الخميس، 27 أغسطس 2020

09 - حكاية الأرانب التي أرسلت أحدها برسالة إلى الفيل .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

09 - حكاية الأرانب التي أرسلت أحدها برسالة إلى الفيل .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

حكاية الأرانب التي أرسلت أحدها برسالة إلى الفيل .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

حكاية الأرانب التي أرسلت أحدها برسالة إلى الفيل قائة له :
قل : إنني رسول قمر السماء إليك ويأمرك قائلا :
ابتعد عن عين الماء تلك كما هو مذكور بتمامه في كتاب كليلة ودمنة
 
2740 - إن هذا شبيه بما قاله ذلك الأرنب “ حين قال “ : أنا رسول القمر وقرين القمر .
- فمن قطيع الفيلة علي تلك العين الزلال ، صارت كل الأرانب في وبال .
- لقد حرموا منها جميعا وابتعدوا عن العين خوفا ، وقد احتالوا إذا كانوا يفتقدون القوة .
- فصاح أرنب عجوز من فوق الجبل ، “ موجها خطابه “ إلي الفيلة في ليلة غرة الهلال .
- قائلا : تعال في الليلة الرابعة عشرة يا ملك الفيلة ، حتى تري الدليل داخل عين الماء .
 
2745 - يا ملك الفيلة أنا رسول إليك ، فقف أمامي ، إذا لا قيد ولا غضب علي الرسل ولا عقاب لهم .
- يقول القمر : اذهبوا أيها الفيلة ، إن عين الماء لنا ، فابتعدوا عنها .
- وإلا فإنني سوف أعميكم عقابا ، وهأنذا قد ألقيت بقولي هذا عن كاهلي !
- اتركوا عين الماء هذه وامضوا ، حتى تأمنوا ضربات سيف القمر .
- والدليل أن القمر سوف يضطرب في عين الماء عندما يشرب منها أحد الفيلة .
 
2750 - ففي ليلة كذا تعال يا ملك الفيلة ، حتى تجد الدليل من داخل العين .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 166 : وأين نحن من هذا الكلام الفارغ ؟ فأي احتيال هذا ومكر ورياء . . 
وأين السماء من الحبل ، إن مخا واحدا لا يصدق هذه الأساطير . وفي الغالب لدينا عقل نستطيع أن يميز من الكرات والجزر ! !
 
“ 240 “
 
- وعندما مرت سبع ( ليال ) ثم ثمان من الشهر جاء ملك الفيلة وأخذ يشرب من العين .
- وعندما مد الفيل خرطومه تلك الليلة إلي الماء ، اضطرب الماء واضطرب “ انعكاس “ القمر فيه .
- فصدق الفيل منه ذلك الخطاب ، عندما “ رأي “ القمر مضطربا داخل العين .
- ولسنا نحن من تلك الفيلة المخدوعة أيها القوم ، بحيث يجعلنا اضطراب “ انعكاس القمر في خوف “ .
 
2755 - قال الأنبياء : أواه فإن هذه النصيحة المخلصة ، قد جعلت أغلالكم أكثر إحكاما أيها السفهاء .
 
جواب الأنبياء على طعنهم وعلى المثال الذي ضربوه
 
- وأسفاه ، فإن الدواء في مرضكم ، قد تحول إلي سم انتوي قهر أرواحكم .
- لقد زاد هذا المصباح الظلمة أمام تلك العين ، عندما أبدي اللّه تعالي حجاب غضبه .
- فأية رئاسة نطلبها عليكم ، وقد نزلت إلينا الرئاسة من السماء ؟ .
- وأي شرف ينشده بحر الدر من السفين ، خاصة تلك السفينة المحملة بالبعر ؟
 
2760 - وا أسفاه من تلك العين العمياء المظلمة ، التي ظهرت أمامها شمس وكأنها الذرة ! 
- ومن ادم الذي لم يكن له مثيل أوندُّ ، لم تر عين إبليس إلا قبضة من الطين .
- ولقد أبدت عين المجنون الربيع له زمهريرا ، فتحرك من تلك الناحية التي كانت له منزلا .
- وكثيرا ما يصادف الإقبال علي حين غرة مدبرا فيتحول عن طريقه .
- ورب معشوق أتي متنكرا إلي تعيس لا يستطيع أن يمارس الحب “ 1 “ .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 190 : فلماذا هذا الحرمان بالنسبة للحمقي ؟ ولماذا لا يعتاد الضالون علي الطريق المستقيم ؟ !
 
“ 241 “ 
 
2765 - إن الذي يوقع الأبصار في الخطأ هو حرماننا ، وهذا الذي يقلب القلب هو سوء القضاء .
- وعندما صار صنم من الحجر قبلة لكم ، فإن اللعنة والعمي قد صارا ظلة لكم .
- فكيف يجوز أن يكون صنمكم شريكا للحق ؟ ثم لا يجوز أن يكون العقل والروح موطنا لسر الحق ؟
- لقد صارت بعوضة ميتة شريكا لطائر البُلح ، فكيف لا يجوز أن تكون بعوضة حية موضعا لسر المليك .
- أو أن هذا لأن البعوضة الميتة من صنعكم ، في حين أن البعوضة الحية من صنع اللّه ؟
 
2770 - إنكم عشاق لأنفسكم ولشيء صنعته أنفسكم ، وذيول الحيات تابعة لرؤس الحيات !
- فلا في ذلك الذيل دولة أو نعمة ، ولا في ذلك الرأس راحة أو لذة .
- إن ذيل الحية يكون دائرا حول رأسها ، كلاهما لائق بالآخر مناسب له ، هذا الرفيقان .
- وكذلك ما يقوله الحكيم الغزنوي ، في “ إلهي نامه “ إذا كنت تستمع جيدا .
- فقلل الفضول في حكم القدر ، فإن جسد الحمار مناسب لأذن الحمار .
 
2775 - إن الأعضاء تتناسب مع الأبدان ، كما أن الأوصاف تناسب الأرواح .
- ووصف كل روح يكون لها التناسب بلا شك مع “ النمط “ الذي خلقها اللّه عليه .
- وما دام قد قرن الصفة بالروح ، فأعلم أنهما متناسبان كالعين والوجه .
- صارت أوصافها مناسبة لها في الحسن والقبح ، كما تناسبت الكلمات التي كتبها اللّه .
  
“ 242 “
 
- والعين والقلب كلاهما بين إصبعين ، مثل القلم في يد الكاتب يا حسين “ 1 “ .
 
2780 - فإصبع للطف وإصبع للقهر وبينهما قلم الكاتب ذو قبض وبسط من هذا البنان .
- فيأيها القلم أنظر إذا كنت مشمولا بلطف ذي الجلال بين إصبعي من تكون ؟
- فكل القصد والحركة من هذا الإصبع ، وسنك ( أيها القلم ) مجموع علي مفترق الطرق .
- إن حروف أحوالك هذه من نسخه ، وعزمك وفسخك هما أيضا من عزمه وفسخه .
- وليس إلا الحاجة والتضرع طريقا ، وليس كل قلم عالما بهذا التقلب .
 
2785 - وهذا القلم يعرف ولكن معرفته بقدره ، ويكتشف بقدر علمه قدره في الخير والشر .
- وكل ما نسبوه إلي حكاية الأرنب والفيل ، قد مزجوه منذ الأزل بالحيل .
 
بيان أن كل شخص لا يصل إلى ضرب الأمثال خاصة في الأمور الإلهية
 
- ومتي يليق بكم ضرب الأمثال ، والتوجه بها نحو تلك العتبة الطاهرة ؟
- إن ضرب المثل هو لتلك الحضرة ، التي هي اية إلي علم السر والجهر .
- فأي علم لك ما دمت أقرع وتأتي بمثل عن الجدائل أو عن الوجه “ الحسن “ .
 
2790 - لقد رآها موسي عصا ولم تكن كذلك ، كانت أفعي وسرها يفتح فمه .
..............................................................
( 1 ) المقصود حسن حسام الدين .
 
“ 243 “
  
- وإذا لم يكن مثل ذلك الملك يعلم سر العصا ، فأي علم لك بأسرار الفخاخ والحبوب “ التي توضع فيها “ ؟ .
- وإذا كانت عين موسي قد أخطأت عند المثل ، فكيف يجعل فأر إلي الفضول مدخلا ؟
- إنه يجعل لك هذا المثال كالأفعي ، حتى تمزقك إربا جوابا عليك .
- إن إبليس اللعين قد أورد المثال فصار ملعونا من الحق حتى يوم الدين .
 
2795 - وأورد قارون المثال من اللجاج ، حتى غاص في الأرض ومعه العرش والتاج “ 1 “ .
- فأعلم أن مثالك هذا كالزاغ والبوم ، ذلت من “ شؤمها “ مئات من العشائر .
 
ضرب قوم نوح للأمثال استهزاء عند قيامه بصناعة الفلك
 
- لقد صنع نوح سفينة في البادية ، فهاجمه مائة من قائلي الأمثال ساخرين .
- إنه يصنع سفينة في صحراء ليس فيها بئر فياله من جاهل أبله .
- كان أحدهم يقول : سيري أيتها السفينة ، وكان اخر يقول : ألا فلتصنع لها جناحا أيضا “ 2 “ .
 
2800 - وأخذ نوح يجيب : إن هذا كله بأمر اللّه ، ولن تنقص بمثل هذا الهزل والسخرية .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 197 : وأورد المثال النمرود الجهول ، حتى أكلت بعوضة مخه في عجلة
- وفكر قوم عاد في الأمثلة ، حتى هشمت الريح عظامهم تهشيما 
- وهذا المثل أورده شداد اللئيم ، حتى حرم من نعم الدنيا والآخرة 
- وأورد فرعون المثال من الخلط ، حتى نفق في ماء البحر 
- وهذا المثال يأتي به الشقي الدون ، حتى يسقط منقلبا في الجحيم .
( 2 ) ج / 8 - 200 : وكان أحدهم يقول : مؤخرتها معوجة ، وكان اخر يقول : بل ظهرها شديد الإعوجاج .
كان أحدهم يقول : وأين سرجها ؟ وكان اخر يقول : ولماذا قدمها ملوية ؟ ! 
وكان أحدهم يقول : هذه قربة فارغة ، وكان اخر يقول : لأي شيء هذا الحمار ؟ ! 
وكان أحدهم يقول : كيف تأكل الشعير وإلا فمتي تحمل حملك ! إلي منزل . كان أحدهم يقول : هل أنت بلا عمل ؟ ! أو قد شخت وخرفت ؟ !


“ 244 “
حكاية ذلك اللص الذي سئل : ماذا تفعل في منتصف الليل
أسفل هذا الجدار فقال : أدق الطبول
 
- استمع إلي ذلك المثل ، حدث ذات ليلة أن أخذ لص عنيد يحفر حفرة أسفل جدار .
- فسمع مريض كان بين النوم واليقظة صوت حفره الذي كان خافتا .
- فصعد إلي السطح وأطل برأسه وقال : ماذا تفعل هنا أيها الأب ؟
- خيرا ؟ ماذا تفعل في منتصف الليل ؟ ومن تكون ؟ فأجاب : طبال يا سيدي .
 
2805 - وماذا تفعل ؟ قال: أدق الطبل، فقال : فأين أصوات الطبول يا عالما بالطرق؟
- قال : غدا تسمع هذه الأصوات وهي صياحك : وا حسرتاه وا ويلاه “ 1 “ .
- “ قال الأنبياء لأهل سبأ “ : إن ذلك المثل “ الذي قدمتموه “ باطل ومصطنع ولم تعلموا سر ذلك الباطل “ 2 “ .
 
جواب ذلك المثل الذي قاله المنكرون عن رسالة
الأرنب إلى الفيل من قمر السماء
 
- أعلم أن معني ذلك الأرنب هو شيطان الفضول ، الذي جاء رسولا إلي نفسك .
- حتى جعل النفس المخدوعة محرومة من ماء الحيوان الذي شرب منه الخضر .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 202 : عندما أمضي تسمع صوت الطبول ، وتفهم تلك اللحظة المجمل والتفصيل
( 2 ) ج / 8 - 202 : لقد سقطت في أخطأ يا نصيف ساذج فصر ناضجا في النار والسلام .
 
 
“ 245 “
 
2810 - لقد قلبتم معناها ونطقتم كفرا فاستعدوا للعقاب .
- وقلتم إن اضطراب القمر في الماء الزلال ، وأن الذي خوف الفيلة هو الأرنب “ 1 “ .
- وتضربون مثلا بقصة الفيل والأرنب والماء ، وخشية الفيلة من القمر في اهتزازه ؟
- فأي شبه لهذا اخر الأمر أيها السذج ، مع القمر الذي صار مغلوبا له الخواص والعوام ؟
- وما القمر ؟ وما الشمس ؟ وما الفلك وما العقول ؟ وما النفوس ؟ وما الملك ؟ “ 2 “
 
2815 - إنه شمس الشمس ، ماذا أقول ؟ لعلي في نوم .
- إن غضب الملوك أيها الضالون الأشرار قد خرب مئات الآلاف من المدن .
- ومن تجليه ينشق الجبل علي نفسه مائة شق، وشمس في طواف كأنها الطاحون “3”.
- وغضب رجال “ اللّه “ يجعل السماء تجف ، وغضب قلوبهم جعل العالم خرابا .
- فأنظروا يا موتي بلا حنوط ، إلي موضع عقاب مدينة لوط .
 
2820 - وماذا يكون الفيل في حد ذاته ؟ وثلاثة من الطيور المحلقة دقت عظام تلك الفيلة الحقيرة ؟
..............................................................
( 1 ) في المتن : ابن أوي لمجرد حبك القافية .
( 2 ) ج / 8 - 204 : وما الوحوش وما الطيور وما الجماد ، وما الملوك ، وما الشحاذ وكيقباد ؟
- وما البلاد وما الجبال وما البحار . . وما الشهر وما السنة وما الليل والنهار
- وما التراب والهواء والماء والنار . . وما الخريف وما الصيف وما الشتاء وما الربيع كلها في أمره وتحت حكمه . . كأنها الكرة في أنحناءة الصولجان .
( 3 ) في رواية أخري : وشمس من الكسوف الذي يحيق بها منه في جنون .
 
“ 246 “
 
- وأضعف الطيور وهو طير الأبابيل ، قد مزق الفيل بحيث لا يقبل الشفاء .
- وأين ذلك الذي لم يسمع بطوفان نوح ، أو حرب فرعون مع الروح ؟
- لقد تحطمت أرواحهم وسالت في البحر ، وأخذ الماء يفتتها ذرة ذرة .
- ومن الذي لم يسمع أحوال ثمود ، وأن الريح الصرصر كانت تختطف قوم عاد ؟
 
2825 - فافتح عين الإرادة علي أمثال تلك الفيلة ، التي كانت تجندل الفيلة في الوغي .
- وأمثال أولئك الفيلة والملوك الظلمة ، كانوا تحت غضب القلب في رجوم علي الدوام .
- وإلي الأبد يمضون من ظلمة إلي ظلمة ، ولا غوث ولا رحمة .
- ألم تستمعوا إلي الذكر الحسن والذكر القبيح ، لقد خبرها الجميع أفلم تروها أنتم ؟
- إنكم تتجاهلون ، لكن الموت هو الذي يفتح عيونكم جيدا .
 
2830 - ولنفرض أن العالم مليء بالشمس والضياء ، فكيف تمضي في ظلمة كأنها القبر ؟ .
- تظل بلا نصيب من هذا النور العظيم ، وتصير مغلق الكوة أمام القمر الكريم .
- وقد تركت القصر منصرفا إلي قاع الجب ، فأي ذنب للعوالم الواسعة ؟
- وتلك الروح التي بقيت في صفات الذئبية ، قل لي : كيف تري نور يوسف الصديق ؟ قل .
- لقد وصلت ألحان داود إلي الحجارة والجبل ، وقليلا ما سمعتها اذان قساة القلوب .
 
“ 247 “
 
2835 - وليكن هناك ثناء “ من اللّه “ علي العقل والإنصاف ، كل زمان واللّه أعلم بالرشاد .
“ صدقوا رسلا كراما يا سبا * صدقوا روحا سباها من سبا
صدقوهم هم شموس طالعة * يؤمنوكم من مخازى القارعة
صدقوهم هم بدور زاهرة * قبل أن يلقوكم بالساهرة
صدقوهم هم مصابيح الدجى * أكرموهم هم مفاتيح الرضا
 
2840 - صدقوا من ليس يرجو ضركم “ 1 “ * لا تضلوا لا تصدوا غيركم “ 2 “
- ولنتحدث بالفارسية فهيا أترك العربية ، وكن غلاما لذلك المحبوب يا أيها الماء والطين . “ 3 “
- هيا واستمعوا إلي براهين الملوك ، لقد مالت السماوات فميلوا أنتم أيضا .
 
معنى الحزم ومثال الرجل الحازم
 
- “ قال الأنبياء لأهل سبأ “ تعالوا وأنظروا إلي أحوال الأوائل ، أو انطلقوا سريعا نحو العافية بحزم .
- وماذا يكون الحزم ؟ إنه الاحتياط بين تدبيرين ، واختيار تدبير من بينهما يكون بعيدا عن التخبط .
 
2845 - إن أحدهم يقول : في هذا الطريق الذي يستغرق سبعة أيام ، لا يوجد ماء بل رمل “ محرق للقدم “ .
- ويقول اخر : هذا هراء فانطلق ، فسوف تصادف كل ليلة عين ماء جياشة .
..............................................................
( 1 ) في النص بالعربية خيركم وهذا لا يستقيم كما هو واضح .
( 2 ) ما بين الأقواس في المتن بالعربية .
( 3 ) حرفيا : كن هنديا لذلك التركي .
 
“ 248 “
  
- والحزم هو أن تحمل الماء معك ، حتى تنجو من الحُزن وتكون علي “ جادة الصواب “ .
- فإذا كانت هناك عين ماء في الطريق أرق ما معك ، وإن لم يكن فواويلاه علي المرء المجادل .
- فيا أبناء الخليفة اعدلوا ، واحزموا “ أمركم “ من أجل اليوم الموعود .
 
2850 - وجروا ذلك العدو الذي انتقم من أبيكم نحو السجن من عليين .
- لقد هزم ملك شطرنج “ القلب “ ذاك ، ونقله من جنته ، وجعله سخرة للآفات .
- لقد حصره بضع مرات في النزال ، حتى جندله في الصراع وجعله شاحب الوجه .
- وهكذا فعل مع بطل مثله ، فلا تنظروا إليه أنتم أيها الآخرون باستهانة .
- فإن ذلك الحسود اختطف من أمنا وأبينا التاج والزينة بسرعة وحذق .
 
2855 - وجعلهما هناك ذليلين عاريين ضعيفين ، فبكي ادم نائحا سنوات وسنوات .
- بحيث نما النبات من دمع عينيه ، وهو “يتساءل باكيا” لماذا أثبت في جريدة النفي؟
- فقس أنت علي هذا لصوصية “ إبليس “ تلك ، بحيث انعدمت حيلة ذلك العظيم أمامه “ 1 “ .
- فحذار من شره يا عباد الطين ، واضربوه فوق رأسه بسيف “ لا حول ولا قوة إلا باللّه “ .
- فإنه يراكم من مكمنه ، بحيث لا ترونه أنتم فحذار .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : يقتلع شعر لحيته .
  
“ 249 “
  
2860 - فالصياد دائما يبذر “ الحبوب “ إلي جوار الفخ ، فالحبوب ظاهرة أما الفخ فهو مستتر .
- فحذار كلما رأيت حبة ، حتى لا يطبق الشراك علي جناحك وقوادمك “ 1 “ .
- ذلك أن الطائر الذي ترك الحب ، التقط الحب من الصحراء التي لا خداع فيها .
- وقنع بها ونجا من الشراك ، ولم يطبق شراك قط علي جناحه وقوادمه .
 
وخاصة أمر ذلك الطائر الذي ترك الحزم
من الحرص والهوى
 
- ثم إن طائرا حط فوق جدار ، وقد سمر بصره حول حبة في شراك .
 
2865 - فهو ينظر نظرة نحو الخلاء ، بينما يشده حرصه إلي الحبة بنظرة أخري .
- وتصارعت هذه النظرة مع تلك النظرة ، فسلبته العقل فجاة .
- لكن الطائر الذي ترك ذلك التردد ، أقلع عن تلك النظرة وسمر بصره علي الخلاء .
- فهو مطلق الجناح والقوادم فبخ بخ له ، لقد صار إماما لكل الأحرار .
- وكل من يجعله قدوة له فقد نجا ، وأقام في مقام الأمن والحرية .
 
2870 - ذلك أن قلبه كان ملك الحازمين ، فصارت الرياض والبساتين منزلا له .
- فالحزم راض عنه وهو راض عن الحزم ، وهكذا فافعل إن كنت تقوم بالتدبير والعزم .
- فلقد سقطت مرات في شراك الحرص ، وأسلمت حلقك للذبح .
- ثم إن ذلك التواب الرحيم قد نجاك ، وقبل توبتك وأسعدك .
- قال : “ إن عدتم كذا عدنا كذا . . . نحن زوجنا الفعال بالجزاء “ 2 “ .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 211 : وما أسعده في طائر الذي ترك الحب ، فقد تفتحت له الورود في رياض القدس .
( 2 ) بالعربية في المتن .


“ 250 “
 
 
2875 - وعندما أحضر زوجا إلي جواري ، فإن زوجه يأتي مسرعا بلا شك .
- ولقد زوجنا الفعال بالأثر ، عندما يصل إلي زوج الآخر .
- وعندما يختطف مغير زوجا من زوجته ، فإن الزوجة تأتي من بعده باحثة عن زوجها .
- وإن - مجيئك نحو هذا الشراك ثانية ، بمثابة حثوك التراب في عين التوبة .
- ويحل لك التواب تلك العقدة مرة ثانية ، قائلا : انتبه . . اهرب لا تتجه إلي هذه الناحية .
 
2880 - وثانية عندما تصل فراشة النسيان ، فإنها تجذب أرواحكم نحو النيران .
- فكفاك يا فراشة النسيان والشك ، وانظري مرة واحدة إلي جناحك المحترق .
- وما دمت قد نجوت فإن الشكر هو الا تحوم حول هذه الحبة أبدا .
- وما دمت تشكر فإنه يهبك رزقا بلا شراك ولا خوف من عدو .
- والشكر علي نعمة أنه أنجاكم ، هو التذكر الدائم لنعمة الخالق .
 
2885 - فحتام وأنت في المتاعب والعناد تدعو قائلا : “ نجني من هذا الفخ يا اللّه “ .
- حتى أطيعك وأقوم بالإحسان ، وأحثو بالتراب عين الشيطان “ ؟ “ 1 “ .
 
حكاية نذر الكلاب كل شتاء قائلة : وعندما يحل الصيف
أبنى منزلا من أجل الشتاء
 
- في الشتاء يقعي الكلب جامعا عظامه بينما يمزقه لسع البرد بحيث يقول :
- ينبغي لجسدي وهو علي هذا الحال ، أن أبني له منزلا من الحجر .
- وعندما يأتي الصيف سأصنع بمخالبي منزلا من الحجارة تحسبا للبرد .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 216 : وعندما خلصك الحق من الامتحان ، ظللت علي ما أنت عليه تماما ، عندما نجاك نسيته ، وجعلت روحك ثملة فاقدة الوعي .
 
“ 251 “
 
2890 - وعندما يحل الصيف ، تمتد العظام من السعة ويمتليء الجلد نضرة ورواء .
- وعندما يري نفسه سمينا يقول : أي منزل يسعك إذن أيها العظيم ؟
- إنه يسمن ويمد قدمه في الظل كسولا متفرجا مغرورا معجبا برأيه .
- ويقول له قلبه : ابنِ منزلا يا عماه ، فيرد عليه : أي منزل يسعني قل .
- “ وهكذا “ عظام حرصك أوان الألم ، تنكمش وتتحطم في المعركة .
 
2895 - فتقول : لأبنِ منزلا من “ التوبة “ ، يكون وقاء لي في الشتاء .
- وعندما ينتفي الألم ، يحل فيك الحرص والهوي ، وتمضي عنك الرغبة في المنزل كما مضت عن الكلب .
- إن الشكر علي النعمة أفضل من النعمة ، ومتي يمضي الشكور نحو النعمة “ 1 “ ؟
- إن الشكر هو روح النعمة والنعمة كالجلد بالنسبة له ، فالشكر هو الذي يأتي بك حتى باب الحبيب .
- فالنعمة تصيب بالغفلة أما الشكر فهو اليقظة ، فصد النعمة بشبكة شكر المليك .
 
2900 - وشكر النعمة يجعلك قانع العين أبدا ، بحيث تؤثر الفقير بالنعم الكثيرة .
- وتشرب حتى الارتواء من طعام الحق ونقله ، بحيث تشفي من البطنة والسل “ 2 “ .
..............................................................
( 1 ) أي أنه شكور سواء أصابته نعمة أو لم تصبه . . .
( 2 ) في النص : دق ودق بمعني النحول الناتج عن السل ، ويمكن أن تترجم بدق العربية أي الاحتياج إلي الخلق ودق أبوابهم . 
وبعده في ج / 8 - 219 : - فأشكروا نعمة الوهاب حتى لا تتحطم رؤوسكم المشئومة . 
أن الشكر جذاب لنعمة أوفر وكفران النعمة يجعل المرء كافرا .
 
“ 252 “
 
 
منع المفكرين الأنبياء عليهم السلام من النصيحة
وإيراد حجة جبرية
 
- قال القوم : كفاكم أيها الناصحون ما قلتم ، فلو أن شخصا واحدا في القرية “ 1 “ .
- لقد وضع الحق أقفالا علي قلوبنا ، ولا يستطيع أحد أن يتغلب علي الخالق .
- فهكذا جعل هذا المصور صورنا ، ولن تكون بالقيل والقال شيئا اخر .
 
2905 - إنك تقول للحجر مائة سنة كن ياقوتا ، وتخاطب القديم مائة سنة قائلا له : كن جديدا .
- وتقول للتراب : خذ صفات الماء ، وتقول للماء : كن عسلا أو لبنا “ 2 “ .
- وخالق الأفلاك وما في الأفلاك ، وخالق الماء والتراب ومن هم من التراب .
- وهب الماء السيولة والصفاء ، وللماء والطين كدر الوجه والقدرة علي الإنماء .
- فمتي تستطيع السماء تقبل الكدر ؟ ، ومتي يستطيع الماء والتراب شراء الصفاء ؟ .
 
2910 - لقد قُسَّم لكل واحد منا طريق ، فمتي يصير الجبل بالجهد كأنه القشة ؟
 
جواب الأنبياء عليهم السلام على الجبريين
 
- قال الأنبياء : أجل لقد خلق اللّه صفات لا يمكن تحويلها أو تبديلها .
- كما خلق - جل شأنه - صفات عارضة ، بحيث يصير المبغوض محبوبا .
- فإن قلت للحجر : كن ذهبا فهذا عبث ، أما أن تقول للنحاس : كن ذهبا فهناك سبيل .
..............................................................
( 1 ) تكفي كلمة واحدة لو أن شخصا واحدا في الدار .
( 2 ) ج / 8 - 223 : أو تقول للنار كوني نوراً محضا ، أو تقول للبعوضة تعرضي للرياح 
- أو تقول للزيف . . كن درا طاهرا أو كن اكسيرا وأبذل الجهد ! ! 
ولا يتغير شيء من أوصافها قط ، فمتي يصير الماء عسلًا أيها الذكي !


 
“ 253 “
 
- وإن قلت للرمل كن زهرا فهو عاجز ، أما أن تقول للتراب كن زهرا فهذا جائز .
 
2915 - وقد خلق اللّه أمراضا لا حيلة لها كالعرج والفطس والعمي .
- كما خلق أمراضا لها علاج كاللقوة والصداع .
- صنع تلك الأدوات علي سبيل الائتلاف ، وليست هذه الداءات والأدواء بالأمر العشوائي .
- بل إن لأغلب الأمراض علاجا ، عندما تبحث بجد تحصل عليه .
 
تكرار الكفار للحجج الجبرية
 
- قال القوم : أيتها الجماعة ، إن مرضنا ليس من قبيل هذا المرض الذي يقبل الدواء .
 
2920 - لقد تحدثتم لسنوات بهذه الرقي والمواعظ ، وفي كل لحظة كان القيد يزداد إحكاما علينا .
- فلو كان هذا المرض قابلا للدواء ، لزالت منه ذرة واحدة اخر الأمر .
- فعندما تكون “ السدة “ لا يصل الماء إلي الكبد ، وإذا شرب المريض بها بحرا فإنه يمضي إلي مكان اخر .
- فلا جرم أن تتورم اليد والقدم ، ولا يكسر هذا الارتواء حدة العطش .
 
جواب الأنبياء “ عليهم السلام “ عليهم
 
- قال الأنبياء : إن اليأس أمرُ قبيح ، ولا حد لفضل الباري ورحمته .
 
2925 - ولا يجوز القنوط من محسن مثله ، فتشبثوا بسمط “ 1 “ تلك الرحمة .
- وما أكثر الأمور التي بدت صعبة في أولها ، ثم تيسرت وانتهت الشدة .
- ومن بعد اليأس هناك امال ، ومن بعد الظلمة هناك كثير من الشموس .
- وهبكم قد أصبحتم كالحجارة ، وهبكم وضعتم أقفالا علي اذانكم وقلوبكم .
..............................................................
( 1 ) السمط : أهداب السرج .
  
“ 254 “
 
- فليس عندنا أدني اهتمام بقبولكم ، إن عملنا هو التسليم وتنفيذ الأمر .
 
2930 - لقد أمرنا أن نبدي هذه العبودية ، وليست هذه الأقوال من لدنا .
- ولقد نفخ فينا الروح من أجل أوامره ، فلو أمرنا بزراعة الرمل زرعناه .
- وليس لروح النبي من رفيق إلا الحق ، وليس له شأن بقبول أو رد من الخلق .
- وأجرنا علي تبليغ رسالته عليه سبحانه وتعالي ، لقد صرنا قبحاء كريهي الوجوه ( في أعينكم ) من أجل الحبيب .
- ولسنا نحس بملل أو حزن علي هذه العتبة ، حتى نقف في كل مكان من بُعدِ الطريق .
 
2935 - إنما يكون قانطا ملولا وحزينا ذلك الشخص الذي يكون من فراق الحبيب في محبس .
- لكن حبيبنا ومطلوبنا حاضر معنا ، والروح شاكرة من نثار رحمته .
- وفي قلوبنا “ تتفتح “ رياض زهور الشقائق والبساتين ، وليس للشيخوخة أو الذبول طريق إلينا .
- نحن دائما في نضرة وشباب ولطفاء ، متهللون ، ذوو جمال ، ضاحكون ظرفاء .
- وفي عرفنا تكون المائة سنة والبرهة الواحدة سيين ، فالبعيد والقريب لا معني لهما عندنا .
 
2940 - ذلك أن البعد والقرب من صفات الأجسام ، وأين يكون ذلك البعد والقرب في الأرواح ؟
- وثلاثمائة وتسع من السنين عند أصحاب الكهف ، كيوم واحد لا هم فيه ولا لهفة .
- ثم إنه أبداه لهم يوما واحدا أيضا ، عندما عادت الأرواح من عالم “ العدم “ إلي الأجساد .
 
“ 255 “
  
- وعندما ينتفي الليل والنهار والشهور والسنين ، فمتي “ يحل بالمرء “ السأم والملل والشيخوخة ؟
- وعندما تكون منتفيا عن ذاتك في روضة العدم ، تكون ثملا من كأس اللطف الإلهي .
 
2945 - “ من لم يذق لم يدر “ وهكذا كل من لم يذق ، فمتي يتوهم الجعل أنفاس الورد ؟ .
- فليس هذا بالأمر الذي سيتوهم وإن كان بالذي يتوهم ، فسوف يكون معدوما ككل الأمور المتوهمة ! ! 
- وكيف يتوهم الجحيم الجنة ؟ إن الطلعة الحسنة لا تتأتي من الخنزير القبيح 
- فهيا أيها العظيم ولا تسلم نفسك للذبح ، فإن مثل هذه اللقمة “ الحلوة “ قد وصلت إلي الفم .
- لقد قطعنا الطرق الوعرة إلي نهايتها ، “ حتى نعبد الطريق “ ونجعله سهلا أمام أهلنا . “ 1 “
 
تكرار القوم الاعتراض على رجاء الأنبياء عليهم السلام
 
2950 - قال القوم : إنكم وإن كنتم سعدا علي أنفسكم ، فأنتم نَحس علينا وأعداء ، وقد رددناكم .
- لقد كانت أرواحنا فارغة من الأفكار “ والهموم “ ، فألقيتم بنا في الغم والعناء .
- كانت توجد بيننا لذة الجماعة والاتحاد ، فصار من شؤمكم مائة افتراق 
- كنا ببغاوات “ مغردة “ قاضمة للسكر ، فصرنا منكم طيورا “ كئيبة “ تفكر في الموت .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 232 : هيا وابحثوا عن الطريق من نجوم السعد ، ذلك أنتم في ظلمه وفي قاع الجب ، وكل من صار تابعا لنا نجا من النار ودخل الجنة ومن لم يسمع نصحنا في شقاء ، ابتلي بالعذاب إلي الأبد .
 
“ 256 “
 
- ففي كل موضع منكم حكاية تثير الغم ، وفي كل ركن نداء مستنكر .
 
2955 - وفي كل موضع في الدنيا فأل سييء ، وفي كل ناحية مسخ ونكال ومأخذ “ علينا “ .
- وفي أمثلتكم وحكاياتكم وفألكم ، شهرة لكم في إثارة الحزن .جواب الأنبياء عليهم السلام
- قال الأنبياء : إن الفأل الحسن والفأل السييء ، إنما يأخذان المدد من سويداء أرواحكم .
- فإذا كنت نائما في مكان خطر ، وأفعي تزحف نحوك من حيث لا تراها .
- وأشفق عليك إنسان فنبهك قائلا لك : انهض سريعا وإلا لدغتك الأفعي
 
2960 - أتقول له : كيف تقدم لي هذا الفأل السييء ؟ إذن عليه أن يقول لك انهض وانظر في النور .
- إنني أنا الذي ينجيك من فأل السوء ، ويحملك مصطحبا إياك نحو قصور “ الجنان “ .
- فلأي شيء يكون النبي منبئا عن السر ؟ أقول لك : لأنه رأي ما لم ير أهل الدنيا .
- وإذا قال لك طبيب : لا تأكل الحصرم ، إنه مضر ، يسبب لك مرضا شديدا .
- أتقول له : كيف تقوم بفأل السوء ؟ ، إنك إذن تؤثم الناصح .
 
2965 - بينما إذا قال لك منجم : لا تقم اليوم أبدا بالفعل كذا أو لا تدبر لكذا .
- فإذا كنت قد رأيت التنجيم كذبا مرة ، لكنه صدق معك مرة أو مرتين فإنك تصدقه وتثق في قوله .
- ونجومنا هذه لم تخطئ النبوءه قط ، فلأي شيء بقي وبينك وبينها حجاب ؟
 
“ 257 “
  
- وذلك الطبيب وذلك المنجم يخبرانك من الظن ، في حين أننا نخبرك عيانا .
- إننا نري الدخان والنار تحمل من ركن ما نحو الكفار مهاجمة إياهم .
 
2970 - وأنت لا تفتأ تقول : أصمت عن هذا المقال ، فهذا القول خسارة علينا وفأل سييء .
- فيا من لا تسمع نصح الناصحين ، إن طائرك في عنقك حيثما تمضي “ 1 “ .
- إن أفعي تزحف علي ظهرك ، ويراها اخر من فوق السقف وينبهك .
- فتقول له : أصمت ، ولا تصبني بالحزن ، فيقول لك : هنيئا لقد مضي “ أوان “ الكلام .
- وعندما تلدغك الأفعي في عنقك ، يتحول كل بحثك عن السرور إلي مرارة .
 
2975 - فتصيح به : أهكذا كان الأمر يا فلان ؟ لماذا لم تمزق ثوبك عندما كنت تصرخ في ؟
- أو “ ليتك “ ألقمتني بحجر من عل ، حتى تبدي لي هذا الشر بشكل جدي .
- فيقول لك : لأنك كنت متأذيا ، فتقول له : كنت قد أسعدتني كثيرا .
- قال : لقد أبديت الفتوة بنصحي إياك ، حتى أخلصك من هذا الغل الشديد .
- لكنك من لؤمك لم تقر بهذا الجميل ، ووضعت أساس الأذي والطغيان .
 
2980 - وهذا هو طبع اللئام الأدنياء ، إنهم يسيئون إليك عندما تحسن إليهم .
- فمن هنا عود “ النفس “ علي الصبر ، وأهنها “ تواضعا “ ، فهي لئيمة لا تتواءم مع الإِحسان .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : الفأل السييء معك حيثما تمضي .
 
“ 258 “
 
- وأفعل الخير مع الكريم فهو خليق به ، فإنه يجازي علي الحسنة الواحدة بسبعمائة ضعف .
- وإنك إذا عاملت اللئيم بغلظة وجفاء ، فإنه يصير عبدا لك ذا وفاء .

- والكفار هم الذين يزرعون الجفاء في النعمة ، ثم يكون نداؤهم في الجحيم “ ربنا أخرجنا منها “ .

 
2985 - إن اللئام يَصفُون في الجفاء ، وعندما يرون الوفاء فإنهم يجفون .
- ومن هنا فإن معبد طاعاتهم هو الجحيم ، كما يكون الفخ ملازما لقدم الطائر البري .
- والسجن هو صومعة اللص واللئيم ، ففيه يقيم علي ذكر الحق .
- ولما كان المقصود من خلق البشر هو العبادة ، صارت سقر معبدا للعصاة .
- والإنسان ذو قدرة في كل أمر ، لكن المقصود “ من خلقه “ كان هذه الطاعة .
 
2990 - فأقرأ، ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، فليس هناك من قصد من الدنيا سوي العبادة .
- وبالرغم من أن المقصود من الكتاب هو محتواه من علم ، فإنك إن جعلت منه وسادة يصبح كذلك .
- في حين أن المقصود منه لم يكن تلك الوسادة ، وكان المقصود النفع بالعلم والمعرفة والإِرشاد .
 
“ 259 “
 
- وإنك إن جعلت من مسمارٍ سيفاً لك ، فإنما تكون قد اخترت الإِدبار علي الظفر .
- وبالرغم من أن المقصود من “ خلق “ البشر العلم والهدي ، فإن لكل إنسان معبدا خاصا به .
 
2995 - فمعبد الرجل الكريم هو إكرامك له ، ومعبد الرجل اللئيم هو إسقامك إياه .
- فاضرب اللئام لكي يطأطئوا الرؤوس ، وأعط الكرام لكي يعطو بدورهم ثمرا ونفعا .
- فلا جرم أن الحق “ قد خلق كلا المعبدين ، “ الجحيم “ لأولئك “ اللئام “ والزيادة لهؤلاء “ الكرام “ .
- لقد وضع موسي بابا منخفضا صغيرا في القدس ، حتى يطأطيء القوم المتكبرون رؤوسهم .
- وذلك لأنهم كانوا جبارين متكبرين ، والجحيم بالنسبة لهم هو ذلك الباب المنخفض “ الذي يدفعهم “ إلي التذلل .
 
بيان أن اللّه تعالى خلق الملوك الصوريين “ ملوك الأرض “
لتسخير الجبارين الذين لا يخضعون للحق ،
كما أن موسى عليه السلام وضع بابا صغيرا منخفضا على ربض القدس
ليركع جبارو بني إسرائيل عند دخولهم مصداقا للآية الكريمة
ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ
 
3000 - وكذلك فإن الحق صنع من اللحم والعظام بابا صغيرا يتمثل في الملوك فانتبه إلي “ حكمته في هذا “ .
- هذا ليجعل منهم أهل الدنيا مسجدا لهم ، لأنهم أعداء للسجود للّه وحده سبحانه وتعالي .
  
“ 260 “
  
- وصنع من المزابل محاريب “ لهذه المساجد “ ، وأسماء هذه المحاريب : الأمير والبطل ! !
- فلستم جديرين بهذه الحضرة الطاهرة ، فالأطهار بمثابة قصب السكر وأنتم بوص خال .
- وهؤلاء الأخساء يخضعون لأولئك الكلاب ، وعارُ علي الأسد أن يكون ميلهم إليه .
 
3005 - ويكون القط شرطيا لكل من فيه طبيعة الفئران ، ومن يكون الفأر حتى يخاف من الأسد ؟
- إن خوفهم إنما يكون من كلاب الحق ، فمتي يتسني لهم أن يخافوا من شمس الحق ؟
- إن “ ربي الأعلي “ هو ورد لأولئك العظماء ، لكن “ ربي الأدني “ “ ورد “ لائق بهؤلاء البلهاء .
- فمتي يخاف الفأر أسد الوغي ، إنما تخافه تلك الغزلان الجافلة ذات النافجة المسكية ! - فامض إلي لاعق الأطباق يا لاعق القدور ، واكتب في شأنه أنه سيدك وولي نعمتك .
 
3010 - ولأقصر القول ، فإذا بسطت في هذا الحديث وقدمت شرحا عميقا ، فسوف يغضب الأمير لأنه يعلم أن الأمر هكذا !
- الخلاصة أن : أسيء أيها الكريم إلي اللئام حتى يطأطئوا الرؤوس من خستهم ولؤمهم .
- ومن هنا فإنه إذا أحسن إلي النفس اللئيمة ، فإن النفس الشريرة ترد بالجحود كما يفعل اللئام .
- ولهذا السبب أيضا يكون أهل المحنة شاكرين ، ويكون أهل النعمة طغاة ماكرين .
 
“ 261 “
  
- والطاغية أمير ذهبي القباء ، بينما يكون الشاكر منكسرا صاحب عباء .
 
3015 - فمتي ينبثق الشكر من الأملاك والنعم ؟ إنما ينبت الشكر من البلاء والسقم .
 
قصة عشق صوفي لسفرة خالية
 
- رأي أحد الصوفية ذات يوم سفرة خالية معلقة علي مسمار ، فأخذ يدور كما تدور العجلة ويمزق ثيابه .
- وأخذ يصيح : يا زادا لمن لا زاد له ، ويا من أنت الدواء للقحط والآلام .
- وعندما زادت حرقته واستمر هياجه ووجده ، انضم إليه وصاحبه في ذلك كل من وُجِد من الصوفية .
- وأخذوا يصيحون بصيحات الوجد ويدقون بأقدامهم ، حتى صاروا بضعة من السكاري فاقدي الوعي .
 
3020 - فقال أحد الفضوليين للصوفي : ما هذا ؟ إن السفرة معلقة وخالية من الخبز .
- فقال له : اذهب ، اذهب ، فأنت صورة بلا معني ، وابحث أنت عن الوجود لأنك لست عاشقا .
- إن عشق الخبز بلا خبز غذاء “ للعاشق “ ، ومن هو صادق ليس في قيد الوجود .
- وليس للعاشقين اهتمام بالوجود ، فإن للعشاق نفعا بلا رأسمال .
- ولا أجنحة لديهم ، لكنهم يطوفون حول العالم ، ولا أيدي لهم لكنهم يخطفون كرة “ السبق “ من الميدان .
 
3025 - وذلك الفقير الذي وجد النذر اليسير من “ عالم “ المعني ، جدل الزنبيل وهو مقطوع اليد .
- لقد نصب العشاق خيامهم في العدم ، فهم كالعدم ذوو لون واحد ونفس واحدة .
 
“ 262 “
  
- ومتي يعلم الرضيع طعم قطعات اللحم ؟ والجني دسمه وقوته من الرائحة .
- ومتي يشم الآدمي رائحة من الروائح التي يشمها الجني ، وطبيعة “ الآدمي “ مضادة لطبيعة “ الجني “ .
- إن ذلك الجني الذي يجذب إليه الرائحة ، يجد فيها مالا تجده أنت في الدسم الكثير والقوت .
 
3030 - وماء النيل الذي صار دما لآل فرعون ، يظل ماءً لقوم موسي .
- ويكون البحر طريقا لبني إسرائيل ، لكنه يكون مهلكا لفرعون الطاغية “ 1 “
 
اختصاص يعقوب عليه السلام بتذوق كأس الحق من وجه يوسف
وشمه لرائحة الحق من ريح يوسف وحرمان إخوته
وغيرهم من هذين الأمرين
 
- إن ما راه يعقوب من وجه يوسف كان خاصا به فمتي أدركه أخوته ؟ !
- فهو من عشقه إياه يلقي نفسه في بيت الأحزان “ 2 “ ، في حين أن إخوته في حقدهم عليه يحفرون له بئرا .
- كانت سفرته أمام إخواته خالية من الخبز ، لكنها كانت أمام يعقوب مليئة بكل ما هو مشتهي .
 
3035 - ومن لم يغتسل لا يري وجه الحور، وقال عليه السلام “لا صلاة إلا بطهور”.
- والعشق هو اللحم والقوت بالنسبة للأرواح ، ومن ثم فالجوع هو قوت الأرواح .
- كان يعقوب يحس نحو يوسف “ بما يشبه “ الجوع ، فكانت رائحة خبزه تصل إليه من مكان قصي .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 262 : وكانت الريح علي قوم عاد كالهراوة والطبر ، لكنهم كانت ظفرا لهود وقومه - والنار صارت روضة علي إبراهيم ، لكنها صارت سم حية علي النمرود . والنار تكون للسمندل مأوي ، لكنها تكون ضررا علي كل الطيور وعند العاشق الحزن والألم حلوي لكن الحلوي علي الأخساء بلوي .
( 2 ) حرفيا : البئر .
  
“ 263 “
  
- وذلك الذي كان يحمل القميص مسرعا ، لم يكن يجد ريح يوسف .
- والذي كان علي بعد مائة فرسخ منه ، كان يشم الرائحة ، لأنه كان يعقوب .
 
3040 - ورب عالم لا نصيب له من العلم ، ذلك أنه حافظ للعلم وليس حبيبا .
- بينما قد يجد المستمع إليه نصيبا ولو ضئيلا من علمه ، حتى وإن كان ذلك المستمع من العوام .
- كان ذلك القميص عارية في يده ، مثلما تكون الجارية في يد النخاس .
- إن الجارية عند النخاس لا فائدة منها له ، لأنها في كفه من أجل المشتري .
- وقسمة الحق أنه يهب الرزق ، وليس لرزق أحد طريق إلي اخر .
 
3045 - وثمة خيال حسن صار لأمريء بستانا ، وثمة خيال قبيح قطع الطريق علي اخر “ 1 “ .
- واللّه تعالي هو الذي جعل من خيال ما بستانا ، وجعل من خيال اخر جحيما مذيبا للأجساد .
- ومن الذي يعرف إذن الطريق إلي رياضه ؟ ومن الذي يدري إذن مواضع مزابله ؟
- وإن حارس القلب لا يري في مجال رؤيته ، من أي ركن يَرِدُ هذا الخيال إلي الروح “ 2 “ .
- ولو كان قد رأي مطلعه لاحتال من أجل قطع الطريق علي كل خيال سييء .
 
3050 - ومتي تصل قدم جاسوس إلي ذلك المكان الذي هو مرصاد للعدم وسد لبابه ؟
- فاستمسك بطرف رداء فضله كالأعمي ، ومثل هذا “ عندنا “ هو قبض الأعمي أيها الرفيق .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 265 : ذلك الخيال صار بستانا من الأثر ، وهذا الخيال أصاب العالم بالاضطراب .
( 2 ) ج / 8 - 265 : اللهم إلا ذلك القلب الذي له عون الحق وكون الحق أفني كونه .
 
“ 264 “
  
- إن طرف ردائه هو أمره ونهيه ، وسعيد من يكون التُّقي روحا له .
- إن أحدهم يكون في مرج تجري فيه الأنهار ، واخر إلي جواره يكون في عذاب بئيس .
- فالأخير في عجب يتساءل : من أي شيء يا تري هذه اللذة التي يحس بها ؟ والأول أيضا في عجب : في حبس من يا تري سقط هذا ؟
 
3055 - فيقول له : انتبه . . لماذا أنت في ذبول ؟ إن عيون الماء هنا كثيرة ، هيا لماذا أنت أصفر الوجه ، وهنا مائة دواء .
- فادخل أيها الجليس الرياض، لكنه يجيب : أيها الحبيب، أنا لا أستطيع الدخول “1”.
 
حكاية الأمير وغلامه الذي كان مغرما بالصلاة وكان يحس بأنس عظيم
في الصلاة ومناجاة الحق
“ 2 “
- احتاج الأمير إلي حمام عند الفجر ، فصاح : يا “ سنقر “ انتبه واستيقظ .
- خذ الكأس والمنشفة ( وحَجَر ) الطفل من الجارية “ التون “ حتى نمضي إلي الحمام يا من لا غني عنك .
- ومن فوره أخذ سنقر طاسا ومنشفة جيدة وأسرع يسير إلي جواره خطوة خطوة .
 
3060 - وكان هناك مسجد في الطريق ، وبلغ الآذان مسامع سنقر وهو بين الناس .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 266 : تعال يا حبيبي فقدمك ليست مقيدة . . فيقول : لا ، لا أستطيع ، توقف أنت .
( 2 ) ج / 8 - 276 : ولقد عن لي مثلُ في هذا المعني ، ربما نجد من هذا البيان سرا خفيا . . ولأقل قصة في هذا المعني ، فافتح أذنيك حتى تظفر منها بنصيب . كان هناك في مضي أميرُ من الكرام ، عنده غلام اسمه سنقر .
 
“ 265 “ 
 
- وكان “ سنقر “ شديد الولع بالصلاة ، فقال : يا أميري يا مكرما لعبدك .
- انتظر برهة علي هذا النجد ، حتى أؤدي الفرض وأقرأ “ لم يكن “ . “ 1 “ 
- وعندما خرج الإمام والمصلون من الصلاة وفرغوا من الأوراد .
- ظل “ سنقر “ داخل المسجد حتى الضحي ، والأمير في انتظار “ سنقر “ فترة من الزمن .
 
3065 - فصاح به : يا سنقر لماذا لا تخرج ؟ فأجاب : إن صاحب الأفضال هذا لا يتركني أخرج .
- فاصبر ، أنا قادم يا نور عيني ، وليست بالغافل ، وكلامك في أذني .
- فصبر عليه ، وهكذا ظل يصبر عليه ويناديه سبع مرات ، حتى ضاق الرجل به وبإهماله .
- وكان جوابه المستمر ، أنه لا يزال يمنعني من الخروج أيها المحترم .
- ثم قال “ الأمير “ : لم يبق أحد داخل المسجد اخر الأمر ، فمن الذي يعطلك هناك ومن الذي يجلسك “ في مقامك هذا “ ؟
 
3070 - قال سنقر : ذلك الذي قيدك خارج “ المسجد “ ، هو نفسه الذي يقيدني داخله .
- إن ذلك الذي لا يسمح لك بالدخول ، هو نفسه الذي لا يسمح لي بالخروج .
- ذلك الذي لا يأذن لك بخطوة واحدة تخطوها داخل هذا المكان ، هو نفسه الذي عقد قدم السالك هنا .
- إن البحر لا يأذن للسمك بالخروج منه ، ولا يأذن لسكان البر بالدخول إليه .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 276 : وذهب سنقر ، وجلس الأمير علي نجد ، منتظرا ثملا من خمر الطين لقد توقف الأمير من أجل يقظ القلب ذاك .
 
“ 266 “ 
 
- وأصل السمكة من الماء والحي من الطين ، والحيلة والتدبير باطلان هنا .
 
3075 - فالقفل ضخم والمفتاح هو الله ، وليس لك إلا أن تستمسك بالتسليم والرضا .
- والذرات وإن تحولت ذرة ذرة إلي مفاتيح ، فليس لهذا القفل من فتح إلا من الحق .
- وعندما تنسي تدبيرك فإنك تجد ذلك الإقبال الفَتِي من شيخك .
- وعندما تنسي “ذاتيتك” فإنهم يذكرونك ، لقد صرت عبدا وآنذاك يحررونك. “1”
 
يأس الأنبياء من قبول المنكرين مصداقا لقوله تعالى
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ
 
- حدث الأنبياء أنفسهم قائلين ، حتام نقدم النصيحة والوعظ لهذا وذاك ؟
 
3080 - وحتام ندق علي الحديد البارد من الغي ؟ انتبه!! حتام النفخ في القفص؟”2”
- إن الحركة من الخلق في حكم القضاء وفي ميعاد ، وتكون حدة الأسنان من حرقة المعدة .
- إنه يزجي النفس الكلية الأولي علي النفس الجزئية الثانية ، والسمكة تتعفن من رأسها لا من ذيلها .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 277 : فدعك من ذاتك حتى تجد الله ، وكن فانيا في الحق حتى تجد البقاء - وإذا أردت الوصال الحقيقي ، فانمحِ ، والله أعلم بالغيب .
( 2 ) ج / 8 - 280 : وحتام قياس ذيل الحمار ، ما دام لا يزيد شيئا سوي السخرية .
 
“ 267 “
  
- لكن اعلم أن الأمر هكذا وانطلق في العمل “ 1 “ كالسهم ، وما دام اللّه تعالي قد قال : “ بلغ ما أنزل إليك “ فلا محيص .
- إنك لا تعلم من تكون من بين اثنين ، فجاهد بحيث تعلم من تكون منهما .
 
3085 - إنك عندما ما تضع الأحمال علي ظهر السفينة ، فإنك تقوم بهذا العمل علي التوكل .
- وأنت لا تعلم من ستكون من بين اثنين ، هل ستغرق في سفرك هذا أو تنجو .
- فإذا قلت : ما لم أعلم مصيري ، فإنني لن أسوق السفينة أو أركب اليم .
- هل أنا في سبيلي إلي الغرق أو النجاة ؟ ، اكشف لي من أية فرقة سوف أكون ؟
- ولن أمضي في هذا الطريق علي سبيل الظن كالآخرين علي أمل أنني سوف “ أرسو “ علي اليابسة .
 
3090 - فلن تتأتي منك تجارة أبدا، ذلك أن سر النجاة أو الغرق مستور في حجب “ الغيب “ .
- فالتاجر ذو الطبع الخائف هش الروح “2” ، لا يبلغ نفعا أو خسارة في سعيه .
- بل إنه يخسر إذ إنه محروم وذليل، إنما يجد النور من يكون مجاهدا وساعيا “3”.
- وما دامت كل الأمور قائمة علي الاحتمالات ، فإن من الأولي بك أن تجد الخلاص من هذا عن طريق الدين .
- وليس من أذن في هذا الموضع إلا الرجاء ، فاقرع الباب ، واللّه أعلم بالصواب
..............................................................
( 1 ) حرفيا : سق الحمار .
( 2 ) حرفيا : زجاجي الروح .
( 3 ) حرفيا : أكلا للنار .
 
“ 268 “ 
بيان أن إيمان المقلد هو الخوف والرجاء
 
3095 - إن المحرك لكل حرفة هو الأمل والاحتمال ، هذا بالرغم من أن الرقاب قد صارت من السعي كالمغزل .
- وعندما يذهب “ المرء “ في الصباح إلي الحانوت ، إنما يسرع إليه أملا في الرزق منتظرا له .
- وإن لم يكن لديك احتمال الرزق فكيف تسعي ؟ وإن كان كل إحساسك هو الخوف من الحرمان . . فكيف تكون جلدا “ علي العمل “ ؟
- وكيف لم يجعلك خوفك الأزلي من الحرمان من الدسم واهناً في سعيك ومطلبك ؟
- فترد قائلا : بالرغم من أن الخوف من الحرمان يتقدمني ، فإن خوف الحرمان يكون أكثر في الكسل ! !
 
3100 - فالأمل “ المعقود “ علي السعي يكون أكثر ، والخطر زائد لدي في الكسل .
- لماذا إذن في أمور الدين يأتي الظن ، يتشبث بطرف ردائك الخوف من الخسران ؟
- أو أنك لم تر أهل سوقنا هذا في أي كسب هم الأنبياء والأولياء .
- أي منجم يكشف لهم من الذهاب إلي هذا الدكان ، وكيف يربحون من هذا السوق ؟
- صارت النار مطيعة لهم كأنها الخلخال ، وصار البحر لهم مستأنسا مطيعا هادئا حمالا “ 1 “ .
 
3105 - وصار الحديد لينا في أيديهم كالشمع ، وصارت الرياح تحت أمرهم مطيعة لهم “ 2 “ .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 287 : ومن نفس ذاك بعث الميت حيا ، والغمام صار مظلة لأخر .
( 2 ) ج / 8 - 287 : وصارت العصا لذاك في دفع العدو كالحية ، وصار العنكبوت حاجبا لهذا .
  
“ 269 “
 
بيان أن الرسول عليه السلام قال : إن لله تعالى أولياء أخفياء
 
- وهناك “ غيرهم “ قوم آخرون يسيرون في خفاء شديد ، فمتي يصيرون مشهورين بين أهل الظاهر ؟
- إنهم يملكون كل هذا “ الذي للأنبياء “ لكن عين أحد لا تقع علي عظمتهم لحظة واحدة .
- ولهم الكرامات وهم في الستر الإلهي ، والأُبدال أنفسهم لا يسمعون أسماءهم .
- أو أنك لا تدري كرم اللّه سبحانه وتعالي ، الذي يناديك من تلك الناحية قائلا : تعال .
 
3110 - وجهات العالم الست إكرام له ، وحيثما تنظر فإنك تجد أعلامه .
- وعندما يأمرك كريم بأن تدخل النار ، فادخل من فورك ولا تقل : إنها تحرقني . “ 1 “
 
حكاية إلقاء أنس رضى اللّه عنه بمنديل داخل تنور
مشتعل وعدم احتراقه
 
- روي أن شخصا نزل ضيفا علي أنس بن مالك رضي اللّه عنه .
- فروي أنه بعد الطعام ، رأي أنس أن مفرش المائدة أصفر اللون .
- كان “ المفرش “ قذرا ملويا ، فصاح : يا خادمة ألقيه في النار لحظة من الزمن .
 
3115 - فألقت به في تنور مشتعل ، وهي علي وعي تام بما تفعل .
- فتحير كل الضيوف في ذلك الأمر ، وكانوا في انتظار “ أن يشاهدوا “ الدخان يتصاعد من المفرش .
- وبعد برهة أخرجته من التنور ، نظيفا أبيض نقيا من الأوساخ .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 291 : - فالنار في الحقيقة هيبة منهم كأنها اللبن ، هي غاسلة لمفارش موائد الأنبياء .
  
“ 270 “
  
- فقال القوم : أيها الصحابي العزيز ، كيف لم يحترق المنديل بل صار أكثر نقاء ونظافة ؟
- قال : لأن المصطفى عليه السلام قد جفف يده وفمه في هذا المفرش .
 
3120 - فيا خائف القلب من الجحيم والعذاب ، اقترب من أمثال تلك اليد والشفة .
- وإذا كان الجماد قد نال مثل هذا التشريف ، فما الذي يفتح لروح العاشق ياتري :
- ألم يجعل حجر الكعبة كالقبلة ، فكوني ترابا “ تحت أقدام “ الرجال سعيا أيتها الروح .
- ثم قالوا للخادمة : إنك لا تحدثيننا عن أحوالك في هذا الأمر كله .
- كيف ألقيت بالمنديل سريعا بمجرد أمره ؟ وهبه قد فهم الأسرار ! !
 
3125 - فكيف ألقيت بهذا المفرش القيم في النار يا سيدتي ؟
- قالت : إنني أثق في الكرام ، ولست قانطة من إكرامهم إياي .
- وماذا يكون مئزر ؟ إنه إن قال لي : أقذفي بنفسك في النار دون ندم .
- لألقيت بنفسي فيها وأنا كلي ثقة ، فأنا راجية في عباد اللّه “ المخلصين “ .
- ولألقين برأسي لا بهذا المفرش ، ثقة في كل كريم عالم بالأسرار .
 
3130 - فيأيها الأخ ، أعرض نفسك علي هذا الأكسير ، إذ لا ينبغي أن يكون صدق الرجل أقل من صدق المرأة .

- وإن قلب الرجل الذي يكون أقل من امرأة ، لا يكون قلبا بل يكون أقل من بطن .

.
* * * 
شرح حكاية الأرانب التي أرسلت أحدها برسالة إلى الفيل قائة له :
قل : إنني رسول قمر السماء إليك ويأمرك قائلا :
ابتعد عن عين الماء تلك كما هو مذكور بتمامه في كتاب كليلة ودمنة
 
( 2756 - 2759 ) يقول الأنبياء : إن الدواء الذي قدمناه لكم والنصح الذي نصحناكم به لم يؤثر فيكم ، بل إن طبيعتكم الكافرة الملحدة قد حولته إلى سم ، وهكذا العلة . وهذا هو من غضب الله عليكم . إن نبوتنا لا تأتى منكم ، نحن كالبحر وأنتم كالسفين . وهل يشرف البحر من السفين الملىء بالبعر وهو بحر ملىء بالدر ؟ ! أي أن الرئاسة التي تتأتى منك ليست أمرا مشرفا .
 
( 2760 - 2774 ) يستمر كلام الأنبياء مع أهل سبأ ، لكن الواقع أن مولانا يتحدث إلى مريديه . . ويتأسف من عين الظاهر التي لا ترى نور شمس الحقيقة إن هذا كعمى إبليس اللعين الذي لم ير من آدم إلا قبضة من الطين فقال أنا خير منه ، وعين هذا المجنون هي التي أضلته ، فألقى حكما هو نابع من خلقته هو ومن أصله هو ، ومن إدباره وسوء حظه ، لقد واتاه الحظ مرة واحدة فتحول عن
 
“ 530 “
 
طريقة . لأنه كالعنين الذي يصل إلى حبيبه . وما من سبب لهذا ، لا العين ولا الرأي ، بل هو الحرمان ، هو قضاء السوء ويعود الأنبياء للحديث مرة أخرى موجهين الكلام إلى المنكرين من أهل سبأ : ليس السبب هنا أنكم غير مقتنعين بنا ، ولكن السبب في أن اللعنة قد حلت بكم لأنكم عكفتم على أصنامكم ( ذواتكم ورفاهيتكم ونفوسكم المريضة ) فإذا كنتم قد اعتبرتم هذه الأصنام آلهة لكم ، فكيف تنكرون أن يكون موضع العقل والروح موضع سر الله ؟ لقد أنكرتم على البعوضة الحية أن تكون موضع سر العنقاء ولم تنكروا ذلك على البعوضة الميتة ( دنياكم وأصنامكم ) ، ألأن البعوضة هي من صنعكم أما البعوضة الحية فمن صنع الله ؟ إذن لقد وضح الخفاء : إنكم لا تعبدون الله ولا تعبدون الأصنام ، بل أنتم في الحقيقة تعبدون أنفسكم وتعبدون ما تصنعونه أنتم . إنكم تعتبرون أنفسكم آلهة . إن صنع الله حتى في خلق “ بعوضة “ جدير بالتمجيد والتحميد .
 
وما عبادتكم لأنفسكم إلا كما يدور ذيل الحية حول رأسها . ولا في الذيل أو في الرأس أية فائدة ، لكنهما من جنس واحد . فالتافه غالبا ما يميل إلى التافه . وهذا يشبه ما ورد عند الحكيم الغزنوي ( سنائى الغزنوي “ الذي يقول في الحديقة :
اجعل الفضول خارج هذا الموضوع فإن أذن الحمار مناسبة لرأس الحمار ( حديقة الحقيقة البيت 403 ) فقلل إذن الكلام هنا ، فإن المنكرين إنما ينكرون سوء القضاء ، ولا يستطيعون أن يقولوا أكثر من هذا ، وهذا القضاء مناسب لهم ( 2775 - 2785 ) إن القضاء مناسب لما نحن جديرون به ، هذا كما تتناسب الأعضاء مع الأبدان ، وكما تتناسب الأخلاق والطباع مع الأرواح ، والله سبحانه
 
“ 531 “
 
وتعالى هو الذي يضع الصفات الحسنة والصفات القبيحة للأرواح ، لقد ( أعطى كل شئ خلقه ثم هدى ) ( طه / 50 ) وفعل الحق كفعل الرسام يرسم الصور الحسنة والصور القبيحة كلها تدل على أستاذيته . ( انظر : الكتاب الثاني - الأبيات 2546 - 2550 ) ، وفي البيت 2779 إشارة إلى الحديث النبوي : “ إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء “ وفي المصطلح الصوفي أن الإصبعين كناية عن “ اللطف والقهر “ و “ القبض والبسط “ و “ الخوف والرجاء “ و “ الجلال والجمال “ كلها تجليات لعظمة الله سبحانه وتعالى ، فلطف الحق يسبب البسط في قلب المؤمن : وقهره يسبب القبض ، ثم يخاطب مولانا قلب المؤمن : إن كنت جديرا بعناية الجلال ، إننا نشبه قلما في يد القدرة ، وسن هذا القلم ( مفرقة ) على مفترق طرق أربعة :
قهر ولطف وقبض وبسط ، وبمشيئة الحق نكون مشمولين في واحد من هذه الطرق ، وأحوالنا كلها كالحروف التي يكتبها قلم القلب ، وهي من كتابه الحق .
فإذا عزمت وإذا فسخت فكل هذا من الله سبحانه وتعالى . وانظر بين إصبعىّ من تكون : أي قدر اليد التي تمسك بك وتقلبك حيث تشاء واخضع ولا تتمرد . .
لكن واسفا ليس كل قلب بالعالم بهذا . لكن هذا القلم ( القلب . . قلب مولانا ) يعلم لأنه يكتشف قدرة في الخير وفي الشر .
 
( 2786 - 2796 ) يعلق مولانا على المثل الذي أورده المنكرون بقصة الفيل والقمر أنه من الحيلة والكفر ، وإلا فما قيمة هذه الأمثال أمام الحقائق الأزلية الإلهية ؟ في الأمور يستطيع الله فحسب أن يضرب الأمثال للناس ( يهدى الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شئ عليم ) ( النور 35 )
“ 532 “
 
وكيف تكون خاليا من العشق الإلهى - “ أقرع “ - وتضرب المثل للجمال الإلهى بالوجه الحسن والجدائل السوداء ؟ إن موسى - مع مقام نبوته - لم يكن يعلم أن عصاه حية مع العلم بأن باطنه كان عليما بإمكان حدوث هذه المعجزة ( انظر طه 19 ، 20 ) ، أي علم لك بما يضعه الحق في طريقك ليقوم بصدك ؟ إنك بمثلك هذا تحطم نفسك ، فإن الله تعالى يجعل من أمثالك وبالا عليك ، لأنك بمثابة فأر وتتخذ مثلا من فضولك بما لم يقو عليه الأنبياء ، مصيرك كإبليس الذي قاس النار بالتراب ، وقارون ادعى أنه أوتى المال على علم عنده ، ومن ثم فمثلك هذا هو سبب خرابك .
 
( 2797 - 2800 ) موضوع هذه الأبيات مقتبس من الآية 38 من سورة هود :
( ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه ) .
 
( 2801 - 2807 ) ينزل مولانا إلى المستوى العقلي والروحي لأولئك المدعين فيقدم حكاية رائجة من المأثور الشعبي عن الغفلة في القياس والاستنتاج ، فمن الواضح أن اللص ينقب جدار المنزل ، ومع ذلك فالرجل الساذج بدلا من أن يستغيث يدخل معه في حوار عن الذي يفعله ، فلا يجد بدا من السخرية فيجيب بأنه طبال ، فإن سأله : وأين أصوات الطبول ؟ قال أصوات الطبول سوف تقدمها غذا بصياحك واستغاثتك ( بالطبع بعد أن تكتشف السرقة ) .
وهكذا يكون الجواب للمنكرين إن سألوا : أين الدليل ؟ يقال : غدا تقدم أنت نفسك الدليل عندما تستغيث فلا تغاث إلا بماء يشوى الوجوه .
 
“ 533 “
 
( 2808 - 2824 ) هنا يرد مولانا على المنكرين من أهل سبأ ، وعلى كل أولئك الذين يتناولون عوالم الغيب بمقاييس العالم المادي الذي يعيشون فيه ، وفيما سبق
 
( 2787 ) قال مولانا : إن أي إنسان لا يستطيع أن يضرب الأمثال عند الحديث عن عالم الغيب . والآن يتناول المثال الذي قدموه وهو مثال الأرنب : إن مثال الأرنب لا يمكن أن ينطبق على رسالات الأنبياء إن هذا المثال يرمز إلى شئ اخر ، ويهدف إلى بيان معان أخرى ، فالأرنب في هذه الحكاية هو شيطان الفضول ، والفيل هو نفسك ، وماء العين هو معرفة الحق التي تهب الإنسان الحياة الخالدة ، وتفسيركم هذا اللقصة وتكذيب رسالات الأنبياء كفر وانتظروا العقاب عليه ، فأي تشابه بين القمر والفيل والأرنب مع قمر الحقيقة الذي يقف الوجود أمامه عاجزا ؟ إن الخاص ومن هو من العوام كلهم عاجزون أمام ذلك القمر أي قمر الحقيقة ، إنه شمس وشمس الشمس ، بل إن هذا التعبير قاصر ، انظروا إلى المكذبين من قبلكم ، اقرءوا ( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ) ( الأعراف - 4 ) .
 
انظروا كم خربت من قرى من أمثال قرى عاد وثمود ، بل انظروا إلى جبل الطور وقد انشق من التجلي الإلهى ، بل إن الشمس نفسها في جنون مما ينزل بها من كسوف ، إن غضب الأولياء والأنبياء كفيل بأن يسلب منكم كل نعم الحياة ومتعها ، وأن يحول خواص كل شئ إلى أضدادها ، إنكم موتى لم تكفنوا بعد ، فانظروا إلى ما حاق بقوم لوط ، إذهبوا وانظروا فلا تزال اثارها باقية وما فيلكم هذا ؟ ألم تقرءوا سورة الفيل وكيف مزقت الفيلة طير الأبابيل ؟ ألم تسمعوا عن طوفان نوح ؟ ألم تسمعوا عن حرب جند فرعون مع موسى وغرق قوم فرعون ؟ ألم تسمعوا عن دمار ثمود صرصر عاد ؟
 
“ 534 “
 
( 2825 - 2834 ) دعنا من فيلة أبرهة . ألم تسمعوا عن الفيلة التي تجندل أي فيل قوى في الوغى ؟ وهذا بقدرة الله لأنهم من رجال الله وأوليائه ، ألم تسمعوا عن الظلمة من الملوك وجبارى الأرض الذين أخذهم غضب قلوب رجال الحق ؟ فمضوا من ظلمة الظلم والجبروت إلى ظلمة القبر دون أن يغيثهم أحد ؟
ألم تسمعوا الذكر الحسن والذكر القبيح ؟ ويتكرر هذا المعنى كثيرا في المثنوى أن القحط يحل حينما يحل غضب الأولياء من الظلم والتعدي على حرمات الله تعالى . وكثيرا ما أشار مولانا في مجالسه عما حاق بخوارزم من غزو المغول نتيجة ظلم خوارزمشاه الذي دفع والد مولانا إلى الهجرة بأسرته ( مناقب - 1 وأنظر الكتاب الثاني البيت 3123 وشروحه ) إنكم تتجاهلون هذا الأمر ، لكن الموت هو الذي سيفتح عينك ما دمت قد أغمضتها هنا على بئر الحياة الدنيوية ولم تفتحها على عالم المعنى ، إنك مفعم بالطمع والافتراس فكيف تتخيل جمال يوسف ، إنك لا تسمع مع أن كلمات الحق استمعت إليها الجبال من لسان داود .
 
( 2835 - 2842 ) العقل هنا هو العقل الناظر إلى الحقيقة والباحث عن الله سبحانه وتعالى . ثم يسوق مولانا بضعة أبيات باللغة العربية والبيت الخامس بالعربية من ليس يرجو خيركم لا يستقيم المعنى ، والمفروض إنه من ليس يرجو “ ضركم “ ولعله من خطأ النساخ . ولنتحدث الفارسية : أي لنقدم بالفارسية خلاصة ما قلناه بالعربية ، والخلاصة كانوا عبيدا لله وهو ما يسعى إليه الفارسي والتركي والهندي وصدقوا براهين الأولياء ، فقد مالت الملائكة إليهم وسجدوا لآدم عليه السلام .
 
( 2843 - 2863 ) تحدث مولانا كثيرا عن الحزم وأكد أنه هو التسليم لأمر الله وإطاعة أوامر رجال الله ( انظر الأبيات 213 و 267 و 2204 ) ويقول هنا :
 
“ 535 “
 
أيها المنكرون انظروا إلى الماضين وإلى الكافرين واتعظوا أو انظروا إلى العاقبة بحزم ، وحتى إن لم تكن مؤمنا فافعل شيئا في طريق الحق من باب الاحتياط ، فمن يدريك أن ما تنكره هكذا ليس حقيقة ؟ ثم يخاطب أبناء الخليقة ( بني آدم ، أولاد الخليفة ، ألم يكن آدم هو خليفة الله في أرضه ؟ ) احزموا أمركم وخذوا بثأركم ممن أضل والدكم وعزله عن عرش الملوكية وطرده من الجنة وهزمه في لعبة شطرنج القلب ، هكذا فعل مع والدكم وهو نبي ، فتخيلوا ما يحدث لكم إن لم تقفوا له بحزم ، تذكروا أباكم في منفاه يبكى حتى ينبت النبات من دمع عينيه وتجرى البحار من غزارة هذا الدمع ، إن ادم ضاق ذرعا منه ، فقس هذا الأمر على نفسك ، فيا عباد الدنيا ، اهزموا هذا الشيطان بتذكر حول الله وطوله وبقولكم :
لا حول ولا قوة إلا بالله ، واعلموا أن كل من زهد في طيبات الدنيا ، يصل إليه قوته من الغذاء المعنوي .
 
( 2864 - 2886 ) يقدم مولانا مثلا اخر للمتردد بين الفخ والنجاة ، أو بين الشهوة والحزم ، فالشبكة والحبة هي الدنيا ، والخلاء هو عالم المعنى ، والطائر هو الإنسان الذي يستطيع الاختيار بين طريق الحق أو خداع الدنيا ، والطائر الذي ترك التردد هو الإنسان الذي يسلك طريق الحق دون شك ودون تردد ، وما أسعد ذلك الطائر الذي يطير نحو الحق ، هو مقتدى الأحرار الذين تحرروا من خداع الدنيا ، وساروا في الرياض والبساتين أي منازل السير إلى الله ، وهو يخاطب المتردد الذي يسقط ويقوم : لقد أسلمت طريق وصول الغذاء المعنوي إليك “ الحلق “ للذبح أكثر من مرة ثم يتوب عليك التواب اللطيف ، ثم تعود ، “ وإن عدتم عدنا “ ( الاسراء / 8 ) لأن الجزاء من جنس العمل . . وهما : أي الجزاء والعمل
 
“ 536 “
 
متصلان كزوجين يحمل الزوج أسيرا تسرع زوجته في أثره ، وكثيرا ما أنجاك اللطيف الخبير لكن فراشة النسيان تجذبك ثانية نحو النار ، لقد نسيت أن الشكر على أنه أنجاك من النار هو ألا تعود إلى هذه النار أبدا ، لكنك لا زلت تحوم حول الفخاخ في حين أنك إن ابتعدت عنها سوف يهبك رزقا بلا شباك أي رزقا خالصا معنويا .
 
( 2887 - 2901 ) يقدم مولانا هنا مثالا اخر على التردد المنبعث من الحرص ، فالكلب المنكمش من البرد يفكر عندما يأتي الصيف أن سيبنى منزلا ، فإن أتاه الصيف وتمددت عظامه واكتست لحما ، اغتر ورأى أن أي منزل لا يمكن أن يسمعه وهذا هو الحرص ، فعندما يكون الإنسان معدما يكون حرصه أقل ، وهذا طبعا عكس أن يكون مالكا فيكون حرصه أكثر وأشد ، وهكذا يفكر الإنسان في التوبة عند الشدة ( البرد ، الشتاء ) فإن ذهبت الشدة ذهب تفكيره في التوبة وبدلا من أن يشكر على النعمة ويتوب ، إذا به ينكص على عقبيه ، مع أن الشكر هو روح النعمة ( أنظر التعليق على الأبيات 2671 - 2678 ) ويعمد مولانا هنا العودة إلى قصة قوم سبأ .
 
( 2902 - 2910 ) يعود مولانا إلى قصة قوم سبأ ، وكيف وقفوا أمام نصح الأنبياء قائلين : إن نصحكم هذا لا فائدة منه لأن الله لا يريد لنا أن ننتصح وهو الذي ختم على قلوبنا وهذه إرادته . . هذا ما أراده لنا كما أراد لكل شئ طبيعته ، ولا يتحول عن طبيعته فلا الحجر يتحول إلى ياقوت ، ولا القديم يصير جديدا ،
 
“ 537 “

ولا التراب يصير ماء ، ولا الماء ترابا ، كل مخلوق وقسمته وجبلته التي جبله الخالق عليها ، أي أن المقصود : نحن على كفرنا وإنكارنا مجبرون .
 
( 2911 - 2918 ) أجاب الأنبياء أن هناك صفات ذاتية وصفات عرضية ، والصفات العرضية قابلة للتغيير والتبديل ، ومن أجل هذا وجد الأنبياء ، فالمبغوض يتغير ويصير محبوبا سواء في علاقته مع الناس أو في علاقته مع الله والتراب ينبت الزهر ، والمعادن قابلة للتحول بالكيمياء والله سبحانه وتعالى خلق لكل داء دواء .
 
( 2919 - 2923 ) أجاب الكفار : لقد ثبت بالدليل القاطع أن ما بنا من داء لا يقبل الدواء ، والدليل أنكم فعلتم كل ما في وسعكم دون أن يؤثر هذا علينا ودون الوصول إلى نتيجة ، زو يزول ذرة مما فينا ، فالتهاب الكبد وتورمه “ السدة “ يأتي بالعطش الشديد الذي لا يرويه ماء .
 
( 2924 - 2949 ) يرد الأنبياء : إن هذا الكلام هو من نتاج اليأس واليأس قبيحلا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( الزمر / 53 ) 
ولنفرض أنكم قد صرتم كالحجارة ، وأن هناك أقفالا على قلوبكم ، فهذا ليس شأنناوَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( يس / 17 ) إننا مكلفون بنصحكم من لدن الحكيم الخبير ، ولا شأن لنا باستجابتكم من عدمها وأجرنا في هذا على الله ، ونحن لا نكل ولا نمل من خدمة ربنا ، وليس يصيبنا حزن ، فإنما يحزن من هو في فراق عن الحبيب ، ومحبوبنا معنا ، ونحن واصلون إلى الحق ، ولا قيمة للزمن عندنا ، إذا لا تطرأ علينا شيخوخة ، والدليل فتية الكهف الذين
 
“ 538 “
 
مكثوا في الكهف ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعا ، وما دام قد سقط من حسابنا فلا سأم ولا شيخوخة ولا ملل ، وهذا كلام غريب عليكم “ لأن من ذاق عرف ومن حرم اختلف “ وهل يتوهم الجعل أنفاس الورد ؟ 
إن كل متوهم معدوم . وحتى الوهم نابع من شخص من يتوهم فهل يتوهم الجحيم الجنة ؟ وهل يتوهم الخنزير القبيح الطلعة الحسنة ؟ 
إن هداية الله قريبة منكم كلقمة وصلت إلى الفم ، ونحن قد قطعنا الطرق الصعبة ، ولم يبق إلا القليل إن الشيخ هو الذي يقطع الطرق الصعبة لكي يمهدها لمن يأتون من بعده “ ، وإن القلب يصير مثل الخيط ، والروح في شهود حتى يمسك الشيخ بأول الخيط “ . ( كتاب 6 / 2943 - مناقب 1 / 76 ) 


( 2950 - 2956 ) يكرر المنكرون حجة أخرى طالما وجهت إلى أولئك الذين يرون المجتمع في حاجة إلى إصلاح فيخرجون ويجأرون بالنصح فيرد عليهم أولئك الذين استكانوا إلى الرفاهية : لقد فرقتم جمعنا ، لقد ألقيتم بيننا الفرقة والشحناء ، أنتم سبب ما نحن فيه من بلاء ، ما هذا الكلام عن الآخرة ؟ 
إنكم تلقون بنا - نحن المنعمين - في فكر الموت وفي هم الموت ، إنكم تسلبون منا الهناء وتثيرون فينا التساؤلات وتأخذوننا من هذه الحياة المنعمة إلى قصص الحزن وحكايات النكال ، ما هذا ، هذه الصورة التي يقدمها مولانا جلال الدين أليست تتكرر في كل عصر وفي كل بيئة ؟ وقد جمعها القران في آية واحدة قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ( يس / 18 ) .
 
( 2957 - 2984 ) أجاب الأنبياء : نحن لسنا بالفأل السئ عليكم ، بل إن نحسكم وشؤمكم يأخذ المدد من داخلكم أنتم طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ
 
“ 539 “
 
قَوْمٌ مُسْرِفُونَ( يس / 19 ) . . لماذا التطير هنا ؟ لماذا تسمع قول الطبيب وقول المنجم عندما يأمرك بألا تفعل شيئا ؟ لماذا لا تقول له : إنه يتحدث بفأل السوء ؟
مع أن المنجم والطبيب قد يخطئان لكن النبي لا يخطئ أبدا ، ومن هنا ففأل السوء معك أينما تمض تدركه وتراه عيانا ، وحينما يحيق بك شر كفرك وعصيانك سوف تجأر بالصياح لما ذا لم تنبهنى ؟ 
لقد نبهتك يا هذا كثيرا لكنك قابلت الإحسان بالسوء ، وهكذا طبع اللئام ، فعالج نفسك أولا ، اجعلها مطيعة بالصبر إنها لئيمة فاجعلها تتواءم مع الإحسان ، حتى تعلم العرفان بالجميل ، وحتى لا يكون مصيرك هو مصير الكفار الذين يعاندون حتى إذا ألقى بهم في الجحيم نادوارَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ( المؤمنون / 107 ) .
 
( 2985 - 2999 ) في عنوان الأبيات إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى بعد أن خلق الخليقة ينظر إلى السماء والأرض ويقول لهما :ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ( فصلت / 11 ) ، فالطيب والشرير في الوجود كلاهما في طاعة الله ، والكافر يجأر إلى الله في ملمات الدنيا وعندما يذوق نار الجحيم ، وعندما يدخل اللص واللئيم السجن يجأران إلى الله بالدعاء والشكوى والجحيم بالنسبة للكافر والمنكر مسجد لأنهما يذكران الله فيه ، وكل من في الوجود يعبد الله عبادة ما وبأسلوب ما ، وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات / 56 ) ، وخلقت الخلق لكي أعرف ، ومن الإنسان يتأتى الشر والخير لكن المقصود في الأصل هو العبادة ، لكنك تترك الأصل من خلق الشئ وتنصرف إلى الفرع . كما تتخذ من الكتاب وسادة ، ومن المسمار سيفا ، والله يجعل من عبادة كل إنسان جديرة به وبشخصه ، فالكريم يعبد طوعا ، لكن اللئيم يعبد كرها ،
 
“ 540 “
 
لقد أراد موسى عليه السلام أن يذل الجبارين فصنع “ باب الحطة “ وفي خطبة للإمام محمد الباقر رضي الله عنه قال : نحن باب حطتكم ( جلبنارلى 6 / 307 ) وهو أقصر من قامة الإنسان حتى يدخل جبارو بني إسرائيل منحنيني ، وانظر إلى أي جبار في هذه الأرض ، إن الله سبحانه وتعالى يسلط عليه أحقر خلقه لكي يذلوه ويحطوا من كبريائه ولكي يعلم أن فوقه خالقا ، ولكي يجأر إليه بالشكوى شاء أم أبى! ، أليس هذا هو ما نشاهده كل يوم ؟ 
وأليست كلمة الخالق سبحانه وتعالى هي التي جعلت مصرع النمرود - جبار الجبارين - على يد أحقر الخلق أي بعوضة ؟ ، 
انظر إلى مولانا في الأبيات السابقة والأبيات التالية ، كيف كانت عينه دائما على جبارى الأرض ؟ .
 
( 3000 - 3015 ) بينما يتشدق المتشدقون بأن الإسلام قد قال بالحق الإلهى للملوك ، ها هو ذا مولانا جلال الدين في تحليله لظاهرة الطغيان والجبارين يقدم فكرة جديدة : وهي أن الملك الحقيقي الجدير بالسجود هو الله سبحانه وتعالى وأن هؤلاء الملوك الظاهرين إنما خلقوا فتنة وإذلالا لكي يسلطوا على من لا يقوم بعبادة الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له ، وهو يشبههم ، هنا بالباب الصغير أو باب الحطة الذي أقامه موسى عليه السلام على ربض القدس ، لكي يكون إذلالا لجبارى بني إسرائيل إذ يطأطئون الرؤوس عندما يدخلون إجلالا للحق وحده وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( البقرة / 58 ) 
ولا يسجد لهؤلاء الملوك الصوريين إلا أعداء السجود للملك الديان ، وبما أن هناك محرابا يتوجه به العابد بالصلاة للخالق وحده ، فهناك “ مزابل “ جعلها

“ 541 “
 
هؤلاء الملوك الصوريين محرابا لهم ، وأسماء هذه المحاريب المزابل ( ! ! ) الأمير والبطل ، ولا يأتي إلى محراب الكلب ( سلاطين الدنيا ) إلا الأخساء ، وعار على رجال الحق أن يميل إليهم هؤلاء الأخساء ، ولا يخشى القط ( سلطان الدنيا ) إلا من كان فأرا ، فأرا في جبنه وحرصه وطمعه وعبادته للفتات ، هؤلاء جبلوا على الخوف من كلاب الحق “ سلاطين الدنيا “ ومن ثم فهم لا يخافون الله سبحانه وتعالى ، لأن الخوف من الخلق لم يترك في قلوبهم مجالا للخوف من الحق ، فهم جديرون بهذا الرب الذي يعبدونه “ ربى الأدنى “ وليسوا جديرين بعبادة الإله الواحد الأحد “ ربى الأعلى “ ، إنهم العابد والمعبود من جنس واحد ، العابد لاعق للأطباق طفيلى يجرى وراء متاع الدنيا ولا يهمه أن يبيع دينه بدنياه ، والمعبود من هؤلاء السلاطين والأمراء والقواد لاعق أيضا وإن كان لاعقا للقدور كل منهم يجرى وراء متاع جدير به وبمنصبه في الدنيا ، ويرى مولانا أنه قد مضى في شرح هذه النقطة و “ اندفع “ كعادته فيمسك نفسه ساخرا : كفاك . . فلو أنك مضيت في الشرح ، وشرحت هذه الأمور بعمق ، فإن “ الأمير “ سوف يغضب ، وهو سوف يغضب لأنه هو نفسه يعلم أنه كذلك ، يعلم أنه يخيف الناس وهو يخاف من السلطان ، وأن الناس يلعقون أطباقه بينما هو لاعق لقدر “ السلطان “ ، وهكذا يتواتر الظلم والخوف والطفيليون من أعلى إلى أسفل ، ويعود مولانا إلى شرح عبادة اللئيم “ كرها “ وعبادة الكريم “ طوعا “ واللئيم جحود ، والكريم شاكر ، ومن ثم يطغى أهل النعمةإِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى، ومن هو الطاغي ؟ إنه ذلك الأمير الذي يلبس قباء مذهب الحواشى ، إنه يتوهم أنه يخفى بملابسه ، ونياشينه قبح نفسه ، ومن هنا فمن صفت سريرته لا يهمه أن يكون
 
“ 542 “ 

في قباء ممزق ، فالشكر لا ينبت من النعمة ، إنه ينبت من البلايا والنقم التي تصقل النفوس والأرواح وتذيب من عليها كدر الرفاهية والراحة .

( 3016 - 3031 ) إن أهل البلوى والصفاء شاكرون حتى على عدم العطاء ويقدم مولانا حكاية جديرة بالمقام لم ترد في مصدر قبله ، فها هو ذا أحد الصوفية يرى سفرة خالية معلقة بمسمار ( السفرة هي مفرش يبسط على الأرض ثم يعلق بعد الطعام ) فيتواجد الصوفي أي يصاب بحالة من الوجد ، ويصاحبه الصوفية في رقصة وهياجه وحرقته وذوبانه ، إن السفرة الخالية المعلقة تقول لهذا الصوفي : إنه وإن لم توجد لديك لقمة خبز واحدة تستطيع أن تكون عاشقا للحبيب ، إنه زاد من لا زاد له يعطى الفقراء والدراويش القدرة على السير أو السلوك الصوفي وعدم النظر إلى العالم المادي ، وإذا وصل المرء إلى هذه المرحلة فإن القحط والآلام لا تؤثر فيه ، وها هو ذا فضولي خال من المعنى يعلن تعجبه لهذا . . ولم لا ؟ 
إنه صورة بلا معنى إنه صورة إنسان دون معنى الإنسان ، هو معلق بالمادة ، ويترك مولانا الحكاية إلى نتيجتها : إن عشق الخبز بلا خبز هو الضراعة والجذب دون نفع مادي محسوس ، إن هؤلاء الذين يضحون بالوجود إنما يأخذون كسب هذه التضحية قبولا من الحق وهو النفع الكلى ، لأن المقبولين من الحق قادرون على كل شئ دون أن تكون لديهم أداته المادية ، ويذكر أبا الخير الأقطع ( انظر تعليقات 1614 ) نموذجا واضحا ، 
والعدم المذكور هنا هو العدم الصوري ، حيث لا اهتمام بالوجود الظاهري والحياة المادية وعشاق الحق موجودون في ذلك العالم ، لهم وجود واحد مرتبط بوجود الحق ، ثم يتحدث مولانا عن النضج المعنوي والإدراك ، فالوليد لا يفهم معنى الغذاء المطبوخ
 
“ 543 “

والجنى يتغذى بالرائحة ( في اعتقاد القدماء ) ، لكن الإنسان ذو احتياجات مادية فإن تجرد منها سما على طبيعته ، وهذا كما يكون ماء النيل دما على قوم فرعون وماء لقوم موسى ، ويكون البحر غرقا لقوم ومعبرا لقوم موسى .
 
( 3032 - 3039 ) إن كل إنسان لا يستطيع أن يدرك حقائق عالم الغيب ، فإخوة يوسف عليه السلام لم يروا في وجهه تجلى نور الحق ، بينما راه يعقوب ورأى عن طريق اثار الربوبية ( رائحة الحق - رائحة القميص ) ، ومن ثم فإن يعقوب بكى على يوسف حتى ابيضت عيناه بينما ألقاه إخوته في البئر ، ومن ثم فقد كانت “ سفرة “ يوسف خالية بالنسبة لإخوته لكن يعقوب رأى فيها القوت المعنوي ، وذلك الذي “ لم يغسل وجهه “ أي ليس جديرا بإدراك عوالم الغيب ، ولا يمكن أن يرى وجوه الحور أي أسرار الغيب ، فلا صلاة أي لقاء مع عوالم الغيب ، إلا بطهور ، والمعنى هنا تحوير لمعنى شائع “ لا صلاة إلا بحضور “ ومن هنا ما يعشق هو قوت الأرواح ، ولا قوت للأرواح إلا بتهذيب النفس عن طريق الجوع ، فالجوع يقوى الروح في سيرها ، ومن هنا كان يعقوب يبحث عن يوسف “ غذاء الروح “ ولم يكن يرضيه سوى هذا ، وبينما كان البشير يحمل قميص يوسف من مصر إلى أرض كنعان لم يكن يشم ريح القميص ( عوالم الغيب ) بينما كان يعقوب يشمها وهو في أرض كنعان .
 
( 3040 - 3043 ) العلم إذن غير الذوق ، وليس العلم دليلا إلى عوالم الغيب ، فعلماء الظاهر حفاظ للعلم ولا نصيب عندهم من “ علوم “ عوالم الغيب ، فهم ليسوا بالأحبة المختصين بهذا العلم ، ومن الممكن للعامي الذي يستمع إلى
  
“ 544 “ 

علماء الظاهر ويدرك شيئا “ معنويا “ عن علومهم الظاهرة لأنها ليست متغلبة عليه ، وليس مشغولا بها ، وليس مغرورا باستظهارها وحفظها ، لأن هذا العلم في يد علماء الظاهر مثل قميص يوسف في ذلك البشير أو في مثل جارية حسناء في يد نخاس ، هي في يده مؤقتة وغير باقية ومن أجل المشترى .
 
( 3044 - 3050 ) هذه هي قسمة الحق ، أي أنها شئ مخصوص بالحق ، وهو لا يعطى رزق أحد لآخر ، وكذا مشاغلنا وأوهامنا في الدنيا هي أيضا من عطاء الحق ، أحيانا يصنع من خيالنا جنة في وجودنا ، وأحيانا يصنع من تصوراتنا وأوهامنا جحيما في وجودنا ، ورياض الله هي قلوب من يفكرون في الله ومزابله هي بواطن الأشرار وأولئك الذين لا طريق لهم إليه . . وكل إنسان لديه الإمكانية أن يجعل من باطنه جنة أو جحيما أو جنة أو مزبلة ، ولا يدرى أحد من أي أركان الروح ، أي من أي النواحي النفسية والنواحي الإلهية لروح الإنسان تنبع هذه الأفكار السيئة أو الأفكار الطيبة ، فالقلب الذي هو في طريق الله لا يرى هذه المنابع في الروح ، ولو كان يراها لسد طريق الأفكار الشريرة بالحيلة لكيلا تتعثر في الطريق إلى الله ، إن أي “ جاسوس “ أي حارس للقلب الذي في طريق الله لا يخطو خطوة واحدة إلى منبع الخيالات فإن منبع الخيالات حيثما لا يكون وجود صوري ويسميه مولانا العدم ، أي الوجود المطلق اللانهائى الذي يسميه أهل الظاهر العدم .
 
( 3051 - 3056 ) إن أفكارنا وأحوالنا إذن تنبع من العدم ، ولكي لا نسقط فريسة للأفكار الشريرة ولا تظهر في بواطننا “ جهنم “ أو “ مزبلة “ علينا أن
 
“ 545 “
 
نعتمد على فضل الحق ، التسليم بعمى . . و “ قبض الأعمى “ مصطلح شرعي فحواه أنه إذا كان المشترى في المعاملات أعمى ينبغي أن تسلم البضاعة المشتراه إلى يده حتى يكون انتقالها مسلما فأمسك برداء فضله إذن كما يمسك الأعمى بما اشتراه ، وما هو طرف رداء فضله ؟ إنه طاعة الله ، والتقى إذن سعيد لأنه في فضل من الله ، ومن يوفق إلى هذه الطاعة والتقى كأنه دائما في مكان جميل ، ومن لا يصل إلى هذا التوفيق يكون في المكان نفسه في عذاب ، ويقول الموفق للمحزون : إنك تستطيع أيضا أن تكون سعيدا فيقول له ، لا أستطيع لأن الله سبحانه وتعالى لم يمنحه هذا التوفيق .

( 3057 - 3065 ) وردت هذه الحكاية قبل المثنوى في مكتوبات مولانا جلال الدين ، وقبلها أوردها والد مولانا في معارف بهاء ولد ، وفي فيه ما فيه لمولانا قصة رجل غير مسلم كان له غلام مسلم بينهما ما يشبه هذه الحادثة وكان زمن القصة هو عهد الرسول ، ( ماخذ / 117 ) وفي 3058 : حجر الطفل حجر كان يستخدم في الاستحمام ، وفي 3063 لم يكن إشارة إلى اخر سورة الإخلاص “ لم يكن له كفوا أحد “ ، وفي 3065 ذو الفنون أي الله سبحانه وتعالى .

( 3073 - 3078 ) “ البحر “ في مصطلح مولانا هو عالم المعنى والوجود الإلهى المطلق ، والأسماك هنا هم الواصلون إلى الحق الذين يسبحون في بحر المعنى ، وسكان البر أولئك الذين لا علم لهم بذلك العالم ولا طريق لهم إليه . .
وهم يريدون بالحيلة والتدبير وبالعقل المادي والعلم الظاهري أن يصلوا إلى حقائق الغيب وهذا ليس ممكنا ، ويخاطبهم مولانا : بالتسليم أمام مشيئة الحق
 
“ 546 “ 
وقبول رضا الحق تستطيع أن تفتح باب عالم المعنى أمامك ذلك أنه لو تبدلت كل ذرات العالم إلى مفاتيح فإن باب عالم المعنى لن يفتح أمام محبي الدنيا اللهم إلا إذا أبدى الله سبحانه وتعالى لطفه ، ولهذا شرطان :
الشرط الأول : أن نترك “ التدبير “ ، والشرط الثاني : أن يقوم شيخ بهدايتك ، إن نسيان الذات هو باب ذكر الله لك ، والعبودية الكاملة لله هي أساس الحرية الكاملة .

( 3079 - 3083 ) يواصل مولانا قصة قوم سبأ الذين أنكروا رسالة ثلاثة عشر نبيا ، ويشير مولانا في العنوان إلى الآية ( 110 من سورة يوسف ) حيث ييأس الرسل من إنكار الناس وكفرهم فيأتيهم نصر الله ، وها هم أولاء أنبياء قوم سبأ يعبرون عن يأسهم بينهم وبين أنفسهم : إن نصح هؤلاء أشبه بالدق على الحديد البارد والنفخ في القفص الذي لا يبقى على ريح ، أي عمل لا طائل من ورائه والحركة من الخلق من القضاء ، وفي موعد يعلمه الله تعالى ، إنه يجعل أقدار النفس الجزئية منوطة بالنفس الكلية ، فالعقل الكلى من المقدرات الإلهية وظهورها في النفس الجزئية الإنسانية لأن الجزء مغلوب للكل ، فالشفاء مما هو منقوش في اللوح ( مولوى 3 / 410 ) ، إن القضاء جار على الأجزاء الكلية للعالم وكل ما يبدو من الأجزاء أنه هو تابع للكليات ، وحيثما تستوجب الروح الإنسانية القهر ، فإن الروح الكلية للعالم تهاجمها ويبدو فيها فعل الكفر والأفكار لأن عفن السمكة ، من رأسها ، ومن هنا فليس من الممكن هداية هؤلاء وها هم أولاء يبدون يأسهم قائلين : حتام النفخ في القفص ؟ لكن مولانا يجيبهم : أعلم
 
“ 547 “ 

أن الأمر هكذا ، لكن واصل عملك . . إنك عبد وقد قال لك خالقك أبلغ ولا مهرب من هذا .

( 3091 ) مضمون البيت مقتبس من حديث منسوب إلى رسول الله “ التاجر الجبان محروم والتاجر الجسور مرزوق “ .

( 3092 ) كل الأمور موكولة بالأمل فيها والرجاء في أمور الدنيا ممكن أن يتحقق أو لا يتحقق ، لكن الأمل في الله ليس أملا واهيا ، وإذا انشغلت بأمور الدين فسوف تنجو من هذه الأمور الدنيوية .

( 3094 ) وقرع الباب هو الأمل في الله وهو الطلب ( انظر شرح 4783 - 4798 ) .

( 3095 - 3105 ) المقلد هو من لم يدرك حقائق عوالم الغيب عن طريق القلب ، وعكسه هو المحقق ، فالمقلد يطوى الطريق إلى الله بالخوف والرجاء أما المحقق فقد محى في الحق فلا رغبة عنده حتى يخاف أو يرجو ، ومن ثم يقول :
مع وجود الاحتمال بأنك لن توفق فإن الرجاء يجذبك نحو العمل ، هأنتذا تكافح في هذه الدنيا مع وجود الخوف من الحرمان ، فلما ذا لا تخشى الحرمان في طريق الحق ؟ ولماذا لا يوهنك هذا الخوف في سعيك من أجل الدنيا ؟ ، مع أنه إن كان قد كتب عليك الحرمان فقد كتب عليك منذ الأزل ، فإذا أجبت : إنني إن لم أسع الدنيا فإن احتمال حرماني فيها أكثر ، أسألك : إنك وأنت تسعى في الدنيا تخاف من الحرمان فلماذا لا يمسك بك هذا الخوف من الحرمان في أمور الدين ولا يتركك تعمل ؟ إن السبب هو أنك سىء الظن ولا إيمان عندك أو ربما لا تعلم
 
“ 548 “
  
أية منافع هي تلك التي يحصل عليها رجال الحق ، إن الفوائد الموجودة في سوقنا لا يعلمها إلا الله تعالى ، مثالها أن النار لا تؤذيهم ( إبراهيم عليه السلام ) ، وأن البحر يحملهم ( نوح وسفينة ) ، وأن الحديد يلين في أيديهم ( داود عليه السلام ) ، وأن الريح تحت حكمهم ( سليمان عليه السلام ) ، وما هو للأنبياء يكون للأولياء .
 
( 3106 - 3111 ) وإذا كانت ألطاف الإلة بالأنبياء جلية ، فإن ألطافه بالأولياء خفية ، ذلك أن “ للَّه أولياء أخفياء رؤوسهم مغبرة وجوهم إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم وإذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يدعوا وإن مرضوا لم يعادوا ، وإن ماتوا لم يشهدوا وهم مجهولون في الأرض مشهورون في السماء “ ( حديث نبوي مولوى 3 / 413 ) . إنهم يملكون كل ما ينسب إلى الأنبياء لكن لا عين تقع عليهم ، فكر أماتهم مسبغة بالسر الإلهى وحيث أن الأبْدَال لا يعرفونهم ، إنهم مستترون حتى على من هم من جنسهم ، ومما روى عن أبي بكر الكتاني أنه كان مراقبا في فناء الكعبة وهناك محدث فأتاه الخضر عليه السلام وقال له : لم لم تسمع ؟ قال : إذا حضر النبي لا يسمع من غيره ، قال : من أين يعلم أن هناك نبيا قال : أما أنت الخضر النبي ؟ قال : كنت أعتقد أنى أعلم جميع الأولياء فعلمت الأن أن منهم من يعلمني ولا أعلمه . ( مولوى 3 / 413 ) إن هؤلاء يدعونك ، وإذا دعاك الكريم أن تلقى بنفسك في النار فألق نفسك فيها .
 
( 3112 - 3131 ) الحكاية هنا قائمة على خبر عن النبي : كان النبي ، يأكل بثلاث أصابع ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعقها فإذا توسخ ألقاه في النار

“ 549 “
 
فينظف فيمسح به وجهه ويقول : النار لا تأكل شيئا مر على وجوه الأنبياء ( مولوى / 414 ) ، ولعل اختيار أنس رضي الله عنه لأنه أدرك الرسول وعايشه والحكاية مصداق للبيت رقم 3111 . لقد سمعت الجارية أمر أنس رضي الله عنه بأن تلقى المنديل في النار ولم تتردد لحظة أنها على ثقة بالكرام ، بل إنه لو طلب منها أن تلقى بنفسها في النار لألقت بنفسها دون تردد ويعلق مولانا طلبا بأن يعرض المرء نفسه على هذا الإكسير أي الثقة والتوكل والثقة بأولياء الله ، ولا ينبغي أن يكون الرجل في صدقه وثباته على الطريق أقل من المرأة ، فرب نساء في الطريق كن أكثر ثباتا من الرجال ، والقلب الذي يكون عند الرجل أقل من قلب امرأة ، ليس قلبا بل هو بطن ( وعاء للشهوة الدنيوية ) .
.

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: