الجمعة، 20 أكتوبر 2017

كتاب فصوص الحكم 4- فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية

كتاب فصوص الحكم 4- فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية

كتاب فصوص الحكم 4- فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية  

 الشيخ الاكبر محيي الدين بن عربي   

 4- فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية  

العلو نسبتان، علو مكان و علو مكانة. فعلو المكان‏ «وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا».
و أعلى الأمكنة المكان الذي تدور عليه رحى عالم الأفلاك و هو فلك الشمس، و فيه مقام روحانية إدريس عليه السلام‏ «1». و تحته سبعة أفلاك و فوقه سبعة أفلاك و هو الخامس عشر. فالذي فوقه فلكُ الأحمر و فلك المشترى و
فلك كيوان و فلك المنازل و الفلك الأطلس فلك البروج‏ «2» و فلك الكرسي و فلك العرش. و الذي دونه فلك الزهرة و فلك الكاتب، و فلك القمر، و كرة «3» الأثير، و كرة الهوى، و كرة الماء، و كرة التراب «3». فمن حيث هو قطب الأفلاك هو رفيع المكان. و أما علو المكانة فهو لنا أعني المحمديين. قال اللَّه تعالى‏ «وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ» «4» في هذا العلو، و هو يتعالى عن المكان لا عن المكانة. و لما خافت نفوس العمَّال منا أتبع المعية بقوله‏ «4» «وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ»: فالعمل يطلب المكان و العلم يطلب المكانة، فجمع لنا بين الرفعتين علوّ المكان بالعمل و علو المكانة بالعلم. ثم قال تنزيهاً للاشتراك بالمعية «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» عن هذا الاشتراك المعنوي. و من أعجب الأمور كون الإنسان أعلى الموجودات، أعني الإنسان الكامل، و ما نسب إليه العلو إلا بالتبعية، إما إلى المكان و إما إلى المكانة و هي المنزلة. فما كان علوه لذاته. فهو العلي بعلو المكان و بعلو المكانة. فالعلو لهما. فعلو المكان.
«ك الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏» و هو أعلى الأماكن. و علو المكانة «كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ»، و «إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ‏ «1»»، «أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ»*. و لما قال اللَّه تعالى‏ «وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا» فجعل «علياً» نعتاً للمكان، «وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»، فهذا علو المكانة. و قال في الملائكة «2» «أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ» فجعل العلو للملائكة. فلو كان لكونهم ملائكة «3» لدخل الملائكة كلهم في‏ «4» هذا العلو.
فلما لم يعم، مع اشتراكهم في حد الملائكة، عرفنا أن هذا علو المكانة عند اللَّه‏ «5». و كذلك الخلفاء من الناس لو كان علوهم بالخلافة علواً ذاتياً لكان لكل إنسان. فلما لم يعم عرفنا أن ذلك العلو للمكانة. و من أسمائه الحسنى العلي.
على من و ما ثم إلا هو؟ فهو العلي لذاته. أو عن ما ذا و ما «6» هو إلا هو؟ فعلوه لنفسه. و هو من حيث الوجود عين الموجودات. فالمسمى محدثات هي العليَّة لذاتها و ليست إلا هو. فهو العلي لا علو إضافة، لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ما شمَّت رائحة من الموجود، فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات. و العين واحدة من المجموع في المجموع «5». فوجود الكثرة في الأسماء، و هي النسب، و هي أمور عدمية. و ليس إلا العين الذي هو الذات. فهو العلي لنفسه لا بالإضافة «7». فما في العالم من هذه الحيثية علو إضافة، لكن الوجوه الوجودية «8» متفاضلة. فعلو الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجود الكثيرة. لذلك نقول فيه هو لا هو، أنت لا أنت. قال‏
الخراز «1» (22- 1) رحمه‏ «2» اللَّه تعالى، و هو وجه من وجوه الحق و لسان من ألسنته ينطق عن نفسه بأن اللَّه تعالى لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها. فهو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن. فهو عين ما ظهر، و هو عين ما بطن في حال ظهوره. و ما ثَمَّ من يراه غيره، و ما ثم من يبطن عنه، فهو ظاهر لنفسه باطن عنه. و هو «3» المسمى أبا «4» سعد الخراز و غير ذلك من أسماء المحدثات. فيقول الباطن لا إذا قال الظاهر أنا، و يقول الظاهر لا إذا قال الباطن أنا. و هذا في كل ضد، و المتكلم واحد و هو عين السامع. يقول النبي صلى اللَّه عليه و سلم: «و ما حدَّثَتْ به أنفُسَها» فهي المحدثة السامعة حديثها، العالمة بما حدثت به أنفسها «5»، و العين واحدة و اختلفت الأحكام.
و لا سبيل إلى جهل مثل هذا فإنه يعلمه كل إنسان من نفسه و هو صورة الحق. فاختلطت الأمور و ظهرت الأعداد بالواحد «6» في المراتب‏ «6» المعلومة.
فأوجد الواحد العدد، و فصَّل العددُ الواحدَ، و ما ظهر حكم العدد إلا المعدود و المعدود منه عدم و منه وجود، فقد يعدم الشي‏ء من حيث الحس و هو موجود من حيث العقل. فلا بد من عدد و معدود، و لا بد من واحد ينشئ ذلك فينشأ بسببه. فإن كل‏ «7» مرتبة من العدد حقيقة واحدة كالتسعة مثلًا و العشرة إلى أدنى و إلى أكثر إلى غير نهاية، ما هي مجموع، و لا ينفك عنها اسم جمع‏ «8» الآحاد.
فإن الاثنين حقيقة واحدة و الثلاثة حقيقة واحدة «1»، بالغاً ما بلغتْ هذه المراتب، و إن كانت واحدة. فما عين واحدة منهن عين ما بقي. فالجمع يأخذها فنقول بها منها، و نحكم بها عليها. قد ظهر في هذا القول عشرون مرتبة، فقد دخلها التركيب فما تنفك تثبت عينَ ما هو منفيٌّ عندك لذاته.
و من عرف ما قررناه في الأعداد، و أن نفيها عين إثباتها «2»، علم أن الحق المنزّه هو الخلق المشبه، و إن كان قد تميز الخلق من الخالق. فالأمر الخالق المخلوق، و الأمر المخلوق الخالق. كل ذلك من عين واحدة، لا، بل هو العين الواحد و هو العيون الكثيرة. فانظر ما ذا ترى‏ «قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ»، و الولد عين أبيه. فما رأى‏ «3» يذبح سوى نفسه. «و فداه بذبح عظيم»، فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان. و ظهر بصورة ولد:
لا، بل بحكم ولد «4» من هو عين الوالد. «وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها»: فما نكح‏ «5» سوى نفسه. فمنه الصاحبة و الولد و الأمر واحد في العدد. فَمَن الطبيعةُ و مَنِ الظاهر منها «7»، و ما رأيناها نقصت بما ظهر منها و لا زادت بعدم ما ظهر؟ و ما «6» الذي ظهر غيرها: و ما هي عين ما ظهر لاختلاف الصور بالحكم عليها «7»: فهذا بارد يابس و هذا حار يابس: فجمع باليبس و أبان بغير ذلك. و الجامع الطبيعة، لا، بل العين الطبيعية. فعالم الطبيعة صور في مرآة واحدة، لا، بل صورة واحدة في مرايا «8» مختلفة. فما ثم إلا حيرة لتفرق النظر. و من عرف ما قلناه لم يحر. و إن‏

كان في مزيد علم فليس إلا من حكم المحل «8»، و المحل عين العين الثابتة: فيها يتنوع‏ «1» الحق في المجلى فتتنوع‏ «2» الأحكام عليه، فيقبل كل حكم، و ما يحكم عليه إلا عين ما تجلى فيه، و ما ثَمَّ إلا هذا:
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا

و ليس خلقاً بذاك الوجه فادكروا
من يدر ما قلت لم تخذل بصيرته‏

و ليس يدريه إلا من له بصر
جمِّع و فرِّق فإن العين واحدة

و هي الكثيرة لا تبقى و لا تذر



فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية و النسب العدمية بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها، و سواء كانت‏ «3» محمودة عرفاً و عقلًا و شرعاً أو «4» مذمومة عرفاً و عقلًا و شرعاً.
و ليس ذلك إلا لمسمى اللَّه تعالى خاصة. و أما غير مسمى اللَّه مما هو مجلى له أو صورة فيه، فإن كان مجلى له فيقع التفاضل- لا بد من ذلك- بين مجلى و مجلى، و إن كان صورة فيه فتلك‏ «5» الصورة عين الكمال‏ «6» الذاتي لأنها عين ما ظهرت فيه. فالذي لمسمى اللَّه هو الذي لتلك الصورة. و لا يقال هي هو و لا هي غيره «9». و قد أشار أبو القاسم بن قسّي «10» في خَلْعِه إلى هذا بقوله: إن كل اسم إلهي يتسمى بجميع الأسماء الإلهية و ينعت بها. و ذلك‏ «7» أن كل اسم يدل على الذات و على المعنى الذي سيق له و يطلبه. فمن حيث دلالته على الذات له جميع الأسماء، و من حيث دلالته على المعنى الذي ينفرد به، يتميز عن غيره كالرب و الخالق و المصوِّر إلى غير ذلك. فالاسم المسمى من حيث الذات، و الاسم غير المسمى من حيث ما يختص به من المعنى الذي سِيق له. فإذا فهمت أن العليّ ما ذكرناه علمت أنه ليس علو المكان و لا علو المكانة، فإن علو المكانة يختص بولاة الأمر كالسلطان و الحكام و الوزراء و القضاة و كل ذي منصب سواء كانت فيه أهلية لذلك‏ «1» المنصب أو لم تكن، و العلو بالصفات ليس كذلك، فإنه قد يكون أعلم الناس يتحكم فيه من له منصب التحكم و إن كان أجهل الناس. فهذا عليٌ بالمكانة بحكم التبع ما هو عليٌ‏ «2» في نفسه.
فإذا عزل زالت رفعته و العالِم ليس كذلك

 الموضوع  التـــــــالي    ....    الموضوع  الســـابق  

التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: