السبت، 21 أكتوبر 2017

كتاب فصوص الحكم  27- فص حكمة فردية في كلمة محمدية

كتاب فصوص الحكم 27- فص حكمة فردية في كلمة محمدية

كتاب فصوص الحكم  27- فص حكمة فردية في كلمة محمدية

الشيخ الاكبر محيي الدين بن عربي  

27- فص حكمة فردية في كلمة محمدية

إنما كانت حكمته فردية لأنه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني، ولهذا بُدِئَ به الأمر وختم: فكان نبياً و آدم بين الماء و الطين، ثم كان بنشأته العنصرية خاتم النبيين.
و أولُ الأفراد الثلاثةُ، و ما زاد على هذه الأولية من الأفراد فإنها عنها.

فكان عليه السلام أدلَّ دليل على ربه، فإنه أوتي جوامع الكلم التي هي مسمّيات أسماء آدم، فأشبه الدليل في تثليثه، و الدليل دليل‏ لنفسه.
و لما كانت حقيقته تعطي الفردية الأولى بما هو مثلث النشأة ، لذلك قال في باب المحبة التي هي أصل الموجودات «حُبِّبَ إليّ من دنياكم ثلاث» بما فيه من التثليث، ثم ذكر النساء و الطيب و جعلت قرة عينه في الصلاة.
فابتدأ بذكر النساء و أخَّر الصلاة، و ذلك لأن‏
المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها. و معرفة الإنسان بنفسه مقدَّمة على معرفته بربه، فإن معرفته بربه نتيجة عن معرفته بنفسه.
لذلك قال عليه السلام «من عرف نفسه عرف‏ ربه».
فإن شئت قلت بمنْع المعرفة في هذا الخبر و العجز عن الوصول فإنه سائغ فيه، و إن شئت قلت بثبوت المعرفة.
فالأول أن تعرفَ أنَّ نفسك لا تعرفها فلا تعرف ربك: و الثاني أن تعرفها فتعرف ربك.
فكان محمد صلى اللَّه عليه و سلم أوضح دليل على ربه، فإن كل جزء من العالم دليل على أصله الذي هو ربه فافهم.
فإنما حُبِّب إليه النساء فحنَّ إليهن لأنه من باب حنين‏ الكل إلى جزئه، فأبان بذلك عن الأمر في نفسه من جانب الحق في قوله في هذه النشأة الإنسانية العنصرية «وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي»*.
ثم وصف‏ نفسه بشدة الشوق إلى لقائه فقال للمشتاقين‏ «يا داود إني أشد شوقاً إليهم» يعني المشتاقين إليه.
و هو لقاء خاص: فإنه قال في حديث الدَّجَّال إن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت، فلا بد من الشوق لمن هذه صفته.
فشوق الحق لهؤلاء المقربين مع كونه يراهم فيحبُ‏ أن يروه و يأبى المقام ذلك. فأشبه قوله‏ «حَتَّى نَعْلَمَ» مع‏ كونه عالماً.
فهو يشتاق لهذه الصفة الخاصة التي لا وجود لها إلا عند الموت، فيبل بها شوقهم إليه كما قال تعالى في حديث التردد و هو من هذا الباب «ما ترددت في شي‏ء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي‏ المؤمن يكره الموت و أكره‏ مساءته و لا بد له من لقائي».
فَبشَّرَه‏ و ما قال له لا بد له من الموت لئلا يغمه بذكر الموت.
و لما كان لا يلقى الحقَّ إلا بعد الموت كما قال عليه السلام «إن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت» لذلك قال تعالى «و لا بد له من لقائي».
فاشتياق الحق لوجود هذه النسبة:
يحن الحبيب إلى رؤيتي‏

و إني إليه أشد حنينا
و تهفو النفوس و يأبى القضا

فأشكو الأنين و يشكو الأنينا

فلما أبان أنه نفخ فيه من روحه، فما اشتاق إلا لنفسه.
ألا تراه خلقه على صورته لأنه من روحه؟
و لما كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسماة في جسده أخلاطاً، حدث‏ عن نفخه اشتعال‏ بما في جسده من الرطوبة، فكان روح الإنسان ناراً لأجل نشأته.
و لهذا ما كلم اللَّه موسى إلا في صورة النار و جعل حاجته فيها.
فلو «4» كانت نشأته طبيعية لكان روحه نوراً.
و كَّنى عنه بالنفخ يشير إلى أنه من نَفَس الرحمن، فإنه بهذا النفس الذي هو النفخة ظهر عينه، و باستعداد المنفوخ فيه كان الاشتعال ناراً لا نوراً. فبطن‏ «5» نَفَس الرحمن‏ «6» فيما كان به الإنسان إنساناً.
ثم اشتق له منه‏ شخصاً على صورته سماه امرأة، فظهرت بصورته فحنَّ إليها حنين الشي‏ء إلى نفسه، و حنت إليه حنين الشي‏ء إلى وطنه. فحببت‏ «8» إليه النساء، فإن اللَّه أحب مَنْ خلقه على صورته و أسجد له ملائكته النوريين على عظم قدرهم و منزلتهم و علو نشأتهم الطبيعية.
فمن هناك وقعت المناسبة. و الصورة أعظم مناسبة و أجلها و أكملها: فإنها زوْجٌ أي شفعت وجود الحق ، كما كانت المرأة شفعت بوجودها الرجل فصيرته زوجاً. فظهرت الثلاثة حق و رجل و امرأة، فحن الرجل إلى ربه الذي هو أصله حنين المرأة إليه. فحبب إليه‏
ربه النساء كما أحب اللَّه من هو على صورته.
فما وقع الحب إلا لمن تكوَّن عنه، و قد كان حبه لمن تكوَّن‏ منه و هو الحق. فلهذا قال «حُبِّبَ» و لم يقل أحببت من نفسه لتعلق حبه بربه الذي هو على صورته حتى في محبته لامرأته، فإنه أحبها بحب اللَّه إياه تخلقاً إلهياً.
و لما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة، فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح، و لهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها، و لذلك أُمِرَ بالاغتسال منه، فعمت الطهارة كما عم الفناء فيها عند حصول الشهوة. فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره، فطهره‏ بالغسل ليرجع بالنظر إليه فيمن فني فيه، إذ لا يكون إلا ذلك.
فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهوداً في منفعل، و إذا شاهده في نفسه- من حيث ظهور المرأة عنه- شاهده في فاعل، و إذا شاهده‏ في‏ نفسه من غير استحضار صورة ما تكوَّن عنه كان شهوده‏ في منفعلٍ عن الحق بلا واسطة.
فشهوده للحق في المرأة أتم و أكمل، لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل، و من نفسه من حيث هو منفعل خاصة.
فلهذا أحب صلى اللَّه عليه و سلم النساء لكمال شهود الحق فيهن، إذ لا يشاهد الحق مجرداً عن المواد أبداً، فإن اللَّه بالذات غني عن العالمين.
و إذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعاً، و لم‏ تكن الشهادة إلا في مادة، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود و أكمله.
 و أعظم الوصلة النكاح و هو نظير التوجه الإلهي على من خلقه على صورته ليخلفه  فيرى فيه‏ نفسَه‏ فسوَّاه و عَدَله و نفخ فيه من روحه الذي هو نَفَسُهُ، فظاهره خلق و باطنه حق.
و لهذا وصفه بالتدبير لهذا الهيكل، فإنه تعالى به‏ «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ» و هو العلو، «إِلَى الْأَرْضِ»، و هو أسفل سافلين، لأنها أسفل الأركان كلها.
و سماهن بالنساء و هو جمع لا واحد له من لفظه.
و لذلك قال عليه السلام «حُبِّب إلي من دنياكم ثلاث: النساء» و لم يقل المرأة، فراعى تأخرهن في في الوجود عنه‏ ، فإن النُّسْأة هي التأخير قال تعالى‏ «إِنَّمَا النَّسِي‏ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ».
و البيع بنسيئة يقول بتأخير، و لذلك‏ ذكر النساء.
فما أحبهن إلا بالمرتبة و أنهن محل الانفعال‏ فهن له كالطبيعة للحق التي فتح فيها صور العالم بالتوجه الإرادي و الأمر الإلهي الذي هو نكاح في عالم الصور العنصرية، و همة في عالم الأرواح النورية، و ترتيب مقدمات في المعاني للإنتاج. و كل ذلك نكاح الفردية الأولى في كل وجه من هذه الوجوه.
فمن أحب النساء على هذا الحد فهو حب إلهي، و من أحبهن على جهة الشهوة الطبيعية خاصة نقصه علم هذه الشهوة، فكان صورة بلا روح عنده، و إن كانت تلك الصورة في نفس الأمر ذاتَ روح و لكنها غير مشهودة لمن جاء لامرأته- أو لأنثى حيث كانت- لمجرد  الالتذاذ، و لكن لا يدري‏ لمن. فجهل من نفسه ما يجهل الغير منه ما لم يسمِّه هو «8» بلسانه حتى يُعْلم كما قال بعضهم:
صح عند الناس أني عاشق‏

غير أن لم يعرفوا عشقي لمن‏
كذلك هذا أحبَّ الالتذاذ فأحب المحل الذي يكون‏ «1» فيه و هو المرأة، و لكن غاب عنه روح المسألة.
فلو علمها لعلم بمن التَذَّ وَ من التَذّ و كان كاملًا.
و كما نزلت المرأة عن درجة الرجل بقوله‏ «وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأه على صورته مع كونه على صورته.
فبتلك‏ الدرجة التي تميز بها عنه، بها كان‏ غنياً عن العالمين و فاعلًا أوَّلًا، فإن الصورة فاعل ثان.
فما له الأولية التي للْحق. فتميزت الأعيان بالمراتب‏: فأعطى كل ذي حق حقه كلُّ عارف.
فلهذا كان حب النساء لمحمد صلى اللَّه عليه و سلم عن تحبب إلهي و أن اللَّهَ‏ «أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ» و هو عين حقه‏.
فما أعطاه إلا باستحقاق استحقه بمسماه: أي بذات ذلك‏  المستحق. و إنما قدم النساء لأنهن محل الانفعال، كما تقدمت الطبيعة على من وجد منها بالصورة.
و ليست الطبيعة على الحقيقة إلا النفَس‏ الرحماني، فإنه فيه انفتحت صور العالم أعلاه و أسفله لسريان النفخة في الجوهر الهيولاني في عالم الأجرام خاصة.
و أما سريانها لوجود الأرواح النورية و الأعراض‏ فذلك سريان آخر.
ثم إنه عليه السلام غلَّب في هذا الخبر التأنيث على التذكير لأنه قصد التهمُّمَ‏ بالنساء فقال «ثلاث» و لم يقل «ثلاثة» بالهاء الذي هو لعدد الذكران، إذ و فيها ذكر الطيب و هو مذكر، و عادة العرب أن تغلب التذكير على التأنيث فتقول «الفواطم و زيد خرجوا» و لا تقول خرجن. فغلبوا التذكير - و إن كان واحداً- على التأنيث و إن كن جماعة.
و هو عربي، فراعى‏ صلى اللَّه عليه و سلم المعنى الذي قُصِدَ به في التحبب إليه ما لم يكن يؤثر حبَّه.
فعلمه اللَّه ما لم يكن يعلم و كان فضل اللَّه عليه عظيماً. فغلّب التأنيث على التذكير بقوله ثلاث بغير هَاءٍ. فما أعلَمَه صلى اللَّه عليه و سلم بالحقائق، و ما أشد رعايته للحقوق! ثم إنه جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التأنيث و أدرج بينهما المذكر.
فبدأ بالنساء و ختم بالصلاة و كلتاهما تأنيث، و الطيب بينهما كهو في وجوده، فإن الرجل مدرج بين ذات ظهر عنها و بين امرأة ظهرت عنه، فهو بين مؤنثين: تأنيث ذات و تأنيث حقيقي. كذلك النساء تأنيث حقيقي و الصلاة تأنيث غير حقيقي، و الطيب مذكر بينهما كآدم بين الذات الموجود عنها «3» و بين حواء الموجودة عنه و إن شئت قلت الصفة فمؤنثة أيضاً، و إن شئت قلت القدرة فمؤنثة أيضاً.
فكن على أي مذهب شئت، فإنك لا تجد إلا التأنيث يتقدم حتى عند أصحاب العلة الذين‏ «4» جعلوا الحق علة في وجود العالم.
و العلة مؤنثة «14». و أما حكمة الطيب و جعله بعد النساء، فلما في النساء من روائح التكوين، فإنه أطيب الطيب عناق الحبيب. كذا قالوا في المثل السائر. و لما خُلِقَ عبداً بالاصالة لم يرفع رأسه قط إلى السيادة، بل لم يزل ساجداً «5» واقفاً مع كونه منفعلًا حتى كوَّن اللَّه عنه ما كوَّن.
فأعطاه رتبة الفاعلية في عالم الأنفاس التي هي الأعراف الطيبة.
فحبب إليه الطيب: فلذلك جعله بعد النساء.
فراعى الدرجات التي للحق في قوله‏ «رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ» لاستوائه عليه باسمه الرحمن.
فلا يبقى فيمن حوى عليه العرش من لا تصيبه الرحمة الإلهية: و هو قوله تعالى‏ «وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ»:
و العرش وسع كل شي‏ء، و المستوِي‏ الرحمن.
فبحقيقته يكون سريان الرحمة في العالم كما  بيناه في غير موضع من هذا الكتاب، و في‏ الفتوح المكي.
و قد جَعَلَ الطيبَ- تعالى‏ - في هذا الالتحام النكاحي في براءة عائشة فقال‏ «الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ، وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ، أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ».
فجعل روائحهم طيبة: لأن القول نَفَس، و هو عين الرائحة فيخرج بالطيب و الخبيث‏ «5» على حسب ما يظهر به في صورة النطق.
فمن حيث هو إلهي بالأصالة كله طِيبٌ:
فهو طَيِّبٌ، و من حيث ما يحمد و يذم فهو طيّب و خبيث.
فقال في خبث الثوم هي شجرة  أكره ريحها و لم يقل أكرهها.
فالعين لا تُكرَه، و إنما يُكْرَه ما يظهر منها.
و الكراهة لذلك إما عرفاً بملاءمة طبع أو غرض، أو شرع، أو نقص عن كمال مطلوب و ما ثَمَّ غير ما ذكرناه.
و لما انقسم الأمر إلى خبيث و طيّب كما قررناه، حُبِّب إليه الطيب دون الخبيث و وصف الملائكة بأنها تتأذى بالروائح الخبيثة لما في هذه النشأة العنصرية من التعفن‏ «9»، فإنه مخلوق من صلصال من حمإ مسنون أي متغير الريح.
فتكرهه الملائكة بالذات، كما أن مزاج الجُعَل يتضرر برائحة الورد و هي من الروائح الطيبة. فليس الورد عند الجعل بريح طيبة.
و من كان على مثل هذا المزاج معنى و صورة أضرَّ به الحقُّ إذا سمعه و سُرَّ بالباطل: و هو قوله‏ «وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ»، و وصفهم بالخسران فقال‏ «أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ‏ ... الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ»*.
فإن من لم يدرك الطيب‏ من‏ الخبيث فلا إدراك له.
فما حُبّب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم إلا الطيب من كل شي‏ء و ما ثَمّ إلا هو. و هل
يتصور أن يكون في العالم مزاج لا يجد إلا الطيب من كل شي‏ء، لا يعرف الخبيث، أم لا؟ قلنا هذا لا يكون:
فإنا ما وجدناه في الأصل الذي ظهر العالم منه و هو الحق «18»، فوجدناه يكره و يحب، و ليس الخبيث إلا ما يُكْرَه و لا «3» الطيب إلا ما يُحَبُّ.
و العالم على صورة الحق، و الإنسان على الصورتين فلا يكون ثمَّ مزاج لا يدرك إلا الأمر الواحد من كل شي‏ء، بل ثم مزاج يدرك الطيب من الخبيث، مع علمه بأنه خبيث بالذوق طيب بغير «4» الذوق، فيشغله إدراك الطيب منه عن الإحساس بخبثه‏ «5».
هذا قد يكون.
و أما رفع الخبث‏ «6» من العالم- أي من الكون- فإنه لا يصح. و رحمة اللَّه في الخبيث و الطيب.
و الخبيث عند نفسه طيب و الطيب عنده خبيث. فما ثم شي‏ء طيب إلا و هو من وجه في حق مزاج ما خبيث:
و كذلك بالعكس.
و أما الثالث الذي به كملت الفردية فالصلاة. فقال «و جعلت قرة عيني في الصلاة» لأنها مشاهدة: و ذلك لأنها مناجاة بين اللَّه و بين عبده كما قال: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ». و هي عبادة مقسومة بين اللَّه و بين عبده بنصفين:
فنصفها للَّه و نصفها للعبد كما ورد في الخبر الصحيح عن اللَّه تعالى أنه قال «قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين‏ «7»: فنصفها لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سأل.

يقول العبد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏: يقول اللَّه ذكرني عبدي. يقول العبد الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏: يقول اللَّه حمدني عبدي.
يقول العبد الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏: يقول اللَّه أثنى علي عبدي. يقول العبد مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏: يقول اللَّه مجدني عبدي: فوَّض إليَّ عبدي. فهذا النصف كله له تعالى خالص. ثم يقول العبد إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ : يقول اللَّه هذه بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل.
فأوقع الاشتراك في هذه الآية. يقول العبد اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ‏: يقول اللَّه فهؤلاء لعبدي و لعبدي‏ «1» ما سأل. فخلُصَ هؤلاء لعبده كما خَلُصَ الأول له تعالى. فعلم من هذا وجوب قراءة الحمد للَّه رب العالمين.
فمن لم يقرأها فما صلى الصلاة المقسومة بين اللَّه و بين عبده.
و لما كانت مناجاة فهي ذكر، و من ذكر الحقَّ فقد جالَسَ الحق و جَالَسَهُ الحقُّ، فإنه صح في الخبر الإلهي أنه تعالى قال أنا جليس من ذكرني.
و مَنْ جالس من ذكره و هو ذو بصر رأى جليسه. فهذه مشاهدة و رؤية.
فإن لم يكن ذا «2» بصر لم يره. فمن هنا يعلم المصلي رتبته هل يرى الحق هذه الرؤية في هذه الصلاة أم لا.
فإن لم يره فليعبده بالإيمان كأنه‏ «3» يراه فيخيله في قبلته عند مناجاته، و يلقي السمع لما يردُّ به عليه الحق‏ «4».
فإن كان إماماً لعالَمِهِ الخاص به و للملائكة «5» المصلين معه- فإن كل مصلٍ فهو إمام بلا شك، فإن الملائكة تصلي خلف العبد إذا صلى وحده كما ورد في الخبر- فقد حصل له رتبة الرسل في الصلاة و هي النيابة عن اللَّه.
إذا قال سمع اللَّه لمن حَمِدَه، فيخبر نفسه وَ منْ خلْفَه بأن اللَّه قد سمعه فتقول الملائكة و الحاضرون‏ «6» ربنا و لك الحمد.
فإن اللَّه قال على لسان عبده سمع اللَّه لمن حمده. فانظر علو رتبة الصلاة و إلى أين تنتهي بصاحبها.
فمن لم يحصِّل درجة الرؤية في الصلاة فما بلغ غايتها و لا كان له فيها قرة عين، لأنه لم ير من يناجيه.
 فإن لم يسمع ما يرد من الحق عليه‏ «7» فيها فما هو ممن ألقى سمعه‏ «8». و من لم يحضر فيها مع ربه مع‏
كونه لم يسمع و لم ير، فليس بمصلّ أصلًا، و لا هو ممن أَلقى السمع و هو شهيد.
و ما ثَمَّ عبادة تمنع من التصرف في غيرها- ما دامت- سوى الصلاة.
و ذِكْرُ اللَّه فيها أكبر ما فيها لما تشتمل عليه من أقوال و أفعال- و قد ذكرنا صفة الرجل الكامل في الصلاة في الفتوحات المكية «19» كيف يكون‏ «1»- لأن اللَّه تعالى يقول‏ «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ»، لأنه شُرِعَ للمصلي ألا يتصرف في غير هذه العبادة «2» ما دام فيها و يقال له مصلٍ.
«وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» يعني فيها: أي الذكر الذي يكون من اللَّه لعبده حين يجيبه في سؤاله.
و الثناء عليه أكبر من ذكر العبد ربه فيها، لأن الكبرياء للَّه تعالى.
 و لذلك قال:
«وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ» و قال‏ «أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ». فإلقاؤه السمع هو لما يكون من ذكر اللَّه إياه فيها.
و من ذلك أن الوجود لما كان عن حركة معقولة نقلت العالم من العدم إلى الوجود عمت الصلاة جميع الحركات و هي ثلاث: حركة مستقيمة و هي حال قيام المصلي، و حركة أفقية و هي حال ركوع المصلي، و حركة منكوسة و هي حال‏ «3» سجوده. فحركة الإنسان مستقيمة، و حركة الحيوان أفقية، و حركة النبات منكوسة، و ليس للجماد حركة من ذاته: فإذا تحرك حجر فإنما يتحرك بغيره.
و أما قوله «و جعلت قرة عيني في الصلاة- و لم‏ «4» ينسب الجعل إلى نفسه- فإنَّ تجلي الحق للمصلي إنما هو راجع إليه تعالى لا إلى المصلي: فإنه لو لم يذكر هذه الصفة عن نفسه لأمره بالصلاة على غير تجل منه له.
فلما كان منه ذلك بطريق الامتنان، كانت المشاهدة بطريق الامتنان. فقال و جعلت قرة عيني في الصلاة.
و ليس إلا مشاهدة المحبوب‏ التي تقرُّ بها عين المحب، من الاستقرار «20»: فتستقر العين عند رؤيته فلا تنظر معه إلى شي‏ء غيره في شي‏ء و في غير شي‏ء «1».
و لذلك نُهِيَ عن الالتفات في الصلاة، و أن الالتفات شي‏ء يختلسه الشيطان من صلاة العبد فيحرمه مشاهدة محبوبه.
بل لو كان محبوبَ هذا الملتفت، ما التفت في صلاته إلى غير قبلته بوجهه. و الإنسان يعلم حاله في نفسه هل هو بهذه المثابة في هذه العبادة الخاصة أم لا، فإن «الإنسان‏ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ».
فهو يعرف كذبه من صدقه في نفسه، لأن الشي‏ء لا يجهل حاله فإن حاله له ذوقي. ثم إن مسمى الصلاة له قسمة أخرى، فإنه تعالى أمرنا أن نصلي له و أخبرنا أنه يصلي علينا. فالصلاة «2» منا و منه.
فإذا كان هو المصلي فإنما «3» يصلي باسمه الآخِر، فيتأخر عن وجود العبد: و هو عين الحق الذي يخلقه‏ «4» العبد في قلبه بنظره الفكري أو بتقليده و هو الإله‏ «5» المعتَقَد.
و يتنوع بحسب ما قام بذلك المحل من الاستعداد كما قال الجنيد حين سئل عن المعرفة باللَّه و العارف فقال لون الماء لون إنائه.
و هو جواب سادّ «6» أخبر عن الأمر بما هو عليه. فهذا هو اللَّه الذي يصلي علينا. و إذا صلينا نحن كان لنا الاسم الآخر فكنا فيه‏ «7» كما ذكرنا في حال من له هذا الاسم، فنكون عنده‏ «8» بحسب حالنا، فلا ينظُرُ إلينا إلا بصورة ما جئناه‏ «9» بها فإن المصلي هو المتأخر عن السابق في الحلبة «21».
و قوله‏ «كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ» أي رتبته في التأخر «22» في عبادته ربه، و تسبيحه الذي يعطيه من التنزيه استعداده، فما من شي‏ء إلا و هو يسبح بحمد ربه الحليم‏
الغفور.
و لذلك لا يُفْقَه‏ «1» تسبيح العالم على التفصيل واحداً واحداً. وَ ثمَّ مرتبة «2» يعود الضمير على العبد المسبح فيها في قوله‏ «وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» أي بحمد ذلك الشي‏ء. فالضمير الذي في قوله «بحمده» يعود على الشي‏ء أي بالثناء الذي يكون عليه كما قلنا «3» في المعتقد إنه إنما يثني على الإله الذي في معتقده و ربط به نفسه.
و ما كان من عمله فهو راجع إليه، فما أثنى إلا على نفسه، فإنه مَنْ مَدَحَ الصنعة فإنما مدح الصانع بلا شك، فإن حسنها و عدم حسنها راجع إلى صانعها.
و إله المعتقد مصنوع للناظر فيه، فهو صنعه: فثناؤه على ما اعتقده ثناؤه على نفسه.
و لهذا يَذُمُّ معتَقَد غيره، و لو أنصف لم يكن له ذلك.
إلا أن صاحب هذا المعبود الخاص جاهل بلا شك في ذلك لاعتراضه على غيره فيما اعتقده‏ في اللَّه، إذ لو عرف ما قال الجنيد لون الماء لون إنائه لسلّم لكل ذي اعتقاد ما اعتقده، و عرف اللَّه في كل صورة و كل مُعتَقَد.
فهو ظان‏  ليس بعالِم، و لذلك‏ قال‏  «انا عند ظن عبدي بي» لا أظهر له إلا في صورة معتقده: فإن شاء أطلق و إن شاء قيَّد.
 فإله‏  المعتقدات تأخذه الحدود و هو الإله الذي وسعه قلب عبده، فإن الإله المطلق لا يسعه شي‏ء لأنه عين الأشياء و عين نفسه: و الشي‏ء لا يقال فيه يسع نفسه و لا لا يسعها فافهم‏ و اللَّه يقول الحق و هو يهدي السبيل.
تم بحمد اللَّه و عونه و حسن توفيقه، و الحمد للَّه وحده و صلى اللَّه على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم تسليماً كثيراً.

و كان الفراغ منه في عاشر شهر جمادي الآخرة سنة تسع و ثلاثين و ثمانمائة أحسن اللَّه عاقبتها بمحمد و آله آمين.


 الموضوع  الاول   ....    الموضوع  الســـابق  


التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: