الجمعة، 19 يونيو 2020

الباب الرابع في ذكر السبب الذي لأجله وقع الحرب بين العقل والهوى .كتاب التدبيرات الإلهية فى إصلاح المملكة الإنسانية الشيخ الأكبر ابن العربي

الباب الرابع في ذكر السبب الذي لأجله وقع الحرب بين العقل والهوى .كتاب التدبيرات الإلهية فى إصلاح المملكة الإنسانية الشيخ الأكبر ابن العربي

الباب الرابع في ذكر السبب الذي لأجله وقع الحرب بين العقل والهوى .كتاب التدبيرات الإلهية فى إصلاح المملكة الإنسانية الشيخ الأكبر ابن العربي

الشيخ الأكبر محمد ابن علي ابن محمد ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي

الباب الرابع في ذكر السبب الذي لأجله وقع الحرب بين العقل والهوى

اعلم وفقك الله أن السبب الذي لأجله نشأت الفتنة ووقعت الحرب حتى كشفت عن ساقها، وعمت الوقائع جميع أقطار المملكة وآفاقها.

هو طلب الرئاسة على هذا الملك الإنساني ليخلصه من حصل بيده إلى النجاة، إذ لا يصح عقلا ولا شرعة تدبير ملك بين أميرين متناقضين في أحكامهما، "ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" [الأنبياء: 22].

وإن فرض اتحاد الإرادة في حق المخلوقين فإن حكم العادة يألي ذلك والشرع في حق هذين الأميرين؛ وما سمعنا بخرقها في حق شخص قط.

وإذا كان هذا فلم يرد الله تعالى أن يدبر هذا الملك إلا واحد؛ وصرح بذلك على لسان رسوله : «إذا بويع الخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» .

والخلافة ظاهرة وباطنة، وقد تقررت الظاهرة وثبتت ؛ وكلامنا هنا في الخلافة الباطنة على حسب الظاهرة أنبوبة على أنبوب، وجريا على ذلك الأسلوب.

اعتراض لكشف أسرار :

قال المؤلف رضي الله عنه  : وربما للمنازع أن يستروح من هذا الحديث شيئا ما فيقول: قد قال فاقتلوا الآخر منهما؛ وما يدريك لعل الهوى تقدم والعقل تأخر، فيكون الهوى صاحب الخلافة.

فنقول ليس التقدم والتأخر هنا بالزمان، وإنما التقدم هنا بإحصاء الشرائط، أعني شرائط الإمامة.

ففيمن وجدت كان المقدم للإمامة، ويخلع من لم تكمل فيه تلك الشرائط ، ويقتل إن عاند ولم يدخل في الأمر العزيز، فلا يلتفت للزمان.

قال المؤلف رضي الله عنه : وشرائط الإمامة على ما ذكرته العلماء عشر:

 ست منها خلقية لا تكتسب، وأربع منها مكتسبة.

أما الخلقية :

فالبلوغ

والعقل

والحرية

والذكورية

ونسب قریش وفيه خلاف، ولم يره بعض العلماء .

 و سلامة حاسة السمع والبصر .

وأما الأربع المكتسبة:

 فالنجدة

والكفاية

والعلم

والورع.

قال المؤلف: وهذه الشرائط كلها موجودة في هذا الخليفة، والهوی معری عنها نعوذ بالله لا نشرك به أحدا؛ فلنذكرها شريطة شريطة حتى نستوفيها ونبين أن الروح قد

جمعها.

الشرط الأول في الخلافة البلوغ:

فإن الإمامة لا تنعقد لصبي اعتباره في الروح. البلوغ نور الله بصيرتك أمر شرعی، وبلوغ الروح اتصاله بالإلهية؛ وقد ثبت اتصاله على ما ذكرناه اتصال شرف ورفعة وبلوغ مقام کریم حين أخذ عليها الميثاق فقال لها : "ألست بربکم قالوا بلى" [الأعراف: 172].

فلو كانت الأرواح غير بالغة لما تصور منها هذا الجواب ولا توجه عليها هذا الخطاب شرعا.

 

الشرط الثاني - العقل:

فإن الإمامة لا تنعقد لمجنون إذ هو غير مخاطب ولا تكليف عليه، والإمام مكلف باعتباره في الروح يعقل عن الله ما يرد عليه منه، ولذلك قال : بلى، وهي صفة قائمة به ، عنها صدر العقل الذي جعلناه وزيرا له فيما يأتي إن شاء الله تعالی .

 

الشرط الثالث - الحرية:

فإن الإمامة لا تنعقد لرقيق، وذلك أن الإمامة تستدعي أن يستغرق الإمام أوقاته في أمور الخلق وهذا لا يتفق للعبد إذ سيده مالك له يقطع عليه النظر في مهمات الخلق باشتغاله في تصرفاته . واعتباره في الروح لا يوجد أشد حرية منه ولا أكمل، إذ ليس لأحد عليه ملك إلا الله تعالی.

وكيف يتصور ذلك وهو أول المحدثات، وكون الإمام مستغرقا في مهمات الخلق فكذلك الروح مستغرق في مهمات ملكه .

 قال الله تعالى: "يسبحون الليل والنهار ولا يفترون" (الأنبياء: 20].

 

الشرط الرابع - الذكورية:

فإن الإمامة لا تنعقد لامرأة، والذي منع من ذلك أنه ليس لها منصب القضاء ولا منصب الشهادات في أكثر الحكومات شرعا واعتبارها هذا بين بنفسه لا يحتاج إلى شرح . والذي منع  أن تكون النفس إمامة وإن  اتصفت بصفات الكمال.

 فإنها في الكون تحت حجاب الصوت، وهي کريمة هذا الإمام، وهي محل الفجور والتقوى، والعلة مطردة في الخلافتين معا.

 

الشرط الخامس - النسب:

اعتباره الدخول في المقامات المحمدية وهي الدورة الثانية الإلهية التي حضرتها الأولية والآخرية، بعث آخرا وقيل له متى كنت نبيا؟

قال : وآدم بين الماء والطين؛ فانتهت في عیسی علم الدورة من آدم.

وكذلك جعله في كتابه كما قال تعالى : "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب " [آل عمران: 59] فختم بمثل ما به بدأ.

واختصت الدورة الثانية الحاكمة على الكل، المحمدية المحيطة بجوامع الكلم؛ وهي الدورة التي من الشرق إلى الغرب. فكما أن محمدا عم أرسل إلى الكافة كذلك الروح أرسل إلى كافة البدن.

وفي هذا سر عجیب نذكره في غير هذا الكتاب، فهذا فائدة النسب للروح.

 

الشرط السادس سلامة حاسة السمع والبصر:

إذ الأعمى والأصم لا يتمكن من تدبير نفسه فكيف يدبر غيره. واعتباره في الروح سماعه بالحق ونظره بالحق، فتقدس عن الآفات وتنزه.

قال صلى الله عليه وسلم مخبرا عن ربه : «ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به».

وهنا سر يبحث عنه فإنه كذلك كان. فمن كان الحق سمعه وبصره کیف لا يدبر نفسه وغيره.


الشرط السابع والثامن النجدة والكفاية:

وهما من صفات الأرواح، ألا ترى أن الله تعالى لما أراد نصرة عباده أمدهم بملائكته وأيدهم بهم.

قال تعالى : "إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين "[الأنفال : 9]

وقال : "وأيدهم بروح منه" [المجادلة : 22].

 

الشرط التاسع - العلم:

وهذا قد ظهر في آدم عم حين علم الأسماء كلها فلا يحتاج ذكره .

 

الشرط العاشر - الورع :

وهو منبعه وإليه مرجعه إذ الشريعة رداؤه والحقيقة إزاره .

فقد تكملت الشرائط في هذا الخليفة، وصحت خلافته وانعقدت إمامته.

قلنا : فلنرجع إلى السبب الذي لأجله وقعت الحروب والفتن بينهما .

فأقول: إن السبب في ذلك طلب الرئاسة على هذا الملك الإنساني؛ فإذا أصبحت الرئاسة لأحدهما عليه سعي في نجاته وإقامته، وحمى دياره وأعلى مناره وحجبه عن الأسباب الرديئة له في الدارين على حسب ما يتخيله أو يعلمه.

واعلم أن سبب نجاته من كل أمر مهلك هو طاعته لأمر داع من خارج يقال له الشرع، عرفه الروح إذ هو من جنسه ؛ وجهله الهوى.

فالهوى يتخيل له أن النجاة في حيزه؛ والروح يعلم أن النجاة في حيزه ؛ فنشأ الخلاف و وقع الشتات .

والذي دعا إلى ذلك أن حقيقة الأمرين مختلفان فلما جاء الداعي من خارج نظرا إلى نتيجة ذلك الأمر فوجدا له نتيجتين:

في الواحدة الهلاك وفي الأخرى النجاة ؛ فطلب کل منهما سبيل النجاة وتجنب المهلكات على حسب ما اقتضته الحكمة الإلهية .

وكل لو ترك والاعتذار لكانت له حجة ما، ولكن حسمها الحق جل اسمه بحجته البالغة حيث قال :"لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" [الأنبياء: ۲۳].

وهؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي وجف القلم.

فنقول إن الروح حقيقته نور والهوى حقيقته نار، وكل واحد منهما يتنعم من وجوه في وجوده إذ هي صفته النفسية.

وإلا فلو تيقن من حقيقته نارا أنه يتعذب بها وأن الفاعل قادر على ذلك ، لطلب الفرار إلى محل وجود النور ولو تحقق فيه النجاة؛ لكن جهل ذلك فكل داع إلى مقامه بل النار تتعذب بالنور .

... كما تضر رياح الورد بالجعل."الجعل نو من الخنافس"

 فإذا كان يتعذب بالنور يتخيل أن هذا الملك الإنساني يتعذب أيضا بالنور فهو أبدا يطلب أن يخرجه من النور، ويحجبه عنه بالأفعال التي تؤديه إلى الخروج عنه، وهي الشهوات التي حفت النار بها، فمن وردها فقد ورد النار .

ويطلب أيضا الروح الذي هو نور مثل ذلك، وكل واحد منهما ينظر في الأسباب الموصلة هذا الملك الإنساني إلى حزبه، فيعرضها عليه ويحليه بها، وقد صح عندهما أنه متى تحلى أو اتصف بوصف ما كان ملكا لصاحب هذا الوصف، فكان المستولي عليه فوقعت الفتن والحروب .

ولو ترك كل واحد منهما النظر من نفسه ونظر إلى هذا الداعي من خارج، الذي هو الشارع.

وقال : وجدت داعيا من خارج ثبت صدقه وعصمته ؛ فما قال فيه النجاة فهو ذلك، وما قال فيه الهلاك فهو ذلك لوقع التسليم والانقياد، وارتفعت الفتنة وحصل الملك في حزب النجاة.

لكن هذا لا يصح أبدا إذا كانت تزول حقيقة الهوى فإنه عين المخالفة ، فلو علمت انعدم وذهب، لكن الله تعالى من هذا تدبير عجيب، يحجب عن من يشاء ويكشف لمن يشاء، "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون".

"ولله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك" [هود: 118].

وهم أهل الجمع ولذلك خلقهم لتظهر أسماؤه في الوجود، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

والحمد لله رب العالمين .

 

التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: