الجمعة، 19 يونيو 2020

الباب الثامن في الفراسة الشرعية والحكمية .كتاب التدبيرات الإلهية فى إصلاح المملكة الإنسانية الشيخ الأكبر ابن العربي

الباب الثامن في الفراسة الشرعية والحكمية .كتاب التدبيرات الإلهية فى إصلاح المملكة الإنسانية الشيخ الأكبر ابن العربي

الباب الثامن في الفراسة الشرعية والحكمية .كتاب التدبيرات الإلهية فى إصلاح المملكة الإنسانية الشيخ الأكبر ابن العربي

الشيخ الأكبر محمد ابن علي ابن محمد ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي

الباب الثامن في الفراسة الشرعية والحكمية

قال الله تعالى : "إن في ذلك لآيات للمتوسمين " [الحجر: 75].  وقال صلى الله عليه وسلم : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله». أخرجه الترمذي وابو نعيم والطبراني.

فالفراسة أكرمك الله نور من أنوار الله عز وجل، يهدي بها عباده، ولها دلائل في ظاهر الخلق؛ جرت الحكمة الإلهية بارتباط مدلولاتها بها.

وقد تشذ ولكن ذلك نادر في الفراسة الحكمية الإلهية، إذ هي موقوفة على أدلة عادية ضعيفة .

وأما الشرعية فلا تشذ لأنها عن أمر إلهي كما قال : "وما فعلته عن أمري " [سورة الكهف : 82]، فهي

مستمرة عند أهلها لأن أدلتها في نفس (من قامت به ، بخلاف الحكمية فإن أدلتها في نفس المتفرس فيه، فرأينا أن نسوق في هذا الباب الفراستین معا على أخص ما يمكن وأتمه.

 

الفراسة الحكمية أعزك الله:

من المعارف الفكرية والعلوم النظرية والأحكام التجريبية؛ وإنما مست الحاجة إليها في هذا الكتاب إذ ليس كل أحد يهبه الله نور اليقين ويزيل حجاب الريون عن عين بصيرته، فينتظم في سلك أهل الفراسة الشرعية .

فلما لم يتمكن هذا لكل أحد لكونها هبة من الله تعالى، فلا يفوز بها إلا الخواص من عباده .

وكتابنا هذا موضوع للخاص والعام فيما يحتاج إليه ، وهذا الباب من آكد ما يحتاج إليه ويعول عليه، لأن الإنسان مضطر إلى [معاشرة الناس ومخاللتهم.

كل إنسان في صنفه وفي عالمه ؛ وإذا كان عنده هذا الاضطرار وليس عنده من الفراسة الشرعية ما يميز به بين إخوانه، سقنا فصلا كافيا من الفراسة الحكمية ليقف الإنسان عنده ويصرفه في مهماته ، ويشتغل بضروب الطاعات ؛ عسى الله أن يفتح له بابا من عنده إلى نور اليقين وملاحظة الملكوت الأعلى .

 

فاعلم يا أخي، وفقنا الله وإياك، أن أحسن الهيئات وأعدل النشآت الذي ينبغي لك أن تتخذه سفيرا وإليك سميرا ولملكك وزيرا، من ليس بالطويل ولا بالقصير، لين اللحم رطبه، بين الغلظة والدقة، أبيض مشوب بحمرة وصفرة، معتدل الشعر طويله،

ليس بالسميط  ، : "السمط : الداهي في أمره الخفيف في جسمه من الرجال وأكثر ما يوصف به الصياد." .

ولا الجعد القطط ، : "الجعد من الشعر : خلاف السبط المسترسل الشعر القطط : الجعد القصير أو الشعر الشديد الجعودة"

في شعره حمرة ليس بذلك السواد، أسيل الوجه أعين ، مائلة عينه إلى الغؤور :"غارت عينه غؤورة : دخلت في رأسه وانطفأت "  

والسواد، معتدل عظیم الرأس، مائل الأكتاف، في عنقه استواء، معتدل اللبة : "اللبة : موضع القلادة من العنق . "

ليس في ورکه ولا صلبه لحم، خفي الصوت صاف ما غلظ منه وما رق مما يستحب غلظه أو رقته في اعتدال .

طویل البنان للرقة، بسيط الكف.

قليل الكلام والضحك إلا عند الحاجة، میل طباعه إلى الصفراء والسوداء.

في نظره فرح وسرور ، قليل الطمع في المال؛ ليس يريد التحكم عليك ولا الرئاسة، ليس بعجلان ولا بطيء.

فهذا قالت الحكماء أعدل الخليقة وأحكمها، وفيها خلق سيد البشر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حتى صح له الكمال ظاهرا وباطنا.

فإن قدرت أن لا تصحب إلا مثل هذا فافعل، [ولا تتبع شهوتك [إذا لم ينور الله بصيرتك.

فإن رزقت النور الإلهي فأنت إذ ذاك سلطان العالمين وصاحب الحقيقتين، الوجود تحت قهرك ورئاستك وأمرك.

واعلم يا أخي أن الحكماء زعموا في مقالاتهم في الفراسة، ورأيت ذلك تجربة، أن أعدل الخلق ما تقدم وصفه.

ومما ذكروا في مقالاتهم أن البياض الصادق مع الزرقة والشقرة الكثيرة دليل على الحقد والخيانة والفسوق وخفة العقل.

فإن كان مع ذلك واسع الجبهة ضيق الذقن أزعر: "زعر الشعر أو الريش أو الوير : قل وتفرق حتى ظهر الجلد وصاحبه أزعر، وهي زعراء ."   

أوجن :  "الأوجن: العظيم الوجنتين"    

كثير الشعر على الرأس، فقالت الحكماء إن التحفظ ممن هذه صفته كالتحفظ من الأفاعي القتالة.

 

الشعر:

واعلم أن الحكماء قالوا إن الشعر الخشن يدل على الشجاعة وصحة الدماغ ؛ والشعر اللين يدل على الجبن وبرد الدماغ وقلة الفطنة.

وكثرة الشعر على الكتفين والعنق والرقبة يدل على الحمق والجرأة.

وكثرة الشعر على الصدر والبطن يدل على وحشة الطبع وقلة الفهم وحب الجور؛ والشقرة دليل على الحمق وكثرة الغضب وسرعته والتسلط .

والأسود من الشعر يدل على العقل والأناة وحب العدل ؛ والمتوسط من هذين يدل على الاعتدال .

 

الجبهة:

قالت الحكماء : الجبهة المنبسطة التي لا غصون فيها تدل على الخصومة والشغب والرقاعة والصلف: "الصلف: التيه والكبرياء أو قلة الخير"

ومن كانت جبهته متوسطة في النتوء: "النتوء: البروز"

والسعة وكانت فيها غصون فهو صادق محب فهم عالم يقظان مدبر حاذق .

 

الأذنان:

ومن كان عظيم الأذنين فهو جاهل إلا أنه يكون حافظا؛ ومن كان صغير الأذنين فهو أحمق سارق.

 

الحاجب:

والحاجب الكثير الشعر يدل على العي وغث الكلام : "الغث من الكلام : الرديء الفاسد"

فإن امتد الحاجب إلى الصدغ فصاحبه تياه صلف: "الصدغ : القسم الجانبي من الرأس بين العين والجبهة والأذن والخد. وهما صدغان"

ومن رق حاجبه فاعتدل في الطول والقصر وكان أسود فهو يقظان فهم.

 

العين:

أردأ العيون الزرق، وأردأ الزرق الفيروزجية . "الفيروزجية : نسبة إلى الفيروزج: حجر کریم غیر شفاف، أزرق اللون بلون السماء أو أميل إلى الخضرة يتحلى به"

فمن عظمت عيناه وجحظت فهو حسود وقح كسلان غير ميمون؛ وإن كانت زرقاء كان أشد وقد يكون غاشا.

ومن كانت عيناه متوسطة مائلة إلى الغؤور والكحلة والسواد ، فهو يقظان فهو ثقة محب . فإن أخذت في طول البدن فصاحبها خبيث.

ومن كانت عينه جامدة قليلة الحركة كالبهيمة ميت النظر، فهو جاهل غليظ الطبع ؛ ومن كانت في عينه حركة بسرعة وحدة نظر فهو محتال لص غادر.

ومن كانت عينه حمراء فهو شجاع مقدام ؛ فإن كان حواليها نقط صفر فصاحبها أشر الناس وأرداهم.

 

الأنف:

إذا كان الأنف دقيقة فصاحبه نزق ."التزق : خفة في كل أمر، وعجلة في جهل وحمق."

ومن كان أنفه يكاد يدخل في فمه فهو شجاع، ومن كان أفطس فهو شبق . "فطس: انخفضت قصبة أنفه وانتشرت، فهو أفطس وهي فطساء . شبق: الشبق : شدة الغلمة وطلب النكاح."

ومن كان ثقب أنفه شديد الانتفاخ فهو غضوب.

وإذا كان غليظ الوسط مائة إلى الفطوسة فهو كذوب مهذار. "المهذار : من يكثر في كلامه من الخطأ والباطل"

وأعدل الأنوف ما طال غير طويل فاحش.

ومن كان أنفه متوسط الغلظ وقناه غير فاحش فهو دليل على العقل والفهم.

 

الفم :

من كان واسع الفم فهو شجاع، ومن كان غليظ الشفتين فهو أحمق، ومن كان متوسط الشفتين في الغلظ مع حمرة صادقة فهو معتدل، ومن كانت أسنانه ملتوية أو ناتية فهو خداع متحيل غير مأمون. ومن كانت أسنانه منبسطة خفافا بينهما فلج فهو عاقل ثقة مأمون مدبر. ومن كان لحم الوجه منه منتفخ الشدقين فهو جاهل غليظ الطبع. "الشدق : جانب الفم من باطن الخد."

ومن كان نحيف الوجه أصفر فهو رديء خبیث خداع شکس. "الشکس: العسر والسيء الخلق."

ومن طال وجهه فهو وقح؛ من كانت أصداغه منتفخة وأوداجه ممتلئة فهو غضوب. " الودج: عرق في العنق ينتفخ عند الغضب وهو عرق الأخدع الذي يقطعه الذابح فلا يبقى معه حياة . "

ومن نظرته فاحم وخجل وربما دمعت عيناه أو تبسم تبسمة لا يريده فهو لك متودد محب فيك؛ ولك في نفسه مهابة .

 

الصوت:

الصوت الجهير يدل على الشجاعة، والمعتدل بين الكد والتأني والغلظ والرقة يدل على العقل والتدبير والصدق؛ سرعة الكلام ورقته تدل على القحة والكذب والحيل؛ الغلظ في الصوت دليل على الغضب وسوء الخلق.

الغنة في الصوت دالة على الحمق وقلة الفطنة وكبر النفس. " الغنة : صوت يخرج من الخيشوم. "

 

التحرك الكثير :

دليل على الصلف والهذر والخداع؛ الوقار في الجلسة وتدارك اللفظ وتحريك اليد في فصول الكلام دليل على تمام العقل والتدبير وصحة النقل.

 

العنق:

قصر العنق دليل على الخبث والمكر، طول العنق ودقته دليل على الحمق والجبن والصياح، فإن انضاف إليهما صغر الرأس فإنه يدل على الحمق والسخف .

غلظ العنق يدل على الجهل وكثرة الأكل.

اعتدال العنق في الطول والغلظ دليل على العقل والتدبير وخلوص المودة والثقة والصدق .

 

البطن:

البطن الكبير يدل على الحمق والجهل والجبن؛ لطافة البطن وضيق الصدر تدلان على جودة العقل وحسن الرأي .

 

عرض الكتفين والظهر:

يدلان على الشجاعة وخفة العقل؛ انحناء الظهر دليل على الشكاسة والنزاقة ؛ استواء الظهر علامة محمودة؛ بروز الكتفين دليل على سوء النية وقبح المذهب.

إذا طالت الذراعان حتى تبلغ الكف الركبة دل على شجاعة وكرم ونبل النفس ، وإذا قصرت فصاحبها جبان محب للشر .

 

الكف الطويلة مع الأصابع الطوال تدل على النفوذ في الصناعة وإحكام الأعمال وتدبير الرئاسة.

 

القدم:

اللحم الغليظ في القدم يدل على الجهل وحب الجور؛ القدم الصغير اللين يدل على الفجور؛ دقة العقب تدل على الجبن وغلظته تدل على الشجاعة.

 

الساق:

غلظ الساقين مع العرقوبین دليل على البله والقحة ."العرقوب: وتر غليظ فوق عقب الإنسان .   القحة من الناس: الجافي ، القاسي الطباع "

من كانت خطاه واسعة بطئة فهو منجح في جميع أعماله منكر في جميع عواقبه، والضد للضد.

فهذا وفقك الله فصل مختصر في الفراسة الحكمية على ما وضعته الحكماء، فتحققه ترشد في معرفة الناس إن شاء الله تعالى وحده .

 

قال المؤلف رضي الله عنه :

ولنعمد في هذا الفصل الذي ذكرته الحكماء إلى النشأة المعتدلة المذكورة في أول هذا الباب، ولنمش عليها النشأة الإنسانية الروحانية حرفا حرفا فأقول :

اعلم، لما كان للروح الإنساني وجه إلى النور المحض ووجه إلى الظلمة المحضة وهي الطبيعة، كانت ذاته متوسطة بين النور والظلمة .

وسبب ذلك أنه خلق مدبرا لنشأة طبيعية عنصرية كالنفس الكلية التي بين الهوى والعقل.

فالهوى ظلمة محض والعقل نور محض، والنفس بينهما كالصدفة.

فمتى لم يغلب على اللطيفة الإنسانية أحد الوصفين كان معتدلا يؤتى كل ذي حق حقه .

ومتى ما غلب عليه النور المحض أو الظلمة المحضة كان لما غلب عليه .

كما ذكر في النشأة الجسمية من الطول المفرط أو القصر المفرط والبياض المفرط والسواد المفرط، وكل ضدين على التفاوت في أحد الطرفين.

 

فأقول : أما البياض المفرط فاستفراغه للنظر في عالم النور بحيث لا يبقى فيه ما يدبر به عالم طبيعته، فيفسد سريعا قبل حصول الكمال فكان مذمومة .

وكذلك في الجانب الآخر وهو السواد المفرط، بحيث يمنعه النظر في طبيعته عن عالم النور فذلك أيضا مذموم.

فإذا كان وقتا ووقتا كما قال عم: «لي مع الله وقت لا يسعني فيه غير ربي». أخرجه على القاري

وكان له وقت مع أصحابه ووقت مع أهله؛ وكذلك الطول والقصر مدة إقامته في النظر في أحد الجانبين، فينبغي أن تكون المدة بقدر الحاجة .

وأما اعتدال اللحم في الرطوبة بين الغلظ والدقة فهو اعتداله في البرزخيات بين المعنى والحس، كاللحم بين الجلد والعظم.

وأما اعتدال الشعر فكونها بين القبض والبسط .

وأما كونه أسيل الوجه فهي الطلاقة والبشاشة .

وأما كونه أعين فصحة النظر في الأمور؛ وأما كون عينه مائلة إلى الغؤور والسواد فاستخراج الأمور الخفية والعلوم الغيبية.

وأما كونه معتدل عظم الرأس فتوفير العقل.

وأما كونه مائل الأكتاف فاحتمال الأذى من غير أثر.

وأما كونه مستوي العنق فالاستشراف على الأشياء من غير ميل إليها .

وأما كونه معتدل اللبة التي هي مجرى النفس الاستقامة الأصوات فاستقامة الكلام في الخطاب بما يليق بالمخاطب .

وأما كونه ليس في ورکه ولا صلبه لحم فنظرة إلى الأمور التي إليها ويتورك عليها أن يكون تخلصه لأحد الطرفين .

فإنه إن كانت برزخية فقد تغرر به في غالب الأمر .

وأما كونه خفى الصوت فهو حفظ السر.

وأما صفاء الصوت فهو أن لا يزيد فيه شيئا؛ وأما طول البنان  فـ لطافة التناول.

وأما بسط الكف فرمي الدنيا من غير تعلق .

وأما قلة الكلام والضحك فنظره إلى مواضع الحكمة فيتكلم ويضحك بحسب الحاجة .

وأما کون میل طباعه إلى الصفراء والسوداء فهو أن يغلب عليه الجنوح إلى العالم العلوي .

وأما كونه في نظره فرح وسرور فهو استجلاب نفوس الغير عليه بالمحبة.

وأما كونه قليل الطمع في المال فهو البعد عن العائلة ؛

وأما كونه ليس يريد التحكم عليك ولا الرئاسة فهو شغله بكمال نفسه لا بك .

وأما كونه ليس بعجلان ولا بطيء أي ليس بسريع الأخذ مع القدرة ولا عاجز .

 

فهذا قد ذكرنا اعتدال النشأة اللطيفة الإنسانية حرفا بحرف على النشأة المعتدلة  الطينية التي ذكرناها عن الحكماء آنفا، ثم نأخذ بتفصيل الأعضاء على هذا المثال بقدر ما يوقف للنظر السديد في ذلك، ولم نودعه هنا لئلا يطول الكتاب. فلنرجع إلى الفراسة الشرعية فأقول:

 

الفراسة الشرعية:

اعلم رحمك الله ونور بصيرتك أن عالم الملكوت هو المحرك العالم الشهادة، وهو تحت قهره وتسخيره حكمة من الله تعالى لا لنفسه استحق ذلك ؛ فعالم الشهادة لا تصدر منه حركة ولا سكون ولا أكل ولا شرب ولا كلام ولا صمت إلا عن عالم الغيب .

وذلك أن الحيوان لا يتحرك إلا عن قصد وإرادة وهما من عمل القلب وهو من عالم الغيب والحركة وما شاكلها من عالم الشهادة.

وعالم الشهادة عندنا ما أدركناه بالحس عادة.

وعالم الغيب ما أدركناه بالخبر الشرعي أو النظر الفكري فيما لا يظهر للحس عادة. فنقول: إن عالم الغيب يدرك بعين البصيرة كما أن عالم الشهادة يدرك بعين البصر.

وكما أن البصر لا يدرك عالم الشهادة ما لم يرتفع عنه حجاب الظلم أو ما أشبهه من الموانع؛ فإذا ارتفعت الموانع وانبسطت الأنوار على المحسوسات أدرك البصر المبصرات.

فإدراكها مقرون بنور البصر ونور الشمس أو السراج وأشباهها من الأنوار .

كذلك عين البصيرة حجابها الريون والشهوات وملاحظات الأغيار، إلى مثل هذه من الحجب، فتحول بينها وبين إدراك الملكوت أعني عالم الغيب.

فإذا عمد الإنسان إلى مرآة قلبه وجلاها بأنواع الرياضات والمجاهدات حتى أزال عنها كل حجاب واجتمع نورها مع النور الذي ينبسط على عالم الغيب، وهو النور الذي يتراءى به أهل الملكوت، وهو بمنزلة الشمس في المحسوس، اجتمع عند ذلك نور عين البصيرة مع نور التمييز، فكشف المغيبات على ما هي عليه .

 

غير أن بينهما لطيفة معنى، وذلك أن الحس يحجبه الجدار والبعد المفرط والقرب المفرط والأجسام الكثيفة الحائلة بينه وبين من يريد إدراکه وهذا القصور عادة .

وقد تنخرق لنبي أو ولي كقول النبي : «إني أراكم من وراء ظهري». أخرجه أحمد و ابن كثير وابن حجر والسيوطي وغيرهم.

 

وفي الأولياء ابتداء المكاشفات لهم في أول سلوكهم، فإن المريد أول ما يكشف له عن المحسوسات فیری رجلا مقبلا، أو على حالة ما وبينهما البعد المفرط والأجسام الكثيفة بحيث أن يراه بمكة أو يرى الكعبة وهو بأقصى المغرب، وهذا كثير عن المريدين في أول أحوالهم.

ذقت ذلك كله وعرفته ولله الحمد.

ثم ينتقلون عن ذلك إن كانوا من أهل العناية والاختصاص بالوراثة النبوية ؛ وإن بقی عليهم ذلك ، أعني خرق العادة على الدوام، فهم المعبر عنهم بالبدلاء.

وإن تخللهم ذلك في وقت دون وقت فهو إما وارث وإما عابد صاحب الفترات .

وأما عالم البصيرة فلا، إذ عالم الغيب ليس بينه وبين عين البصيرة مسافة ولا بعد ولا قرب مفرط، وحجابه إنما هو الران والقفل والكن.

"الران : الغطاء والحجاب الكثيف. أو ما غطى على القلب وركبه من القسوة للذنب بعد الذنب، أو هو الدنس . كن الشيء كنا: ستره وصانه وأخفاه ."

 

وقد ارتفعت بالمجاهدات فلاحت أعلام الغيوب. لكن ثم أمر سنذكره وهو إن انجلت عين البصيرة كما ذكرناه فإن ثم حجابا آخر إلهية وهو أن النور الذي ينبسط من حضرة الجود على المغيبات في الحضرات الوجودية ليس يعمها إلا على قدر ما يريد الله تعالى أن يكشف لك منها مع أنك في غاية الصفاء والجلاء، وذلك هو مقام الوحي.

 

دليلنا على ذلك لأنفسنا ذوقنا له، ولغيرنا قوله تعالى قل: "ما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إليه" [الأحقاف : 9] مع غاية الصفاء النبوي .

 

فكيف بالولي الذي ما فتح له من الطريق خرت إبرة؟

"الخرت: الثقب في الأذن والإبرة وغيرهما"

فهذا هو الحجاب الإلهي ، وهو في الكتاب العزيز : "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب " [الشورى: 51]. "أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء".

فقوله: إن أتبع إلا ما يوحى إلي هو قدر ما يكشف له من عالم الغيب فيري تأثيره في عالم الشهادة، فيتكلم به على ذلك الحد.

فيقول: يكون كذا ولا يكون كذا، وعاقبة أمر ما إلى كذا ؛ على قدر الكشف .

وهذا الحجاب الإلهي لا يمكن رفعه عقلا ولو بلغ المرء على الغايات، بدليل أن هذا الحجاب إنما هو العلم الأزلي المتعلق بمعلومات غير متناهية وكل ما حصره الوجود فهو متناه؛ ولا تكشف عين البصيرة إلا ما دخل في الوجود بوجه ما من أوجه مراتب الوجود.

فلا حجة لك في قوله تعالى : "وكل شيء أحصيناه في إمام مبين" [يس: 12].

قال الله تعالى : "ما نفدت كلمات الله " [لقمان : 27].

وقال : "لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي" [الكهف: 109] وذلك لعدم التناهي.

فإذا تقرر لنا هذا وصح لنا حد الكشف عن عالم الغيب فمهما ظهر مما حصل في

هذا المقام شيء من ذلك على ظاهره في حق شخص ما.

فتلك الفراسة وهي أعلى درجات المكاشفة، وحظها من الكتاب المبين "إن في ذلك لآيات للمتوسمين" [الحجر: 70].

وذلك أن لها علامات في الحس بينها وبين عالم الغيب ارتباط، وهذا علم موقوف على الذوق.

خلاف الفراسة الحكمية فإنها موقوفة على التجربة والعادة وقد لا تصدق ؛ وهذا لا سبيل عند أهل هذا الشأن إلى تكذيبه فإنه نور الله تعالى فلا يعطي إلا الحقائق .

فهكذا تكون الفراسة الشرعية وسبب حصولها ما ذكرناه ؛ وقد جعل الله لعالم علمها علامات في ظاهر الموجودات كما جاء الأثر عن عثمان "ابن عفان" رضي الله عنه  حين أخذ على الرجل في نظره إلى ما لا يحل له.

فقال له الرجل: أوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : لا ولكن قال رسول الله : «اتقوا فراسة المؤمن» "فإنه ينظر بنور الله».

رأيت ذلك في عينيك، وتلك العلامات إنما هي حجب نصبها الله تعالى لأعين الغير لتأنيس القلوب الضعيفة واستمالتها حتى تطمئن.

ولو قال غير النبي إنما رأيت ذلك لما انبسط نور اليقين على الكتاب الحفیظ فنظرت فعلك فيه، فقضيت عليك محبة الأذان لقبضت عنه النفوس مع صدقه في ذلك .

فلما علقت بعلامات ظاهرة سكن القلب والخاطر الضعيف إلى ذلك مع قوة دليل الشرع قوله : «اتقوا فراسة المؤمن» .

فاجتمع من ذلك بعض إيمان، ومع ذلك قد يتهم ويقال لعله کاهن أو صاحب رأي فالعلل كثيرة.

 

تنبيه:

بقي لنا من الباب شيء في الغرض الذي قصدناه ، وهو تصحيح النسختين بالمقابلة في الفراستين الشرعية والحكمية.

وذلك أن للقائل أن يقول: إذ ولا بد عندكم من المقابلة فأين حظ الأشقر والأزرق والعظيم الأنف والمعتدل الكحولة من هذه الفراسة الشرعية والحكمية .

فنقول له سألت سؤال عارف، ونحن إن شاء الله نخلصه لك ونلخصه بأيسر شيء، وهو نظرنا إلى الفراسة الحكمية فرأينا أربابها والقائلين بها، والقاطعين بحكمها راجعين إلى طرفين وواسطة.

وقسموا الأشياء إلى محمود ومذموم، فجعلوا الخير كله والمحمود في الوسط، وجعلوا الذم والشر في الطرفين.

فقالوا في الأبيض الشديد البياض والأشقر والأزرق ما سمعت من الذم وأنه غير محمود.

وكذلك الأكحل الشديد السواد والدقيق الأنف جدا مذموم ؛ كل هذا والمعتدل بينهما الغير مائل إلى أحد الطرفين ميلا كلا هو المحمود على حسب ما تقدم في الفراسة الحكمية .

فلما رأيناهم قد حصروا هذه الأشياء وحصروها على هذا القدر، نظرنا ذلك في هذا العالم أين ظهر الحسن والقبح، فقلنا : لا حسن ولا قبح إلا شرعة على هذا قام لنا الدليل .

فلما رأينا أن الحمد والذم على الفعل من جهة ما شرعا، نظرنا كيف نجمع طرفین وواسطة لنجعل الطرفين مذموما ولنجعل الوسط محمودة الذي هو محل اعتدال .

 

فنقول: الإنسان لا يخلو أن يكون واحدة من ثلاثة بالنظر إلى الشرع:

1 - وهو إما أن يكون باطنيا محضا وهو القائل بتجريد التوحيد عندنا حالا وفعلا، وهذا يؤدي إلى تعطيل أحكام الشرائع وقلب أعيانها ؛ وكل ما يؤدي إلى هدم قاعدة من قواعد الدين فهو مذموم بإطلاق؛ عصمنا الله وإياكم من ذلك .

2 - وإما أن يكون ظاهريا محضا متغلغلا بحيث أن يؤدي ذلك إلى التجسيم والتشبيه فهذا مثل ذلك ملحوق بالذم شرعا.

3 - وإما أن يكون جاريا مع الشريعة على فهم اللسان حيثما مشى الشارع مشي وحيثما وقف وقف قدم بقدم، وهذا هو الوسط ؛ وبهذا تصح محبة الله له.

قال تعالى : "فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"  [آل عمران : 31] ؛ فباتباع الشارع واقتفاء أثره صحت محبة الله للعبد وغفرت الذنوب، وحصلت السعادة الدائمة .

فهذا أعزك الله وجه مقابلة النسختين؛ فإن قال قائل سلمنا هذا التقابل وهو صحيح، فكيف نميزه من الإنسان على التعيين.

وأنا رأيت رجلا ساكتا يشهد الصلوات والجماعات، وهو مع ذلك منافق مصر؟

قلنا: قد تقدم مكان هذا في هذا الباب ، ولكن لا بد أن نجيبك على ما سألت؛ وذلك أن السكوت وشهود الصلوات وأشباههما من عالم الشهادة.

وكونه كافرا بها في سره، فهو من عالم الغيب ؛ ونحن إذا تحصل لنا الفراسة

الشرعية حكمنا بكونه كافرا في نفوسنا، وأبقينا ماله ودمه معصومة شرعا لظهور كلمة التوحيد.

فمعاملتنا له على هذا النسق وما كلفنا غير هذا.

وهذا وفقك الله تلخيص الفراسة الشرعية والحكمية قد أوضحتها لك غاية الإيضاح والتبيين.

والله سبحانه يوفق سیدنا للعمل بأسباب حصولها في نفسه، ويحابيه بالوقوف عليها إنه القادر على ذلك والمملي به .

.


التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: