الثلاثاء، 16 يونيو 2020

باب في تفسير ألفاظ تدور بين الطائفة من كلام سيد الطائفة .كتاب الإمام الجنيد سيد الطائفتين إعداد الشيخ أحمد فريد المزيدي

باب في تفسير ألفاظ تدور بين الطائفة من كلام سيد الطائفة .كتاب الإمام الجنيد سيد الطائفتين إعداد الشيخ أحمد فريد المزيدي

باب في تفسير ألفاظ تدور بين الطائفة من كلام سيد الطائفة .كتاب الإمام الجنيد سيد الطائفتين إعداد الشيخ أحمد فريد المزيدي

الإمام أبو القاسم الجنيد بن محمد ابن الجنيد الخراز القواريري قدس اللّه روحه

باب في تفسير ألفاظ تدور بين الطائفة من كلام سيد الطائفة 

الوقت

حكي أن الجنيد حضر ليلة في جمع من الأصحاب في دار دعي إليها ، فلما دخل الدار رأى شخصا أجنبيّا بين الجماعة ، فدعاه وأعطاه بردته ، وقال له : امض بها إلى السوق وارهنها على منوين من السكر للفقراء ، فلما خرج الرجل من بينهم أغلق الباب دونه

................................................

( 1 ) انظر في ترجمته : الوافي في الوفيات ( 1 / 2063 ) ، ومعجم البلدان ( 1 / 83 ) .


 

وناداه : يا فلان ، خذ البردة ولا ترجع إلى هاهنا ، فقيل له في ذلك ،

فقال : اشتريت ببردتي لكم صفاء الوقت في هذه الليلة بإخراج من ليس منكم من بينكم «1».

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه : الوقت عزيز « 2 » ، إذا فات لا يدرك « 3 » .

وقال أبو العباس بن مسروق مررت مع الجنيد رحمه اللّه في بعض دروب بغداد وإذا مغن يغنى :

منازل كنت تهواها وتألفها * أيام أنت على الأيام منصور

فبكى الجنيد بكاء شديدا ،

ثم قال لي : يا أبا العباس ، ما أطيب منازل الألفة والأنس وأوحش مقامات المخالفة لا أزال أحنّ إلى حال بدايتي وجدة سعيي وركوبي الأهوال طمعا في الوصول ، وها أنا ذا في أيام الفترة أتأسف على أوقاتي الماضية « 4 » .

حكي عن الجنيد رضي اللّه عنه أنه قال : رأيت درويشا في البادية ، جالسا تحت أشواك شجرة أم غيلان ، في مكان صعب وبمشقّة تامة ، فقلت : يا أخي ، ما أجلسك هنا ؟ فقال : اعلم أنه كان لي وقت ضاع هنا ، فجلست الآن أتوجع عليه ، فقلت : منذ كم من السنين ؟

قال : منذ اثنتي عشرة سنة ، فليبذل الشيخ الآن همة في الأمر - يطلب الدرويش من الجنيد أن يبذل همة لمساعدته - لعلّي أصل إلى مرادي ، وأستعيد وقتي .

قال الجنيد : فمضيت وأدّيت الحج ، ودعوت له ، فاستجيبت الدعوة ، وبلغ مراده ، فلما رجعت وجدته جالسا في نفس المكان ، فسألته ،

فقال : أيها الشيخ ، لقد كنت ألازم المكان الذي كان محل وحشتي وأضعت فيه رأس مالي ، فهل يجوز الآن أن أترك المكان الذي استعدت فيه مالي وهو محل أنسي ؟ فليذهب الشيخ بسلام ، لأني سأخلط ترابي بتراب

.............................................

( 1 ) انظر : روض الرياحين ( ص 182 ) .

( 2 ) الوقت : عبارة عن حالك ، وهو ما يقتضيه استعدادك لغير مجهول في زمن الحال الذي لا تعلق له بالماضي والمستقبل فلا يظهر فيك من شؤون الحق الذي هو عليها الآن ، إلا بما يطلبه استعدادا ، فالحكم للاستعداد وشأن الحق محكوم عليه . وهذا هو مذهب التحقيق ، فظهور الحق في الأعيان بحسب ما يعطيه استعدادها ، فلذلك ينبع فيها فيض وجود الحق ، وهو في نفسه على وحدته الذاتية ، وإطلاقه وتجرده وتقدسه غنيّ عن العالمين .

( 3 ) انظر : طبقات السلمي ( ص 161 ) ، واللمع للطوسي ( ص 418 ) .

( 4 ) انظر : روضة الحبور لابن الأطعاني ( ص 125 ) بتحقيقنا .


 هذا الموضع ، حتى أرفع رأسي يوم القيامة من هذا التراب ، الذي هو محل أنسي وسروري « 1 » .

في قوله تعالى :فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ[ الشرح : 7 ] قال الجنيد : إذا فرغت من أمر الخلق فاجتهد في عبادة الحق « 2 » .

وقال يوما لأصحابه : أتدرون أين يذهب بكم ، وتدرون لما خلقتم ، وإلى ماذا تصيرون ؟

فاتقوا اللّه عز وجلّ ، واحفظوا أوقاتكم وساعاتكم ؛ فإنها زائلة عنكم غير راجعة عنكم ، والحسرة في فوتها على الغفلة ، فلو بذل أحدكم ما بذل لم يردّ وقتا فات ، فأوصلوا أورادكم تجدوا منفعتها في دار الإقامة ، لا يشغلكم عن اللّه عز وجلّ قليل الدنيا ؛ فإن قليل الدنيا يشغل عن كثير الآخرة « 3 » .

 

السبب

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه : إن الحقائق اللازمة والقصود القويّة المحكمة لم تبق على أهلها سببا إلا قطعته ، ولا معترضا إلا منعته ، ولا تأويلا موهما لصحة المراد إلا كشفته ، فالحقّ عندهم لصحة الحال مجرد ، والجدّ في دوام السير محدد ، على براهين من العلم واضحة ، ودلائل من الحقّ بيّنة « 4 » .

 

الوصل والوصول والواصل

وصل :

وسئل الجنيد رضي اللّه عنه ما الوصل ؟ قال : ترك ارتكاب الهوى « 5 » .

......................................................................

( 1 ) انظر : كشف المحجوب ( ص 614 ) .

( 2 ) انظر : روح المعاني ( 20 / 109 ) .

( 3 ) قال التادلي في المعزى : قلت هذه من أحسن وصاياه رضي اللّه عنه ؛ فإن الوقت إذا فات لا يرد أبدا بخلاف ما يؤدى فيها كما حكي ذلك في قصة داود الشهيرة حيث قال : ترد عليّ صفاء ذلك الوقت . فأوحى اللّه إليه : هيهات ؛ ما فات من الأوقات لا يرد .

قال الأستاذ أبو القاسم القشيري رضي اللّه عنه : ذهبت طائفة من المشايخ إلى أن الأوقات ليس لها بدل ، وأن من فاته وقت فلا يكون إليه وصول .

( 4 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 287 ) .

( 5 ) انظر : كشف المحجوب ( ص 440 ) .


 

 قال الجنيد : يتصل به من أوصله بقدر ما خصّ به ، وإلا فليس بينه تعالى وبينهم : أي البشر سبب ولا نسب ولا وصل « 1 » .

وصول :

اعلم يا أخي أن الوصول إذا ما سألت عنه مفاوز مهلكة ومناهل متلفة لا تسلك إلا بدليل ، ولا تقطع إلا بدوام ورحيل ، وأنا واصف لك منها مفازة واحدة ، فافهم ما أنعته لك منها ، وقف عندما أشير لك فيها ، واستمع لما أقول ،

وافهم ما أصف : اعلم أن بين يديك مفازة إن كنت ممن أريد بشيء منها واستودعك اللّه من ذلك وأسأله أن يجعل عليك واقية باقية ؛ فإن الخطر في سلوكها عظيم ، والأمر المشاهد في الممر بها جسيم ، فإن من أوائلها أن يوغل بك في برزخ لا أمد له إيغالا ، ويدخل بك بالهجوم فيه إدخالا ، وترسل في جويهنته إرسالا ، ثم تتخلى منك لك ، ويتخلى منك له ، فمن أنت حينئذ ، وماذا يراد بك ، وماذا يراد منك ؟

وأنت حينئذ في محل أمنه روع ، وأنسه وحشة ، وضياؤه ظلمة ، ورفاهيته شدة ، وشهادته غيبة ، وحياته ميتة ، لا درك فيه لطالب ، ولا مهمة فيه لسارب ، ولا نجاة فيه لهارب ، وأوائل ملاقاته اصطلام ، وفواتح بدائعه احتكام ، وعواطف ممره احترام ، فإن غمرتك غوامره انتسفتك بوادره ، وذهب بك في الارتماس ، وأغرقتك بكثيف الانطماس ، فذهبت سفالا في الانغماس إلى غير درك نهاية ولا مستقر لغاية ، فمن المستنقذ لك مما هنالك ، ومن المستخرج لك من تلك المهالك ؟ وأنت في فرط الإياس من كلّ فرج ، مشوه بك في إغراق لجة اللجج ؟

فاحذر ، ثم احذر ؛ فكم من متعرض اختطف ومتكلف انتسف ، وأتلف بالغرّة نفسه ، وأوقع بالسرعة حتفه ، جعلنا اللّه وإيّاك من الناجين ، ولا حرمنا وإيّاك ما خصّ به العارفين .

واعلم يا أخي أنّ الذي وصفته لك من هذه المفاوز وعرّضت ببعض نعته إشارة إلى علم لم أصفه ، وكشف العلم بها يبعد ، والكائن بها يفقد ، فخذ في نعت ما تعرفه من الأحوال ، وما يبلغه النعت والسؤال ، ويوجد في المقاربين والأشكال ، فإن ذلك أقرب بظفرك لظفرك ، وأبعد من حظّك لحظّك ، واحذر من مصادمات ملاقاة الأبطال ، والهجوم على حين وقت النّزال ، والتعرّض لأماكن أهل الكمال ، قبل أن تمات من حياتك ، ثم

.................................................

( 1 ) انظر : مشرب الأرواح ( ص 137 ) .


 

تحيى من وفاتك ، وتخلق خلقا جديدا ، وتكون فريدا وحيدا ، وكل ما وصفته لك إشارة إلى علم ما أريده « 1 » .

الواصل :

قال الجنيد : الواصل هو الحاصل عند ربّه « 2 » .

الإشارة

قال الشيخ الجنيد : من أشار إلى غير اللّه تعالى وسكن إلى غيره ابتلاه بالمحن ، وحجب ذكره عن قلبه وأجراه على لسانه ، فإن انتبه وانقطع إلى اللّه وحده كشف اللّه عنه المحن ، وإن دام على السكون إلى غيره نزع اللّه من قلوب الخلائق الرحمة عليه ، وألبسه لباس الطمع فيهم ، فتزداد مطالبته منهم مع فقدان الرّحمة من قلوبهم ، فتصير حياته عجزا ، وموته كمدا ، وآخرته أسفا ، ونحن نعوذ باللّه من الركون إلى غير اللّه « 3 » .

دخل رجل على الجنيد قدّس اللّه سرّه فسأله عن مسألة ، فأشار الجنيد بعينه إلى السماء ، فقال له الرجل : يا أبا القاسم ، لا تشر إليه ؛ فإنه أقرب إليك من ذلك .

فقال الجنيد : صدقت . وضحك « 4 » .

سئل الزقّاق قدّس اللّه سرّه عن المريد ؟

فقال : حقيقة المريد أن يشير إلى اللّه تعالى ، فيجد اللّه مع نفس الإشارة .

وقيل له : فالذي يستوعب حاله ؟

قال : هو أن يجد اللّه بإسقاط الإشارة « 5 » .

حكي عن الجنيد قدّس اللّه سرّه أنه قال لرجل : هو ذا تشير يا هذا ؟ فكم تشير إليه ؟

دعه يشر إليك « 6 » .

....................................................

( 1 ) انظر : الحلية ( 10 / 259 ) .

( 2 ) انظر : العوارف ( ص 303 ) .

( 3 ) انظر : الطبقات الشعرانية ( 1 / 72 ) .

( 4 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 295 ) .

( 5 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 295 ) .

( 6 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 295 ) .


 

المقام

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه : في طريق اللّه ألف مانع حاجز عن اللّه عز وجلّ ؛ فلا بدّ من الجواز عليهم .

قال أيضا : ألف قصر ، في كل قصر قاطع من قطّاع الطريق موكّل على المريد « 1 » السالك « 2 » ، ولكل موكل مكر وغدر خلاف آخر ، فإذا جاء السالك غدر الموكل معه شيء يعطي به فيمنعه عن الطريق « 3 » ويحجبه عن اللّه ، فإذا كان الأمر بهذه المثابة فلا بدّ من عالم عرف المنجيات والمهلكات حتى تبيّن لهم أسرار المقامات ، ويصرح طريق التخلص عن الآفات « 4 » .

الحال

حكي عن الجنيد أنه قال : الحال نازلة تنزل بالقلوب فلا تدوم « 5 » .

قال الجنيد : والحال نازلة تنزل بالعبد في الحين ، فيحل بالقلب من وجود الرضا والتفويض وغير ذلك ، فيصفو له في الوقت في حاله ووقته ، ويزول « 6 » .

..............................................................

( 1 ) المريد : هو المجرد عن الإرادة ، قال قدّس سرّه في « الفتوحات المكية » : المريد من انقطع إلى اللّه تعالى عن نظر واستبصار وتجرد عن إرادته ؛ إذ علم أنه ما يقع في الوجود إلا ما يريده اللّه تعالى ، لا ما يريده غيره ، فيمحو إرادته في إرادته ، فلا يريد إلا ما يريده الحق كان ما كان على الإجمال .

( 2 ) السالك : هو الذي مشى على المقامات بحاله ، لا بعلمه وتصوره ، فكان العلم الحاصل له من طريق الخبر والاستدلال في مسافة ترقّيه عينا ، يأبى عن ورود الشبه المضلة عليه .

( 3 ) الطريق : عبارة عن مراسم اللّه تعالى ، وأحكامه التكليفية المشروعة التي لا رخصة فيها ، فإن تتبع الرخص سبب الطبيعة المقتضية الإرسال والسراح ، والنفيس في مشتاق التكليف يعطي الراحة في الطريق ، والراحة تعطي الوقفة ، ومقتضى الطريق إلى الحق استمرار المشي عليه بلا وقفة وفترة .

( 4 ) وذكر أن الخضر عليه السّلام قال : بين العبد وبين مولاه ألف مقام . وكذلك قال ذو النون المصري ، وأبو يزيد البسطامي ، والجنيد ، وأبو بكر الكتاني رضي اللّه عنهم ، قال ذو النون : بينه وبين العبد ألف عام ، قال الجنيد : ألف قصر ، وقال الكتّاني : ألف مقام . وانظر : مشرب الأرواح للشيرازي ( ص 4 ) .

( 5 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 66 ) .

( 6 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 411 ) .


 

ويقول الجنيد : مكثت مدة طويلة لا يقدم البلد أحد الفقراء إلا سلبت حالي ودفعت إلى حاله فأطلبه ، حتى إذا وجدته تكلمت بحاله ، ورجعت إلى حالي ، وكنت لا أرى في النوم شيئا إلا رأيته في اليقظة « 1 » .

وكان جعفر الخلدي يقول : لم نر في شيوخنا من اجتمع له علم وحال غير أبي القاسم الجنيد ، وإلا فأكثرهم كان يكون لأحدهم علم كثير ، ولا يكون له حال ، وآخر يكون له حال كثير وعلم يسير ، وأبو القاسم الجنيد كانت له حال خطيرة وعلم غزير ، فإذا رأيت حاله رجحته على علمه ، وإذا رأيت علمه رجّحته على حاله « 2 » .

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه : النقصان في الأحوال هي فروع لا تضرّ ، وإنما يضرّ التخلف مثقال ذرّة في حال الأصول ، فإذا أحكمت الأصول لم يضرّ نقص في الفروع « 3 » .

قال الجنيد : لقيت شابّا من المريدين في البادية ، تحت شجرة من شجر أم غيلان ، فقلت : ما أجلسك هاهنا ؟

فقال حال الأصل : مال افتقدته .

فمضيت ، وتركته ، فلما انصرفت من الحج إذا أنا بالشاب قد انتقل إلى موضع قريب من الشجرة ، فقلت : ما جلوسك هنا ؟

فقال : وجدت ما كنت أطلبه في هذا الموضع ، فلزمته .

قال الجنيد : فلا أدري أيهما كان أشرف : لزومه لافتقاد حاله ، أو لزومه للموضع الذي نال فيه مراده « 4 » .

يحكى عن أبي عمرو الزجّاجي أنه قال : نهاني الجنيد أن أدخل على رويم ، فدخلت عليه يوما ، وكان قد دخل في شيء من أمور السلطان ، فدخل عليه الجنيد ، فرآني عنده ، فلما أن خرجنا قال الجنيد : كيف رأيته يا خراساني ؟ قلت : لا أدري . قال : إن الناس يتوهمون أن هذا نقصان في حاله ووقته . وما كان رويم أعمر وقتا منه في هذه الأيام ، ولقد

......................................

( 1 ) انظر : تاريخ بغداد للخطيب ( 7 / 244 ) .

( 2 ) انظر : تاريخ بغداد للخطيب ( 7 / 244 ) .

( 3 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 289 ) .

( 4 ) انظر : التعرف ( ص 189 ) ، والرسالة ( 2 / 442 ) .


 

كنت أصحبه بالشونيزية في حال الإرادة وكنت معه في خرقتين وهو الساعة أشدّ فقرا منه في تلك الحالة وفي تلك الأيام « 1 » .

القبض والبسط

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه في معنى القبض والبسط : يعني الخوف والرجاء ، فالرجاء يبسط إلى الطاعة ، والخوف يقبض عن المعصية « 2 » .

 

الهيبة والأنس

سئل الجنيد قدّس اللّه سرّه عن الأنس باللّه ؟ فقال : ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة "3" .

وقال أبو القاسم الجنيد قدّس اللّه سرّه : اطّراح هذه الأمة من المروءة ، والاستئناس بهم حجاب عن اللّه تعالى ، والطمع فيهم فقر الدنيا والآخرة « 4 » .

يقول الجنيد : كان الحارث بن أسد يجيء إلى منزلنا ، فيقول : اخرج معي نصحر .

فأقول له : تخرجني من عزلتي وأمني على نفسي إلى الطرقات والآفات ورؤية الشهوات .

فيقول : اخرج معي ولا خوف عليك . فأخرج معه فكأنّ الطريق فارغ من كل شيء ، لا نرى شيئا نكرهه ، فإذا حصلت معه في المكان الذي يجلس فيه قال لي : سلني ؟ فأقول له :

ما عندي سؤال أسألك ! فيقول : سلني عمّا يقع في نفسك ؟ فتنثال عليّ السؤالات ، فأسأله عنها ، فيجيبني عليها في الوقت ، ثم يمضي إلى منزله ، فيعملها كتبا « 5 » .

يقول الجنيد : كنت أقول للحارث كثيرا : عزلتي ، وأنسي ، وتخرجني إلى وحشة رؤية الناس والطرقات ! فيقول لي : كم تقول أنسي وعزلتي ! لو أن نصف الخلق تقرّبوا منّي ما وجدت بهم أنسا ، ولو أن النصف الآخر نأوا عنّي ما استوحشت لبعدهم « 6 » .

...........................................

( 1 ) انظر : تاريخ بغداد ( 8 / 430 ) وقال السلمي : سمعت منصور بن عبد اللّه يقول : سمعت أبا العباس ابن عطاء يقول : رويم أتم حالا من أن تغيّره تصاريف الأحوال .

( 2 ) انظر : اللمع ( ص 420 ) ، والمدارج لابن قيم ( 3 / 295 ) .

( 3 ) انظر : التعرف للكلاباذي ( ص 126 ) ، واللمع للطوسي ( ص 97 ) ، وعوارف المعارف للسهروردي ( ص 300 ) .

( 4 ) انظر : الكواكب الدرية ( 1 / 573 ) ، وطبقات الشافعية للسبكي ( 2 / 269 ) .

( 5 ) انظر : الحلية لأبي نعيم ( 10 / 255 ) .

( 6 ) انظر : الحلية لأبي نعيم ( 10 / 255 ) ، والسير ( 12 / 111 ) .


 

قال الجنيد : أهل الأنس يقولون في كلامهم ومناجاتهم في خلواتهم أشياء هي كفر عند العامة .

وقال مرة : لو سمعها العموم لكفّروهم ، وهم يجدون المزيد في أحوالهم بذلك وذلك يحتمل منهم ويليق بهم .

وإليه أشار القائل « 1 » :

قوم تخالجهم زهو بسيّدهم * والعبد يزهو على مقدار مولاه

تاهوا برؤيته عمّا سواه له * يا حسن رؤيتهم في عزّ ما تاهوا

قال الجنيد : الأنس بالمواعيد والتعويل عليها خلل في الشجاعة « 2 » .

قال أبو القاسم الجنيد : كلّمت يوما حسنا المسوحي في شيء من الأنس ، فقال لي :

ويحك ما الأنس ؟ لو مات من تحت السماء ما استوحشت « 3 » .

 

التواجد والوجد والوجود

التواجد « 4 »

يحكى أن أبا سعيد الخرّاز قدّس اللّه سرّه كان كثير التواجد عند ذكر الموت ، فسئل الجنيد عن ذلك ؟

فقال : العارف قد أيقن أن اللّه لم يفعل شيئا من المكاره بغضا له ولا عقوبة ، ويشاهد في صنائع اللّه تعالى الحالة به من المكاره صفو المحبة بينه وبين اللّه عز وجلّ ، وإنما ينزل به هذه النوازل ليردّ روحه إليه ؛ اصطفاء له ، واصطناعا له ، فإذا كوشف العارف بهذا أو ما أشبهه لم يكن بعجب أن تطير روحه إليه اشتياقا ، وتنقلب من وطنها

.....................................................

( 1 ) انظر : الإحياء للغزالي ( 4 / 341 ) .

( 2 ) انظر : طبقات الصوفية للسلمي ( ص 161 ) .

( 3 ) انظر : صفوة الصفوة ( 2 / 425 ) .

( 4 ) التواجد : استعمال الوجد ، بتعمد في تحصيله ، ففي الحقيقة لا يصادف الوجد الأعلى القلب الفارغ فجأة ، فما يحصل بالاستدعاء لا يكون وجدا .

وقيل : إظهار حالة الوجد من غير وجد ؛ موافقة لمن به الوجد ، وإن كان من إثارة الطبع فليس ذلك من شيم أهل الطريقة .


 

اشتياقا ، فلذلك ما رأيت من التواجد عند ذكر الموت ، وربما أتى على قرب منيته ، واللّه يفعل بوليه ما يشاء وما يحب « 1 » .

 

الوجد « 2 »

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه : الوجد هو الأصل في المصادفة « 3 » .

وذكر عن الجنيد قدّس اللّه سرّه أنه قال : كما أظن أن الوجد هو المصادفة بقوله عز وجلّ :وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً[ الكهف : 49 ] : يعنى صادفوا ، وقال : تصادفوا ، وقال :حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً[ النور : 39 ] : يعني لم يصادفه « 4 » .

عن الجنيد قدّس اللّه سرّه أنه كان يقول : إذا قوي الوجد يكون أتم ممن يستأثر العلم « 5 » .

قد حكي عن الجنيد أنه قال : لا يضرّ نقصان الوجد مع فضل العلم ، وإنما يضرّ فضل الوجد مع نقصان العلم « 6 » .

ذكر عن الجنيد أنه قال : لا يضرّ نقصان الوجد مع فضل العلم ، وفضل العلم أتم من فضل الوجد « 7 » .

ذكر عن الجنيد قدّس اللّه سرّه أنه قال : الحملان في الوجد بعد الغلبة أتم من حال الغلبة في الوجه ، والغلبة في الوجد أتم من المحمول قبل الغلبة ، فقيل له : كيف نزلت هذا

...........................................................

( 1 ) انظر : اللمع ( ص 380 ) .

( 2 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 295 ) .

( 3 ) الوجد : ما يصادف القلب من الأحوال المعينة . أي : الأحوال التي تأخذه عن شهوده نفسه ، ومن شهود الحاضرين ، وما يلاقيه من الكون ، ويفجأ القلب بالوصف المذكور ، وهو وجد صحيح ، وعلامة صحته أنه فائدة ومزيد علم ذوقي ، وإلا فالغيبة فيه توأم القلب باستيلاء أبخرة طبيعية .

( 4 ) انظر : اللمع ( ص 83 ) .

( 5 ) انظر : اللمع ( ص 381 ) .

( 6 ) انظر : اللمع ( ص 247 ) .

( 7 ) انظر : اللمع ( ص 381 ) .


 

التنزيل ؟ فقال : المحمول عن حال غلبته بالحمل بعد القهر أتم ، والمغلوب بعد حملانه عن نفسه وشاهده أتم « 1 » .

دخل الشبليّ على الجنيد متواجدا ، فقال : إن كنت ترى نفسك في حضرة اللّه فهذا سوء أدب ، وإن كنت خارجها فماذا حصلت حتى تتواجد ؟

فقال : التوبة يا إمام « 2 » .

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه : كنت أسمع السريّ يقول : يبلغ العبد إلى حدّ من المواجيد في الأذكار القوية أو من الحب لو ضرب وجهه بالسيف لم يشعر به ، وكان في قلبي منه شيء حتى بان لي أن الأمر كذلك « 3 » .

أنشدوا للجنيد « 4 » :

الوجد يطرب من في الوجد راحته * والوجد عند حضور الحق مفقود

قد كان يطربني وجدي فأشغلني * عن رؤية الوجد ما في الوجد موجود

* * *

الوجود « 5 »

قال الجنيد : اعتكفت بمكة فقوي عليّ فيها الوجود ، حتى لم أقدر أن أقول : سبحان

.............................................................

( 1 ) انظر : اللمع ( ص 381 ) .

( 2 ) انظر : الكواكب للمناوي ( 1 / 583 ) .

( 3 ) انظر : اللمع ( ص 381 ) ، والرسالة ( 1 / 199 ) ، والعهود المحمدية ( ص 263 ) .

( 4 ) انظر : التعرف ( ص 135 ) .

( 5 ) الوجود : وجدان الحق في الوجد ، فإن المشهود في الوجد هو ما صادف بغتة ، وما صادف بغتة إن لم يكن وجود الحق لا يفنيك عن شهودك نفسك وشهود الكون ، إذ من شأن القديم أن يمحو الحادث عند اقترانه به ، لا شأن غيره ، ولكن وجود الحق في الوجد غير معلوم ؛ إذ ما يقع به المصادفة قد يكون على حكم ما عينه السماع المطلق أو المقيد فلا ينضبط ؛ فإنه :كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[ الرحمن :

29 ] ، ولذلك قال قدّس سرّه : إذا رأيتم من يقدر الوجد على حكم ما عينه السماع المطلق أو المقيد فما عنده خبر بصورة الوجد ، فإنما هو صاحب قياس في الطريق ، وطريق اللّه تعالى لا يدرك بالقياس ؛ فإنه :كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[ الرحمن : 29 ] ، وإن كل نفس في استعداد .

فوجود الحق في الوجود إنما يختلف عند الواجد بحكم الأسماء الإلهية ، وبحكم الاستعدادت الكونية في كل نفس إلى لا غاية .


 

اللّه والحمد للّه « 1 » .

الجمع والفرق « 2 »

قال الجنيد رحمه اللّه تعالى :

....................................................

( 1 ) انظر : الحلية ( 10 / 270 ) .

( 2 ) قال ابن القيم الجوزية : فمن زعم أن المشاهد لتوحيد الربوبية يدخل إلى مقام الجمع والفناء فلا يشهد فرقا فإنه غالط ، بل لا بدّ من الفرق ؛ فإنه أمر ضروريّ ، لكن إذا خرج عن الفرق الشرعي بقي في الفرق الطبعي ، فيبقى متبعا لهواه لا مطيعا لمولاه ، ولهذا لما وقعت هذه المسألة بين الجنيد وأصحابه ذكر لهم الفرق الثاني ، وهو أن يفرّق بين المأمور والمحظور ، وبين ما يحبّه اللّه وما يكرهه مع شهوده للقدر الجامع ، فيشهد الفرق في القدر الجامع ، ومن لم يفرّق بين المأمور والمحظور خرج عن دين الإسلام ، وهؤلاء الذين يتكلّمون في الجمع لا يخرجون عن الفرق الشرعي بالكلية ، وإن خرجوا عنه كانوا كفّارا من شرّ الكفّار ، وهم الذين يخرجون إلى التسوية بين الرسل وغيرهم ، ثم يخرجون إلى القول بوحدة الوجود ، فلا يفرّقون بين الخالق والمخلوق ، ولكن ليس كل هؤلاء ينتهون إلى هذا .  فقول موسى عليه السلام :رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ[ القصص : 24 ] ، فإن هذا وصف لحاله بأنه فقير إلى ما أنزل اللّه إليه من الخير ، وهو متضمن لسؤال اللّه إنزال الخير إليه . وانظر : دقائق التفسير ( 2 / 361 ) . وقال في « مدارج السالكين » أيضا : والفناء والخروج عنه إلى أودية الفرق الثاني والبقاء فالشأن كل الشأن فيه ، وهو الذي كان ينادي عليه شيخ الطائفة على الإطلاق الجنيد بن محمد رحمه اللّه ، ووقع بينه وبين أصحاب هذا الجمع والفناء ما وقع لأجله ، فهجرهم وحذر منهم ، وقال : عليكم بالفرق الثاني ؛ فإن الفرق فرقان : الفرق الأول : وهو النفسي الطبيعي المذموم ، وليس الشأن في الخروج منه إلى الجمع والفناء في توحيد الربوبية والحقيقة الكونية ، بل الشأن في شهود هذا الجمع واستصحابه في الفرق الثاني : وهو الحقيقة الدينية ، ومن لم يتسع قلبه لذلك فليترك جمعه وفناءه تحت قدمه ولينبذه وراء ظهره مشتغلا بالفرق الثاني ، والكمال أيضا وراء ذلك ، وهو شهود الجمع في الفرق والكثرة في الوحدة ، وتحكيم الحقيقة الدينية على الحقيقة الكونية ، فهذا حال العارفين الكمّل ، يسقي ويشرب لا تلهيه سكرته عن النديم ، ولا يلهو عن الكأس : « إنّي لأسمع بكاء الصبي وأنا في الصلاة فأتجوّز فيها ؛ كراهة أن أشقّ على أمه » وكان صلى اللّه عليه وسلّم في صلاته واشتغاله باللّه وإقباله عليه يشعر بعائشة إذا استفتحت الباب ، فيمشي خطوات يفتح لها ، ثم يرجع إلى مصلاه ، وذكر في صلاته تبرا كان عنده ، فصلى ، ثم قام مسرعا ، فقسّمه وعاد إلى مجلسه ، فلم تشغله جمعته العظمى التي لا يدرك لها من بعده رائحة عن هذه الجزيئات صلوات اللّه وسلامه عليه . وانظر : مدارج السالكين ( 2 / 110 ) .


القرب بالوجد جمع " 1 " ، والغيبة بالبشرية تفرقة " 2 " .

سئل الجنيد عن قول الصوفية : « حسنات الأبرار سيئات المقربين "3 "."

فأنشد " 4 " :

طوارق أنوار تلوح إذا بدت * فتظهر كتمانا وتخبر عن جمع

...................................................................

( 1 ) الجمع : إشارة إلى الحق بل يكون ويسمى جمع التمخض ، لا تطرأ الصور الكونية في الحق وانطماس كثرتها في وحدية وانجلاء عينه لدى الغير ، بإطلاق لا يبقى معه غير .

( 2 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 284 ) ، وطبقات الصوفية للسلمي ( ص 157 ) .

( 3 ) ذكره القاري في المصنوع ( 111 ) ، وفي الموضوعات الكبرى ( ص 186 ) ، والشوكاني في الفوائد المجموعة ( 733 ) ، وفي كتابنا أحاديث مشهورة لكنها لا تصح ، وعزوه لأبي سعيد الخراز ، كما رواه ابن عساكر في ترجمته ، وأورده السندروسي في الكشف الإلهي ( 351 ) ، وعزاه للزهري .

قلت : وحكي أيضا عن ذي النون المصري ، وقد عزاه الزركشي للجنيد ، والقرطبي في التفسير ( 1 / 309 ) ، وانظر : كشف الخفاء ( 1 / 428 ) .

فائدة : قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني : واختلفوا في الصغائر في حقّ الأنبياء والكمّل والذي عيه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم ، وصار بعضهم إلى تجويزها ، ولا أصل لهذه المقالة .

وقال بعض المتأخرين ممن ذهب إلى القول الأول الذي ينبغي أن يقال : إن اللّه تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ، ونسبها إليهم ، وعاتبهم عليها ، وأخبروا بها عن نفوسهم ، وتنصلوا منها ، وأشفقوا منها ، وتابوا ، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها ، وإن قبل ذلك آحادها ، وكل ذلك مما لا يزري بمناصبهم ، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على وجه الندور ، وعلى وجه الخطأ والنسيان ، أو تأويل دعا إلى ذلك فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات ، وفي حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم وعلوّ أقدارهم ؛ إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس ، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة .

قال : وهذا هو الحق ، ولقد أحسن الجنيد حيث قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين ؛ فهم صلوات اللّه وسلامه عليهم وإن كان قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم فلم يخلّ ذلك بمناصبهم ، ولا قدح في رتبهم ، بل قد تلافاهم ، واجتباهم ، وهداهم ، ومدحهم ، وزكّاهم ، واختارهم ، واصطفاهم صلوات اللّه عليهم وسلامه . وانظر : تفسير القرطبي ( 1 / 309 ) .

( 4 ) انظر : الكواكب الدرية ( 1 / 581 ) ، والرسالة ( 1 / 195 ) .

 

قال الشيخ ابن عجيبة : فالواجب على العبد أن يكون جامعا بين إقرار الظاهر وتوحيد الباطن ، فالأول فرق ، والثاني جمع ، وإلى هذا المعنى أشار الجنيد رضي اللّه عنه بقوله " 1 " :

قد تحقّقت بسري * حين ناجاك لساني

فاجتمعنا لمعان * وافترقنا لمعان

إن يكن غيبك التعظ * يم عن لحظ عياني

فلقد صيّرك الوج * د من الأحشاء داني

الفناء والبقاء

سئل الجنيد عن الفناء ؟

فقال : إذا فني الفناء عن أوصافه أدرك البقاء بتمامه " 2 " .

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه في تفسير قول أبي يزيد ( ليس بليس ) قال : هو ذهاب ذلك كله عنه ، وذهابه عن ذهابه ، وهو معنى قوله ( ليس في ليس ) : يعني قد غابت المحاضر ، وتلفت الأشياء ، فليس يوجد شيء ، ولا يحس ، وهو الذي يسميه قوم الفناء ، والفناء عن الفناء " 3 " .

سئل الجنيد عن الفناء ؟

فقال : الفناء استعجام الكل عن أوصافك ، واشتغال الكل منك بكليته « 4 » .

قال أبو بكر الزقّاق : سمعت من الجنيد قدّس اللّه سرّه كلمة في الفناء منذ أربعين سنة هيّجتني وأنا بعد في غمارها « 5 » .

قال أبو يزيد البسطامي : أشرفت على ميدان الليسية ، فما زلت أطير فيه عشر سنين ، حتى صرت من ليس في ليس بليس ، ثم أشرقت على التضييع وهو ميدان التوحيد ، فلم أزل

.......................................................

( 1 ) انظر : إيقاظ الهمم ( ص 124 ) .

( 2 ) انظر : اللمع ( ص 285 ) .

( 3 ) انظر : اللمع ( ص 424 ) .

( 4 ) انظر : اللمع ( ص 285 ) .

( 5 ) انظر : اللمع ( ص 240 ) .

 


 

أطير بليس في التضييع ، حتى ضعت في الضياع ضياعا ، وضعت فضعت عن التضييع بليس في ليس في ضياعة التضييع ، ثم أشرقت على التوحيد في غيبوبة الخلق عن العارف ، وغيبوبة العارف عن الخلق .

قال الجنيد : هذا كله وما جانسه داخل في علم الشواهد على الغيبة عن استدراك الشاهد ، وفيها معان من الفناء بتغيب الفناء عن الفناء ،

 

ومعنى قوله : ( أشرفت على ميدان الليسية حتى صرت من ليس في ليس بليس ) فذاك أول النزول في حقيقة الفناء ، والذهاب عن كل ما يرى وما لا يرى ، وفي أول وقوع الفناء انطماس آثارها ، وقوله :

( ليس بليس ) وهو ذهاب ذلك كله عنه ، وذهابه عن ذهابه ، ومعنى ( ليس بليس ) : أي ليس شيء يحس ولا يوجد قد طمس على الرسوم ، وقطعت الأسماء ، وغابت المحاضر ، وبلغت الأشياء عن المشاهدة ، فليس شيء يوجد ، ولا يحس بشيء يفقد ، ولا اسم لشيء يعهد ، ذهب ذلك كله بكل الذهاب عنه ، وهو الذي يسميه قوم الفناء ، ثم غاب الفناء في الفناء ، فضاع في فنائه ، فهو التضييع الذي كان في ليس به ، وبه في ليس ، وذلك حقيقة فقد كل شيء ، وفقد النفس بعد ذلك ، وفقد في الفقد ، والارتماس في الانطماس ، والذهاب عن الذهاب ، وهذا شيء ليس له أمد ولا وقت يعهد .

وقال الجنيد : ذكره لعشر سنين هو وقته ، ولا معنى ؛ لأن الأوقات في هذا الحال غائبة ، وإذا مضى الوقت وغاب بمعناه عمّن غيب عنه فعشر سنين ومائة وأكثر من ذلك كله في معنى واحد « 1 » .

قوله تعالى : كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [ آل عمران : 185 ]

قال الجنيد قدّس سرّه :  من كانت حياته بروحه يكون مماته بذهابها ، ومن كانت حياته بربّه تعالى فإنه ينقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل ، وهي الحياة على الحقيقة« 2 » .

...........................................................

( 1 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 469 ) .

( 2 ) انظر : روح المعاني ( 17 / 56 ) .

 

وأنشد الجنيد « 1 » :

وجودي أن أغيب عن الوجود * بما يبدو عليّ من الشهود

قال قدّس سرّه : اعلم أنك محجوب عنك بك ، وأنك لا تصل إليه بك ، ولكنك تصل إليه به ؛ لأنه لما أبدى إليك رؤية الاتصال به ، دعاك إلى طلب له فطلبته ، فكنت في رؤية الطلب برؤية الطلب والاجتهاد لاستدراك ما تريده بطلبك ، كنت محجوبا ، حتى يرجع الافتقار إليه في الطلب ، فيكون ركنك وعمادك في الطلب بشدة الطلب ، وأداء حقوق ما انتخب لك من علم الطلب ، والقيام بشروط ما اشترط عليك فيه ، ورعاية ما استرعاك فيه لنفسك ، حماك عنك ، فيوصلك بفنائك إلى بقائك لوصولك إلى بغيتك ، فيبقى ببقائه ، وذلك أن توحيد الموحّد باق ببقاء الواحد ، وإن فني الموحّد فحينئذ أنت أنت ؛ إذ كنت بلا أنت ، فبقيت من حيث فنيت ، والفناء ثلاثة :

فناء عن الصفات والأخلاق والطباع ، بقيامك بدلائل عملك ، ببذل المجهود ومخالفة النفس ، وحبسها بالمكروه عن مرادها ،

والفناء الثاني : فناؤك عن مطالعة حظوظ من ذوق الحلاوات واللذات في الطاعات ، لموافقة مطالبة الحق لك ، لانقطاعك إليه ، لتكون بلا واسطة بينك وبينه ،

والفناء الثالث : فناؤك عن رؤية الحقيقة من مواجيدك بغلبات شاهد الحق عليك ، فأنت حينئذ فان باق ، وموجود محقق لفنائك ، بوجود غيرك عند بقاء رسمك بذهاب اسمك « 2 » .

قال قدّس سرّه : اعلم أن دليل الخلق برؤية الصدق وبذل المجهود لإقامة حدود الأحوال بالتنقّل فيها ، لتؤدّيه حال إلى حال ، حتى يؤديه إلى حقيقة العبودية في الظاهر ، بترك الاختيار والرضا بفعله ؛ وهذه مواضع قبول الخلق لدلائل صفات علم الظاهر عليه ، واجتماع صفته ، ثم تؤديه حقيقته إلى مشاهدة الحق وإدراك إشارته إليه ، بتلوين الأمور لاختيار اختياره له ؛ وهذه مواضع ذهاب الخلق عنه ، لتلوين صفاته فيهم ، ومواضع تغييبه عنهم ، وهذا مقام الاصطناع ،

قال اللّه عز وجلّ لموسى عليه السلام :وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي[ طه : 41 ] ،

فمن أين وإلى أين ؟

فمنه وإليه ، وله وبه فني ، وفني فناؤه ، لبقاء بقائه بحقيقة

................................................................

( 1 ) وعقب الشيخ ابن عجيبة بقوله : فالفناء عن النفس وزوالها أصعب من الفناء عن الكون وهدمه ، فمهما زالت النفس وهدمت انهدم الكون ، ولم يبق له أثر ، وقد يهدم الكون وتبقى في النفس بقية .

وانظر : إيقاظ الهمم ( ص 67 ) .

( 2 ) النص من نشرة عبد القادر ( ص 53 ، 54 ) ، عن المخطوطتين ( 226 - 227 ) .


 

فنائه ، فإن للحق فيه مرادا بردّه عليهم ، أخرجه إليهم بتظاهر نعمائه عليه ، فتلألأ سناء عطائه بردّ صفاته عليه لاستجلاب الخلق إليه وإحسانهم عليه « 1 » .

الغيبة والحضور

كان الجنيد قاعدا ، وعنده امرأته ، فدخل عليه الشبليّ ، فأرادت امرأته أن تستتر ، قال لها الجنيد : لا خبر للشبليّ عنك ، فاقعدي ، فلم يزل يكلّمه الجنيد ، حتى بكى الشبلي ، فلما أخذ الشبلي في البكاء قال الجنيد لامرأته:استتري فقد أفاق الشبليّ من غيبته«2» .

ورد عن الجنيد رضى اللّه عنه أنه قال : كان أهل السماوات والأرض مدة يبكون على حيرتي ، وكنت أيضا أبكي هكذا على غيبتهم ، والحال الآن أني لا أدري بهم ولا بنفسي « 3 » .

كان الجنيد في مجلسه فسأله أصحابه : يا أستاذ ، متى يكون اللّه عز وجلّ مقبلا على عبده ؟

فلهي عنهم ولم يجبهم ، فألحّوا عليه ، فالتفت إليهم ، فقال : واعجباه ! يقف بين يدي ربّه بلا حضور ، ويقتضي بهذه الوقفة إقبالا « 4 » .

الصّحو والسّكر

يقول الهجويري : ثم إن الجنيد وأبا العباس السياري وأبا بكر الواسطي ومحمد بن عليّ الترمذي اتفقوا على أن الكرامة تظهر في حال الصحو والتمكين دون السكر ؛ لأن اللّه تعالى جعل أولياءه للعالم ، وناط بهم الحلّ والعقد ، وصيّر أحكام العالم موصولة بهمّتهم ، فوجب أن تكون آراؤهم أصحّ كل الآراء ، وقلوبهم أشفق كل القلوب ، وبخاصة على خلق اللّه ؛ لأنهم واصلون ، والتلوين والسكر يكونان في حال الابتداء ، فإذا حصل البلوغ تبدّل

.....................................................

( 1 ) النص من نشرة عبد القادر ( ص 53 ، 54 ) ، عن المخطوطتين ( 226 - 227 ) .

( 2 ) انظر : الرسالة ( 1 / 215 ) ، وروض الرياحين ( ص 179 ) ، ونشر المحاسن ( ص 208 ) .

وقال الشيخ الشعراني : وقد دخل الشبليّ مرة على الجنيد وهو جالس على سرير هو وزوجته ، فأرادت زوجة الجنيد أن تستتر ، فقال لها : ليس هو هنا ، فتكلّم الشبليّ ساعة ثم رجع إلى إحساسه ، فقال الجنيد : قد رجع إلى إحساسه استتري الآن . فلو كان الجنيد يرى أنه مكلف لأمر زوجته بالستر وأنكر على الشبلي الدخول على زوجته بغير إذن ، وما ذكرت لك هذه الحكاية إلا خوفا عليك من المقت ، فإن صاحب الحال ربما أثّر فيمن أنكر عليه . وانظر : العهود المحمدية ( ص 433 ) .

( 3 ) انظر : كشف المحجوب ( ص 492 ) .

( 4 ) انظر : الحلية لأبي نعيم ( 10 / 268 ) .

التلوين بالتمكين ، ومن ثم يكون الولي وليّا حقّا ، وتكون كراماته صحيحة « 1 » .

قال الجنيد : الشبلي سكران ، ولو أفاق لجاء إماما ينتفع به « 2 » .

الرّسم

سئل الجنيد عن رجل غاب اسمه ، وذهب وصفه ، وامتحى رسومه فلا رسم له ؟ قال :

نعم ، عند مشاهدته قيام الحق له بنفسه لنفسه في ملكه ، فيكون ذلك معنى قوله « امتحى رسومه » : يعني علمه وفعله المضاف إليه بنظره إلى قيام اللّه له في قيامه « 3 » .

المشاهدة والمعاينة والمكاشفة

قال الجنيد : المشاهدة إدراك الغيوب بأنوار الأسرار عند صفاء القلب من الدنس ، وخلوصه من الأضداد والأغيار في مراقبة الجبّار ، فيصير كأنه ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق من صفاء المعرفة وبرد اليقين « 4 » .

قال الجنيد : من قال اللّه عن غير مشاهدة فهو مفتر « 5 » .

قال الجنيد والنوريّ وغيرهما من الكبار : إن ما جرى على الأنبياء إنما جرى على ظواهرهم ، وأسرارهم مستوفاة بمشاهدة الحق « 6 » .

يقول الجنيد : حقيقة المشاهدة وجود الحق مع فقدانك « 7 » .

في قوله تعالى :وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ[ البروج : 3 ] قال الجنيد : الشاهد الحق ، والمشهود الكون « 8 » .

............................................................

( 1 ) يقول الهجويري : ثم إن أولئك رجال الصوفية الذين يفضّلون الصحو على السكر ، وهم الجنيد وأتباعه ، يقولون : إن السكر محلّ للآفة ؛ لأنه تشويش الأحوال ، وذهاب الصحة ، وضياع زمام النفس .

وانظر : كشف المحجوب ( ص 415 ) .

( 2 ) انظر : كشف المحجوب ( ص 663 ) .

( 3 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 427 ) .

( 4 ) انظر : الكواكب الدرية للمناوي ( 1 / 576 ) .

( 5 ) انظر : التعرف للكلاباذي ( ص 125 ) .

( 6 ) انظر : التعرف للكلاباذي ( ص 126 ) .

( 7 ) انظر : نشر المحاسن لليافعي ( ص 118 ) .

( 8 ) انظر : زاد المسير لابن الجوزي ( 9 / 73 ) .


 

في قوله تعالى :لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[ الكهف : 7 ]

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه : حسن العمل اتخاذ ذلك وعدم الاشتغال به « 1 » .

قال الجنيد : إن إبليس لم ينل مشاهدته في طاعته ، وآدم لم يفقد مشاهدته في معصيته « 2 » .

قيل لأبي القاسم الجنيد قدّس اللّه روحه : إن أبا يزيد يسرف في الكلام . قال : وما بلغكم عن إسرافه في كلامه ؟ قيل يقول : « سبحاني سبحاني ما أعظم شاني » .

فقال الجنيد : إن الرجل مستهلك في شهود الإجلال ، فنطق بما استهلكه ؛ لذهوله في الحق عن رؤيته إيّاه ، فلم يشهد إلا الحق تعالى ، فنعته ، فنطق به ، ولم يكن من علم ما سواه ولا من التعبير عنه ضنّا من الحق به ، ألم تسمعوا مجنون بني عامر لما سئل عن اسم نفسه ؟

فقال : ليلى ، فنطق بنفسه ، ولم يكن من شهوده إيّاه فيه ، وقيل له : من أنت ؟ قال : أنا من ليلى ومن ليلى أنا « 3 » !

قيل للجنيد : هل عاينت أو شاهدت ؟ قال : لو عاينت تزندقت ، ولو شاهدت تحيّرت ، ولكن حيرة في تيه ، وتيه في حيرة « 4 » .

دخل إبليس على الجنيد في صورة نقيب ، وقال : أريد أن أخدمك بلا أجرة . فقال له الجنيد : افعل . فأقام يخدمه عشر سنين ، فلم يجد قلبه غافلا عن ربّه لحظة واحدة ، فطلب الانصراف ، وقال له : أنا إبليس . فقال : عرفتك من أوّل ما دخلت ، وإنما استخدمتك

..................................................

( 1 ) قال الآلوسي : فيجعل ذلك مرآة لمشاهدة أنوار جلاله وجماله سبحانه عز وجلّ .

وقال ابن عطاء : حسن العمل الاعتراض عن الكل .

وقال بعضهم : أهل المعرفة باللّه تعالى والمحبة له هم زينة الأرض ، وحسن العمل النظر إليهم بالحرمة .

وانظر : روح المعاني ( 15 / 258 ) .

( 2 ) انظر : التعرف ( ص 156 ) .

( 3 ) انظر : روضة الحبور ( 79 ) ، بتحقيقنا .

( 4 ) انظر : الحلية ( 10 / 274 ) .


 

عقوبة لك ؛ فإنه لا ثواب لأعمالك في الآخرة . فقال : ما رأيت قوتك يا جنيد . فقال له : اذهب يا ملعون ، أتريد أن تدخل عليّ الإعجاب بنفسي ؟ ثم خرج خاسئا « 1 » .

ومن كلام الجنيد رحمه اللّه : من شهد الحق تعالى لم ير الخلق « 2 » .

............................................................

( 1 ) انظر : الكواكب الدرية للمناوي ( 1 / 572 ) .

( 2 ) عقب الشيخ الشعراني بقوله : ولا يجمع بين رؤية الحق تعالى والخلق معا في آن واحد إلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وكمّل ورثته ، وهذا الأمر لا يدرك إلا ذوقا . وقد كان الشيخ معروف الكرخي رضي اللّه عنه يقول : لي ثلاثون سنة أكلم اللّه والناس يظنون أنّي أكلمهم .  وأخبرني الشيخ يوسف الكردي من أصحاب سيدي إبراهيم المتبولي وكان يجتمع بالخضر عليه السلام كثيرا قال : كنت مع سيدي إبراهيم في مصر ثم رجعنا إلى بركة الحاج فمرّ على بستان النخيل الذي غرسه في البركة فقال سيدي إبراهيم : ما هذه النخيل ؟ فقلنا : هذا بستانكم . فقال : من غرسه ؟ فقلنا له : أنتم . فقال : وعزة ربّي أنا لي منذ سبعة عشر سنة ما خرجت من حضرة اللّه تعالى ، ولكن أستحي إن خطر على بالي وأنا في حضرة اللّه أن أغرس بستانا أو أبني زاوية يأوي إليها الغرباء والحجاج ، فلعل اللّه تعالى أرسل ملكا على صورتي فغرسه . هذا لفظه لي رضي اللّه عنه .

فاعلم أن من لم يسلك طريق القوم فهو واقف مع شهود الخلق دون الحق ، فلا يحصل له خشوع غالبا ؛ لعدم إدراكه لتجليات الحق جلّ وعلا التي دكت الجبال دكا وخرّ منها السيد موسى عليه الصلاة والسلام صعقا .

وكان سيدي عليّ المرصفي رحمه اللّه يقول : ما قطع بعض أهل الجدال عن الوصول إلى مقامات الأولياء وكراماتهم إلا دعواهم أنهم أعلم باللّه منهم ، وخوفهم على علمهم الذي به رئاستهم أن ينسى حين يتبعون طريق الفقراء ، وهو خديعة من النفس والشيطان ؛ فإن طريق الفقراء لا يزيدهم إلا علما إلى علمهم وجلاء لقلوبهم وحضورا في عبادتهم .

قلت : وليس مرادنا بالفقراء هؤلاء الذين ظهروا في النصف الثاني من القرن العاشر في الزوايا وعقدوا مجالس الذكر ؛ فإن الفقهاء بيقين أحسن من هؤلاء وأعلى مقاما ؛ لزيادتهم عليهم في العلم والفهم في الكتاب والسنة وكلام الأئمة ، وإنما مرادنا العارفون باللّه تعالى وبسائر مذاهب المجتهدين ومقلديهم الذين أتتهم تلك العلوم من طريق الوهب ، وهؤلاء قليلون في مصر ، ولكن من صدق أوقعه اللّه تعالى عليهم .

وقد كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه اللّه يقول : وهل ثمّ طريق غير ما فهمناه من الكتاب والسنة وينفي طريق القوم . فلما اجتمع بسيدي الشيخ أبي الحسن الشاذلي وأخذ عنه صار يقول : ما قعد على قواعد الشريعة التي لا تهدم إلا الصوفية قال : ومما يدلك على ذلك ما يقع على يد أحدهم من الكرامات والخوارق ، ولا يقع شيء منها على يد غيرهم ، ولو بلغ في العلم ما بلغ . هذا لفظه –


 

المحادثة

قال الجنيد : لي أربعون سنة وأنا أحدّث الحق والناس يرون أنّي أحدث الخلق « 1 » .

التمكين

قال أبو عمرو بن علوان : سمعت الجنيد قدّس اللّه سرّه ليلة من الليالي وهو يقول في مناجاته : إلهي ، أتريد أن تخدعني عنك بقربك ، أو تريد أن تقطعني عنك بوصلك هيهات ! هيهات !

سئل أبو عمرو : ما معنى قوله هيهات هيهات ؟ قال : التمكين « 2 » .

- في كتاب ألّفه في طريق الصوفية سماه : « التقريب » ، وكذلك بلغنا عن الغزالي قبل اجتماعه بشيخه البازغاني رحمه اللّه .

وسمعت سيدي عليّا الخواص رحمه اللّه يقول : غاية حضور العالم في الصلاة أن يتدبّر فيما يقرأه ويلقي باله لمخارج الحروف واستنباط الأحكام ، وهذه كلها أمور مفرقة عن الحضور مع اللّه تعالى ، فإن من الآيات ما يذهب به إلى الجنة ، فيشاهد ما فيها ، ومنها ما يذهب به إلى النار فيشاهد ما فيها ، ومنها ما يذهب به إلى قصة آدم ونوح وإبراهيم وعيسى وموسى ومحمد صلى اللّه عليه وسلّم ، فكيف الحضور مع اللّه تعالى ؟ ! وليس في قدرة النفس أن تشتغل بشيئين معا في آن واحد ، ومن هنا قال مالك رحمه اللّه : إن إرخاء اليدين في الصلاة أولى للضعيف من وضعهما تحت صدره آخذا بيمينه يساره ؛ لأن مراعاتها تشوش على العبد ، وتمنعه من كمال الإقبال على مخاطبة اللّه عز وجلّ ومناجاته ، ولا شكّ أن مراعاة أدب الخطاب مع الحق أولى من مراعاة وضع اليدين تحت الصدر .

فاعلم أن وضع اليدين تحت الصدر لا يؤمر به إلا من لم تشغله مراعاته عن كمال خطاب اللّه عز وجلّ من الأكابر الذين ثبّتهم اللّه تعالى ، أما الأصاغر فربما ذهلوا عن عدد ما صلوا من الركعات وما قالوه من التسبيحات ؛ لأنها حضرة تذهل العقول كما يعرف ذلك أهل اللّه تعالى ، ولولا أن اللّه تعالى يلطف بهم لما عرف أحد منهم عدد ما صلى ، واللّه تعالى أعلم . وانظر : العهود المحمدية ( ص 293 ) .

.....................................................

( 1 ) قال الشيخ ابن عجيبة : وأما المحادثة : فهي المكالمة القلبية ، وهي الفكرة والجولان في عظمة الجبروت ، فأنت تحادثه في سرك بمناجاته وسؤاله ، وهو يحادثه بمزيد إحسانه ونواله ، أنت تحادثه بدوام حضوره قي سرّك ولبّك ، وهو يحادثك بإلقاء العلوم والأسرار والحكم في قلبك ، أنت تحادثه في عالم الشهادة ، وهو يحادثه في عالم الغيب ، وفي التحقيق ما ثم إلا عالم الغيب ظهر في عالم الشهادة .

وانظر : إيقاظ الهمم ( ص 26 ) .

( 2 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 178 ) .

 


 

القرب والبعد

قال الجنيد : إن اللّه تعالى يقرب من قلوب عباده على حسب ما يرى من قرب قلوب عباده منه ، فانظر ماذا يقرب من قلبك « 1 » .

سئل الجنيد عن قرب اللّه تعالى ؟ فقال : بعيد بلا افتراق ، قريب بلا التزاق « 2 » .

وقال رجل للجنيد : علّمني شيئا يقرّبني إلى اللّه وإلى الناس .

فقال : أمّا الذي يقرّبك إلى اللّه فمسألته ، وأما الثاني فترك مسألتهم « 3 » .

زار الجريري الجنيد ، فوجده ، فأطال ، فلامه ،

فقال الجنيد : طريق عرفنا بها ربنا لا نقتصر على بعضها ؛ فالنفس ما حملتها تتحمل ، والصلاة صلة ، والسجود قربة ، ومن ترك طريق القرب أوشك أن يسلك طريق البعد « 4 » .

قال تعالى :وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ[ الأنعام : 87 ] قال الجنيد قدّس سرّه : أي أخلصناهم وآويناهم لحضرتنا ، ودللناهم للاكتفاء بنا عمّا سوانا .ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ[ الأنعام : 88 ] ، وهم أهل السابقة الذين سألوه سبحانه الهداية بلسان الاستعداد الأزلي ، ولو أشركوا بالميل إلى السوى وهو شرك الكاملين « 5 » .

الحجاب

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه : حجاب قلوب الخاصة المختصة برؤية النعم ، والتلذذ بالعطاء ، والسكون إلى الكرامات « 6 » .

قال الجنيد : سمعت السريّ يقول : اللّهمّ مهما عذّبتني بشيء فلا تعذبني بذلّ الحجاب « 7 » .

..............................................

( 1 ) انظر : اللمع ( ص 85 ) .

( 2 ) انظر : طبقات الشافعية للسبكي ( 2 / 267 ) ، والكبرى للشعراني ( 1 / 85 ) .

( 3 ) انظر : طبقات ابن الملقن ( ص 128 ) .

( 4 ) انظر : الكواكب للمناوي ( 1 / 579 ) .

( 5 ) انظر : روح المعاني ( 7 / 256 ) وهذا من باب الإشارة في الآيات .

( 6 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 400 ) .

( 7 ) انظر : الرسالة للقشيري ( 1 / 67 ) ، وروضة الحبور ( ص 126 ) . -


 

قال الجنيد : من فارق الجماعة بجسمه وقع في الضلال ، ومن خالط الناس بسره افتتن بهم ، ومن افتتن حجب عن الحق بالطمع في الخلق « 1 » .

يقول الجنيد : علامة إعراض اللّه عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه « 2 » .

قال الجنيد : من سكن أو شكا إلى غير اللّه ابتلاه بحجب سرّه عنه « 3 » .

في قوله تعالى :أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ[ البقرة : 19 ] قال سيدي الجنيد قدّس سرّه : صموا عن فهم ما سمعوا ، وأبكموا عن عبارة ما عرفوا ، وعموا عن البصيرة فيما إليه دعوا « 4 » .

الرّين والغين

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه : الرّين من جملة الوطنات ، والغين من جملة الخطرات ، والوطن باق ، والخطر طارئ « 5 » .

الغربة والغريب

قال الجنيد : مقام الغريب ببغداد بعد خمسة أيام فضول « 6 » .

قال أبو طالب : جاء شابّ من خراسان لزيارة الجنيد ، فأخذ الجنيد من الشاب عصاه وركوته ، وأرسلها البيت ، ووضعها في مخزن وقفله ، وتلك الليلة كان لأصحاب الجنيد اجتماع ،

فقال الشيخ لجماعة : ودّوا هذا الغريب ، فلما فرغوا من الطعام فبطريق الطيبة والمزاح أرادوا أن يلعبوا الخاتم

فقال الشبلي للشاب : توافقني فيه ، فأبى ، وعابهم ، فنظر إليه الشبلي ، وقال : اسكت ، وإلا أقطع رأسك . فسكت الشاب وقام وذهب ، في اليوم الثاني

.....................................................................

- قال الشيخ القاشاني في معنى الحجاب : كل ما ستر مطويك عن عينك ، وذلك منك ، ومن انحصارك في كل ما تراءى لك من عالم النور ، أو الظلمة ، لا من غيرك .

 ( 1 ) انظر : الكواكب ( 1 / 577 ) .

( 2 ) انظر : الإحياء للغزالي ( 2 / 298 ) .

( 3 ) انظر : الكواكب الدرية للمناوي ( 1 / 579 ) .

( 4 ) انظر : روح المعاني ( 1 / 170 ) .

( 5 ) انظر : كشف المحجوب ( ص 194 ) .

( 6 ) انظر : طبقات الصوفية ( ص 162 ) .


 

حكوا هذه الحكاية عند الجنيد ، فقام الجنيد ودخل البيت فما وجد العصا والركوة في ذلك المكان ،

فخرج وقال لأصحابه : كم مرة أوصيتكم إن دخل غريب لا تذلوه بالمزاح معه ! واللّه لقد أخذ العصا والركوة وذهب ، وما أعطيته ، وما طلب منّي « 1 » .

الشريعة والحقيقة والطريقة

سئل الجنيد عن التصوف ؟

فقال : تصفية القلب عن موافقة البرية ، ومفارقة الأخلاق الطبيعية ، وإخماد الصفات البشرية ، ومجانبة الدواعي النفسانية ، ومنازلة الصفات الروحانية ، والتعلق بالعلوم الحقيقية ، واستعمال ما هو أولى عن الأبدية ، والنصح لجميع الأمة ، والوفاء للّه على الحقيقة ، واتباع الرسول صلى اللّه عليه وسلّم في الشريعة « 2 » .

يقول الجنيد : علمنا مضبوط بالكتاب والسنة ، ومن لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ولم يتفقّه لا يقتدى به « 3 » .

وقال الجنيد : علمنا محفوظ أن يأخذه غير أهله « 4 » .

وقال الجنيد : لو رأيتم الرجل قد تربّع في الهواء ومشى على الماء فلا تلتفتوا إليه حتى تنظروه عند الأمر والنهي، فإن كان عاملا بالأمر مجتنبا لما نهي عنه فاعتقدوه «5» .

قال الجنيد : لو كنت ذا سلطان لضربت عنق كل من يقول : ما ثمّ إلا اللّه ؛ لأنه يلزم من ظاهر مقالته هذه نفي الخلق ونفي جميع الشرائع المتعلقة بهم « 6 » .

....................................................................

( 1 ) انظر : نفحات الأنس للجامي ( ص 114 ) ، قلت : وقد أوردنا هذا القول أيضا في باب الصحبة لتعم به الفائدة .

( 2 ) انظر : التعرف للكلاباذي ( ص 35 ) .

( 3 ) انظر : اللمع ( ص 144 ) ، والرسالة ( 1 / 107 ) ، وتاريخ بغداد ( 7 / 243 ) ، وسير أعلام النبلاء ( 14 / 67 ) ، ومدارج السالكين لابن القيم ( 3 / 119 ) ، وروضة الحبور ( ص 121 ) بتحقيقنا ، وكذا الانتصار للأولياء الأخيار .

( 4 ) وقال الشيخ ابن عجيبة : وهذه كانت طريقة الجنيد رضي اللّه عنه يلقي الحقائق على رؤوس الأشهاد . فقيل له في ذلك ، فقال : جانب العلم أحمى من أن يأخذه غير أهله ، أو علمنا محفوظ من أن يأخذه غير أهله ، واللّه تعالى أعلم . وانظر : إيقاظ الهمم ( ص 69 ) .

( 5 ) انظر : الكواكب ( 1 / 574 ) .

( 6 ) انظر : الكواكب للمناوي ( 1 / 575 ) .

 

 


 

وسئل الجنيد قدّس اللّه سرّه عن الحقيقة ؟

فقال : أذكره ثم أدع هذا وهذا « 1 » .

قال الجنيد : ما بلغ أحد درجة الحقيقة إلا وجب عليه التقيّد بحقوق العبودية وحقيقتها ، وصار مطالبا بآداب كثيرة ، لم يطالب اللّه بها غيره « 2 » .

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه : أبت الحقائق أن تدع في القلوب مقالة للتأويلات « 3 » .

قال الجنيد : سمعت سريّا يقول وقد وصف أهل الحقائق : أكلهم أكل المرضى ، ونومهم نوم الغرقى « 4 » .

قال الجنيد : قال لي السريّ السقطيّ : قال لي أخي أبو يزيد بن عيسى قدّس اللّه أرواحهم : من نظر إلى الخلق بعين العلم مقتهم ، وهرب إلى اللّه تعالى منهم ، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم وكان طريقا لهم إليه « 5 » .

قال قدّس سرّه : الخوف يقبضني ، والرجاء يبسطني ، والحقيقة تجمعني ، والحق يفرقني ، فإذا قبضني بالخوف أفناني عنّي بوجودي ، فصانني عني ، وإذا بسطني بالرجاء ردّني علي بفقدي ، فأمرني بحفظي ، وإذا جمعني بالحقيقة أحضرني فدعاني ، وإذا فرقني بالحق أشهدني غيري فغطّاني عنه ، فهو في ذلك كله محركي غير ممسكي ، وموحشي غير مؤنسي ، بحضوري أذوق طعم وجودي ، فليته أفناني عني فمتّعني ، أو غيبني عني فروّحني وللفناء أشهدني ، فنائي وبقائي ، ومن حقيقة فنائي أفناني عن بقائي وفنائي ، فكنت عند حقيقة الفناء بغير بقاء ولا فناء ، بفنائي وبقائي لوجود الفناء والبقاء ، لوجود غيري بفنائي « 6 » .

قال الجنيد : الطرق كلها مسدودة على الخلق ، إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى اللّه عليه وسلّم واتّبع سنته ، ولزم طريقته ، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه "7 " .

................................................

( 1 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 286 ) .

( 2 ) انظر : الكواكب الدرية للمناوي ( 1 / 575 ) .

( 3 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 287 ) .

( 4 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 286 ) .

( 5 ) انظر : روضة الحبور ( ص 39 ) ، بتحقيقنا .

( 6 ) النص من نشرة عبد القادر ( ص 53 ) ، عن المخطوطتين ( 226 - 227 ) .

( 7 ) انظر : طبقات الصوفية ( ص 159 ) ، والرسالة ( 1 / 106 ) ، وطبقات الشافعية للسبكي ( 2 / 263 ) ، والاستقامة لابن تيمية ( ص 97 ) .


 

قال الجنيد : الطريق إلى اللّه مسدود على خلق اللّه عز وجلّ إلا المقتفين آثار الرسول صلى اللّه عليه وسلّم والتابعين لسنته ، كما قال اللّه عز وجلّ :لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[ الأحزاب : 21 ] « 1 » .

سئل الجنيد : كيف الطريق إلى اللّه تعالى ؟ فقال : توبة تحل الإصرار ، وخوف يزيل الغرة ، ورجاء مزعج إلى طريق الخيرات ، ومراقبة اللّه في خواطر القلوب « 2 » .

قال الجنيد رضي اللّه عنه : طريق الحبيب إما بالعلم أو بالسلوك ، وبالسلوك بلا علم وإن يكن حسنا فهو جهل ونقص ، وإذا كان العلم مع السلوك فهو عزّ وشرف « 3 » .

وقال الجنيد : بني الطريق على أربع :

لا تتكلم إلا عن وجود ،

ولا تأكل إلا عن فاقة ،

ولا تنم إلا عن غلبة ،

ولا تسكت إلا عن خشية ،

إذا طلب أحدهم من الجنيد الطريق ، يقول : اذهب فاخدم الملوك ، ثم تعالى ؛ فإن بداية طريقنا نهاية مقام بعض الملوك « 4 » .

قال الجنيد : من لم يسمع الحديث ويجالس الفقهاء ويأخذ أدبه عن المتأدبين أفسد من اتبعه :قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي[ يوسف : 108 ] « 5 » .

وسئل رضي اللّه عنه : كيف الطريق إلى اللّه تعالى ؟

قال : اترك الدنيا وقد نلت ، وخالف هواك وقد وصلت « 6 » .

قال الجنيد لابن سريج : طريقنا أقرب إلى الحق من طريقكم . فطالبه بالبرهان ، فقال الجنيد لرجل : ارم حجرا في حلقة الفقراء . فرماه ، فصاحوا كلهم : اللّه ،

ثم قال : ألقه في حلقة الفقهاء .

فألقاه ، فقالوا : حرام عليك ، أزعجتنا ، فقبّل ابن سريج رأسه ( رأس الجنيد ) واعتذر « 7 » .

................................................

( 1 ) انظر : صفوة الصفوة لابن الجوزي ( 2 / 418 ) .

( 2 ) انظر : الحلية ( 10 / 269 ) ، وطبقات الشافعية للسبكي ( 2 / 264 ) .

( 3 ) انظر : كشف المحجوب للهجويري ( ص 662 ) .

( 4 ) انظر : طبقات الشافعية الكبرى ( 2 / 274 ) .

( 5 ) انظر : الكواكب للمناوي ( 1 / 572 ) .

( 6 ) انظر : المعزى في مناقب أبي يعزى للتادلي .

( 7 ) انظر : الكواكب للمناوي ( 1 / 572 ) .


 

زار الجريري الجنيد ، فوجده ، فأطال ، فلامه ، فقال الجنيد ، طريق عرفنا بها ربّنا لا نقتصر على بعضها ، فالنفس ما حملتها تتحمل ، والصلاة صلة ، والسجود قربة ، ومن ترك طريق القرب أوشك أن يسلك طريق البعد « 1 » .

قال الجنيد للشبلي : إن خطر ببالك من الجمعة إلى الجمعة غير اللّه فلا تعد ثانيا ؛ فإنه لا يجيء منك شيء في الطريق « 2 » .

في قوله تعالى :فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ[ التكوير : 26 ] قال الجنيد : معنى الآية مقرون بآية أخرى ، وهي قوله تعالى :وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ[ الحجر : 21 ]

المعنى : أيّ طريق تسلكون أبين من الطريق الذي بيّنه اللّه لكم « 3 » .

 

الخواطر « 4 »

تكلم الشيوخ في الخاطرين إذا كانا من الحق أيهما الأقوى والأولى بالاتباع ؟

قال الجنيد : الخاطر الأول أقوى ؛ لأنه إذا بقي رجع صاحبه إلى التأمل ، وهذا بشرط العلم ، فترك الأول يضعف الثاني « 5 » .

وقال خير النساج : كنت يوما جالسا في بيتي ، فخطر لي خاطر : أن الجنيد بالباب فأخرج إليه ، فنفيته عن قلبي ، وقلت : وسوسة ، فوقع لي خاطر ثان : بأنه على الباب فأخرج إليه ، فنفيته عن سرّي ، فوقع لي خاطر ثالث ، فعلمت أنه على حقّ ، ففتحته ، فإذا بالجنيد قائم ، فسلّم عليّ، وقال لي : يا خير، لم لا تخرج مع الخاطر الأول «6» ؟

....................................................

( 1 ) انظر : الكواكب للمناوي ( 1 / 579 ) .

( 2 ) انظر : الكواكب ( 1 / 574 ) .

( 3 ) انظر : روح المعاني ( 19 / 243 ) .

( 4 ) الخاطر : هو ما يرد على القلب والضمير من الخطاب ، ربانيّا كان ، أو ملكيّا ، أو نفسيّا ، أو شيطانيّا ، من غير إقامة ، وقد يكون حديث نفس ، وقد يكون الخاطر بوارد لا تعمّل للعبد فيه ، وقد يكون بتعمّل فيه . وانظر : لطائف الأعلام للشيخ القاشاني ( ص 203 ) .

( 5 ) انظر : الرسالة للقشيري ( 1 / 243 ) .

( 6 ) انظر : الرسالة للقشيري ( 2 / 491 ) ، واللمع ( ص 418 ) ، وطبقات الأولياء لابن الملقن ( ص 131 ) ، وتاريخ بغداد للخطيب ( 7 / 247 ) ، وروض الرياحين ( ص 220 ) ، ونشر المحاسن ( ص 49 ) ، وكشف المحجوب ( ص 631 ) ، والمعزى في مناقب أبي يعزى للتادلي .

 

 


 

علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين

قال الجنيد : من لم يصل علمه باليقين ويقينه بالخوف وخوفه بالعمل وعمله بالإخلاص وإخلاصه بالمجاهدة فهو من الهالكين « 1 » .

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه : اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير في القلب « 2 » .

قال الجنيد : حق اليقين ما يتحقق العبد بذلك ، وهو أن يشاهد الغيوب كما يشاهد المرئيات مشاهدة عيان ، ويحكم على الغيب فيخبر عنه بالصدق ، كما أخبر الصدّيق حين قال لما قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم : ماذا أبقيت لعيالك ؟ قال : اللّه ورسوله « 3 » .

حكي عن الشبليّ رضي اللّه عنه أنه وقف في مجلس الجنيد ، وقال بصوت عال : يا مرادي .

وأشار إلى الحق ، فقال الجنيد : يا أبا بكر ، إذا كان مرادك الحق فلم هذه الإشارة ، وهو مستغن عنها ؟ ! وإذا لم يكن مرادك الحق فلم قلت خلافا والحق عليم بقولك ؟ ! فاستغفر الشبلي من قوله « 4 » .

.................................................

( 1 ) انظر : الكواكب ( 1 / 581 ) .

( 2 ) انظر : الرسالة ( 1 / 392 ) ، والكواكب ( 1 / 580 ) .

( 3 ) انظر : العوارف ( ص 310 ) .

( 4 ) انظر : كشف المحجوب ( ص 601 ) .


 

الوارد « 1 »

وقد اختلف قول المشايخ في هذه الواردات متى وردت ، أيهما يتبع ؟ فقال الجنيد :

الأول ؛ لأنه إذا بقي رجع صاحبها إلى التأمل بشروط العلم « 2 » .

الشاهد

سئل الجنيد قدّس اللّه سرّه لم سمّي الشاهد شاهدا ؟

فقال : الشاهد الحق شاهد في ضميرك وأسرارك مطّلعا عليها ، وشاهدا لجماله في خلقه وعباده ، فإذا نظر الناظر إليه شهد علمه بنظره إليه « 3 » .

سئل الجنيد قدّس اللّه سرّه عن الشاهد ؟

فقال : الشاهد الحق شاهد في ضميرك وأسرارك مطّلع عليها ، والمشهود ما يشهده الشاهد « 4 » .

الروح

قال الجنيد : الروح شيء استأثر اللّه بعلمه ، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه ، ولا يجوز

.....................................................

( 1 ) الوارد : ما يرد على القلب الظاهر من أحداث الكون من الخواطر المحمودة من غير تعمّل واجتلاب .

وقيل أيضا : الوارد هو عبارة عن كل ما ورد من حيطة كل اسم إلهيّ بسكر ، كان بصحو ، أو ببسط ، أو بقبض ، أو بهيبة ، أو بأنس ، أو بنحو ذلك . وانظر : ترشيح الزلال واللطائف للشيخ القاشاني ( ص 459 ) .

( 2 ) وقال الشيخ الماجري : قال عطاء : الثاني أولى ؛ لأنه زاد قوة بالأول ، فلأجل هذا تردد شيخنا رحمه اللّه ، فلما أذن له ثانيا في اقتحام الفعل الذي ندب إليه بالأمر لم يمنعه ما هو فيه من القلة والفقر عن السهر باقتحامه إلى درجات اليقين والصبر .

قال سهل بن عبد اللّه : لا يتمكن العبد من العبادة حتى لا يجزع من أربعة أشياء : الجوع ، والعري ، والفقر ، والذل .

وقال أيضا : لا يصلح تعبّد العبد حتى يكون بحيث لا يرى عليه أثر المسكنة في العدم ، وأثر الوجود في الغنى . وانظر : المنهاج الواضح في كرامات أبي محمد صالح ( ص 212 ) بتحقيقنا .

( 3 ) وشاهد الصوفية هو : أن يقطع منزل المريدين ، فيشهد عموم العارفين وحمله اسم الشاهد الحاضر في الغيب ، لا يحرج ، ولا يفتر ، ولا يتغافل ، فإن غفل غفلة مريد فليس هو طريق الصوفية .

وانظر : اللمع للطوسي ( ص 301 ) .

( 4 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 415 ) .


 

العبارة عنه بأكثر من موجود ؛ لقوله :قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي[ الإسراء : 85 ] "1" .

____________

( 1 ) انظر : التعرف ( ص 83 ) ، والقوت ( 1 / 542 ) ، والإحياء ( 4 / 239 ) ، وجلاء القلوب ( 1 / 174 ) . وقال الحافظ ابن حجر معقّبا : وعلى ذلك جرى ابن عطية وجمع من أهل التفسير ، وأجاب من خاض في ذلك : بأن اليهود سألوا عنها سؤال تعجيز وتغليط ؛ لكونه يطلق على أشياء ، فأضمروا أنه بأي شيء أجاب ، قالوا : ليس هذا المراد فردّ اللّه كيدهم وأجابهم جوابا مجملا مطابقا لسؤالهم المجمل .

وقال السهروردي في « العوارف » : يجوز أن يكون من خاض فيها سلك سبيل التأويل لا التفسير ؛ إذ لا يسوغ التفسير إلا نقلا ، وأما التأويل فتمتد العقول إليه بالباع الطويل ، وهو ذكر ما لا يحتمل إلا به قطع بأنه المراد ، فمن ثم يكون القول فيه قال ، وظاهر الآية المنع من القول فيها ؛ لختم الآية بقوله :وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[ الإسراء : 85 ] ، أخبرني : اجعلوا حكم الروح من الكثير الذي لم تؤتوه ، فلا تسألوا عنه ؛ فإنه من الأسرار . وقيل : المراد بقوله : ( أمر ربّي ) كون الروح من عالم الأمر الذي هو عالم الملكوت ، لا عالم الخلق الذي هو عالم الغيب والشهادة ، وقد خالف الجنيد ومن تبعه من الأئمة جماعة من متأخري الصوفية ، فأكثروا من القول في الروح ، وصرّح بعضهم بمعرفة حقيقتها ، وعاب من أمسك عنها .

ونقل ابن منده في كتاب « الروح » له عن محمد بن نصر المروزي الإمام المطلع على اختلاف الأحكام من عهد الصحابة إلى عهد فقهاء الأمصار أنه نقل الإجماع على أن الروح مخلوقة ، وإنما ينقل القول بقدمها عن بعض غلاة الرافضة والمتصوفة ، واختلف هل تفنى ثم فناء العالم قبل البعث أو تستمر باقية على قولين ، واللّه أعلم ، ووقع في بعض التفاسير أن الحكمة في سؤال اليهود عن الروح أن عندهم في التوراة أن روح بني آدم لا يعلمها إلا اللّه ، فقالوا : نسأله ، فإن فسرها فهو نبيّ ، وهو معنى قولهم : ( لا يجيء بشيء تكرهونه ) .

وروى الطبري من طريق مغيرة عن إبراهيم في هذه القصة فنزلت الآية ، فقالوا : هكذا نجده عندنا ورجاله ثقات إلا أنه سقط من الإسناد علقمة . . . . وفي الحديث مما سبق جواز سؤال العالم في حال قيامه ومشيه إذا كان لا يثقل ذلك عليه وأدب الصحابة مع النبي صلى اللّه عليه وسلّم والعمل بما يغلب على الظن والتوقف عن الجواب بالاجتهاد لمن يتوقع النص وأن بعض المعلومات قد استأثر اللّه بعلمه حقيقة ، وأن الأمر يرد لغير الطلب . واعلم أن الروح لم يقف أحد لها على حقيقة ماهية ومعرفة كيفية حتى قال الجنيد قدّس اللّه سرّه :

الروح شيء استأثر اللّه بعلمه ، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه ، فلا يجوز لعباده البحث عنه بأكثر من أنه موجود . وقاله بعضهم ، وعلى هذا ابن عباس وأكثر السلف ، وقد ثبت عن ابن عباس أنه كان لا يفسر الروح . وانظر : فتح الباري ( 8 / 403 ) ، وأقاويل الثقات ( ص 191 ) .

باب السر

أنشد الجنيد قدّس اللّه سره « 1 » :

وكان الجنيد قدّس اللّه سرّه ينشد هذين البيتين كثيرا :

ومن بعد هذا ما تدق صفاته * وما كتمه أحظى لديه وأعدل

ألا إنّ للرحمن سرّا يسرّه * إلى أهله في السرّ والستر أجمل

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه : لا يوصل إلى رعاية الحقوق إلا بحراسة القلوب ، ومن لم يكن له سرّ فهو مصرّ ، والمصرّ لا تصفو له حسنة « 2 » .

باب الطبع

قال الجنيد : الإنسان لا يعاب بما في طبعه ، إنما يعاب إذا فعل بما في طبعه « 3 » .

باب الحق

قال الجنيد : منذ عشرين سنة ما ناصبت أحدا إلى حقّ فعاد إلي « 4 » .

قال الجنيد : إذا أصبت من يصبر على الحق فتمسّك به ، وأنّي به : هات من يصبر لي على سماع الحق لا يتعرض إليه « 5 » .

قيل للجنيد : أبو يزيد البسطامي يقول : ( سبحاني أنا ربي الأعلى ) .

فقال : الرجل استهلك ، فنطق ما هلك به ؛ لذهوله في الحق عن رؤيته إيّاه ، فلم يشهد في الحق إلا الحق .

قال الشبليّ للجنيد : ما تقول فيمن الحق حسبه نعتا وعلما ووجودا ؟

فقال له : يا أبا بكر ، جلّت الألوهية وتعاظمت الربوبية بينك وبين أكابر الطبقة ألف طبقة ، في أول طبقة منها ذهب الاسم « 6 » .

............................................................

( 1 ) انظر : القوت ( 2 / 117 ) .

( 2 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 67 ) .

( 3 ) انظر : الحلية ( 10 / 269 ) ، والكواكب للمناوي ( 1 / 579 ) .

( 4 ) انظر : الكواكب الدرية للمناوي ( 1 / 582 ) .

( 5 ) انظر : الحلية ( 10 / 267 ) .

( 6 ) انظر : الحلية ( 10 / 267 ) .


 

باب في العقل والعاقل

قال جعفر الخلدي : سألت الجنيد عن مسألة في العقل ؟ فقال : يا أبا محمد ، من لم يحترز بعقله من عقله لعقله هلك بعقله « 1 » .

قال الجنيد : من ادّعى أن له حالا مع اللّه أسقط عنه التكليف ، وهو حاضر العقل ، فهو كاذب ، ومن يسرق ويزني أحسن حالا ممن يقول ذلك « 2 » .

سئل الجنيد : متى يكون الرجل موصوفا بالعقل ؟ قال : إذا كان للأمور مميزا ، ولها متصفّحا ، وعمّا يوجبه عليه العقل باحثا ، يبحث ، يلتمس بذلك طلب الذي هو به أولى ، ليعمل به ، ويؤثره على ما سواه ، فإذا كان كذلك فمن صفته ركوب الفضل في كل أحواله بعد إحكام العمل بما قد فرض عليه ، وليس من صفة ركوب الفضل في كل أحواله بعد إحكام العمل بما قد فرض عليه ، وليس من صفة العقلاء إغفال النظر لما هو أحقّ وأولى ، ولا من صفتهم الرضا بالنقص والتقصير ، فمن كانت هذه صفته بعد إحكامه لما يجب عليه من عمله ترك التشاغل بما يزول ، وترك العمل بما يفني وينقضي ، وذلك صفة كل ما حوت عليه الدنيا ، وكذلك لا يرضى أن يشغل بما يفني وينقضي ، وذلك صفة كل ما حوت عليه الدنيا ، وكذلك لا يرضى أن يشغل نفسه بقليل زائل ، ويسير حائل ، يصدّه التشاغل به ، والعمل له عن أمور الآخرة التي يدوم نعيمها ونفعها ، ويتصل بقاؤها ، وذلك أن الذي يدوم نفعه ويبقى على سوء العاقبة فيه ومحاسبة اللّه عليه فكذلك صفة العاقل ؛ لتصفّحه الأمور بعقله ، والأخذ منها بأوفر ، قال اللّه تعالى :الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ[ الزمر : 18 ] ،

كذلك وصفهم اللّه ، وذوو الألباب هم ذوو العقول ، إنما وقع الثناء عليهم بما وصفهم اللّه به ؛ للأخذ بأحسن الأمور عند استماعها ، وأحسن الأمور هو أفضلها ، وأبقاها على أهلها نفعا في العاجل والآجل ، وإلى ذلك ندب اللّه عز وجلّ من عقل في كتابه « 3 » .

يقول الجنيد : ينبغي للعاقل ألا يفقد من إحدى ثلاثة مواطن :

موطن يعرف فيه حاله ، أمزاد أم منتقص ؟

وموطن يخلو فيه بتأديب نفسه وإلزامها ما يلزمها ، ويتقصّى فيه على معرفتها ،

........................................

( 1 ) انظر : الشذرات لابن العماد ( 2 / 228 ) .

( 2 ) انظر : الكواكب للمناوي ( 1 / 574 ) .

( 3 ) انظر : الحلية ( 10 / 277 ) .


 

وموطن يستحضر عقله برؤيته مجاري التدبير عليه

كيف تقلب فيه الأحكام في آناء الليل وأطراف النهار ؟

ولن يصفو عقل لا يصدر إلى فهم هذا الحال الأخير إلا بإحكام ما يجب عليه من إصلاح الحالين الأولين .

فأما الموطن الذي ينبغي له أن يعرف فيه حاله أمزاد هو أم منتقص ؟ فعليه أن يطلب مواضع الخلوة ؛ لكي لا يعارضه مشغل ، فيفسد ما يريد إصلاحه ، ثم يتوجه إلى موافقة ما ألزم من تأدية الفرض الذي لا يزكو حال قربه إلا بإتمام الواجب من الفرائض ، ثم ينتصب انتصاب عبد بين يدي سيده ، يريد أن يؤدي إليه ما أمر بتأديته ، فحينئذ تكشف له خفايا النفوس الموارية ، فيعلم أهو ممن أدى ما وجب عليه أم لم يؤد ، ثم لا يبرح من مقامه ذلك حتى يوقع له العلم ببرهان ما استكشفه بالعلم ، فإن رأى خللا أقام على إصلاحه ولم يجاوزه إلى عمل سواه ، وهذه أحوال أهل الصدق في هذا المحل ،وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ[ آل عمران : 13 ] .

وأما الموطن الذي يخلو فيه بتأديب نفسه ويتقصى فيه حال معرفتها فإنه ينبغي لمن عزم على ذلك وأراد المناصحة في المعاملة ؛ فإن النفوس ربما خبت فيها منها أشياء ، لا يقف على حدّ ذلك إلا من تصفّح ما هنالك في حين حركة الهوى في محبة فعل الخير المألوف ؛ فإن النفس إذا ألفت فعل الخير صار خلقا من أخلاقها ، وسكنت إلى أنها موضع لما أهلت له ، وترى أن الذي جرى عليها من فعل ذلك الخير فيها هي له أهل ، ويرصدها العدو المقيم بفنائها المجعول له السبيل على مجاري الدم فيها ، فيرى هو بكيده خفي علتها الأصل غفلتها ، فيختلس منها بمسألة الهوى ما لا يمكنه الوصول إلى اختلاسه في غير تلك الحال ، فإن تألم لوكزته منه وعرف طعنته أسرع بالإنابة الأصل بالأمانة إلى من لا تقع الكفاية منه إلا به ، فاستقصى من نفسه علم الحال التي منها وصل عدوه إليه ، فحرسها بلياذة اللجاء ، وإلقاء الكنف ، وشدة الافتقار ، وطلب الاعتصام ،

كما قال النبي ابن النبي ابن النبي الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن عليهم السلام :وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ[ يوسف : 33 ] ،

وعلم يوسف عليه السلام أن كيد الأعداء مع قوة الهوى لا ينصرف بقوة النفس : فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ[ يوسف : 34 ] .

وأما الموطن الذي يستحضر فيه عقله لرؤية مجاري الأحكام وكيف يقلبه التدبير فهو أفضل الأماكن وأعلى المواطن ؛ فإن اللّه أمر جميع خلقه أن يواصلوا عبادته ولا يسأموا

 

 


 

خدمته فقال :وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[ الذاريات : 56 ] ،

فألزمهم دوام عبادته ، وضمن لهم عليها في العاجل الكفاية ، وفي الأخرى جزيل الثواب ، قال :يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ الحج : 77 ] ، وهذه كلها تلزم كل الخلق ، ووقف ليرى كيف تصرف الأحكام وقد عرض لرفيع العلم والمعرفة

ألا يعلم أنه قال :كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[ الرحمن : 29 ] : يعنى شأن الخلق ، وأنت أيها الواقف أترى أنك من الخلق الذي هو في شأنهم أم ترى شأنك مرضيّا عنده ؟ !

ولن يقدر أحد على استحضار عقله إلا بانصراف الدنيا وما فيها عنه ، وخروجها من قلبه ، فإذا انقضت الدنيا وجاء أهلها وانصرفت عن القلب خلا بمسامرة رؤية التصرف ، واختلاف الأحكام ، وتفصيل الأقسام ، ولن يرجع قلب من هذا وصفه إلى شيء من الانتفاع بما في هذه التي عنها خرج ، ولها ترك ، ومنها هرب ،

ألا ترى إلى حارثة حين يقول : عزفت نفسي عن الدنيا ، وكأني أنظر إلى عرش ربّي بارزا ، وكأني بأهل الجنة يتزاورون ، وكأني وكأني ، وهذه بعض أحوال القوم « 1 » .

في قوله عز وجلّ :وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ[ الأنبياء : 51 ]

سئل الجنيد متى آتاه ذلك ؟ فقال : حين لا متى « 2 » .

باب في الحيرة

قال الجنيد : كتب إليّ بعض إخواني من عقلاء أهل خراسان : اعلم يا أخي يا أبا القاسم أن عقول العقلاء إذا تناهت تناهت إلى حيرة « 3 » .

...................................................

( 1 ) انظر : الحلية لأبي نعيم ( 10 / 271 ) .

( 2 ) قيل : ذلك الرشد إيثار الحق جل شأنه على ما سواه سبحانه . وانظر : روح المعاني ( 17 / 108 ) .

( 3 ) انظر : الحلية ( 10 / 267 ) ، والشفا لعياض ( 2 / 97 ) ، وقال الشيخ الكتاني : وقالوا أيضا وهو من كلام الجنيد حسب ما في « العوارف » : إذا تناهت عقول العقلاء في التوحيد تناهت إلى الحيرة ، ولذا ورد في الحديث : « اللّهمّ زدني فيك تحيرا » . وانظر : جلاء القلوب ( 1 / 291 ) .


 

وقال الجنيد : قوله تعالى :وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى[ الضحى : 7 ] قال عياض : قال الجنيد : المعنى وجدك متحيّرا في بيان ما أنزل اللّه إليك فهداك لبيانه ، لقوله :وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ[ النحل : 44 ] الآية « 1 » .

باب الحكمة

سئل الجنيد عمّا تنهى الحكمة ؟

فقال : الحكمة تنهى عن كل ما يحتاج أن يعتذر منه ، وعن كل ما إذا غاب علمه عن غيرك أحشمك ذكره في نفسك . فقال له السائل : فبم تأمر الحكمة ؟ قال : تأمر الحكمة بكل ما يحمد في الباقي أثره ، ويطيب عند جملة الناس خبره ، ويؤمن في العواقب ضرره .

قال السائل : فمن يستحق أن يوصف بالحكمة ؟

قال الجنيد : من إذا قال بلغ المدى والغاية فيما يتعرض لنعته بقليل القول ، ويسير الإشارة ، ومن لا يتعذر عليه من ذلك شيء مما يريد ؛ لأن ذلك عنده حاضر عتيد . قال السائل : فبمن تأنس الحكمة ، وإلى من تستريح وتأوي ؟ قال الجنيد : إلى من انحسمت عن الكل مطامعه ، وانقطعت من الفضل في الحاجات مطالبه ، ومن اجتمعت همومه وحركاته في ذات ربّه ، ومن عادت منافعه على سائر أهل دهره « 2 » .

باب العلم

قال الجنيد : متى أردت أن تشرف بالعلم وتنسب إليه وتكون من أهله قبل أن تعطي العلم ما له عليك احتجب عنك نوره ، وبقي عليك وسمه وظهوره ، ذلك العلم عليك لا لك ، وذلك أن العلم يشير إلى استعمالهن وإذا لم يستعمل في مراتبه رحلت بركاته « 3 » .

ويقول الجنيد : إن للعلم ثمنا فلا تعطوه حتى تأخذوا ثمنه . قيل له : وما ثمنه ؟ قال :

وضعه عند من يحسن حمله ولا يضيعه « 4 » .

في قوله تعالى :إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ[ فاطر : 28 ] قال الجنيد قدّس سرّه : الرضا على قدر قوة العلم والرسوخ في المعرفة « 5 » .

........................................................

( 1 ) انظر : تفسير الثعالبي (4 / 423) ، وجلاء القلوب للكتاني ( 1 / 152 ) ، بتحقيقنا .

( 2 ) انظر : الحلية لأبي نعيم ( 10 / 261 ) .

( 3 ) انظر : الحلية ( 10 / 269 ) .

( 4 ) انظر : طبقات الشعراني ( 1 / 86 ) .

( 5 ) انظر : محاسن الأخبار في فضل الصلاة على النبي المختار للإبشيهي ( 2 / 88 ) ، بتحقيقنا .


 

وقال الجنيد : اللسان ظاهر ، وهو من الملك ، فهو خزانة العلم الظاهر ، والقلب خزانة الملكوت ، وهو خزانة العلم الباطن ، فقد سار فضل العلم الباطن على الظاهر كفضل الملكوت على الملك ، ونعني بالملك الباطن الخفي ، وكفضل القلب على اللسان الجلي وهو الظاهر « 1 » .

وسئل الجنيد عمّن أخذت هذا العلم ؟

فقال : أمّا في أول أمري فعن خالي سريّ السقطيّ ، ثم عن أدبي مع اللّه سبحانه وتعالى ثلاثين سنة تحت هذه الدرجة .

فأعلم السائل أولا بنسبة الوراثة ثم ثانيا بما أورثته صحتها من الأدب الموجب للذوق والوجدان ؛ لأن علم أهل التحقيق يؤخذ وراثة وإلقاء ، وتعلما وذوقا ووجدا « 2 » .

قال الجنيد : العلم مأمور باستعماله ، فإذا لم تستعمله حالا أهلكك مآلا « 3 » .

وقال : في الدنيا طغيانان : طغيان العلم ، وطغيان المال ، فالمنجي من طغيان العلم العمل ، ومن طغيان المال الزهد « 4 » .

قال الجنيد : المعلوم تابع للعلم « 5 » .

وكان إذا سأله سائل عن مسألة يجيبه ، ثم يسأله آخر عنها ، فيجيبه بجواب آخر ، ويقول : على قدر السائل يكون الجواب « 6 » .

علم الشريعة

حكي عن الجنيد قدّس اللّه سرّه أنه قال : اتفق أهل العلم على أن أصولهم خمس خلال : صيام النهار ، وقيام الليل ، وإخلاص العمل ، والإشراف على الأعمال بطول الرعاية ، والتوكّل على اللّه في كل حال « 7 » .

......................................................

( 1 ) انظر : روح المعاني ( 30 / 206 ) .

( 2 ) انظر : روضة الحبور ( ص 109 ) ، بتحقيقنا ، وتاريخ بغداد ( 7 / 245 ) .

( 3 ) انظر : فيض القدير ( 1 / 405 ) .

( 4 ) انظر : فيض القدير ( 1 / 405 ) .

( 5 ) قال الشيخ الكتاني : وفي الأول المعلوم تابع للعلم الإلهي الأزلي الذي هو مظهر تلك الشؤون ، وحينئذ فلا منافاة بين قول الشيخ الأكبر : ( العلم تابع للمعلوم ) وبين قول الجنيد وغيره : ( المعلوم تابع للعلم ) ؛ فافهم ، واللّه أعلم . وانظر : جلاء القلوب ( 1 / 340 ) .

( 6 ) انظر : الكواكب للمناوي ( 1 / 578 ) .

( 7 ) انظر : اللمع للطوسي ( ص 288 ) .

 

 


 

يقول الجنيد : فتح كل باب وكل علم نفيس بذل المجهود « 1 » .

قال الجنيد : العلم يوجب لك استعماله ، فإن لم تستعمله في مراتبه كان عليك لا لك « 2 » .

قال رجل للجنيد : بم أستعين على غضّ البصر ؟ فقال : بعلمك أن نظر الناظر إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه « 3 » .

يقول الجنيد : ما من شيء أسقط للعلماء من عين اللّه من مساكنة الطمع مع العلم في قلوبهم « 4 » .

قال بعض الكبار للجنيد وهو يتكلم على الناس : يا أبا القاسم ، إن اللّه لا يرضى عن العالم بالعلم حتى يجده في العلم ، فإن كنت في العلم فالزم مكانك ، وإلا فانزل .

فقام الجنيد ولم يتكلم على الناس شهرين ، ثم خرج ،

فقال : لولا أنه بلغني عن النبي صلى اللّه عليه وسلّم أنه قال : في آخر الزمان يكون زعيم القوم أرذلهم ما خرجت إليكم « 5 » .

قال أبو الحسين عليّ بن إبراهيم الحداد : حضرت مجلس أبي العباس بن سريج فتكلم في الفروع والأصول بكلام حسن أعجبت به ، فلما رأى إعجابي قال لي : تدري من أين هذا ؟

قلت : يقول القاضي . فقال : هذا بركة مجالستي لأبي القاسم الجنيد بن محمد « 6 » .

علم الحقيقة

قال الجنيد رحمه اللّه : رجل انتصب له العمل بحقيقته ، وانتصبت المطالبة عليه بحدتها ، وانتصب للعمل بكليته ، فلم يقع الائتلاف بين الصفة والعلم في المطالبة ، فاستدرك عند الاختلاف بينهما مع حضوره وجمعه وانتصابه ، علم مراد الرجوع إلى الحق مع الانتصاب والحضور والجمع ، فرجع إليه الصغار والذلة والافتقار والقلة بالسؤال ، بحملان أثقال ما انتصب عليه من علم الحقيقة ، فكان موجودا عندما انتصب له من العلم الثاني ، بخروج

.................................................

( 1 ) انظر : الحلية ( 10 / 263 ) .

( 2 ) انظر : الكواكب ( 1 / 579 ) .

( 3 ) انظر : الإحياء للغزالي ( 4 / 397 ) ، وكلمة الإخلاص لابن رجب ( ص 50 ) .

( 4 ) انظر : الحلية ( 10 / 263 ) .

( 5 ) انظر : التعرف ( ص 172 ) .

( 6 ) انظر : تاريخ بغداد ( 7 / 243 ) .


 

صفته للعمل فيه ، وغير واجد لما انتصب عليه من حقيقة علم الأول ؛ لأثقال ما انتصب عليه من شروط أحكامه ، فاستدرك عند اجتماع العلمين بوجود حقيقة الثاني وفقد حقيقة الأول ، علم وقوع البلاء بحقيقته ؛ بتجرع كأس المراقبة لإيضاح بقايا صفاته وإيضاح خفايا طبعه ، بالخروج إلى صفاء حقيقة التوحيد ، بانحطاط وقوع البلاء ، على حسب ما تقدّم من الموافقة للصفة ، بوجود لذة الطبع ، فخرج عند ذلك بفناء الصفة من الهوى ، إلى وقوع تجريد الحكم على صفاء الصفة ، بذهاب الهوى ، فانبسط بالإشارة بالحقيقة إلى الحق عند حوادث الأمور وتلوين الأشياء ، بذهاب الوسائط ، بوقوع صفاء الحكم على صفاء الصفة « 1 » .

 

علم الطريقة

وكان الجنيد قدّس اللّه سرّه كثيرا ما ينشد « 2 » :

علم التصوف علم ليس يعرفه * إلا أخو فطنة بالحق معروف

وليس يعرفه من ليس يشهده * وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوف

 

قال الجنيد : كنت يوما عند السريّ وأقوام جالسون على باب السري ،

فقال السريّ لي : انظر أيكون أحد منهم أجنبيّ ؟

قلت : لا ، دراويش طالبون . فقال : ناد فلانا . فناديته ، فتكلم السريّ معه كلاما كثيرا مدة طويلة ، وخفي كلامه حتى ما فهمت كلامه ، فضاق قلبي ،

ثم قال السريّ له : من أستاذك ؟

قال : في بهراة لي أستاذ أنا أعلّمه فرائض الصلاة ، وهو يعلمني علم التوحيد .

فقال السريّ : إن كان هذا العلم في خراسان باق فيكون في جميع البلدان ، فإذا انقطع من خراسان فلا تجده في جميع البلدان « 3 » .

يقول الجنيد : أكثر الناس علما بالآفات أكثرهم آفات « 4 » .

......................................................

( 1 ) النص من نشرة عبد القادر ( ص 52 ، 53 ) ، عن المخطوطتين ( 226 - 227 ) .

( 2 ) انظر : القوت ( 1 / 324 ) .

( 3 ) انظر : نفحات الأنس ( ص 90 ) .

( 4 ) انظر : طبقات الصوفية ( ص 161 ) ، والحلية ( 10 / 267 ) .


 

سأله الجريري عن قول عيسى عليه السلام :تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ[ المائدة : 116 ]

قال الجنيد : هو واللّه أعلم ، تعلم ما أنا لك عليه ، وما لك عندي ، ولا أعلم ما لي عندك ، إلا ما أخبرتني به وأطلعتني عليه « 1 » .

العلم والوجود

سئل الجنيد : ما أتم استغراق العلم في الوجود أو استغراق الوجود في العلم ؟ قال :

استغراق العلم في الوجود ، ليس العالمون باللّه كالواجدين له « 2 » .

علم الغيوب

قال الجنيد : تفرّد الحق بعلم الغيوب ، فعلم ما كان ، وما يكون ، وما لا يكون ، أن لو كان كيف كان يكون « 3 » .

العلم اللدنّي

قال الجنيد : لو أن العلم الذي أكلّم به من عندي لفني ، ولكنه من الحق بدأ ، وإلى الحق يعود ، وربما وقع في أن زعيم القوم أرذلهم « 4 » .

وقال أيضا : لولا أنه روي أنه يكون في آخر الزمان زعيم القوم أرذلهم ما تكلّمت عليكم « 5 » .

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه : لو علمت أن علما تحت أديم السماء أشرف من علمنا هذا لسعيت إليه ، وإلى أهله ، حتى أسمع منهم ذلك ، ولو علمت أن وقتا أشرف من وقتنا هذا مع أصحابنا ومشايخنا ومسائلنا ومجاراتنا هذا العلم لنهضت إليه « 6 » .

يقول الجنيد : علمنا مضبوط بالكتاب والسنة ، ومن لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ولم يتفقّه لا يقتدى به « 7 » .

.................................................

( 1 ) انظر : الحلية ( 10 / 275 ) .

( 2 ) انظر : الحلية ( 10 / 275 ) .

( 3 ) انظر : الرسالة للقشيري ( 1 / 42 ) .

( 4 ) انظر : الحلية ( 10 / 263 ) .

( 5 ) انظر : الكواكب للمناوي ( 1 / 576 ) .

( 6 ) انظر : الرسالة ( 2 / 743 ) ، واللمع ( ص 239 ) ، وتاريخ بغداد ( 7 / 243 ) .

( 7 ) انظر : اللمع ( ص 144 ) ، والرسالة ( 1 / 107 ) ، وتاريخ بغداد ( 7 / 243 ) ، وسير أعلام النبلاء ( 14 / 67 ) ، ومدارج السالكين لابن قيم ( 3 / 119 ) .

 

 


 

قال الجنيد : علمنا هذا مشبك ومشتبه بحديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم « 1 » .

قيل للجنيد : من أين استفدت هذا العلم ؟ فقال : من جلوسي بين يدي اللّه ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة ، وأومأ إلى درجة في داره « 2 » .

قال الجنيد بن محمد : كنت إذا سئلت عن مسألة في الحقيقة لم يكن لي فيها منازلة ، أقول : قفوا على ، فكان يدخل ، فيعامل اللّه بها ، ثم يخرج ويتكلم في علمها « 3 » .

عن الجنيد أنه قال : كنت إذا قمت من عند سريّ السقطيّ قال لي : إذا فارقتني من تجالس ؟ فقلت : الحارث المحاسبي . فقال : نعم ، خذ من علمه وأدبه ، ودع عنك تشقيقه للكلام ، وردّه على المتكلمين .

قال الجنيد : فلما وليت سمعته يقول ( السري ) : جعلك اللّه صاحب حديث صوفيّا ، ولا جعلك صوفيّا صاحب حديث « 4 » .

قال الجنيد للشبليّ : نحن حبّرنا هذا العلم تحبيرا ، ثم خبّأناه في السراديب ، فجئت أنت ، فأظهرته على رؤوس الملإ .

فقال الشبلي : أنا أقول ، وأنا أسمع ، فهل في الدارين غيري « 5 » ؟

...................................................

( 1 ) انظر : الرسالة ( 1 / 107 ) ، وتاريخ بغداد ( 7 / 243 ) ، وطبقات الأولياء ( ص 127 ) ، وطبقات الشافعية للسبكي ( 2 / 237 ) ، وسير الأعلام ( 14 / 67 ) ، والبداية والنهاية ( 11 / 114 ) ، وشذرات الذهب ( 2 / 228 ) ، والفرقان لابن تيمية ( ص 210 ) ، والسماع له ( ص 95 ) .

( 2 ) انظر : الرسالة ( 1 / 107 ) ، وتاريخ بغداد ( 7 / 245 ) ، والبداية والنهاية ( 11 / 114 ) ، وطبقات السبكي ( 2 / 261 ) ، والكواكب الدرية ( 1 / 576 ) .

( 3 ) انظر : تاريخ الخطيب ( 7 / 246 ) .

( 4 ) انظر : الكواكب للمناوي ( 1 / 571 ) ، والقوت ( 1 / 322 ) ، ومحاسن الأخبار في فضل الصلاة على المختار للإبشيهي ، وعقب بقوله : يعني أنك إذا ابتدأت بعلم الحديث والأثر ومعرفة الأصول والسنن ثم تزهّدت وتقيّدت نفذت في علم الصوفيّة ، وكنت صوفيّا عارفا ، وإذا ابتدأت بالتقيّد والتقوى والحال اشتغلت به عن العلم والسنن ، فخرجت إمّا شاطحا أو غالطا بجهلك بالأصول والسنن ، فأحسن أحوالك أن ترجع إلى العلم الظاهر وكتب الحديث ؛ لأنه هو الأصل الذي تفرّع منه العبادة والعلم ، وإن نويت الفرع قبل الأصل أتعبت نفسك ، وقد قيل : إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول ، وهي كتب الحديث ومعرفة الآثار والسنن والذل للّه تعالى بمعرفة ذلك ، والتواضع مصائد الشرف ، يبلغ صاحبه أعلى الغرف ، ومن ارتفع قدره واتّضح ذلّ له كلّ شيء وخضع ، وباللّه تعالى التوفيق . وانظر : محاسن الأخبار ( 1 / 25 ) بتحقيقنا .

( 5 ) انظر : التعرف للكلاباذي ( ص 172 ) .


 

قال الجنيد ذات يوم : ما أخرج اللّه إلى الأرض علما وجعل للخلق إليه سبيلا إلا وقد جعل لي منه حظّا ونصيبا « 1 » .

وحكي عن الجنيد قدّس اللّه سرّه أنه قال : لو كان علمنا هذا مطروحا على مزبلة لم يأخذ كل واحد منه إلا حظّه على مقداره « 2 » .

لما حضر جنيد بن محمد الوفاة أوصى بدفن جميع ما هو منسوب إليه من علمه ، فقيل له : ولم ذلك ؟ فقال : أحببت ألا يراني اللّه ، وقد تركت شيئا منسوبا إليّ وعلم الرسول صلى اللّه عليه وسلّم بين ظهرانيهم « 3 » .

وكان الجنيد يقول : قد كنت أجالس قوما سنين يتجاورون في علوم لا أفهمها ، ولا أدري ما هي ، وما بليت بالإنكار قطّ، كنت أتقبلها، وأحبها من غير أن أعرفها«4».

وكان الجنيد يقول : كنّا نتجارى مع إخواننا قديما في علوم كثيرة ما تعرف في وقتنا هذا ، ولا سألني عنها أحد ، وهذا باب قد أغلق وردم « 5 » .

حكي عن الجنيد قدّس اللّه سرّه أنه كان يقول لأصحابه : لو علمت أن صلاة ركعتين أفضل من جلوسي معكم ما جلست عندكم « 6 » .

وقال الجنيد رحمه اللّه : ما عندي عصابة ولا قوم اجتمعوا على علم من العلوم أشرف من هذه العصابة ، ولا أشرف من علمهم ، ولولا ذلك ما جالستهم ، ولكنهم كذا عندي بهذه الصورة « 7 » .

يقول الجنيد : رضوان اللّه على أمير المؤمنين عليّ رضي اللّه عنه ؛ لولا أنه اشتغل بالحروب لأفادنا من علمنا هذا معاني كثيرة ، ذاك امرؤ أعطي علما لدنيّا .

......................................................................

( 1 ) انظر : طبقات السبكي ( 2 / 261 ) ، وتاريخ الخطيب ( 7 / 242 ) ، وتفسير القرطبي ( 14 / 67 ) ، والكواكب ( 1 / 574 ) .

( 2 ) انظر : اللمع ( ص 239 ) .

( 3 ) انظر : تاريخ بغداد ( 7 / 248 ) ، والحبور ( ص 114 ) بتحقيقنا .

( 4 ) انظر : القوت ( 1 / 330 ) .

( 5 ) انظر : القوت ( 1 / 330 ) .

( 6 ) انظر : القوت ( 1 / 330 ) .

( 7 ) انظر : اللمع ( ص 273 ) .

 


 

والعلم اللدني هو العلم الذي خصّ به الخضر عليه السلام ، قال اللّه تعالى :وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً[ الكهف : 65 ] « 1 » .

وفي قوله تعالى :وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً[ الكهف : 65 ]

قال الجنيد قدّس سرّه : هو الاطّلاع على الأسرار من غير ظنّ فيه ولا خلاف واقع ، لكنه مكاشفات الأنوار عن مكنون المغيبات « 2 » .

قال الجنيد : لو كان العلم الذي أتكلم به من عندي لفني ، لكن من الحق بدأ ، وإلى الحق يعود « 3 » .

قال الجنيد : أنا تكلمت بهذا العلم في السراديب والبيوت خفية ، ولما جاء الشبلي تكلم بهذا العلم على المنابر وأظهره بين الخلائق « 4 » .

يقول الجنيد : قال أبو سليمان الداراني : ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما ، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين : الكتاب والسنة « 5 » .

قال الجنيد رضي اللّه عنه : التصديق بعلمنا هذا ولاية ، وإذا فاتتك المنّة في نفسك فلا تفتك أن تصدّق بها في غيرك « 6 » .

سئل الجنيد عن مسألة ؟

فقال : حتى أسأل معلمي ، ثم دخل منزله وصلّى ركعتين ، وخرج ، فأجاب عنها « 7 » .

قال الفرغاني : كان يغشى مجلس الجنيد أهل البسط من العلوم ، وكان يغشاه ابن كيسان النحوي ، وكان رجلا جليلا ، فقال يوما : ما تقول يا أبا القاسم في قول اللّه تعالى :

.......................................................................

( 1 ) انظر : اللمع ( ص 239 ) .

( 2 ) وقال الآألوسي : ويحصل للعبد إذا حفظ جوارحه عن جميع المخالفات وأفنى حركاته عن كل الإرادات ، وكان شبحا بين يدي الحق بلا تمن ولا مراد . انظر : روح المعاني ( 16 / 22 ) .

( 3 ) انظر : الكواكب ( 1 / 577 ) .

( 4 ) انظر : نفحات الأنس ( ص 61 ) .

( 5 ) انظر : الرسالة ( 1 / 86 ) .

( 6 ) انظر : الكواكب الدرية ( 1 / 573 ) ، وروض الرياحين ( ص 5 ) .

( 7 ) انظر : تاريخ الخطيب البغدادي ( 7 / 245 ) .


 

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى[ الأعلى : 6 ] ؟ فأجابه مسرعا كأنه تقدّم له السؤال قبل ذلك بأوقات : لا تنسى العمل به .

فقال ابن كيسان : لا يفضض اللّه فاك ، مثلك من يصدر عن رأيه « 1 » .

كان العلامة ابن سريج المعروف بالشافعي الصغير يصحب الإمام الجنيد ويلازمه ، وقد استفاد منه أشياء في الفقه لم تخطر له ببال ، ويقال : إنه سأله مرة عن مسألة ؟ فأجابه بها بجوابات كثيرة ، فقال : يا أبا القاسم ، لم أكن أعرف فيها سوى ثلاثة أجوبة مما ذكرت ، فأعدها عليّ . فأعادها بجوابات أخرى كثيرة .

فقال له ابن سريج : واللّه ما سمعت هذا قبل اليوم ، فأعده ، فأعادها بجوابات .

فقال له : لم أسمع بمثل هذا ، فأمله عليّ حتى أكتبه ، وينطق به لساني ، وليس هذا مستفاد من كتب ولا من تعلم ، وإنما هذا من فضل اللّه عز وجلّ ، ويلهمنيه ويجريه على لساني « 2 » .

القلوب

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه : القلوب المحفوظة لا يعرّضها وليها لمجانبة محادثة غيره ، ضنّا منه بها ، ونظرا منه لها ، وإبقاء عليها ؛ ليخلص لهم ما أصفاهم به ، وما جمعهم له ، وما عاد به عليهم « 3 » .

قال الجنيد : أحتاج إلى الجماع كما أحتاج القوت ، فالزوجة على التحقيق قوت ، وسبب لطهارة القلوب « 4 » .

قال الجنيد : التوكل عمل القلب ، والتوحيد قول القلب « 5 » .

قال أبو عمرو بن علوان : كان شابّ يصحب الجنيد قدّس اللّه سرّه وكان له قلب فطن ، وربما يتكلم بخواطر الناس ، وما يعتقدون في سرائرهم ، فقيل للجنيد ذلك ، فدعاه ، وقال : إيش هذا الذي يبلغني عنك ؟

فقال الشاب : اعتقدت كذا وكذا ،

فقال الجنيد قدّس اللّه سرّه : لا . فقال : اعتقد مرة أخرى . فقال الجنيد : اعتقدت .

فقال الشاب : هو كذا وكذا .

فقال الجنيد : لا . قال : فاعتقد ثالثا . فقال الجنيد : اعتقدت . فقال الشاب : هو كذا وكذا .

.............................................................

( 1 ) انظر : روح المعاني ( 20 / 19 ) .

( 2 ) انظر : البداية لابن كثير ( 11 / 114 ) .

( 3 ) انظر : اللمع ( ص 440 ) .

( 4 ) انظر : الإحياء ( 2 / 29 ) ، والكواكب ( 1 / 581 ) .

( 5 ) انظر : الرسائل ( 1 / 42 ) ، ومجموع رسائل ابن تيمية ( 12 / 405 ) .


 

فقال الجنيد : لا . فقال الشاب : وهذا واللّه عجيب ، وأنت عندي صادق ، وأنا أعرف قلبي ، وأنت تقول : لا ، فتبسم الجنيد ، ثم قال : صدقت يا أخي في الأول ، وفي الثاني ، وفي الثالث ، وإنما أمتحنك : هل تتغير عمّا أنت عليه « 1 » ؟

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه : كانوا يكرهون أن يتجاوز اللسان معتقد القلب « 2 » .

وقال الجنيد في قوله تعالى :بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[ الشعراء : 89 ]

قيل للجنيد : يا أبا القاسم ، يكون لسان بلا قلب ؟ قال : كثير . قلت : فيكون قلب بلا لسان ؟ قال : نعم ، قد يكون ، ولكن لسان بلا قلب بلاء ، وقلب بلا لسان نعمة « 3 » .

قال الجنيد : إن اللّه يخلص إلى القلوب من برّه حسبما خلصت القلوب به إليه من ذكره ، فانظر ماذا خالط قلبك « 4 » .

قال الجنيد : كنت يوما في مجلس السريّ وعنده عصابة من الرجال ، وأنا كنت أصغرهم ، فقال السري : من أي شيء يطير النوم ؟ فقال بعضهم : من الجوع .

وقال واحد : من قلة الماء . فلما وصلت نوبتي قلت : علم القلوب باطّلاع اللّه على كل نفس بما كسبت . قال : أحسنت يا بني . وأجلسني إلى جنبه . فأنا من ذلك اليوم مقدّم على الناس « 5 » .

يقول الجنيد : من فتح على نفسه باب نية حسنة فتح اللّه عليه سبعين بابا من التوفيق ، ومن فتح على نفسه باب نية سيئة فتح اللّه عليه سبعين بابا من الخذلان من حيث لا يشعر « 6 » .

قال الجنيد قدّس اللّه سرّه : النية تصوير الأفعال « 7 » .

في قوله تعالى :فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ[ البقرة : 10 ]

قال الجنيد : علل القلوب من اتباع الهوى ، كما أن علل الجوارح من مرض البدن مرض « 8 » .

...............................................................

( 1 ) انظر : الرسالة ( 2 / 488 ) ، واللمع (ص 407) ، والروح لابن قيم ( ص 239 ).

( 2 ) انظر : اللمع ( ص 238 ) .

( 3 ) انظر : القوت ( 1 / 289 ) .

( 4 ) انظر : الكواكب ( 1 / 579 ) ، وطبقات الشعراني ( 1 / 84 ) .

( 5 ) انظر : نفحات الأنس ( ص 121 ) .

( 6 ) انظر : طبقات الشعراني الكبرى ( 1 / 86 ) .

( 7 ) انظر : اللمع ( ص 303 ) ، قلت : ذكرت كلامه في النية لأن محلها القلب .

( 8 ) انظر : تفسير القرطبي ( 1 / 197 ) .

 

 


 

في قوله تعالى :وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ[ المنافقون : 7 ] قال الجنيد :

خزائن السماوات الغيوب ، وخزائن الأرض القلوب ، فهو علام الغيوب ، ومقلّب القلوب « 1 » .

في قوله تعالى :اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[ التوبة : 111 ] عن الجنيد قدّس سرّه قال : إنه سبحانه اشترى منك ما هو صفتك وتحت تصرفك ، والقلب تحت صفته وتصرفه لم تقع المبايعة عليه ، ويشير إلى ذلك قوله صلى اللّه عليه وسلّم : « قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن « 2 » » .

في قوله تعالى :أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ[ النور : 63 ]

قال الجنيد قدّس سرّه : قسوة القلب عن معرفة المعروف والمنكر « 3 » .

.

التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: