الخميس، 27 أغسطس 2020

24 - الهوامش والشروح 4039 - 4563 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

24 - الهوامش والشروح 4039 - 4563 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

الهوامش والشروح 4039 - 4563 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

شرح قول الشيطان لقريش : تعالوا لقتال أحمد فسوف أساعدكم
واستنفر قبيلتى للعون وهروبه عند لقاء السصفين
( 4039 - 4055 ) إن المنافق يضل في الحرب . . يتشدق بالشجاعة ثم يكسر الصفوف ، وهذا ما فعله الشيطان مع الكفار في بدر عندما ظهر لهم في صورة سراقة ابن مالك ووعدهم بالعون ورغبهم في قتال المسلمين وقد وردت في تفسيرات الآية الكريمةوَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ( الأنفال / 48 ) وواضح بالطبع أن مولانا قد اعتمد في هذه الأبيات على رواية المفسرين تماما بعد أن اكسبها بعض التجديد عن طريق الحوار الحي .
 
( 4056 - 4065 ) إن النفس الإنسانية هي والشيطان من أصل واحد كما أن الملاك والعقل الباحث عن المعرفة كانا من أصل واحد ، وتجليا في صورتين
 
“ 599 “
 
( انظر شرح الأبيات 3195 - 3200 ) . والنفس في داخلك عدو يقف للعقل كل مرصد ، ويسد عليه طريق المعرفة ، وليس لها جحر واحد بل لها جحور عديدة ، إن لها مئات المداخل إلى الإنسان ، وهي العدو الموجود معك في إهاب واحد وعلى ذلك فهو يعرف أنواع ضعفك ، ويعرف نقاط الضعف عندك ، ويعلم مداخلها أنها كالضب يقوم بهجومه ثم يفر إلى جحره . وجحور النفس عديدة ، ومن ثم فقد سميت “ الخناس “ من “ خنوسها “ والخنوس هو اختفاء الرأس داخل الجسد ، فكأن الرأس ؟ عندما تختفى تبدأ - بالوسوسة ، إنها تخشى أن تطل برأسها من العقاب الإلهى ، لكنها أن وجدت الفرصة تستطيع أن تخدع الحية نفسها ، ولنا أن نتخيل خطر هذا العدو الذي يأتي من الداخل ، الذي يعرف كل مواطن الضعف فيك ، الذي يصاحبك نفسا بنفس وخطوة بخطوة ، ينتهز فرصة ليدخل إليك فيها وليفسد قلبك فيها ، لا يكف عن الوسوسة ، ولا يكف عن الهجوم ، وقد تكون غافلا عنه فلا تجاهده الجهاد الأكبر .
 
( 4066 - 4072 ) لا يزال مولانا يتحدث عن أن كل عوامل الضلال فينا تنبع من داخلنا ، إنها تدمر من الداخل ، فيكون التدمير من الخارج سهلا ، وعندما تدمر من الداخل يستطيع الموكلون من قطاع الطرق ، أو من “ عمال الحكومة وشرطتها “ التغلب عليك كأن مولانا كان يعلم أساليب السيطرة على عقل المتهم وعلى نفسه وأساليب إضعاف الروح المعنوية بحيث يستسلم “ المتهم “ داخليا قبل أن يعلن استسلامه ، ويكتب كل ما يملى عليه من “ اعترافات “ . إن الهزيمة تأتى من الداخل تقطع عليك النفس الطريق فتشعر بالخوف والهلع . فتصير فريسة سهلة لقطاع الطريق من الخارج ، تسيطر عليك شهوتك من الداخل فتجعلك


“ 600 “
 
أسيرا للحرص والطمع والآفة ، وشيطان الداخل أي النفس يسلمك إلى شيطان الخارج من عسس وجلادين وشرطة فتصير لصا واثما وفاسقا ( لأمراض النفس التي تسلم إلى أمراض البدن ولقبض النفس الذي يسلم إلى قبض الشرطة - انظر أيضا التعليقات على الأبيات ( 348 - 393 ) . ومن هنا مصداق الحديث النبوي الشريف “ أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك “ ، أليس من عداوتها أنها تشغلك كل هذا الشغل بنعيم الدنيا وزخرفها بحيث يبدو العقاب الإلهى في الآخرة سهلا ميسورا في نظرك ؟ إن النفس من سحرها لتبدى لك الموت نفسه سهلا .
 
( 4073 - 4082 ) يواصل مولانا الحديث عن حيل النفس ، ومن هو أقدر من الطبيب النفساني للمريد أي المرشد على الحديث عن هذه الأمور ، إن سحر النفس داخل الإنسان من أخطر ما يتعرض له المريد ، فإن النفس من حيلها لتجعل الصعب سهلا ميسورا والسهل صعبا ، وتقلب الحسن قبيحا والقبيح حسنا ، وتزين الشر والفسوق والمعصية ، وتقبح الخير وتجعله مكروها . . هذا هو السحر الذي يقلب الأعيان والأشكال ، إن فيه سرا مستترا ، إن تزيينات النفس هي من قبيل تزيينات الشيطانوَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ *. لكن إياك والناس فكما يوجد السم يوجد الترياق ، وكما توجد النفس والشيطان يوجد رجال الحق أطباء النفوس الذين يستطيعون تتبع “ تزييناتها “ وإبطال سحرها إن هذا الحديث الطويل عن النفس يريد به مولانا أن يبين أن في مقابل عالم العشق والتضحية والتحليق في الآفاق العليا يكون عالم النفس قبيحا ، ولأن النفس حجر عثرة أمام العشق فإن العشق هو الذي يستطيع أن يقضى عليها ، والبيت 4082 إشارة إلى الحديث النبوي ، “ إن من البيان لسحرا “ .
 
“ 601 “
 
( 4091 - 4100 ) القصة الواردة في هذه الأبيات فيما يراه فروزانفر لم ترد قبل مولانا ، وإن وردت بعده في بعض المصادر نقلا عنه ( ماخذ ص / 124 - ص 125 ) .
 
( 4101 - 4105 ) يواصل ضيف المسجد حديثه ، والحديث في الحقيقة هو حديث مولانا : إنني عاشق لأسرار الغيب ، لقد ضحيت بالوجود المادي “ لا “ في سبيل الوجود المعنوي “ إلا “ أن هذه التهديدات ما هي إلا من قبيل طبلة الطفل الصغيرة ، بينما تصيرت هي مثل تلك الطبلة الكبيرة التي يحملها الجمل للسلطان محمود . إنني أضحى بالروح كما كان الإسماعيلية أتباع الحسن بن الصباح - شيخ الموت الذين كانوا يقومون بكل ما يكلفه به شيخهم من أعمال انتحارية طمعا في جنة أبداها لهم وهم في غيبوبة المخدر كما في الروايات ، أو طاعة كاملة للشيخ كما هو في الحقيقة ( انظر برنارد لويس : “ فدائيان إسماعيلى “ ) ( الترجمة العربية تحت عنوان الحشاشون لمحمد العزب موسى ) .
أو إنني إسماعيل - عليه السلام - الذي كان مستعدا لأن يكون قربانا في طريق الحق - سبحانه وتعالى - ، إنني أقوم بما أقوم به لا طمعا في الشهرة في الدنيا ، ولا تظاهرا بالبطولة أو رياء ، لقد ناداني الحق ، وهأنذا ألبي النداء ( قل تعالوا ) استفتاح الآية الكريمة 151 من سورة الأنعام .
 
( 4106 - 4117 ) الحديث المذكور في البيت الأول هو في الحقيقة من نهج البلاغة “ من أيقن بالخلف جاد بالعطية “ ( استعلامى 3 / 399 ) . والمضمون من
 
“ 602 “
 
الآية الكريمةمَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها( الأنعام / 160 ) وعلى هذا يعيش الناس ومن أجل هذا يعلمون وسوق الدنيا كله قائم على هذا .
كل أعمالك في الدنيا وحرفك وتجارتك قائمه على التنفع ، فلماذا عندما يأتي ذكر الآخرة والربح فيها تنسى ديدنك ؟ ألأن الآخرة أمر معنوي ؟ إذن فما علمك في الدنيا وما فنونك إلا متاع يعرض في سوق الدنيا .
أليست من الأمور المعنوية ومع ذلك تريد بها الجاه والشرف والحيثية والمناصب ؟
هيا فلنقس بهذا القياس : الروح عزيزة ما لم يوجد أعز منها ؟ فإن وجد ما هو أعز منها أصبحت الروح بالقياس إليه شيئا واهيا حقيرا لا قيمة له .
إن الدمية هي للطفلة شئ غال عزيز المنال ، لكنها بمجرد أن تكبر وتصير ولودا للأطفال “ يبرد “ حب الدمية في قلبها والتعبير من حديقة سنائى ، وهكذا حالك ما دمت متعلقا بالدنيا فأنت طفل ، خيالاتك وتصوراتك ومعتقداتك ومقاييسك ومعاييرك نابعة من هذه الطفولة ، وعندما تكبر ما تفكر فيه هو وصال الحق الذي تعتبر دنياك كلها إلى جواره شيئا حقيرا وواعيا ، إنني لا أستطيع أن أتحدث بصراحة أكثر فليس هناك من هو جدير بأن أتحدث معه عن الوفاق مع الله .
 
( 4118 - 4128 ) يشير مولانا إلى ما ورد في سورة التوبةإِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ( الآية / 111 )
فانظر إلى قيمة البضاعة الفانية بالنظر إلى الثمن الخالد الباقي . لكنك بشكك وعدم إيمانك وضعف يقينك لا زلت تنظر إلى البضاعة ولا تنظر إلى الثمن ، وإليك إذن مراتب معرفة البشر : إنها الظن والعلم واليقين : فالظن هو العلم المبنى على المحسوسات ، هو علم الحياة المادية والعلم هو المعرفة القائمة على الطلب
 
“ 603 “
 
والعقيدة ، وطاعة المرشد ، ثم اليقين وهو الإدراك الذي لا أثر فيه لشك أو استدلال هو كما يقول العارفون ، “ مشاهدة الغيب بعد الكشف عن طريق القلب “ وفيه ثلاث مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين ، وهكذا يقول مولانا : إنه حتى أولئك الذين هم في مرتبة الظن يرغبون في معرفة قائمة على اليقين في القلب . ونفس هذه الرغبة توصلهم إلى مرتبة “ العلم “ وإليها يخلدون قليلا وبدلا من الطيران يسيرون ، وهذا العلم مرتبة أعلى من الظن لكنه أقل من اليقين وهذا في الطريق الذي جريه رجال الحق وقطعوه ، ومن ثم فإن من لديه اليقين يرى الحقائق بعين الباطن عيانا فهو “ يبحث عن الدليل “ ، وإنك إن كنت في شك من هذه المعاني فاقرأ صورة التكاثركَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ( 5 - 7 التكاثر ) .
إن محبي الدنيا يسيرون من الظن إلى العلم ومن العلم إلى اليقين على ما قاله الله سبحانه وتعالى في سورة التكاثر : أي أنهم عندما يرون الجحيم يعلمون أنه حقيقة ماثلة ، إننا نحصل على البصيرة الباطنية عندما نتيقن بحقائق عالم الغيب. إن هذا التطور ماثل في سورة التكاثر.
 
( 4129 - 4143 ) القائل هو ضيف المسجد في الظاهر وفي الحقيقة هو مولانا : إن الإنسان الواصل والكامل لا يتحدث عن الظن والعلم واليقين ولا يتحول عن طريقة من لوم اللائمين ، لقد “ أكل من حلواه “ أي صار ذا نصيب من المعرفة بعالم الغيب ومعرفة الحقائق ، إن هذا الطريق الذي أسير فيه هو عودة إلى مبدأ الوجود ، لقد تجلى الجمال في قلبي ، كما تجلى في ضحك الورود ، وتجلى في امتشاق قامة السرو ، وتجلى في حلاوة السكر في قلب البوص ، وتجلى في
 
“ 604 “
 
جمال الحسان الموجودات في مدينة شكل ( إحدى مدن التركستان ) تجليا جعل من الجسم المادي منبعا للجمال ، وجعل حاجب الحسان سالبا للب ، وجعل اللسان ينفث سحرا ( إن من البيان لسحرا ) . لقد فتح خزانة الأسرار وتجليات عالم الغيب ، أصمى قلبي بسهم من سهام العشق ، فجعل ألم هذا السهم شكرا له وسكرا في فمي ، ومن هنا فكل لحظاتى وأحوالي هي من أجله ، وعقل روحي ، أي عقلي الباحث عن الحق متوجه إليه في كل حال ، والعقل والروح حارسان لجوهرته اليتيمة “ العشق “ . . إنني لا أتقول هذا ، وإن كنت تظن أنني لا أصف ما في نفسي حقيقة فانظر إلى ماء وجودي قد أخمد نار العلائق النفسانية فِىّ فلا خوف ولا اضطراب لدىّ ، إنني لا أستطيع أن أتقول فإن مخزن الأسرار هو في يده سبحانه وتعالى ، ولهذا فأنا صامد لأننى في اعتماد على الحق ، ومن في عناية الله إنما يقضون على أعداء طريق الحق ويفضحونهم كما تفضح الشمس كل ما هو في الخفاء .
 
( 4144 - 4151 ) لقد صمد الأنبياء ، وكل نبي كان وحده ، كان فارس ميدانه هجم على جيوش الملوك ، وبثباته الذي يشبه الحجر الصلد دك هذه الجيوش التي كانت أمامه كأنها المدر ، إنه الصامد بعون الله وتأييده ، وبينما الآخرون من ملوك وجيوش يستمدون صلاتهم من عوامل دنيوية فسرعان ما يتحطمون ، وهل يضير القصاب كثرة الخراف ؟ وهل للخراف أية قيمة بدون حفظ الراعي وسعيه في خيرهم “ كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته “ والنبي راع من الرعاية والحفظ لا من الرعى ، يرعاهم حبا حتى ولو أغلظ عليهم ، إنما غلظته عليهم من أجل شفقته بهم ( تمهيد لموضوع قادم في أن البلاء من الله تعالى صهر للمؤمنين وإنضاج لهم ) .
 
“ 605 “
 
( 4152 - 4161 ) لا شجاعة ولا صمود ما لم يكن هناك أمل في النصر ينبع من الداخل والباطن ، وهكذا لا ينى مولانا ينبه إلى أن عالم الإنسان بكل ضعفه وقوته وهزيمته ونصره وتسامية وسقوطه إنما ينبع من داخله هو . . . إن هناك هاتفا يهتف داخل ضيف المسجد ( أو مولانا جلال الدين ) ، إن العناية تهتف به : إنني أنا الذي أبتليك فاعتبر البلوى نعمة ، إنني أحزنك حتى أبعد عنك من السوء ، إنني أصهرك داخل هذا الأتون لأعرف معدنك إنني أستطيع أن أوصلك إلى هدفك دون تعب ودون طريق ، لكنك لن تجد للهدف آنذاك مذاقا حلوا ، إنني أعبر بك الدوامات والزوابع ، لكي تصل بعدها إلى الكنز ، وبقدر تعبك تكون راحتك ، وبقدر تشردك تكون اللذة في الاستقرار ، وبقدر غربتك يكون تمتعك بأهلك وسكنك .
 
( 4162 - 4188 ) بينما يحلق جلال الدين في سماوات عرفانه ، لا يزال ينظر في زوايا الحياة اليومية والواقع المعاش ، إنه يريد أن يقرب الفكرة إلى مريديه على جميع مستوياتهم ، ألم يكن فيهم الأمى والعامي ؟ بكل تأكيد ، وها هو ذا لكي يقرب فكرة أن البلاء هو إنضاج للإنسان وتسام به وتربية لوجوده يقدم صورة من الواقع المعاش صورة “ الحمص والبقول الأخرى “ تُطْهى في قدر ، ويصور حركتها عند غليان الماء وصعودها إلى أعلى القدر بأنها تحاول الخلاص منه والهرب ، ويتصور مولانا حوارا بينها وبين السيدة التي تغليها ، ويخرج مولانا من صورة حبة الحمص . إلى صورة المؤمن الذي يبتليه الله بالقهر لكي
 
“ 606 “
 
يعرف لذة اللطف ، ثم يعود إلى حبة الحمص في تواصل بين الصور كيف أن الإنسان يسمو من البلاء ، وتسمو حبة الحمص من نبات في البستان إلى غذاء يمتزج بروح الإنسان فيصير فهما ونطقا وفكرا . إن الرحمة قد سبقت الغضب “ رحمتي سبقت غضبى “ ولذلك فإن كل ما يراه الإنسان غضبا من الله سبحانه وتعالى هو رحمة به وهو سبحانه وتعالى لا يريد منه سوى التسليم ، وكما تكون حبة الحمص في الحقل والبستان ، ويكون الإنسان في الدنيا ، وعندما يفنى كما تفنى حبة الحمص في القدر فإنه يسمو، وينجو من صفاته المادية، ويعود إلى عالمه الأصلي ناجيا من تأثير النجوم والأفلاك.
 
( 4189 - 4198 ) يعود مولانا إلى الفكرة التي تسيطر عليه كل هذا الكتاب من المثنوى وتنظمه في سلك واحد ، إن كل فناء يستوجب بقاء أعلى منه في المرتبة ( انظر تعليقات الأبيات 3903 - 3908 ) وينقل بيت الحلاج ( اقتلونى اقتلونى يا ثقات ) ففي هذا القتل تكون الحياة الأبدية الخالدة ( انظر 3841 ) هكذا يكون الكسب بعد الممات ، إن الملائكة تتقرب إلى الله بالأفعال والأقوال الصادقة وعلى نفس النسق فإن المواد الغذائية تجد في أجسادنا تعاليها وتساميها ، وتبدأ المرحلة الثانية من حياتها وهي الحياة الحيوانية ، ثم ينص مولانا على أن هذا البحث لا ينتهى ، فهو دائما ما يوكله إلى فرصة أخرى ليقدم شرحا أكثر تفصيلا . إن القوافل التي تأتى على الدوام من الفلك هي اثار الخليقة ومظاهرها من نبات وحيوان تفعل فعلها في الحياة المادية ثم تعود إلى مبدأئها ومنشئها ، هكذا سنة الحياة فاقبل أنت أيضا الذهاب عن هذه الدنيا واعتبره “ لذيذا وحلوا “


“ 607 “
 
بمحض إرادتك ، فهذه هي إرادة الله ، والله لا يريد إلا ما هو خيرك فامض سعيدا لا كاللص الذي يفتقر إلى الصدق أمام الله ، ويجعل الدنيا كل همه ( انظر 4199 وما بعدها ) . إنك إن فكرت في عاقبة مشاق طريق الحق لن تجدها من قبيل المشاق . إن هذه المشاق من قبيل العنب المتجمد الذي يحفظ في أوانه في الثلج لكي يؤكل في غير أوانه ، وصب الماء البارد عليه لكي يخرج من حالة التجمد .
 
( 4199 - 4205 ) عندما يقف المؤمن المدرب بالرياضة الناضج على حقيقة الأمر فإنه يقبل البلاء ، ويقبل هداية المرشد وتأديبه ، وها هي ذي حبة الحمص تقتنع بهذه الأفكار وتطلب من السيدة أن تداوم على تقليبها ، إن في هذا عمرانها ، هيا إياك أن تجعلينى في هدوء وسكون كالفيل ، أحلم بالأرض القديمة ، وأرتكس وأحزن عن طريق الحق وأجعل كل همى الدنيا ، اجعلينى دائما في حاجة إلى السمو ذلك ( إن الإنسان ليطغى أن راه استغنى ) .
 
( 4206 - 4214 ) تتحدث السيدة إلى حبة الحمص مشجعة إياها ، والواقع أن المرشد هو الذي يتحدث ويقص تجربته للمريد ، كي يشجعه على الرياضة والمجاهدة : إنني عندما ذقت لذة المجاهدة صرت قابلا لها وجعلت نفسي قابلا إياها ، وأنا أيضا قطعت مراحل الوجود من الجمادية إلى الآدمية ( انظر من 3903 - 3908 ) وذلك قبل أن تدخل الروح قالب الجسد ، وبعد فترة في قالب الجسد ، وبعد “ الغليان “ في هذه المراحل صرت أحاسيس قوية أي استطعت أن أجعل أحاسيسى قادرة على إدراك العالم المعنوي ثم نسيت حياة الجسد وصرت
 
“ 608 “
 
روحا وصرت مرشدا لك ، وحتى عندما كنت في مرحلة الجمادية كنت أفكر في الاتصال بعالم المعنى ، فالجماد له روح والروح تود أن تتجاوز مرحلة الحيوانية ، ففكر أنت أيضا في نهاية الطريق الذي هو الوصال بعالم المعنى والفناء في الوجود المطلق ، وإن كلام الحق يؤثر في الإنسان بقدر قابليته وجدارته ، انظر إلى القران الكريم إنهيُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ( 26 البقرة ) “ وليست المشكلة في تعاليم الأديان أو إرشاد المرشدين ، ينبغي أن يكون المريد جديرا لا عنودا ، لديه الرغبة في السمو والرقى إلى العوالم العليا والنضج المعنوي .
 
( 4215 - 4229 ) يعود مولانا إلى قصة ضيف المسجد تلك القصة التي بدأها في البيت 3924 ، وأورد جزءا منها من البيت 4082 وما بعده وها هو ذا يعود إليها ، يخاطب الضيف الذي هو كله باحثا عن الكمال المسجد قائلا : لتكن ميدان قتال “ كربلاء “ لي . . أجل فإن كربلاء هي التي صنعت سيد الشهداء الحسين بن علىّ - رضي الله عنه - ، لتكن مشنقة لي فإنني سوف أتجلى على المشنقة كما تجلى عليها الحسين ابن منصور الحلاج وكما كان يسعى إليها ( في ترجمة لفريد الدين العطار عن الحلاج تذكرة ص 589 ) .
 إن الشهادة هي التي تصنع الشهيد ، تجعل منه بطلا وتحييه وتجعله خالدا ، حتى ولو كنت أيها المسجد نارا فسوف أصير كالخليل لا أطلب الغوث حتى من جبريل فسوف أقول لك عندما تسألني : ألك حاجة ؟ أما إليك فلا ، ولن أحترق ، أما إذا احترقت فإن احتراقى سوف يملأ العالم بالعبق كاحتراق الند والعود ، ( ودماء الشهداء اللون لون الدم والريح ريح المسك ) ، أجل إنني أسرع إلى النار فهي حياة لي وليست


“ 609 “
 
موتا . إن الروح الحيوانية منى كانت في إثر المادة ، ولما كانت جديرة بالاحتراق فلتحترق ، ولو كانت ذات اهتمام بعالم المعنى لأفادت واستفادت ، لعمرت وعمرت ، إن النار التي تحرق حقيقة هي نار العشق ، أما تلك النار التي نراها في الألم فهي انعكاس لها وأثر منها ، إن النار الغيبية هي نار العشق التي تسرى في عالم الملكوت ومنها خلق الملائكة ، وما دام الإنسان على علاقته بالدنيا فإنه لا يرى تلك النار الكلية أي نار العشق ( من هنا تتضح الصلة بين هذه الحكاية وبين الحكاية التي وردت بداخلها حكاية صدر جهان فكلاهما يدور حول العشق ، والحكاية هنا أشبه باللحن الداخلي داخل عمل موسيقى كبير ) ، ولأننا متعلقون بالدنيا فإن انعكاس هذه النار أي نار العشق لا يبقى فينا طويلا ، إنه بقدر قامة المرء في الزوايا المختلفة لانعكاس النور ، فالقامة هي القامة ، ونار العشق هي نار العشق ، لكنها مرتبطة باستعداد الروح وقدرتها على السمو ، ولأن هذه الانعكاسات لا تجد ثباتا فإنها تعود إلى أصلها ومعدنها ( الأمهات ) سريعا ، ثم يجد مولانا نفسه قد تعمق في الحديث ودخل إلى المرحلة التي ينبغي أن يصمت عندها ، فيقول لنفسه : انتبه لئلا تحدث الفتنة أي مثلا تحدث تأثيرا منحرفا فإن هذا الكلام يضل من ليسوا بأهل له ، وانته من هذا واجعل عين الكلام جافة فالله أعلم بالرشاد .
 
( 4230 - 4246 ) يترك مولانا القصة ليرد على العيابين في المثنوى ، وما أكثرهم على مر التاريخ والأزمنة . إن هؤلاء العيابين لا يهجوننى ، لكنهم قد يؤثرون في المريدين ، ثم ينتقل على مولانا سنائى في شأن أولئك الذين لا يرون من الكلام إلا ظاهره وحجبوا عن حقائقه ومعانيه ، والأبيات المذكورة مقتبسة من
 
“ 610 “
 
بيت شعر لمولانا سنائى :
ليس عجبا ألا يكون نصيبك من القران إلا حروفه * فإن الأعمى لا يرى من الشمس إلا حرارتها ( كليات سنائى ص 52 ) كما ورد في نفس المعنى في الحديقة ( أنظر الترجمة العربية للبيتين ( 1980 - 1981 ) إنهم يقولون :
إن هذا المثنوى لا يحتوى على مقامات الفناء ولا سير فيه إلى الله على ما دأب عليه المشايخ من قبل ، ويرد مولانا : إن أمر المثنوى سهل لقد أنكر كثيرون القرآن الكريم وقالوا :إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ *( الأنفال / 31 ) وليس فيه بيان يعجز العقل فيه ، إنه يحتوى على الشريعة ، ويرد عليهم مولاناقُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً( الإسراء / 88 ) .
 
( 4247 - 4252 ) يعتمد مولانا في هذا الجزء على حديث نبوي ( إن للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن ( انظر 1899 ) . كما جاء الحديث في شروح المثنوى ( للقرآن ظاهر وباطن وحد ومطلع ) ، وقد فسرها ابن عربى بأنها التفسير والتأويل وما يصل إليه فهم الإنسان وفسر الحد والمطلع بأنهما المعاني والمدركات التي هي أعلى من التفسير والتأويل ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ( استعلامى 3 / 407 ) . وبالرغم من أن مولانا قد تحدث عن سبعة أبطن
 
“ 611 “
 
إلا أنه لم يتجاوز البطن الرابع بالحديث ، ويرى كما يرى محيي الدين أن ما فوق هذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى . ويخلص مولانا أنه إذا نظرت إلى القران الكريم بظاهره فحسب ، فكأنك إبليس الذي اعتبر ادم حفنة من التراب ولم ينظر إلى النفخة الإلهية ، وإياك أن تحكم من الظاهر فإنك لا تعرف عن أقرب الناس إليك إلا مقدار شعرة ، ولسنائى الغزنوي تفضيل اخر في هذا المجال موجود في حديقة الحقيقة حيث خصص فصلا للحديث عن القران الكريم ( انظر الترجمة العربية الحديقة الحقيقة ص ص 93 - 100 ) .
 
( 4253 - 4284 ) إن الأنبياء لم يعتزلوا الناس هربا بل تعليما ، فأي جبل هذا الذي يستطيع الولي أن يختفى خلفه ، ومن هذا الذي تحسده الأفلاك على قربه ويختفى ؟ إنه مختف في عوالم روحه التي لا نهاية لها ، وهكذا الإنسان فإنه وجود محجوب وغامض لا يستطيع العقل أن يسبر أغوار عمقه ، وإذا كان هذا هو حال الإنسان العادي ، فما بالك بادم صاحب النفخة الإلهية ؟ وما بالك بالأنبياء ذوى المعجزات مع أنهم بشر ، ألم يستطيعوا أن يأتوا بالمعجزات ؟ وما عصا موسى ؟ وما رقية عيسى التي كانت تحيى الموتى ؟ ولم لا ؟ أليس قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ؟ ( انظر 2779 ) ، وكما أنك تخطىء كثيرا إن اعتبرت عصا موسى مجرد قطعة من الخشب ، واعتبرت رقية عيسى مجرد كلام عادى ، فإنك تخطىء كثيرا إذا اعتبرت الإنسان مجرد هذه البضعة من اللحم والعظام . هذه المظلة السوداء تقدم قليلا لترى الروح الوثابة القادرة على التحليق في الملأ الأعلى ، تقدم قليلا لترى اثار تربية الرجال ، وترى “ همة الرجال تقتلع الجبال “ ، وتجعل الجبال ترقص من هممهم “ انظر 15 ، 16 من هذا الكتاب و 25 ،
“ 612 “
 
26 من الكتاب الأول “ وهي هي ذي نفسها تلك الهمة التي تجعل الجبال تئوب لداود وتغنى معه ، ومصداقا لهذا فإن رجال الحق أيضا هم مثل داود لهم أنين ويسمعون أصواتا لا يسمعها كل إنسان ، وإن نغمة هذا الصافي الجسد أي الجبل تصل إلى أذن رجل الحق وحده مهما كان معه جلساء وليست كل أذن مهيأة لسماع تسبيح الجمادات التي تصل من اللامكان ، أي عالم الغيب ، وحتى إن كنت لم تسمعها فينبغي أن تصدق بوجودها لأن “ الولي “ يسمعها .
 
( 4285 - 4294 ) يعود مولانا إلى توبيخ الطاعنين في المثنوى قائلا : إنك أيضا تطعن في القران الكريم ، وماذا يكون المثنوى إلى جوار القران ، إنك تريد أن تطعن في القران ولا تجد سبيلا إلى ذلك فتطعن في المثنوى الذي هو قبس من نور القران وهو في هذا المعنى يقتبس من مولانا سنائى :
إذا طعن فيه هذا الجهول فقل له : أطعن ، إنه ليس أفضل من القران ( حديقة الحقيقة البيت 11780 ) إنه كلام الحق ومن يقع فيه فإن القهر الأعلى يستولى على روحه وعلى إيمانه ، إن القران سوف يخاطب هذه الفئة يوم القيامة قائلا :
لقد كنتم تطعنون فىّ قائلين : إنني أساطير الأولين ، وها أنتم أولاء أنفسكم قد رأيتم أنكم أنتم الذين صرتم أسطورة بينما أنا وجود مطلق وغذاء معنوي وعيني وجوهر لا زيف فيه ولا غش . . ثم يتحدث مولانا عن نفسه وعن المثنوى : إنني منبع هذه المعاني أمنح العاشقين الحياة الخالدة ، وإن عفن الحرص هو الذي جعل الحق لا يصب جرعة من هذه المعاني على وجودكم الميت ، أي أن العيب فيكم أنتم يا من لا تتقبلون المعاني ولو كانت فيكم قابلية لها لفهمتموها ، فإن العطايا بقدر
 
“ 613 “
 
القابليات ويستمد مولانا العون من سنائى الغزنوي ، ويصرح بأن هذا الطعن لن يقعده عن عمله ورسالته .
 
( 4295 - 4312 ) ينقل مولانا حكاية أخرى عن سنائى :
قال ذلك المهر لأمه : لماذا يصفرون هم بينما نشرب نحن الماء قال الفرس للمهر : امض لا تتحدث عبثا قم بعملك فإنهم يقتلعون لحيهم عبثا .
 
( ديوان سنائى 162 ) ويضيف مولانا على لسان الأم : إن هذا هو عمل المزايدين ، أولئك الذين لا تخلو منهم الأرض ، فكما يوجد العاملون الذين يعملون في صمت يوجد أيضا المزايدون الذين لا يجدون ما يفعلون سوى عرقلة أعمال العاملين ، وما على العاملين إلا أن يقوموا بأعمالهم دون النظر إليهم أو الاهتمام بهم ، ومن ثم فإن ماء النهر هو معرفة الحق ، وصوت السائسين هم أولئك الجهلة الذين يطعنون في رجال الحق ولا ينبغي الاهتمام بهم ، فإنهم إنما يقتلعون لحيهم فهيا أيها المريد إن الحقائق التي تفيض من رجال الحق هطالة وفيرة ، هيا قبل أن يمزقك الهجر والبعد والحرمان من هذه الحقائق ، وحتى لا تظل شجرة وجودك بلا ثمر ، فإن كلام الأولياء هو منبع ماء الحياة والحياة الخالدة ، هيا وحتى وإن لم تكن لك بصيرة مهيأة لإدراك الحقائق ، فجرب ، وكن كالأعمى الذي لا يرى الماء ويدلى بدلوه في الماء تقليدا للآخرين ( انظر لفكرة التقليد الذي يوصل الحقيقة الكتاب الثاني - هيا إذن وضع القربة التي تفكر في الماء ( مفكرا في الماء ) في الجدول ( أول العمل فكر ) .
 
“ 614 “
 
( 4313 - 4323 ) يستنتج مولانا من مثل الأعمى والقدر وماء الجدول نتيجة أخرى قائلا : إن السفهاء يشبهون هذا الأعمى بقدره الفارغ ، ولأنهم غير ممتلئين بالمعرفة الإلهية فإنهم يجذبون نحو كل صوب ، إن الخفة التي في وجودهم وانعدام “ الثقل “ تجعل كل ريح تختطفهم ، فلا مرسى لهم ، والمرسى هو العقل الباحث عن الحق الطامح إلى المعرفة الذي يحول دون الضلال ويمنح الثبات و “ الوجهة “ والهدف ، فإن لم تكن تملكه فاطلبه من الشيوخ والمرشدين فإنهم هم الذين يستمدون من بحر الجود الإلهى ، وهذه الإمدادات الإلهية هي التي تجعل القلب واعيا وتضئ بصيرة القلب ، وفي انعكاس نور القلب يصير البصر كالقلب ، والبصر بلا قلب عاطل ولا يستطيع أن يبصر الحقائق ، لكن دعك الآن من ماء المعرفة ، وعد إلى الماء المبارك الذي أنزل من السماءوَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً( ق 9 ) إننا مشغولون بهذا الماء دون أن نلقى بالا إلى طعن الطاعنين كالمهر الذي يشرب الماء زلالا دون اهتمام بصفير السائسين .
 
( 4324 - 4329 ) عودة إلى قصة ضيف المسجد ( الذي يقدم دون أن يلقى بالا إلى طعن الطاعنين ولوم اللائمين ) : ها هو ذا في سبيل الكشف عن الحقيقة مثل غريق في الماء لا ينام ، نومه كنوم الطيور والأسماك “ أي لا نوم “ وفجأة يسمع صوتا مهولا يهتف به ، إنه صوت يمزق القلب إربا ، وعند هذه النقطة يترك مولانا سياق الحكاية وتسلسل الحوادث فيها وكأنه يريد أن يستغل تشوق السامع لنهاية القصة ، وبالطبع يجدها فرصة للانتقال من الخاص ( سياق الحكاية ) إلى العام ( التعاليم الصوفية ) .
“ 615 “
 
( 4330 - 4347 ) إن هذا الصوت المهول هو من قبيل وسوسة الشيطان والعنوان إشارة إلى الآية 64 من سورة الإسراءوَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً( الإسراء 64 ) والخطاب من الله سبحانه وتعالى إلى إبليس الذي توعد بإغواء أبناء ادم ، وهكذا فإن الشيطان يجرى في بنى ادم مجرى الدم ، يقف للإنسان كل مرصد ، يخوفه من طريق الجهاد . يخوف بالفقر والذل والغربة والانقطاع عن الأصدقاء وهكذا فمن تأثيره تسوف في طريق الدين ، وتؤجل البدء بالجهاد ناسيا أن الموت لك بالمرصاد وعليك أن تأخذ قدرا من العلم والحكمة ، وتعزم على ألا تترك طريق الجهاد خوفا من الخسران في الدنيا ، فيقعد لك مرة ثانية ويصيح بك ويخوفك الفقر ، فتترك الطريق من تخويفك ، وتركن إلى هذا المضل ، ومن هنا فقد أخذ الخوف من صياح الشيطان بحلوق الخلق ، ولا نتيجة إلا اليأس من وصول النوركَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ( الممتحنة / 13 ) .
فإذا كنت تخاف هكذا من صياح الشيطان بك فأولى بك أن تخاف من الصيحة الإلهية . إن الخوف من الشيطان لضعاف الإيمان كخوف الذباب من العنكبوت ، لكن الخوف من الله هو ديدن الرجال ، والصيحتان صيحة الحق وصيحة الشيطان هما من أجل التفرقة بين الخير والشر وبين الصالح والطالح ، وهما لا يجتمعان في انسان ، فالذي يخشى الصيحة الإلهية لا يلقى بالا إلى تهديد الشيطان .
 
“ 616 “
 
( 4348 - 4367 ) إن هذا الصوت المهول لم يلق الرعب في قلب ذلك الضيف الهمام الشجاع ، إنه لم يعتبره إلا كالطبل الأجوف ، إنه مجرد صوت دون أن يوجد ما يدل عليه ، فيقف للصوت داعيا إياه للمواجهة ( كما حدث في ألف ليلة وليلة مع علىّ المصري تماما ) . وفي الحال يبطل طلسم ويتساقط الذهب ويظفر الشجاع الهمام بالذهب ، لكن إياك أن تظن أن الذهب المقصود هنا هو هذا الذهب المعروف ، لا . . . فهكذا يفكر عميان القلوب ، وتفكيره هذا لا يعدو تفكير الأطفال الذين يكسرون قطع الفخار ويضعونها في حجورهم ويسمعونها ذهبا : ( ينظر كليات ديوان شمس تبريزى ص 525 - غزلية 1353 ) .
حتام نحن كالأطفال في عالم التراب * نملأ حجورنا بالتراب والحصى وقطع الفخار فلنرفع الأيدي عن التراب ولنحلق في السماء * ولنهرب من الطفولة نحو محفل الرجال فالذهب هنا ليس ذلك المعدن المعروف ، إنه الذهب الذي ضرب في دار السكة الإلهية أي المعرفة بالله التي لا تنهب ولا تسرق ولا تنتهى ، إن قيم هذه الدنيا انعكاس لقيم ذلك العالم . إن ذهب الدنيا ما هو إلا انعكاس لذهب المعرفة الإلهية الذي إن وصل إليه الباحث أغناه عن كل ذهب الدنيا ، إنه غنى النفس المذكور في الحديث ( ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس ) ( استعلامى 3 / 411 ) .
 
“ 617 “
 
( 4368 - 4379 ) إن ضيف المسجد كان باحثا عن الحقيقة ، كان كالفراشة التي تحوم حول النار ولا تبالى باحتراق بدنها ، وكان المسجد كالشمعة أي يحكى الحقيقة الإلهية ومن ثم كان سقوطه فيه نصرا له وفتحا عليه . إياك أن تظن العشق نارا إنه نور ، رآها موسى عليه السلام نارا لكنها كانت عليه نور كانت العناية الإلهية قد حولتها إلى نور ، وانظر إلى الانقطاع عن الدنيا ألا يبدو نارا في حين أن رجال الله قد وجدوه نورا ، وهكذا الولي . إن تعليماته تبدو لك نارا لكنها في الحقيقة نور ، وهكذا كان يبدو صدر جهان للوكيل نارا ، وكان اللائمون والمثبطون يخوفونه من لقائه ، لكنه كان لوكيله عين النور . لقد ساق جلال إذن هذه الحكاية الطويلة بكل ما تخللها من معان لا كانتقال من موضوع إلى موضوع كما فسر أغلب مفسري المثنوى ، بل إن قصة المسجد هي من قبيل المثل أو المثال المحسوس قدم لبعض المريدين من ذوى المستوى المحدود لشرح قصة عشق وكيل صدر بخارى ( وهي قصة لمن خبروا مبادئ العشق ) .
 
( 4380 - 4388 ) عودة إلى وكيل صدر جهان : ها هو ذا وكيل صدر جهان يطوف حول صدر جهان كالفراشة تطوف حول الشمعة : فمهما رآها الآخرون نارا فهي ليست بالنسبة لها إلا نور ، ولا يتحمل هذه المقاساة إلا العاشق ، والألم من العاشق يقابله الرحمة من المعشوق ( انظر الأبيات 3918 - 3920 ) . ويتحدث مولانا عن رحمة المعشوق وهو في الحقيقة يتحدث عن رحمة المعشوق الكلى الواحد ، إن العاصي والمجرم عندما يخاف فكأنه يعترف ويقر بالذنب ، وهذا
 
“ 618 “
 
الاعتراف والإقرار أول أبواب التوبة ، فكان في خوفه الأمل في النجاة . إن الوقح المهذار المتجرىء بالذنب المفاخر به هو الجدير بأن يخيفه الله تعالى ، لكن أي خوف يكون الخائف بالفعل في حاجة إليه ؟ إن أولئك الذين يأنسون مكر الله تعالى وعقابه هو أجدر بالتخويف ، لكن الخائفين أجدر بالحلم والعفو . إن تخويف الخائف أشبه بإشعال النار تحت القدر الذي يغلى في حين أن النار أولى بالقدر البارد ، وقد خاض الصوفية في أفضلية مقام الخوف على مقام الرجاء مما يطول شرحه ( انظر كشف المحجوب ) .
 
( 4389 - 4405 ) إن باطن كل الإنسان كأنه جذع الشجرة ، يطرح ما في الباطن على الجذور والأوراق والثمار ، وباطن رجل الحق هو منبع للفيض بالرغم من أن ظاهره يكون جافا مثل الخشب اليابس ، وهكذا في كل أمر يؤثر الباطن على الظاهر سواء على الأشجار أو في الأنفس أو في العقول . . وإن الوفاء والحب أشبه بشجرة فروعها وأوراقها مشمخرة إلى السماءأَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ( إبراهيم / 24 ) وفي معارف بهاء ولد “ ثم فكرت بيني وبين نفسي في أن روحي تعظم الله سبحانه وتعالى وتتفكر في أمر الله وترتاض حتى تزداد محبة الله فيها ولابد وبأي وجه كان . إن هذه الأحوال لا ترضى الله تعالى أو إنها ليست من إلهامه جل شأنه ، فلا يمكن أن تكون المحبة من جانب واحد “ ( معارف 1 / 24 ) ، وإذا كانت أوراق الحنان والوفاء صعدت من شجرة إلى السماء كيف لا ينمو الحب في قلب صدر جهان ؟ لقد أخذ العفو يتموج في قلبه “ والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف “ وهناك طريق من القلب إلى القلب .
إن ندم الوكيل قد أثمر الرحمة في قلب صدر جهان ، وهكذا تكون العلاقة بين أهل
 
“ 619 “
 
الباطن .
إن الترابط بين القلوب مثل امتزاج أنوار المصابيح ، فالمصابيح متفرقة لكن الأنوار ممتزجة وفي حين أن العشق يصيب العاشق بالنحول ، فإنه عند المعشوق ( لإحساسه بأنه معشوق ) جالب للسرور والرضا . وهكذا فاعلم أن حب الحق يستوجب حبا من الحق للعبد . هكذا فقد قرن يحبهم بيحبونه إنه أمر مزدوج كالتصفيق لا يمكن أن يتأتى من يد واحدة ، فكما يحن الظمأن إلى الماء يكون الماء أيضا في حاجة إلى الشارب ، إنها حكمة الله تعالى في خلقه لكي تتجاذب الأشياء وتأتلف ، يعتبرها بعضهم قضاء من الله ومشيئة إلهية ، ويعتبرها بعضهم من أفعالنا نحن .
 
( 4406 - 4423 ) يواصل مولانا الحديث عن “ العشق “ كسر لتواصل الخليقة ، فكل جزء من أجزاء العالم طالب لقرينه أو أليفه ، والأرض والسماء زوجان من اتصالهما تبدو الخليقة ، وكان القدماء يعتقدون أن الأرض معلقة في الفضاء تحت تأثير جاذبية السماء ، ويردد مولانا اعتقاد علماء الفلك الأقدمين باعتبار الكواكب السيارة “ اباء الخليقة “ ( أي الآباء العلويون ) والعناصر الأربعة التراب والماء والهواء والنار “ أمهات “ الخليقة ، ويتحدث مولانا عن الأبراج الأربعة أو العناصر الأربعة على أساس أن القدماء كانوا يعتبرون الأبراج الفلكية الاثني عشر في مدار الشمس مخلوقات ذات طبع ومزاج فالثور والسنبلة والجدى أبراج ترابية طبعها بارد جاف أو سوداوى ، والسرطان والعقرب والحوت أبراج مائية وطبعها بارد رطب ، والجوزاء والميزان والدلو أبراج هوائية طبعها حار رطب ، والحمل والأسد والقوس أبراج نارية وطبعها جاف حار . ويريد مولانا أن يقول :
إن هذه الأبراج مؤثرة بحكمة الله تعالى في أحوال العالم الأرضي ، وتوجد في كل
 
“ 620 “
 
زمان وفصل ظروفا بمقتضى الحكمة والمشيئة ، بل إن الأرض والسماء زوجان حقيقيان يتمتعان بهذا الاتصال وإلا فلماذا تقع الأرض بين أحضان السماء ؟ ومن هذه الحكمة الإلهية يسكن الزوج إلى زوجته حتى يقع الميلاد ، ومن ثم فكل جزء في الخليقة يحن إلى الجزء الآخر ، لكي تحدث الخليقة فإياك أن تظن أن هناك تنافرا فهذا التنافر لا يوجد حتى بين الليل والنهار فكل منهما يطلب الآخر ، ففي الليل تدخر المخلوقات لكي تنفق بالنهار “ من القوة والاستعداد للغد “ والفكرة هنا من طريق التحقيق لسنائى ( مثنويات حكيم سنائى ص 112 والترجمة العربية لطريق التحقيق لأحمد فتحى شتا ) .
 
( 4424 - 4450 ) وينتقل مولانا إلى مرحلة أخرى من علاقة العناصر والأمهات والآباء العلويين ، عندما تتفتت هذه العلاقة ويعود كل عنصر إلى “ أبيه “ أي إلى أصله السماوي ، فكل برج يجذب من الجسد “ الأخلاط “ و “ الأمزجة “ المناسبة له ، وليست الأمراض العديدة إلا نتيجة أن كل عنصر يريد أن يجذب الجزء الخاص به من الجسد ، ويبقيها الله تعالى إلى أجلها . وعندما يجذب كل جزء من الجسد إلى الأصل الخاص به فإن الروح تتألم من فراقها لعالم الأرواح ، وأن وجودنا الصوري ما هو إلا تركيب من أجزاء عنصرية تبقيها الروح حية ، وفي الوقت نفسه فإن كل جزء من هذه الاجزاء يساعد على حفظ هذا التركيب ، وهذا التركيب هو سجن للروح ومن ثم فالروح تحن دوما إلى أصلها ، وكما أن قوت كل عضو من أصله ، فإن قوت الأرواح هو من الحكمة والعلوم والرغبة في الترقي والشرف الذي هو في نفس الوقت سير إلى عالم الغيب والوجود المطلق فهي باحثة عن الحق والحق باحث عنها مصداقا لقوله تعالى :يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
 
“ 621 “
 
( المائدة / 54 ) . ليس العشق من العاشق فحسب لكنه من المعشوق أيضا . إن المعشوق في بحث عن العاشق كما يبحث عنه العاشق ، وهو يبدو ظاهرا بلا حاجة لكنه في الباطن ذو ميل وجذب .
 
( 4451 - 4464 ) يعود مولانا إلى قصة وكيل صدر جهان : لقد كان صدر جهان أيضا يشتاق إليه ، لكن مظاهر السلطة كانت تمنعه من إظهار هذا الشوق . وليس هذا الأمر قابلا للإدراك ، أكان ميل الوكيل هو الذي يجذبه إلى بخارى أو أن مجىء الوكيل هو الذي أوجد الجذب في قلب صدر جهان ؟ لكن إياك أن تتحدث في هذا ، واترك المراء والتذاكى في هذا الأمر ، إنني لن أواصل في هذا الموضوع فإن تلك القوة غير المرئية ( الإلهام - الوحي الإلهى ) تأمرني بألا أقول فكيف أقول ؟ إن الأمر ليس بيدي فمهما عزمت ومهما نويت فإن عزم الله هو الذي يكون وما قدره نافذ . إن الأمر أشبه بالجواد والفارس يمسك الفارس بزمام الجواد الذي يجمح في كل ناحية ويوجهه إلى حيث يشاء ، وخير للجواد أن يكون ذكيا وأن يعلم أنه في يد الفارس يوجهه في أي اتجاه شاء . وهكذا فإن قدرة الله تعالى تبدو في فسخ العزائم ونقضها مصداقا لما ورد في حديث علىّ رضي الله عنه “ عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم وحل العقود ونقض الهمم “ ( استعلامى 3 / 415 ) .
 
( 4465 - 4475 ) يحلل مولانا فكرة فسخ العزائم ونقضها وخلاصة ما يذهب إليه مولانا أن الله سبحانه وتعالى يدفعنا إلى العزم في الأمور ثم ينقض هذا العزم حتى نحس بقدرته دائما ونحس أننا خاضعون لقدرة الحق . وهناك

“ 622 “
 
صنفان من الناس في التسليم لقدرة الله تعالى : العاشقون والصادقون أو العاشقون والعاقلون ، والعشاق يعرفون مولاهم بصدهم عن الوصول لآمالهم .
وإن لم تصدق فاقرأ “ حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات “ . إن انكسار الصادقين العاملين لا يشبه انكسار العاشقين ، فأولئك منكسرون جبرا أما العاشقون فمنكسرون اختيارا ، أولئك عبيد مقيدون ، وهؤلاء في رضا الحق كأنهم يستحلبون السكر ، إن العقلاء هم مصداق “ ائتيا كرها “ أما العشاق فإنهم مصداق “ ائتيا طوعا “ طبقا لما ورد في الآية الكريمةثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ( فصلت / 11 ) .
 
( 4476 - 4488 ) يحضر مولانا رواية من السيرة النبوية عن أولئك الذين يستسلمون للمشيئة الإلهية “ كرها “ وفي الحديث الشريف “ عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل وهم كارهون “ وفي مناسبة الحديث روايات فمن قائل : إنه قيل يوم بدر “ فروزانفر ماخذ / 125 - 126 ) ومن قائل إنه قيل في أسارى قريظة وبنى النضير ( مولوى 3 / 573 أنقروى 3 / 744 ) والرواية الأولى أصح لارتباطها بما يلي من آيات . والب أرسلان هو ثاني سلاطين السلاجفة العظام حكم ما بين 455 - 465 ه - ( جلبنارلى 30 / 462 ) .
 
( 4489 - 4505 ) ما ورد في العنوان جزء من الآية 19 من سورة الأنفال ، ويستمر مولانا في رواية حديث الكافرين وهم يساقون أسارى ، وهنا إشارة إلى ما دعاه أبو جهل قبل وقعة بدر قائلا : اللهم انصر أحب الفئتين ، فالنصر هو لمحمد - ، - حتى في الحديبية التي اعتبرها المؤمنون هزيمة كانت نصرا وبعدها نزلت سورة الفتح ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) ( الفتح / 1 ) .
 
“ 623 “
 
( 4506 - 4514 ) ذكر هزيمة بني قريظة وبنى النضير هنا خطأ تاريخي ، فالانتصار على بنى النضير وبني قريظة سابق لهذا التاريخ ، وكان الانتصار هنا على يهود خيبر ، على كل حل كان مولانا يقصد الانتصارات التي حققها الرسول - صلّى اللّه عليه وسلم - بعد الحديبية التي كانت تبدو كهزيمة ، ويقصد مولانا أنه حتى إن لم تتحقق هذه الانتصارات فإن المؤمن في هزيمته كما هو في نصره تماما إنه يستقبل الهزيمة “ البلاء “ كما يتقبل النصر ، فالبلاء في نظر المؤمن “ صعود “ ليس “ هبوطا “ والمهم هو العناية الإلهية .
 
( 4515 - 4532 ) ومصداقا لهذا يفسر مولانا حديثا منسوبا إلى الرسول - صلّى اللّه عليه وسلم - “ لا تفضلوني على يونس بن متى فإن معراجى إلى السماء ومعراجه إلى الماء “ والحديث ورد في مقالات شمس ( ص 256 ) بتفسير أقرب إلى تفسير مولانا ، فاللقاء ليس بالمكان وإنما بالعناية والرعاية ، فليس المعراج بمقاييس الأرض وليس هو الصعود أو الهبوط بل هو التخلص من سجن الوجود ومن قيود المكان وأسر الحياة المادية ، إنه أمر يتصل بالفناء أو كما يعبر عنه مولانا متصل بالعدم الذي تختلف مقاييسه عن مقاييسنا . ومن هنا فإن هزيمة المؤمن لا تشبه بحال من الأحوال هزيمة الكافر ، فالكافر في هزيمتة ساخط والمؤمن راض ، والقدرة على الاستغناء هي اقطاع خاص بهم ، والفقر فخرهم ( إشارة إلى حديث نبوي الفقر فخرى وبه أفتخر ) . وعلى هذا النسق فإن تفسير الكفار لا بتسامة الرسول - ، - بأنها افتخار بالدنيا وعجب بالنظر ، هو تفسير نابع من تفكيرهم هم .
 
“ 624 “
 
( 4531 - 4538 ) إن الحارس لم يسمع كلام الكفار الأسرى بالرغم من أنه كان يمشى إلى جوارهم ، بينما وصلت هذه الهمهمة إلى أذن الرسول - صلّى اللّه عليه وسلم - من لدن الحكيم الخبير ، فالقابلية عند الرسول لتلقى الوحي ، وهذا يتكرر كثيرا في حياة الأنبياء فذلك الذي كان يحمل قميص يوسف إلى يعقوب عليهما السلام لم يكن يشم منه ريح يوسف ، لأن الريح خاص بيعقوب ، وهكذا فإن الرسول - صلّى اللّه عليه وسلم - يوحى إليه وهو نائم مصداقا لقوله عليه السلام “ تنام عيناي ولا ينام قلبي “ ، وإدراك عوالم الغيب بمعايير هذا العالم غير متيسر بل لابد من وجود العناية الإلهية ، ومحمد - صلّى اللّه عليه وسلم - مشمول بالعناية الإلهية ، بحيث إن النجم الثاقب الذي يطارد الشياطين التي تسترق السمع يأمرها بأن تأخذ الأسرار منه عليه السلام إذ تصل إليه مباشرة من لدن الحكيم الخبير ، وهي رزقه لا بحوله أو بطوله . وهكذا العطايا أرزاق ولا تتدخل فيها القوة فاذهب إلى الدكان واسع في سبيل الرزق ، لكن إياك أيضا أن تنسى الذهاب إلى المسجد وطلب الرزق من الله .
 
( 4539 - 4552 ) يواصل الرسول - ، - الحديث إلى الأسرى من الكفار : إن ضحكى ليس من انتصارى عليكم في المعركة ، وأي ضحك عندي من أناس ماتوا واهترأوا في الفناء سواء عاشوا أو ماتوا فهم أموات ، وأي لذة عندي من انتصار على بضعة من الرمم المهترئة والقمر ينشق عندما أثبت في المعركة ، ثم إن الأمر لم يتغير عندي : هكذا كنتم أراكم من كوة الغيب مهزومين أسارى حتى وأنتم أحرار ، إن سلاحكم الذي تعتمدون عليه في هذه الدنيا لا محالة يؤدى إلى الهزيمة ، فالاعتماد على المال والحسب شأنه كما يوجد جمل على قناة ( لا يتأتى منه نفع ولا يحسن التصرف ) ، وهكذا فإنني منذ أن تخلصت من صورة الجسد
 
“ 625 “
 
وعلمت أنها صورة مفتضحة ، كنت على علم بكل ما هو أت ، بل إني أعلم عاقبة كل موجود قبل أن يظهر في عالم الجسد ( كنت نبيا وادم بنى الماء والطين ) ( استعلامى 3 / 418 ) ، ومن أنتم فقد رأيتكم منذ الأزل ومنذ يوم الميثاق وأنتم مغلولون مقيدون ، إذن لماذا أضحك ؟ كنت أضحك لأنى أرى اللطف في القهر ، أرى أن الله سبحانه وتعالى بقهره إياكم إنما يسوقكم نحو لطفه ( المناسبة مناسبة الحكاية لحكاية صد وكيل صدر جهان ) ، كنتم تأكلون سكرا ممتزجا بالسم ( اللطف الممتزج بالقهر ) كنتم تأكلونه وأنتم لا تسمعون كلام الله ولا تدركون قصده من إذلالكم .
 
( 4553 - 4563 ) يواصل الرسول جوابه لأسرى الكفار : تراكم ظننتم أنني غزوت من أجل الدنيا ؟ إن هذه الدنيا ما هي إلا جيفة وطلابها كلاب “ حديث منسوب إلى الرسول - صلّى اللّه عليه وسلم - وفي بعض الروايات إلى الإمام زين العابدين السجاد رضي الله عنه “ ، إنني أغزو لأحيى موتى الكفر الذين يظنون أنفسهم أحياء ، وأسوقهم من قهر الله إلى لطفه ، ولكي يتحرر العالم من طغيان الكفر ومن فساده ، إنكم كالفراش المتهافت على النار وأنا أقف بينكم وبين هذه النار ، وإن نصركم إذا انتصرتم هو هلاك لكم ، كنتم تجدون إلى النار وكنت أحول بينكم وبينها ، كنتم تسرعون بنصركم هذا إلى براثن قدرة الحق ، وكنت أهزمكم لكي أحول بينكم وبين هذا النصر المدمر .
.
* * *

الهوامش والشروح 4039 - 4563 لعلى منتدى إتقوا الله ويعلمكم الله

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: