الجمعة، 20 أكتوبر 2017

   كتاب فصوص الحكم 9 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية

كتاب فصوص الحكم 9 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية

   كتاب فصوص الحكم 9 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية

الشيخ الاكبر محيي الدين بن عربي       

9 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية

هذه الحكمة النورية انبساط نورها على حضرة الخيال و هو أول مبادئ الوحي الإلهي في أهل العناية. تقول عائشة رضي اللَّه عنها: «أول ما بدى‏ء به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم من‏ «4» الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا خرجت مثل فلق الصبح «تقول لا خفاء بها. و إلى هنا بلغ علمها لا غير. و كانت‏ «5» المدة له في ذلك ستة
أشهر ثم جاءه‏ «6» المَلَك، و ما علمت أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم قد قال: «إن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»، و كل ما يرى في حال النوم فهو من ذلك القبيل، و إِن اختلفت الأحوال. فمضى قولها «7» ستة أشهر، بل عمره كله في الدنيا بتلك المثابة:
إنما هو منام في منام. و كل ما ورد من هذا القبيل فهو المسمى عالم الخيال و لهذا يُعَبَّر، أي الأمر الذي هو في نفسه على صورة كذا ظهر في صورة غيرها،
فيجوزُ العابرُ من هذه الصورة التي أبصرها النائم إلى صورة ما هو الأمر عليه إن أصاب كظهور العلم في صورة اللبن. فعبَّر في التأويل من صورة اللبن إلى صورة العلم فتأوَّلَ أي قال: مآل‏ «1» هذه الصورة اللبنية إلى صورة العلم.
ثم إنه صلى اللَّه عليه و سلم كان إذا أُوحي إليه أُخِذَ عن المحسوسات المعتادة فسجي‏ «2» و غاب عن الحاضرين عنده: فإذا سُرِّي عنه رُدَّ. فما أدركه إلا في حضرة الخيال، إلا أنه لا يسمى نائماً. و كذلك إذا تمثل له المَلَك رجلًا فذلك من حضرة الخيال، فإنه ليس برجل و إنما هو ملك، فدخل في صورة إنسان. فعبَّره‏ «3» الناظر العارف حتى وصل إلى صورته الحقيقية، فقال هذا جبريل أتاكم يعلمكم‏ «4» دينكم. و قد قال لهم ردوا عليَّ الرجل فسماه بالرجل من أجل الصورة التي ظهر لهم فيها. ثم قال هذا جبريل فاعتبر «5» الصورة التي مآل هذا الرجل المتخيل إليها. فهو صادق في المقالتين:
صدق للعين‏ «6» في العين الحسِّية، و صدق في أن هذا جبريل، فإنه جبريل بلا شك. و قال يوسف عليه السلام: «إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ»: فرأى إخوته في صورة الكواكب و رأى أباه و خالته في صورة الشمس و القمر. هذا من جهة يوسف، و لو كان من جهة المرئي لكان ظهور إخوته في صورة الكواكب و ظهور أبيه و خالته في صورة الشمس و القمر مراداً لهم. فلما لم يكن لهم علم بما رآه يوسف كان الإدراك من يوسف في‏ «7» خزانة خياله «2»، و عَلِمَ ذلك يعقوب حين قصها عليه فقال: «يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى‏ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً» ثم برأ
أبناءه عن ذلك الكيد و ألحقَهُ بالشيطان، و ليس إلا عين الكيد، فقال:
«إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ» أي ظاهر العداوة. ثم قال يوسف بعد ذلك في آخر الأمر: «هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» أي أظهرها في الحس بعد ما كانت في صورة الخيال، فقال‏ «1» النبي محمد صلى اللَّه عليه و سلم: «الناس نيام»، فكان قول يوسف: «قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» بمنزلة من رأى في نومه أنه قد استيقظ من رؤيا رآها ثم عبرها. و لم يعلم أنه في النوم عينه ما بَرح، فإذا استيقظ يقول رأيت كذا «2» و رأيت كأني استيقظت و أوَّلها بكذا. هذا مثل ذلك. فانظر «3» كم بين إدراك محمد صلى اللَّه عليه و سلم و بين إدراك يوسف عليه السلام في آخر أمره حين قال: «هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا». معناه حساً أي محسوساً، و ما كان إلا محسوساً، فإن الخيال لا يعطي أبداً «4» إلا المحسوسات، غير ذلك ليس له.
فانظر ما أشرف علم ورثة محمد صلى اللَّه عليه و سلم. و سأبسط من القول في هذه الحضرة بلسان يوسف المحمدي «3» ما تقف عليه إن شاء اللَّه فنقول: اعلم أن المقول عليه «سوى الحق» أو مسمى العالم هو بالنسبة إلى الحق كالظل للشخص، و هو ظل اللَّه «4»، و هو عين نسبة الوجود إلى العالم لأن الظل موجود بلا شك في الحس‏ «5»، و لكن إذا كان ثم من يظهر فيه ذلك الظل: حتى لو قدرت عدم من يظهر فيه ذلك الظل: كان الظل معقولًا غير موجود في الحس، بل يكون بالقوة في ذات الشخص المنسوب إليه الظل.
فمحل ظهور هذا الظل الإلهي المسمى بالعالم إنما هو أعيان‏
الممكنات: عليها امتد هذا الظل، فتدرك من هذا الظل بحسب ما امتد عليه من وجود هذه الذات. و لكن باسمه النور وقع الإدراك و امتد «1» هذا الظل على أعيان الممكنات في صورة الغيب المجهول «5». ألا ترى الظلال تضرب إلى السواد تشير «2» إلى ما فيها من الخفاء لبعد «3» المناسبة بينها و بين أشخاص من هي ظل له؟. و إن كان الشخص أبيض فظله‏ «4» بهذه المثابة.
أ لا ترى الجبال إذا بعدت عن بصر الناظر تظهر سوداء و قد تكون في أعيانها على غير «5» ما يدركها الحس من اللونية، و ليس ثم علة إلا البعد؟. و كزرقة السماء.
فهذا ما أنتجه البعد في الحس في الأجسام غير النيرة. و كذلك أعيان الممكنات ليست نيرة لأنها معدومة و إن اتصفت بالثبوت لكن لم تتصف بالوجود إذ الوجود نور «6». غير أن الأجسام النيرة يعطي فيها البعد في الحس صغراً «6»، فهذا تأثير آخر للبعد. فلا يدركها الحس إلا صغيرة الحجم و هي في أعيانها كبيرة عن ذلك القدر و أكثر كميات، كما يعلم بالدليل أن الشمس مثل الأرض في الجرم مائة و ستين‏ «7» مرة، و هي في الحس على قدر جرم الترس مثلًا. فهذا أثر البعد أيضا. فما يعلم من العالم إلا قدر ما يعلم من الظلال، و يجهل من الحق على قدر ما يجهل من الشخص الذي عنه كان ذلك الظل. فمن حيث هو ظل له يُعْلَم، و من حيث ما يُجْهَل ما في ذات ذلك الظل من صورة شخص مَنْ امتد عنه بجهل من الحق. فلذلك نقول إن الحق معلوم لنا من وجه مجهول‏ «8» لنا من وجه: «أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً» أي يكون فيه بالقوة. يقول ما كان الحق ليتجلى للممكنات حتى‏
يظهر الظل فيكون كما بقي من الممكنات التي ما ظهر لها عين في الوجود. «ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا» و هو اسمه النور الذي قلناه، و يشهد له‏ «1» الحس: فإن الظلال لا يكون لها عين بعدم النور. «ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً»:
و إنما قبضه إليه لأنه ظله، فمنه ظهر و إليه يرجع الأمر كله‏ «2». فهو لا غيره. فكل ما ندركه‏ «3» فهو وجود الحق في أعيان الممكنات. فمن حيث هوية الحق هو «4» وجوده، و من حيث اختلاف الصور «5» فيه هو أعيان الممكنات. فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظل، كذلك لا يزول باختلاف الصور اسم العالم أو «6» اسم سوى الحق. فمن حيث أحدية كونه ظلا هو الحق، لأنه الواحد الأحد. و من حيث كثرة الصور هو العالم، فتفطن و تحقق ما أوضحته لك. و إذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهم ما له وجود حقيقي، و هذا معنى الخيال «7». أي خيِّل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الحق و ليس كذلك في نفس الأمر. أ لا تراه في الحس متصلًا بالشخص الذي امتد عنه، و يستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتصال لأنه يستحيل على الشي‏ء الانفكاك عن ذاته؟ فاعرف عينك و من أنت و ما هويتك و ما نسبتك إلى الحق، و بما أنت حق و بما أنت عالمٌ و سوى و غيرٌ و ما شاكل هذه الألفاظ. و في هذا يتفاضل العلماء، فعالم و أعلم. فالحق بالنسبة إلى ظل خاص صغيرٍ و كبيرٍ، و صافٍ و أصفى، كالنور بالنسبة إلى حجابه عن الناظر في الزجاج‏ «7» يتلون بلونه، و في نفس الأمر لا لون له. و لكن هكذا تُراهُ. ضَرْب مثال‏
لحقيقتك بربك. فإن قلت: إن النور أخضر لخضرة الزجاج صدقت و شاهِدُكَ الحس، و إن قلت إنه ليس بأخضر و لا ذي لون لِمَا أعطاه لك الدليل، صدقت و شاهدك النظر العقلي الصحيح. فهذا نور ممتد عن ظل و هو عين الزجاج فهو ظل نوري لصفائه.
كذلك المتحقق منا بالحق تظهر صورة الحق فيه أكثر «1» مما تظهر في غيره. فمنا من يكون الحق سمعه و بصره و جميع قوة و جوارحه بعلامات قد أعطاها الشرع الذي يخبر عن الحق. مع هذا عين الظل موجود، فإن الضمير من سمعه يعود عليه «8»: و غيرُهُ من العبيد ليس كذلك. فنسبة هذا العبد أقرب إلى وجود الحق من نسبة غيره من العبيد. و إذا كان الأمر على ما قررناه‏ «2» فاعلم أنك خيال و جميع ما تدركه مما تقول فيه ليس أنا خيال. فالوجود كله خيال في خيال، و الوجود الحق إنما هو اللَّه‏ «3» خاصة من حيث ذاته و عينه لا من حيث أسماؤه، لأن أسماءه لها مدلولان: المدلول الواحد عينه و هو عين المسمى، و المدلول الآخر ما يدل عليه مما ينفصل الاسم‏ «4» به من هذا الاسم الآخر و يتميز. فأين الغفور من الظاهر و من الباطن، و أين الأول من الآخر.؟
فقد بان لك بما هو كلُّ اسم عينُ الاسم الآخر و بما هو غير الاسم الآخر. فبما هو عينه هو الحق، و بما هو غيره هو الحق المتخيَّل الذي كنا بصدده «9».
فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه و لا ثبت كونه إلا بعينه. فما في الكون إلا ما دلت عليه الأحدية. و ما في الخيال إلا ما دلت عليه الكثرة. فمن وقف مع الكثرة كان مع العالم و مع الأسماء الإلهية و أسماء العالم. و من وقف مع الأحدية كان مع الحق من حيث ذاته الغنية عن العالمين «10». و إذا «5» كانت غنية عن العالمين‏ «6» فهو
عين غنائها عن نسبة الأسماء لها، لأن الأسماء لها كما تدل عليها تدل على مسميات أخر يحقق‏ «1» ذلك‏ «2» أثرُها. «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» من حيث عينه: «اللَّهُ الصَّمَدُ» من حيث استنادنا إليه: «لَمْ يَلِدْ» من حيث هويته و نحن، «وَ لَمْ يُولَدْ» كذلك، «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» كذلك. فهذا نعته فأفرد ذاته بقوله: «اللَّهُ أَحَدٌ» و ظهرت الكثرة بنعوته المعلومة عندنا «11». فنحن نلد و نولد و نحن نستند إليه و نحن أكفاء بعضنا لبعض. و هذا الواحد منزه عن هذه النعوت فهو غني عنها كما هو غني عنا. و ما للحق نَسَبٌ إلا هذه السورة، سورة الإخلاص، و في ذلك نزلت. فأحدية اللَّه من حيث الأسماء الإلهية التي تطلبنا أحدية الكثرة، و أحدية اللَّه من حيث الغنى عنا و عن الأسماء أحدية العين، و كلاهما يطلق عليه الاسم الأحد «3»، فاعلم ذلك. فما أوجد الحق الظلال و جعلها ساجدة متفيئة عن اليمين و الشمال‏ «4» إلا دلائل لك‏ «5» عليك و عليه لتعرف من أنت و ما نسبتك إليه و ما نسبته إليك حتى تعلم من أين أو من أي حقيقة إلهية اتصف ما سوى اللَّه بالفقر الكلي إلى اللَّه، و بالفقر النسبي بافتقار بعضه إلى بعض، و حتى تعلم من أين أو من أي حقيقة اتصف الحق بالغناء عن الناس و الغناء عن العالمين، و اتصف العالم بالغناء أي بغناء بعضه عن بعض من وجهِ ما هو عين ما افتقر إلى بعضه به. فإن العالم مفتقر إلى الأسباب بلا شك افتقارا ذاتيا. و أعظم الأسباب له سببية الحق: و لا سببية للحق يفتقر العالم إليها سوى الأسماء الإلهية «12». و الأسماء الإلهية كل اسم يفتقر العالم إليه‏
من عالم مثله أو عين الحق. فهو «1» اللَّه لا غيره «13»، و لذلك قال: «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ». و معلوم أن لنا افتقاراً من بعضنا لبعضنا.
فأسماؤنا أسماء اللَّه تعالى إذ إليه الافتقار بلا شك، و أعياننا في نفس الأمر ظله لا غيره‏ «2». فهو هويتنا لا هويتنا، و قد مهدنا لك السبيل فانظر «3».

 الموضوع  التـــــــالي    ....    الموضوع  الســـابق  

التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: