السبت، 21 أكتوبر 2017

كتاب فصوص الحكم 18 - فص حكمة نَفْسيَّة في كلمة يونُسية

كتاب فصوص الحكم 18 - فص حكمة نَفْسيَّة في كلمة يونُسية

كتاب فصوص الحكم 18 - فص حكمة نَفْسيَّة في كلمة يونُسية

الشيخ الاكبر محيي الدين بن عربي     

18 - فص حكمة نَفْسيَّة في كلمة يونُسية

اعلم أن هذه النشأة الانسانية بكمالها روحاً و جسماً و نفساً خلقها اللَّه على صورته، فلا يتولى حل نظامها إلا مَنْ خلقها، إما بيده- و ليس إلا ذلك‏ - أو بأمره.
ومن تولاها بغير أمر اللَّه فقد ظلم نفسه و تعدى حد اللَّه فيها و سعى في خراب من أمَرَهُ اللَّه بعمارته. و أعلم أن الشفقة على عباد اللَّه أحق بالرعاية من الغَيْرة في اللَّه.

أراد داود بنيان البيت المقدس فبناه مراراً، فكلما فرغ منه تهدَّم، فشكا ذلك إلى اللَّه فأوحى اللَّه إليه أن بيتي هذا لا يقوم على يدي من سفك الدماء، فقال داود يا رب أ لم يكن ذلك في سبيلك؟ قال بلى! و لكنهم أ ليسوا عبادي؟
قال يا رب فاجعل بنيانه على يدي من هو مني، فأوحى اللَّه إليه أن ابنك سليمان يبنيه. فالغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النشأة الانسانية، و أن إقامتها أولى من هدمها. أ لا ترى عدو الدين قد فرض اللَّه في حقهم الجزية و الصلح إبقاءً عليهم، و قال‏ «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى‏ اللَّهِ»؟
ألا ترى من‏ وجب عليه القصاص كيف شُرِّع لولي الدم أخذُ الفدية أو العفو، فإن أَبى حينئذ يقتل؟
ألا تراه سبحانه‏ إذا كان أولياء الدم جماعة فرضي واحد بالدية أو عفا، و باقي الأولياء لا يريدون إلا القتل، كيف يراعَى من عفا و يرجَّح على من لم يعف فلا يقتل‏
قصاصاً؟ أ لا تراه عليه السلام يقول في صاحب النِّسعة «إنْ قَتَلَه كان مثله»؟
ألا تراه يقول‏ «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها؟» فجعل القصاص سيئة، أي يسوء ذلك‏ «2» الفعل مع كونه مشروعاً.
 «فَمَنْ عَفا وَأصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» لأنه على صورته. فمن عفا عنه و لم يقتله فأجره على م ن هو على صورته لأنه أحق به إذ أنشأه له، و ما ظهر بالاسم الظاهر إلا بوجوده فمن راعاه إنما يراعي الحق.
وما يُذَمُّ الإنسان لعينه و إنما يذم الفعل منه، و فعله ليس عينه، و كلامُنَا في عينه.
ولا فعل إلا اللَّه، و مع هذا ذُمَّ منها ما ذم و حُمِدَ منها ما حمد.
ولسان الذم على جهة الغرض مذموم عند اللَّه.
فلا مذموم إلا ما ذمه الشرع، فإنَ‏ ذم الشرع‏ لحكمة يعلمها اللَّه أو مَنْ أَعْلَمه اللَّه، كما شرع القصاص للمصلحة إبقاء لهذا النوع و إرداعاً للمعتدي حدود اللَّه فيه.
«وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ» و هم أهل لب الشي‏ء الذين عثروا على سر «5» النواميس الإلهية و الحِكمية.
و إذا علمت أن اللَّه راعى هذه النشأة و إقامتها فأنت أولى بمراعاتها إذْ لَكَ بذلك السعادة، فإنه ما دام الإنسان حياً، يرجى له تحصيل صفة الكمال الذي خلق له.
ومن سعى في هدمه فقد سعى في منع وصوله لما خلق له.
وما أحسن ما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «ألَا أنبئكم بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم و يضربون رقابكم؟ ذكر اللَّه» .
وذلك أنه لا يعلم قدر هذه النشأة الإنسانية إلا من ذكر اللَّه الذكر المطلوب منه، فإنه تعالى جليس من ذكره، و الجليس مشهود للذاكر.
و متى لم يشاهد الذاكر الحقَّ الذي هو جليسه‏
فليس بذاكر. فإنَّ ذكر اللَّه سارٍ في جميع العبد لا مَنْ ذَكَرَه بلسانه خاصة.
فان الحق لا يكون في ذلك الوقت إلا جليس اللسان خاصة، فيراه اللسان‏ «1» من حيث لا يراه الإنسان: بما هو راءٍ و هو البصر.
فافهم هذا السِّر في ذكر الغافلين‏.
فالذاكر من الغافل حاضر بلا شك، و المذكور جليسه، فهو يشاهده. و الغافل من حيث غفلته ليس بذاكر: فما هو جليس الغافل.
فالإنسان‏ كثير ما هو أحدى العين، و الحق أحدى العين كثير بالأسماء الإلهية:
كما أن‏ الإنسان كثير بالأجزاء: و ما يلزم من ذكر جزءٍ ما ذكر جزء آخر.
فالحق جليس الجزء الذاكر منه و الآخر متصف بالغفلة عن الذكر. و لا بد أن يكون في الإنسان جزء يَذكُرُ به يكون‏ الحق جليس ذلك الجزء فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية. و ما يتولى الحقُّ هدمَ هذه النشاة بالمسمى موتاً، و ليس بإعدام و إنما هو تفريق، فيأخذه إليه، و ليس المراد إلا أن يأخذه الحق إليه، «وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ» فإذا أخذه إليه سوّى له مركباً غير هذا المركب من جنس الدار التي ينتقل‏ إليها، و هي دار البقاء «3» لوجود الاعتدال:
فلا يموت أبداً، أي لا تُفَرَّق أجزاؤه. و أما أهل النار فمآلهم إلى النعيم، و لكن في النار إذ لا بد لصورة النار بعد انتهاء مدة العقاب أن تكون برداً و سلاماً على من فيها. و هذا نعيمهم. فنعيم أَهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل اللَّه حين أُلقِيَ في النار فإنه عليه السلام تعذب برؤيتها و بما تَعَوّد «10» في علمه و تقرر من‏
أنها صورة تؤلم من جاورها «1» من الحيوان. و ما علم مراد اللَّه فيها و منها في حقه.
فبعد وجود هذه الآلام وجد برداً و سلاماً مع شهود الصورة اللونية في حقه، و هي نار في عيون الناس. فالشي‏ء الواحد يتنوع في عيون الناظرين: هكذا هو التجلي الإلهي. فإن شئت قلت إن اللَّه تجلى مثل هذا الأمر، و إن شئت قلت إن العالَم في النظر إليه و فيه مثلُ الحق في التجلي، فيتنوع في عين الناظر بحسب مزاج الناظر أو يتنوع مزاج الناظر لتنوع التجلي: و كل هذا سائغ في الحقائق.
و لو أن الميت و المقتول- أيَّ ميت كان أو أيَّ مقتول كان- إذا مات أو قُتِلَ لا يرجع إلى اللَّه، لم يقض اللَّه بموت أحد «2» و لا شرع قتله. فالكل في قبضته:
فلا فقدان في حقه. فشرع القتل و حكم بالموت لعلمه بأن عبده لا يفوته: فهو راجع إليه على أن قوله‏ «وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ» أي فيه يقع التصرف، و هو المتصرف، فما خرج عنه شي‏ء لم يكن عينه، بل هويَّتُهُ هو عين‏ «3» ذلك الشي‏ء و هو الذي يعطيه الكشف في قوله‏ «4» «وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ».


 الموضوع  التـــــــالي    ....    الموضوع  الســـابق  

التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: