السبت، 21 أكتوبر 2017

كتاب فصوص الحكم 17- فص حكمة وجودية في كلمة داودية

كتاب فصوص الحكم 17- فص حكمة وجودية في كلمة داودية

كتاب فصوص الحكم 17- فص حكمة وجودية في كلمة داودية

الشيخ الاكبر محيي الدين بن عربي    

17- فص حكمة وجودية في كلمة داودية

اعلم أنه لما كانت النبوة و الرسالة اختصاصاً إلهياً ليس فيها شي‏ء من الاكتساب:
أعني نبوة التشريع، كما كانت عطاياه تعالى لهم عليهم السلام من هذا القبيل مواهب ليست جزاء: و لا يُطْلَبُ عليها منهم جزاء. فإعطاؤه إياهم على طريق الإنعام و الإفضال.
فقال تعالى‏ وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ*- يعني لإبراهيم الخليل عليه السلام، و قال في أيوب‏ «وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ»، و قال في حق موسى‏ «وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا» إلى مثل ذلك. فالذي تولاهم أوَّلًا هو الذي تولاهم في عموم أحوالهم أو أكثرها، و ليس إلا اسمه الوهاب. و قال في حق داود «وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» فلم يقرن به جزاء يطلبه منه، و لا أخبر أنه أعطاه هذا الذي ذكره‏ جزاء.
و لما طلب الشكر على ذلك العمل طلبه من آل داود و لم يتعرض لذكر داود ليشكره‏ «4» الآل على ما أنعم به على داود. فهو في حق داود عطاء نعمة و إفضال، و في حق آلِهِ على غير ذلك لطلب المعاوضة فقال تعالى‏ «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ». و إن كانت الأنبياء عليهم السلام‏
قد شكروا اللَّه على ما أنعم به عليهم و وهبهم، فلم يكن ذلك على طلب من اللَّه، بل تبرعوا بذلك من نفوسهم كما قام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم حتى تورمت قدماه شكراً لمَّا غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر. فلما قيل له في ذلك قال «أ فلا أكون عبداً شكوراً»؟
و قال في نوح‏ «إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً».
فالشكور من عباد اللَّه تعالى قليل. فأول نعمة أنعم اللَّه بها على داود عليه السلام أن أعطاه اسماً ليس فيه حرف من حروف الاتصال، فقطعه عن العالم بذلك إخباراً لنا عنه بمجرد هذا الاسم، و هي الدال و الألف و الواو.
و سَمَّى محمداً «1» صلى اللَّه عليه و سلم بحروف الاتصال و الانفصال، فوصله به و فصله عن العالم‏ «2» فجمع له بين الحالين‏ «3» في اسمه كما جمع لداود بين الحالين‏ «4» من طريق المعنى، و لم يجعل ذلك في اسمه، فكان ذلك اختصاصاً لمحمد «5» عَلَى داود عليهما السلام، أعني التنبيه عليه باسمه. فتم له الأمر عليه السلام من جميع جهاته، و كذلك في اسمه أحمد، فهذا من حكمة اللَّه تعالى. ثم قال في حق داود- فيما أعطاه على طريق الإنعام عليه- ترجيع الجبال معه التسبيحَ، فتسبح لتسبيحه ليكون له عملها. و كذلك الطير. و أعطاه القوة و نعته بها، و أعطاه‏ «6» الحكمة و فصْل الخطاب. ثم المنة الكبرى و المكانة الزلفى التي خصه اللَّه بها التنصيص على خلافته. و لم يفعل ذلك مع أحد من أبناء جنسه و إن كان فيهم خلفاء فقال‏ «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى‏» أي ما يخطر لك في حكمك من غير وحي مني‏ «فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»
أي عن الطريق الذي أُوحِي بها إلى رسلي. ثم تأدب سبحانه معه فقال‏ «إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ» و لم يقل له فإن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد. فإن قلت و آدم عليه السلام قد نُصَّ على خلافته. قلنا ما نص مثل التنصيص على داود، و إنما قال للملائكة «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»، و لم يقل إني جاعل آدم خليفة في الأرض. و لو قال، لم يكن مثل قوله‏ «جَعَلْناكَ خَلِيفَةً» في حق داود، فإن هذا محقق و ذلك‏ «1» ليس كذلك. و ما يدل ذكر آدم في القصة بعد ذلك على أنه عين ذلك الخليفة الذي نص اللَّه عليه. فاجعل بالك لإخبارات الحق عن عباده إذا أخبر. و كذلك في حق إبراهيم الخليل‏ «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» و لم يقل خليفة، و إن كنا نعلم أن الإمامة هنا «2» خلافة، و لكن ما هي مثلها، لأنه ما ذكرها «3» بأخص أسمائها و هي الخلافة. ثم في داود من الاختصاص بالخلافة أن جعله خليفةَ حكم، و ليس ذلك إلا عن اللَّه فقال له فاحكم بين الناس بالحق، و خلافة آدم قد لا تكون من هذه المرتبة: فتكون خلافته أن‏ «4» يخلُفَ من كان فيها قبل ذلك، لا أنه نائب عن اللَّه في خلقه بالحكم الإلهي فيهم، و إن كان الأمر كذلك وقع، و لكن ليس كلامنا إلا في التنصيص عليه و التصريح به.
و للَّه في الأرض خلائف عن اللَّه، و هم الرسل. و أما الخلافة اليوم فعن الرسول‏ «5» لا عن اللَّه، فإنهم ما يحكمون إلا بما شَرَعَ لهم الرسول لا يخرجون عن ذلك.
غير أن هنا دقيقةً لا يعلمها «6» إلا أمثالنا، و ذلك في أخذ ما يحكمون به مما هو شرع للرسول عليه السلام. فالخليفة عن الرسول من يأخذ الحكم بالنقل عنه‏
صلى اللَّه عليه و سلم أو «1» بالاجتهاد «3» الذي أصله أيضاً منقول عنه صلى اللَّه عليه و سلم. و فينا من يأخذه عن اللَّه فيكون خليفة عن اللَّه بعين ذلك الحكم، فتكون المادة له من حيث كانت المادة لرسوله صلى اللَّه عليه و سلم. فهو في الظاهر متبع لعدم مخالفته في الحكم، كعيسى إذا نزل فحكم، و كالنبي محمد صلى اللَّه عليه و سلم في قوله‏ «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ»، و هو «2» في حق ما يعرفه من صورة الأخذ مختصّ موافق، هو فيه بمنزلة ما قرره النبي صلى اللَّه عليه و سلم من شرع من تقدم من الرسل بكونه قرره فاتبعناه من حيث تقريره لا من حيث إنه شرع لغيره قبله. و كذلك أخذُ الخليفة عن اللَّه عينُ ما أخذه منه الرسول. فنقول فيه بلسان الكشف خليفة اللَّه و بلسان الظاهر خليفة رسول اللَّه. و لهذا مات رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم و ما نص بخلافة عنه إلى أحد.
و لا عَيَّنَه لعلمه أن في أُمته من يأخذ الخلافة عن ربه فيكون خليفة عن اللَّه مع الموافقة في الحكم المشروع. فلما علم ذلك صلى اللَّه عليه و سلم لم يحجر الأمر.
فلله خلفاء في خلقه يأخذون من معدن الرسولِ و الرسلِ ما أخذته الرسلُ عليهم السلام، و يعرفون‏ «3» فضل المتقدم هناك لأن الرسول قابل للزيادة: و هذا الخليفة ليس بقابل للزيادة التي لو كان الرسولَ‏ «4» قبلها. فلا يعطِي من العلم و الحكم فيما شَرَّع إلا ما شُرِّع‏ «5» للرسول خاصة، فهو في الظاهر متَّبع غير مخالف، بخلاف الرسل. أ لا ترى عيسى عليه السلام لما تخيلت اليهود أنه لا يزيد على موسى، مثل ما قلناه في الخلافة اليوم مع الرسول، آمنوا به و أقروه:
فلما زاد حكماً أو نسخ حكماً قد قرره موسى- لكون عيسى رسولًا- لم يحتملوا ذلك لأنه خالف‏ «1» اعتقادهم فيه؟ و جهلت اليهود الأمر على ما هو عليه فطلبت قتله، فكان من‏ «2» قصته ما أخبرنا اللَّه في كتابه العزيز عنه و عنهم. فلما كان رسولًا قَبِلَ الزيادة، إما بنقص حكم قد «3» تقرر، أو زيادة حكم. على أن النقص زيادة حكم بلا شك. و الخلافة اليوم ليس لها هذا المنصب و إنما تنقص أو تزيد على الشرع الذي تقرر بالاجتهاد لا على الشرع الذي شُوفِهَ‏ «4» به محمد صلى اللَّه عليه و سلم، فقد يظهر من الخليفة ما يخالف حديثاً «5» ما في الحكمَ فيُتخَيَّل أنه من الاجتهاد و ليس كذلك: و إنما هذا الامام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النبي صلى اللَّه عليه و سلم، و لو ثبت لحكم به. و إن كان الطريق فيه العدل عن العدل فما هو «6» معصوم من الوهم و لا من النقل على المعنى.
فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم، و كذلك يقع من عيسى عليه السلام، فإنه إذا نزل يرفع كثيراً من شرع الاجتهاد المقرر فيبين برفعه صورة الحق المشروع الذي كان عليه عليه‏ «7» السلام، و لا سيما إذا تعارضت أحكام الأئمة في النازلة الواحدة. فنعلم‏ «8» قطعاً أنه لو نزل وحي لنزل بأحد الوجوه، فذلك هو الحكم الإلهي. و ما عداه و إن قرره الحق فهو شرع تقرير لرفع الحرج‏ «9» عن هذه الأمة و اتساع الحكم فيها. و أما قوله عليه السلام إذا بويع الخليفتين فاقتلوا الآخِر منهما «4» هذا في الخلافة الظاهرة التي لها السيْف.
و إن اتفقا فلا «1» بد من قتل أحدهما. بخلاف الخلافة المعنوية فإنه لا قتْل فيها. و إنما جاء القتل في الخلافة الظاهرة و إن‏ «2» لم يكن لذلك الخليفة «3» هذا المقام، و هو خليفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم إن عدل- فمِنْ حكم الأصل الذي به تُخُيِّل وجود إلهين، «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا»، و ان اتفقا: فنحن نعلم أنهما لو اختلفا تقديراً لنفذ حكم أحدهما، فالنافذ الحكم هو الإله على الحقيقة، و الذي لم ينفذ حكمه ليس بإله‏ «4». و من هنا نعلم أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم أنه حكم اللَّه عز و جل، و إن خالف الحكم المقرر في الظاهر المسمى شرعاً إذ لا ينفذ حكم إلا «5» للَّه في نفس الأمر، لأن الأمر الواقع في العالم إنما هو «6» على حكم المشيئة الإلهية لا علم حكم الشرع المقرر، و إن كان تقريره من المشيئة. و لذلك نفذ تقريره خاصة فإن‏ «7» المشيئة ليست لها فيه إلا التقرير لا العمل بما جاء به. فالمشيئة سلطانها عظيم، و لهذا جعلها أبو طالب‏ «8» عرش الذات «5»، لأنها لذاتها تقتضي الحكم. فلا يقع في الوجود شي‏ء «9» و لا يرتفع خارجاً عن المشيئة، فإن الأمر الإلهي إذا خولف هنا بالمسمى معصية، فليس إلا الأمر بالواسطة لا الأمر التكويني‏ «10». فما خالف اللَّه أحدٌ قط في جميع ما يفعَله من حيث أمر المشيئة، فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة فافهم. و على الحقيقة فأمر المشيئة إنما يتوجه على إيجاد عين الفعل لا على من ظهر على يديه «6»، فيستحيل ألَّا «11» يكون. و لكن في هذا المحل الخاص، فوقتاً يسمى به‏ «12» مخالفة لأمر اللَّه، و وقتاً يسمى موافقة و طاعة لأمر اللَّه. و يتبعه لسان‏
الحمد أو الذم على حسب ما يكون «7». و لما كان الأمر في نفسه على ما قررناه، لذلك كان مآل الخلق إلى السعادة على اختلاف أنواعها. فعبر عن هذا المقام بأن الرحمة وسعت كل شي‏ء، و أنها سبقت الغضب الإلهي. و السابق متقدم، فإذا لحقه هذا الذي حكم عليه المتأخر حكم عليه المتقدم فنالته الرحمة إذ لم يكن غيرها «1» سبق. فهذا معنى سبقت رحمته غضبه، لتحكم على ما وصل إليها فإنها في الغاية وقفت و الكل سالك إلى الغاية. فلا بد من الوصول إليها، فلا بد من الوصول إلى الرحمة و مفارقة الغضب، فيكون الحكم لها في كل واصل إليها بحسب ما تعطيه حال الواصل إليها.
فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلناه

و إن لم يكن فهم فيأخذه عنا
فما ثم إلا ما ذكرناه فاعتمد

عليه و كن بالحال فيه كما كنا
فمنه إلينا ما تلونا عليكم‏

و منا إليكم ما وهبناكم منا



و أما تليين الحديد فقلوب قاسية يلينها الزجر و الوعيد تليينَ النار الحديد. و إنما الصعب قلوب أشد قساوة من الحجارة، فإن الحجارة تكسرها و تكلسها النار و لا تلينها. و ما ألَانَ‏ له الحديد إلا لعمل الدروع الواقية تنبيهاً من اللَّه: أي لا يُتّقى الشي‏ء إلا بنفسه، لأن الدرع يُتّقى بها السنان و السيف و السكين و النصل، فاتّقَيْت الحديد بالحديد. فجاء الشرع المحمدي بأعوذ بك منك، فافهم، فهذا روح تليين الحديد  فهو المنتقم الرحيم و اللَّه الموفق.

 الموضوع  التـــــــالي    ....    الموضوع  الســـابق  



التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: