السبت، 21 أكتوبر 2017

كتاب فصوص الحكم 13 - فص حكمة مَلْكية في كلمة لوطية

كتاب فصوص الحكم 13 - فص حكمة مَلْكية في كلمة لوطية

كتاب فصوص الحكم 13 - فص حكمة مَلْكية في كلمة لوطية

الشيخ الاكبر محيي الدين بن عربي  

13 - فص حكمة مَلْكية في كلمة لوطية

المَلْكُ الشدة و المليك الشديد: يقال ملكت العجين إذا شددت عجينه.
قال قيس بن الحطيم‏  يصف طعنة:
ملكت بها كفي فانهرتُ فتقها      .....   يَرى قائمٌ من دونها ما وراءها

أي شددت بها كفي يعني الطعنة. فهو قول اللَّه تعالى عن لوط عليه السلام‏ «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ». فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم يرحم اللَّه أخى لوطاً: لقد كان يأوي إلى ركن شديد.
فنبه صلى اللَّه عليه و سلم أنه كان مع اللَّه من كونه شديداً. و الذي قصد لوط عليه السلام القبيلةُ بالركن الشديد: و المقاومة بقوله‏ «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً» و هي الهمة هنا من البشر خاصة. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم فمن ذلك الوقت- يعني من الزمن الذي قال فيه عليه السلام‏ «أَوْ آوِي إِلى‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ» ما بعث نبيٌ‏ بعد ذلك إلا في منعة من قومه، فكان يحميه قبيله‏ كأبي طالب مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم. فقوله‏ «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً» لكونه عليه السلام سمع اللَّه تعالى يقول‏ «اللَّهُ‏  الَّذِي‏ خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» بالأصالة، ثم جعل من بعد ضعف قوة» فعرضت القوة بالجعل فهي قوة عرضية، «ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً» فالجعل تعلق بالشيبة، و أما الضعف فهو رجوع إلى أصل خلقه و هو قوله‏ «5» خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ‏، فرده‏ «6» لما خلقه منه كما قال‏ «يُرَدُّ إِلى‏ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً». فذكر أنه رُدَّ إلى الضعف الأول فحكم الشيخ حكم الطفل في الضعف. و ما بُعِثَ نبي إلا بعد تمام الأربعين و هو زمان أخذه في النقص و الضعف. فلهذا «7» قال‏ «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً» مع كون ذلك يطلب همة مؤثرة. فإن قلت و ما يمنعه من الهمة المؤثرة و هي موجودة في السالكين من الاتباع، و الرسل أولَى بها؟ قلنا صدقت: و لكن نَقَصَكَ علم آخر، و ذلك أن المعرفة لا تترك للهمة
تصرفاً. فكلما علت معرفته نقص تصرفه بالهمة «2»، و ذلك لوجهين: الوجه الواحد لتحققه‏ «1» بمقام العبودية و نظرِهِ إلى أصل خلقه الطبيعي، و الوجه الآخر أحدية المتصرِّف و المتصرَّف فيه: فلا يرى على مَنْ يرسِل همته فيمنعه ذلك. و في هذا المشهد يرى أن المنازع له ما عدل عن حقيقته التي هو عليها في حال ثبوت عينه و حال عدمه. فما ظهر في الوجود إلا ما كان له في حال العدم في الثبوت، فما تعدى‏ «2» حقيقته و لا أخلَّ بطريقته. فتسميةُ ذلك نزاعاً إنما هو أمر عرضي أظهره‏ «3» الحجاب الذي على أعين الناس كما قال اللَّه‏ «4» فيهم «وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ‏»: و هو من المقلوب فإنه من قولهم‏ «قُلُوبُنا غُلْفٌ»* أي في غلاف و هو الكنُّ الذي ستره عن إدراك الأمر على ما هو عليه. فهذا و أمثاله يمنع العارف من التصرف في العالم قال الشيخ أبو عبد اللَّه بن قايد «5» للشيخ أبي السعود بن الشبل‏ «6» لِمَ لا تتصرف؟ فقال‏ «7» أبو السعود تركت الحق يتصرف لي كما يشاء: يريد قوله تعالى آمِراً «فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» فالوكيل هو المتصرف و لا سيما و قد سمع اللَّه تعالى يقول‏ «وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ». فعلم أبو السعود و العارفون أن الأمر الذي‏ «8» بيده ليس له و أنه مستخلف فيه. ثم قال له الحق هذا الأمر الذي استخلفتك فيه و ملَّكتك إياه: اجعلني و اتخذني وكيلًا فيه، فامتثل أبو السعود أمر اللَّه فاتخذه‏ «9» وكيلًا. فكيف‏
يبقى لمن يشهد هذا الأمر همة يتصرف بها، و الهمة لا تفعل إلا بالجمعية التي لا متسع‏ «1» لصاحبها إلى غير ما اجتمع عليه؟ «3» و هذه المعرفة تفرَّقهُ عن هذه الجمعية. فيظهر العارف‏ «2» التام المعرفة بغاية العجز و الضعف. قال بعض الأبدال للشيخ عبد الرزَّاق‏ «3» رضي اللَّه عنه قل للشيخ أبي مدين بعد السلام عليه يا أبا مدين لم لا يعتاص علينا شي‏ء و أنت تعتاص عليك الأشياء: و نحن نرغب في مقامك و أنت لا ترغب في مقامنا؟ و كذلك كان مع كون أبي مدين رضي اللَّه عنه كان عنده ذلك المقام و غيره: و نحن أتم في مقام الضعف و العجز منه. و مع هذا قال له هذا البدل ما قال. و هذا من ذلك القبيل أيضاً. و قال صلى اللَّه عليه و سلم في هذا المقام عن أمر اللَّه له بذلك‏ «ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى‏ إِلَيَّ». فالرسول بحكم ما يوحى إليه به‏ «4» ما عنده غير ذلك. فإن أُوحِيَ إليه بالتصرف بجزم‏ «5» تصرَّفَ: و إن منِعَ امتنع، و إن خُيِّر اختار ترْك‏ «6» التصرف إلا أن يكون ناقص المعرفة. قال أبو السعود لأصحابه المؤمنين به إن اللَّه أعطاني التصرف منذ خمس عشرة سنة و تركناه تظرفاً. هذا لسان إدْلال‏ «7». و أما نحن فما تركناه تظرفاً- و هو تركه إيثاراً- و إنما تركناه لكمال المعرفة، فإن المعرفة لا تقتضيه بحكم الاختيار. فمتى تصرف العارفُ بالهمة في العالم فعن أمر إلهي و جبر لا باختيار «4». و لا نشك‏ «8» أن مقام الرسالة يطلب التصرف لقبول الرسالة التي جاء بها، فيظهر عليه ما يصدقه عند أمته و قومه ليظهر دين اللَّه. و الولي ليس كذلك. و مع هذا فلا يطلبه الرسول في الظاهر لأن للرسول‏
الشفقة على قومه، فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجة عليهم، فإن في ذلك هلاكهم:
فيبقي عليهم. و قد علم الرسول أيضاً أن الأمر المعجز إذا ظهر للجماعة منهم من يؤمن عند ذلك و منهم من يعرفه و يجحده و لا يظهر التصديق به ظلماً و علُوّا و حسداً، و منهم من يُلْحِق ذلك بالسِّحر و الإبهام. فلما رأت الرسل ذلك و أنه لا يؤمن إلا من‏ «1» أنار اللَّه قلبه بنور الإيمان: و متى لم ينظر الشخص بذلك النور المسمى إيماناً فلا «2» ينفع في حقه الأمر المعجز. فقصرت الهمم عن طلب الأمور المعجزة لما لم يعم أثرها في الناظرين و لا في قلوبهم كما قال في حق أكمل الرسل و أعلم الخلق و أصدقهم في الحال‏ «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ». و لو كان للهمة أثر و لا بد، لم يكن أحد أكمل من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم و لا أعلى و لا «3» أقوى همة منه، و ما أثَّرتْ في إسلام أبي طالب عمِّه، و فيه نزلت الآية التي ذكرناها:
و لذلك قال في الرسول إنه ما عليه إلا البلاغ، و قال‏ «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ». و زاد في سورة القصص‏ «وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» أي بالذين أعطوه العلم بهدايتهم في حال عدمهم بأعيانهم الثابتة. فأثبت‏ «4» أن العلم تابع للمعلوم. فمن كان مؤمناً في ثبوت عينه و حال عدمه ظهر بتلك الصورة في حال وجوده. و قد علم اللَّه ذلك منه أنه هكذا يكون، فلذلك قال‏ «وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ».
فلما قال مثل هذا قال أيضاً «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ» لأن قولي على حد علمي في خلقي، «وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» أي ما قدَّرت عليهم الكفر الذي يشقيهم ثم طلبتهم بما ليس في وسعهم أن يأتوا به. بل ما عاملناهم إلا بحسب ما علمناهم، و ما علمناهم إلا بما أعطونا من نفوسهم مما هم عليه، فإن كان ظلم فهم الظالمون. و لذلك‏ «5» قال‏
«وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»*. فما ظلمهم اللَّه. كذلك ما قلنا لهم إلا ما أعطته ذاتنا أن نقول لهم، و ذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا و لا «1» نقول كذا. فما قلنا إلا ما علمنا أنَّا نقول. فَلَنا «2» القول منا، و لهم الامتثال و عدم الامتثال مع السماع منهم‏
فالكل منا و منهم‏

و الأخذ عنا و عنهم‏
إن لا يكونون منا

فنحن لا شك منهم «5»



فتحقق يا ولي هذه الحكمة الملكية في‏ «3» الكلمة اللوطية فإنها لباب المعرفة
فقد بان لك السر

و قد اتضح الأمر
و قد أُدرج في الشفع‏

الذي‏ «4» قيل هو الوتر «6»




 الموضوع  التـــــــالي    ....    الموضوع  الســـابق  


التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: