الجمعة، 20 أكتوبر 2017

 كتاب فصوص الحكم  12- فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

كتاب فصوص الحكم 12- فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

 كتاب فصوص الحكم  12- فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

الشيخ الاكبر محيي الدين بن عربي    

12- فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

اعلم أن القلب- أعني قلب العارف باللَّه- هو من رحمة اللَّه، و هو أوسع منها، فإِنه وَسِعَ الحق جل جلاله و رحمته لا تسعه: هذا لسان العموم‏ من باب الإشارة، فإِن‏  الحق راحم ليس بمرحوم فلا حكم للرحمة فيه. و أما الإشارة من لسان الخصوص فإِن اللَّه‏ وصف نفسه بالنَّفَس و هو من التنفيس:

و أن الأسماء الإلهية عين المسمى و ليس‏ إِلا هو، و أنها طالبة ما تعطيه من‏ «5» الحقائق و ليس الحقائق التي تطلبها الأسماء إِلا العالم. فالألوهية تطلب المألوه، و الربوبية تطلب المربوب، و إِلا فلا عين لها إِلا به وجوداً أو تقديراً. و الحق من حيث ذاته غني عن العالمين. و الربوبية ما لها هذا الحكم.
فبقي الأمر بين ما تطلبه الربوبية و بين ما تستحقه الذات من الغنى عن العالم.
و ليست الربوبية على الحقيقة و الاتصاف‏ «8» إِلا عين هذه الذات.
فلما تعارض الأمر بحكم النسب ورد في الخبر ما وصف الحق به‏ «9» نفسه من الشفقة على عباده «5». فأول ما نفَّس عن الربوبية بِنَفَسه المنسوب إِلى الرحمن بإِيجاده العالم الذي تطلبه الربوبية «10» بحقيقتها و جميع الأسماء «11» الإلهية.
فيثبت‏ «12» من هذا الوجه أن رحمته وسعت كل شي‏ء فوسعت الحق، فهي أوسع من القلب أو مساوية له في السعة. هذا مَضَى‏ «13»، ثم لتعلم أن الحق تعالى كما
ثبت في الصحيح يتحول في الصور عند التجلي، و أن الحق تعالى إِذا وسعه القلب لا يسع معه غيره من المخلوقات فكأنه يملؤه. و معنى هذا أنه إِذا نَظَرَ إِلى الحق عند تجليه له لا يمكن أن ينظر معه إِلى غيره. و قلب العارف من السَّعة كما قال أبو يزيد البسطامي «لو أن العرش و ما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به». و قال الجنيد في هذا المعنى: إِن المحدَث إِذا قرن بالقديم لم يبق له أثر، و قلب يسع القديم كيف يحس بالمحدث موجوداً «1». و إِذا كان الحق يتنوع تجليه في الصور «2» فبالضرورة «3» يتسع القلب و يضيق بحسب الصورة التي يقع فيها التجلي الإلهي، فإِنه لا يفضل شي‏ء عن صورة ما يقع فيها التجلي. فإِن القلب من العارف أو الإنسان الكامل بمنزلة محل فص الخاتم من الخاتم لا يفضل بل يكون على قدره و شكله من الاستدارة إِن كان الفص‏ «4» مستديراً أو من التربيع و التسديس و التثمين و غير ذلك من الأشكال إِن كان الفص مربعاً أو مسدساً أو مثمناً أو ما كان من الأشكال، فإِن محله من الخاتم يكون مثله لا غير «5». و هذا عكس ما يشير إِليه الطائفة من أن الحق يتجلى على قدر استعداد العبد. و هذا ليس كذلك، فإِن العبد يظهر للحق على قدر الصورة التي يتجلى له‏ «6» فيها الحق. و تحرير هذه المسألة أن للَّه تجليين. تجلي غيب و تجلي شهادة، فمن تجلي الغيب يعطي الاستعداد الذي يكون عليه القلب، و هو التجلي الذاتي الذي الغيب حقيقته، و هو الهوية التي يستحقها بقوله عن نفسه «هو». فلا يزال «هو» له دائماً أبداً «6». فإِذا حصل له- أعني للقلب‏ «7»- هذا الاستعداد، تجلى‏ «8» له التجلِّي الشهودي‏
في الشهادة فرآه فظهر بصورة ما تجلى له كما ذكرناه‏ «1». فهو تعالى أعطاه الاستعداد بقوله‏ «أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ»، ثم رفع الحجاب بينه و بين عبده فرآه في صورة معتقده‏ «2»، فهو عين اعتقاده. فلا يَشْهَد القلبُ و لا العينُ أبداً إِلا صورة معتقده في الحق «7». فالحق الذي في المعْتَقَد هو الذي وسع القلب صورته، و هو الذي يتجلى له فيعرفه. فلا ترى العين إِلا الحق الاعتقادي. و لا خفاء بتنوع الاعتقادات: فمن قيده أنكره في غير ما قيده به، و أقر به فيما قيده به إِذا تجلَّى. و من أطلقه عن التقييد لم ينكره و أقر به‏ «3» في كل صورة يتحول 34 فيها و يعطيه من نفسه قدر صورة ما تجلى له إِلى ما لا يتناهى، فإِن صور «4» التجلي ما لها نهاية تقف عندها. و كذلك العلم باللَّه‏ «5» ما له غاية في العارف‏ «6» يقف عندها، بل هو العارف في كل زمان يطلب الزيادة من العلم به.
«رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» «7»، «رَبِّ زِدْنِي عِلْماً»، «رَبِّ زِدْنِي عِلْماً». فالأمر لا يتناهى من الطرفين «8». هذا إِذا قلت حق و خلق، فإِذا نظرت في قوله‏ «8» «كنت رِجْلَه التي‏ «9» يسعى بها و يده التي‏ «10» يبطش بها و لسانه الذي يتكلم به» إِلى غير ذلك من القوى، و محلها «11» الذي هو الأعضاء، لم تفرق فقلت الأمر حق كله أو خلق كله. فهو خلق بنسبة و هو حق بنسبة و العين واحدة. فعين صورة ما تجلى عين صورة من‏ «12» قَبِل ذلك التجلي، فهو المتجلِّي و المتجلي له. فانظر ما أعجبَ أمرَ اللَّه من حيث هويته، و من حيث نسبته إِلى العالم في حقائق أسمائه الحسنى.

فَمَن ثَمَّ و ما ثمه‏

و عين ثم هو ثمه‏
فمن قد عمه خصه‏

و من قد خصه عمَّه‏
فما عين سوى عين‏

فنور عينه ظلمه‏
فمن يغفل عن هذا

يجد في نفسه غمه‏
و ما يعرف ما قلنا «1»

سوى عبد له همه «9»



«إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى‏ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» لتقلبه في أنواع الصور و الصفات و لم يقل لمن كان له عقل، فإِن العقل قيد فيحصر الأمر في نعت واحد و الحقيقة تأبى الحصر في نفس الأمر. فما هو ذكرى لمن كان له عقل و هم أصحاب الاعتقادات الذين يكفر بعضُهم بِبعض وَ يَلعَنُ بعضهُم بعضَاً و ما لَهُمْ مِنْ نَاصرين. فإِن إِله‏ «2» المعتقِد ما له حكم في إِله‏ «3» المعتقد الآخر: فصاحب الاعتقاد يذُبُّ عنه أي عن الأمر الذي اعتقده في إِلهه و ينصره، و ذلك في اعتقاده لا ينصره، فلهذا لا يكون له أثر في اعتقاد المنازع له. و كذا «4» المنازع ما له نصرة من إِلهه الذي في اعتقاده، فَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِين، فنفى الحق النُّصْرَة عن آلهة الاعتقادات على انفراد كل معتقد على حدته، و المنصور المجموع، و الناصر المجموع. فالحق عند العارف هو المعروف الذي لا ينكر.
فأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة. فلهذا قال‏ «لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» فَعَلِمَ تقلب الحق في الصور بتقليبه في الأشكال. فمن نفسه عرف نَفْسَه‏ «5»، و ليست نفسه بغير لهوية الحق، و لا شي‏ء من الكون مما هو كائن‏ «6» و يكون بغيرٍ لهوية الحق، بل هو عين الهوية. فهو العارف‏
و العالم و المُقَرُّ في هذه الصورة، و هو الذي لا عارف و لا عالم، و هو المنْكَرُ في هذه الصورة الأخرى. هذا حظ من عرف الحق من التجلي و الشهود في عين الجمع، فهو قوله‏ «لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» يتنوع في تقليبه. و أما أهل الإيمان و هم المقلدة الذين قلدوا الأنبياء و الرسل فيما أخبروا به عن الحق، لا من قلد أصحاب الأفكار و المتأولين الأخبار الواردة بحملها على أدلتهم العقلية، فهؤلاء الذين قلدوا الرسل صلوات اللَّه عليهم و سلامه هم المرادون بقوله تعالى‏ «أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ» لما وردت به الأخبار «1» الإلهية على ألسنة الأنبياء صلوات اللَّه و سلامه عليهم، و هو يعني هذا الذي ألقى السمع شهيد «2» ينبه على حضرة الخيال و استعمالها، و هو قوله عليه السلام في الإحسان «أن تَعبد اللَّه كأنكَ تراه»، و اللَّه في قبلة المصلي، فلذلك‏ «3» هو شهيد. و من قلد صاحب نظر فكري و تقيد به فليس هو الذي ألقى السمع، فإِن هذا الذي ألقى السمع لا بد أن يكون شهيداً لما ذكرناه. و متى لم يكن شهيداً لما ذكرناه فما هو المراد بهذه الآية. فهؤلاء «4» هم الذين قال اللَّه فيهم‏ «إِذْ «5» تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا» و الرسل لا يتبرءون من أتباعهم الذين اتبعوهم «10». فحقِّقْ يا ولي‏ «6» ما ذكرته لك في هذه الحكمة القلبية. و أما اختصاصها بشُعَيْب، لما فيها من التشعب، أي شعبها لا تنحصر، لأن كل اعتقاد شعبة فهي شعب كلها، أعني الاعتقادات فإِذا انكشف الغطاء انكشف لكل أحد بحسب معتقده، و قد ينكشف بخلاف معتقده في الحكم، و هو قوله‏ «وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ». فأكثرها في الحكم كالمعتزلي يعتقد في اللَّه نفوذ الوعيد في العاصي‏ «7» إِذا مات على غير توبة. فإِذا مات‏
و كان مرحوماً عند اللَّه قد سبقت له عناية بأنه لا يعاقب، وجد اللَّه غفوراً رحيماً، فبدا له من اللَّه ما لم يكن يحتسبه. و أمَّا في الهوية فإِن بعض العباد يجزم في اعتقاده أن اللَّه كذا و كذا، فإِذا انكشف الغطاء رأى صورة معتقده و هي حق فاعتقدها. و انحلت العقدة فزال الاعتقاد و عاد علماً بالمشاهدة.
و بعد احتداد البصر لا يرجع كليل النظر، فيبدو لبعض العبيد باختلاف التجلي في الصور عند الرؤية خلاف معتقده‏ «1» لأنه‏ «2» لا يتكرر، فيصدق عليه في الهوية «وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ» في هويته‏ «ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» «11» فيها قبل كشف الغطاء. و قد ذكرنا صورة الترقي بعد الموت في المعارف الإلهية في كتاب التجليات لنا عند ذكرنا من اجتمعنا به من الطائفة في الكشف و ما أفدناهم في هذه المسألة بما لم يكن عندهم. و من أعجب الأمور «3» أنه في الترقي دائماً و لا يشعر بذلك للطافة الحجاب و دقته و تشابه الصور «12» مثل قوله تعالى‏ «وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً». و ليس هو «4» الواحد عين الآخر فإِن الشبيهين عند العارفِ أنَّهما شبيهان، غيران‏ «5»، و صاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد كما يعلم أن مدلول الأسماء الإلهية، و إِن اختلفت حقائقها و كثرت، أنها عين واحدة. فهذه كثرة معقولة في واحد العين. فتكون في التجلي كثرة مشهودة في عين واحدة، كما أن الهيولى تؤخذ «6» في حد كل صورة، و هي‏ «7» مع كثرة الصور و اختلافِهَا ترجع في‏
الحقيقة إِلى جوهر واحد هو «1» هيولاها. فمن عرف نفسه بهذه المعرفة فقد عرف ربه فإِنه على صورته خلقه، بل هو عين هويته و حقيقته. و لهذا ما عثر أحد من العلماء على معرفة النفس و حقيقتها إِلا الإلهيون من الرسل و الصوفية.
و أما أصحاب النظر و أرباب الفكر من القدماء و المتكلمين‏ «2» في كلامهم في النفس و ماهيتها، فما منهم من عثر على حقيقتها، و لا يعطيها النظر الفكري أبداً. فمن طلب العلم بها من طريق النظر الفكري فقد استسمن ذا ورم و نفخ في غير ضرم. لا جرم أنهم من‏ «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً». فمن طلب الأمر من غير طريقه فما ظفر بتحقيقه، و ما أحسن ما قال اللَّه تعالى في حق العالَم و تبدله مع الأنفاس.
«في خلق جديد» في عين واحدة، فقال في حق طائفة، بل أكثرِ العالم، «بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ». فلا يعرفون تجديد الأمر مع الأنفاس.
لكن قد «3» عثرت عليه الأشاعرة في بعض الموجودات و هي الأعراض، و عثرت عليه الحِسْبَانية «4» في العالم كله «13». و جهَّلهُمْ أهل النظر بأجمعهم.
و لكن أخطأ الفريقان: أما خطأ الحسبانية فبكونهم ما عثروا مع قولهم بالتبدل في العالم بأسره على أحدية عين الجوهر الذي قَبِلَ هذه الصورة «5» و لا يوجد إِلا بها كما لا تعقل إِلا به. فلو قالوا بذلك فازوا بدرجة التحقيق في الأمر. و أما الأشاعرة فما علموا أن العالم كله مجموع أعراض فهو في الأمر. و أما الأشاعرة فما علموا أن العالم كله مجموع أعراض فهو يتبدل‏ «6» في كل زمان إِذِ الْعَرَضُ لا يبقى زمانين. و يظهر ذلك في الحدود للأشياء، فإِنهم إِذا حدوا الشي‏ء تبين في حدهم كونه‏ «7» الأعراض،
و أن هذه الأعراض المذكورة في حده عين هذا الجوهر و حقيقته القائِمِ‏ «1» بنفسه. و من‏ «2» حيث هو عرض لا يقوم بنفسه. فقد جاء من مجموع ما لا يقوم بنفسه من يقوم بنفسه‏ «3» كالتحيز في حد الجوهر القائم بنفسه الذاتي‏ «4» و قبوله للأعراض حدٌّ له ذاتي «14». و لا شك أن القبول عرض إِذ لا يكون إِلا في قابل لأنه لا يقوم بنفسه: و هو ذاتي للجوهر. و التحيز عرض لا يكون إِلا في متحيز، فلا يقوم بنفسه. و ليس التحيز عرض لا يكون إِلا في متحيز، فلا يقوم بنفسه. و ليس التحيز و القبول بأمر زائد على عين الجوهر المحدود لأن الحدود الذاتية هي عين المحدود و هويته، فقد صار ما لا يبقى زمانين يبقى زمانين‏ «5» و أزمنة و عاد ما لا يقوم بنفسه يقوم بنفسه.
و لا يشعرون لما هم عليه، و هؤلاء هم في لَبْسٍ من خلق جديد. و أما أهل الكشف فإِنهم يرون أن اللَّه‏ «6» يتجلى في كل نَفَسٍ و لا يكرر التجلي، و يرون أيضاً شهوداً أن كل تجلٍ يعطي خلقاً جديداً و يذهب بخلق. فذهابه هو عين الفناء عند التجلي و البقاء لما يعطيه التجلي الآخر فافهم.

 الموضوع  التـــــــالي    ....    الموضوع  الســـابق  

التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: