الجمعة، 19 يونيو 2020

الباب الثالث في إقامة مدينة الجسم وتفاصيلها من جهة كونها ملكا لهذا الخليفة .كتاب التدبيرات الإلهية فى إصلاح المملكة الإنسانية الشيخ الأكبر ابن العربي

الباب الثالث في إقامة مدينة الجسم وتفاصيلها من جهة كونها ملكا لهذا الخليفة .كتاب التدبيرات الإلهية فى إصلاح المملكة الإنسانية الشيخ الأكبر ابن العربي

الباب الثالث في إقامة مدينة الجسم وتفاصيلها من جهة كونها ملكا لهذا الخليفة .كتاب التدبيرات الإلهية فى إصلاح المملكة الإنسانية الشيخ الأكبر ابن العربي

الشيخ الأكبر محمد ابن علي ابن محمد ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي

الباب الثالث في إقامة مدينة الجسم وتفاصيلها من جهة كونها ملكا لهذا الخليفة

اعلم أن الله سبحانه لما أوجد هذا الخليفة الذي ذكرناه آنفا بني له مدينة يسكنها رعيته وأرباب دولته، تسمى حضرة الجسم والبدن.

وعين للخليفة منها موضعا إما أن يستقر فيه على مذهب من قال إنه متحيز، أو يحل فيه على قول من قال إنه قائم بمتحيز .

وإما أن يكون ذلك الموضع المعين له موضع أمره وخطابه و نفوذ أحكامه وقضاياه ، على قول من أثبته غیر متحيز ولا قائمة بمتحيز.

فأقام له سبحانه مدينة الجسم على أربعة أعمدة وهي الاسطقسات والعناصر، وسمى سبحانه الموضع المعين للخليفة منه القلب، وجعله مسكن الخليفة أو موضع أمره على ما ذكرناه من الخلاف.

"الأُسْطُقُسّات  =الأَصل البسيط يتكون منه المركَّب . ويقصد به : العناصر الأَربعة عند القدماء ، وهي الماء والهواء والنار والتراب ."

وقال قوم إن مسكنه الدماغ ؛ والأظهر عندي من طريق التنبيه والاستقراء لا من جهة البرهان، أنه القلب شرعة لقوله صلى الله عليه وسلم مخبرا عن ربه :

«ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن».

"أخرجه الزبيدي في (إتحاف السادة المتقين 7/ 237)، وعلى القاري في (الأسرار المرفوعة 260، 310،  367 ).  والفتني في (تذكرة الموضوعات 30)، (أحادیث القصاص 1)، والعجلوني في (کشف الخفاء 2/ 283)، والسيوطي الحلبي في (الدر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة 139)."

وقال : "إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم".

أخرجه مسلم وابن ماجة وابن حنبل .

وذلك أن المستخلف إنما نظره أبدا إلى خليفته ما يفعله فيما قلده ؛ والله سبحانه قد استخلف الأرواح على الأجسام .

ومما يؤيد ما ذهبنا إليه قوله تعالى : "ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"

[الحج: 46]؛ وليست الإشارة للقلب النباتي فإن الأنعام يشاركوننا في ذلك السر . لكن للسر المودع فيه وهو الخليفة، والقلب النباتي قصره.

وقال : «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب» .

فالقلب النباتي لا فائدة له إلا من حيث هو مكان لهذا السر المطلوب، المتوجه إليه الخطاب، والمجيب إذا ورد السؤال، والباقي إذا فني الجسم.

والقلب النباتی فنقول كذلك إذا صلح الإمام صلحت الرعية، وإذا فسد فسدت ؛ بذا جرت العادة وارتبطت الحكمة الإلهية.

قال المؤلف رضي الله عنه : سر فساده وصلاحه المرتبط بصلاح الرعية وفسادها  سبب ذلك أن الله تعالى إذا ولي خليفة قومة فإنه يعطيه أسرارهم وعقولهم فيكون إذ ذاك مجموع رعيته؛ فمتى خانهم في أسرارهم وعقولهم ظهر ذلك عليهم؛ وإن اتقى الله في ذلك ظهر ذلك عليهم.

وقد تكون أسرار رعيته حين تعطاه رذلة ناقصة، ولهذه الإشارة قوله : «مثل ما تكونون يولى عليكم».

فإن غلب عليها صلاح الإمام صلحت، وظهر أثر ذلك في الرعية وأرباب الدولة بمشيئة غيبية إلهية يجدها الإنسان في نفسه بعد أن لم تكن، ولا يدري من أين وردت عليه، ولا كيف حصلت له ؛ فهذا سر قوله : «إذا حصلت صلح سائر الجسد».

قال المؤلف رضي الله عنه : ثم بنى الله سبحانه له متنزها مشرفا عجيبا عاليا، في أرفع مكان في هذه المدينة، سماه الدماغ.

وفتح له فيه طاقات و خوخات "ابواب صغيرة جزءا من أبواب كبيرة " يشرف منها على ملكه، وهي الأذنان والعينان والأنف والفم.

ثم بنى له في مقدم ذلك المنتزه خزانة سماها خزانة الخيال، جعلها مستقر جباياته وموضع رفع ولاة الحس؛ وفيها تخزن جبايات المبصرات والمسموعات والمشمومات والمطعومات والملموسات وما يتعلق بها .

 ومن تلك الخزانة تكون المرائي والأحلام التي يراها النائم؛ وكما أن في الجبايات حلالا وحراما كذلك في المرائي مبشرات وأضغاث أحلام  .

وبنى في وسط هذا المنتزه خزانة الفكر الذي ترتفع إليه المتخيلات فيقبل منها الصحيح ويرد الفاسد.

وبنى له في آخر هذا المنتزه خزانة الحفظ؛ وجعل هذا الدماغ مسکن الوزير الذي هو العقل ؛ وله باب في داخل الكتاب يخصه، فأضربنا هنا عن ذكره.

ثم أوجد له النفس وهي محل التغيير والتطهير، ومقر الأمر والنهي؛ وهي الليلة المباركة التي فيها يفرق كل أمر حكيم؛ وحظها من العالم العلوي الكرسي، كما أن الروح محله العرش من ذلك العالم؛ والنفس هي كريمة هذا الخليفة وحرته.

وقد أشار إلى ذلك الإمام أبو حامد الغزالي في قوله إن الروح نکح النفس فتولد ما بينهما الجسم.

فقال مشيرا إلى ذلك في خطبة «لباب الحكمة» له: «ربنا ورب آبائنا العلويات وأمهاتنا السفليات».

و لكن المتصوفة اصطلحوا على كل فعل فيه حظ لكون من الأكوان أنه نفسی، یعنی أنه عن أمر النفس سواء كان ذلك الفعل محمودة أو مذموما، وكل ما ليس فيه حظ إلا لله تعالى فهو روح.

وأن الإنسان له ثلاث أنفس:

نفس نباتية وبها يشترك مع الجمادات .

ونفس حيوانية وبها يشترك مع البهائم.

ونفس ناطقة وبها ينفصل عن هذين الموجودين ويصح عليه اسم الإنسانية؟

وبها يتميز في الملكوت، وهي الكريمة التي ذكرناها تحت هذا الخليفة .

قال المؤلف رضي الله عنه: ثم أوجد الله من تمام النعمة على الإنسان، وإكمال النسخة على الاستيفاء في هذه المملكة، أميرا قويا مطاعا، كثير الرجل والخيول، قوي العدد والعدد، منازعا لهذا الخليفة : سماه الهوى؛ ووزيرا سماه شهوة.

فبرز يوما في أجناده وخيوله يتنزه في بعض بساتينه، فأشرفت النفس التي هي حرة الخليفة عليه ، فتراءت ونظر كل واحد منهما لصاحبه فعشقها الهوى.

فأعمل الحيلة في الاجتماع بها ؛ فما زال يستنزلها ويستعطفها ويبسط لها حضرته ، ویهادیها بأحسن ما عنده .

ولم تزل رسل الأماني وسفراء الغرور تمشي بينهما، حتى قالت إليه وانقادت له ؛ وملكها الإحسان والخليفة غافل عن هذا.

والعقل الذي هو وزيره قد شعر بذلك، وهو يسوس الأمر ويخفيه عسى لا يشعر بذلك الخليفة وترجع عما هي عليه .

فصارت النفس بين أميرين قويين مطاعين، هذا يناديها وهذا يناديها، والكل بإذن الله تعالى الأصلي "قل كل من عند الله" (النساء : 78). "وکلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك" [الإسراء: 20]. "فألهمها فجورها وتقواها" [الشمس: 8].

 في إثر قوله "ونفس وما سواها " [الشمس: 7).

ولهذا جعلناها محل التطهير والتغيير : فإن أجابت الهوى كان التغيير وحصل لها اسم الأمارة بالسوء؛ وإن أجابت العقل كان التطهير وصح لها اسم المطمئنة شرعا لا توحيدة.

ووقوع هذا الأمر لحكمة لطيفة وسر عجيب، وهو أن الله سبحانه لما أوجد هذا الخليفة على ما وصفناه من الكمال، أراد أن يعرفه سبحانه مع ذلك أنه فقير ولا حول ولا قوة إلا لسيده الرب تعالى.فلهذا أوجد له منازعة ينازعه فيما قلده .

فلما رأى الروح أنه ينادي والنفس لا تجيبه وقد قيل له هو ملكك، قال لوزيره: ما السبب المانع لها من إجابتي؟

فقال له العقل: أيها السيد الكريم، إن في مقابلتك موجود أقام لها في مقامك.

أميرا قويا مطاعا صعب المرتقى عزیز المنال، يقال له الهوى، عطيته معجلة مشهورة.

فأرسل وزيره إليها، فبسط لها حضرته وعجل لها أمنيتها في أوحي زمان ؛ فأجابت لدعائه وانقادت له، وحصلت تحت قهره، وأتبعها أجنادك وبادية رعيتك وما بقي لك من مملكتك إلا أرباب دولتك، المتحققون بحقائقك والمختصون بك، وها هو قد نزل بفناء بصرك ليخربه ويخرجك عن ملكك ويستولي على عرشك ؛ فدارك يا أخي، دارك قبل نزول الهلاك.

قال المؤلف رضي الله عنه : فرجع الروح بالشكوى إلى الله القديم سبحانه ، فثبتت له في نفسه عبوديته بالافتقار والعجز والذلة وتحقق التميز، وعرف قدره فذلك كان المراد.

فإن الإنسان لو نشأ على الخير والنعم طول عمره لم يعرف قدر ما هو فيه حتى يبتلي فإذا مسه الضر عرف قدر ما هو فيه من النعم والخيرات، فعرف عند ذلك قدر المنعم.

قال المؤلف رضي الله عنه  : فلما رجع الروح بالشكوى إلى ربه صار واسطة بينها وبينه، فقال لها : "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي" [الفجر:27 - 30].

فلما أتاها النداء برفع الوسائط جنت و أنت واشتاقت ، فأجابت و أنابت بالعناية الإلهية .

السلام  فصار منادي الروح أصلا من نفسها ومنادي الهوى أجنبيا عنها  فالأصل حاصل والأجنبي غير حاصل، فاشتاقت أن تعرف ما لم تعرف  فأجابته لترى ما تم كما أجابت حواء إبليس في أكل الشجرة.

ومن هنا وقعت بين الهوى والعقل الوقائع والحروب والفتنة على هذا الملك الإنساني.

وقد يستولي أحدهما عليه وقد يؤخذ منه، فيعزله ويأسره وربما يقتله في حق شخص ما، هكذا استمرت الحكمة الإلهية حتى العرض الأكبر.

وربما يملك أحدهما البادية والاخر الحاضرة؛ وقد يملك أحدهما الملك كله ظاهرا وباطنا.

فأما العصاة فإن سلطان الهوى مالك باديتهم وسلطان العقل مالك حاضرتهم .

وأما المنافقون فإن العقل مالك باديتهم والهوى مالك حاضرتهم.

وأما المؤمنون المعصومون والمحفوظون فالعقل مالكهم بادية وحاضرة.

وأما الكافرون فالهوى مالكهم بادية وحاضرة .

فإذا كان في الدار الآخرة وذبح الموت وتميز الفريقان ونفذ حكم الله، ألحق العصاة بالمؤمنين المعصومین؛ فحصل لهم النعيم الدائم.

وألحق المنافقين بالكافرين فحصل لهم العذاب اللازم.

فلم يغن المنافق عمله من الله شيئا، فإن التوحيد أصل والعمل فرع؛ فإن اتفق في الفرع شيء يفسده ويهلکه جبره الأصل كالعصاة، وإذا خرب الأصل لم ينفعه الفرع كالمنافق.

فهذا الملك الإنساني تصرفه في الدنيا على أربع أطباق لا بد من أحدها في حق كل شخص:

إما مؤمن معصوم.

 أو محفوظ.

وإما کافر أو مشرك أصلا.

وإما منافق وإما عاص.

وإذ قد تقرر هذا وثبت، فلنذكر الآن السبب الذي لأجله نشأت الفتن والحروب بين العقل والهوى إذ هذا موضعه ؛ لا والله يقول الحق وهو يهدي السبيل [الأحزاب: 4].



التسميات:
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: