الجمعة، 19 يونيو 2020

الباب السادس عشر في ترتيب الغذاء الروحانىّ على فصول السنة لإقامة هذا الملك الإنسانىّ وبقائه .كتاب التدبيرات الإلهية فى إصلاح المملكة الإنسانية الشيخ الأكبر ابن العربي

الباب السادس عشر في ترتيب الغذاء الروحانىّ على فصول السنة لإقامة هذا الملك الإنسانىّ وبقائه .كتاب التدبيرات الإلهية فى إصلاح المملكة الإنسانية الشيخ الأكبر ابن العربي

الباب السادس عشر في ترتيب الغذاء الروحانىّ على فصول السنة لإقامة هذا الملك الإنسانىّ وبقائه .كتاب التدبيرات الإلهية فى إصلاح المملكة الإنسانية الشيخ الأكبر ابن العربي

الشيخ الأكبر محمد ابن علي ابن محمد ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي

الباب السادس عشر في ترتيب الغذاء الروحانىّ على فصول السنة لإقامة هذا الملك الإنسانىّ وبقائه


اعلم أنّ الغذاء سبب إلهىّ موضوع لبقاء كلّ متغذّ لا غناء له عنه وما بقي بيننا وبين الطبيعيّين إلّا في الأشياء الّتي اعتدّت غذاء فنحن نجوّز عدمها وترك استعمالها الشهور والسنين مع بقاء الحياة في المتغذّى ببقاء الحرارة والرطوبة الّذي هو طبع الحياة بصورة ما فما دام الحقّ يغذّيه بخلق الحياة فيه بقي وهم يرون هذه الأطعمة الّتي هي عندهم أسباب وجود الحياة وهذا الفصل لا يحتاج إلى الكلام مع المخالفين فيه فإنّ طريق التصوّف ليس مبنيّا على مجادلة المخالفين لأنّهم في عين الجمع مشغولين  بقلوبهم مع اللّه كيف ينبغي أن يكون .

 

فاعلم أنّ فصل الربيع حارّ رطب وهو طبع الحياة وأنّ النفس تنشط فيه للحركة والإسفار والفرج والنّزهات فإنّ ذلك زمان الحركة الطبيعيّة في جميع الحيوانات والنباتات فتهتزّ النفس الحيوانيّة لذلك فإن سامحها المريد أخطأ .

 

فاللّه اللّه أيّها السيّد الكريم إذا أعطى الزمان شيئا بطبعه ورأيت بعض أهل مملكتك يشاكل طبعه ذلك فلا تتركه وطبعه ولكن مر وزيرك العقل يأمر خديمه الفكر يأخذ من القوّة الحافظة ما عندها من الأمور الشرعيّة مثل قوله تعالى :"إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ "

 

وقوله تعالى :" فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ".

وقوله:" حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ " وجعل ذلك حياتها فتكون حركة المريد في هذا الفصل الربيعىّ في طلب الغذاء الّذي يوافق هذا الزمان فيأخذ من أسرار المعاملات ما ليس للنفس فيها تلك المجاهدة الشاقّة فتشرع في السّنن والشرعيّات الّتي تعطيها المقامات العلميّة مع عدم الشدّة والضيق كالاعتبارات والأفكار في المصنوعات وإجالة البصيرة على شهود الصانع عند إجالة البصر في المصنوعات .

 

فإذا تحقّقت بهذا النظر سامحها في الخروج إلى الفرج والأنهار والمروج ومواضع النواوير والأزهار من الجبال والغياض فلا تزال تجنى ثمرة الاعتبار والفكر والإستبصار على كثرة ما شاهدته من عوالم الأزهار والنّوّار في الجبال والقفار وشواطئ الأنهار والتفكّر في الجنّة وما أعدّ اللّه فيها لأوليائه فإنّ زمان الربيع زمانها وهي الدار الحيوان فهي حارّة رطبة طبع الحياة.

 

فإذا فكّر في هذا كلّه حرّصه على الأعمال وهوّن عليه شدائدها لعظيم ما يرجوه من النعيم الدائم عند اللّه فهذا هو زمان الشباب والاقتبال وليس آخره كأوّله .

 

وأمّا زمان القيظ فهو حارّ يابس طبع النار فينبغي لك أن يكون الغالب عليك أيّها السيّد في هذا الفصل الفكر في حال الشيخوخة والضعف عن الأعمال الّتي لا يقدر عليها من كبر سنّه والفكر في جهنّم وشدّتها وسعيرها وتنظّر في آية قوله : " وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ".

 

وتفكّر في حرّ القيمة وعطشها وطرد الناس عن الحوض وإلجام العرق فأمثال هذا ينبغي أن يكون غذاء نفسك في هذا الفصل فإنّه يلائمه للالتحاق بالعالم السعادىّ هذه  حالة جيّدة .

 

وأمّا زمان الخريف وهو الفصل الثالث فهو بارد يابس وهذا طبع الموت فينبغي أن يكون الغالب عليك في هذا الفصل في غذائك التفكّر في الموت وسكراته وغمراته وهل يختم لك بالتوحيد أو بالشرك ،

وما تلقاه من خصميك ومن نزع الملك روحك الطيّبة أو الخبيثة وهل يفتح لك باب السماء أو لا وهل تكون عند موتك  في علّيّين أو في سجّين وأنّ ذلك أوّل موطن من ولادة الآخرة وأنّ الدنيا اليوم حاملة بك وهذا الجسم كالمشيمة للمولود وبالموت تقع الولادة لهذا قال :" وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً" .

وكذلك أنت اليوم بالإضافة إلى ما يفتح لك من علوم الآخرة وما تعاينه وما أعدّ اللّه لعبيده من الوعد والوعيد فمثل هذا الفكر يكون الغالب عليك في زمان الخريف .

 

وأمّا زمان الشتاء فإنّه بارد رطب وهو طبع البرزخ فينبغي أن يكون غذاؤك في هذا الزمان التفكّر في البرزخ بين المنزلتين هل أنت ممّن يعرض على النارغُدُوًّا وَعَشِيًّا كآل فرعون أو ممّن يعرض على الجنان تعلف من رياض الجنّة وتتبوّأ منها حيث  شئت كالمؤمنين ،

وتفكّر في الحسرة المستصحبة لك في البرزخ على ما ضيّعت من الأنفاس والأوقات إمّا في المخالفات أو في المباحات فتتمنّى في ذلك الوقت أن يردّك اللّه إلى الدنيا وليس ذلك التمنّى بنافع وليس اللّه برادّك فتكثر حسراتك  وتتوالى عليك زفراتك .

فإذا تيقّنت بالفكر الصحيح والعلم الراسخ أنّ ذلك وقت الحسرة والتغابن ولا ينفعك  فيحرّضك على الجدّ والاجتهاد في هذا الوقت في حياتك الدنيا حيث ينفعك حسرتك إن حسرت وتوبتك إن تبت وندمك إن ندمت

كما قال تعالى :"  إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وقال تعالى:" وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ " .

فإنّ ذلك الجزء من الحياة الدنيا ليس منها وإنّما هو من البرزخ من الدار الّتي لا ينفع فيها ما عمل فيها فليكن غذاء نفسك هذا الغذاء في هذا الفصل فإنّه نافعك إن شاء اللّه.

 

فإذا جمعت بين الغذاءين فقد صحّ جسمك للمعاملات وصحّ عقلك للواردات وكنت في كلّ زمان صاحب علم وعمل وهو الّذي حرّضك الشرع عليه وأمرك به وندبك إليه .

 

فاسع أيّها السيّد في نجاة نفسك ونجاة رعيّتك واعلم أنّ أهل دولتك إن عاشرتهم في الدنيا بالحقّ والعدل والإنصاف وتمشّيت بهم على الطريقة الواضحة الشرعيّة فإنّ اللّه تعالى يقيمهم يوم القيمة شهداء لك بالعدل وحسن النقيبة والسيرة والمعاشرة .

وإن عدلت بهم إلى طريق المخالفات والمحظورات انعكس عليك وأوقفهم الحقّ يوم القيمة شهداء عليك بقبح السيرة وسوء المعاشرة  فاللّه اللّه تحفّظ .

قال اللّه تعالى :" الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ "

وقال :" يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ " .

وقال:" إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا" .

 

وكما أنّه لكلّ فصل من فصول السنة علل وأمراض تحدث فيها في الأبدان وعلى حسب السنّ كذلك يكون في الروحانيّين علل فلتنظر إلى الأغذية الروحانيّة الّتي رسمنا لك في كلّ فصل فإنّ الشيء الّذي يحول بينك وبين تناولها والأخذ فيها فهو علّتك في  ذلك كائنا ما كان من غير تعيين أنت تعيّنه لنفسك فإنّك تدري السبب الّذي حال بينك وبين أخذ هذا الغذاء الّذي فيه حياتك وصحّتك وبقاؤك .

 

وإنّما ذكرنا العلوم في الأغذية وسكتنا عن الأعمال ولم نجعل العمل غذاء فإنّ العمل لا يجيء به الروح وإنّما يجيء بالعلم الإلهيّ والعلم الإلهيّ لا يظهر إلّا بالعمل فإذا أمرتك باكتساب هذه العلوم الإلهيّة في هذه الأزمان المختلفة

فقد أمرتك بالأعمال كما يقول الطبيب يكون غذاؤك زيرباجا  ومن المحال أن تتغذّى بقوله زيرباجا .

 

وإنّما في الزيرباج روحانيّة مودعة  يؤدّيها إليك فيقوم الجسم فيأخذ اللحم ويضيف إليه السّكّر واللوز والزعفران والخلّ والفلفل 

ومن أفاوه الطيب ما تيسّر وتركّبه على النار الليّنة المعتدلة حتّى يكون طبخه معتدلا فإذا استوى أنزلته وتناولته فأعطاك روحانيّته وهي الأمانة الّتي أودع اللّه فيه لك فحيّيت بها وتقوّت صحّتك وبقي كلّ ما عمله الجسم وخدم فيه خرج ثفلا ترميه في المرحاض .

 

كذلك الأعمال تعملها فتأخذ روحانيّتها من العلوم والدرجات وتتركها كما تركت ثفل ذلك الطعام في جهنّم على الكفّار ، وهي المشاقّ والشدائد الّتي نلت في تلك الأعمال من قيام في الأسحار والسّعى إلى المساجد وفي سبيل اللّه

وإسباغ الوضوء في السّبرات وجميع المكاره وهي هذه الأعمال الشرعيّة في الدنيا فتتركها كلّها ولا تنقلب إلى الآخرة إلّا بلطائفها الّتي أودع اللّه فيها الّتي رأيت هنا عيونها في قوله :" وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا"، "واتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ "

 

فكما أنّ الغذاء الجسمانىّ لم تقدر أن تصل إليه حتّى تعمل سببه كذلك هذا الغذاء الروحانىّ لا تصل إليه حتّى تعمله وأيسر أعماله أن تأكله فأكله عمل فإنّ عمله خادم فلا بدّ من تحريك أسنانك فيه وتسخير اللسان والأحناك والحلقوم والمريء والمعدة والمعاء والكبد وحينئذ يسرى منه فيك روح حياة وليس إذا أكله غيرك يحصل لك منه شيء .

 

فكذلك هذا الغذاء الروحانىّ لا بدّ أن تكون أنت المتناول له بنفسك وحينئذ يعطيه اللّه لك فما أعمى أكثر الناس عن إقامة هذه النشأة الروحانيّة بهذا الغذاء الإلهيّ عن هذا العمل الشرعىّ وقد علمنا قطعا أنّ الجسم يحشر يوم القيمة على صورة عمله والنفس على صورة علمها فالسعيد من حسّن صورتيه وجمع بين كلمتيه فهذا هو الغذاء الّذي يحصل من جهة الأعمال .

 

واعلم وفّقك اللّه وسدّدك أنّ كلّ محدث فلا بدّ له من غذاء يغتذي به فيه بقاؤه

 

واعلم أنّ ميكائيل هو الأمين على الأرزاق والأغذية كلّها المحسوسة ويقابله منك الكبد فهو الّذي يعطى الغذاء الجميع البدن وكذلك إسرافيل يغذّى الأشباح بالأرواح وجبرائيل يغذّى الأرواح بالعلوم والمعارف .

 

فكلّ موجود يكون بقاؤه مربوطا بأمر ما فذلك الأمر هو غذاؤه كالجوهر غذاؤه بالعرض فلا بقاء له دونه وكذلك الجسم بالتأليف وكذلك العقل ببعض العلوم الضروريّة وكذلك الهيولى بالصّور فلا يزال الروح القدسىّ متعطّشا لبقائه في وجوده وبقاؤه بالعلوم الإلهيّة فهي غذاؤه

ولهذا قال اللّه تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم :"وقل ربّ زدني علما"

ثمّ رآه  في صورة الغذاء المحسوس على ما خرّجه البخارىّ في صحيحه

قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : رأيت كأنّى أتيت بقدح لبن فشربته حتّى خرج الرىّ من أظافيرى ثمّ أعطيت الفضل عمر قالوا : فما أوّلته يا رسول اللّه قال العلم وشربه ليلة إسرائه ". وقيل له هو الفطرة أطاب اللّه بك أمّتك ،

 

فينبغي لك أيّها السيّد الكريم أن تكون مع اللّه على حكم تدبيره سبحانه في بادية ملكه ولا تتأنّى في استجلاب غذاء الأرواح فإنّك مأمور بسؤال الزيادة منها فإنّ الأرواح لا تشبع من العلوم أبدا وقد عرّفنا بذلك

وقال صلى الله عليه وسلم : "منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا " ولا تطلب من العلم ما تأخذ من تحت قدمك وإنّما اطلب منه الرحمة الّتي اختصّ اللّه بها عباده الّذين أفردهم إليه والعلم الّذي خصّهم به وهو العلم اللدنىّ.

 

فإنّ علوم المعاملة وإن لطفت وعلت فإنّما علوّها وجمالها وحسنها ولطفها بالنظر إلى علوم الأفكار المدنّسة بحكم النظر العقلىّ والافتكار وهذه وراء طور العقل فنورها أجلى ومرآتها أصفى .

 

ولكنّ العلوم الدنيّة الّتى لم يقترن بتحصيلها عمل مع استصحاب العمل والفرقان بينهما بيّن فإنّ علوم الأعمال الهمم متعلّقة بها ولهذا أتت على مدرجة من مدارجها وهي علوم السعادة .

 

وهذه العلوم الّتي نبّهتك عليها علوم لدنيّة موقوفة على الامتثال المطلق الّذي لم يدنّسه المخلوق بكدّه وإن كان الحقّ أكدّه ولكن ثمّ لطيفة الكسب تطلع سحابة على مرآة الروح فإنّه انبعاث سفلىّ من الهواء من حيث صعود الأبخرة وتولّد السحاب وكلّ ما دخل تحت العناصر

فإنّ التغيير يسرع إليه إلّا أن يكون صاحبه قوىّ الحافظة على الموازنة في الحركات والسكنات والمطاعم والمشارب يحفظ بذلك رتبة الاعتدال فحينئذ إذا تخلّص له هذا المقام يكون سعيدا وهذه العلوم لا تحتاج إلى شيء من الحفظ البشرىّ من أجل العناية والسلام .

 

التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: