الجمعة، 20 أكتوبر 2017

   كتاب فصوص الحكم 8 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية

كتاب فصوص الحكم 8 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية

   كتاب فصوص الحكم 8 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية

الشيخ الاكبر محيي الدين بن عربي     
8 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية
الدين دينان، دين عند اللَّه و عند  من عرَّفه الحق تعالى و من عرَّف من عرفه الحق. و دين عند الحق، و قد اعتبره اللَّه‏. فالدين الذي عند اللَّه هو الذي اصطفاه اللَّه و أعطاه الرتبة العليا على دين الخلق فقال تعالى‏ «وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى‏ لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»:أي منقادون إِليه. 

و جاء الدين بالألف و اللام للتعريف و العهد، فهو دين معلوم معروف و هو قوله تعالى‏ «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» و هو الانقياد. فالدين عبارة عن انقيادك. و الذي من عند اللَّه‏ تعالى هو الشرع الذي انقدت أنت إِليه. فالدين الانقياد «4»، و الناموس هو الشرع الذي شرعه اللَّه تعالى. فمن اتصف بالانقياد لما شرعه اللَّه له فذلك الذي قام بالدين و أقامه، أي أنشأه كما يقيم الصلاة. فالعبد هو المنشئ للدين و الحق هو الواضع للأحكام. فالانقياد هو عين فعلك، فالدين‏
من فعلك. فما سعدت إِلا بما كان منك. فكما أثبت للسعادة لك ما كان فِعْلَكَ‏ «2» كذلك ما أثبت الأسماء الإلهية إِلا أفعالهُ و هي أنت و هي المحدثات.
فبآثاره سُمِّي إِلهاً و بآثارك‏ «3» سميت سعيداً. فأنزلك اللَّه تعالى منزلته إِذا أقمت الدين و انقدت إِلى ما شرعه لك. و سأبسط في ذلك إِن شاء اللَّه ما تقع به الفائدة بعد أن نبين الدين الذي عند الخلق الذي اعتبره اللَّه. فالدين كله للَّه و كله منك لا منه إِلا بحكم الأصالة. قال اللَّه تعالى‏ «وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها» و هي النواميس الحكمية التي لم يجي‏ء الرسول المعلوم بها في العامة من عند اللَّه بالطريقة الخاصة المعلومة في العرف «2». فلما وافقت الحكمة و المصلحةُ الظاهرةُ فيها الحكمَ الإلهي في المقصود بالوضع المشروع الإلهي، اعتبرها اللَّه اعتبار ما شرعه من عنده تعالى، «و ما كتبها اللَّه عليهم». و لم فتح اللَّه بينه و بين قلوبهم باب العناية «4» و الرحمة من حيث لا يشعرون جعل في قلوبهم تعظيم ما شرعوه- يطلبون بذلك رضوان اللَّه- على غير الطريقة النبوية المعروفة بالتعريف الإلهي «3» فقال: «فَما رَعَوْها»: هؤلاء الذين شرعوها و شرعت لهم: «حَقَّ رِعايَتِها» «إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ» و كذلك اعتقدوا، «فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا» بها «مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ‏» «وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ»:
أي من هؤلاء الذين شرع فيهم هذه العبادة «فاسِقُونَ» أي خارجون عن الانقياد إِليها و القيام بحقها. و منْ لم ينْقَد إِليها لم ينقد مشرِّعه‏ «5» بما يرضيه. لكن الأمر يقتضي الانقياد: و بيانه أن المكلَّف إِما منقاد بالموافقة و إِما مخالف، فالموافق المطيع لا كلام فيه لبيانه، و أما المخالف‏ «6» فإِنه يطلب بخلافه الحاكِمِ عليه من اللَّه أحد أمرين إِما التجاوز و العفو، و إِما الأخذ
على ذلك، و لا بد من أحدهما لأن الأمر حق في نفسه. فعلى كل حال قد صح انقياد الحق إِلى عبده لأفعاله و ما هو عليه من الحال. فالحال هو المؤثر. فمن هنا كان الدين جزاء أي معاوضة بما يسرُّ و بما لا يسر: فبما يسر «1» «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ»* هذا جزاء «2» بما يسر، «وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً» هذا جزاء بما لا يسر.
«وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ» هذا جزاء «3». فصح أن‏ «4» الدين هو الجزاء، و كما أن الدين هو الإسلام و الإسلام عين الانقياد فقد انقاد إِلى ما يسر و إِلى ما لا يسر و هو الجزاء. هذا لسان‏ «5» الظاهر في هذا الباب. و أما سره و باطنه فإِنه تجلٍ‏ «6» في مرآة وجود الحق: فلا يعود على الممكنات من الحق إِلا ما تعطيه‏ «7» ذواتهم في أحوالها، فإِن لهم في كل حال صورة، فتختلف صورهم لاختلاف أحوالهم، فيختلف التجلي لاختلاف الحال، فيقع الأثر في العبد بحسب ما يكون.
فما أعطاه الخير سواه و لا أعطاه ضد الخير غيره، بل هو منعم ذاته و معذبها. فلا يذمَّنَّ إِلا نفسه و لا يحمدنَّ إِلا نفسه. «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» في علمه بهم إِذ العلم يتبع المعلوم. ثم السر الذي فوق هذا في مثل هذه المسألة أن الممكنات على أصلها من العدم، و ليس وجودٌ إِلا وجود الحق بصور أحوال ما هي عليه الممكنات في أَنفسها و أعيانها. فقد «8» علمت من يلتذ و من‏ «9» يتألم و ما يعقب كل حال من الأحوال و به سمي عقوبة و عقاباً «10» و هو سائغ في الخير و الشر غير أن العرف سماه في الخير ثواباً و في الشر عقاباً، و بهذا سمى أو شرح الدين بالعادة، لأنه عاد عليه ما يقتضيه و يطلبه حاله: فالدين العادة: قال الشاعر:
كدِينِك من أم الحويرث قبلها
أي عادتك. و معقول العادة أن يعود الأمر بعينه إِلى حاله: و هذا ليس ثَمَّ «4» فإِن العادة تكرار. لكن العادة «1» حقيقة معقولة، و التشابه في الصور موجود:
فنحن نعلم أن زيداً عين عمرو في الإنسانية و ما عادت الإنسانية، إِذ لو عادت تكثرت و هي حقيقة واحدة و الواحد لا يتكثر في نفسه. و نعلم أن زيداً ليس عين عمرو في الشخصية: فشخص‏ «2» زيد ليس شخص‏ «3» عمرو مع تحقيق وجود الشخصية بما هي شخصية في الاثنين. فنقول في الحس عادت لهذا الشبه، و نقول في الحكم الصحيح لم تعدْ. فما ثَمَّ عادة بوجه و ثَمَّ عادة بوجه، كما أن ثَمَّ جزَاءً بوجه و ما ثم جزاء بوجه فإِن الجزاء أيضاً حالٌ في الممكن من أحوال الممكن. و هذه‏ «4» مسألة أغفلها علماء هذا الشأن، أي أغفلوا إِيضاحها على ما ينبغي لا أنهم‏ «5» جهلوها فإِنها من سر القَدَر المتحكم في الخلائق «5».
و اعلم أنه كما يقال في الطبيب إِنه خادم الطبيعة كذلك يقال في الرسل و الورثة إِنهم خادمو الأمر الإلهي في العموم، و هم في نفس الأمر خادمو أحوال الممكنات. و خِدْمتهم من جملة أحوالهم التي هم عليها في حال ثبوت أعيانهم.
فانظر ما أعجب هذا! إِلا أن الخادم المطلوب هنا إِنما هو واقف عند مرسوم مخدومه إِما بالحال أو بالقول، فإِن الطبيب إِنما يصح أن يقال فيه خادم الطبيعة لو مشى بحكم المساعدة لها، فإِن الطبيعة قد أعطت في جسم المريض مزاجاً خاصاً به سمِّي‏ «6» مريضاً، فلو ساعدها الطبيب خدمة لزاد في كمية المرض‏
بها أيضاً، و إِنما يردعها طلباً الصحة- و الصحة من الطبيعة أيضاً- بإِنشاء مزاج آخر يخالف‏ «1» هذا المزاج. فإِذن ليس الطبيب بخادم للطبيعة، و إِنما هو خادم لها من حيث إِنه لا يصلِحُ جسم المريض و لا يغير ذلك‏ «2» المزاج إِلا بالطبيعة أيضاً. ففي حقها يسعى من وجه خاص غير عام لأن العموم لا يصح في مثل هذه المسألة. فالطبيب خادم لا خادم أعني للطبيعة، و كذلك الرسل و الورثة في خدمة الحق. و الحق‏ «3» على وجهين في الحكم في أحوال المكلَّفين «6»، فيَجرِي الأمر من العبد بحسب ما تقتضيه إِرادة الحق، و تتعلق إِرادة الحق به بحسب ما يقتضي‏ «4» به علم الحق، و يتعلق علم الحق به على حسب ما أعطاه المعلوم من ذاته: فما ظهر إِلا بصورته. فالرسول و الوارث خادم الأمر الإلهي بالإرادة، لا خادم الإرادة «7». فهو يردُّ عليه به طلباً لسعادة المكلَّف‏ «5» فلو خدم الإرادة الإلهية ما نصح و ما نصح إِلا بها أعني بالإرادة. فالرسول و الوارث طبيب أُخْروي للنفوس منقاد لأمر اللَّه حين أمره، فينظر في أمره تعالى و ينظر في إِرادته تعالى، فيراه قد أمره بما يخالف إِرادته و لا «6» يكون إِلا ما يريد، و لهذا كان الأمر. فأراد الأمر فوقع، و ما أراد وقوع ما أمر به بالمأمور «7» فلم يقع من المأمور، فسمي مخالفة و معصية. فالرسول مبلِّغ:
و لهذا قال شيبتني «هودٌ» و أخواتها لما تحوي عليه من قوله‏ «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ»
فَشَيَّبَه «كَما أُمِرْتَ‏ «1»» فإِنه لا يدري هل أُمرت بما يوافق الإرادة فيقع، أو بما يخالف الإرادة فلا يقع. و لا يعرف أحد حكم الإرادة إِلا بعد وقوع المراد إِلا من كشف اللَّه عن بصيرته فأدرك أعيان الممكنات في حال ثبوتها على ما هي عليه، فيحكم عند ذلك بما يراه. و هذا قد يكون لآحاد الناس في أوقات لا يكون مستصحباً. قال: «ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ» فصرح بالحجاب، و ليس المقصود «2» إِلا أن يطلع في أمر خاص لا غير «3».

  الموضوع  التـــــــالي    ....    الموضوع  الســـابق  



التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: