السبت، 21 أكتوبر 2017

كتاب فصوص الحكم 21- فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية

كتاب فصوص الحكم 21- فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية

كتاب فصوص الحكم 21- فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية

الشيخ الاكبر محيي الدين بن عربي  

21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية

اعلم أن رحمة اللَّه وسعت كل شي‏ء وجوداً و حكماً ، وأن وجود الغضب من رحمة اللَّه بالغضب. فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه.
ولما كان لكل عين وجود يطلبه من اللَّه، لذلك عمت رحمته كل عين، فإنه برحمته التي رحمه بها قَبِلَ‏ رغْبته في وجود عينه، فأوجدها.

فلذلك قلنا إن رحمة اللَّه وسعت كل شي‏ء وجوداً و حكماً.
والأسماء الإلهية من الأشياء، و هي ترجع إلى عين واحدة.
فأول ما وسعت رحمة اللَّه شيئية تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة، فأول شي‏ء وسعته الرحمة نَفْسُها ثم الشيئية المشار إليها، ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا و آخرة، و عرضاً و جوهراً، و مركَّباً و بسيطاً.
ولا يعتبر فيها حصول غرض و لا ملاءمة طبع، بل الملائم و غير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجوداً.
وقد ذكرنا في الفتوحات‏ أن الأثر لا يكون إلا للمعدوم لا للموجود، و إن كان للموجود فبحكم المعدوم: و هو علم غريب و مسألة نادرة، و لا يعلم تحقيقها  إلا أصحاب الأوهام، فذلك بالذوق عندهم. و أما من لا يؤثر الوهم فيه فهو بعيد عن هذه المسألة.
فرحمة اللَّه في الأكوان سارية
....
و في الذوات و في الأعيان جارية
مكانة الرحمة المثلى إذا علمت‏
....
من الشهود مع الأفكار عالية
فكل من ذكرته‏ الرحمة فقد سعد، و ما ثم إلا من ذكرته الرحمة.
وذكر الرحمة الأشياء عين إيجادها إياها.
فكل‏ موجود مرحوم.
ولا تحجب يا ولي عن إدراك ما قلناه بما ترى من أصحاب البلاء و ما تؤمن به من آلام الآخرة التي لا تفتر عمن قامت به.
واعلم أولًا أن الرحمة إنما هي في الإيجاد عامة. فبالرحمة بالآلام‏ أوجد الآلام‏.
ثم إن الرحمة لها أثر بوجهين: أثر بالذات، و هو إيجادها كل عين موجودة. و لا تنظر إلى غرض و لا إلى عدم غرض، و لا إلى ملائم و لا إلى غير ملائم: فإنها ناظرة في عين كل موجود قبل وجوده. بل تنظره‏ «7» في عين ثبوته، و لهذا رأت الحق المخلوق في الاعتقادات عيناً ثابتة في العيون الثابتة فرحمته بنفسها «8» بالإيجاد «6». و لذلك قلنا إن الحق المخلوق‏ «9» في الاعتقادات أول شي‏ء مرحوم بعد رحمتها نفسها «10» في تعلقها بإيجاد الموجودين. و لها أثر آخر بالسؤال «7»، فيسْأل المحجوبون الحق أن يرحمهم في اعتقادهم، و أهل الكشف يسألون رحمة اللَّه أن تقوم بهم «8»، فيسألونها باسم اللَّه فيقولون يا اللَّه ارحمنا. و لا يرحمهم إلا قيام الرحمة بهم‏ «11»، فلها الحكم، لأن الحكم إنما هو في الحقيقة للمعنى القائم بالمحل. فهو «12» الراحم على الحقيقة. فلا يرحم اللَّه عباده المعتنى بهم إلا بالرحمة، فإذا قامت بهم وجدوا حكمها ذوقاً. فمن ذكرته الرحمة فقد رَحِمَ. و اسم الفاعل هو الرحيم و الراحم. و الحكم‏ «13» لا يتصف بالخلق لأنه أمر توجبه المعاني لذواتها «9».
فالأحوال لا موجودة و لا معدومة، أي لا عين لها في الوجود لأنها نسب‏ «14»، و لا
معدومة في الحكم لأن الذي قام به العلم يسمى عالماً و هو الحال. فعالم ذات موصوفة بالعلم، ما هو عين الذات و لا عين العلم، و ما ثم إلا علم و ذات قام بها هذا العلم. و كونه عالماً حال لهذه الذات باتصافها بهذا المعنى. فحدثت‏ «1» نسبة العلم إليه، فهو المسمى عالماً. و الرحمة على الحقيقة نسبة من الراحم، و هي الموجبة للحكم، و هي الراحمة «2». و الذي أوجدها في المرحوم ما أوجدها ليرحمه بها و إنما أوجدها ليرحم بها من قامت «10» به‏ «3». و هو سبحانه ليس بمحل للحوادث، فليس بمحل لإيجاد الرحمة فيه. و هو الراحم، و لا يكون الراحم راحماً إلا بقيام الرحمة به. فثبت أنه عين الرحمة. و من لم يذق هذا الأمر و لا كان له فيه قدم ما «4» اجترأ أن يقول إنه عين الرحمة أو عين الصفة، فقال ما هو عين الصفة و لا غيرها. فصفات الحق عنده لا هي هو و لا هي غيره، لأنه لا يقدر على نفيها و لا يقدر أن يجعلها عينه، فعدل إلى هذه العبارة و هي‏ «5» حسنة، و غيرها أحق بالأمر منها و أرفع للإشكال، و هو القول بنفي أعيان الصفات وجوداً قائماً بذات الموصوف. و إنما هي نسب و إضافات بين الموصوف بها و بين أعيانها المعقولة. و إن كانت الرحمة «6» جامعة فإنها بالنسبة إلى كل اسم إلهي مختلفة «11»، فلهذا يُسْألُ سبحانه أن يَرْحَم بكل اسم إلهي. فرحمة اللَّه و الكناية «7» هي التي وسعت كل شي‏ء. ثم لها شعب كثيرة تتعدد بتعدد الأسماء الإلهية «12». فما تعم بالنسبة إلى ذلك الاسم الخاص الإلهي في قول السائل رب ارحم، و غير ذلك من الأسماء. حتى المنتقم له أن يقول يا منتقم ارحمني، و ذلك لأن هذه الأسماء تدل على الذات المسماة، و تدل‏
بحقائقها على معان مختلفة. فيدعو بها في الرحمة من حيث دلالتها على الذات المسماة بذلك الاسم لا غير، لا بما يعطيه مدلول ذلك الاسم الذي ينفصل به عن غيره و يتميز. فإنه لا يتميز عن غيره و هو عنده دليل الذات، و إنما يتميز بنفسه عن غيره لذاته، إذ المصطلح عليه بأي لفظ كان حقيقةٌ متميزة بذاتها عن غيرها:
و إن كان الكل قد سيق‏ «1» ليدل على عين واحدة مسماة «13». فلا خلاف في أنه لكل اسم حكم ليس للآخر، فذلك أيضاً ينبغي أن‏ «2» يعتبر كما تعتبر دلالتها على الذات المسماة. و لهذا قال أبو القاسم بن قسي «14» في الأسماء الإلهية إن كل اسم إلهي على انفراده مسمى بجميع الأسماء الإلهية كلها:
إذا قدمته في الذكر «3» نعتَّه بجميع الأسماء، و ذلك لدلالتها على عين واحدة، و إن تكثرت الأسماء عليها و اختلفت حقائقها، أي حقائق تلك الأسماء. ثم إن الرحمة تُنَال على طريقين، طريق الوجوب، و هو قوله‏ «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ» و ما قيَّدهم به من الصفات العلمية و العملية «4». و الطريق الآخر الذي تنال به هذه‏ «5» الرحمة طريق الامتنان الإلهي الذي لا يقترن به عمل و هو قوله‏ «وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ» و منه قيل‏ «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ»، و منها قوله «اعمل ما شئت فقد غفرت لك» فاعلم ذلك. 


 الموضوع  التـــــــالي    ....    الموضوع  الســـابق  

التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: