السبت، 21 أكتوبر 2017

كتاب فصوص الحكم 19 - فص حكمة غيبية في كلمة أَيوبية

كتاب فصوص الحكم 19 - فص حكمة غيبية في كلمة أَيوبية

كتاب فصوص الحكم 19 - فص حكمة غيبية في كلمة أَيوبية

الشيخ الاكبر محيي الدين بن عربي  

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أَيوبية

اعلم أن سر الحياة سرى في الماء فهو أصل العناصر و الأركان، و لذلك جعل اللَّه‏ «مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ»: و ما ثم شي‏ء إلا و هو حي، فإنه ما من شي‏ء إلا و هو يسبح بحمد اللَّه و لكن لا نفقة  تسبيحه إلا بكشف إلهي. و لا يسبِّح إلا حي.
فكل شي‏ء حي. فكل شي‏ء الماء أصله.

ألا ترى العرش كيف كان على الماء لأنه‏ منه تكوَّن فطفا عليه فهو يحفظه من تحته، كما أن الإنسان خلقه اللَّه عبداً فتكبر على ربه و علا عليه، فهو سبحانه مع هذا يحفظه من تحته بالنظر إلى علو هذا العبد الجاهل بنفسه، و هو قوله عليه السلام «لو دليتم بحبل لهبط على اللَّه».
فأشار إلى نسبة التحت إليه كما أن‏ نسبة الفوق‏ إليه في قوله‏ «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ»، «وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ»*. فله الفوق و التحت. و لهذا ما ظهرت الجهات الست إلا بالإنسان، و هو على صورة الرحمن. و لا مطعم إلا اللَّه، و قد قال في حق طائفة «وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ»، ثم نكر و عمَ‏  فقال‏ «وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ»، فدخل في قوله‏ «وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ» كل حكم‏  منزل على لسان رسول أو ملهم، «لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ» و هو المطعم من الفوقية التي نسبت‏ إليه، «وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ»، و هو المطعم من التحتية التي نسبها إلى نفسه على لسان رسوله المترجم عنه صلى اللَّه عليه و سلم. و لو لم يكن العرش على الماء ما انحفظ وجوده، فإنه بالحياة ينحفظ وجود الحي. أ لا ترى الحي إذا مات الموت العرفي تنحل أجزاء نظامه و تنعدم قواه عن ذلك النظم الخاص؟ قال تعالى‏ «7» لأيوب‏ «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ»، يعني ماء، «بارِدٌ» لما كان عليه من إفراط حرارة الألم، فسكَّنه اللَّه ببرد الماء. و لهذا كان الطب النقص من الزائد و الزيادة في الناقص. و المقصود «8» طلب الاعتدال، و لا سبيل إليه إلا أنه يقاربه. و إنما قلنا و لا سبيل إليه- أعني الاعتدال- من أجل أن الحقائق و الشهود تعطي التكوين مع الأنفاس على الدوام، و لا يكون التكوين إلا عن ميل في الطبيعة يسمى انحرافاً أو تعفيناً «9»، و في حق الحق إرادة
و هي ميل إلى المراد الخاص دون غيره. و الاعتدال يؤذن بالسواء في الجميع، و هذا ليس بواقع، فلهذا مَنَعْنَا «1» من حكم الاعتدال. و قد ورد في العلم الإلهي النبوي اتصاف الحق بالرضا و الغضب، و بالصفات. و الرضا مزيل للغضب، و الغضب مزيل للرضا عن المرضي عنه و الاعتدال أن يتساوى الرضا و الغضب، فما غضب الغاضب على من غضب عليه و هو «2» عنه راض. فقد اتصف بأحد الحكمين في حقه و هو ميل. و ما رضي الراضي عمن رضي عنه و هو غاضب عليه، فقد اتصف بأحد الحكمين في حقه و هو ميل. و إنما قلنا هذا من أجل من يرى أن أهل النار لا يَزَال غضب اللَّه عليهم دائماً أبداً في زعمه «3». فما لهم حكم الرضا من اللَّه، فَصَحَّ المقصود.
فإن كان كما قلنا مآل أهل النار إلى إزالة الآلام و إن سكنوا النار، فذلك رضا:
فزال الغضب لزوال الآلام‏ «3»، إذا عين الألم عين الغضب إن فهمت. فمن غضب فقد تأذَّى، فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بإيلامه إلا ليجد الغاضب الراحة بذلك، فينتقل الألم الذي كان عنده إلى المغضوب عليه. و الحق إذا أفردته عن العالم يتعالى علواً كبيراً عن هذه الصفة على هذا الحد. و إذا كان الحق هُوِيَّة العالم، فما ظهرت الأحكام كلها إلا منه و فيه، و هو قوله‏ «وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ» حقيقة و كشفاً «فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ» حجاباً و ستراً «4». فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم لأنه على صورة الرحمن، أوجده اللَّه أي ظهر «4» وجوده تعالى بظهور العالم كما ظهر الإنسان بوجود الصورة الطبيعية. فنحن صورته الظاهرة، و هويته روح هذه الصورة المدبرة لها.
فما كان التدبير إلا فيه كما لم يكن إلا منه. ف هُوَ «الْأَوَّلُ» بالمعنى‏ «وَ الْآخِرُ» بالصورة
و هو «الظَّاهِرُ» بتغير الأحكام و الأحوال، «وَ الْباطِنُ» بالتدبير، «وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ» فهو على كل شي‏ء شهيد، ليعْلَم عن شهود لا عن فكر.
فكذلك علم الأذواق لا عن فكر «1» و هو العلم الصحيح و ما عداه فحدس و تخمين ليس بعلم أصلًا. ثم كان لأيوب عليه السلام ذلك الماء شراباً لإزالة ألم العطش الذي هو من النُّصْبِ و العذاب الذي مسه به الشيطان «5»، أي البعد عن الحقائق أن يدركها على ما هي عليه فيكون بإدراكها في محل القرب. فكل مشهود قريب من العين و لو كان بعيداً بالمسافة. فإن البصر يتصل به من حيث شهوده و لو لا ذلك لم يشهده، أو يتصل المشهود بالبصر «6» كيف كان. فهو قرب بين البصر و المبصَر. و لهذا كنَّى أيوب في المس، فأضافه إلى الشيطان مع قرب المس «7» فقال البعيد مني قريب لحكمه‏ «2» فيّ.
و قد علمت أن البعد و القرب أمران إضافيان، فهما نسبتان لا وجود لهما في العين مع ثبوت أحكامها في البعيد و القريب. و اعلم أن سر اللَّه في أيوب الذي جعله‏ «3» عبرة لنا و كتاباً مسطوراً حالياً «8» «4» تقرؤه هذه الأمة المحمدية لتعلم ما فيه فتلحق بصاحبه تشريفاً لها. فأثنى اللَّه عليه- أعني على أيوب- بالصبر مع دعائه في رفع الضر عنه.
فعلمنا أن العبد إذا دعا اللَّه في كشف الضر عنه لا يقدح في صبره و أنه صابر و أنه نعم العبد كما قال تعالى‏ «إِنَّهُ أَوَّابٌ» أي رجاع إلى اللَّه لا إلى الأسباب، و الحق يفعل عند ذلك بالسبب لأن العبد يستند «5» إليه، إذ الأسباب المزيلة لأمر ما كثيرة و المسبِّب واحد العين. فرجوع العبد إلى الواحد العين المزيل بالسبب ذلك الألم أولى من الرجوع إلى سبب خاص ربما لا يوافق‏ «6» علم اللَّه فيه، فيقول إن اللَّه لم.
يستجب لي و هو ما دعاه، و إنما جنح إلى سبب خاص لم يقتضه الزمان و لا الوقت «9».
فَعَمِلَ أيوب بحكمة اللَّه إذ كان نبياً، لِمَا عَلِمَ أن الصبر الذي هو حبس النفس عن الشكوى عند الطائفة «1»، و ليس ذلك بحد للصبر عندنا. و إنما حده حبس النفس عن الشكوى لغير اللَّه لا إلى اللَّه. فحجب الطائفةَ نظرُهم في أن الشاكي يقدح بالشكوى في الرضا بالقضاء، و ليس كذلك، فإن الرضا بالقضاء لا تقدح فيه الشكوى‏ «2» إلى اللَّه و لا إلى غيره، و إنما تقدح في الرضا بالمقضي. و نحن ما «3» خوطبنا بالرضا بالمقضي. و الضر هو المقضي ما هو عين القضاء. و علم أيوب أن في‏ «4» حبس النفس عن الشكوى إلى اللَّه في رفع الضر مقاومَةَ القهر الإلهي، و هو جهل بالشخص إذ ابتلاه اللَّه بما تتألم منه نفسه، فلا يدعو «5» اللَّه في إزالة ذلك الأمر المؤلم، بل ينبغي له عند المحقق أن يتضرع و يسأل اللَّه في إزالة ذلك عنه، فإن ذلك إزالة عن جناب اللَّه عند العارف صاحب الكشف: فإن اللَّه قد وصف نفسه بأنه يؤذي فقال‏ «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ». و أي أذىً أعظم من أن يبتليك ببلاء عند غفلتك عنه أو عن مقام إلهي لا تعلمه لترجع إليه بالشكوى فيرفعه عنك، فيصح الافتقار الذي هو حقيقتك، فيرتفع عن الحق الأذى بسؤالك إياه في رفعه عنك، إذ أنت صورته الظاهرة.
كما جاع بعض العارفين فبكى فقال له في ذلك من لا ذوق له في هذا الفن معاتباً له، فقال العارف «إنما جوعني لأبكي». يقول إنما ابتلاني بالضر لأسأله في رفعه عني، و ذلك لا يقدح في كوني صابراً. فعلمنا أن الصبر إنما هو حبس النفس عن الشكوى لغير اللَّه، و أعني بالغير وجهاً خاصاً من وجوه اللَّه. و قد عين اللَّه الحق‏
وجهاً خاصاً من وجوه اللَّه و هو المسمى وجه الهوية فتدعوه من ذلك الوجه في رفع الضر لا من الوجوه الأخر المسماة أسباباً، و ليست إلا هو من حيث تفصيل‏ «1» الأمر في نفسه. فالعارف لا يحجبه سؤاله هويَّةَ الحق في رفع الضر عنه عن أن تكون جميع الأسباب عينه من حيثية خاصة. و هذا لا يلزم طريقته إلا الأدباء من عباد اللَّه الأمناء على أسرار اللَّه، فإن للَّه أمناء «2» لا يعرفهم إلا اللَّه و يعرف بعضهم بعضاً. و قد نصحناك‏  فاعمل و إياه سبحانه فاسأل.

 الموضوع  التـــــــالي    ....    الموضوع  الســـابق  

التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: