الجمعة، 20 أكتوبر 2017

كتاب فصوص الحكم 6- فص حكمة حقية في كلمة إِسحاقية

كتاب فصوص الحكم 6- فص حكمة حقية في كلمة إِسحاقية

كتاب فصوص الحكم 6- فص حكمة حقية في كلمة إِسحاقية

 الشيخ الاكبر محيي الدين بن عربي  

6- فص حكمة حقية في كلمة إِسحاقية

فداء نبي ذَبْح لقربان‏ .... وأين ثؤاج الكبش من نوس إِنسان‏

وعظمه اللَّه العظيم عناية.... بنا أو به لا أدر من أي ميزان
و لا شك أن البُدْن أعظم قيمة

و قد نزلت عن ذبح كبش لقربان‏
فيا ليت شعري كيف ناب بذاته‏

شخيص كبيش عن خليفة رحمان‏
أ لم تدر أن الأمر فيه مرتب‏

وفاء لإرباح و نقص لخسران؟ «2»
فلا خلق أعلى من جماد و بعده‏

نبات على قَدْرٍ يكون و أوزان‏
و ذو الحس بعد النبت و الكل عارف‏

بخلاف كشفاً و إِيضاح برهان‏
و أما المسمى آدما «1» فمقيد

بعقل و فكر أو قلادة إِيمان‏
بذا قال سهل‏ «2» و المحقق مثلنا

لأنا و إِياهم بمنزل إِحسان «3»
فمن شهد الأمر الذي قد شهدته‏

يقول بقولي في خفاء و إِعلان‏
و لا تلتفت‏ «3» قولًا يخالف قولنا

و لا تبذر السمراء «4» في أمر عميان‏
هم الصم و البكم الذين أتى بهم‏

لأسماعنا المعصوم في نص قرآن



اعلم أيدنا اللَّه و إِياك أن إِبراهيم الخليل عليه السلام قال لابنه: «إِنِّي أَرى‏ فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ» و المنام حضرة الخيال فلم يعبرها. و كان كبش‏ «5» ظهر في صورة ابن إِبراهيم في المنام فصدَّق إِبراهيم الرؤيا، ففداه ربه من وَهم إِبراهيم بالذبح‏ «6» العظيم الذي هو تعبير رؤياه عند اللَّه تعالى و هو «7» لا يشعر. فالتجلي الصوري في حضرة الخيال محتاج‏ «8» إِلى علم آخر يدرك به ما أراد اللَّه تعالى بتلك الصورة.
أ لا ترى كيف قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم لأبي بكر «9» في تعبير الرؤيا:
«أصبت بعضاً و أخطأت بعضاً» فسأله أبو بكر أن يعرِّفه ما أصاب فيه و ما أخطأ فلم يفعل. «10» و قال اللَّه تعالى لإبراهيم عليه السلام حين ناداه:
«أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» و ما قال له صَدَقْتَ‏ «11» في الرؤيا أنه ابنك: لأنه ما عبرها، بل أخذ بظاهر ما رأى، و الرؤيا «5»
تطلب التعبير. و لذلك قال العزيز «إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ‏ «1»». و معنى التعبير الجواز من صورة ما رآه إِلى أمر آخر. فكانت البقر سنين في المَحْل و الخصب. فلو صدَق في الرؤيا لذبح ابنه، و إِنما صدّق الرؤيا في‏ «2» أن ذلك عين ولده، و ما كان عند اللَّه إِلا الذِّبحَ العظيم في صورة ولده (27- 1) ففداه لما وقع في ذهن إِبراهيم عليه السلام: ما هو فداء في نفس الأمر عند اللَّه‏ «3».
فصوّر الحس الذِّبح و صور الخيال ابن إِبراهيم عليه السلام. فلو رأى الكبش في الخيال لعبَّره‏ «4» بابنه أو بأمر آخر. ثم قال‏ «5» «إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ‏ «6»» أي الاختبار المبين أي الظاهر يعني الاختبار في العلم: هل يعلم ما يقتضيه موطن الرؤيا من التعبير أم لا؟ لأنه يعلم أن موطن الخيال يطلب التعبير: فغفل فما وفَّى الموطن حقه، و صدّق الرؤيا لهذا السبب كما فعل تقي بن مخلد الإمام صاحب المسند، سمع في الخبر الذي ثبت عنده أنه عليه السلام قال: «من رآني في النوم فقد رآني في اليقظة فإِن الشيطان لا يتمثل على صورتي» فرآه تقي بن مخلد و سقاه النبي صلى اللَّه عليه و سلم في هذه الرؤيا لبناً فصدّق تقيُّ بن مخلد رؤياه فاستقاء «7» فقاء لبناً. و لو عبَّر رؤياه لكان ذلك اللبن علماً. فحرمه اللَّه علماً كثيراً على قدر ما شرب‏ «8». ألا ترى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم أُتِيَ‏ «9» في المنام بقدح لبن: «فشربته حتى خرج الرِّي من أظافيري‏ «10» ثم أعطيت فضلي عمر». قيل ما أوَّلته يا رسول اللَّه؟ قال العلم، و ما تركه لبناً على‏
صورة ما رآه لعلمه بموطن الرؤيا و ما تقتضيه‏ «1» من التعبير. و قد عُلِمَ أن صورة النبي صلى اللَّه عليه و سلم التي شاهدها الحس أنها في المدينة مدفونة، و أن صورة روحه و لطيفته‏ «2» ما شاهدها أحدٌ من أحدٍ و لا من نفسه‏ «3». كل روح بهذه المثابة فتتجسد له روح النبي في المنام بصورة جسده كما مات عليه لا يخرم‏ «4» منه شي‏ء. فهو محمد صلى اللَّه عليه و سلم المرئي من حيث روحه في صورة جسدية «5» تشبه المدفونة لا يمكن للشيطان أن يتصور بصورة جسده صلى اللَّه عليه و سلم عصما من اللَّه في حق الرائي. و لهذا من رآه بهذه الصورة يأخذ عنه جميع ما يأمره أو ينهاه عنه‏ «6» أو يخبره كما كان يأخذ عنه في الحياة الدنيا من الأحكام على حسب ما يكون منه اللفظ الدال عليه من نص أو ظاهر أو مجمل أو ما كان‏ «7» فإِن أعصاه شيئاً فإِن ذلك الشي‏ء هو الذي يدخله التعبير، فإِن خرج في الحس كما كان في الخيال فتلك رؤيا لا تعبير لها. و بهذا القدر و عليه اعتمد إبراهيم عليه السلام و تقي بن مخلد. و لما كان للرؤيا هذان الوجهان، و علمنا اللَّه: فيما فعل بإِبراهيم و ما قال له: الأدب لما يعطيه مقام النبوة، عَلِمْنَا في رؤيتنا الحق تعالى في صورة يردها الدليل العقلي أنْ نعبِّر «6» «8» تلك الصورة بالحق المشروع إِما في حق حال الرائي أو المكان الذي رآه فيه أو هما معاً. و إِن لم يردها الدليل العقلي أبقيناها على ما رأيناها «9» كما نرى الحق في الآخرة سواء.

فللواحد الرحمن في كل موطن‏

من الصور ما يخفي و ما هو ظاهر
فإِن قلت هذا الحق قَدْ تَكُ‏ 1 صادقاً

و إِن قلت أمراً آخراً أنت عابر
و ما حكمه في موطن دون موطن‏

و لكنه بالحق للخلق سافر
إِذا ما تجلى للعيون ترده‏

عقول ببرهان عليه تثابر
و يُقْبَل في مجلَى العقول و في الذي‏

يسمى خيالًا والصحيح النواظر «7»



يقول أبو يزيد في هذا المقام لو أن العرش و ما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بها «3». و هذا وسع أبي يزيد في عالم الأجسام. بل أقول لو أن ما لا يتناهى وجوده يقدَّر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بذلك في علمه. فإِنه قد ثبت أن القلب وسع الحق و مع ذلك ما اتصف بالري فلو امتلأ ارتوى. و قد قال ذلك أبو يزيد. و لقد نبهنا على هذا المقام بقولنا:
يا خالق الأشياء في نفسه‏

أنت لما تخلقه جامع‏
تخلق ما لا ينتهي كونه فيه‏

بك فأنت الضيق الواسع‏
لو أن ما قد خلق اللَّه ما لا

ح بقلبي فجره الساطع‏ «4»
من وسع الحق فما ضاق عن‏

خلق فكيف الأمر يا سامع؟



بالوهم يخلق كل إِنسان في قوة خياله ما لا وجود له إِلا فيها، و هذا هو الأمر العام. و العارف يخلق بالهمة ما يكون له وجود من خارج محل الهمة «8» و لكن لا تزال الهمة تحفظه. و لا يئودها حفظه، أي حفظ ما خلقته. فمتى طرأ
على العارف غفلة عن حفظ ما خلق عُدِمَ ذلك المخلوق، إِلا أن يكون العارف قد ضبط جميع الحضرات و هو لا يغفل مطلقاً، بل لا بد من حضرة يشهدها.
فإِذا خلق العارف بهمته ما خلق و له هذه الإحاطة ظهر ذلك الخلق بصورته‏ «1» في كل حضرة، و صارت الصور يحفظ بعضها بعضاً. فإِذا غفل العارف عن حضرة ما أو عن حضرات و هو شاهد حضرة ما من الحضرات، حافظٌ لما فيها من صورة خلقه، انحفظت‏ «2» جميع الصور بحفظه تلك الصورة الواحدة في الحضرة «3» التي ما غفل عنها، لأن الغفلة ما تعم قط لا في العموم و لا في الخصوص.
و قد أوضحت هنا سراً لم يزل أهل اللَّه‏ «4» يغارون على مثل هذا أن يظهر لما فيه من رد دعواهم أنهم الحق، فإِن الحق لا يغفل و العبد لا بد له أن يغفل عن شي‏ء دون شي‏ء. فمن حيث الحفظ لما خلق له أن يقول «أنا الحق»، و لكن ما حفظه لها حفظ الحق: و قد بينا الفرق. و من حيث ما غفل عن صورة ما و حضرتها فقد تميز العبد من الحق. و لا بد أن يتميز مع بقاء الحفظ لجميع الصور بحفظه صورة واحدة منها في الحضرة التي ما غفل عنها. فهذا حفظ بالتضمن، و حفظ الحق ما خلق ليس كذلك بل حفظه لكل صورة على التعيين.
و هذه مسألة أُخبرت أنه ما سطرها أحد في كتاب لا أنا و لا غيري إِلا في هذا الكتاب:
فهي يتيمة الدهر و فريدته. فإِياك أن تغفل عنها فإِن تلك الحضرة التي يبقي لك الحضور فيها مع‏ «5» الصورة، مثلها مثَلُ الكتاب الذي قال اللَّه فيه‏ «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ» فهو الجامع للواقع و غير الواقع. و لا يعرف ما قلناه إِلا من كان‏
قرآنا «1» في نفسه «9» فإِن المتقي اللَّه «يجعل له فرقاناً» و هو مثل ما ذكرناه في هذه المسألة فيما يتميز به العبد من الرب. و هذا الفرقان‏ «2» أرفع فرقان.
فوقتاً يكون العبد رباً بلا شك‏

و وقتاً يكون العبد عبداً بلا إِفك‏
فإِن كان عبداً كان بالحق واسعاً

و إِن كان رباً كان في عيشة ضنك‏
فمن كونه عبداً يرى عين نفسه‏

و تتسع الآمال منه بلا شك‏
و من كونه رباً يرى الخلق كله‏

يطالبه من حضرة المُلك و المَلك‏
و يعجز عمَّا طالبوه بذاته‏

لذا تر بعض العارفين به يبكي‏
فكن عبد رب لا تكن ربَّ عبده‏

فتذهب بالتعليق في الناروالسبك

 الموضوع  التـــــــالي    ....    الموضوع  الســـابق  

التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: