السبت، 21 أكتوبر 2017

كتاب فصوص الحكم 22- فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية

كتاب فصوص الحكم 22- فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية

كتاب فصوص الحكم 22- فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية

الشيخ الاكبر محيي الدين بن عربي  

22- فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية

إلياس هو إدريس  كان نبياً قبل نوح، و رفعه اللَّه مكاناً علياً، فهو في قلب الأفلاك ساكن و هو فلك الشمس.
ثم بعث إلى قرية بعلبك، و بعل اسم صنم، و بك هو سلطان تلك القرية.

وكان هذا الصنم المسمى بعلًا مخصوصاً بالملك.
وكان إلياس الذي هو إدريس قد مُثِّل له‏  انفلاق الجبل المسمى لبنان- من اللبنانة، و هي الحاجة- عن فرس من نار، و جميع‏  آلاته من نار.
فلما رآه ركب عليه فسقطت عنه الشهوة، فكان عقلًا بلا شهوة، فلم يبق له تعلق بما تتعلق به الأعراض النفسية.
فكان الحق فيه منزهاً، فكان على النصف من المعرفة باللَّه، فإن العقل إذا تجرد لنفسه من حيث أخذه العلوم عن نظره، كانت معرفته باللَّه على التنزيه لا على التشبيه.
وإذا أعطاه اللَّه المعرفة بالتجلي كملت معرفته باللَّه، فنزه في موضع و شبه في موضع، و رأى سريان الحق في الصور الطبيعية و العنصرية.
وما بقيت له صورة إلا و يرى‏ عين الحق عينها.
وهذه المعرفة التامة التي جاءت بها الشرائع المنزلة من عند اللَّه، و حكمت بهذه المعرفة الأوهام كلها.
و لذلك كانت الأوهام أقوى سلطاناً في هذه النشأة من العقول، لأن العاقل و لو بلغ في عقله ما بلغ لم يخل من حكم الوهم عليه و التصوُّر فيما عقل.
فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه الصورة الكاملة الإنسانية، و به جاءت الشرائع المنزلة فشبهت و نزهت، شبهت في التنزيه بالوهم، و نزهت في التشبيه بالعقل.
فارتبط الكل بالكل، فلم‏
يتمكن أن يخلو تنزيه عن تشبيه و لا تشبيه عن تنزيه: قال تعالى‏ «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ» فنزَّه و شبَّه، «وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» فشبه.
و هي أعظم آية تنزيه نزلت‏ «1»، و مع ذلك لم تخل عن التشبيه بالكاف. فهو أعلم العلماء بنفسه، و ما عبَّر عن نفسه إلا بما ذكرناه.
ثم قال‏ «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ» و ما يصفونه إلا بما تعطيه عقولهم. فنزه نفسه عن تنزيههم إذ حدوده بذلك التنزيه، و ذلك لقصور العقول عن إدراك مثل هذا.
ثم جاءت الشرائع كلها بما تحكم به الأوهام.
فلم تُخْلِ عن صفة يظهر فيها.
كذا قالت، و بذا جاءت. فعملت الأمم على ذلك فأعطاها الحق التجلي فلحقت بالرسل وراثةً ، فنطقت بما نطقت به رسل اللَّه‏ «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ‏.
«فاللَّه أعلم» موجَّه: له وجه بالخبرية إلى رسل‏ اللَّه، و له وجه بالابتداء إلى أعلمُ حيث يجعل رسالاته «2». و كلا الوجهين حقيقة فيه، و لذلك قلنا بالتشبيه في التنزيه و بالتنزيه في التشبيه. و بعد أن تقرر هذا فنرخي الستور و نسدل الحجب على عين المنتقد و المعتقد «3»، و إن كانا من بعض صور ما تجلى فيها «5» الحق. و لكن قد أُمِرْنا بالستر ليظهر تفاضل استعداد الصور، و أن المتجلي في صورة بحكم استعداد تلك الصورة، فينسب إليه ما تعطيه حقيقتها و لوازمها لا بد من ذلك: مثل من يرى الحق في النوم و لا ينكر هذا و أنه لا شك الحق عينه فتتبعه لوازم تلك الصورة و حقائقها التي تجلى فيها في النوم، ثم بعد ذلك يعبَّر- أي يجاز- عنها إلى أمر آخر يقتضي التنزيه عقلًا. فإن كان الذي يعبرها ذا كشف و إيمان‏ «6»، فلا يجوز عنها إلى تنزيه فقط، بل يعطيها حقها في التنزيه و مما ظهرت فيه «4».
فاللَّه على التحقيق عبارة لمن فهم الإشارة. و روح هذه الحكمة و فصها أن الأمر ينقسم إلى مؤثر و مؤثَّر فيه و هما «1» عبارتان: فالمؤثِّر بكل وجه و على كل حال و في‏ «2» كل حضرة و هو اللَّه‏ «3». و المؤثِّر فيه بكل وجه و على كل حال و في كل حضرة هو العالم‏ «4» فإذا ورد «5». فألحِقْ كل شي‏ء بأصله الذي يناسبه «5»، فإن الوارد أبداً لا بد أن يكون فرعاً عن أصل‏ «6» كما كانت المحبة الإلهية عن النوافل من العبد «6». فهذا أثر بين مؤثِّر و مؤثَّر فيه: و كما كان الحق سمع العبد و بصره و قواه عن هذه المحبة. فهذا أثر مقرر لا يُقْدَرُ على إنكاره لثبوته شرعاً إن كنت مؤمناً. و أما العقل السليم، فهو إما «7» صاحب تجل إلهي في مجلى طبيعي فيعرف ما قلناه، و إما مؤمن مسلم يؤمن به كما ورد في الصحيح. و لا بد من سلطان الوهم أن‏ «8» يحكم على العاقل‏ «9» الباحث فيما جاء به الحق في هذه الصورة لأنه مؤمن بها. و أما غير المؤمن فيحكم على الوهم بالوهم فيتخيل بنظره الفكري أنه قد أحال على اللَّه ما أعطاه ذلك التجلي في الرؤيا، و الوهْمُ في ذلك لا يفارقه من حيث لا يشعر لغفلته عن نفسه «7»، و من ذلك قوله تعالى‏ «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ». قال تعالى‏ «وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» إذ لا يكون مجيباً إلا إذا كان‏ «10» من يدعوه، و إن كان عينُ الداعي عينَ المجيب. فلا خلاف في اختلاف الصور، فهما صورتان بلا شك. و تلك الصور كلها كالأعضاء لزيد: فمعلوم أن زيداً حقيقة واحدة شخصية، و أن يده ليست صورة رجله و لا رأسه و لا عينه و لا حاجبه. فهو الكثير الواحد:
الكثير بالصور «1»، الواحد بالعين. و كالإنسان: واحد بالعين بلا شك. و لا نشك‏ «2» أن عَمْراً ما هو زيد و لا خالد و لا جعفر، و أن أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجوداً. فهو و إن كان واحداً بالعين، فهو «3» كثير بالصور و الأشخاص «8». و قد علمت قطعاً إن كنت مؤمناً أن الحق عينه يتجلى يوم‏ «4» القيامة في صورةٍ فيعْرَف، ثم يتحول في صورة فينكر، ثم يتحوَّل عنها في صورة فيعْرَف، و هو المتجلِّي- ليس غيره- في كل صورة. و معلوم أن هذه الصورة ما هي تلك الصورة الأخرى: فكأنَّ العين الواحدة قامت مقام المرآة، فإذا نظر الناظر فيها إلى صورة معتقده في اللَّه عَرَفَه فأقرَّ به. و إذا «5» اتفق أن يرى فيها معتقد غيره أنكره، كما يرى في المرآة صورته و صورة غيره. فالمرآة عين واحدة «6» و الصور كثيرة في عين الرائي، و ليس في المرآة صورة منها جملة واحدة، مع كون المرآة لها أثر في الصور بوجه و ما لها أثر بوجه: فالأثر الذي لها كونها تُرَدُّ الصورة متغيرة الشكل من الصغر و الكبر و الطول و العرض، فلها أثر في المقادير، و ذلك راجع إليها. و إنما كانت هذه التغيرات‏ «7» منها لاختلاف مقادير المرائي: فانظر في المثال مرآة واحدة من هذه المرايا، لا تنظر الجماعة، و هو نظرك من حيث كونه ذاتاً: فهو غني عن العالمين، و من حيث الأسماء الإلهية فذلك الوقت يكون كالمرايا: فأي اسم إلهي نظرت فيه نفسك أو من نظر، فإنما يظهر في الناظر حقيقة ذلك الاسم: فهكذا هو الأمر إن فهمت «9». فلا تجزع و لا تخف فإنَّ اللَّه يحب الشجاعة و لو على قتل حية، و ليست الحية سوى نفسك. و الحية حية لنفسها بالصورة و الحقيقة. و الشي‏ء لا يقتل‏ «8» عن نفسه. و إن أفسدت الصورة في الحس‏
فإن الحد يضبطها و الخيال لا يزيلها. و إذا كان الأمر على هذا فهذا هو الأمان على الذوات و العزةُ و المنعةُ، فإنك لا تقدر على فساد الحدود. و أي عزة أعظم من هذه العزة؟ فتتخيل بالوهم أنك قتلت، و بالعقل و الوهم لم تزل الصورة موجودة في الحد «10». و الدليل على ذلك‏ «وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى‏» «11»: و العين ما أدركت إلا الصورة المحمدية التي ثبت لها الرمي في الحس، و هي التي نفى اللَّه الرمي عنها أولًا ثم أثبته لها وسطاً، ثم عاد بالاستدراك أن اللَّه هو الرامي في صورة محمدية. و لا بد «1» من الإيمان بهذا. فانظر إلى هذا المؤثر حتى أنزل الحق في صورة محمدية «2». و أخبر الحق نفسُهُ عباده بذلك، فما قال أحد منا عنه ذلك بل هو قال عن نفسه. وَ خَبَرُهُ صدق و الإيمان به واجب، سواء أدركت علم ما قال أو لم تدركه: فإما عالم و إما مسلم مؤمن «12». و مما يدلك على ضعف النظر العقلي من حيث فكره، كون العقل يحكم على العلة أنها لا تكون معلولة لمن هي علة له «13»: هذا حكم العقل لا خفاء به، و ما في علم التجلي إلا هذا، و هو أن العلة تكون معلولة لمن هي علة له. و الذي حكم به العقل صحيح مع التحرير في النظر، و غايته في ذلك أن يقول إذا رأى الأمر على خلاف ما أعطاه الدليل النظري، إن العين بعد ثبت أنها واحدة في هذا الكثير، فمن حيث هي علة «3» في صورة من هذه الصور لمعلول ما، فلا تكون معلولة لمعلولها، في حال كونها علة، بل ينتقل الحكم بانتقالها في الصور، فتكون معلولة لمعلولها، فيصير معلولها علة لها «4». هذا غايته إذا كان قد رأى الأمر على ما هو عليه، و لم يقف‏ «5» مع نظره الفكرى. و إذا كان الأمر في العلية بهذه المثابة، فما ظنك باتساع النظر العقلي في غير هذا المضيق؟ فلا أعقل من الرسل صلوات اللَّه عليهم و قد جاءوا بما
جاءوا به في الخبر عن الجناب الإلهي، فأثبتوا ما أثبته العقل و زادوا «1» ما لا يستقل العقل بإدراكه، و ما يُحِيلُه‏ «2» العقل رأساً و يُقِرُّ به في التجلي‏ «3». فإذا خلا بعد التجلي بنفسه حَارَ فيما رآه: فإن كان عبد رب رد العقل إليه، و إن كان عبد نظر رد الحق إلى حكمه‏ «4». و هذا لا يكون إلا ما دام في هذه النشأة الدنيوية «5» محجوباً عن نشأته الأخروية في الدنيا. فإن العارفين يظهرون هنا «6» كأنهم في الصورة الدنيا لما يجري عليهم من أحكامها، و اللَّه تعالى قد حوَّلهم في بواطنهم في النشأة الأخروية، لا بد من ذلك. فهم بالصورة مجهولون إلا لمن كشف اللَّه عن بصيرته فأدرك. فما من عارف باللَّه من حيث التجلي الإلهي إلا و هو على النشأة الآخرة: قد حشر في دنياه و نشر في قبره «14»، فهو يرى ما لا ترون، و يشهد ما لا تشهدون، عناية من اللَّه ببعض عباده في ذلك. فمن أراد العثور على هذه الحكمة الإلياسية الإدريسية الذي أنشأه اللَّه نشأتين، فكان نبياً قبل نوح ثم رفع و نزل رسولًا بعد ذلك، فجمع اللَّه له بين المنزلتين فلينزل عن حكم عقله إلى شهوته، و يكون حيواناً مطلقاً حتى يَكْشِفَ ما تكشفه كل دابة ما عدا الثقلين، فحينئذ يعلم أنه قد تحقق بحيوانيته. و علامته علامتان الواحدة هذا الكشف، فيرى من يعذب في قبره و من ينعم، و يرى الميت حياً و الصامت متكلماً و القاعد ماشياً. و العلامة الثانية الخرس بحيث إنه لو أراد أن ينطق بما رآه لم يقدر فحينئذ يتحقق بحيوانيته. و كان لنا تلميذ قد حصل له هذا الكشف غير أنه لم يحفظ عليه الخرس فلم يتحقق بحيوانيته. و لما أقامني اللَّه في هذا المقام تحققت بحيوانيتي تحققاً كلياً، فكنت أرى و أريد النطق‏
بما أشاهده فلا أستطيع، فكنت لا أفرق بيني و بين الخرس الذين لا يتكلمون.
فإذا تحقق بما ذكرناه انتقل إلى أن يكون عقلًا مجرداً في غير مادة طبيعية، فيشهد «1» أموراً هي أصول لما يظهر في صور الطبيعة «2» فيعلم من أين ظهر هذا الحكم في صور الطبيعة «3» علماً ذوقياً. فإن كوشف على أن الطبيعة عين نَفَسِ الرحمن فقد أوتي خيراً كثيراً، و إن اقتُصِرَ معه على ما ذكرناه فهذا القدر يكفيه من المعرفة الحاكمة على عقله: فيلحق‏ «4» بالعارفين و يعرف عند «5» ذلك ذوقاً «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ»: و ما قتلهم إلا الحديد و الضارب، و الذي خلف هذه الصور. فبالمجموع وقع القتل و الرمي، فيشاهد الأمور بأصولها و صورها، فيكون تاماً. فإن شهد النَّفَسَ كان مع التمام كاملًا: فلا يرى إلا اللَّهَ عينَ ما يرى. فيرى الرائي عين المرئي «15». و هذا القدر كاف، و اللَّه الموفق الهادي.


الموضوع  التـــــــالي    ....    الموضوع  الســـابق  

التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: