الجمعة، 19 يونيو 2020

الباب الثاني والعشرون في الوصيّة للمريد  السالك وهو على فصول وبه ختم الكتاب .كتاب التدبيرات الإلهية فى إصلاح المملكة الإنسانية الشيخ الأكبر ابن العربي

الباب الثاني والعشرون في الوصيّة للمريد السالك وهو على فصول وبه ختم الكتاب .كتاب التدبيرات الإلهية فى إصلاح المملكة الإنسانية الشيخ الأكبر ابن العربي

الباب الثاني والعشرون في الوصيّة للمريد  السالك وهو على فصول وبه ختم الكتاب .كتاب التدبيرات الإلهية فى إصلاح المملكة الإنسانية الشيخ الأكبر ابن العربي

الشيخ الأكبر محمد ابن علي ابن محمد ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي
[ وهو الباب الخامس من الباب السابع عشر]

الباب الثاني والعشرون في الوصيّة للمريد  السالك وهو على فصول وبه ختم الكتاب  

 

اعلم أيّها المريد نجاة نفسك أنّه أوّل ما يجب عليك قبل كلّ شيء طلب أستاذ يبصّرك عيوب نفسك  ويخرجك عن طاعة نفسك  ولو رحلت في طلبه إلى أقصى الأماكن وأنا أوصيك إن شاء اللّه ما تفعله في مدّة طلبك الشيخ حتّى تجده .

 

فإذا وجدتّه  فانقد إليه وأصدق في خدمته  فالحاضر أبصر من الغائب فكن بين يديه كالميّت بين يدي الغاسل ولا يخطر لك عليه خاطر اعتراض  ولو عاينته قد خالف الشريعة فإنّ الإنسان ليس بمعصوم .

 

ولا تكتم عنه كلّ ما يقع لك في نفسك من محمود ومذموم في كلّ من كان ولا تقعد في مكانه ولا تلبس ثوبه ولا تجلس بين يديه إلّا وأنت مستوفز جلوس العبد بين يدي سيّده وإذا أمرك بفعل شيء فتثبّت فيه حتّى تعرف ما أمرك به ولا تبادر وأنت غير عارف بما أمرك به . فلا تأتي بشيء ولا تسأله عن سبب ما أمرك به.

 

وإذا وصفت له حالا من أحوالك في رؤيا أو غيرها فلا تسأله عن شرحها وإذا كلّمته في أمر فلا تطلب منه الجواب عليه ولا تحتمل فيه قول قائل وإذا عرفت له عدوّا فاهجره في اللّه ولا تجالسه ولا تعاشره .

 

وإذا رأيت من يحبّه ويثنى عليه فأحبّه واقض حوائجه وإن طلّق شيخك امرأة فلا تتزوّجها وإيّاك أن تدخل بيت خلوة الشيخ ولا تبيت معه في بيته أو حيث يبيت ولتنم قريبا منه بحيث لا تراه وإذا دعاك سمعته ولا تشاوره في أمر تفعله فإنّك تناقض أصلك فإنّ الأصل الّذي ربطت عليه أمرك ألّا تريد إلّا ما أراده شيخك .

 

فإذا خطر لك شيء فاتركه عن نفسك والتفت لما يرسمه لك وعليه اعتمد فإنّ من الشيوخ من إذا شاورته  في أمر قال لك افعله وإن كان لا يريد ذلك فإنّ الحال يعطيهم ذلك وهو  يضرّ بك وإن قال لك لا تفعله نفعك وضرّ نفسه وصلاح نفسه عنده أولى فما تسلم من هذه الضرر إلّا بأن لا تشاوره في أمر خطر لك أن تفعله

 

ولكن اترك ذلك الخاطر ولا تفعله فإنّ وقتك قد عمّره ما كلّفك به شيخك وإنّما تقع الخواطر للمريد السوء البطّال الفارغ . ظاهرا وباطنا .

 

ولا تعترض عليه في فعل من أفعاله ولا تسأله لم فعلت ذلك وتلمّذ وأخدم كلّ من قدّمه عليك شيخك ولا تقعد مقعدا حيث كنت إلّا وتتيقّن أنّ الشيخ يراك فالزم الأدب ولا تمش أمامه في طريق إلّا بليل ولا تدم النظر إليه فإنّ ذلك يورث قلّة الحياء ويخرج الاحترام من القلب .

 

ولا تكثر مجالسته وليكن جلوسك في بيت خلوتك أو خلف باب بيت الشيخ حتّى إذا أرادك وجدك ولا تقض لأحد حاجة ولو كان أباك حتّى تشاور شيخك ولا تدخل عليه متى ما دخلت عليه إلّا قبّلت يده وأطرقت وتحبّب إليه بامتثال أمره ونهيه لك وكن حافظا شحيحا على عرضه .

 

وإذا قدّمت له طعاما فألقه أمامه بجميع ما يحتاج إليه وقف خلف الباب فإن دعاك فأجبه وإلّا فاتركه حتّى يفرغ وإذا فرغ فأزل المائدة أو السّفرة إذا أمرك فإن بقي من طعامه شيء وأمرك بالأكل فكله ولا تؤثر بنصيبك أحدا وإيّاك أن تحدّث نفسك أنّ الشيخ يأكل وحده .

 

فتستعظم أكله وإن كان طعاما كثيرا فيفرغ أو تقع فيه من أجل الخبر فيمن أكل وحده واجهد أن لا يراك فيما لا يسرّه منك ولا تتمنّ عليه،

واحذر مكر الشيوخ فإنّهم يمكرون بالطالب في أوقات فحافظ على أنفاسك في الحضور معهم ،

فإن وقعت منك زلّة في حقّ أدب مع الشيخ وعرفت أنّه قد عرف بها وسامحك فيها ولم يعاقبك فاعلم أنّه قد مكر بك وقد علم أنّه لا يجيء منك شيء ولهذا سكت عنك وإذا عاقبك على الخطرة واللحظة وضايق عليك أنفاسك فأبشر بالقبول والفتح والرضى ولا يدللك عليه بسطه بل كلّما انبسط فلتزد في قلبك المهابة والإجلال وتعظيم الاحترام والاحتشام ، شعر :

 

كلّما ازداد بسطة وخضوعا  ....  زدتّ فيه مهابة وجلالا

 

وإن سافر شيخك وتركك في موضعك فلازم الموضع الّذي كان يقعد فيه بالسلام عليه في كلّ يوم في الأوقات الّتي كنت تأتي إليه فيها كأنّه ما غاب وارع من حرمته في غيبته رعايتك في حضوره وإذا رأيته يريد الخروج إلى موضع فلا تقل له في ذلك إلى أين وتدخل عليه رأيا في أفعاله .

 

وإن شاورك فردّ الأمر إليه فإنّ مشاورته إيّاك ليست  من افتقاره إلى رأيك وإنّما شاورك تحبّبا لك وسياسة وإذا رأيته يلازم موضعا فلا تقل له في ذلك ولا تحدّث نفسك أنّ تلك عادة منه وإذا انتقل عن موضع كان يلزمه فلا تذكّره به ولا تتأوّل عليه كلامه فيما يأمرك أو يحدّثك به وقف عند ظاهر ما تسمع وافعله إذا أمرك .

 

وإن تيقّنت أنّه خطأ فامض لما أمرك ولا تعرّج على تأويل فيه وإن تأوّلت أمره وأصبت فهو خطأ كما أنّك إذا لم تتأوّل وفعلته كما أمرك وكان ذلك الأمر خطأ فقد أصبت فإنّ الهداية في الطريق عندنا في حقّ المريد مع الشيخ والشيخ مع اللّه ليس هي في إصابة التأويل في الأمر بوجه العلم الصحيح وإنّما الهداية في امتثال الأمر من غير تأويل البتّة وسرّه عندنا بيّن ظاهر في الحضرة الإلهيّة .

 

ومتى ما تأوّلت على الشيخ ما أمرك به أو تقول له تخيّلت أنّك أردت كذا فاعلم أنّك في إدبار فإنّك على نفسك فما أوتى على أكثر المريدين إلّا من التأويل فإنّ التأويل حظّ النفس والعقل ظاهرىّ لا يقينىّ ولا تتأوّل على أمره بل الأمر كلّه على الوجوب فهو يبادر إليه إذا خوطب به .

 

ولا تصلّ في موضع تستدبر فيه شيخك إن كان حاضرا واجمع بين الأدبين ولا تفش له حديثا إلّا بأمره ولا تقف له على أكل ولا نوم ولا حالة من أحوال العادة فإنّه أنفع لك إلّا إن دعاك إلى ذلك وصورة دعائه لك في ذلك أن لا تتعرّض إليه بمشورة مثل أن تقول له يا سيّدنا تأمرني أن آكل معك أو تأمرني  أن أنام معك في بيت واحد أو أنصرف ،

فإنّى أخاف أن يقول لك افعل كل معي أو نم معي وهذا غاية الإبعاد عندنا فإنّه داعيه إلى الإدلال وإسقاط الحرمة والهيبة ومتى ما عدم هذا من المريد فإنّه لا يفلح ولا بدّ منه البتّة ومن قال خلاف هذا فلا يعرف نفسه .

 

فكذا أيّها المريد فلتكن حالتك مع الشيخ إذا وجدته وأنا الآن أوصيك ما تفعله في المدّة الّتي تطلب فيها الشيخ إن شاء اللّه فأوّل ذلك التوبة بارضاء الخصوم وردّ المظالم الّتي تستطيع على ردّها والبكاء على ما فات من أوقاتك في المخالفات ومصاحبتك للعلم

بأنّك من ذنوبك على يقين ومن قبول توبتك على خطر ولا تقعد إلّا على طهارة كاملة ومتى ما أحدثت توضّأت ومتى ما توضّأت صلّيت ركعتين والمحافظة على الصلوات الخمس والتنفّل في بيتك

 

فصل في الصلاة :

فإذا توضّأت فاسع في الخروج من الخلاف وتوضّأ أسبغ وضوء يتوضّأه أحد للصلاة وأتمّه وسمّ اللّه في بدء كلّ حركة من حركاتك واغسل يديك بترك الدنيا منها ومضمض بالذكر والتلاوة واستنشق بشمّ الروائح الإلهيّة

واستنثر بالخضوع وطرح الكبر  واغسل وجهك بالحياء وذراعيك إلى مرفقيك بالتوكّل  وامسح رأسك بالذلّة والافتقار والاعتراف  وامسح أذنيك باستماع القول واتّباع أحسنه واغسل قدميك لإيطاء كثيب المشاهدة ثمّ أثن على اللّه بما هو أهله وصلّ على رسوله الّذي أوضح لك سنن الهدى  صلّى اللّه عليه وسلّم .

 

وقف في مصلّاك بين يدي ربّك من غير تحديد ولا تشبيه وواجهه بقلبك كما تواجه الكعبة بوجهك وتحقّق أنّ ما في الوجود أحدا إلّا هو وأنت فتخلص ضرورة

وكبّره بالتعظيم ومشاهدة عبوديّتك وإذا تلوت فكن على حسب الآية المتلوّة فإن كانت الثناء على اللّه فكن أنت المحدث وهو الّذي يتلو كتابه عليك فيعلّمك الثناء عليه فيما يثنى به على نفسه وكذلك في آية الأمر والنهى وغير ذلك لتقف عند حدوده وتعرف ما وجّه عليك سيّدك من الحقوق فتحضرها في قلبك لأدائها والمحافظة عليها .

 

والحظ ناصيتك بيده في ركوعك ورفعك وسجودك وجميع حركاتك فتسقط لك الدعوى في هذه الملاحظة حتّى تسلّم فإذا سلّمت فابق على عقدك أنّه ما ثمّ أحد غيرك وربّك سبحانه وسلّم باللفظ على من أمرك فإنّ سلامك على نفسك : فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ  تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً الآية .

ومتى دخلت بيتك فحيّه بركعتين وكذلك كلّ موضع تدخله .

 

فصل الأكل والشرب :

ولا تأكل إلّا من فاقة ولا تشبع ولا تكثر شرب الماء ولا تأكل تصنّعا ولا تعزّزا ولكن كل على قدر حاجتك إلى الطعام ولا بشره إليه لجوعك بل خذ اللّقمة متوسّطة فإذا جعلتها في فيك فاشدد مضغها وسمّ اللّه عليها فإذا مضغتها فابتلعها ثمّ احمد اللّه الّذي سوّغكها

وحينئذ تمدّ يدك إلى لقمة غيرها فتسمّى اللّه أيضا مثل الأولى حتّى تبتلعها ثمّ تحمد اللّه وحينئذ تمدّ يدك إلى غيرها حتّى تأخذ حاجتك .

 

وكل ممّا يليك ولو كنت وحدك كيلا تعتاد سوء الأدب واحذر الشهوة ولا تنظر إلى وجه أكيلك ولا إلى يده ولتنظر بقلبك في ذلك إلى تنزيه منيُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُفيتبيّن لك نقصك وعجزك فتكون في عبادة في أكلك ولا تلتفت ولا تصغ لمن يقول لك أنّك تأكل قليلا فيؤدّيك ذلك إلى أن تتركه رياء حتّى يقال أنّك تأكل قليلا ،

وإذا حضرت على مائدة طعام فكن آخر من يرفع يده ولا تقم حتّى ترفع المائدة ولا تأكل في بيتك ثمّ تأتي إلى الجماعة فتأكل معها بالتعزّز كأنّك قليل الأكل فإنّ ذلك من شيم «المنافقين وليكن أكلك من وقت إلى وقت

 

فصل في الكسب والتوكّل :

ولتحترف إن عدمت اليقين ولا تظهر التوكّل وليس عندك منه شيء وتتخيّل أنّ عجزك من قوّة يقينك وحسن توكّلك وإنّما هو من نقص همّتك ودناءة أصلك وقلّة معرفتك فاحترف على حدّ الورع واجهد  في ذلك جهدك فإن طالبتك نفسك بالقعود والتوكّل فلا تجاهدها في ذلك واسمح لها دعواها وأرحل بها عن المواطن الّتي تعرف فيها  إلى الأمصار الكبار الّتي لا يعرف فيها الغريب من البلدىّ ولا تقعدها في موضع واحد من ذلك البلد بل خالف بها المواضع ولا تعاشر أحدا ولا تتعرّف إليه .

 

فإذا رأيت إنسانا وتوسّمت فيه أنّه قد جاءك بشيء أو سمعت حركته ولم تره فقالت لك النفس هذا فتح من اللّه فدخل عليك ذلك بذلك الفتح فلا تقبله وردّه عليه فإنّه أتاك باستشراف ولتعلّقها بالرزق حتّى كوشفت عليه فأين اللّه منها في ذلك الوقت فلا تقبله ولو كنت على الهلاك .

 

فإذا أتاك الشيء من غير استشراف وحصل بين يديك فانظر على الفور ما تجد في نفسك  في أوّل خاطر عند رؤية ذلك الفتوح فإن وجدت في نفسك انقباضا منه  فردّه عليه ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك ،

 

وإن لم  تجد انقباضا ووجدت شرحا فإن صاحبه شره فردّه ولا تقبله وإن لم يصحبه شره فحينئذ فخذ منه قدر ما تحتاج إليه في ذلك الوقت وردّ عليه ما بقي ولا تقعد في ذلك الموضع وأرحل عنه إن كان المصر كبيرا جدّا إلى موضع آخر

ولا ترد المواضع جرت العادة بإتيان الفتوح إليها كالرّبط والمساجد وما أشبه ذلك وهذا كلّه حتّى يتقوّى يقينك

وإن لم تفعل هذا وإلّا فقد خنت نفسك ولا تسمع من صوفىّ نطق من مقامه فقال لا أرى غير ربّى ما قالها حتّى قاسى ما ذكرته لك وحينئذ وأمّا أن يفعل ذلك ابتداء فشغل البطّالين .

 

فصل في الصحبة :

 

 والصحبة أشرّ شيء على المريد فإنّ الطريق مبنىّ على قطع المألوفات وترك المستحسنات ولما كانت الصحبة تؤدّى إلى الألفة والأنس وتغيير المحلّ بوجود الألم عند وقوع المفارقة لهذا كرهناها ولهذا تقول المشيخة من وجد الأنس في الخلوة والوحشة في الملإ فأنسه بالخلوة لا باللّه وإنّما التبس عليه ،

 

فالأولى بالمريد الاعتزال عن الصحبة جملة ولتكن همّته في طلب الشيخ فإن وجد الشيخ فلا يلحظ غيره ولا يصاحب إخوته من تلامذة الشيخ ولا يجالسهم إلّا إن أمره الشيخ بذلك .

 

فينبغي للمريد أن يكون مع الخلق مع جنسه وغيره كالوحش يفرّ يطلب بذلك الأنس باللّه ويكثر الذكر ويستهتر فيه ولا يبايت أحدا ولا يجالسه فإن اضطرّ إلى الصحبة فليرقب نفسه مع صاحبه  فإن وجد عند مغيبه وحشة إليه فليتخلّ عن صحبته فإن تبعه ذلك وطالبه فليفرّ من البلد .

 

وكذلك في ثوبه ومسكنه إذا أحسّ من نفسه أنّه أحبّ ثوبه باعه واشترى غيره وإن استغنى عنه أعطاه لغيره وإن أحبّ مكانه تحوّل عنه ولا يبقى مع شيء يأخذ من قلبه نصيبا حتّى يكون فردانيّا في الوجود فإنّ الحقّ سبحانه لا يتجلّى ، لقلب له أنس بغيره لا من الطائعين ولا من غيرهم .

 

ولولا أنّ الشيخ له طبيب ووجود العلّة الّتي فيها هلاك المريد عنده لم يجز له أن يجلس معه ولكن يجلس معه لا على وجه الأنس به ولكن على وجه تعليم الأدب فإنّ الطالب إذا تعلّق أنسه بالشيخ طال عليه الطريق وصعب على الشيخ طبّه وتعذّر عليه واستبطأ البرء من علّته وذلك لأنسه به .

 

وغرض الشيخ من التلميذ أن يجده في كلّ وقت معمور القلب بالذكر حتّى إذا ألقى عليه ما يؤدّيه إلى مجالسة أحد في فعله زمانا واحدا يراه يتألّم فيعرف الشيخ أنّ المريد قد فتح عليه واعتنى به .

 

ولتكن معاشرته بالإيثار والفتوّة وسخاوة النفس وترك طلب الحقوق منهم ويرى الفضل لهم ولا يرى لنفسه حقّا عندهم فكيف فضلا عليهم ولهذه العلّة أمرنا المريد بترك الصحبة فإنّ للصحبة حقوقا يجب عليه أداؤها تشغله عن أداء حقوق اللّه تعالى في قلبه وهو ضعيف فالعزلة والفرار أولى .

 

فإنّ الصحبة من شيم المتمكّنين الأكابر وكن معهم على نفسك إن ذمّوك فأنت للذمّ أهل وإن حمدوك فأوصافهم تكلّمت عنهم وستر اللّه عليهم أمرك ولو كشفه لهم رأوه عورة فلا تفرح بحمدهم وثنائهم عليك .

 

فصل السعي إلى المساجد :

وينبغي للمريد أن لا يكثر الحركة فإنّها مفرّقة ولهذا منعناه من السفر لئلّا يشوّش حاله إلّا في طلب شيخ يرشده فإذا خرج إلى المساجد أو إلى ضرورة فلا يلتفت يمينا ولا شمالا وليجعل بصره حيث يجعل قدميه مخافة النظرة الأولى ويكون مشتغلا بالذكر في مشيه ويردّ السلام على من سلّم عليه ولا يقف مع أحد ولا يقل لأحد كيف حالك وليحذر من هذا فإنّه صعب عندنا .

 

ويزيل من طريقه كلّ ما يجده من أذى من حجر أو شوك أو عذرة ولا يجد رقعة في الأرض إلّا يرفعها في كوّة ولا يتركها تدرس بالأرجل ويرشد الضالّ ويعين الضعيف ويحمل عن المثقّل هذا كلّه واجب عليه .

 

وإذا سلّم فليسلّم على كلّ عبد صالح للَّه في الأرض والسماء من ذلك كالمقام يردّ عليه.

 

وإيّاك والسعي في مشيك ولكن بالتأنّى من غير عجب فإنّه أوفر لهمّك وإذا كنت حاملا شيئا فأردتّ الراحة فتعدل عن طريق الناس ولا تضيّق عليهم طريقهم .

 

وإيّاك وحضور مجالس السماع فإن أشار عليك شيخك بحضورها فاحضر ولا تسمع واشتغل بالذكر فإنّ سماعك من ذكرك أولى من سماعك من الشعر ولا سيّما والقوّال قلّما ينشد إلّا في باب المحبّة والشوق ،

والنفس تهتزّ عند ذلك وتورث الدعوى عندك فإن أنشد القوّال في الموت وما يردّك إلى الخوف والقبض والحزن والبكاء في ذكر جهنّم أو ذهاب العمر أو الموت وكرباته أو الحساب والقصاص أو مواقف القيمة فأصغ إليه وفكّر فيما جاء به فإن غلب عليك حال يفنيك عن إحساسك فقمت فليس قيامك لك وإنّما أقامك وأردك .

 

فمتى ما رجعت إلى إحساسك فاقعد من حينك وارجع إلى هيئة اعتدالك فإنّ الحركة في السماع انحراف عن مجرى الاعتدال وتتنوّع بحسب القصد فإن تحرّكت وأنت تحسّ بحركتك فحركتك إلى أسفل كمن ينزل من علو إلى سفل حتّى تستقرّ في سجّين نسأل اللّه العافية .

 

وإن تحرّكت وأنت فإن عن نفسك وإحساسك فإن فنيت في اللّه تعالى باستيلاء عظمته في قلبك أو في الجنان أو في النار فحركتك علويّة حتّى تستقرّ في علّيّين .

 

وإن فنيت في معشوق لك من امرأة أو حدث فحركتك في جهنّم في سجّين مع كونك فانيا وحالك حال صحيح ولكن في الفساد ويتوهّم الناس أنّك في حقّ اللّه فنيت فإيّاك وحضور مجالس السماع .

 

وإن اضطررت إلى الصحبة ولا بدّ فصاحب العبّاد والمجتهدين من أهل المعاملة حتّى تجد الشيخ فإن لم تجدهم في المدن فاطلبهم بالسواحل والمساجد الخربة فإنّهم يطرقونها وقنن الجبال وبطون الأودية وإذا عزمت أن تكون منهم فإيّاك أن يدخل عليك وقت الصلاة إلّا وأنت في المسجد والمفرّط من المريدين من يصل والصلاة تقام  .

 

فإن جئت المسجد والصلاة تقام فقد فرّطت غاية التفريط ولست منهم وأمّا أن تفوتك تكبيرة الإحرام أو ركعة مع الإمام فلا تتكلّم على هذا فإنّ هذا من حكم العامّة  المطعون في إيمانهم فتب إلى اللّه واستأنف وإيّاك وملازمة مسجد واحد ولا صفّ واحد ولا موضع واحد في المسجد .

 

فصل في الخواطر :

واعلم أنّك إن عاشرت الفقراء وخدمتهم فلا تردّ خاطرا يخطر لك  في مصالحهم من خدمتهم فإنّ خواطرهم رسل إليك فافعل كلّ ما يخطر لك  من غسل ثياب أو طبخ طعام أو شيء من هذه المنافع فإنّ الفقراء الصادقين تخطر لهم الخواطر ومجاهدتهم تمنعهم من التحدّث بها [ حتّى لا يسعى لنفسه في شهوته ]

واللّه سبحانه يريد أن يجمع لهم بين الأمرين معا بصدقهم فيلقى في نفسك فعل ما خطر لهم فقم عند ذلك وافعله وأت به إليهم فتحصل لهم درجة المجاهدة ونيل المطلوب وتتعلّم أنت تصديق الخواطر سوى ما لك من الأجر في ذلك .

 

ولا تحتقر بشيء من الخير فإنّ هذا الطريق طريق الأرباح ولا يهلك على اللّه إلّا هالك وأربعة من أحكمها فقد فاز بجميع الخيرات كلّها خدامة الفقراء وسلامة الصدر والدعاء للمسلمين بظهر الغيب وأن تكون معهم على نفسك وقلّما يسلم مريد في ابتداء حاله من الخواطر الرديئة في كلّ جانب من جانب الحقّ ومن جانب الخلق .

 

فآكد ما على المريد السعي في أن يسلم الناس من سوء ظنّه بهم وإن كنت صادقا صحيح الخاطر والكشف بالعادة والتجربة لذلك فيخطر لك خاطر سوء في واحد وهو كما خطر لك فاعلم أنه من إلقاء الشيطان .

وتب الى الله تعالى منه واستغفر الله وسله ان لا يعمر باطنك بالإشتغال بخلقه وكيف وقد شغلت بمساوئه .

وانما الشيطان يحب ان يستدرجك ويصدقك ليكذبك ويكرمك ليهينك فتحفظ.

و انما ينقطع هذا بالذكر وينقطع ما كان من جانب الحق عنك بالعلم .

تم الكتاب



التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: