السبت، 21 أكتوبر 2017

كتاب فصوص الحكم 24- فص حكمة إمامية في كلمة هارونية

كتاب فصوص الحكم 24- فص حكمة إمامية في كلمة هارونية

كتاب فصوص الحكم 24- فص حكمة إمامية في كلمة هارونية

الشيخ الاكبر محيي الدين بن عربي  

24- فص حكمة إمامية في كلمة هارونية

اعلم أن وجود هارون عليه السلام كان من حضرة الرحموت بقوله تعالى‏ «وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا» يعني لموسى‏ «أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا».
فكانت نبوته من حضرة الرحموت فإنه أكبر من موسى سِنّا، و كان موسى أكبر منه نبوَّة.

و لما كانت نبوَّة هارون من حضرة الرحمة، لذلك قال لأخيه موسى عليهما السلام‏ «يَا بْنَ أُمَّ» فناداه بأمه لا بأبيه إذ كانت الرحمة للأم دون الأب أوفر في الحكم. و لو لا تلك الرحمة ما صبرت على مباشرة التربية.
ثم قال‏ «لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي‏ و فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ». فهذا كله نَفَسٌ من أنفاس الرحمة.
و سبب ذلك عدم التثبت في النظر فيما كان في يديه من الألواح التي ألقاها من يديه. فلو نظر فيها نظر تثبت لوجد فيها الهدى و الرحمة.
فالهدى بيان ما وقع من الأمر الذي أغضبه مما هو هارون بري‏ء منه. و الرحمة بأخيه، فكان لا يأخذ بلحيته بمرأى من قومه مع كبره و أنه أسن منه.
فكان ذلك من هارون شفقة على موسى لأن نبوة هارون من رحمة اللَّه، فلا يصدر منه إلا مثل هذا.
ثم قال هارون لموسى عليهما السلام‏ «إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ» فتجعلني سبباً في تفريقهم‏
فإن عبادة العجل فرقت بينهم، فكان منهم من عبده اتباعاً للسامري و تقليداً له، و منهم من توقف عن عبادته حتى يرجع موسى إليهم فيسألونه في ذلك.
فخشي هارون أن ينسب ذلك الفرقان بينهم‏ إليه، فكان‏ موسى أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن اللَّه قد قضى ألَّا يُعْبَد إلا إياه: و ما حكم اللَّه بشي‏ء إلا وقع.
فكان عتب موسى أخاه هارون لِمَا وقع الأمر في إنكاره و عدم اتساعه. فإن العارف من يرى الحق في كل شي‏ء، بل يراه كل شي‏ء.
فكان موسى يربي هارون تربية علم و إن كان أصغر منه في السن.
و لذا لما قال له هارون ما قال، رجع إلى السامري فقال له‏ «فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ» يعني فيما صنعت من عدو لك إلى صورة العجل على الاختصاص، و صنعك هذا الشبح من حلي القوم حتى أخذت بقلوبهم من أجل أموالهم.
فإن عيسى يقول لبني إسرائيل «يا بني إسرائيل قلب كل إنسان حيث ماله، فاجعلوا أموالكم في السماء تكن قلوبكم في السماء».
و ما سمي المال مالًا إلا لكونه بالذات تميل القلوب إليه بالعبادة. فهو المقصود الأعظم المعظم في القلوب لما فيها من الافتقار إليه.
و ليس للصور بقاء، ف لا بد من ذهاب صورة العجل لو لم يستعجل موسى بحرقه. فغلبت عليه الغيرة فحرقه ثم نسف رماد تلك الصورة في اليمِّ نسفاً.
و قال له‏ «انْظُرْ إِلى‏ إِلهِكَ» فسماه إلهاً بطريق التنبيه للتعليم، لما علم أنه بعض المجالي الإلهية: «لَنُحَرِّقَنَّهُ» فإن حيوانية الإنسان لها التصرف في حيوانية الحيوان لكون اللَّه سخرها للإنسان،
و لا سيما و أصله ليس من حيوان، فكان أعظم في التسخير لأن غير الحيوان ما له إرادة بل هو بحكم من يتصرف فيه من غير إبائه.
و أما الحيوان فهو ذو إرادة و غرض فقد يقع منه الإباءة في بعض التصريف: فإن كان فيه قوة إظهار ذلك ظهر منه الجموح لما يريده منه الإنسان و إن لم يكن له هذه القوة أو يصادف‏ غرضَ الحيوان انقاد مذلَّلًا لما يريده منه، كما ينقاد مثلُهُ لأمر فيما رفعه اللَّه به- من أجل المال الذي يرجوه منه- المعبَّر عنه في بعض الأحوال بالأجْرة في قوله‏ «وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ‏ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا».
فما «7» يسخر له من هو مثله إلا من حيوانيته لا من إنسانيته: فإن المثلين ضدان، فيسخره الأرفع في المنزلة بالمال أو بالجاه بإنسانيته و يتسخر له ذلك الآخر- إما خوفاً أو طمعاً- من حيوانيته لا من إنسانيته: فما تسخر له مَنْ هو مثله أ لا ترى ما بين البهائم من التحريش‏  لأنها أمثال؟
فالمثلان ضدان، و لذلك قال و رفع بعضكم فوق بعض درجات:
فما «11» هو معه في درجته. فوقع‏ «12» التسخير من أجل الدرجات. و التسخير على قسمين: تسخيرٌ مراد «13» للمسخِّر، اسم فاعل قاهر في تسخيره لهذا الشخص المسخَّر كتسخير السيد لعبده و إن كان مثله في الإنسانية، و كتسخير السلطان لرعاياه، و إن كانوا أمثالًا «14» له فيسخرهم بالدرجة. و القسم الآخر تسخير «15» بالحال كتسخير الرعايا للملك‏ «16» القائم بأمرهم في الذب عنهم و حمايتهم و قتال من‏
عاداهم و حفظه أموالهم و أنفسهم عليهم. و هذا كله تسخير بالحال من الرعايا يسخرون في ذلك مليكهم، و يسمى على الحقيقة تسخير المرتبة. فالمرتبة «1» حكمت عليه بذلك. فمن الملوك من سعى‏ «2» لنفسه، و منهم من عرف الأمر فعلم أنه بالمرتبة في تسخير رعاياه، فعلم قدرهم و حقهم، فآجره اللَّه على ذلك أجر العلماء بالأمر على ما هو عليه و أجر مثل هذا يكون على اللَّه في كون اللَّه في شئون عباده. فالعالَم كله مسخِّر «3» بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه أنه مسخَّر «4». قال تعالى‏ «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ». فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل كما سُلِّط موسى عليه، حكمةً من اللَّه تعالى ظاهرة في الوجود ليُعْبَد «4» في كل صورة. و إن‏ «5» ذهبت تلك الصورة بعد ذلك فما ذهبت إلا بعد «6» ما تلبست عند عابدها بالألوهية.
و لهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا و عبد إما عبادة تأله و إما عبادة تسخير «5».
فلا بد من ذلك لمن عقل‏ «7». و ما عبد شي‏ء من العالم إلا بعد التلبس‏ «8» بالرفعة عند العابد و الظهور بالدرجة في قلبه: و لذلك تسمى‏ «9» الحق لنا برفيع الدرجات، و لم يقل رفيع الدرجة. فكثَّر الدرجات في عين واحدة. فإنه قضى ألَّا يعبد «10» إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كل درجة مجلى إلهياً عُبِدَ فيها. و أعظم مجلى عُبِدَ فيه و أعلاه «الهوى» كما قال‏ «أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» و هو أعظم معبود، فإنه لا يعبد شي‏ء إلا به، و لا يعبد هو «11» إلا بذاته، و فيه أقول:
وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى‏      ....    ولولا الهوى في القلب ما عُبِدَ الهوى‏
أ لا ترى علم اللَّه بالأشياء ما أكمله، كيف تمم في حق‏ «1» من عبد هواه و اتخذه إلهاً فقال‏ «وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى‏ عِلْمٍ» و الضلالة «2» الحيرة: و ذلك أنه لما [1] رأى هذا العابِدَ ما عَبَدَ إلا هواه بانقياده لطاعته فيما يأمره به من عبادة من عبده من الأشخاص، حتى إن عبادته للَّه‏ «3» كانت عن هوى أيضاً، لأنه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدس هوى- و هو الإرادة بمحبةٍ «4»- ما عبد اللَّه و لا آثره على غيره. و كذلك كل من عبد صورة ما من صور العالم و اتخذها إلهاً ما اتخذها إلا بالهوى. فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه. ثم رأى المعبودات تتنوع في العابدين، فكل عابدٍ أمراً ما يكفِّر من يعبد سواه، و الذي عنده أدنى تنبه‏ «5» يحار لاتحاد الهوى، بل لأحدية الهوى، فإنه عين واحدة في كل عابد. «وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ» أي حيّره‏ «عَلى‏ عِلْمٍ» بأن كل عابد ما عبد إلا هواه و لا استعبده إلا هواه سواء صادف الأمر المشروع أو لم يصادف. و العارف المكمَّل من رأى كل معبود مجلى‏ «6» للحق يعبد فيه «6» «و لذلك سمَّوه كلهم إلهاً مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك. هذا اسم الشخصية فيه. و الألوهية «7» مرتبة تخيل‏ «8» العابد له أنها مرتبة معبوده، و هي‏ «9» على الحقيقة مجلى الحق لبصر هذا العابد المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختص. و لهذا قال بعض من عرف مقالة جهالة «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى‏» مع تسميتهم إياهم آلهة حتى قالوا «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ عُجابٌ». فما أنكروه بل تعجبوا من ذلك،
فإنهم وقفوا مع كثرة الصور و نسبة الألوهة «1» لها. فجاء الرسول و دعاهم إلى إله واحد يعرَفُ و لا يُشْهَد، بشهادتهم أنهم أثبتوه عندهم و اعتقدوه في قولهم‏ «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى‏» لعلمهم بأن تلك الصور «2» حجارة. و لذلك قامت الحجة عليهم بقوله‏ «قُلْ سَمُّوهُمْ»: فما يسمونهم إلا بما يعلمون أن تلك الأسماء لهم حقيقة. و أما العارفون بالأمر على ما هو عليه فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور لأن مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا «3» بحكم الوقت لحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم الذي به سموا مؤمنين. فهم عبَّاد الوقت «7» مع علمهم بأنهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانها، و إنما عبدوا اللَّه فيها لحكم سلطان التجلي الذي عرفوه منهم‏ «4»، و جَهِلَه المنكِرُ الذي لا علم له بما تجلى، و يستره‏ «5» العارف المكمل من نبي و رسول و وارث عنهم. فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصور لما انتزح عنها رسول الوقت اتباعاً للرسول طمعاً في محبة اللَّه إياهم بقوله‏ «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ». فدعا إلى إله يُصْمَد إليه و يُعْلَم من حيث الجملة، و لا يشهد «و لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ»، بل‏ «هُوَ «6» يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» لِلُطفه و سريانه في أعيان الأشياء. فلا تدركه الأبصار كما أنها لا تدرك‏ «7» أرواحَهَا المدبرةَ أشباحَهَا و صورَها الظاهرة. «وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» و الخبرة ذوق، و الذوق تجل، و التجلي في الصور. فلا بد منها و لا بد منه، فلا بد أن يعبده من رآه بهواه إن فهمت، و على اللَّه قصد السبيل.


التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: