الجمعة، 20 أكتوبر 2017

كتاب فصوص الحكم 5- فص حكمة مُهَيَّمية في كلمة إِبراهيمية

كتاب فصوص الحكم 5- فص حكمة مُهَيَّمية في كلمة إِبراهيمية

كتاب فصوص الحكم 5- فص حكمة مُهَيَّمية في كلمة إِبراهيمية  

 الشيخ الاكبر محيي الدين بن عربي           
5- فص حكمة مُهَيَّمية في كلمة إِبراهيمية
إِنما سمي الخليل خليلًا لتخلله و حصره جميع ما اتصفت به الذات الإلهية. قال الشاعر:

 قد تخللت مسلك الروح مني‏  ... و به سمي الخليل خليلًا
كما يتخلل اللونُ المتلون، فيكون العَرَضُ بحيث جوهره ما هو كالمكان و المتمكن، أو لتخلل‏ «6» الحق وجود صورة إِبراهيم عليه السلام‏ «7».
و كل حكم يصح من ذلك، فإِن لكل حكم موطناً يظهر به لا يتعداه.
ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، و أخبر بذلك عن نفسه، و بصفات النقص و بصفات الذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق من أولها إِلى آخرها و كلها حق له كما هي صفات المحدثات‏
حق للحق «2». «الحمد للَّه»: فرجعت إِليه عواقب الثناء من كل حامد و محمود.
«وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ» فعمَّ ما ذُمَّ و حُمِدَ، و ما ثَمَّ إِلا محمود و مذموم.
اعلم أنه ما تخلل شي‏ء شيئاً إِلا كان محمولًا فيه. فالمتخلِّل‏ «1»- اسم فاعل- محجوب بالمتخلَّل- اسم مفعول. فاسم المفعول‏ «2» هو الظاهر، و اسم الفاعل هو الباطن المستور. و هو غذاء له كالماء يتخلل الصوفة فتربو به و تتسع. فإِن كان الحق هو الظاهر فالخلق مستور فيه، فيكون الخلق جميع أسماء الحق سمعَه و بصرَه و جميعَ نسبه و إِدراكاته. و إِن كان الخلق هو الظاهر فالحق مستور باطن فيه، فالحق سمع الخلق و بصره و يده و رجله و جميع قواه كما ورد في الخبر الصحيح‏ «3». ثم إِن الذات لو تعرَّت عن هذه النسب لم تكن إِلهاً.
و هذه النسب أحدثتها أعياننا: فنحن جعلناه بمألوهيتنا «4» إِلهاً، فلا يعرف حتى نعرف. قال عليه السلام: «من عرف نفسه عرف ربه» و هو أعلم الخلق باللَّه.
فإِن بعض‏ «5» الحكماء و أبا حامد «6» ادعوا «7» أنه يُعْرَف اللَّه من غير نظر في العالم و هذا غلط. نعم تعرف ذات‏ «8» قديمة أزلية لا يعرف أنها إِله حتى يعرف المألوه. فهو الدليل عليه. ثم بعد هذا في ثاني حال يعطيك الكشف أن الحق نفسه‏ «9» كان عين الدليل على نفسه و على أُلوهيته، و أن العالم ليس إِلا تجليه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه‏ «10»، و أنه يتنوع و يتصوّر بحسب حقائق هذه الأعيان و أحوالها، و هذا بعد العلم به منا
أنه إِله لنا. ثم يأتي الكشف الآخر فيظهر لك صورنا فيه، فيظهر بعضنا لبعض‏ «1» في الحق، فيعرف بعضنا بعضاً، و يتميز بعضنا عن بعض «3». فمنا من يعرف أن في الحق وقعت هذه المعرفة لنا بنا، و منا من يجهل الحضرة التي وقعت فيها هذه المعرفة بنا: أعوذ باللَّه أن أكون من الجاهلين. و بالكشفين معاً ما يحكم علينا إِلا بنا، لا، بل نحن نحكم علينا بنا و لكن فيه، و لذلك قال‏ «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ»: يعني على المحجوبين إِذ «2» قالوا للحق لِمَ فعلت بنا كذا و كذا مما «3» لا يوافق أغراضهم، «فيكشِفُ لهم عن ساق»: و هو الأمر الذي كشفه العارفون هنا، فيرون أن الحق ما فعل بهم ما ادعوه أنه فعله‏ «4» و أن ذلك منهم، فإِنه ما علمهم إِلا على ما هم عليه، فتدحض‏ «5» حجتهم و تبقى الحجة للَّه تعالى البالغة. فإِن قلت فما فائدة قوله تعالى: «فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» «4» قلنا «6» «لو شاء» لو حرف امتناع لامتناع: فما شاء إِلا ما هو الأمر عليه. و لكن عين الممكن قابل للشي‏ء و نقيضه في حكم‏ «7» دليل العقل، و أي الحكمين المعقولين وقع، ذلك هو الذي كان عليه الممكن في حال ثبوته.
و معنى «لَهَداكُمْ‏ «8»» لبيَّن لكم: و ما كل ممكن من العالم فتح اللَّه عين بصيرته لإدراك الأمر في نفسه على ما هو عليه: فمنهم العالم و الجاهل. فما شاء «9»، فما هداهم أجمعين، و لا يشاء، و كذلك‏ «إِنْ يَشَأْ»*: فهل يشاء؟ هذا ما لا يكون‏ «10». فمشيئته أحدية التعلق و هي نسبة تابعة للعلم و العلم نسبة تابعة للمعلوم‏
و المعلوم أنت و أحوالك. فليس للعلم أثر في المعلوم، بل للمعلوم أثر في العلم‏ «1» فيعطيه من نفسه ما هو عليه في عينه. و إِنما ورد الخطاب الإلهي بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون «5» و ما أعطاه النظر العقلي، ما ورد الخطاب على ما يعطيه الكشف. و لذلك كثر المؤمنون و قل العارفون أصحاب الكشوف.
«وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ»: و هو ما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك، هذا إِن ثبت أن لك وجوداً. فإِن ثبت أن الوجود للحق لا لك، فالحكم لك بلا شك في وجود الحق. و إِن ثبت أنك الموجود فالحكم لك بلا شك. و إِن كان الحاكم الحق، فليس له إِلا إِفاضة الوجود عليك و الحكم‏ «2» لك عليك. فلا «3» تحمد إِلا نفسك و لا تذم إِلا نفسك، و ما يبقى للحق إِلا حمد إِفاضة الوجود لأن ذلك له لا لك.
فأنت غذاؤه بالأحكام،

و هو غذاؤك بالوجود.



 فتعين عليه ما تعين عليك «6». فالأمر منه إِليك و منك إِليه «7». غير أنك‏ «4» تسمى مكلَّفاً و ما كلَّفك إِلا بما قلت له كلفني بحالك و بما أنت عليه. و لا يسمَّى مكلَّفاً: اسم مفعول.
فيحمدني و أحمده‏

و يعبدني و أعبده‏
ففي حال أقرُّ به‏

و في الأعيان أجحده‏
فيعرفني و أنكره‏

و أعرفه فأشهده‏
فأنى بالغنى‏ «5» و أنا

أُساعده فأسعده؟
لذاك الحق أوجدني‏

فأعلمه فأوجده‏
بذا جاء الحديث لنا

و حقق فيَّ مقصده «8»



و لما كان للخليل‏ «1» هذه المرتبة التي بها سمي خليلًا لذلك سنّ القِرَى‏ «2»، و جعله ابن مَسَرّة «10» مع ميكائيل‏ «3» للأرزاق «9»، و بالأرزاق يكون تغذي المرزوقين‏ «4». فإِذا تخلل الرزق ذات المرزوق بحيث لا يبقى فيه شي‏ء إِلا تخلله، فإِن الغذاء يسري‏ «5» في جميع أجزاء المغتذي كلها و ما هنالك‏ «6» أَجزاء فلا بد أن يتخلل جميع المقامات الإلهية المعبر عنها بالأسماء فتظهر بها ذاته جل و علا
فنحن له كما ثبتت‏

أدلتنا و نحن لنا
و ليس له سوى كوني‏

فنحن له كنحن بنا
فلي وجهان هو و أنا

و ليس له أنا بأنا
و لكن فيَّ مظهره‏

فنحن له كمثل إِنا «11»



و اللَّه يقول الحق و هو يهدي السبيل.

 الموضوع  التـــــــالي    ....    الموضوع  الســـابق  

التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: