الثلاثاء، 16 يونيو 2020

كتب الإمام أبو القاسم الجنيد .كتاب الإمام الجنيد سيد الطائفتين إعداد الشيخ أحمد فريد المزيدي

كتب الإمام أبو القاسم الجنيد .كتاب الإمام الجنيد سيد الطائفتين إعداد الشيخ أحمد فريد المزيدي

كتب الإمام أبو القاسم الجنيد .كتاب الإمام الجنيد سيد الطائفتين إعداد الشيخ أحمد فريد المزيدي

 الإمام أبو القاسم الجنيد بن محمد ابن الجنيد الخراز القواريري قدس اللّه روحه

 كتب الإمام الجنيد 

كتاب السرّ في أنفاس الصوفية

من كلام سلطان الحقيقة وملك الطريقة أبو القاسم الجنيد نور اللّه ضريحه .

باب صفة الأنفاس

قال أبو القاسم الجنيد بن محمد رحمة اللّه عليه : الحمد للّه الذي بذكره نفتتح الكلام ، وبحمده خاتمة التمام ، وبتوفيقه السداد ، وفي طاعته الرشاد . وصلى اللّه على المختار ، وعلى آله الطيبين الأخيار .

إن اللّه خلق القلوب وجعل داخلها سره ، وخلق الأنفاس وجعل مخرجها من داخل القلب بين سر وقلب ، ووضع معرفته في القلب ، وتوحيده في السر ، فما من نفس يخرج إلا بإشارة التوحيد على دلالة المعرفة في بساط الاضطرار إلى الربوبية ، وكل نفس خلاف هذا ، فهو ميت وصاحبه مسؤول عنه « 1 » .

وقال : النفس ريح اللّه سلط على نار اللّه ، التي في داخل القلب .

وقال : النفس هتف النور .

وقال : أصل النفس من خمسة : من نار ، أو من نور ، أو على نور ، أو على ظلمة ، أو من الظلمة ، أو من نار النور « 2 » .

وقال : ما عبد اللّه أحد بمثل ما عبد بالأنفاس ، وما عصى اللّه أحد بمثل ما عصى بالأنفاس .

.....................................................................

( 1 ) قال الشيخ الديلمي : واعلم أنه أراد بالسر الروح الأقرب الذي هو قلب السر الذي نسميه خفيا ، وإنما حملناه على ذلك لأنه أضافه إلى اللّه تعالى بقوله : ( . . . وجعل داخلها سره ) أي : سر اللّه تعالى ، والروح الأقرب هو الأخص باللّه تعالى وبأسراره تبارك وتعالى . . ولأنه هو الموحد الذي يقوم فيه توحيد اللّه تعالى في عالم الفناء عند فناء كل ما سواه ، وقوله : ( وجعل مخرجها من داخل القلب من السر والقلب ) فقد جعل مخرجها في السر الأدنى لأنه هو الروح الذي من القلب والخفي ، فالخفي فوقه ، والقلب دونه هو محله ، فكأن ممر الأنفاس الخاصة التي أرادها الجنيد على ذلك الروح الذي يسمونه السر الأدنى ، وقوله : ( وجعل مخرجها من داخل القلب صحيح لأن جميع هذه الأرواح من داخل القلب ، وقوله : ( ووضع معرفته في قلبه ) يعني به معرفة اللّه تعالى . . . شرح الأنفاس ( 39 / ق / ب ) .

( 2 ) قال الديلمي : يعني النفس الصالح الذي كون ما يتنفس به المريد هو الذي ينشأ من هذه الأصول الخمسة ، وما عداه فباطل ، وصاحبه مسؤول عنه . . . شرح الأنفاس الروحانية ( 40 / ق / أ ) .


 

قال الجنيد : النفس الرحماني إذا هاج من السر يميت القلب والصدر والنفس ، والنفس لا يمر على شيء إلا احترق ذلك الشيء حتى العرش « 1 » .

وقال الجنيد : ليس شيء أشد على أولياء اللّه من حفظ الأوقات عند الأنفاس .

وقال الجنيد : إذا عاين القدرة وتنفس صاحبه يكره ذلك ، وإذا عاين العظمة نهي عن النفس ، وإذا عاين الهيبة فتنفس فقد كفر .

وقال الجنيد : نفس يخرج بالاضطرار يخرق الحجب والذنوب التي بين العبد وبين ربه ، فإذا نظر صاحبه بعين القلب إلى ربه يجد ربه رؤوفا رحيما ، فإذا استحق به فيرى اللّه ، أقرب إليه من حبل الوريد ، فإذا أيقن به فيري اللّه قائده وسائقه ، فإذا نظر هذا ينقطع إليه ويتعلق به ، فإذا عاين هذا لم يثق إلى غيره ولا ينساه ، فإذا وجد هذا يعلم أنه عبد واللّه رب ، فإذا علم هذا قام بشروط الوفاء ، فإذا وفي يظهر عنده له مقاما ، فإذا ظهر المقام اعتذر إلى سيده فيعذره وعرض عليه التوحيد ، فإذا قبل التوحيد يعطي له لواء المعرفة ، فإذا عرف وصار موحدا لا يكون له قرار ولا سكون في الدنيا والآخرة ، ثم المزيد عند اللّه ، قال اللّه تعالى وَلَدَيْنا مَزِيدٌ[ ق : 35 ] .

وقال الجنيد : صاحب التعظيم صاحب الأنفاس ، والتنفس عنده ذنب ولا يقدر عن الكف عنه ؛ وصاحب الهيبة صاحب حمد ، وهذا عنده ذنب ، ولا يقدر أن يتنفس .

وقال الجنيد : ما أحسن التنفس بالندامة ، وهو أدنى التنفس ، وهو أكبر من عبادة الكون .

قال الجنيد : اللحظة كلام القلب ، والخطرة كلام السر ، والإشارة كلام الخفاء .

وقال أيضا : أهل القلوب ابتلوا باللحظات ، وأهل السر ابتلوا بالخطوات ، وأهل الخفاء ابتلوا بالإشارات .

.........................................

( 1 ) يعني الرحماني إذا هاج حتى جاوز من السر إلى القلب يميت كل شيء من العبد حتى القلب والصدر فيصعق عنده ذلك كما صعق موسى عليه السلام . . شرح الأنفاس الروحانية ( 42 / ق / ب ) .


 

وقال : إن اللّه عبادا يرون ما وراءهم من الأشياء ، يرون أحوال الدنيا بلحظات قلوبهم ، وأحوال الآخرة بخطرات سرهم ، وأحوال ما عند اللّه بإشارات خفيهم « 1 » .

وقال الجنيد : تقصير المحبين بلحظة يقع الأوقات « 2 » ، وذلك فضل اللّه عليهم ليزيد في خوفهم واضطرارهم وفقرهم . وتصير « 3 » العارفين بخطرات سرهم ، وذلك تنبيه من اللّه لهم لكي لا يأمنوا من مكر اللّه ، لأن المكر يظهر في هذا المقام . وتصير « 4 » الموحدين بالإشارات الخفي ، وذلك بشارة من اللّه لهم لكي يسكنوا به ، لأن ذلك مقام النفي ، والنفي هلاك البدن ، ويزيد بإشارتهم قوة .

وقال الجنيد : اللحظة كفران ، والخطرة إيمان ، والإشارة غفران .

 

باب صفة المكر « 5 »

قال الجنيد : في قوله تعالى :وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ[ النمل : 50 ] ، قال : في طريق اللّه عز وجلّ ألف قصر ، في كل قصر ألف قاطع من قطاع الطريق سلطوا « 6 » على المريد السالك ، ومع كل واحد موكل غدر ومكر خلاف الآخر ، فإذا جاء

.............................................

( 1 ) قال الشيخ الديلمي : قوله : ( عبادا ) أراد به نفوسهم وذواتهم ، وقوله : ( يرون أحوال الدنيا بلحظات قلوبهم ) هذا إذا كان لصاحب القلب نظر قوي سمى النظرة بالقلب هنا لحظة ، فقال يرون بلحظات قلوبهم ، وحيث قال : اللحظ كلام القلب علمنا أنه أراد به أنواع التصرفات للقلب والنظر إلى المرائي الضامن جلها كالكلام ، وقوله : ( يرون ) معني بالرؤية فيما يرى ، والعلم بما لا يرى مثلا : يرى رجلا جاء من سفره أو يراه محبوسا في موضع أو يراه رابحا أو خاسرا ، وهذا يكون خيرا وعافية ، والآخر يكون شرا وما أشبه ذلك وأن هؤلاء هم أصحاب الفراسات والبصائر الباطنة في الغيوب . . . شرح الأنفاس ( 58 / ق / أ ) .

( 2 ) في شرح الأنفاس ( 62 / ق / أ ) يقع بالآفات .

( 3 ) في شرح الأنفاس ( 62 / ق / أ ) تقصير .

( 4 ) في شرح الأنفاس ( 62 / ق / أ ) تقصير .

( 5 ) المكر : إرداف النعم الباطنة والظاهر مع المخالفة وإبقاء الحال .

ونتائجها من المكرمات والعلوم مع سوء الأدب ، وإظهار الآيات من خرق العوائد ، والكرامات من غير أمر ، وإذن إلهي يترتب عليه مصالح الكون ، ونظام أموره ، ومن غير حد تقف دونه ولا تتجاوز عنه . .

( 6 ) في شرح الأنفاس ( 67 / ق / ب ) موكل .


 

السالك غدر الموكل معه بشيء يعطي به شيئا ، ويمنعه عن الطريق ، ويحجبه عن اللّه تعالى « 1 » .

وقال الجنيد : الرجال خمسة :

واحد من الخارج يدخل فيمنعه المانعون ، ويغدره بشيء ويرجع من الباب ، إلا أن يكون عاقلا يعقل ذلك ولا ينظر إليه .

ورجل من الداخل يخرج ، فيبقى من الخارج ، ولا يقدر على الرجوع إذا نظر إلى شيء دون اللّه .

والثالث يحيى الملك فيه حلة من الخارج ، بغير منع مانع مع المستور .

والرابع يدخل من طريق أصعب وأهول وأشد شأنا ، لا يكون فيه المانع ولا الغادر ، بالتشمر والتجلد على المخاطرة ، فبلغ ، ويعذر على الباب ، فإن أذن له ، وإلا صرخ من محبته ، فيسمع الملك أنينه ويدخله ، فإذا دخل في الدار ، فلا بد من القبول ، وهؤلاء أهل التصوف الذين طريقهم على المخاطرة ، فلا يميلون إلى الخلق ولا إلى الدنيا ولا إلى أنفسهم ولا إلى أهلهم ، وإن نظروا أو تميلوا منعوا وحجروا .

والخامس من الداخل يظهر ، ومن الداخل يقبل ، ومن الداخل يسكن ، وهو نديم الملك ، وذاك الحبيب محمد صلى اللّه عليه وسلّم ؛ وخلاف ألف مقام ، ولكل مقام عذر .

وقال الجنيد : الكرامة بداية حجاب ومكر .

وقال : من نظر إلى الكرامة فقد كفر بصاحب الكرامة .

وقال الجنيد : المكر في الصلاة أظهر من غيره .

وقال الجنيد : المعرفة مكر اللّه .

وقال : المقامات كلها حجاب ومكر : للقرب مكر ، وللبعد حجاب .

وقال : اخترنا طريق التصوف ، سلامة من مكر اللّه .

وقال أيضا : إن مذهب الصوفية لا يخلو من المكر ، وهو فيه أظهر ، وهم يعلمون لأنهم أكيس الناس .

وقال الجنيد : الخوف من المكر فرط دائم إلى الأبد ، وما أمن من المكر إلا هالك .

وقال أيضا : الأمن من المكر للمريد من الكبائر ، والأمن من المكر للواصل من الكفر .

وقال الجنيد : المكر إن يضاف إلى شيء وإلى غيره موجود .

.............................................

( 1 ) انظر : شرح الأنفاس ( 67 / ق / ب ) .


 

وقال أيضا : المكر طلب الشيء والسكون إلى غيره .

* *ُ *

باب في صفة المشاهدة « 1 »

قال الجنيد : المشاهدة ثلاثة :

مشاهدة الرب ، ومشاهدة من الرب ، ومشاهدة بالرب « 2 » .

وقال : المشاهدة معاينة للسر مع فقدانك .

وقال : المشاهدة إقامة العبودية بإزاء الربوبية ، مع فقدان ما دونه .

وقال الجنيد : من لم يعابن صفات اللّه أجمع دقايقه ولطائفه ، لم يوحد اللّه ، ولم يعرفه .

فالطريق من داخل المعرفة .

وقال الجنيد : إن للّه تسعة وتسعون اسما ، فمن أقربها فهو المسلم ، ومن عرفها فهو المؤمن ، ومن عامل اللّه بها فهو العارف ، ومن عامل بها ولم يسكن إليها وطلب المسمى فهو الموحد ، وله المشاهدة .

وقال : رأيت الغدا بعين الوجه مع التحير الذي رأيته اليوم بعين السر مع الحيرة .

وقال الجنيد : من كان أبعد فرؤيته أخفى ، غدا رؤية الوجه ، لأنه لا حجاب بين العباد وبين السيد ، واليوم رؤية السر لأن الحجاب قائم ، ورأى محمد صلى اللّه عليه وسلّم بفؤاده ، لأن الحجب كانت هناك حجابان .

.......................................................

( 1 ) المشاهدة : تطلق على رؤية الأشياء بدلائل التوحيد ، فإن لكل شيء أحدية بها يمتاز عن غيره .

وهي عين الدليل على أحدية الحق ، وتطلق بإزاء رؤية الحق في الأشياء . وذلك هو الوجه الذي له تعالى بحسب ظاهريته في كل شيء ، ولما كانت رؤية الحق في الأشياء من أحلى المشاهدات وأتمها ، فإنها تعطي حقيقة اليقين من غير شك . ولذلك قال قدّس سرّه : « وتطلق بإزاء حقيقة اليقين من غير شك » .

هذا إن لم تكن المشاهدة في حضرة المثال ، كالتجلي الإلهي في الأجل لأهل العقائد المقيدة ، حيث الإنكار حتى يتحول لهم في علامة يعرفونها فيقرون بها . والمتجلي في الحقيقة عين المنكور والمعروف ، فهم ما أقروا إلا بالعلامة ، لا به ، فافهم .

( 2 ) قال الشيخ الديلمي في شرح الأنفاس ( 81 / ق / أ ) : يعني بالمشاهدة بالرب مشاهدة اضطرار أي يشاهد اللّه شاء أم أبى ، لا اختيار له في مشاهدته ، أما المشاهدة من الرب مشاهدة اختيارية يشاهد الحق متى شاء بعونه وتوفيقه . . أما مشاهدة الرب هي مشاهد الرب عند الفناء وهذا مذهب المشايخ . .


 

وسئل الجنيد : هل عاينت أو شاهدت ؟ قال : لو عاينت لتزندقت ، ولو شاهدت لتحيرت ، ولكن حيرة في تيه ، وتيه في حيرة .

* * *

باب في صفة العلم وما يلزم علمه « 1 »

قال الجنيد : العلم أن تدرك قدرك بذاته .

وقال : من عرف قدر نفسه هانت عليه العبودية .

وقال الجنيد : إن اللّه أراد من العباد علمين : معرفة علم العبودية ، ومعرفة علم الربوبية ، وما سواهما فهو حظ أنفسهم .

قال الجنيد : العلم الأكبر علم القيام بالدوام وعلم الحال بغير احتيال .

وقال الجنيد : العلم شيء بمحيط ، والمعرفة شيء بمحيط ، فأين اللّه ؟ فأين العبودية ؟

قال الجنيد : العلم والمعرفة لازم على العبد ، وهما ليس من صفات العبد ، فإذا عرف وعلم ، فانظر كيف كان .

وقال أيضا : أولا العلم ، ثم المعرفة ، ثم العلم بالمعرفة ، ثم المعرفة بالعلم ، ثم الجحود بالمعرفة ، ثم الإنكار بالجحود ، ثم الإقرار بالإنكار ، ثم الأوقات بالإنكار ، ثم المعرفة بالإنكار ، ثم الجحود بالإنكار ، ثم التقى ، ثم الغرق ، ثم الهلاك ، فإذا ذقت النظر ، فكل ذا حجاب .

وقال الجنيد : الإثبات مكر ، والعلم بالإثبات مكر ، والحركات غدر ، والعلم بالحركات والموجود من داخل المكر غدر .

* * *

..........................................................................

( 1 ) العلم : عبارة عن حقيقة حاصلة للعالم ، يتعلق بالموجود على حقيقته التي هو عليها ، وبالمعدوم على حقيقته التي يكون عليها إذا وجد ، وإن شئت قلت : العلم ظهور عين العين ، أي حقيقة الحقيقة ، بحيث يكون أثر الظاهر حاصلا لمن ظهر له من حيث الظهور فقط . لطائف الأعلام ( ص 322 ) .


 

باب في صفة المحبة « 1 »

قال الجنيد : محبة المحبة كحب الحبيب . وقال : المحبة نهاية المحبة عند هيجان الربوبية .

وقال الجنيد : إن المحب إذا ذكر حبيبه ، حرم محبته . قال الجنيد : تحريك المحبة كله أمره .

قال الجنيد : المحبة أمانة اللّه ، ولكن المحبة الدائمة لا الفرعية .

* * *

باب في صفة الغيرة « 2 »

قال الجنيد : الغيرة لا تجوز إلا في ثلاثة أوقات : عند الذكر والغفلة ، وعند المحبة إذا رأى صاحبه مع علاقة ، وعند التعظيم .

.....................................................

( 1 ) فسرها الشيخ الهروي في المنازل بأنها : تعلق القلب بين الهمة والأنس في البذل والمنع ، أي بذل النفس للمحبوب ، ومنع القلب من التعرض إلى ما سواه ، وإنما يكون ذلك بإفراد المحب بمحبوبه بالتوجه إليه ، والإعراض عما عداه ، وذلك عندما ينسى أوصاف نفسه في ذكر محاسن حبه ، فتذهب ملاحظته الثنية . . وانظر : لطائف الأعلام للشيخ القاشاني قدس سره ( ص 390 ) .

( 2 ) الغيرة غيرة في الحق لتعدي الحدود . والغيرة تشعر بثبوت الغير ، ومشاهدته ، ومن حيثية الغيرة تظهر الفواحش ، والغيرة إنما تظهر عند رؤية المنكر والفواحش ، والأغيار الثابتة ، فكثرتها إما نسب ، وأحوال مختلفة معقولة قائمة بعين واحدة ، لا وجود لها إلا في تلك العين ، وإما آثار استعدادات المظاهر في الظاهر فيها ، فعلى التقديرين لا وجود في الأغيار مع ثبوت حكمها في العين الظاهرة بها .

فخذ من هذا التقريب من أي ثبوت نشأة الفواحش ؟ ولم حرمت ؟ والإنسان مأمور بأن يجعل نفسه وقاية للظاهر فيه ، والغيرة محمودة ومذمومة ، فالمحمودة : هي التي اتصف بها الحق ، والرسل ، وصالحو المؤمنين على أنها مرموزة في الطبع فلا بدّ منها .

وغيرة تطلق بإزاء كتمان الأسرار : الأولى غيرة في الحق ، وهذه غيرة على الحق ، وهذه حالة الأولياء والأصفياء الذي يسعون في ستر أحوالهم ومقامهم على الخلق فلا يتميزون بعادتهم وعبادتهم عن العامة .

وغيرة الحق صفته على أوليائه وهم الضائن .

وهذه غيرة من الحق ، ولهم خلف حجب العوائد الواصلة الدائمة ، وعندية الحق معهم تقتضي أن يكون التمييز بين الظاهر ، والمظاهر أخفى ، فهم عنده كهو عندهم ، فأخفى العين في العين .


 

باب في صفة الحقيقة « 1 »

قال الجنيد : حقيقة العبد ترك الاشتغال ، والاشتغال بالشغل الذي هو أصل الفراغة .

قال الجنيد : قوله عز وجلّ ( عباد ) حقيقة ، وقوله ( عبادي ) حقيقة الحقيقة .

* * *

باب في صفة الهمة « 2 » والإرادة « 3 »

...................................................

( 1 ) الحقيقة : سلب آثار أوصافك عنك بأوصافه . ومن آثارها تقيدك وتلبسك بها ، فالسلب إنما يتوجه إلى آثار الأوصاف ، لا إلى الأوصاف ، فإن وجودك عين وجوده ، وأوصافك عين أوصافه ، وهو أحدية جمع كثرتها ، فإنه الفاعل بك فيك منك لا أنت .

وقد أيد معنى كونه أحدية جمع الكثرة ، وكونه فاعلا لها . . ومحصل المعنى : الحقيقة اسم أطلق على الحق عند تحقيق كونه عين وجود العبد وأوصافه ، وقد تبين سقوط إضافتها عنه ، فإنه تحققه بالوجود وأوصافه باق على عدميته ، ومن ذلك قوله : « وإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا » . فليس للعبد في وجود الحق إلا الحكم ، لا العين . فافهم .

( 2 ) الهمة : تطلق بإزاء تجريد القلب بالمنى ، ممكنا كان ذلك أو محالا ، وعلى صاحب هذه الهمة أن ينظر فيما يتمناه ، ويحرره ، فإن أعطاه الرجوع عن طلبه بكونه محالا رجع ، وإن أعطاه الغريمة غرم .

وتطلق بإزاء أول صدق المريد : وتسمى هذه الهمة ، همة الإرادة ، وهي همة جمعية وتنحصر النفس عليها فلا يقاومها شيء حتى إنه لو تصور شيئا ، وأراد وقوعه ، لوقع في الحين ، والنفس إذا انحصرت على الجمعية ، وأحيطت فيها بالقوة والملكة انتقلت لها أجرام العالم والأرواح ولا قصاص عليها بشيء . وليس من شروط هذه الجمعية الإيمان ، ولذلك ظهرت آثارها على بعض كفار الهنود ، ولهم في الكون الأسفل تصرفات عجيبة ، ويزعمون أنهم أهل التروحن والتقديس . وتطلق بإزاء جمع الهمم بصفاء الإلهام .وهذه الهمة إنما تسمى بهمة الحقيقة ، وهي همة الكمل من أهل اللّه تعالى ، حيث جمعوا الهمم المتعلقة بأنحاء الكمال على الحق ، واطلعوا بصفاء الإلهام توحيده الذاتي وتوحيده الجمعي الأسمائي من مشاهدة التفصيل في جمعه كما هو .

( 3 ) الإرادة : وهي لوعة في القلب . يريد قدس سره : قلب من تنبه للنهوض بقدم حاله إلى وجهته العليا في الحق ، وهي وجهة موليها ، وهي مختاره الأصلي ، ومستنده الغائي . وقد زاد قدس سره في معناها قيدا آخر ، وهو قوله في الفتوحات المكية : « ويحول بينه وبين ما كان عليه مما يحجبه عن مقصوده » .

والإرادة في الحقيقة لا تتعلق دائما بالعدم ، فإنها صفة تخصص أمرا إما بحصوله ، أو وجوده ، كما قال تعالى وتقدس :إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[ يس : 82 ] . وشيئية المراد هنا شيئية الثبوت لا شيئية الوجود ، فإن قلت : قد تتعلق الإرادة بموجود لمحوه ، وإعدامه . قلت : هذه مشيئة

قال الجنيد : الهمة إشارة اللّه تعالى ، والإرادة إشارة الملك ، والخطرة إشارة المعرفة ، والنية إشارة الشيطان ، والشهوة إشارة النفس ، واللهو إشارة الكفر .

وقال : ما عاتب اللّه صاحب همة ، وإن عصاه .

وقال الجنيد : من له همة فهو في ديوان البالغين ، ومن له إرادة فهو في ديوان المريدين ، ومن له منية فهو في ديوان العاصين شاء أو أبى .

وقال الجنيد : الهمة تسري لأوليائه ، كما أن الوحي يسري لأنبيائه .

وقال أيضا : من له همة فيبقى ، ومن له إرادة فيعمى .

قال الجنيد : الهمة لسان السر ، ومن ليس له نطق السر ، ويعجز عن الظاهر لأنه كلام للسر مع الرب من الربوبية فكيف يدخل فيه التحريك ، فيه كفر .

آخره والحمد للّه تعالى .

* * *

..................................................

- الإرادة . كما قال تعالى :يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ[ الرعد : 39 ] فلو تعلقت الإرادة بالموجود لتخصيص وجوده لزم تحصيل الحاصل ، فالمراد : حالة تعلق الإرادة به معدوم قطعا .

فإن العقاب ، وملذوذ وجده بالعذاب ، حالة تعلق الإرادة به ، وكان معدوما في حقه ، فخصص ذلك بإرادته ليوجد في حقه ، فإذا وجد ، تعلقت إرادته باستمرار ما حصل ، وهو معدوم إذ ذاك ، فالإرادة إن نشأت في القلب على مقتضى غلبة الحكم القلبي فيطلقونها ويريدون بها إرادة التمني سواء تعلقت بالمطالب العالية أو الدانية ، ولذلك قال : وهي يعني إرادة التمني منه ، أي : من القلب يريدون بها أيضا .

إرادة الطبع : إن نشأت من القلب على مقتضى غلبة حكم النفس عليه ، فإنها إذن تجديد إلى شبح الطبيعة القاضي بإتيانه اللذات العاجلة والآجلة أيضا ، كتقييد القلب مثلا في مناهج ارتقائه بلذات مشاهدة نتائج الأحوال في الحال ، أو نتائج الأعمال ، بحكم المجازاة في المال ، لذلك قال : « ومتعلقها الحظ النفسي فإن علة تقييد القلب هنالك وجود اللذة ، ويطلقونها ويريدون بها : إرادة الحق » .

إرادة الحق : إن نشأت من القلب ، على مقتضى غلبة الحق عليه ، سواء كان ذلك من أحكامه الظاهرة أو الباطنة ، ومتعلقها الإخلاص ، والقاضي بتحقيق توحيده الذاتي ، وقطع تعلقها عن السوى ، بل عن الأسماء من حيث كونها مشعرة بالكثرة المعقولة ، بحسب نسب إحاطاتها ، ولهذا قال علي كرم اللّه وجهه : « وكمال الإخلاص له نفى الصفات عنه » .


 

كتاب الميثاق « 1 »

الحمد للّه الذي جعل ما أنعم على عباده من إبزاغ نعمته دليلا هاديا لهم إلى معرفته ، بما أفادهم به من الإفهام والأوهام التي يفهمون بها رجع الخطاب ؛ أحمده دائما ديموميا ، وأشكره شكرا قائما قيّوميّا .

وأشهد أن لا إله إلا اللّه الفرد الفريد الأحد الوحيد الصمد القدوس .

وأشهد أن محمدا صلى اللّه عليه وسلّم الكامل بالنبوة والتام للرسالة ، صلى اللّه عليه وعلى آله أجمعين .

ثم إن للّه عزّ وجلّ صفوة من عباده وخلصاء من خلقه ، انتخبهم للولاية ، واستخلصهم للكرامة ، وأفردهم به له . جعل أجسادهم دنيويّة وأرواحهم نورانيّة ، وأوهامهم روحانيّة ، وأفهامهم عرشيّة ، وعقولهم حجبيّة . جعل أوطان أرواحهم غيبيّة في مغيب الغيب . جعل لهم تسرّحا في غوامض غيوب الملكوت . ليس لهم مأوى إلا إليه ، ولا مستقر إلا عنده .

أولئك الذين أوجدهم لديه في كون الأزل عنده ومراكب الأحديّة لديه ؛ حين دعاهم فأجابوا سراعا ، كرما منه عليهم وتفضّلا ؛ أجاب به عنهم حين أوجدهم ، فهم الدعوة منه ؛ وعرّفهم نفسه حين لم يكونوا إلا مشيئة أقامها بين يديه ؛ نقلهم بإرادته ، ثم جعلهم كذرّ ، أخرجهم بمشيئته خلقا ، فأودعهم صلب آدم عليه السلام ، فقال عز وجلّ :وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى[ الأعراف : 172 ] ، فقد أخبر جل ذكره أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم ، إذ كانوا واجدين للحق من غير وجودهم لأنفسهم ، فكان الحقّ بالحقّ في ذلك موجودا بالمعنى الذي لا يعلمه غيره ، ولا يجده سواه . فقد كان واجدا محيطا شاهدا عليهم ، برّاهم في حال فنائهم ، الذين كانوا في الأزل للأزل ، أولئك هم الموجودون الفانون في حال فنائهم الباقون في بقائهم ؛ أحاطت بهم صفات الربانية وآثار الأزليّة ، وأعلام الديموميّة .

أظهر هذه عليهم لمّا أراد فناءهم ، ليديم بقاءهم هناك ، وليفسّحهم في علم الغيب غيبه ، وليريهم غوامض مكنونات علمه ويجمعهم به ، ثم فرّقهم ، ثم غيّبهم في جمعهم ، وأحضرهم في تفريقهم ، فكان غيبهم سبب حضورهم ، وحضورهم سبب غيبهم . اختطفهم بالشّواهد البادية منه عليهم حين أحضرهم ، واستلبهم عنها حين غيّبهم . أكمل فناءهم في حال بقائهم ، وبقاءهم في حال فنائهم .

.......................................

( 1 ) النص من نشر عبد القادر ( ص 43 ) .


 

أحاطت الأمور بهم حين أجرى عليهم مراده من حيث يشاء ، بصفته المتعالية التي لا يشارك فيها . فكان ذلك الوجود أتمّ الوجود ، وهو أولى وأعلى وأحقّ بالقهر والغلبة وصحة الاستيلاء على ما بدا منه عليهم ، حتّى يمحى أثرهم ويمتحي رسومهم ويذهب وجودهم ؛ إذ لا صفة بشريّة ، ولا وجود معلومية ، ولا أثر مفهومية ؛ إنّما هي تلبيسات على الأرواح ما لها من الأزليّة ؛ ذوق وجود نعيم لا كالنّعيم ؛ مستحيلة في المعاني ، متّفقة الأسامي ، متصادقة في ذوق نعيمها ، متلوّنة في رسوم شواهدها . تبدو بنعيمها في طوالع شواهدها ، وتتلوّن في ذوق مرارات طعمها . لهج أفكارهم في محبوبهم ، وتذمّت أذكارهم في أسرارهم . هاجت عليهم عند ذلك بحار الغيرة تتلاطم أمواجها ، عظم البلاء عند تصفّحهم لواردها ، واضمحلّت نفوسهم عند توقعهم إيّاها ، وقام عليهم كلّ معلوم نكرا ، وثبت كلّ نكر معلوما . برزوا بعلم الحقيقة لدى الحقّ ؛ حين أوجدهم حقيقة الحقّ نسبة منه لا إلى الواجد لها ؛ كان ذلك كمال الجهد لديه . ثم لم يجعل لبلائهم أسامي فيستريحون ، ولا لجهدهم معلوما فيتنعّمون ، شغل بعضهم عن بعض ، وأفرد بعضهم عن بعض ، فهم في حضورهم فقد ، وفي متعهم بالمشاهدة كمال الجهد ، لأنّه قد محي عنهم كلّ رسم ومعنى يجدونه بهم ، ويشهدونه من حيث هم ، لما استولى عليهم فمحاهم وعن صفاتهم أفناهم .

وإنما معنى ذلك أن تؤدّي الحقيقة من الحقّ ما يشاء ، كيف أثبت بهم وعليهم ، وقام عنهم بما لهم ، وثبّت دواعي ذلك عليهم وفيهم من جنس كماله وتمامه ، فوجد النّعيم من غير جنس النّعيم ، ووجد البلاء في معلوم النّعيم ، ووجد الوجود في غير سبيل الوجود ، باستتار الحقّ واستيلاء القهر . فلما فقدت الأرواح النعيم الغيبيّ الذي لا تحاسّه النفوس ولا تقارفه المحسوس ، ألفت فناها عنها ، وطرحتهم في مفاوز مهلكات بلواها ، ثم ألفت بعد إلفهم للفناء فناء ، لأن لا يجدوا طعما معلوما ، ولا يستريحوا إلى موجود ، امتلأ بهم بلا إشارة إلى صفاتهم ، ولا رسوم من رسوم المواصفات ، ولا البواعث منه إليها ، وامتحت شواهده في الآثار حين لا يوجد السّبيل إلى درك الشّفاء على خالص الوجود المستولي عليه من الحقّ تعالى ، كذلك من في صفته العليا وقوّة شاهده بوارد سلطانه ؛ وإنما جرت سنّة البلاء على أهل البلاء حين جاذبوا وأقاموا ، وثبتوا ولم ينخدعوا .

أقيم عليهم ما محقهم في نفس القوّة وعلوّ المرتبة وشرف المنزلة وسناء النّسبة ، ثم أحضرهم الفناء في فنائهم ، وأشهدهم الوجود في وجودهم ، فكان ما أحضرهم منهم وأشهدهم الوجود في وجودهم « سترا خفيا وحجابا لطيفا » ، أدركوا به عظيم الفقد وشدة


 

الاستينار ما لا يليق به العلم ولا « تليق » الآثار بصفته ، فطالبوه فيما كان مطالبهم ، ومانعوه ما كان مانعهم ، وتعرّفوا منه ما عرفوه إليهم لا بهم ، حلّوا بمحلّ القوّة ، ونالوا حقائق الحظوة ، وتعالوا إلى حقيقة الحضرة ، فأقام عليهم شاهدا منه فيهم ، وأدركوا منه به ما أدركوا ، وأوقف كلّ واحد منهم عند إدراكه ، وأفرد كل ما انفرد منه تعالى اللّه عن صفة الخلائق ، وعزّ أن تتشبه به الخلائق علوا كبيرا .

* * *

 

كتاب دواء الأرواح « 1 »

الحمد للّه الذي أبان بواضح البرهان ، لأهل المعرفة والبيان ، ما خصّهم به في قديم القدم ، قبل كون القبل ، حين لا حين ، ولا حيث ، ولا كيف ، ولا أين ، ولا لا حين ، ولا لا حيث ، ولا لا كيف ، ولا لا أين . إذ جعلهم أهلا لتوحيده ، وإفراد تجريده ، والذّابّين عن ادّعاء إدراك تحديده ، مصطنعين لنفسه ، مصنوعين على عينه ، ألقى عليهم محبّة منه له .وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي[ طه : 41 ] ،وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي[ طه : 39 ] ،وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي[ طه : 39 ] ، فماجد أوصاف من صنعه لنفسه ، والمصنوع على عينه ، والملقي عليه محبّة منه له ، أن لا تستقر له قدم علم على مكان ، ولا مرافقة عقل على استقرار فهم ، ولا مناظرة عزم على تنفيذهم .

هم الذين جرت بهم المعرفة حيث جرى بهم العلم ، إلى لا نهاية ، غاية غاية . خنست العقول ، وبارت الأذهان ، وانحسرت المعارف ، وانقرضت الدّهور ، وتاهت الحيرة في الحيرة ، عند نعت أوّل قدم نقلت لموافقة وصف محل لمحة مما جرت عليهم به العلوم ، التي جعلها لهم به له ، هيهات ذاك له ما له به عنده ، فأين يذهبون .

أما سمعت علم طيّه لما أبداه ، وكشفه لما واراه ، واختصاصه لسرّ الوحي لمن اصطفاه .فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى[ النجم : 10 ] ،ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى[ النجم :

11 ]وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى[ النجم : 7 ] .

شهد له أنه عبده وحده ، لم يجر عليه استعبادا لغيره ، بخفيّ ميل همّة ، ولا إلمام شهوة ، ولا محادثة نظرة ، ولا معارضة خطرة ، ولا سبق حقّ بلفظة ، ولا سبق أهل بنطقة ، ولا روية

...................................................................

( 1 ) النص من طبعة را دلريير ( ص 32 ) ، عن النسخة الخطية المصورة بالمعهد عن تركيا .


 

حظ بلمحة .

أوحي إليه حينئذ ما أوحي ، هيّأه لفهم ما أولاه بما به تولاه ، واجتباه لأمر فحمل ما حمّل ، فحمل .فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى[ النجم : 10 ] ،وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى[ النجم : 7 ] ، ضاقت الأماكن ، وخنست المصنوعات عن أن تجري فيها ، أو غلبها وحي ما أوتي إلا بالأفق الأعلى ،إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى[ النجم : 16 ] ، نظر من خلال نظره من غير منظوره إلى السّدرة ، حيث غشّاها ما غشّى ، فثبتت لما غشّاها .

وانظر إلى الجبل ، حيث جعله لجلاله دكّا ، وخرّ موسى صعقا ، فلما أفاق قال :

سبحانك تبت إليك أن أعود لمسألتك الرّؤية بعد هذا المقام ، إلى إكباره ما فرّط من سؤاله ، وإلى أن العلم لو صادف حقيقة في وقت المسألة لم يكن القول سائغا يليق به . وفي هذا المكان علم ليس حقه الرسم ، ولا يليق بالكتب .

 

وانظر إلى إخباره عن حبيبه :وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ( 13 ) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى[ النجم : 13 ، 14 ] ، والعند هاهنا لا يقتضي مكانا ، إنما يقتضي وقت كشف علم الوقت .

فانظر إلى فضل الوقتين ، ومختلف المكانين ، وفرق ما بين المنزلين في العلوّ والدنوّ ، ولذلك فضّلت عقول المؤمنين من العارفين ، فمنها ما يطيق خطاب المناجاة مع علم قرب من ناجاه وأدناه ، فلا يستره في الدنو علم الدنو ، ولا في العلو علم العلو . ومنها ما لا يطيق ذلك ، فيجعل الأسباب هي المؤدية إلى الفهم ، وبها يستدرك الخطاب ، فيكون منه الجواب ، ولا تقف عند قوله تعالى :وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ[ الشورى : 51 ] .

 

وهذه أماكن يضيق بسط العلم فيها ، إلا عند المفاوضة لأهل المحاورة ، وهي الاشتغال بعلم مسالك الطرقات المؤدّية إلى علوم أهل الخالصة ، الذين خلوا من خلواتهم ، وبرئوا من إراداتهم ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون ، وعصفت بهم رياح الفطنة ، فأوردتهم على بحار الحكمة ، فاستنبطوا صفو ماء الحياة ، لا يحذرون غائلة ، ولا يتوقعون نازلة ، ولا يشرهون إلى طلب بلوغ غاية ، بل الغايات لهم بدايات .

هم الذين ظهروا في باطن الخلق ، وبطنوا في ظاهرهم .

أمناء على وحيه ، حافظون لسره ، نافذون لأمره ، قابلون بحقه ، عاملون بطاعته ، يسارعون في الخيرات ، وهم لهم سابقون ، جرت معاملتهم في مبادي أمورهم ، بحسن الأدب فيما ألزمهم القيام به من حقوقه ، لم تبق عندهم نصيحة إلا بذلوها ، ولا قربة إلا وصلوها .


 

سمحت نفوسهم ببذل المهج عند أول حقّ من حقوقه في طلب الوسيلة إليه ، فبادرت غير مبقية ولا مستبقية ، بل نظرت إلى أن الّذي عليها في حين بذلها أكثر مما لها بما بذلت ، لوائح الحقّ إليها مشيرة ، وعلوم الحقّ لديها غزيرة ، لا توقفهم لائمة عند نازلة ، ولا تثبطهم رهبة عند فادحة ، لا تبعثهم رغبة عند أخذ أهبة ، حافظون لما استحفظوا من كتاب اللّه ،وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ[ المائدة : 44 ] ،

إذ عرّج بهم اللجأ عند القيام بواجب إلى طلب الاستعانة لإتمام ما قلّدوه ، لم ينجهم الإصغاء إلى المناصحة ما بقيت منهم بقية حياة موجودة ، إشفاقا من دخول الوهم مع وجود العلم بواجب الحقوق إلى حقوقها ، نزل التوقف عن استقبال المبادرة في حين الأمر بالسّعي ، ليكون الفعل عقيبا للأمر ، بلا فصل محدود يعلم في غير صفة الأمرية .

 

وهذه صفات أهل الموالاة من أهل المصافاة ، الدائم نظرتهم إلى ما يجري بهم القول ، مما ألزم حقّ العبوديّة في الرهبانيّة ، الّذي وقع الذّم لمن التزمها ، ولم يقم بواجب حقها بترك رعايتها ، فسبقت نفوس المعاملين إلى ما لهم بعملهم ، فاحتجبوا برؤية ما لهم بعملهم ، عمّا لهم بعلم عملهم ، عما لهم بالإنعام عليهم بكشف علم عملهم . فتكاثفت الحجب بالحجب عن كشف علوم الحجب ، فأقاموا تحت التغطية . وبعد الخروج من هذه الأماكن تبدو علوم كشف التغطية ،لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ ق : 22 ] .

 

وقف على حدود الأشياء بكشف باريها لها ، وما ألبسها من نور الصّنعة ، وزهرة الإرادة بنفاد القدرة على جمعها ، وتفريقها ، ومجازها ، وتحقيقها ، قال تعالى :وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ[ البقرة : 255 ] ، وقوله تعالى :لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ[ البقرة : 256 ] .

 

وصلّى اللّه على محمّد النبيّ المكرّم المطهّر ، المفضّل ، المرحوم وعلى آله وصحبه ، وعترته الأطهرين الطيّبين ، الأخيار النجباء ، الأبرار ، والحمد للّه رب العالمين ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .

* * *


 

كتاب دواء التفريط

قال الشيخ أبو القاسم الجنيد بن محمد رحمه اللّه :

خصّك اللّه لطاعته ، وهيّأك لموافقته ، وجعلك من أهل ولايته ، وانتخبك لمحبته ، وأسرع بك إليه ، وأوقفك على علم مراده ، واستعملك بعلم ما أرادك له ، وعوّدك الإصغاء إلى استنباط الفهم عنه ، وحال بينك وبين العوارض القاطعة والعلائق المانعة ، وجعل أقوالك لديه موضيّة وعنده زاكية ، وكفاك مؤونة كل شاغل عنه ، وهيّأك لخدمته ، وروّحك بتفويض الأمر إليه ، وحال بينك وبين كل ممتنع عليك في الطريق المسلوك إليه ، وجعل لك على كل همّ لا يسعدك في طلب ما يرضيه من لدنه سلطانا نصيرا ، وإنه ولي الإنعام وكافي المهمات .

 

وينبغي للعاقل ألا ينفقد من إحدى ثلاثة مواطن : موطن يعرف فيه حاله أمتزايد أم منتقص ، وموطن يخلو فيه بتأديب نفسه من إلزامها ما يلزمها ، ويتقصّى فيه على معرفتها ، وموطن يستحضر عقله برؤيته التّدبير ، وكيف تختلف به الأحكام ، في آناء الليل وأطراف النهار . ولن يصفو عقل لا يصدر إلى فهم هذا الحال الآخر إلا بإحكام ما يجب عليه من إصلاح الحالين الأوّلين .

 

فأما الموطن الّذي ينبغي له أن يعرف فيه حاله أمتزايد هو أم منتقص ، فعليه أن يطلب مواضع الخلوة لكي لا يعارضه شاغل ، فيفسد عليه ما يريد إصلاحه ، ثم يتوجه إلى موافقة ما ألزم من تأدية الفرض ، الذي لا يزكو حال قربه إلا بإتمام الواجب من الفرائض . ثم ينتصب انتصاب عبد بين يدي ربه ، يريد أن يؤدّي إليه ما أمر بتأديته ، فحينئذ ينكشف له من خفايا النفوس الموارية ، فيعلم أهو ممن أدّى ما وجب عليه أم لم يؤدّ . ثم لا يبرح من مقامه ذلك حتى يوقع له العلم برهان ما استكشفه بالعلم ، فإن رأى خللا أقام على إصلاحه ولم يجاوزه إلى عمل سواه .

وهذه أحوال أهل الصدق في هذا المحل ،وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ[ آل عمران : 13 ] ، وقوله تعالى :إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[ الحج : 74 ] .

وأما الموطن الذي يخلو فيه بتأديب نفسه ويتقصّى فيه حال معرفتها ، فإنه ينبغي لمن عزم على ذلك وأراد المناصحة في المعاملة ، فإن النفوس ربما خبت فيها منها أشياء ، لا يقف على حد ذلك إلا من بصر ما هنالك ، في حين حركة الهوى في محبّة فعل الخير


 

المألوف ، فإنّ النّفوس إذا ألفت فعل الخير صار خلقا من أخلاقها ، وسكنت إلى أنّه موضع لما أهّلت له ، وارتدت به .

وترى أن الذي جرى عليه من فعل ذلك فيها هي له أهل ، ويرصدها العدو المقيم بفنائها والمجعول له السبيل على مجاري الدّمّ فيها ، فيرى هو بقوّة كيده خفية غفلتها ، فيختلس بممايلة الهوى ما لا يمكنه الوصول إلى اختلاسه في غير تلك الحال ، فإن تألم لوكزته منه وعرف نفسه أسرع بالإنابة إلى من لا تقع الكفاية منه إلا به ، فاستقصى من نفسه علم الحالة التي منها وصل عدوه إليه ، فحرسها بلياذة اللجأ ، وإلقاء الكنف ، وشدة الافتقار ، وطلب الاعتصام . كما قال الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، يوسف ابن يعقوب بن إبراهيم عليهم السلام وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ[ يوسف : 33 ] .

وعلم يوسف أن كيد الأعداء مع قوّة الهوى لا ينصرف بقوّة النفس فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[ يوسف : 34 ] .

وأما الموطن الّذي يستحضر فيه عقله لرؤية مجاري الأحكام وكيف يقبله التدبير ، فهو أفضل الأماكن ، وأعلى المواطن ، فإن اللّه أمر جميع خلقه أن يواصلوا عبادته ، ولا يسأموا خدمته ، فقال تعالى :وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[ الذاريات : 56 ] ، فألزمهم دوام العبادة ، وضمن لهم عليها في العاجل الكفاية ، وفي الآجل جزيل الثواب ،

فقال تعالى :يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ الحج : 77 ] ، وهذه كلها عبادة تلزم كلّ الخلق . ووقف ليرى كيف تصرف الأحكام ، فقد عرض لرفيع العلم والمعرفة ، ألا تعلم أنه قال تعالى :كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[ الرحمن : 29 ] ، يعني شأن الخلق .

وأنت أيّها الواقف لترى أنّك من الخلق الّذي هو في شأنهم ، أفترى شأنك مرضيّا عنده ؟ ولن يقدر أحد على استحضار عقله إلا بانصراف الدّنيا وما فيها عنه ، وخروجها من قبله .

فإذا انقضت الدنيا ، وبادت وباد أهلها ، وانصرفت عن القلب ، خلا بمسامرة رؤية التّصرف واختلاف الأحكام وتفصيل الأقسام . ولن يرجع قلب من هذا وصفه إلى شيء من الانتفاع بما في هذه الدار التي عنها خرج ، ولها ترك ، ومنها هرب ؛ ألا ترى إلى حارثة حين يقول : عزفت نفسي عن الدنيا ،

ثم يقول : وكأنّي أنظر إلى عرض ربي بارزا ، وكأنّي بأهل الجنة يتزاورون وكأنّي . . . وكأنّي . . .


 

وهذه بعض أحوال القوم ، فاحرص يا أخي على العمل في نجاة نفسك ، وخلاصها ، وعتقها من رقّ مذلّة الهوى ، والانقياد إلى مسامرة أهل الدنيا ، فقلّ نفس ذاقت من سهو الغفلة قطرة إلا أورثها ذلك قسوة أسكرت العقل ، وأذهلت المعرفة ، وجعلت للفتنة مدخلا حفيفا . فمن رفع ستر الآفات انكشف له ستر الانطواء ، ولم يتروّح نسيم لذّة المعاملة .

ولقد فاز قوم نظر إليهم وليّهم فدلّهم على مختصر الطّريق ، وأوقفهم على محجّة النّجاة ، وألاح لهم خفيّ فهم الدّعوة إلى المسارعة ، بالمناقشة ، عند فهم الخطاب ، إذ يقول عزّ وجلّ :وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ[ آل عمران : 133 ] ،

فنهضت العقول مستحثّة للجوارح ، بحسن التّوجه لإقامة ما به يحظون عند من استجابوا لدعوته ، وقرّت العيون بما أورد على قلوبهم من السّرور بالخلوة ، به خلا بين أناس أكياس ، لا يرهبون في الطريق إليه غيره ، ولا يتوسّلون إليه إلا به ، ولا يسألونه شيئا غير إدامة التّمتّع بخدمته ، وحسن المعونة على موافقته .

قد أيست منهم الأعداء ، وأماتت عنهم الخشية الهوى ، وأقرّت بهم عيون الأحباء ، لا يرون نائلا هو أعظم مما نالوا ، ولا يبتغون بما أنعم عليهم بدلا ، ولا يريدون عنه حولا ، صفّاهم العلم ، وأدبتهم المعاملة ، وأعزهم الانقطاع إلى اللّه تعالى ، وأغناهم عمن سواه .

هم طلبة اللّه وطلابه ، ومحبّو اللّه وأحبّاؤه ، هاموا شوقا إلى رؤيتهم ، وحسرة على مفارقتهم ، وسرّوا بمحادثتهم ، أرادهم اللّه فأرادوه ، وطلبوا اللّه فوجدوه .

فمن أراد النجاة فليتعجّل روح الحياة ، بطلب الوصول إلى مناه ، فإنّ اللّه منية الأولياء ، وبغية العقلاء ، وطلبة الأصفياء ؛ ولولاه ما اهتدوا إليه ، ومن ذكرهم دلّهم عليه ، لم يتعسّفهم فيما ألزمهم ، ولم يحمّلهم ما لا يطيقونه ، وخلاصهم من العذاب الوبيل ، ودلّهم على سبيل الشّكر المرضيّ عنده ، وألّف بينهم وبين النظراء من الأشباه والأشكال ، وصان قلبهم وأبصارهم وأسماعهم عن الدنوّ إلى الخناء ، واتّقوا من محادثة شيء منها ، مما يفنى ، ولم يخلّهم ونفوسهم ، ولم يؤاخذهم بتقصيرهم ، بل أنعم عليهم بجميل قبول العذر في حين القبول ، وتجاوز لهم عمّا عجزت عنه أبدانهم ، وأوقفهم على جميل الصّحبة ، وكثرة الأيادي بالحفظ بالأمم السابقة بحسن التثقيل ، وهانت عليهم مصائب الدنيا ، وألفوا ما اختار لهم وليّهم ، قربانهم التّقديس والتّسبيح والتّحميد والتّهليل ، وراحتهم وقرّة عيونهم في


 

مناجاتهم ، فما يصدّون عند لقائه في معادهم . وإنما قطع الخلق عن اللّه عزّ وجلّ اتّباعهم الأهواء ، وطاعتهم الأعداء ، ومحادثتهم لزهرة الحياة الدنيا ، وإيثارهم ما يفني على ما يبقى .

فبادر يا أخي إلى إصلاح ما مضى من العمر ، وما ضاع منه بالسهو والغفلة والتفريط والتواني ، لحفظ ما أبقى عليك منه بالانزعاج والخوف والجدّ والحذر ، قبل فوات أوان الوقت ، ونزول الموت . فإنه لا يرضى عمّن بقي إلا بمثل العمل الذي به رضي عمّن سلف ، فاسع في فكاك الرقّ بترك ملابسة العلائق الشّاغلة . فإنّ للّه يوما يبرز فيه الخبايا ، وتبدو فيه الأعمال ، يوم لا يثق فيه شهيد ولا صدّيق بعمله ، ولا يرجو فيه أحد إلا التّجاوز والعفو من ربّه ، يوم تكثر فيه النّدامة ، وتقوى فيه الملامة . فالآن ما دام العذر مقبولا ، والوقت مبسوطا ، والعمل ممدودا ، والتّوبة مقبولة ، والذّنب تمحوه الإنابة ، والنّدم والقول فيه مسموعا ، والخير فيه متبوعا ، والحقّ بيّنا ، والطّريق واضحا ، والحجّة لازمة ، فلله الحجّة البالغة ،فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ[ الأنعام : 149 ] .

وآثار مشيئة الهداية بيّنة عند أهل الهدى ، فمن علامة من نعته ، سهولة الطاعة ، ومحبّة الموافقة ، ورؤية النّفس بعين العجز ، والانقطاع عن القيام بالواجب ، أو الموالاة والمؤاخاة والمصافاة والمحبة والمواساة ، والإيثار على النفوس لأهل القرب ، والمواصلة في ذات اللّه عزّ وجلّ ؛ والمعاونة لأهل الولاية ، والذّبّ عن حريم الحقّ ، والتّراضي بالصّبر على ما تقدّم من الأمر ، والاستخفاف وخفّة المؤن ، والتّعلل والتّجري والتّحري ، ومدافعة الأوقات ، والوقوف على حدّ الأمر في إدخال السرور عليهم ومخالطتهم ومجالستهم ، وترك التّرفّع عليهم ، فيهم أوصى اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلّم ، فقال :وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا[ الكهف : 28 ] .

جعلنا اللّه وإياكم ممن عرف حقّ اللّه فاستعمله ، واشتغل به ولم يشتغل عنه ، وحفظ علينا وعليك ما استرعانا ، وأحسن معونتنا وإيّاك على أداء الشّكر ودوام الذّكر ، إنه وليّ الإحسان ، وموعد العبيد الجنان ، وواعدهم بالنيران .

تمّ الكتاب بحمد للّه ومنّه ، وصلّى اللّه على سيدنا محمّد وآله وسلّم .

* * *


 

الكتاب الرابع

أدب المفتقر إلى اللّه

ويليه : خاطر الخير

سئل الشّيخ أبو القاسم - رحمه اللّه - عن أدب المفتقر إلى اللّه عز وجلّ . فقال : « أن ترضى عن اللّه عز وجلّ في جميع الحالات ، ولا تسأل أحدا سوى اللّه تعالى » .

وسئل عن خاطر الخير ، هل هو شيء واحد أو أكثر ؟ فقال :

قد يقع الخاطر الداعي للطاعة على ثلاثة أوجه : خاطر شيطانيّ باعثه وسوسة الشيطان . وخاطر نفسانيّ باعثه الشّهوة وطلب الراحة . وخاطر ربانيّ وباعثه التوفيق .

وتشتبه هذه الخواطر في الدعاء إلى الطاعة ، ولا بدّ من تمييزها لإعمال الصواب منها ، لقوله عليه الصلاة والسّلام : « من فتح له باب من الخير فلينتهزه » . ولا بدّ من ردّ الآخرين ، أما الشيطانيّ فبقوله تعالى :إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ[ الأعراف : 201 ] .

 

والشهواني الذي هو خاطر النفس بقوله صلى اللّه عليه وسلّم : « حفّت النار بالشهوات » . . ولكل واحد من هذه الخواطر علامة يتميّز بها عن صاحبه .الخاطر النفساني :

أما الخاطر النفساني فباعثه الشهوة ، وطلب الراحة . والشهوة تنقسم إلى نفسانيّة كمحبّة العلوّ والجاه والتّشفي عند الغيظ وإصغار المعاند وأمثال ذلك ، وإلى جسمانيّة كالطعام والشّراب والنكاح واللّباس والنّزه وأمثال ذلك .

وللنفس احتياج إلى هذه الملاذ بحسب بعدها عن كلّ واحد منها ، وشدّة توقانها إلى كلّ جنس منها .

فلخاطر النفس منها علامتان قائمتان مقام شاهد عدل على تمييز الخاطر المختصّ بها :

أحدهما حضور هذا الخاطر عند احتياجها إلى بعض هذه الأشياء المشتبهات : مثل حضور التّزويج عند شدة حاجتها إلى النكاح ، وتلبيسها ذلك عليه بأنّ قصدها إعمال قوله صلى اللّه عليه وسلّم : « تناكحوا تناسلوا ؛ فإنّي مكاثر بكم الأمم يوم القيامة » ، وتجنب قوله صلى اللّه عليه وسلّم :

« لا رهبانية في الإسلام » . ومثله في الطعام عند شدّة حاجتها إليه ، فربّما لبّست عليك


 

هذا بدعائك إلى ترك الصيام أو تناول بعض المشتهيات ، بأن تقول إنّ في سرد الصيام إضعاف النفس عن الأمر المحتاج إليه في الطاعات ، [ وإنّ ] في ترك تناول هذا الطعام المشتهى ما كسر قلب المسلم إذا دعي إليه الصّديق ، [ أو ] قلب العيال إذا كان مما جلبته أنت لعيالك . وربما خدعتك بلون آخر ، بأن تقول لك اكسر هذه الشهوة بتناولها هذه الكرّة لئلا يلج عليك هذا الخاطر فيشوّش عليك عبادتك ، وأمثال ذلك في سائر الشبهات .

كلّ هذا من تلبيسها وتدليسها . ومثله عندما تكدّها بالعبادة ، وتلزمها على الكراهية الطاعة ، فتختار لك نهي النبيّ صلى اللّه عليه وسلّم عن التبتّل ، وعن أتعاب النفس ، مثل قوله عليه الصلاة والسلام : « أكلفوا من العمل ما تطيقون » ،

ومثل قوله عليه الصلاة والسّلام : « إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى » . بل ربما دعتك عند إكثارك إتعابها ومنعها شهواتها ، إلى ما فيه إهلاكها رأسا أو منعها من تصرفاتها ، فتحمّلك إلى ما يؤدّي إلى القتل أو السجن وأمثال ذلك ، لما يتخيّل في هاتين الحالتين من الرّاحة وزوال التعب عنها .

فأحد الشاهدين في هذا الباب : أن يكون قد تقدّم لها الكد والأتعاب عند طلبها الراحة ، وتقدّم لها الحاجة إلى الشيء المشتهى عند باعث الشهوة .

فيعتبرها بهذين الحالين ، فإن كان قد تقدّم أحد هاتين الحالتين ، علمت أنّ الخاطر من النفس ، وحاجتها إلى ذلك هو الّذي حركها إلى الدعاء إليه ، ومجموع ذلك أن يكون الخاطر شهوانيا ، أو لطلب الراحة ، فالغالب على هذا الخاطر أنه من النفس .

والشاهد الثاني : إلحاح بهذا الخاطر وعدم انقطاعه ، حتى يأتي مواليا ، كلّما جاهدت في دفعه عن نفسك ألّح عليك ولجّ ، ولا ينفع فيه الاستعاذة ولا التخويف ولا التحذير ولا الترغيب ، بل هو ملح دائم الإلحاح ، فهذا من أكبر الدلائل على أنّه من النفس ، إذ هي كالصبيّ متى منع من الشيء ازداد لجاجا في طلبه .

فهاتان الحالتان شاهدا عدل متى اجتمعا لا تشكّ في أنّ الخاطر من النفس . ومداواتها عند هذه القضية بالمخالفة المحضة ، والإتعاب الشديد .

فتمنعها الراحة عندما يكون الباعث للخاطر كثرة الكد والإتعاب بالعبادة ، أو بوصف وضعه أثقل ، ليكون ذلك أقمع لها من التحريك لمثل هذا الخاطر . وإن كان [ الباعث للخاطر ] شهوانيا جعل دواؤه الحرمان للشيء الذي طلبته ، أو تمنع من مشتهى آخر لها ، ليكون ذلك أمنع لها .


 

الخاطر الشيطاني :

وأما الخاطر الشيطاني فله أيضا علامتان :

إحداهما : تنبيهه ببعض ما تحتاج النفس إليه بداعي الشهوة أو داعي الراحة في الأوقات المألوف تحصيل النفس مطلوباتها فيها ، والفرق بينه وبين النفساني في هذا الباب أن النفساني يلح ولا يذهب ، وهذا يذهب تارة ويكرّ . فكلّ ما لهي الإنسان عنه بسبب فتور النفس ألّح عليها بالتذكير للشهوة ، وتكون حركة النفس عند هذا التذكير أكثر من الخاطر النفساني ، إذا الخاطر النفساني إنما خطر لشدّة الحاجة .

والثانية : أنّ هذا الخاطر الشيطاني يبتدئ ويطرأ على عقله ، والخاطر النفساني متّصل ، محرّك للطبع نحو الشهوة أو الراحة ، وذلك أنّ وسوسة الشيطان إنما هي تجري مجرى مخاطبة الإنسان للإنسان ، غير أنّ الفرق بين هذا وذاك ألا يراه ، والإنسان يحرّك قلبك من جهة حاسة الأذن عند الخطاب أو التصويت ، والبصر عند الإشارة ، والحس عند الغمز ، والشيطان يحرّك ذلك من الوسوسة وغمز القلب والخطورة فيه ، وهو لا يعلم المغيب ، وإنما يأتي إلى النفس من جهة الأخلاق التي ألف انفعالها له ؛ فهذا الفرق بين النفساني والشيطاني .

 

الخاطر الرباني :

أما الخاطر الرّباني فإنّه يستدلّ عليه بشاهدين أيضا :

أحدهما : وهو المقدّم ، موافقة الشرع للخاطر وشهادته بصحته . والثاني : فتور النفس عن قبوله ابتداء ، حتى يحصل لها نوع الترغيب ، وهو الهجوم على النفس من غير مقدّمات له كالشيطاني . إلا أنّ سرعة النفس لموافقة الخاطر الشيطاني أكثر ، وهي له أبدر ، وهي عن هذا [ الخاطر الرّبّاني ] أكسل ؛ إذ الشيطان إنما يجيؤها من شهواتها وراحاتها ، وهذا يأتي من جهة التكليف ، وتنفر نفرة من التكليف عند وروده عليها . فهذا الفرق بين هذا [ وبين ] الخاطر الشيطاني والخاطر النفساني .

فإذا خطر لك [ خاطر الخير ] فزنه بهذه الموازين الثلاث ، واستشهد في كلّ فصل منه بالشواهد التي أشرنا لك ، فتميّز لك الخواطر ، فاصنع في الشيطاني والنفساني ما كنا ذكرناه لك في المدافعة الحاسمة لهما ، وبادر لهذا الخاطر الرباني ، ودع التشاغل والتضييع ، فإنّ الوقت ضيق والحال يتحول .


 

وإياك وتسويل النفس ووسواس الشيطان ، فإنّ هذا الباب من أبواب الخير قد انفتح لك فارحبه حتى تستأنفه من أوّله .

ومثاله : أن يكون قد خطر الخاطر في صيام بعض شهر قد حثّ الشرع على صيامه ، أو قيام بعض ليله ، فتقول دع هذا حتى استكمل الليل بأوّله أو الشهر بتمامه . وإنما ذلك مخادعة ، ليسدّ باب التوفيق المجزي .

فإن هذه الخواطر لا تدوم ، وإنما هي سريعة الاستحالة ، والمبادرة لإمساك الخاطر الرباني مأمور الشرع ، وفيه فائدتان :

إحداهما : أن يكون وقت أكمل من وقت ، كنحو الأوقات التي ورد الخبر عن مسامحة اللّه عزّ وجلّ ، وتنزّل الرحمة والغفران ، ونظرات الحقّ سبحانه وتعالى إلى الخلق لا تحصى .

والأخرى : إيلاف النفس للمبادرة لامتثال الأوامر والطاعات عندما ترجّى بركة العمل ، وفيه إزالة حال التكاسل عنها ، وذلك للتعرّض لنفحات رحمة اللّه تعالى . وهذا في رياضة النفس على المبادرة إلى امتثال الأوامر مفيد أيضا ، واللّه أعلم وأحكم .

* * *

الكتاب الخامس كتاب الفناء

كلام الإمام أبي القاسم ، الجنيد بن محمد ، قدّس اللّه روحه :

الحمد للّه الذي قطع العلائق على المنقطعين إليه ، ووهب الحقائق للمتّصلين به المعتمدين عليه ، حين أوجدهم ووهب لهم حبّه ، فأثبت العارفين في حزبه ، وجعلهم درجات في مواهبه ، وأراهم قوّة أبداها عنه ، ووهبهم منّة من فضله ، فلم تعترض عليهم الخطرات بملكها ، ولم تلتق بهم الصفات المسببة للنقائص في نسبتها ، لانتسابهم إلى حقائق التوحيد ، بنفاذ التجريد ، فيما كانت به الدعوة ، ووجدت به أسباب الحظوة ، من بوادي الغيوب وقرب المحبوب .

ثم سمعته يقول : وهبنيه ثم استتر بي عني ، فأنا أضرّ الأشياء علىّ ، الويل لي مني ، أكادني وعنه بي خدعني ، كان حضوري سبب فقدي ، وكانت متعتي بمشاهدتي كمال جهدي ، فالآن عدمت قواي لعناء سرّي . لا أجد ذوق الوجود ، ولا أخلو من تمكين الشهود ، ولا أجد نعيما من جنس النعيم ، ولا [ أجد ] التعذيب من جنس التعذيب ، فطارت المذاقات عني ، وتفانت اللغات من وصفي فلا صفة تبدي ولا داعية تحدي . كان الأمر في إبدائه ، كما لم يزل في ابتدائه .


 

قلت [ للجنيد ] : فيما أبان منك هذا النطق « ولا صفة تبدو ولا داعية تحدو » ؟

قال : نطقت بغيبتي عن حالي ، ثم أبدي على من شاهد قاهر وظاهر شاهر .

أفناني بإنشائي كما أنشاني بدنيا في حال فنائي ، فلم أؤثر عليه لبراءته من الآثار ، ولم أخبر عنه إذا كان متوليا للإخبار . أليس قد محى رسمي بصفته ، وبامتحائي فات علمي في قربه ، فهو المبدئ كما هو المعيد .

 

قلت : فما قولك « أفناني بإنشائي كما أنشأني بدنيا في حال فنائي » ؟

قال : أليس تعلم أنّه عز وجلّ قال :وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا[ الأعراف : 172 ] ،

فقد أخبرك عز وجلّ أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم ، إذ كان واجدا للخليقة بغير معنى وجودها لأنفسها ، بالمعنى الذي لا يعلمه غيره ، ولا يجده سواه ، فقد كان واجدا محيطا شاهدا عليهم بدنيا في حال فنائهم عن بقائهم ، الذين كانوا [ في الأزل ] للأزل ، فذلك هو الوجود الرباني والإدراك الإلهي الذي لا ينبغي إلا له جلّ وعزّ ؛ ولذلك قلنا إنه إذا كان واجدا للعبد يرى عليه مراده من حيث يشاء بصفته المتعالية التي لا يشارك فيها ، كان ذلك الوجود أتم الوجود وأمضاه لا محالة ، وهو أولى وأغلب وأحق بالغلبة والقهر وصحة الاستيلاء على ما يبدو عليه ، حتى يمحي رسمه عامة ويذهب وجوده ، إذ لا صفة بشرية ووجود ليس يقوم به لما ذكرنا ، تعاليا من الحق وقهره ، إنما هذا تلبس على الأرواح [ ما لها من الأزلية ] .

 

نعيم ليس [ من ] جنس النعيم المعقول ، وسخاء بالحق لا من جنس السخاء المعلوم ، إذ كان عزّ وجلّ لا يحس ولا يحس ولا يبدل ذاتيته ، ولا يعلم أحد كيفية لطائفه في خلقه ، وإنما معنى ذلك رباني لا يعلمه غيره ولا يقدر عليه إلا هو ، ولهذا قلنا إن الحق أفنى ما بدا عليه ، وإذا استولى كان أولى بالاستيلاء وأحق بالغلبة والقهر .

قلت : فما يحد أهل هذه الصفة ، وقد محوت اسم وجودهم وعلومهم ؟

قال : وجودهم بالحق بهم وما بدا عليهم بقول وسلطان غالب ، لا ما طالبوه فتذكروه وتوهموه بعد الغلبة ، فيمحقها ويفنيها ، فإنه غير متشبث بهم ولا منسوب إليهم ، وكيف يصفون أو يجدون ما لم يقوموا فيحملوه ، أو يقاربوه فيعلموه ، وإنّ الدليل على ذلك من الخبر الموجود ، أليس قد روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلّم أنه قال : قال اللّه عزّ وجلّ « لا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به » .

وفي الحديث زيادة في


 

الكلام غير أني قصدت الحجة منه في هذا الموضع ؛ فإذا كان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به فكيف تكيف ذلك بكيفيته أو تحده بحد تعلمه ؟ ولو ادعى ذلك مدع لأبطل في دعواه ، لأنّا لا نعلم ذلك كائنا بجهة من الجهات تعلم أو تعرف ، وإنما معنى ذلك أنه يؤيده ويوفقه ويهديه ويشهده ما شاء كيف شاء بإصابة الصواب وموافقة الحق ، وذلك فعل اللّه عزّ وجلّ فيه ومواهبه له ، منسوبة إليه لا إلى الواجد لها ، لأنها لم تكن عنه ولا منه ولا به ، وإنما كانت واقعة عليه من غيره ، وهي لغيرها أولى وبه أحرى ، وكذلك جاز أن تكون بهذه الصفة الخفية ، وهي غير منتسبة به على النحو الذي ذكرناه .

قلت : كيف يكون الحضور سبب الفقد والمتعة بالمشاهدة كمال الجهد ، وإنما علم الناس ها هنا أنهم يتمتعون ويجدون بالحضور ، لا يجهدون في ذلك ولا يفقدون ؟ قال :

ذلك علم العامة المعروف ، وسبيل وجودهم الموصوف ، فأما أهل الخاصة والخاصة والمختصة ، الذين غربوا لغربة أحوالهم ، فإن حضورهم فقد ، ومتعتهم بالمشاهدة جهر .

لأنهم قد محوا عن كل رسم ومعنى يجدونه بهم أو يشهدونه من حيث هم ، بما استولى عليهم فمحاهم ، وعن صفاتهم أفناهم ، حتى قام بهم وقام عنهم بما لهم ، وثبت دواعي ذلك عليهم وفيهم من جنس كماله وتمامه ، فوجدوا النعيم به غيبا بأمتع الوجود على غير سبيل الوجود ، لاستئثار الحق واستيلاء القهر ، فلما فقدت الأرواح النعيم الغيبي الذي لا تحابيه النفوس ، ولا تقاومه الجسوس ، ألفت فناها عنها ووجدت بقاها يمنعه فناها . فإذا أحضرها أنيتها وأوجدها جنسها ، استترت بذلك عما كانت به وكان بها ، فعصت بنفسها وألفت بجنسها ، إذ أفقدها التمام الأول والإكرام الأكمل ، وردت إلى تعلم وتعقل ، فالحسرة فيها مستكنة ، وغصة الفقد بها متصلة في حال حضورها وكائن وجودها ، ولذلك تاقت إلى الشهوة ورجعت إلى الحاجة ، وكيف لا يكلمها إخراجها بعد غيابها وتوقانها بعد امتلائها .

فمن هاهنا عرجت نفوس العارفين إلى الأماكن النضرة والمناظر الأنيقة والرياض الخضرة ، وكان ما سوى ذلك عذابا عليها مما تحن إليه من أمرها الأول الذي تشمله الغيوب ويستأثر به المحبوب . ويحك إنه إشارته إلى الصفة إشارة لا يشارك فيها ، ومراده فيها ومنها هو ما استأثر به عليها . فمن كان مستترا أو ذاكرا لها أو مختصا بها ، كان لا ينبغي للمراد بذلك حضور البوادي عليه ولا البواعث منه إليه ، فتأمن صفته عن الفناء بحقيقته ، ذاهبا عن الحضور ما هو به ، اقتدارا من الغالب له القائم به المستولي عليه . حتى إذا أحضر وأشهد ضمن حضوره الاستتار ، وأمحت في شهوده الآثار ، حتى لا يجد السبيل إلى درك


 

الشفاء على خالص الوجود المستولي عليه من الحق تعالى ، كذلك يرى في صفته العليا وأسمائه الحسنى . وإنما جرت سنة البلاء على أهل البلاء من هاهنا ، حتى جاذبوا وأقاموا ولم ينخدعوا ، أقيم عليهم ما محقهم في نفس القوة وعلو المرتبة وشرف النسبة .

قلت : فما أعجب ما أخبرتني به ، وإن أهل هذه النسبة العالية ليجري عليهم البلاء ؟

فكيف ذلك حتى أعلمه ؟ قال : إنهم لما طلبوه في مراده ومانعوه عن أنفسهم ، فطلبوا له في استيلائه عليهم بساط البلاء على صفاتهم ، لأن لذة الأشياء فيهم ، سترهم به ليقضوا بإنيتهم ويحترقوا بحسوسهم ويلذوا برؤية أنفسهم ، في مواطن الفخر ونتائج الذكر وغلبات القهر . وأنّى لك بعلم ذلك ؟ !

وليس يعلمه إلا أهله ولا يجده سواهم ولا يطيقه غيرهم . أو تدري لما طالبوه ومانعوه فتوسلوا بما منه بدا إليه واستعانوا في التوسل بالحقائق عليه ؟ لأنه أوجدهم وجوده لهم وثبت فيهم وعليهم غيب سرائره الواصلة إليه ، فامتحت الآثار ، وانقطعت الأوطار ، حتى توالت النسب ، وتعالت الرتب ، بفقدان الحس وفناء النفس .

ثم أحضرهم الفناء في فنائهم ، وأشهدهم الوجود في وجودهم ؛ فكان ما أحضرهم منهم وأشهدهم من أنفسهم سترا خفيا وحجابا لطيفا ، أدركوا به غصة الفقد وشدة الجهد ، لاستتار ما لا تلحق به العلل ، إحضار ما يلحق العلل به وتليق الآثار بصفته فطالبوه فيما كان مطالبهم ، وما يعرفه من نفوسهم ، لأنهم حلوا بمحل القوة ، ونالوا حقائق الحظوة ، فأقيم عليهم مشغلا لهم ، فنشأ منه فيهم تمام كان ولا كان على الصفة ، وإن كانت غصة البلاء تزيد . قلت : فصف لي تلوين البلاء عليهم في موطنهم العجيب ، ومنزلهم القريب . قال : إنهم استغنوا بما كان بدا ، فخرجوا عن الفاقة ، وتركوا المطالعة ، وألبسوا الظفر بجهد الاقتدار وصولة الافتخار ، وكانوا بذلك ناظرين إلى الأشياء بما لهم ، دون التعريج على ما له بإقامة الفرق والفصل ، لما رأوا ووجدوا بالعينين ، فاستولى بالأمرين ، فإذا بدت عليهم بوادي الحق ، ألجأ منه لهم مما لهم ، على التجريد اقتدارا وافتخارا .

خرجوا عن دلك غير مشاكيين له ، مؤثرين لما انفردت به متعتهم ، دالة عليه ويقينا بالسماحة ، لا يرون رجوعا عليهم ولا مطالبة تجري عليهم . فإذا كان ذلك أحاط بهم المكر من حيث لا يعلمون .

قلت : قد أغربت على عقلي ، وزدت في خبالي ، فادن من فهمي .

قال : إن أهل البلاء لما اتصلوا بحادث الحق فيهم ، وجاري حكمه عليهم ، تغربت أسرارهم ، وتاهت أرواحهم عمر الأبد ، لا تأويها المواطن ولا تجنها الأماكن ، تحن إلى



 

مبتليها حنينا وتئن بفناء النائي عنها أنينا ، قد شجاها فقدانها وذلها وجدانها ، أسوفة عليه ، موجعة لديه ، متشوقة في الوجد إليه ، أعقبها بها ظمأ ، ويزيد الظمأ في أحشائها نماء ، فهي الكلفة بمعرفتها ، السخية بفقدها . أقام لها عطشها إليه مع كل مأتم مأتما ، ورفع لها في كل كسوة علما ، يذيقها طعم الفقر ، ويجدد عليها رؤية احتمال الجهد ، ممالة مع آثار المؤن ، تواقة إلى مثلات الشجى ، طلابة لشفائها ، متعلقة بآثار المحبوب فيما يبدو ، وكل إبعاد تراه بعين الدنو .

خفيت خفاء لفقد سترها فيما استترت وابتلاها فما نكلت . وكيف تستتر ، وهي مأسورة لديه ، محتسبة له بين يديه .

سمحت له بهلاكها فيما أبدى عليها من ابتلائها ، ولم تعزم على الاهتمام بأنفسها استغناء بحبه وتعلقا به في محل قربه . ترى مقادير الألحاظ منه في سرعة يقظتها ، يستغرق هلاكها بالجاري عليها في دوام البقاء وتشديد البلاء ، حتى أمتعها بلاؤها ، وآنسها به بقاؤها ، لما رأته قريبا لمنعها واتيا بلسعتها ، فلم تلو عن حمله كلا لا ولا برمت به ملالا . هم الأبطال فيما جرى عليهم لما أسرّ إليهم .

أقاموا في قهره ، انتظار أمره ، ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا .

وأهل البلاء يقسّمون على قسمين :

فمنهم من أوى إلى بلائه ، فساكن مراده ، وما بلي هواه في الأشياء إيثارا لمتعة نفسه ، وتمتعه بوجود حسه حتى أنكى به ومكر به وأزال بالمكر عنه مزايلة حاله ، واعتد ببلائه شرفا ، ورأى أن سبب الخروج عنه سبب النقصان والضعف .

* * *

 

الكتاب السادس كلام في الألوهية

قال أبو القاسم الجنيد رحمه اللّه تعالى :

اعتزل الحق بهم ، وجردت الألوهية لهم ، فكان أول وارد الحق بتأدية شواهد إبرازه لهم وإنزاله إياهم في أول الألوهية ، أنزل الأزلية على سرمد الأبد ، في ديمومية البقاء إلى ما ليس له غاية ولا منتهى ، ثم أتبع مع ذلك بشاهد منيع العز وطول الفخر وظهور القهر وشامخ العلو وقاهر السطوة وشدة الصولة وعظيم الكبرياء وجليل الجبرياء ، فاعتزل منفردا بذلك وتكبر وتعالى بالعظمة ، فكان الحق بالحق للحق قائما ، وكان الحق بالحق للحكم حاكما ، وتوحد في تفرد جبروته أحدا فردا صمدا ، وهذا أول شاهد إنزاله من أنزل في غلبة هذا


 

الاسم عليه وأحله به لديه ، وتابع مع ذلك ما أمكن في إجنان صونه به له من أسمائه الحسنى ما وقعت إليه الإشارة وما لم يقع من أسماء الجمع والتفرقة على ما شاء من الإبداء والإخفاء ، فمنها ما بدت في شواهدها ، وظهرت في مطالبها ، وعلت في مذاهبها ، وسرحت في مساكنها ، وترددت في مراكبها ، ثم تفانت النعوت بجواز الاحتواء على ما تكيفته الحقيقة فسترته ، وكمنت فيه فغيبته ، وطوت عليه فكتمته ، وتمكنت منه فأتلفته ، وغلبت عليه فقهرته ، ثم تذهب بواديها على الانفصال من غير انفصام ، وعلا بالإلف من غير جنس النظام ، فعالى بظاهره وبظافر أبداه بتمكين أحكامه ، فتصاول عند ذلك الصول ، وتفاخر الفخر ، وتقاهر القهر ، فأين الأين عند ذلك ، وليس يحين أينه ، وأين ذهاب الأين على دوام أزليته ، وأين ما لا أين له ولا أين فيه على تفرد الألوهية ، وهو بعض ما لوح الحق به في اسم الجمع ، ثم تجري فيهم ما توقع منهم به النظر ، في شواهد ما لاقى الحق به من هذا نعته على اسمه المنفرد وعلمه المجرد ،

فهذه إشارة ما لا يقع به الشرح أكثر ، ثم لا ينال فهم ذلك من جنس الإشارة إلا بتقدم الكون فيما تقدم به النعت ، وقد طويت ما فيها ولم أفصح به فخذها من حيث لا تنال به إلا به إن أدرك الحق بإدراكك في إدراكك ، ومن بعض ما أوجد الحق في اسم التفرقة أن حبس به إظهار ما ألبسهم وألبسهم إظهار ما به حبسهم ، فكانوا في إبدائه شواهد مكنون إخفائه ، فكلما طالعهم بما لاحظهم أرمس مستدرك المكان بكون خفي الكتمان ،

وهم في شواهد ما يطالعهم به على ترادف ما أطلعهم به عليه ، ثم يطالعهم فيما به يطالعهم ، مطالعات سر المحترز المرتجف عليهم به في إظهار ما كمنه ، وذلك قبل أن يشرف بهم على حجاب غريب هذه الصفة ، ثم يبدي لهم شواهد البذل ومستعطفات سوابق الأمر ،

ويظهر لهم به عند إقباله به عليهم ، وإجلاله منزلة لديهم بأنباء كون دوارك الوفاء ، والاحتواء على كل محبوب ومطلوب ومرغوب ، باستتمام كمال المصافاة واتحاد منح الموالاة ، ثم يعطف عليهم في قرار أمن ما أحلهم فيه بإشهاده إياهم الغيبيّة عنهم ، والأخذ بما أقبل به عليهم ،

وانتزاع لكل ما آنسهم من منحه وعطف عليهم به من بذله ، وأوقف عليهم لما يريد أن يبلغهم إليه ، ويطلبهم به ، أضداد الشواهد المتقدمة ، فلو رأيتهم بعين إشهاده إياهم ، وكون فيما فيه أحلهم ، لرأيت رهائن أشباح أسرى ، واجتناح جوائب أرواح سري ، قد رهقوا بالمحو في ملكوت عزه ، وأرهقوا بفرط ابتلاء الحق لهم بفقده ، مما هم به منه يصرخون ، وبه إليه في غمرات


 

الكرب يضجون ، قد جمع أنفاسهم في أنفاسهم ، وحبس أرواحهم في أرواحهم ، فهم به عليه يترددون ، ومنه به إليه يتوحدون ، وهذا بعض علم التوحيد مما لوح إليه به صفوته .

تمّ بحمد اللّه ومنّه ، وصلّى اللّه على محمد وآله وسلّم .

* * *

الكتاب السابع

في الفرق بين الإخلاص والصدق

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه وسلام على عباده الذين اصطفى .

قال الشيخ الإمام أبو القاسم الجنيد قدّس اللّه روحه ونور ضريحه :

آنسك اللّه بقربه ، وجدّد لك في كل وقت من الزيادة في بره ، وسترك في ظلال جناح رحمته ، وجعل مأواك في جواره الذي أسكن فيه أرواح أهل خاصته ، الذين تولاهم بحياطته ، فلم يلحقهم لاحق ، ولم يقطعهم قاطع ، ولم يشغلهم شاغل ؛ وصلى اللّه على نبيه وعلى أهل بيته وأصحابه وسلم .

أما بعد . . فإنك سألت عن الفرق بين الإخلاص والصدق ، فمعنى الصدق القيام على النفس بالحراسة والرعاية لها ، بعد الوفاء منك بما عليك مما دلك العلم عليه ، في إقامة حدود الأحوال في الظاهر ، مع حسن القصد إلى اللّه عز وجل في أول الفعل ؛ فالصدق موجود في حقيقة صفات الإرادة ، عند بداية الإرادة ، بالقيام بما دعيت إليه في حقيقة إرادتك ، مما طرق الحق لك إليه ، والمبادرة فيه بالخروج عن موافقة النفس لطلب الراحة ، مع انتصاب العلم لك ، وموافقتك له ، بخروجك من التأويل . فالصدق موجود قبل وجود حقيقة الإخلاص ، وقد قال اللّه عز وجلّ :لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ[ الأحزاب : 8 ] ، ثم سألهم بعد ما أتوا بالصدق : ما أرادوا بصدقهم . وقد سمى اللّه تعالى الصادقين في موضع آخر على غير هذا المعنى ، فقال عز وجلّ :هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ[ المائدة : 119 ] ، فكان الصدق في الأول علما للخلق وفصلا بينهم وبين الإخلاص ، لأن الإخلاص موجود في صفة الخلق عند حالين : حال الاعتقاد والنية ، وحال الفعل والعمل .


 

فالإخلاص في صفة الصادق موجود في العقد غير منسوب إلى الصدق إلا بوجود [ أول الإخلاص في باطنه ] ، وباق عليه علم موارد الأشياء عند ممارسة الفعل بالجوارح عن عوارض أضداد الإخلاص والتخلص لفعله ، حتى سمي مخلصا .

فأول الإخلاص أن يفرد اللّه تعالى بالإرادة ، والثاني أن يخلص الفعل من الآفة .

فالصدق الذي هو عند الخلق صدق ، فرق بينه وبين الإخلاص ، والصدق الذي عند اللّه تعالى هو الصدق مع الإخلاص .

وقد يقال : فلان صادق لما يرى عليه من صفات العلم وبذل المجهود منه ، ولا يقال : فلان مخلص لغيبة الخلق عن علم إخلاصه ، فالصدق مشهود في صفة الصادق ، والإخلاص معدوم من مشهده .

فالصادق موصوف بحسن صفات شاهده ، منسوب إلى الصدق بدلائل ظاهره ، مع وجود أوائل الإخلاص في باطنه ، باق عليه علم موارد الأشياء عند وروده ، يقبل ما وافق الأول من معنى قصده ، ويرد ما خلف علم ظاهره . فالإخلاص يعلو الصدق لوجود زيادة العلم ، مع وجود قوة الرد لما عارض من وسواس العدو ، لوجود صفاء القلب ، ولا يعلو الإخلاص شيء ، ولا يقال إخلاص المخلص ، لأنه لا غاية بعد الإخلاص ، وقال : قال اللّه تعالى :لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ[ الأحزاب : 8 ] ، لم يقل : ( ليسأل المخلصين عن إخلاصهم ) ؛ لأن غايته من الخلق فيما استعبدهم به ، فالإخلاص يعلو الصدق والصدق دونه .

والصدق على ثلاثة أشياء :

صادق بلسانه ، وهو القائل بالحق له كان أم عليه بخروجه عن التأويل ، والتدليس ،

وصادق في فعله ، وهو الباذل للمجهود من نفسه بإخراج وجود راحته .

وصادق بقلبه وهو القصد إليه في فعله ، فعند وجود هذه الخصال يكون صادقا ، مع أن الصدق موجود من الصادق في كل حال لا يستغني عنه في حال من الأحوال .

وقد فسرت جملة في أول الكتاب ، فالصدق في التورع والتزهد والزهد والتوكل والرضا والمحبة والشوق والتوحيد لأهل الصلاة ، في صفات المريد والمراد ، والذاكر والمذكور ،

وكل ذلك لا بد من أن يتولد له شاهد ظاهر يشهد له بالصدق ، ومعنى الإخلاص إفراد النية للّه عز وجل وحسن القصد إليه ، بحضور العقل عند موارد الأشياء ، وبيان تلوين الأمور عليه ، بما وافق الأول في معنى صحة قصده ، ورد ما خالف ذلك من موارد النفس والعدو ، مع ذهاب رؤية النفس بوجود رؤية المنة ، مع وجود حسن العزاء


 

عند المذمة من الخلق ، لوجود حسن المعرفة بالفضل ، ووجود الكراهة عند المحمدة ، لخوف فساد المعرفة بذهاب رؤية الخلق عند مصادفة الأحوال ، فهذا علم مشهود عند شاهد المخلص معدوم عند شاهد الخلق .

فالصدق والإخلاص يتفقان في حال المخلص ، وينفرد الصدق بالصادق ، مع أول وجود الإخلاص ، فغاية وصف الموصوفين بالعبودية في الاستعباد هو الإخلاص ، والصادق في حقيقة صدقه يتولى بالإخلاص ، والمخلص في حقيقة إخلاصه يتولى بالكفاية ، لوجود نفاذ البصيرة ، وذو البصيرة في حقيقة نفاذ بصيرته يتولى بالحياطة مع جميع ما يخشى فساده ، ثم وقع الاستيلاء بالتولي بعد ذلك ، فقهر العقل فأفناه عن مقاومة الواجد ، فعند وجود حقيقة التولي بالخصوصية ، خرج عن عبادته للّه بالنفوسية ، ودخل في عبادته عز وجل بالوحدانية ، فكان ذلك أول وجوده حقيقة توحيد الخصوص ، بذهاب رؤية الأشياء لقيام رؤية الحق .

فجرت الأحوال عليه في مجاري صفاتها ، لمراد مليكه فيها ، بسقوط صفاتها منها ، فعند وصول العبد إلى هذا ، خرج عن صفة وجود ما يوصف بالعقل ، فصارت عوارض العقل عند وجود حقيقة التوحيد ، وساوس تحتاج إلى أن يردها ، لأن العقل كان قيم العبد عند قيام العبد بالعبودية ، من حيث العبد ، فعند وقوع حقائق الملكية من اللّه عز وجل له ، ذهب العبد في العبودية من غير المعدن الأول ، فكان موجودا في الصفة معدوما من المشرب ، فصار عند ذلك موجودا مفقودا .


التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: