الخميس، 27 أغسطس 2020

23 - الهوامش والشروح 3568 - 4037 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

23 - الهوامش والشروح 3568 - 4037 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

الهوامش والشروح 3568 - 4037 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

شرح بيان أن كل ما هو غفلة وكسل وظلمة كله من الجسد
فهو أرضى وسفلى
( 3568 - 3576 ) يصل مولانا إلى خلاصة قصة بلال والنتيجة المستنبطة
 
“ 568 “
 
منها إن الجسد عندما يتحول إلى روح ، أي عندما تتخلص الروح من علائق البدن ، فلا شك أن الأسرار تنكشف لها ، وكذلك فعندما تختفى “ الأرض “ من جو الفلك فلا ظل ، وكذلك عندما يختفى الجسد النور في قلوبنا ، فالدخان من الحطب ، أما الأجسام النورانية فلا دخان لها ، لأنها لا تتصل بالمادة ، وعندما ينبنى الفكر على المادة فمن الممكن أن يقع في الوهم والخطأ ، لكن العقل “ عقل الروح “ نادرا ما يقع في الخطأ لأنه لا ينظر إلى المشاهد والمحسوسات ، إن الناس يربطون حالات الإنسان بالأخلاط “ السوداء والصفراء والبلغم والدم “ ، لكنها أي الحالات في الحقيقة من الله “ المسبب لا السبب “ إن العلة الظاهرة لا يراها سوى أهل الظاهر .
 
( 3577 - 3584 ) ومن ثم : فإن الروح البعيدة عن اللب “ الحقائق “ ، والمتعلقة بالقشور “ الحياة المادية “ لابد لها من طبيب ومن علة ، فالروح أسيرة الجسد هي مريضة وفي حاجة إلى علاج باد : وخلاص الروح من قيد الجسد “ كسر القيد “ ، الوصول إلى الحرية . . . بمثابة الحياة مرة ثانية يقول في ديوان شمس :
كنت ميتا فأصبحت حيا كنت باكيا فأصبحت ضاحكا * لقد حلت دولة العشق وصرت دولة ثابتة لي بصيرة شبعى ولى روح شجاعة * ولي جرأة الأسد ، إذ صرت متألقا ككوكب الزهرة ( غزلية 1393 ص 539 )
 
“ 569 “
 
فالروح الحرة لا تتحدث عن العلل ، الا تؤمن إلا بالعلة الأولى ، هي مع الحركة الكلية للوجود لا علاقة لها بالحركات الجزئية ولا تنظر إلى الكون مجزءا وكأن هذه الروح “ عريس “ يزف إلى “ عروس “ الصدق ، والصورة هي الحجلة التي يجلس فيها العروسان ، ليس هذا فحسب بل تسمو على هذا العالم وتمضى إلى عالم لا يحتوى على قيد المكان أو الزمان ، وعقولنا هي ظل لهذه الأرواح الحرة عليها أن تعترف لها بالجميل وأن تقبل قدمها ، وإن المحقق لو أدرك القران لما استدل على شئ من ألوان وجوه الناس ، بلال رضي الله عنه أو غيره ، ولما استخدم القياس عندما لا يدرك الحقائق فلا قياس مع وجود النص .
 
( 3585 - 3596 ) يتحدث مولانا عن تفسير عدم أهمية القياس مع وجود النص : إن النص القرآني قد أوحى به من جانب الروح القدس ، والروح - القدسية أو الروح الطاهرة - هي الوجود المطلق لإله المنزه عن قيود عالم التعين ، أما العقل الجزئي فهو العقل الذي يستطيع أن يدرك حدود العالم المادي ، ومن ثم فإن قياس هذا العقل واستدلاله في سبيل تأييد النص يظل بلا أثر والروح المذكورة في البيت 3586 هي الروح الإنسانية التي تجعل العقل يعمل ، ومن ثم فهذه الروح سواء الروح الفردية أو الروح المطلقة لا تدخل تحت تصرف العقل الجزئي حتى يثبت العقل باستدراكه أو يؤيده وفي 3586 يدور الحديث حول غرور العقل الجزئي المضل ( تنظر تعليقات 3238 ) إن روح سيدنا نوح كانت تنبؤه من
 
“ 570 “
 
داخله أنه مؤيد من الحق ، في حين أن روحك لو قالت لك داخلك أنك مؤيد فأين الأمارات الأخرى لرجال الحق ؟ وهذا الخيال والغرور نتيجة لأن العقل الجزئي لا يفرق بين الروح وبين آثار الروح وما يتحدث إليك في داخلك من الممكن أن يكون أثر الروح فنور الشمس غير الشمس ، إنه أشبه برغيف خبز ( أي نصيب قليل ) وهذا هو الإدراك المحدود لعوالم الغيب ، إن السالك في طريق الحق يسعد من مواجيده الأولى لأن نفى هذه الإدراك هي وسيلة إلى إدراك الحقيقة ، يلقى به النور نحو قرص الشمس ، إن النور الموجد هو آثار الروح المطلقة في عالم المادة ، إنه أفل ، إنه أثر نور وليس النور نفسه والآثار إلى زوال ، أما أولئك الذين وصلوا إلى أصل النور ومنبع الحقائق ، فهم دائما غارقون في النور ، فلا السحاب “ التعينات المادية “ ولا الغروب أي : “ ضياع اثار النور المادي “ تؤثر فيهم ، إنهم لا يحسون مطلقا بذات الحق حتى تحس صدورهم بالغصص والأحزان ، فلعل هؤلاء الواصلين إلى الحق منرهون عن الوجود المادي والترابى ، وأصلهم مما وراء عالم المادة ، وإن كان لهم وجود ترابى فقد تبدل بالنضج الروحاني ، فمن الممكن أن يتحمل الوجود الترابى إشراق نور الحق ، لكن نور الحق لو سطع عليه على الدوام فمن الممكن أن يحرقه ، اللهم إلا إذا كانت عوارض المادة قد انمحت عنه تماما ( لا تتحمل القشة الجبل ) .
 
( 3597 - 3603 ) في طريق الحق نلتقى بنوعين من البشر : نلتقى بالكمل الواصلين الذين يسبحون دائما في بحار الغيب ، ونلتقى بالمدعين الذين كالثعابين ينزلون إلى الماء لكنهم لو ظلوا في الماء طويلا لماتوا ، هؤلاء المدعون ( الثعابين ) ذوو فنون في الجبل “ الدنيا “ وهم يخدعون البسطاء من السالكين
 


 
“ 571 “
 
ويعدون أنفسهم سابحين في بحار عوالم الغيب ، لكنهم يستطيعون هذا الادعاء في هذا اليم فحسب “ الدنيا “ ، إن الفنون الحقيقية جديرة بأهل الحق فحسب :
ومن ( فنونهم ) أنهم يستطيعون أن يصحبوا في طريق الحق العابد للدنيا ، إنهم يسيرون حتى في أعماق بحر الجلال ، بحيث يعلمهم هذا البحر كيف يؤثرون في الآخرين ، إن نفوذهم معنوي وتأثيرهم هو السحر الحلال “ انظر تفسير 4082 “ وهو الذي يجعل غير الممكن ممكنا فهو متصل بقدرة الحق وقوله :
تمضى مائة قيامة ، أي يمضى وقت طويل جداً جدير بانتهاء عالم اخر مائة مرة .
 
( 3604 - 3619 ) يشير العنوان والأبيات إلى عدم اهتمام بعض المريدين بكلام جلال الدين . . لقد صاروا ملولين يعتبرون أقواله تكرارا لما سبق من قول لكن مولانا يقول : إن هذا الكلام حياة وتكراره هو أن يهب عمرا مكررا للآخرين .
إن ما يجعل الشمعة تظل منيرة ، هو هذا النور الضئيل المتكرر ، وحتى التراب “ الإنسان “ يتغير بسطوع الشمس “ شمس الحقيقة “ عليه . . . أو أن التراب الحقيقي يتغير بسطوع الشمس عليه ويتحول إلى ذرات من الذهب ويعتقد القدماء أن تكوين المعادن الثمينة يتم بسطوع الشمس وإلى هذا أشار سنائى بقوله :
تنبغى سنون حتى يصير حجر بتأثير الشمس * ياقوتا في بدخشان أو عقيقا في اليمن ( كليات ديوان سنائى ص 485 ) وهو يستخدم “ الرسول “ في موضع الشيخ إشارة إلى حديث نبوي : “ الشيخ
 
“ 572 “
 
في قومه كالنبي في أمته “ ( استعلامى 3 / 377 ) ، كما أن المشايخ هم رسل الضمير لأنهم يخبرون عن الباطن ، والمستمع الذي في طبع إسرافيل هو المستمع الذي يستطيع أن يحيى الموتى ( بعث الموتى عن طريق صور إسرافيل ) .
إن توقير الأستاذ شرط أول لاستفادة الطالب ، والطالب الذي لا يوقر أستاذه إنما يسد أمام نفسه طريق المعرفة ، ويقنط الأستاذ من قدرته على الاستفادة فينصرف الأستاذ بدوره عنه . إن اذانهم مستحسنه لأنها من حضرة الحق وهم يعلمون بلا من ولا أذى إنهم سلاطين ، وصدقة السلطان تصل إلى من يستحقها ومن لا يستحقها ، 
فمن ثم يخاطب المرشدين أو يخاطب نفسه : انطلق في طريقك وداوم على التعليم ، فإن التركي “ القائد والمرشد والبطل الهمام “ الذي يسعر الوغى سعيد بعمله هذا ، إنها لذة التعليم ولذة الإرشاد حتى ولو لم يوجد من يستحق ، فالفرس منطلق ، أي الإرشاد والتعليم فقد أغمض عينه عن كل ما سوى الله وعن الغير ، أي غيرة عشاق الحق من اهتمام الناس بغير الحق ، على الشيخ ألا ينظر إلى الأغيار ويقول وينطلق ، وينبغي ألا يدفعه الندم إلى الكف عن إرشاد المريدين ، فحتى الندم نفسه ينتهى عندما يرى الهداية من شيخ طريق .
 
( 3629 - 3636 ) إن المريد الذي يقف في وجه مرشده هو جرىء على الحق ينازل ما لا يمكن نزاله ومالا يمكنه الصمود أمامه ، إنه أشبه بإنسان يجادل خالقه ويقف في وجهه ويتحداه وهذا ما لا يقع فيه حتى الحيوان ، فالجواد يعرف زئير الأسد ويشم رائحته ، والخفاش لا يخرج في نور النهار لأنه لا يقوى على النظر
 
“ 573 “
 
إلى الشمس ( الخفاش أيضا ) رمز لعابد الدنيا وظلمتها والبعيد عن عالم المعنى والساقط في هوى النفس ) . . . إن الخفاش لا يواجه الشمس فكيف يواجه المريد شيخه ؟ ومتى تتوارى الشمس بالحجاب أسفا على الخفاش ؟ ويصل مولانا إلى النتيجة : إن عاديت فعاد على حد قدرتك ، لا تعاد من لا سبيل لك إليه ولا استطاعة عليه ، فان فعلت فمصيرك هو مصير قطرة تعادى بحرا ودائرة تعادى سماء ، فإذا كان هذا هو مصير عدو الشمس “ الشيخ “ فما بالك بمصير من يعادى شمس الشمس “ الحق “ ؟ إنك لا تستطيع أن تعاديها بل إن عداءك لها خصومة مع نفسك . إن من ينازل النار إنما يصير حطبا لها ، وهو أيضا لا يتأثر باحتراقك ، إنه رحيم لكن رحمته ليست كرحمتنا فإن الرحمة تتأتى في قلوبنا من الإشفاق على الآخرين والاهتمام بهم والتألم لألمهم ، إن إدراك رحمته غير ممكن ، ولكن انظر فحسب إلى اثار رحمة ربك .
 
( 3637 - 3652 ) يواصل مولانا هذه الفكرة : إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعرف ماهية رحمته وحقيقتها ، وهكذا أيضاً كل صفات الكمال الإلهى إننا نعرفها بالمثال فقط لا بالماهية ، فمتى يعرف الطفل لذة الجماع ؟
إنك تمثله له بالحلوى ولكن متى كان الجماع كالحلوى ؟ إننا كلنا أطفال كل إدراكاتنا عن الحقائق إنما تتم بالتمثيل لها فحسب ، ولا نستطيع أن ندرك حقيقة الوجود وماهية عوالم الغيب لكننا ندرك اثارها ، ومن هنا فإن قلنا نعرف فهذا صدق على اعتبار أننا نعرف بالمثال ، وإن قلنا لا نعرف فهذا أيضاً صدق على اعتبار أننا لا نعرف الماهية . ونوح هو المثال : إن قلت أعرفه فقد قرأت قصته في القرآن أثناء وجودي في الكتاب وسمعت عنه من الأئمة في المحاريب ، فأنت قد
 
“ 574 “
 
عرفت قصته ولم تعرفه هو ، إنما يعرفه من هم مثله . وإذا قلت أي علم لي به ، وأين أنا منه قلت صدقا أيضاً أيها الفتى، لأنك بالعقل لم تعرفه بماهيته ، والعجز عن درك الإدراك إدراك.
 
( 3652 - 3659 ) إن الكمل والواصلين هم الذين يستطيعون إدراك الماهيات ، فلا تقل : إن هذا الحكم يشمل الجميع ، وسر الماهيات هو العلم الأزلي للحق أو ذات الحق ، وعند بعض المفسرين أن ماهية كل شئ كانت موجودة في العلم الأزلي قبل أن تتحقق في عالم الصورة ( انظر الكتاب الثاني الآيات 169 - 180 ) ، 
وفي البيت 3656 يرى أعقل البحث والجدال أي العقل الذي يسيطر عليه الحس أو العقل الجزئي يقترن بأن إدراك سر الماهيات أمر أعمق وأبعد غورا من أن نفهمه ، ولا يمكن أن تصل إليه إلا “ بالتأويل “ ، فابتعد عنه ، ويرد القطب أو المرشد القائل : إنك تتحدث عن مالك أنت وهم أمر واهن وتظن أن مالا تفهمه لا يفهمه الآخرون أيضاً ، ويمكن أن يكون قصد مولانا المريدين الملولين أيضاً مخاطبا إياهم بألا يعمموا الحكم بعدم الفهم لأنهم لا يفهمون ، ويخاطبه قائلا :
أليست الواقعات وهي أول ما يستطع في القلب من نور المعرفة كانت تبدو لك محالا في البداية ؟ وإذا كان كرم الله قد أخرجك من سجونك العشرة أو تأثير حواسك العشرة : الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة ، وسمح لك بهذا أن تنطلق بعيدا عن هذا التيه وهذه الصحراء الجافة (الدنيا) فلماذا تظل أسيرا فيها ما دام الله قد حررك فلا تجعل من هذا الظاهر سجنا لك.
 
( 3660 - 3670 ) الأمور نسبية ، المهم من أية وجهة نظر تنظر إليها ، وقد يجتمع الضدان ( النفي والإثبات ) في شئ واحد ومع ذلك فليس في الأمر هنا أي
 
“ 575 “
 
نوع من التناقض ، ويشير مولانا إلى الآية الكريمة ،وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى( الأنفال / 17 ) فالآية الكريمة تحتوى على نفى وإثباتما رَمَيْتَورَمَيْتَ: لقد رميت إذ إنك الذي رميت الرمح أو هكذا يبدو لك ، ولكنك لم ترم في الحقيقة فالرامى هو الله سبحانه وتعالى ، والقوة والحول منه والسلطان له جل شأنه ، والنصر والهزيمة بيده فمتى كان لقبضة من التراب أن تهزم جيشا ؟
ومن هنا فالنفى والإثبات “ معا “ جائزان وحتى الأنبياء ( انظر مثال نوح عليه السلام في التعليق على الأبيات 3637 - 3651 ) ليعرفهم أضدادهم وأعدؤهم لكنهم يكتمون هذه المعرفة ( وهذا هو الكفر فالكفر ستر للحقيقة لأن الحقيقة أوضح من أن تنكر ) وهذا مصداقا للآية الكريمةالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( البقرة / 146 ) إذن بم تفسر التناقض بين هذه الآية وبين الحديث القدسي “ أوليائي تحت قبابى لا يعرفهم غيرى “ ؟ لا تناقض : فإن الحق سبحانه وتعالى يعرف حقيقتهم ويجيزها لكن يمكن لغيره سبحانه وتعالى أن يعرفهم من ظواهر أعمالهم ومن آثارهم . والخلاصة أن ذلك من هذا الجدل فإن الأمر يكشف لك بقدر فهمك وإدراكك ( انظر تفسير الأبيات 3637 - 3651 ) .
 
( 3671 - 3684 ) يدخل مولانا في مثال اخر من نفس القبيل : وهو موضوع الفناء والبقاء ، والفناء هو ترك العلائق الدنيوية وعدم التعلق بها ونفى الظواهر الخادعة والتغلب بالتالي على كل جوانب الذات والنفس وانمحاء العبد في ذات الحق أما البقاء فهو خلود الحق بحيث يبقى العبد بعد فناء ذاته ببقاء
 
“ 576 “
 
الحق - ويرى استعلامى أن القائل بأنه ليس في الدنيا درويش هو مولانا نفسه ، والواقع أن مولانا يتحدث بلسان القوم فقد ورد أن الدرويش الذي يدرك أنه درويش ليس بدرويش ، إنه في رؤيتة لذاته قد ابتعد عنه فهو في رؤيته هذه لم ينمح في ذات الحق تماما ولا تزال فيه نظرة إلى نفسه وذاته . . .
 
ويفسر مولانا أنه إن وجد درويش فليس موجودا بذاته هو ، لكنه موجود بذات الحق ، وليس فيه من الظواهر والأمارات ما يدرك بحواسنا ، وهو موجود غير محسوس كنور الشمعة أمام الشمس أو كنذر يسير من الخل في مائتي من العسل ( المن مكيال فارسي يختلف باختلافف العصور وباختلاف أقاليم إيران ويترجم قديما وحديثا بكلمة من أيضاً ) ، فنور الشمس غير ظاهر أمام الشمس لكنه يحرق قطعة قطن إن قربتها منها ، وطعم الخل ليس موجودا في الشهد لكنه موجود إن حللت وفصلته عنه “ إن السالك أمام الله إذن كالغزال أمام الأسد ، إن ما أقدمه هو “ قياس الناقصين “ إنه من غليان العشق ( تمهيد للحكاية القادمة وتدور حول العشق ) .
 
فكيف يوضع العاشق في كفة أمام المليك ؟ ! لكن العاشق الذي فقد الأدب هو بالنسبة لله في منتهى الأدب .
إن ادعاءه العشق يبدو “ مطامنة “ لمن لا يطا من ، لكنه وعشقه “ معا “ فانيان أمام المعشوق سبحانه وتعالى ، ولسنائى الغزنوي “ ما دمت لا تصنع من العدم خوذة على رأسك فإنك لا تيمم وجهك شطر البقاء “ ( حديقة ص 34 ) إذن لقد أطل العشق من الباب . فإذا بكل خيالاتنا وهم وعبث لقد أسفر العشق عن وجهه فعنت كل الوجوه ، وبهذا يمهد مولانا جلال الدين لواحدة من أروع قصص المثنوى على الإطلاق . . ولم لا ؟ وهي في الميدان الذي يصول فيه مولانا جلال الدين ، ويجول
 
“ 577 “
 
ويثبت أنه شاعر الإنسانية الأول في كل أنواع العشق المجازى “ عشق البشر “ والحقيقي “ العشق الإلهى “ وبينهما برازخ ودرجات .
 
( 3688 - 3698 ) هنا تبدأ حكاية صدر جهان وعبده الذي هرب منه ثم رده العشق حيث سيده ، ثم يعفو عنه سيده ، فليس المعشوق بأقل انجذابا إلى العاشق من انجذاب العاشق إليه كما سنرى ، وانظر قبل أن تتحدث عن أصل الحكاية ( وماذا يهمنا أصلها وأصلها هو العشق ذاته وانجذاب ذرات الحقيقة بالعشق ، ثم انجذابها كلية إلى أصل العشق ومعدنه الحقيقة الكبرى أو الحقيقة الوحيدة . الله سبحانه وتعالى ) .
انظر إلى هذا الرمز الواحد في ( صدر جهان ) “ صدر الدنيا “ والعبد أية مناسبة ؟
 يا لها من مطامنة وياله من طموح إنساني لا حد له وألا يرمز الأمر كله إلى هروب العبد ( الإنسان من سيده الأعلى ثم غربته في الأرض بعيدا عن منبته وعن جنته وحنينه إلى العودة ، وتوظيف كل قواه في سبيل هذه العودة ، وأنين روحه كما يئن الناى منذ أن قطع عن موطن الغاب “ انظر أغنية الناى مقدمة الكتاب الأول من المثنوى كافتتاحية هي أشبه بافتتاحيات الأعمال الموسيقية الكبرى تمهد بأالحانها المتداخلة لكل الألحان الواردة في العمل على طوله وتنبىء عنها وتلخصها في الوقت نفسه ) وما صلة هذه الحادثة التي يوردها المفسرون بحكاية صدر جهان وعبده التي نحن بصددها . يقول المفسرون : إن الحكاية مستوحاة من السيرة التي أوردها محمد عوفي في لباب الألباب لمحمد بن عمر بن مسعود من أمراء ال برهان في بخارى ، فر من أبيه لسوء معاملة زوجة أبيه له ، ولجأ إلى مرو حيث هجا زوجة أبيه ، ثم راسل أباه ليعفو عنه وكان عوفي نفسه حامل هذه الرسائل وعفا عنه أبوه فعاد إلى بخارى
 
“ 578 “
 
( ماخذ ص 119 - ص 121 ) . وهذه الحادثة ربما كانت نقطة انطلاق مولانا جلال الدين أو الإطار الذي ساق فيه “ إفاضاته “ عن الميدان المحبب إليه العشق “ كليات ديوان شمس الدين التبريزي مائة ألف بيت كلها عن العشق والمثنوى كله لا يزيد عن ستة وعشرين ألف بيت “ ، فهل يمكن أن يكون مثل هذا الجدول الصغير أو هذه البركة الآسنة منبعا لهذا المحيط من العواطف الجياشة ؟ لا أظن ! ينقل مولانا ثلاثة أبيات كقصة : لقد هرب عبد “ صدر جهان “ أو مستخدمه منه ، وساح في البلاد عشر سنوات ، وبعد عشر سنوات كان الفراق وعذبه الشوق ، ويصف مولانا الفراق وتأثيره ، إن كل أنواع الآلام والمتاعب ، وكل مرارة الحياة ومعاناتها هي من جراء هذا الفراق وهذا الانفصال عن المنبع وعن أصل الوجود ( انظر أغنية الناى مقدمة الكتاب الأول ) : من جراء هذا الفراق تبور الأراضي ويأسن الماء وتصير الريح ناقلة للأوبئة ، وتتساقط أوراق الحدائق وتذبل ولا يتحمل العقل ويتعطل ، وإنما يرتعد الشيخ هكذا من بعده عن الحق ، والنار نفسها لو كانت مورد عنايته لتحولت إلى جنة . . إن الحديث عن الفراق يطول دون أن يوفيه الجزء اليسير جدا من حقه ولا نملك هنا إلا أن ندعو : رب سلم في الفراق ( إشارة إلى الحديث : شعار المسلمين على الصراط يوم القيامة : اللهم سلم سلم ( استعلامى 3 / 381 ) ويترك مولانا سياق “ الحكاية “ بعدها حتى البيت 3791
 
( 3702 - 3717 ) الرواية الواردة هنا إشارة إلى تمثل الروح القدس لمريم عليها السلام بشرا سوياوَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً
 
“ 579 “
 
شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا * قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ( مريم 16 - 18 ) 
ويبدأ بأن يربط بين ما كان يتحدث فيه انفا وبين ما هو بصدده : الآن وقد أدركت أن كل شئ إلى فناء ، فقبل أن يفوت منك كل شئ انفصل عن صورة الوجود ، وقل كما قالت مريم : إني أعوذ بالرحمن منك ، لقد تمثل لها الروح الأمين ( جبريل ) بلا نقاب أي بدون غطاء ما من الصورة أو المادة جميلا كل الجمال . لقد كانت عارية وخافت من الغواية . إن الغواية هنا مقرونة بالعرى ، ينميها العرى ويسهلها فإن الثياب الساترة للمرأة وقاء لها من أن تغوى وليس كما يقول بعضهم وقاية لها من إغواء الآخرين . ولما لم تجد طاهرة الذيل بدا فرت إلى الله سبحانه وتعالى .
 
إن هذه النظرات المحرقة للعقل ( تجلى العشق الإلهى والجمال الإلهى في صورة جبريل ) تجعل العالم كله طوع أمرها ، فلا أبطال ولا ملوك ولا جيوش ولا بدور .
إن هذا التجلي للجمال الإلهى يجعل كل الخليقة عبيدا له ، فما بالك بمريم التي كانت عارية خائفة من الغواية ؟ إن العقل الكلى نفسه ليسلم نفسه طائعا لهذا الجمال .
 
( 3718 - 3724 ) إن مولانا لا يستطيع أن يعبر عن كل هذا الجمال ( حكاية مريم عليها السلام ليست إلا تكأة ، ليتحدث عن الجمال الإلهى كأساس من أسس العشق موضوعنا الأصلي ) إن أنفاس هذا الجمال قد أحرقت منبع أنفاسه إن المنبع الأصلي والاشتياق إليه قد أحرق حنجرتى فلا أستطيع الحديث وإن لم تصدق فانظر إلى أثر ذلك فأنت لن تدرى ماهيته وكنهه ، إنني دخان هذه النار . لا إن هذا تعبير باطل ، فاللفظ قاصر عن بيان عوالم الغيب ( انظر تعليقات
 
“ 580 “
 
الأبيات : 4725 - 4732 من هذا الكتاب ) إن نور الشمس هو دليل على الشمس ( ينظر تعليقات الكتاب الأول بيت 116 ) وإن الظل ليبدو أحيانا دليلا على الشمس ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ) لكن عندما ترى الشمس ما فائدة هذا الدليل وما قيمته ؟ إن عظمة الحق وجلاله كافيان دليلا على وجوده ، أما إدراكاتنا الذهنية فقد حدثت بعد هذا الإثبات ، بل إن هذه الحركة الذهنية بطيئة بالنسبة لإدراك تجليات الحق ولا تصل إليه ، إن تجليات الله سبحانه وتعالى سابقة ، فكيف نصل إليها على هذه الحمر العرجاء ( الفكر ، العقل الجزئي ، الوهم ، الخيال ) ، إنه يأخذ الطريق عليها دائما .
 
( 3725 - 3735 ) وبالرغم من هذا فإن هذه الإدراكات البطيئة لا تقعد في سبيل إدراكات تجليات عوالم الغيب ، وإن قوانا الذهنية مثل البازي ، ومثل السهم ، ومثل السفينة في حركة ، وتذهب وتعود ولا تصل إلى مكان ما ، إن هذه الوسائل تزيد في هجومها كلما بدت لها التجليات الإلهية عن بعد وعندما تختفى فإن إدراكاتنا تضل ، ومن ثم فإن هذه الإدراكات تظل في نصب وتعب دونما نتيجة ، فعليها أن تستريح حتى لا تضل ، ينبغي أن يستريج البدن قليلا مثلما يستريح في الليل ( ليل اليأس من الوصول بهذه الوسائل ) .
 
( 3736 - 3745 ) يبدأ مولانا بعد انتهائه من البحث في إدراك تجليات عوالم الغيب ( إدراكها هو الذي يخفى السالك العاشق على إكمال الطريق ، أليست تجليات المحبوب أو اثاره التي تبشر بقربه ؟ ) في إرشاد السالكين :
 
“ 581 “
 
والحديث عن القبض والبسط ، إذا يضيق صدر المريد من فشله في الطريق ، أو يسر من وجدانه المراد وقربه من عوالم الغيب ( انظر الكتاب الثاني الأبيات 2971 ، 2975 ) ، فالقبض والبسط في رأى مولانا مثل الدخل والمنصرف لا ينبغي أن يظل السالك على حال واحد منهما ، فكل فصل من فصول العام له دور في نظام العالم “ حتى الزمان يدور في دورته المناسبة وبتقدير من الحكيم العليم ) . .
فإذا حل بك القبض ففكر أنك سوف تصل بعد الوصول إلى المراد إلى البسط ، فما بال هؤلاء المريدين كالأطفال لا يصبرون على المصاعب ( القبض ) ويريدون السرور ( البسط ) فحسب ؟ إن المريدين الواعين كالكبد دائما يتحملون أحزان طريق الحق ، أما أولئك الذين لا وعى عندهم فهم كالرئة يريدون دائما السرور ( فسر القدماء الأحوال والعواطف تبعا لأعضاء الجسد فربطوا دائما الشجاعة بالكبد والسرور بالرئة منبع التنفس ) “ استعلامى 3 / 383 “ وفي البيت التالي يتلاعب بلفظي “ اخر “ “ معلف “ واخر “ عاقبة “ والمعلف كناية عن الدنيا ، فالمريد الواعي يعلم تماما أن المنافع المادية لا توصل إلى عالم الغيب فالذي يرى الدنيا نفعا ورعيا كالأنعام إنما ينتظره في النهاية قصاب القضاء الإلهى ، فعاقبه الدابة ساطور القصاب .
 
( 3746 - 3761 ) إذن إذا كنت تريد أن تنجو فخذ غذاءك من الحكمة من عوالم الغيب ، من نور الله ، اترك البدن ، وغذاء الروح من غذاء المعرفة الذي يعطيه الله سبحانه وتعالى لخاصته دون انتظار لمقابل ، فعندما قال الله تعالىوَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ( الملك / 15 ) كان يقصد برزقه هذا المعرفة والحكمة وهو الرزق الوحيد الجدير بالروح والمناسب لها ، فهناك غير هذا الفم الذي يأكل الطعام فم
 
“ 582 “
 
اخر ( انظر تعليقات البيت 18 من نفس هذا الكتاب ) يأكل لقمة السر هذا هو قلب العارف ، لكن هناك شرط لكي يظهر لك هذا الفم هو أن تفطم عن لبن الشيطان ، أي اللذات المادية ووساوس الشيطان ، لا إنني لم اشرح هذا الأمر جيدا . لقد أنضجته نصف نضوج ، كما يفعل الترك بثريدهم . استمع إلى شرح هذا من الحكيم الإلهى سنائى الغزنوي يشير إلى ما ورد في الحديقة :
 
ألم تر أن الذي فوق كل الوجود حين خلق وجودك في الرحم أعطاك رزقك من الدم تسعة شهور ، الخالق الحكيم الذي لا مثيل له ورباك أيضا في بطن أمك وبعد تسعة شهور أتى بك إلى الوجودة ، وحينما أغلق هذا الباب للرزق في وجهك أعطاك بعده بابين أفضل منه ، أعطاك بعد ذلك الألفة بالثديين فهما أمامك طوال النهار والليل ينبوعان جاريان ، وقال لك : امتص من هذين الاثنين وكل هنيئا ، فليسا حراما عليك وحينما فطمت بعد عامين تبدلت جميع أحوالك ، أعطاك رزقك من يديك وقدميك ، امسك بتلك واسعى بذى في كل مكان ، فإذا كان البابان قد جاز غلقهما عليك ، فقد أقام بدلا منهما أربعة أبواب ، فخذ باليدين واسع بالقدمين بدأب ، واطلب الرزق في أنحاء العالم ، وحين يحم القضاء فجأة تكون أمور الدنيا كلها مجازا ، عجزت اليدان والقدمان عن العمل ، وبدلا من الأربعة أعطاك ثمانية فحينما قيدت الأربعة منك في اللحد ، صارت الجنان الثمان خالدة الثمان خالدة من أجلك ، فقد أعاد فتح الأبواب الثمانية لك ، وأحضر أمامك الحور والغلمان تذهب إلى أي باب مسرورا وكيفما تشاء ولا تتذكر شيئا من الدنيا ، فهو أكثر حنانا عليك من الأم والأب ، وهو رائدك إلى الخلد ، والخلعة التي كانت لك يوم عرسك ، لا يستردها منك يوم البعث . . ( الترجمة العربية لحديقة الحقيقة الأبيات : 264 - 280 ) وقوله أيضا :
 
“ 583 “
 
“ اهتم بنفسك ولا تنكر في الآخرين ضع حمل نفسك أمامك “ لا تهتم بأولئك الذين يشغلوننا بالدنيا ، ولا تكن كالطفل الذي يرجح سكر السرور أي لذات الدنيا ، فسكر السرور الحقيقي هو حصول المراد في طريق الحق ، وليس هو هذا السرور أي سرور الدنيا فهو جرح ومرهمه الغم ، وفي طريق الحق أحبب الحزن ، إنه يشبه الربوة تطل منها على مدينة الحقيقة ، والربوة جبل على بعد ثلاثة فراسخ من دمشق .
وقد صارت الشطرة الثانية مثلا ، وأن عاشق الحقائق كالأشياء المحسوسة .
ولم تبتعد انظر إلى ما حولك في الحياة : ألا ترى الحمالين يتشاجرون على حمل واحد ؟ إنه حمل ثقل ينوء به كاهله ، لكنه يريده ولو تشاجر مع الآخرين ، إنه يفعل ذلك في سبيل الآجر فما بالك بالأجر الإلهى ، إن الأجر الذي يعطيه الحق هو الكنز الدائم الذي لا يورث لكنه يتقدمك إلى قبرك .
 
( 3762 - 3768 ) كن ميتا قبل الموت إشارة إلى حديث يرويه الصوفية عن الرسول عليه السلام “ موتوا قبل أن تموتوا “ أي اميتوا هوى النفس والنزوع إلى الدنيا ، وإن فعلت فسوف تصبح قرينا للعشق السرمدي ، فحب الله وحب الدنيا لا يجتمعان معا ، وإن أصبح المرء قرينا للعشق السرمدي ، فسوف يرى الخير كل الخير فيما يحدث له فلا يتأتى من الحبيب إلا كل خير ، وما دام الحبيب ظاهرا له فإنه سوف يتحمل كل ألوان المجاهدة ، سيكون الصبر قرينا لمجاهدته ، فالحزن في هذا الطريق يساوى السرور الذي يوصل إليه ، بل إنه الضد الذي
 
“ 584 “
 
يتجلى فيه ضده الآخر ، بقدر ما يكون القبض يكون البسط ، والأمر طبيعي جدا ، كأنه قبض الكف وبسطها ، فمنهما معا يتيسر لهما الرزق ، وتتيسر لهما الحركة ، إنهما مثل جناحي الطائر ، ولا يمكن لطائر أن يطير بجناح واحد بل لابد له من جناحين ، لكي تتيسر له الحركة .
 
( 3769 - 3790 ) عودة إلى قصة مريم عليها السلام وتجلى العشق لها ، لقد اضطربت مريم عليها السلام لكن للحظة “ تسلحت بيقينها وإيمانها فعادت إلى وعيها ، وهذا هو الروح الأمين يطمئنهاإِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا( مريم / 19 ) إنه تجلى الكرم من المقربين من الحضرة الإلهية فكيف تهرب منه إلى عالم الغيب ، إن من المقربين في هذا العالم ، أنه من هذا العالم الذي تسميه مريم “ عالم العدم “ لكن الوجود الحقيقي موجود داخله ويفسر لها جبريل ما خفى عليها ( وهذا التفسير بالطبع من مولانا جلال الدين ) . انظرى يا مريم إنني أمثل بالنسبة لك صورة مشكلة : إن لي وجودا ظاهرا وليس لي وجود ظاهر في الوقت نفسه ، إن هذا التمثيل في صورة إنما يتم للحظة ، هو وجود مستعار بالنسبة لي ، إنني وجود عيني “ هلال “ ووجود ذهني “ خيال “ هذا الخيال سيظل معك ، لقد استقر في القلب ، أينما تهربين فهو معك ، لأنه وارد حق ووارد الحق يستقر ، أما وارد الباطل فإلى ذهاب وضياع ، وإذا كالصبح الصادق “ عالم الأنوار “ ذلك الذي لا يكتنفه ليل “ ظلمة الجسد ، ظلمة النفس “ إنني وجود ثابت لا أفول ولا غروب له ، هيا يا مريم : ولا تستعيذى بالله ولا تلجأى إلى الحق فمن نفس الملجأ أتيت وبمشيئته سبحانه وتعالى تمثلت لك إنما تلوذين بي منى . إنك لا تعرفيننى ( مثلما سنكتشف أن وكيل صدر جهان لم يكن يعرفه


“ 585 “
 
حق المعرفة . كان ينتظر منه القهر ولم يكن ينتظر منه اللطف ) وعدم المعرفة في الطريق إلى الله هي أكبر آفة في طريق العارف ، نحن جميعا في حمى المقربين إلى الحق دون أن نعرف ، فنحن نسمى الحزن في طريق الله حزنا وهو ليس بحزن بل سرور إن لطف الحق يظللنا كالأشجار الوارفة ، لكنه يمكن أن يكون قهرا وعذابا لمن ينكر الله ، ونحن لصوص لأننا غرباء عن عوالم الغيب ، ومن ثم فإن أشجاره الوارفة لن تكون إلا مشنقة لنا ، مثلما صار النيل دما لقوم فرعون ، إنه ماء ويعلم أنه ماء ويصيح في الناس إنه ماء ، لكن نظر قوم فرعون هو الذي تغير ، ولماذا نبتعد ونأتى بالأمثال من التاريخ : انظر إلى نفسك ! ألا يتغير أصدقاؤك إلى أعداء لك عندما تغير سلوكك معهم ! إنهم لم يتغيروا إن شحمهم ولحمهم لم يتغير ، سحناتهم لم تتغير ، نظرتنا إليهم قد تغيرت !
 
( 3791 - 3796 ) عودة إلى سياق قصة وكيل صدر جهان : اترك إذن قصة مريم ، فهي شمعة ستظل مضيئة ، وعد إلى هذا الذي يكابد حرقة العشق يمضى إلى بخارى منبع العلم والعرفان ، وكم انتسب إلى بخارى من العارفين الواصلين إلى الحق ، وليس هذا الأمر مقصورا على بخارى فأنت أمام الشيخ كأنت في بخارى فإن لم تبد الذلة ، لن يفيض عليك الشيخ بعرفانه من منبع العلم والمعرفة الموجود في قلبه . وفي البيت 3796 إشارة إلى الخبر “ طوبى لمن ذلت نفسه وطاب كسبه وحسنت سريرته وكرمت علانيته وعزل عن الناس شره “ ( استعلامى 3 / 386 )
 
( 3809 ) وطن العاشق حيث يكون المعشوق ، وهذا هو “ حب الوطن من الإيمان “ فوطن الإنسان في نظر الصوفية هو الجنة التي طرد منها ، ونفى إلى الأرض وامتدت غربته فيها وكل سعيه من أجل الوصول إليها .
 
“ 586 “
 
( 3810 - 3813 ) فيما يبدو أن مضمون الفكرة ورد في أبيات لسنائى :
وما دامت صورة خيال الحبيب معنا * فنحن في نزهة مع أنفسنا طول العمر وحيثما يكون جمال الحبيب * فوالله يكون صحن الدار منتزها وحيثما يأتي مراد القلب * فان شوكة واحدة خير من ألف من الرطب ( كليات ديوان ص 805 - ماخذ / 121 )
 
( 3823 - 3831 ) حتى في المكان الذي يكون فيه موكل ( حارس ، شرطي مطارد ) ظاهر ، فهناك موكل خفى يحركه ، وإلا فان هذا الشرطي الظاهر لا يبدي كل هذا التوحش وهذه القسوة من نفسه بل لابد أن هناك من يدفعه إليها ، ويسمى هذا الموكل الخفي “ غضب مليك العشق “ ، أي القهر الإلهى . لقد دفع القهر الإلهى هذا الموكل إلى هذا الأذى ، إنه هو الذي يأمره بضربه ولو كان يدرى أن القهر الإلهى هو الذي يحمله لجأر بالشكوى والضراعة إلى حضرة الحق طالبا منه أن يخلصه من ذلك الشيطان المرعب ( النفس ) . إننا لا نرى ذلك الأمر ، أي أن القهر الإلهى عامل باطني في أعمالنا ، لأن رؤيتنا أنفسنا عظاما تمنعنا من ذلك لأن لنا أجنحة مزيفة من نعيم الدنيا الزائل ، ولو تخلصنا منها لرأينا الحقائق الخفية ، وإلا فان طين الدنيا يجعل الأجنحة ثقيلة ويمنعها من الطيران إلى العوالم العليا .
 
( 3833 - 3847 ) إن عالمك لا يعرف العشق : تحتمل معنيين : أي أن العالم الذي تأخذ عنه كل هذه النصائح إنما يقولها من واقعة ( العقلي ) ولا علم له بعوالم
 
“ 587 “
 
العشق التي تخضع لقوانين أخرى ومعايير أخرى ، أما المعنى الآخر فهو أنك أنت نفسك الذي تدعى العلم لا تعرف عوالم العشق ، ومن ثم فحالك هذا مثل أحوال علماء الظاهر الناصحين الوعاظ الذين يعلمون ظاهرا من القول ولا علم لهم بأحوال العشق ، هؤلاء مهما كانوا في علم أبي حنيفة النعمان أو الشافعي - رضي الله عنهما - إلا أنهما هنا عاجزان وقال جلبنارلى ( 3 / 426 إن المعنى هنا مأخوذ بنصه من سنائى كما ضمن مولانا في غزلين من ديوان شمس ، ومثل هذه النقطة ركز عليها الشاعر الفارسي الشهير حافظ الشيرازي كثيرا :
امح الأوراق إن كنت رفيقا لنا في الدرس * فإن هذا العلم لا يحويه دفتر وحسنا ما قاله الحلاج على المشنقة لا تسألوا الشافعي عن أمثال هذه المسائل .
ومن ثم فان العبد العاشق يموت كل لحظة ، أي يفنى في ذات الحق ، وفي كل لحظة موت إشارة إلى مراتب الفناء في الله سبحانه وتعالى ، فناء صورة العبد في ذات الحق ، وفناء أوصاف العبد في أوصاف الحق ، وفناء وجود العبد في وجود الحق ، إن روح الهدى “ أي روح المعشوق “ ، تقتل العاشق في كل لحظة ثم تهبه الروح التي تساوى عشرة أرواح من طهرها وعظمتها واطلاعها على عوالم المعنى ، وهذا مصداق للآية الكريمةمَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها( الأنعام ) ، إن ما يسميه أهل الظاهر حياة هي في الحقيقة موت ، والخلاص من هذا الموت ، أي الحياة الحقيقية تتم ببقاء الله : إن هذا أشبه بما قاله الحلاج :
 
“ 588 “
 
اقتلونى اقتلونى يا ثقات * إن في قتلى حياة في حياةوالأبيات فيها بعض التصرف بالطبع لأن مولانا جلال الدين يبدأ في استخدام العربية عندما يستبد به الوجد . إن كل من يتحدث سواء بالعربية أو بالفارسية إنما يتحدث عن العشق ، لكن يظل كثير مما لم يقل : إن تجلى الحق مما لا يوصف ، وما يتأتى منا في وصفه شئ فإنه بالتجلي ( تضوع الرائحة ) يأخذ بالألباب ، ومن الأفضل أن نصمت ونترك وصف العشق للحق نفسه ، فهو القادر سبحانه وتعالى على وصفه ، ولكن ليس معنى أن نترك الوصف هو أن نترك العشق ، فإياك أن تصدق توبة العاشق إنه لا يزال في عشق حتى وهو يساق إلى المشنقة ، انظر إلى الحسين ابن منصور الحلاج كان يمضى نحو المشنقة وهو في القيود الثقيلة كما يساق العيارون وهو يترنم بعشق الحبيب ( رواية تذكرة الأولياء 591 ) .
 
( 3848 - 3854 ) يشير مولانا إلى قصة وكيل صدر جهان مجرد إشارة ثم يمضى إلى عوالمه ، إنه يمضى إلى بخارى لكن لا إلى بخارى التي هي منبع العلم بل إلى بخارى الخاصة به ، إلى بخارى منبع العشق ، أنه كعاشق منبت الصلة عن المدرسة والدروس ، فان معلم العاشقين هو الحق ، ودروسهم مشاهدة الحق وتجلى الحق في بواطنهم ، إنه العلم اللدني ، إنهم في الظاهر صامتون لكن درس العشق يتكرر دائما في بواطنهم ، إنهم لا يحبون دروس أهل الظاهر فهي لا توصل إلى شئ ، إن دروسهم هي آداب السماع ، وتجلى
 
“ 589 “
 
الحرقة والوجد والدوران والرقص ، ولا علاقة لهم بكتاب الزيادات في الفقه لمحمد بن الحسن الشيباني أو للإمام الغزالي ولا يتأتى التسلسل المنطقي للأبحاث والمسائل بحيث يترتب اللاحق على السابق . إن “ تسلسلهم هو الغرق في أوصاف الحق وبدلا من أن يتحدثوا عن الدائرة المنطقية يدورون حول الحبيب “ الرقص الصوفي “ ولا علاقة له بكتاب السلسلة لأبى محمد عبد الله الجويني - جلبنارلى 3 / 427 ) . أما مسألة الكيس إحدى مسائل عقاب اللص : أي أنه إذا مد يده إلى جيب أحد وأخذ كيسه وما فيها قطع أما إذا حفظ صاحب الكيس كيسه في مكان ماء وسطا عليه اللص ، فان العقوبة تكون أخف ويرى مولانا أنه لا علاقة لأهل العشق بذهب الدنيا وفضتها ، فان معرفة الحق لا تحفظ في كيس وليست قابلة للسرقة ، والخلع الطلاق بميل المرأة بحيث تتنازل عن مستحقاتها والمبارأة أن يتم الطلاق باتفاق الطرفين ، وإن تحدث أهل العشق عن الفراق فلا تقلق فإن الحديث يدور عن وصال الحبيب ( استعلامى 3 / 388 / 389 ) .
 
( 3855 - 3861 ) يفسر مولانا خروجه عن سياق الحكاية فبالرغم من أن أمواج المعاني تخرجه عن سياق الحكاية إلا أنه في هذا الأمر لا يخلو من إرادة ، إنه يرى في هذه التعليقات معنى كبيرا بحيث يتناولها ، فحتى الكلمات وظواهر الأمور لها معانيها الباطنة . ومن ثم فان تعليقاته على الحكايات هي ماهياتها وبواطنها ثم يتحدث عن بخارى كمركز للعلم الظاهري ، لقد تعلمت فيها كل هذه الدروس السابقة ، لكنك إن قهرت النفس وعرفت الحق عن طريق القلب فسوف تترك كل هذه العلوم . ( انظر تعليقات الأبيات من 3794 - 3796 ) إن وكيل صدر جهان قد عرف الشوق عن طريق القلب وهو متعلق
 
“ 590 “
 
بصدر جهان تعلقا باطنيا ، فان أية معرفة أو توقى لن تجعله يحيد عن هذا الطريق ، إنها رؤية أهل الخلوة التي لا تجعل من المعرفة وسيلة للشهرة والجاه والمقام ، ومثل هذا الشخص يكون ضائقا من علم أهل الظاهر ، ولأن الرؤية هي الغالبة ( على أسماع أهل العلم ) فالعوام متعلقون بالدنيا ، لأنهم يروها ( نقدا ) بينما يرون الآخرة ( نسيئة ) .
 
( 3862 - 3873 ) لا يزال مولانا يدور حول بخارى : إن وكيل صدر جهان ليس العاشق الوحيد لبخارى لأنها موطن عشقه ، بل لا يزال مولانا يحن إلى بخارى إحدى عواصم خراسان الكبرى مسقط رأسه “ بلخ “ والذي تركها طفلا ، ولأن المقام مقام شوق يعرج مولانا على قطعة شهيرة للرودكى :
إن حصى نهر جيحون ووعورة طريقه تبدو تحت قدمي كالحرير وإن ماء جيحون من سروره لرؤية وجه الحبيب يطف حتى يصل إلى أواسط مطايانا ( انظر جهار مقاله الترجمة العربية لعزام والخشاب ) ثم تتداعى البلاد ومعانيها سمرقند التي كالسكر ( قند تعنى السكر بالفارسية ) .
ولقد شفنى النحول يا بخارى حتى أصبحت كالهلال طلبا للبدر ، وأبحث عن الصدر ( صدر جهان أو الرجل الكامل ) وسط صف النعال ( اخر صف في المسجد حيث توضع النعال وكناية عن الناس العاديين الذين تشغلهم الدنيا ) .
وعندما يصل العاشق إلى ظاهر المدينة طفح به السرور ، لم يتحمل كل هذه المشاعر التي جاش بها قلبه ، فأغمى عليه ، وطار وعيه إلى عالم الغيب ، لكن مالك أنت وهذه الأمور ؟ إنك ( غافل عن عوالم الغيب ) ، إنك بوص
 
“ 591 “
 
( جسد بلا رحيق وبلا سكر ) إنك مأخوذ بعالم المادة غافل عن عالم المعنى ، وغافل عن المقصود بالآية الكريمةجُنُوداً لَمْ تَرَوْها *. ( التوبة / 26 ) .
 
( 3874 - 3885 ) لقد دخل العاشق دار الأمان حيث معشوقه ، إنه في غيبوبة من عالم الوصال ، لكن الناس لا يزالون يحذورنه ، سوف يكون عقابه بقدر ما كان قربه وعلمه ( ادم والله سبحانه وتعالى ) . ترى ما الذي جاء به ، وما الذي جعل الأرنب يتوقح على حضرة الأسد ، لكنه القضاء ، وسوف يتضح أن هؤلاء الذين يتحدثون إنما يتحدثون لأنهم لم يجربوا عوالم العشق .
 
( 3886 - 3902 ) يخرج مولانا عن سياق القصة كعادته ، إلا أن هذا الملمح من ملامح المثنوى يزداد في هذه الحكاية وذلك لأن العشق في حد ذاته علاقة معنوية ولا شائبة فيها من المادة ، فضلا عن أن مولانا يرى نفسه في كثير من أجزاء الحكاية ، إن وكيل صدر جهان هو أحد الطالبين الباحثين في عالم الغيب لا أكثر . . إن العاشق كالمستسقى وفي اعتقاد القدماء أن الاستسقاء كان يحدث عن نوع من “ السدة “ بحيث يجذب الماء إلى داخل الجسم ويهلك الظمأن لكن الماء هنا يرمز بالطبع إلى وصال المحبوب الذي يفنى المحبوب نفسه في سبيله وبالنسبة لهذا المستسقى ، بالرغم من أن الماء فناء له ، إلا أنه يبحث عنه ، إنه يتمنى لو كان جدول ماء ، وما جدول الماء ؟ إنه يتمنى لو سفك الروح الأمين ( أي المطلوب - المرشد الكامل - المعشوق ) دمه . لقد اختار وكيل صدر جهان “ الفناء في الشيخ “ وهو في سبيل هذا الفناء مستعد لتحمل كل البلايا ، وهكذا هو المريد عندما يغضب الشيخ . إن الشيخ “ عيد “ ، ومريديه هم “ ضحايا “ هذا العيد ،

“ 592 “


إنهم “ كالبقرة “ خلقت من أجل العيد ، وعندما تذبح في سبيل الشيخ فكأنها بقرة بني إسرائيل ( تفسير الآيات من سورة البقرة 67 - 72 ) ثماضْرِبُوهُ بِبَعْضِهالقد ضرب القتيل بذيل البقرة المذبوحة فقام حيا وأرشد عن قاتله : وهكذا يرى وكيل صدر جهان : أنه حتى إن قتل فسوف يكون قتله حياة ( القتل المادي يؤدى إلى الحياة المعنوية ) .


( 3903 - 3923 ) إن هذه هي سنة الحياة : أي أن الموت تعقبه حياة أفضل ، هي سنة الله في الكون وفي نواميسه : إن التراب بتبدل إلى نبات ويصير النبات حيوانا ، ويصيد البشر الحيوان ، وعلى هذا النسق فان وراء كل موت حياة أسمى وأرقى ، وهذه المراحل موجودة أيضا في خلق الإنسان : النطفة والجنين والوليد ، والإنسان الراشد . إن مراحل الجمادية والنامية مقدمتان لمراحل الإنسانية ، والموت عن الحيوانية ترك العلاقة النفسية - وموت الجسم إذن هو مقدمة لعالم الروح حيث يمكن أن يتدرج الإنسان إلى ما هو أعلى من الملائكية . . .
حيث يكون فناء العبد في الله سبحانه وتعالى لأن كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( القصص / 88 ) إن


- العدم هو الوجود المطلق وهو الغيب والعدم يحدثني كالأرغون حديثا كالموسيقى ، لأنه حديث لا يستطيع الكلام أن يؤديه ، فاعتبر الموت كما اعتبره الصادقون المؤمنون ظاهره مظلم لكن ماء الحياة مخفى في داخله إن أعمارنا على هذا الطرف من النهر ( الدنيا ) قصيرة كأعمار الزهور ، فألق بنفسك في الجدول كالمستسقى واغرق ومت .


وأين أنت والعشق أيها المتجمد الذي لا علم لك بعالم المعنى مهما تظاهرت بأنك عاشق .
انظر وأنت في جمودك وحزنك المصطنع ، إن العاشقين يضحون وهم فرحين .


“ 593 “


إن المرشد أمامك فأَدْلِ بدلوك وخذ من الأسرار . إن الإناء ( المريد ) عندما يوضع في الجدول “ الشيخ “ ينمحى فيه لكن هذا المحو هو عين الحياة ، لأنه لن ينقص بعدها أبدا ، وفي النهاية يتذكر مولانا صدر جهان الذي يقول : لا عودة إليه حتى ولو كانت هذه العودة هي بمثابة “ المشنقة “ لي فان هذا هو أقل اعتذار على أنني هربت منه . إن الناس يرونه ماضيا إلى النار ، لكن متى كان المرشد حتى في غضبه نارا إنه كله نور حتى كان عقاب الله غضبا إنه رحمة بالعبد ورأفة به ، إنه لا يمد إلا للظالمين الذين طردهم من رحمته وختم على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة .


( 3924 ) من هنا تمتزج حكاية وكيل صدر جهان بحكاية أخرى ، ويدخل عاشق اخر إلى الميدان ، ويبقى وكيل صدر جهان في طي النسيان حتى البيت 4380 على وجه التقريب والعاشق هنا إنما يخرج “ عشقه “ للموت بثقة في أن الجسد إن فنى فالروح باقي ، ويلقى بنفسه في طريق المخاطر بشجاعة نادرة دون أن يبالي على أي جنب في الله كان مصرعه ، وفيما يبدو أصل القصة من الحكايات الواردة في ألف ليلة وليلة “ الليالي 424 ، 425 “


وهي قصة علىّ المصري والمنزل المسكون الذي كان فيه كنز ذهبي مرصود باسمه ويقوم الجنى على حراسته ، وكان كل من يبيت فيه يوجد في الصباح ميتا حتى جاء علىّ المصري ورد على الجنى الذي يناديه في منتصف الليل وفك الطلسم وظفر بالذهب ، كما أن هناك العديد من الروايات العامية في كل مدينة حول مسجد أو دار لهما نفس هذه الصفة ، وفي الروايات العامية الإيرانية السائدة في طهران أن المسجد المذكور في الحكاية هنا هو مسجد “ ما شاء الله “ الواقع في شمال ابن


“ 594 “

بابويه ، كما يقص أهل كرمان نفس الحكايات عن مسجد “ كنج “ بالقرب من حي بامنار في كرمان ، ( ماخذ 122 / 123 ) .


( 3935 - 3939 ) لو فرض أن جسدي قد فنى ، إن هذا الجسد لا يساوى شيئا إنه كحبة واحدة من كنز الروح ، وإن ذهب الجسد وهو صورة فليست الصورة بذات قيمة ، بل إن الصور تتبدل إلى ما هو أفضل ما دامت الروح باقية ، وما دامت نفخة من الإله مصداقا لقوله تعالىوَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي *فمن الممكن لهذه النفخة أن تخرج من الجسد وتتحرر ، وحتى تخرج جوهرة الروح من صدف الجسد ، وإذا كان تمنى الموت هو علامة الصدق مصداقا لقوله تعالى : قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( الجمعة / 6 - 8 ) فاننى أقدم روحي قربانا خالصا له سبحانه وتعالى .

( 3945 ) إشارة إلى حديث يروى عن النبي ) “ الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم “ وانظر تعليقات البيت 140 من نفس الكتاب ( استعلامى 3 / 393 ) .


( 3949 - 3961 ) المقصود هنا : أنه عاطل ومشرد فيما يتصل بأمور الدنيا أو فيما يتصل بالحياة المادية ولا مبال بهما وهذا يساعد في السير المعنوي ، أي أنه ليس من أهل العافية وإيثار السلامة بل إني أحب أن تأتيني


“ 595 “

الجراح من هذه الدنيا ، إنني عاطل كسول مشرد عن هذه الدنيا ، لكني جلد وسريع إذ أعبر جسرها وأصل إلى عالم الغيب ، إنني أطير عن عالم المادة لكي أوصل نفسي سريعا إلى أصل الوجود ومبدئه ، فالروح في الجسد كالطائر في القفص فعندما يرى الطيور من حوله سعيدة في البستان يضيق بهذا القفص ، فهو فيها وليس فيها ، لكنه عندما يرى قطا يحوم حول القفص “ العقاب الإلهى “ لا يرغب في الخروج من هذه القفص ، وهكذا من يخشى عقاب الله ، لا يرجو لقاءه بل يتمنى أن تزداد الأقفاص حوله ، وما هذا بمنجيه .

( 3962 - 3976 ) إن مثل هذا الطائر الحبيس في القفص الذي يرى القطط خارجة كمثل جالينوس ذلك الذي يضرب به في العلم الدنيوي والمادي المثل لكنه فيما يتصل بالعلم الإلهى لا يقل عن العوام ، والدليل على ذلك أنه كان متعلقا بالحياة الدنيا إلى درجة أنه كان يفضل رؤيتها من “ فرج بغل “ ، عن مغادرتها بالموت ، والعبارات واردة في مقالات شمس تبريزى ( عن : ماخذ ص 123 ) ، 


وبعد أن يسوق مولانا هذه الحكاية يعود إلى مضمون البيت 3959 ، ويعتبره من أهل الدنيا الذين لا يريدون مغادرتها خوفا من العذاب . 

إن جالينوس لم يعرف شيئا عن ماهية الحياة بعد الموت - فهو كالجنين في رحم الأم ( انظر تعليق الأبيات 53 وما بعدها ) ، ثم يقول مولانا إن الفرق بين الأنبياء والناس العاديين هو أنهم يرون بستان عالم الغيب عند مغادرة الدنيا ولا خوف لديهم من موت الجسم .

( 3977 - 3994 ) ويشك مولانا في أن يكون جالينوس هو قائل هذا القول ذلك أنه من المستبعد أن يتعلق من هو في حكمه جالينوس بالدنيا كل هذا


“ 596 “

التعلق ، وسواء كان هو القائل أو سواه ، فإن قائل هذه العبارة لم ينور باطنه بنور المعرفة الربانية ، إن روحه كالفأر عندما يرى القطط ( عوامل القهر الإلهى ) يفر إلى جحر ويصير هذا الجحر عالمه ودنياه يبنيه ويأخذ من العلم ما هو جدير به ، ويظل قائلا للدنيا : هل من مزيد و “ إنه لا يصل حتى إلى الفأر “ إن مثل أهل الدنيا كالعنكبوت ومثل أهل الحق كالعنقاء ومَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِولكنه مهما فر في جحره فان القطة تمد مخلبها داخل القفص وعوامل القهر الإلهى كثيرة إذ ان رجل الدنيا غالبا ما تصيبه الأمراض والعلل التي هي مخالب الموت من قبل الألم والدوار والمغص ، فالموت قادم إليه لا محالة إذ لا مهرب منه ولا مفر . 


إن حكمه ماض في الناس جميعا ، والمرض هو الشاهد هو رسول هذا القاضي ، صاحب الحكم النافذ ، والمرء إنما يبحث في الدواء والعلاج عن مهلة أمام هذا القاضي ، إنه هروب من رسول القاضي ، ورتق تلك الخرقة المهلهلة المسماة بالجسد ، وليس من رتق إلا التوبة فقلل من الانشغال بالدنيا ( سوق الجواد في الظلمة ) فرسول القاضي يستحثك على هذا .


( 4001 - 4013 ) إن الأسد هو الذي يستطيع أن ينازل القضاء ، ومن هو الأسد ؟ ! إنه أبدال الحق الذي تبدل وجوده لأنه يعتمد على قدرة الحق اللامتناهية وهو الذي يهزم الموت ( حياته دائمة لأنه ينتقل من دار إلى دار ومصداقا للحديث المنسوب إلى النبي - ، - إلا أن أولياء الله لا يموتون بل ينتقلون من دار إلى دار ) ، لقد خلصه الله من سجن الدنيا وحتى الخل يصير خمرا له ( عندما


“ 597 “

يشرب الولي السم يصير له عسلا 2615 من من الكتاب الأول ) ، لكن أولئك الذين ليسوا من رجال الحق يظنون أنفسهم صيادى أسود وهم فريسة لها وفي مقابل رجال الحق هناك المنافقون وعلامتهم أنبَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى( الحشر / 14 )


إنهم فرسان المقال يتنفجون فيما بينهم ، يفخرون شعرا ويقعقعون لفظا ، لكنهم عندما تقع الحرب يظلون كالنساء في البيوت “ أو يولون العدو الأدبار “ ؟ مع أن الرسول ، ذلك القائد المغوار قال إنه لا شجاعة قبل الحروب وقد أخذ جلال الدين مضمون فحواه ، “ لا تعرف ثلاثة إلا عند ثلاثة : الحليم عند الغضب والشجاع عند الحرب والأخ عند الحاجة إليه “ وهو منسوب في إحياء علوم الدين والرسالة القشيرية إلى لقمان الحكيم ( استعلامى 3 / 396 ) .

ومثل هؤلاء كالباحث عن الصفاء في عشق الحق ، لكنه يفر من الظروف التي تمنحه هذا الصفاء ، يفر من الامتحان الذي ينقيه ومن البلاء الذي يصهره وعندما يريد الموت أو الفناء الدليل فقدمه ، وقبل الحية ، أي اقبل كل خطر في هذا الطريق حتى تصل إلى كنز معرفة الحق ( في المأثور الفارسي كل كنز تحرسه حية ولا يظفر بالكنز إلا من يقتلها ) .

( 4014 - 4038 ) يقدم مولانا الصور تلو الصور ، لكي يصل إلى معنى عام هو : أن الآلام في طريق العشق ليست إيذاء لروح العاشق ، إنها أذى وقمع للصفات الموجودة في نفس العاشق والتي تبعده عن العشق ، وأولى بهذا التأديب أولئك الذين حادوا عن طريق الرجال ( الجهاد في الطريق ) إن هؤلاء عار على الطريق ، إياك أيها السالك أن تمضى معهم فأولئك الذين نزلت فيهم الآية الكريمة


“ 598 “


لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا( التوبة / 47 ) إن هذا الرفيق الضعيف الواهن يذهب شجاعة الأبطال ويفل عزم الرجال ، فالرجال مهما كانوا في قلة ( والكرام قليل ) أفضل من أن يكونوا في كثرة مع أولئك النفر ، فلا طريق لخائف جبان ، فالخائف الجبان لا يعرف له طريقا حقا إنما يبذل في سبيل الطريق من هو عالم بنهايته ( وما نهايته إلا الحياة ) ليس كالمجوسي الذي جعل الدنيا كل همه ومبلغ علمه . 


إنني لا زلت أوصيك : إذا أردت القتال فاطلبه من الرجال ، وإذا أردت الصيد فاستخدم العقاب لا الطاووس مهما أعجبك ريش الطاووس ، ومن هنا تتخلص من الطبع ( النفس والهوى ) فإنهما يضلانك كما يغويك ريش الطاووس .

.
* * *

الهوامش والشروح 3568 - 4037 لعلى منتدى إتقوا الله ويعلمكم الله

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: