضافي أي الوجود الذي يمنحه اللَّه العالم و على العلم الإلهي و على الضياء إذ كل منها مظهر للأشياء. اما الوجود فظاهر لأنه لولاه لبقي أعيان العالم في كتم العدم، و أما العلم فلأنه لولاه لم يدرك شي ء بل لا يوجد فضلا عن كونه مدركا، و أما الضياء فلأنه لولاه الأعيان الوجودية في الظلم الساترة لها "
و بالاسم النور يقع إدراكنا للموجودات لأنه يظهرها، و نحن ندرك من الحق بقدر ما ندرك من الأشياء التي وقع عليها ظل وجوده.
فإذا أثبتنا أن للعالم وجوداً (مستمداً من وجود الحق) كان للظل وجود واقعي و كانت الحقيقة ثنائية.
أما إذا قدرنا عدم وجود العالم، فإن الظل يكون أمراً معقولا موجوداً بالقوة لا بالفعل و تكون الحقيقة واحدية. فالمسألة إذن مسألة اعتبار و تقدير: إذا نظرنا إلى الحقيقة من جهة قلنا إنها واحدة، و إذا نظرنا إليها من جهة أخرى قلنا إنها اثنينية.
و ظاهر من هذا الكلام أن ابن العربي كان يشعر بنفس القلق العقلي الذي شعر به زرادشت من جراء محاولة التوفيق بين التوحيد الديني و الثنوية الفلسفية، و لكنه وَجَدَ- خلافاً لزرادشت- مخرجاً من هذا التناقض في نظريته في وحدة الوجود التي تقبل جميع الاعتبارات و تنمحي فيها جميع المتناقضات.

(5) «و لكن باسم النور وقع الإدراك، و امتد هذا الظل على أعيان الممكنات في صورة الغيب المجهول».
(5) ذكرنا في التعليق السابق كيف اعتبر الاسم الإلهي «النور» مبدأ الخلق أو مبدأ ظهور التعينات في الذات الإلهية، و يظهر أنه يعتبره هنا مبدأ التعقل أو الإدراك في الذات الإلهية.
فكأنه بهذا المعنى مرادف للعلم أو العقل، إذ به امتد ظل الوجود الإلهي على أعيان الممكنات الثابتة في العلم القديم أو في العالم المعقول المشار إليه باسم «الغيب المجهول». و به عرف الحق نفسه بنفسه لما رأى صورة نفسه في مرآة الوجود الإضافي متمثلة في جميع الصور المعقولة التي احتوتها ذاته بالقوة. و ليس النور- بهذا المعنى- مبدأ الإدراك في الحق وحده، بل في كل ما يدرِك و من يدرِك من الكائنات. هو العقل الواعي الساري في الوجود.
و يذهب الصوفية الذين يستعملون هذه اللغة الاشراقية إلى أن هذا المعنى المزدوج لكلمة النور مشار إليه في قوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» فيقولون إنه نور السموات بمعنى أنه العقل الكلي الإلهي، و نور الأرض بمعنى أنه مبدأ وجود العالم أو مبدأ الخلق فيه.

(6) و كذلك أعيان الممكنات ليست نيرة لأنها معدومة و إن اتصفت بالثبوت، لكن لم تتصف بالوجود إذ الوجود نور».
(6) شرح قبل ذلك فيضان الوجود عن الواحد الحق: و عبَّر عن هذا المعنى هنا بامتداد ظل الوجود على الموجودات.
و لكنه يرى أن هذا الظل يختلف كثافة و لطافة بمقدار بعده أو قربه من مصدره. فالعالم المحسوس يمثل أكثف الظلال: و العالم المعقول ألطفها، و عالم المثال- الذي هو عالم الأرواح- بين بين. و هذا بالضبط ما يقوله أفلوطين في فيوضاته و لكن بلغة أخرى.
و لما كانت أعيان الممكنات- التي هي الصورة المعقولة للموجودات- من جملة هذه الظلال، و إن كانت أقربها جميعاً إلى مصدر الظل، قال إنها ليست نيِّرة لأنها الظل الأول الذي أخذ في التكاثف شيئاً فشيئاً حتى بلغ منتهى الظلمة في العالم المحسوس.
أما وصفه هذه الأعيان بأنها معدومة و إن كانت ثابتة، فذلك لأنه يفرِّق بين الثبوت و الوجود. و الأعيان ثابتة أي موجودة في العلم الإلهي على نحو ما توجد المعاني في العقول الانسانية و ليس لها وجود في العالم الخارجي، و هذا معنى عدمها. أما الوجود فيقصد به التحقيق في العالم الخارجي في الزمان و المكان، و لا يكون ذلك إلا لأشخاص الأعيان الثابتة.

(7) «و إذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهَّم ما له وجود حقيقي، و هذا معنى الخيال».
(7) بعد أن شرح العلاقة بين اللَّه و العالم مستعملًا التمثيل بالظل و صاحب الظل على نحو ما شرح نفس الموضوع من قبل مستعملًا التمثيل بالمرايا و صورها، انتهى إلى النتيجة الحتمية التي أرادها، و هي أن ليس للعالم وجود حقيقي في ذاته، بل هو أمر متوهم، أي متوهم وجوده إلى جانب وجود اللَّه، إذ ليس في الحقيقة إلا وجود واحد.
و هذا هو معنى الخيال: يريك الشي ء في صورة أخرى، فإذا تأملته و أوَّلته أدركت أنه هو هو.
غير أننا يجب أن نكرر هنا ما ذكرناه من قبل عن التمثيل بالمرايا و صورها، و ضروب التمثيل الأخرى التي يستعملها ابن العربي- و ذلك أن كل تمثيل من هذا النوع لا يخلو من شي ء من الغموض و التضليل من ناحية أنه أمر محسوس يراد به إيضاح ما هو في نفسه غير محسوس، و من ناحية أنه يشعر بالاثنينية حيث ليس في الأمر اثنينية و لا كثرة بأي وجه.
فليس من الممكن أن نتصور الشخص و ظله إلا على أنهما شيئان متميزان مهما قيل من أن الظل لا وجود له بدون الشخص و من أنه يستحيل عليه الانفكاك عنه. فاتصال الظل بالشخص و افتقاره في وجوده إليه شي ء، و القول بأنهما حقيقة واحدة شي ء آخر.
و لكن هذه هي الدعوى التي يدعيها ابن العربي في الصلة بين اللَّه و العالم عند ما يشبه العالم بظل اللَّه و يقول يستحيل على الظل الانفكاك عن ذاته هل ظل الشي ء عين ذاته: أم هو أثر من آثاره و عرض من أعراضه؟
و هل للذات وجود في الظل الممتد عنها كما أن للحق وجوداً في صور الممكنات؟
هذه و أمثالها أسئلة فيها من جفاف المنطق ما لا تتحمله المعاني الشعرية التي يوضح بها ابن العربي نظريته فيجب إذن ألا ينظر إلى لوازم كل هذه التشبيهات و ألا نحكِّم منطق العقل في المسائل الذوقية و الشعرية.
و هناك تمثيل آخر يذكره بعد التمثيل بالظل مباشرة و يوضح به اختلاف تجلي الحق باختلاف صور الممكنات، لأنه يُشَبّه الحق بالنور الذي لا لون له، و يشبه الخلق بالزجاج الملون، و يقول إن الحق يظهر في صور الموجودات بحسب ما تقتضيه طبيعة هذه الصور كما يظهر النور المرئي خلال الزجاج الأخضر أخضَرَ، و المرئي خلال الزجاج الأحمر أحمر و هكذا. فاللون هو الذي حجب النور عن أن يظهر على حقيقته، كما أن صور الممكنات هي التي حجبت الحق عن الظهور بذاته في صورة غير متعينة.
فالنور هو الحق أو الذات الإلهية، و الزجاج هو العالم، و الألوان هي صور الوجود المختلفة. و الذات الإلهية لا لون لها: أي ليس لها في نفسها صفات و لا خصائص و لا نسب، و إنما تظهر بهذه الصفات و الخصائص و النسب إذا نظر إليها خلال الموجودات التي لها هذه الأوصاف.
و هذا معنى قوله: «و هكذا تُرَاهُ» - أي و هكذا تُرَى النور- «ضربَ مثالٍ لحقيقتك بربك» أي ذكرنا لك النور الملون لنضرب لك مثالا يوضح حقيقتك مع ربك.

(8) «مع هذا عين الظل موجود فإن الضمير من «سمعه» يعود عليه».
(8) الإشارة في قوله من «سمعه» تعود على الحديث القدسي الذي يكثر ابن العربي من الاستشهاد به، أي حديث قرب النوافل الذي يقول اللَّه فيه: «لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به ... » إلخ ..
و إعادة الضمير في «سمعه» على الظل في الفص السابق معناه إعادته على العبد الذي هو ظل الحق، و في هذا إثبات لوجود الظل. هذا إذا ذكرنا الخلق في مقابلة الحق، و العالم في مقابلة اللَّه، و الظل في مقابلة الشخص. و هو لسان الشرع في الظاهر: أما لسان الباطن فليس إلا الوحدة و هي ما يشير إليه الحديث في قوله فإذا أحببته كنت سمعه: أي تحقق العبد الكامل أنني أنا سمعه و بصره و جميع قواه: أو تحقق من الوحدة الوجودية الحاصلة بالفعل، لا من أن الحق يصير سمعه بعد أن لم يكن، أو بصره بعد أن لم يكن، إذ لا صيرورة في الأمر بل الوحدة حاصلة بالفعل. و قد ذكر حديث قرب النوافل ليستشهد به على وجود بعض الكائنات التي هي أقرب من غيرها إلى الحق و أدنى إلى صورته الجامعة الشاملة و هي صورة الإنسان الكامل، و لكن حتى في حالة الإنسان الكامل الذي هو من ألطف ظلال الوجود لا نزال نتحدث عن اثنينية الحق و العبد، لأننا نثبت وجود الظل فما بالك بالظلال الأخرى التي هي أكثر كثافة و أظلم؟ أي ما بالك بما بقي من مظاهر الوجود الأخرى؟

(9) «فقد بان لك بما هو كل اسم عين الاسم الآخر و بما هو غير الاسم الآخر. فبما هو عينه هو الحق، و بما هو غيره هو الحق المتخيّل الذي كنا بصدده».
(9) أي ظهر لك بأي معنى يمكن اعتبار كل اسم من الأسماء الإلهية عين كل اسم آخر، و بأي معنى يمكن اعتباره غيره: و هو يشير هنا إلى ما سبق أن شرحه في مواضع أخرى من هذا الكتاب أعْنِي أن لكل اسم من الأسماء دلالتين: أولاهما دلالته على الذات الإلهية و الأخرى دلالته على الصفة الخاصة التي يتميز بها من غيره من الأسماء.
و لذا كانت الأسماء كلها متحدة من وجه، مختلفة من وجه آخر:
فهي متحدة لدلالتها جميعاً على الذات الإلهية التي هي عينها، و مختلفة من حيث دلالة كل منها على الصفة المعينة الخاصة به.
و لما كان الظاهر في صور الوجود الخارجي (المعبر عنه بالعالم) هو الحق- لا من حيث ذاته المجردة المعراة عن جميع الأوصاف و النسب- بل الحق من حيث أسماؤه و صفاته، فرَّق بين الحق الحقيقي و الحق المتخيل الذي هو العالم، و جعل الأول اسماً للَّه من حيث هو في ذاته، و الثاني اسماً له من حيث تجليه في الخلق، ثم جعل الحق المتخيَّل دليلًا على اللَّه حيث قال: «فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه، و لا ثبت كونه إلا بعينه».

(10) «فمن وقف مع الكثرة كان مع العالم و مع الأسماء الإلهية و أسماء العالم، و من وقف مع الأحدية كان مع الحق من حيث ذاته الغنية عن العالمين».
(10) بعد أن بيَّن الفرق بين الحق و الخلق، أو بين اللَّه و العالم- شرع في ذكر أهم الخصائص التي يمتاز بها كل منهما، فقال إن الصفة الأساسية للوجود الحق هي الوحدة، و للوجود الظاهر هي الكثرة.
فمن قال بالكثرة نظر إلى الحقيقة الوجودية من حيث ظهورها في العالم و هو كثرة من الأعيان، و من حيث تجليها في الأسماء الإلهية و هي أيضاً كثرة معقولة لتمايز كل منها عن الآخر و وجود النسب و الإضافات فيها، و من حيث ظهورها في أسماء العالم أي في صفاته الخاصة به كالحدوث و الإمكان و التغير و ما شاكل ذلك.
أما من قال بالوحدة فقد نظر إلى الحقيقة الوجودية من حيث ذاتها التي لا كثرة فيها بوجه من الوجوه.
فهي تتعالى حتى عن الكثرة الاعتبارية العقلية التي هي كثرة الاتصاف بالأسماء. فهي غنية لا عن أعيان العالم فحسب، بل و عن الأوصاف أيضاً.
و يستوي في الحقيقة أن نقول إن من وقف مع الكثرة كان مع العالم و مع الأسماء الإلهية كما قال، أو أن نعكس القضية فنقول إن من وقف مع العالم و مع الأسماء الإلهية كان مع الكثرة لأن كلًا من الطرفين لازم عن الآخر.
كما يستوي أن نقول كما قال «و من وقف مع الأحدية كان مع الحق من حيث ذاته»، و أن نعكس فنقول «و من وقف مع الحق من حيث ذاته كان مع الأحدية»: و ذلك للسبب عينه.
و كل من قال بالكثرة وحدها محجوب لأنه لا يرى سوى وجه واحد من الحقيقة و كذلك كل من قال بالوحدة دون الكثرة.
لأنه لا يرى سوى الوجه الآخر من الحقيقة. أما العارفون بالأمر على ما هو عليه فيرون الوحدة في الكثرة و يشاهدون الحق في الخلق، و يقررون وحدة الحق بعد أن يتحققوا أن الخلق لا وجود له في ذاته و لا من ذاته.
و هذه معان عرض لها المؤلف فيما مضى مستعملًا لغة أخرى. راجع مثلًا قوله في التنزيه و التشبيه في الفص الثالث.

(11) «و ظهرت الكثرة بنعوته المعلومة عندنا»
(11) قد يفهم هذا بمعنى أن الكثرة ظهرت في الذات الإلهية الواحدة لتجليها في الأسماء و النعوت الإلهية التي نعرفها، أو بمعنى أن الكثرة ظهرت لظهور الذات بالأوصاف المعلومة فينا: أي لظهورها في صور الممكنات و صفاتها.
و يظهر أن هذا أقرب إلى مراده بدليل قوله فيما بعد «فنحن نلد و نولد و نحن نستند إليه و نحن أكفاء بعضنا لبعض» و غير ذلك من الصفات التي هي صفات للخلق و لكن في ذات الحق. أما الذات نفسها فغنية عن كل هذا و لذا صدق فيها قوله تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «1» اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» (سورة الإخلاص).
" ابن العربي يستعمل في هذا الفص نفسه اسم الأحد للدلالة على الذات الإلهية المجردة عن الأسماء و الصفات و على الحق المتصف بهذه الأسماء و الصفات. يقول: «فاحدية اللَّه من حيث الأسماء الإلهية التي تطلبنا أحدية الكثرة، و أحدية اللَّه من حيث الغنى عنا و عن الأسماء أحدية العين. و كلاهما يطلق عليه الاسم الأحد"
على أن الفرق بين التفسيرين ليس بالأمر الخطير، فإن صفات الخلق ليست سوى المجالي الوجودية لصفات الحق، و إذا نظرنا إلى الذات الإلهية من حيث صفاتها كانت الكثرة فيها كثرة بالقوة، أما إذا نظرنا إليها بالاضافة إلى صفات الممكنات كانت الكثرة فيها بالفعل.
و يذهب ابن العربي إلى أن سورة الإخلاص قد جمعت جميع الصفات التي يمكن أن ننسبها إلى الحق من حيث ذاته، و ذلك في قوله: «و ما للحق نَسَبٌ إلا هذه السورة- سورة الإخلاص-. و لعل السر في هذا أنها مجموعة صفات سلبية محضة: و مثل هذه الصفات أقصى ما يمكن أن توصف به ذات مجردة غنية عن العالمين، منزهة حتى عن أن تعلم و توصف. أما قوله: «و ما للحق نسبٌ» ففيه إشارة إلى سبب نزول السورة و هو أن الكفار سألوا النبي عليه السلام أن ينسب إليهم ربه: أي يصفه، فنزل هذا النَّسَب.
و قد أخطأ من قرأ «و ما للحقِ نَسبٌ» بكسر النون لأن نسب الحق إلى الموجودات لا تتناهى، فلا يمكن عدُّها في سورة واحدة و لا في القرآن كله.

(12) «حتى تعلم من أين أو من أي حقيقة إلهية اتصف ما سوى اللَّه بالفقر ... إلى قوله و لا سببية يفتقر العالم إليها سوى الأسماء الإلهية».
(12) يشرح في هذا الجزء قدراً كبيراً من نظريته في العلية: و قد سبق أن ذكرنا أنه يرى أن حدوث العالم ليس في أنه وُجد عن عدم، بل في ظهوره في الصور التي ظهر فيها.
أي أن العالم- أو ما سوى الحق- معلول في صورته لا في ذاته، إذ ذاته هي ذات الحق. فهو من هذه الناحية مفتقر افتقاراً كلياً إلى اللَّه، أو بعبارة أدق إلى الأسماء الإلهية، لأنها هي التي تعطي الوجود الخارجي صُوَره بتجليها فيه.
و لذا قال: «و لا سببية للحق يفتقر العالم إليها سوى الأسماء الإلهية».
فالعالم مفتقر في وجوده إلى اللَّه بهذا المعنى إذ لا وجود له من ذاته، و قد وهم من أثبت له وجوداً غير وجود الحق، كما وهم من أثبت للظل وجوداً غير وجود العين التي امتد منها الظل.
و لكن للعالم افتقاراً آخر بعضه إلى بعض، و هو الافتقار النسبي. و ذلك أن الموجودات يتصل بعضها ببعض داخل العالم اتصالا علياً و يؤثر بعضها في بعض و يتأثر به.
فهناك إذن نوعان من المعلولية: معلولية العالم في جملته: و معلولية أجزاء العالم بافتقار بعضها إلى بعض.
و لكن إذا أدركنا أن مذهباً كمذهب ابن العربي يرجع كل ما هو فعل و علية إلى الحق، و كل ما هو انفعال و قبول و معلولية إلى الخلق، عرفنا أن ذلك الافتقار النسبي ليس إلا اسماً على غير مسمى، و أن الفاعل على الإطلاق و العلة على الإطلاق هي الحق.
أما الحق فإن نظرنا إلى ذاته قلنا إنه غني على الإطلاق، و إن نظرنا إليه من حيث أسماؤه قلنا إنه مفتقر إلى العالم في إظهار كمالات هذه الأسماء ... و هذا معنى قوله:
فالكل مفتقر ما الكل مستغني هذا هو الحق قد قلنا لا نكني
(الفص الأول) غير أن العالم أيضاً قد يوصف بالغناء بمعنى أن بعض أجزائه مستغن عن البعض الآخر من وجه و إن كان مفتقراً إليه من وجه آخر.
فالعالم (أي بعض أجزائه) يوصف بالغناء في الوجه الذي لا تكون به حاجة إلى غيره. و هذا معنى قوله «و اتصف العالم بالغناء: أي بغناء بعضه عن بعض من وجه ما هو عين ما افتقر إلى بعضه به»
هذا إذا فهمنا ما (في قوله من وجه ما هو) على انها نافية: أي غناء بعضه عن بعض من وجه غير الوجه الذي به يفتقر بعضه إلى بعض. و هذا تفسير كل من القاشاني (ص 180) و جامي (ج 2 ص 60)، و لكن القيصري (ص 188) يفهم ما على أنها موصولة و يفسر العبارة كلها على النحو الآتي: و اتصف العالم بالغناء أي بغناء بعضه عن بعض من الوجه الذي افتقر ذلك البعض إلى بعض آخر بسبب ذلك الوجه.
و المقصود أن وجه الغنى هو بعينه وجه الافتقار. فإذا فرضنا أن ا، ب، ح أجزاء في العالم و فرضنا أن ب غنية عن ا و مفتقرة إلى ح، كان وجه غنائها عن ا هو بعينه وجه افتقارها إلى ح. أما تفسير القاشاني و جامي فيجعل الوجهين منفصلين مستقلين.

(13) «و الأسماء الإلهية كل اسم يفتقر إلى العالم إليه من عالم مثله أو عين الحق. فهو اللَّه لا غيره».
(13) سبق أن شرحنا بعض نواحي نظرية ابن العربي العلية، و قلنا إن الحق- في نظره- هو العلة الأولى و الأخيرة في كل ما يظهر في الوجود، و لكن لا الحق من حيث ذاته بل من حيث أسماؤه. و هنا نراه يشرح معنى الأسماء الإلهية شرحاً جديداً، و إن كان أشار إليه من طرف خفي فيما مضى، و يبين بأي معنى من المعاني يمكن اعتبارها عِلل الوجود.
ليست الأسماء الإلهية قاصرة على مجموعة الأسماء المعروفة بأسماء اللَّه الحسنى، فإن هذه أمهات الأسماء فقط، و لكنها تشمل أيضاً كل اسم يفتقر العالم إليه من عالم مثله أو (من) عين الحق: أي أنها تشمل أسماء كل الأشياء التي تحدث آثاراً عِليَّة في غيرها.
فالأسماء الإلهية إذن نوعان: نوع يفتقر إليه بعض أجزاء العالم و يكون من جنس الجزء المفتقر- و هذا معنى قوله: «يفتقر العالم إليه من عالم مثله»
و ذلك مثل الأب بالنسبة إلى الابن، فإن الابن مفتقر في وجوده إلى الأب الذي هو من نوعه، و مثل النار بالنسبة إلى الجسم الساخن فإنهما من عالم واحد هو عالم الجماد.
و لا يتردد ابن العربي في أن يعد اسم الأب و النار و نحوهما من الموجودات التي تعتبر عللًا في موجودات أخرى من الأسماء الإلهية.
و بهذا المعنى يصبح العالم كله كتاباً لا نهائياً من أسماء اللَّه. أ لم يقل في مكان آخر إننا نحن (أي العالم) الأسماء الإلهية التي وصف بها الحق نفسه و نصفه نحن بها؟
ألم يقل إن الحق هو المسمى أبا سعيد الخراز و غير ذلك من المحدثات؟
أما النوع الآخر من الأسماء فهو كل اسم تتصف به الذات الإلهية: كالخالق و المصور و الرحيم و الغفار و القادر و غيرها من الأسماء الحسنى.
و قد سميت هذه الأسماء بالأمهات لأنها بمثابة الأصول التي يمكن أن يرد إليها أسماء النوع الأول، أو لأن أسماء النوع الأول يمكن أن تعتبر مظاهر أو محالي لها.
فاسم الأب مثلًا يمكن أن يعتبر مظهراً للاسم الخالق أو الرازق أو الحفيظ من ناحية أن الأب سبب في وجود الابن و أنه يتعهده بالغذاء و يحفظه مما يؤذيه.
و كذلك النار يمكن اعتبارها مظهراً من مظاهر الاسم الإلهي «القهار» أو القادر أو نحوهما.
وَ لِمَ نذهب إلى هذا النوع من التأويل البعيد و ابن العربي نفسه يعتبر جميع الموجودات مجالي لوجود الحق و تعينات فيه؟
و إذا كان الامر كذلك ألا يلزم أن تكون اسماؤها أسماء له؟
.

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: