الأربعاء، 26 أغسطس 2020

05 - تشبيه فرعون وادعائه الألوهية بابن آوى .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

05 - تشبيه فرعون وادعائه الألوهية بابن آوى .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

تشبيه فرعون وادعائه الألوهية بابن آوى .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا 


مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

تشبيه فرعون وادعائه الألوهية بابن آوى
الذي ادعى الطاووسية

- إن ذلك يشبه أمر فرعون الذي رصع لحيته ، وادعي من حماريته أنه فوق منزلة عيسى .
- كان هو بدوره قد ولد من أنثي ابن اوي ، وسقط في دن المال والجاه .
 
780 - وكل من رأي ماله وجاهه سجد ، وخدع هو بسجود من انخدعوا فيه .
- ومن سجود الخلق وانبهارهم به ، انتشي ذلك الشحاذ مهلهل الثياب .
- فالمال حية ذلك أن السم كامن فيه ، وقبول الخلق وسجودهم أفاعي .
- فحذار يا فرعون لا تته كبرياء ، أنت ابن اوي فلا تدع أنك طاووس .
- ولو أنك ظهرت بين الطواويس ، لعجزت عن التجلي ولا فتضحت .
 
785 - كان موسي وهارون كالطواويس ، فضرباك علي رأسك ووجهك بجناح التجلي .
- فظهر قبحك وافتضاحك ، وسقطت منقلبا من عليائك .
- وعندما تعرضت للمحك ، أسود لونك كالذهب المغشوش ، وانمحت صورة الأسد وظهر تحتها كلب .
- فيأيها الكلب الأجرب القبيح من الحرص والإلحاح ، لا تضع علي نفسك إهاب الأسد .
- فإن زئير الأسد يطلبك للامتحان ، اثم صورة أسد وأخلاق الكلاب ؟ “ 1 “ .
..............................................................
( 1 ) ج / 6 - 437 : - ويا أبين أوى عديم الجمال والفضل ، لا تظن قط أنك طاووس 
- وإلا يمتحنك الطواويس ، وتبقى ذليلا فاقد الرواء في الدنيا .
 
“ 88 “
 
تفسير “ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ “
 
790 - قال الله تعالى للنبي في الكتاب الكريم ، إن هناك علامة “ تستطيع أن تميزها “ بسهولة عند أهل النفاق .
- ومهما كان المنافق ضخم “ المظهر “ ذكيا ، فإنك تعرفه في لحن القول .
- إنك عندما تشتري انية فخارية ، تقوم باختبارها أيها المشتري .
- فلماذا تربت علي هذه الآنية بيديك ؟ هذا لكي تعرف “ الآنية “ المكسورة من طنينها .
- فصوت الآنية المكسورة يكون مختلفا ، والصوت حارس يتقدمها .
 
795 - يصدر الصوت بحيث ينبيء عنها ، كما “ ينبيء “ الفعل عن حالة صرفه .
- وعندما عرض حديث الامتحان ، تذكرت قصة هاروت وماروت .
 
قصة هاروت وماروت وجرأتهما على امتحان الحق تعالي
 
- فيما سلف كنا قد ذكرنا جزءا يسيرا منها ، وماذا “ يمكن “ أن نقول نحن ؟ جزءا من آلاف الأجزاء .
- وكنت قد أردت أن أذكرها ببعض التفصيلات ، لكن الأمر تعطل ، “ عطلته “ معوقات . “ 1 “ .
- فهاك مرة أخري قليل من كثيرها ، إن ما يقال هو شرح عضو من أعضاء الفيل .
 
800 - فاستمع إلي هاروت وماروت ، يا من نحن عبيد وغلمان لوجهك .
- كانا ثملين من النظر إلي الإله ، ومن عجائب استدراج المليك .
- وهذا القدر من السكر من استدراج الحق ، فأية ألوان من السكر يقوم بها معراج الحق ؟
..............................................................
( 1 ) ج / 6 - 444 : وسق أذن القلب لحظة واحدة هذا الصوب ، حتى أحدثك عن أسرار الحبيب .
 
“ 89 “
 
- فالحبة في شراكه تبدي مثل هذا السكر ، فأية حبوب تفتقها مائدة إنعامه ؟
- كانا ثملين متخلصين من الوهق ، يطلقان صيحات الوجد بعشق .
 
805 - وكان هناك كمين وامتحان في الطريق ، ريحه الصرصر كانت تختطف الجبل وكأنه القشة .
- وكان يقلبهما في الامتحان ظهرا لبطن ، فمتي يكون عند الثمل علم بهذا ؟
- فالخندق والميدان عنده سيان ، والبئر والخندق أمامه طريق ممهد .
- وذلك الماعز الجبلي فوق ذلك الجبل السامق ، يسعي في أثر طعامه بلا أذي .
- وبينما هو يجمع عشبه يري فجأة ، لعبة أخري من حكم السماء .
 
810 - إنه يلقي نظرة علي جبل اخر ، فيري ما عزا أخري علي ذلك الجبل الآخر
- وتلك الآلاف من الأذرع يبديها له القضاء ذراعين ، حتى يظهر عنده الميل إلي القفز من سكره .
- ويبديها له “ القضاء “ قريبة ، وكأنه يطوف حول بالوعة الدار .
- ويغشي بصره في لحظة واحدة ، ويقفز ثمل الرأس من هذا الجبل إلي الجبل الآخر .
- وعندما يقفز يسقط بين الجبلين دون حذر .
 
815 - لقد هرب من الصيادين إلي قمة الجبل ، وملجؤه هذا هو نفسه الذي سفك دمه .
- إذ كمن الصيادون بين الجبلين ، في انتظار هذا القضاء العظيم .
- وأغلب صيد الماعز يكون علي هذا النسق، وإلا فهو جلد سريع عالم “بخصمه” .
- ورستم وإن كان ذا رأس وشوارب ، فإن الفخ الذي يجر قدمه هو الشهوة يقينا .
 
“ 90 “
 
- فاقلع عن سكر الشهوة مثلما فعلت ، وانظر إلي سكر الشهوة في البعير .
 
820 - ثم إن سكر الشهوة في الدنيا ، اعلم أنه بالنسبة لسكر الملك شيء هين .
- فإن هذا السكر يقضي علي ذاك السكر ، فمتي يلتفت “ الملك “ إلي الشهوة ؟
- وما لم تشرب الماء العذب فإن الماء المالح يكون حلوا كأنه النور داخل العين .
- وقطرة واحدة من خمور السماء ، تسلب الروح من الخمر ومن السكاري .
- فما بالك بسكر الملائكة ، “ وسكر “ الأرواح الطاهرة من الجلالة .
 
825 - فهم برائحة واحدة قد تعلقوا بقلوبهم بتلك الخمر ، وحطموا دنان خمور هذه الدنيا .
- اللهم إلا هؤلاء البائسين المبعدين ، مثل الكفار المعذبين في القبور .
- صاروا في قنوط من كلا العالمين ، وغرسوا أشواكا لا نهاية لها .
- فقالا من ألوان السكروا أسفاه ، لو نزلنا علي الأرض لفعلنا بها فعل الغيث .
- وبسطنا العدل والإنصاف والعبادات والوفاء في هذا المكان الظالم .
 
830 - قالا هذا ، وكان القضاء يقول لهما : قفا ، فإمام أقدامكم كثير من الفخاخ الخفية .
- حذار ، وأياك أن تسرع جريا في صحراء البلاء ، حذار ، وإياك وأن تعدو بعمي في كربلاء .
- فمن شعور الهالكين وعظامهم ، لا تجد أقدام السالكين طريقا .
- فالطريق كله شعور وعظام وعروق ، وما أكثر الأشياء التي أبادها سيف القهر .
 
“ 91 “
 
- ولقد قال الحق : إن العبيد المقرونين بالعون ، يسيرون علي الأرض ببطء وهون .
 
835 - وكيف يسير “ المرء “ حافيا في مزرعة الشوك إلا بتمعن وفكر وخشية ؟
- كان القضاء يحدثهما عن هذه الأمور لكن أذانهم كانت مغلقة في حجاب وجدهما .
- لقد أغلقوا جميعا العيون والآذان ، اللهم إلا أولئك الذين تخلصوا من أنفسهم .
- وما الذي يفتح العيون إلا العناية ؟ : وماذا يطفئ الغضب إلا المحبة ؟ “ 1 “ .
- فلا كان لأحد في الدنيا جهد بلا توفيق ، والله أعلم بالسداد .
 
قصة رؤيا فرعون موسى عليه السلام
وتدبره في تدارك هذا الأمر
 
840 - لما كان جهد فرعون بلا توفيق ، فإن كل ما يرتقه كان فتقا .
- كان تحت حكمه الآلاف من المنجمين ، ومثلهم من مفسري الأحلام والسحرة .
- وقد رأي مقدم موسي في نومه ، علي أنه هو الذي سوف يحطم فرعون وملكه .
- وتباحث مع مفسري الأحلام والمنجمين ، في كيفية دفع هذا الخيال والحلم والمشئوم .
- قالوا جميعا : فلنتدبر أمرنا ولنقطع طريق الميلاد كما يفعل قطاع الطرق .
 
845 - حتى جاءت تلك الليلة التي هي ليلة الحمل “ 2 “ وهكذا رأي أتباع فرعون .
..............................................................
( 1 ) ج / 6 - 450 : فالجهد الذي بلا توفيق نزع للروح ، أقل من حبة ذرة وإن كان بيدرا .
( 2 ) في النص الميلاد والسياق يفرض أنها ليلة الحمل .
 
“ 92 “
 
- أن ينقلوا في ذلك اليوم ومنذ الفجر ، عرش الملك ومجلسه نحو الميدان .
- منادين : هلموا يا بني إسرائيل جميعا ، إن الملك يدعوكم إلي ذلك المكان .
- حتى يسفر لكم عن وجهه دون نقاب ، ويحسن إليكم جلبا للثواب .
- فلم يكن لهؤلاء الأسري من نصيب إلا الإبعاد ، ولم يكن مسموحا لهم برؤية فرعون .
 
850 - ولو كان يصادفهم في الطريق ، كانوا طبقا لذلك اللقانون ينكبون علي وجوههم .
- كان القانون هو ألا يري أحد من الأسري وجه فرعون ذاك في وقت أو في غير وقت .
- وعندما كانوا يسمعون أصوات الحراس في الطريق ، كانوا يستديرون إلي الجدران كيلا يروا وجهه .
- ومن يري وجهه يكون مجرما ، ويحيق به أشد أنواع العقاب .
- فكانوا حريصين علي هذا اللقاء الممتنع ، لأن الإنسان حريص علي ما منع .
دعوة بني إسرائيل إلى الميدان من أجل الإقبال لمنع ولادة موسى عليه السلام “ 1 “
 
855 - أيها الأسري ، أسرعوا نحو الميدان ، فالأمل في رؤية الملك وفي نيل جوده .
- وعندما سمع بنو إسرائيل البشري كانوا ظمأي في شدة الشوق “ 2 “ .
- فانطلت عليهم الحيلة وأسرعوا نحو ذلك المكان ، وأعدوا أنفسهم من أجل الجلوة “ 3 “ .
..............................................................
( 1 ) ج / 6 - 642 : أخذ مناد يطوف بالأحياء ، يصبح حيا بعد حي مروراً .
( 2 ) ج / 6 - 462 : سروا كثيرا من الخير ، واتخذوا طريقهم في التو إلى الميدان .
( 3 ) ج / 6 - 463 : حتى يذهبوا ويروا وجه ، ويعرفوا ما تأثير رؤته 
- كانوا غافلين عن الأمر أغبياء ، وخرجوا جميعا من طمعهم .
 
“ 93 “
حكاية
 
- وهذا يشبه ما فعله مغولي هنا محتال ، إذ قال : إنني أبحث عن شخص من المصريين .
- اجمعوا المصريين هذه الناحية ، حتى أعثر علي من أريد .
 
860 - وكان يقول عندما يأتي أحد : لا ليس هذا أدخل أيها السيد واجلس في هذا الركن .
- حتى تجمع الجميع بهذا الأسلوب ، فقطعوا رقابهم جميعا بهذه الحيلة .
- إنهم من شؤمهم ما كانوا يلبون داعي الله ، لو أن الأذان يدعوهم ليتضرعوا في الصلاة .
- ومع ذلك فقد أثرت الدعوة الماكرة فيهم ، وحذار من مكر الشيطان أيها الرشيد .
- فاستمع إلي أصوات الفقراء والمحتاجين ، حتى لا يأخذ صوت محتال بأذنيك .
 
865 - فإذا كان الشحاذون طامعين في طبعهم السوء ، فابحث في الشرهين عن صاحب قلب .
- وفي قاع البحر توجد الحجارة مع الدر ، وألوان الفخر موجودة بين ألوان العار .
- ومنذ الفجر تحرك بنو إسرائيل مسرعين نحو الميدان .
- وعندما حملهم إلي الميدان بالحيلة ، كشف لهم عن وجهه وهش لهم وبش .
- وأبدي لهم التعاطف ووهبهم العطايا ، وبذل ذلك الملك الهبات والوعود .
 
870 - ثم قال لهم : إن كنتم حريصين علي أرواحكم ، ناموا جمعيا في الميدان هذه الليلة .
- فأجابوه : سمعا وطاعة ، وإن أردت ، نبقي هنا شهرا .


“ 94 “
 
عودة فرعون من الميدان إلى المدينة فرحا بتفريقه بين بني إسرائيل
 ونسائهم ليلة الحمل المرتقب
 
- وفي الليل عاد الملك قائلا “ لنفسه “ : الليلة هي ليلة الحمل المرتقب وهم بعيدون عن نسائهم .
- وكان خازنه عمران في خدمته ، وجاء إلى المدينة أيضا في صحبته .
- فقال له : يا عمران نم على هذا الباب ، وإياك أن تمضى إلى زوجتك أو تطلب وصلها .
 
875 - قال له : لأنم في بلاطك هذا ، ولا . فكر في شئ إلا في رضاك .
- كان عمران من بني إسرائيل ، ولكنه كان قلبا لفرعون وروحا .
- فمتى كان يجول في فكر فرعون أن يعصاه، ويفعل ما كان فرعون يخافه أشد الخوف “1“


جماع عمران مع أم موسى وحمل أم موسى عليه السلام
 
- ذهب الملك ، ونام عمران علي ذلك الباب ، وفي منتصف الليل جاءت زوجته لرؤيته .
- وسقطت المرأة عليه وقبلت شفتيه ، وأيقظته من نومه في ليلته تلك .
 
880 - فاستيقظ ورأي المرأة جميلة ، فأمطر بشفتيه شفتيها بالقبل .
- وسألها عمران : كيف أتيت في هذا الوقت من الليل ؟ فأجابت : من الشوق ومن قضاء اللّه .
..............................................................
( 1 ) ج / 6 - 466 : كان مطمئنا إلى عمران وإلى أحواله ، لكن هذا في حد ذاته كان جزاءه 
- ومتى كان يجول في خاطر فرعون ، أن قدره كقدر عاد ثمود ؟ ! .
 
“ 95 “
 
- فضمها الرجل إلي أحضانه حبا ، ولم يقاوم نفسه في تلك اللحظة .
- فجامعها وأودع الأمانة ، ثم قال ، أيتها المرأة ليس هذا بالأمر الهين .
- تصادم حديد مع حجر فولد نارا ، “ ولد “ نارا منتقمة من فرعون وملكه .
 
885 - فأنا السحاب وأنت الأرض وموسي البنات ، والحق هو ملك الشطرنج ونحن قطع ميتة فيه .
- واعلمي أن الخسارة والكسب من المليك أيتها العروس ، ولا تعديها منا ولا تخدعينا .
- وما كان فرعون يخشاه قد وقع بالفعل في تلك اللحظة التي صرت فيها زوجا لك .
 
وصية عمران لزوجته بعد الجماع
بأن تعتبر نفسها لم تره
 
- إياك أن تفضي هذا الأمر لأحد أو تنبسي عنه ببنت شفة ، حتى لا يصيبني ويصيبك مائة حزن .
- فسوف تبدو في النهاية اثار هذا الأمر ، عندما يحين حين الأمارات أيتها المحبوبة .
 
890 - وفي نفس الوقت ، ومن ناحية الميدان ، كانت صيحات الخلق تملأ الفضاء وتصل إليهما .
- وخوفا من تلك الأصوات قفز فرعون في تلك اللحظة حافيا صائحا : أي ضجيج هذا . . . حذار .
- أي صوت هذا من ناحية الميدان وأي ضجيج يهلع الجني والشيطان خوفا منه .
 
 
“ 96 “
 
- فقال عمران : أطال الله عمر مليكنا ، وإن بني إسرائيل مسرورون منك .
- إنهم في مرح وسعادة من عطاء الملك ، فهم يرقصون ويصفقون .
 
895 - قال فرعون : ربما يكون الأمر هكذا ، لكن الوهم والفكر قد ملآني تماما
 
خوف فرعون من ذلك الصوت
 
- “ قال فرعون “ : إن هذا الصوت قد غير روحي ، وشيبني من الحزن والهم المرير .
- وأخذ يروح ويجيء طوال الليل كالحامل عندما يأيتها المخاض .
- وكان كل لحظة يقول : يا عمران ، إن هذه الأصوات قد اقتلعتني بشدة من مكاني .
- ولم تكن لدي عمران المسكين الجرأة لكي يقص عليه أمر مضاجعته لامرأته .
 
900 - وإن امرأة عمران قد دبت علي عمران حتى يظهر نجم موسي .
- وكل رسول توضع نطفته في الرحم ، يظهر نجمه علي الفلك .
 
ظهور نجم موسى عليه السلام في السماء
وصياح المنجمين في الميدان
 
- ظهرت نجمته تلك في السماء ، برغم فرعون ومكره واحتياله .
- طلع النهار فقال له : يا عمران اذهب وتحر عن هذا الضجيج والصياح .
- فأسرع عمران إلي الميدان وسأل : ماذا كان ذلك الصياح ؟ إن الملك لم ينم .
 
905 - كان كل منجم عاري الرأس ممزق الثياب يهيل التراب علي رأسه كأصحاب العزاء .
- كانت أصواتهم كمن هم في مأتم مخنوقة من صراخهم ونحيبهم .
 
“ 97 “
 
- كانوا قد اقتلعوا شعورهم ولحيهم وخمشوا وجوهم وأهالوا التراب علي رؤوسهم وعيونهم ملأي بالدم .
- فقال : خيرا ، وما هذا الضجيج والعجيج ؟ ، إن سنة النحس تبدو من أماراتها السيئة .
- فاعتذروا قائلين : أيها الأمير ، إن يد تقديره قد جعلتنا أساري .
 
910 - ومع كل ما فعلناه لم يوات الحظ ، ووجد عدو الملك وانتصر .
- والليلة ظهرت نجمة ذلك الطفل عيانا علي جبين السماء بالرغم من أنوفنا .
- ظهر نجم ذلك النبي علي السماء ، أما نحن فصرنا نمطر الأنجم من عيوننا بكاء .
- وتقلب عمران سعيداً مسروراً لكن من النفاق أخذ يلطم وجهة صائحا : اه . . الفراق .
- وأبدي عمران نفسه مستشيط الغضب عبوسا ومضى كالمجانين بلا عقل أو وعي .
 
915 - وتجاهل الأمر “ الذي يدريه “ وانطلق في أقوال خشنة غليظة يصبها علي الجميع .
- تظاهر بالعبوس والحزن ، وأخذ يقول ما يخالف باطنه “ 1 “ .
- وقال لهم : هل خدعتم مليكي ؟ . . . ألم تمكروا طمعا وخيانة ؟
- وسقتم الملك نحو الميدان ، وأذهبتم ماء وجه مليكنا .
- لقد وضعتم أيديكم علي صدوركم ضامنين قائلين : إننا سوف نجعل مليكنا فارغا من الأحزان .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : لعب زهرات النرد بشكل مقلوب .
 
“ 98 “
 
920 - وسمع الملك فقال : أيها الخونة ، لأصلبنكم جميعا بلا إمهال .
- لقد جعلت من نفسي أضحوكة ، وخسرت أموالي و “ أنفقتها “ علي الأعداء .
- حتى ابتعد بنو إسرائيل جميعاً عن نسائهم تلك الليلة .
- وضاع المال ، والكرامة ، ولم يتم الأمر ، أهذا هو العون وأفعال الكرام ؟
- ولسنوات وأنتم تأخذون الأرزاق والخلع ، وتنهبون الممالك وهي مسلمة لكم .
 
925 - وهكذا كان رأيكم ، والعلم ، والنجوم ، وأنتم أكلون بالمجان مكرة مشئومون .
- لأشنقنكم ولأضرمن فيكم النيران ، ولأقطعن أنوفكم وأذانكم وشفاهكم
- ولأجعلن منكم حطبا للنيران ، ولأجعلن سروركم السالف مرارة عليكم
- فسجدوا قائلين : أيها المليك ، إذا كان الشيطان قد تغلب علينا مرة واحدة .
- فقد قمنا لسنوات بدفع البلاء ، والأفهام حائرة من ذلك الذي قمنا به .
 
930 - لقد سبق السيف العذل “ 1 “ وحدث الحمل به ، وقفزت نطفته واستقرت في الرحم .
- لكن علي سبيل التعويض لهذا الأمر ، فلنتدارك يوم الميلاد أيها الملك وأيها العظيم .
- فلنترصد يوم ميلاده ، حتى لا يفوتنا ، ولا يظهر هذا القضاء .
- وإذا لم نتداركه اقتلنا ، يا من تكون الأفكار والعقل خدما لرأيك .
- ولتسعة أشهر ظل يعد الأيام يوماً بيوم ، حتى لا ينطلق السهم المهلك للخصوم .
 
935 - وكل من يغير علي القضاء بليل ، ينقلب ويأكل من دمه “ 2 “ .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : لقد فات الأمر .
( 2 ) ج / 6 - 474 : عندما يغير المكان علي الامكان ، فإنه يفسك دم نفسه ويوقع نفسه في البلايا .
 
“ 99 “
 
- وعندما تجعل الأرض من نفسها خصما للسماء ، تفور وتسرع نحو الموت .
- وعندما يجادل النقش النقاش ، فإنما يقتلع عبثا لحيته وشاربه .
 
دعوة فرعون للنسوة حديثات الوضع إلى الميدان مكراً
 
- وبعد تسعة أشهر أخرج الملك العرش إلي الميدان وأمر بأن ينادي ويكرر النداء .
- “ أيتها النسوة ، أقبلن إلي الميدان مع أطفالكن الصغار ، واخرجوا يا بني إسرائيل كافة .
 
940 - وكما حدث من الرجال السنة الماضية ، وأخذوا الخلع ونال كل منهم الذهب .
- هيا أيتها النسوة فالإقبال لكن هذا العام ، حتى تجد كل منكن ما تتمني .
- سوف يخلع علي النساء الخلع ويصلهن ، ويضع علي رؤوس الأطفال القلانس الذهبية .
- وعلي كل من وضعت هذا الشهر أن تأتي لتأخذ الكنوز من الملك المكين .
- فخرجت النسوة مع الأطفال الصغار ، وجئن سعيدات حتى خيمة الملك .
 
945 - وخرجت كل امرأة وضعت حديثا من المدينة ، نحو الميدان غافلة عن المكر والقهر .
- وعندما تجمع النسوة جميعهن ، أخذوا كل مولود ذكر من أمه .
- وقطعوا رأسه قائلين : إن هذا من الحيطة ، حتى لا ينمو الخصم ولا يزيد التخبط .

“ 100 “
 
مولد موسى ومجىء العسس إلى منزل عمران والوحي إلى أم موسى
بأن تلقى به في النار
 
- كانت امرأة عمران التي حملت في موسي قد ابتعدت عن كل هذه الضجة والمعمعة .
- فأرسل هذا الماكر الخبيث الحواضن إلي البيوت من أجل التجسس .
 
950 - فنقلن إليه أن هناك طفلا ، ولم تأت به أمه إلي الميدان من خوفها وشكها .
- ففي حارة كذا امرأة حسناء لديها طفل لكنها شديدة الذكاء .
- وجاءها العسس لكنها ألقت بالطفل في التنور بأمر من الله .
- هكذا أوحي إلي هذا المرأة حتى تصبح علي علم أن هذا الوليد من نسل الخليل .
- ولديه عصمة أمره تعالي” يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً “، فلا تكون النار عليه حراً شارداً .
 
955 - فألقت به المرأة في النيران ، ولم تؤثر النار علي بدن موسي .
- وعاد العسس خائبين عن ذلك المكان ، لكن الجواسيس الذين علموا بالأمر .
- أخبروا العسس بما حدث أمام فرعون من أجل بضعة دوانق .
- فقال لهم : عودوا أيها العسس إلي ذلك المكان ، وفتشوا جيداً في الغرف .الوحي إلى أم موسى بأن تلقى موسى في اليم
- ثم جاءها الوحي أن ألقيه في اليم ، وكوني راجية في الله ولا تمزقي شعرك .
 
“ 101 “
 
960 - ألقيه في النيل وثقى في الله ، وسوف أجعلك تلتقين به عزيزا وضاء “ 1 “ .
- وهذا الكلام لا نهاية له ، فإن مكر فرعون كان كله يلتف حول ساقيه وقدميه .
- كان يقتل ألاف الأطفال في الخارج ، وموسي في الداخل متصدرا الدار .
- ومن جنونه كان يقتل كل “ 2 “ طفل حيثما يكون ، من احتياله ، ذلك الأعمي حاد البصر .
- كان كالأفاعي مكر فرعون العنود ، ابتلعت مكر كل ملوك الدنيا .
 
965 - لكن ظهر من هو أكثر “ فرعونية “ منه ، ابتلعه وابتلع كل مكره .
- كان أفعي وصارت العصا أفعي ، وأكلت هذه الأفعي تلك الأفاعي بتوفيق من لله .
- ويد تصير أعلي من يد . . . إلي أين ؟ إلي الله إذ إن إليه المنتهي ،
- فإن ذلك البحر الذي بلا غور ولا شاطىء ، تكون كل البحار أمامه كالسيل
- وإذا كانت الحيل وأنواع المكر أفاعي ، فهي كلها أمام “إلا لله” كأنها كلمة "لا"  .
 
970 - وعندما وصل بياني إلي هذا الحد طأطأ رأسه وانمحي والله أعلم بالرشاد .
- وكل ما هو في فرعون موجود فيك أنت ، لكن أفاعيك حبيسة جب .
- وا أسفاه ، فإن أحوالك كلها سوف تضعها علي كاهل فرعون ذاك “ 3 “ .
- فلو تحدثوا عنك سوف يتولد لديك الخوف ، ولو تحدثوا عن اخر سوف
..............................................................
( 1 ) ج / 6 - 487 : فألقت به أمه في النيل ، وسلمت أمرها إلي نعم الوكيل .
( 2 ) في النص : جنين .
( 3 ) ج / 6 - 487 - وكل ما قلتة هو أحوالك ، بل أنني لم أقل واحداً في المائة مما هي عليه .
 
“ 102 “
 
يبدو لك الأمر وكأنه أسطورة .
- وكم تقوم بالتخريب داخلك هذه النفس اللعينة ، ويلقي بك هذا القرين بعيدا جداً .
 
975 - وليس لنارك حطب فرعون ، وإلا لصارت مثل فرعون ناشرة للهب “ 1 “ .
 
حكاية صياد الحيات الذي ظن أن الأفعى المتجمدة ميتة
وربطها بالحبال وأحضرها إلى بغداد
 
- استمع إلي حكاية من راوي التاريخ ، حتى تعرف نذرا يسيراً من هذا السر الخفي .
- ذهب صياد الحيات إلي مكان جبلي ، لكي يصيد الحيات بتعاويذه .
- وإن يكن بطيء الخطا أو سريعها ، فإن من جد وجد .
- فاسع في الطلب دائما بكلتا يديك ، فإن الطلب في الطريق هو خير دليل .
 
980 - حتى ولو كنت أعرج معوجا مائل الشكل بلا أدب ، أسع نحوه دائما وداوم علي طلبه .
- حينا بالقول وحينا بالصمت وحينا بالشم ، تنسم رائحة المليك من كل صوب .
- وهكذا قال يعقوب لأولاده : تحسسوا عن يوسف بما يزيد عن الحد .
- وليعمل كل منكم حسه في هذا الأمر بجد ، وليكن علي كل ناحية في شكل مستعد .
- وقال أيضا : لا تيأسوا من روح الله ، فامض أنت أيضا من ناحية إلي أخري كمن ضاع ابنه .
..............................................................
( 1 ) ج / 6 - 487 : وليس لمستوقد نفسك قش ، وإلا كانت ناشرة للهب كفرعون .


“ 103 “
 
985 - اسألوا عن الطريق بحس الفم ، وأرهفوا السمع علي مفترق الطرق .
- وحيثما تفوح رائحة طيبة شموا ، وسيروا نحوها فأنتم عارفون بذلك العالم .
- وحيثما تري لطفاً من أحد ، اسع في الطريق نحو أصل اللطف لعل وعسي .
- وكل هذه الطيبات من البحر العميق ، فاترك الجزء واتجه نحو الكل .
- وحروب الخلق من أجل الحسن “ في الدنيا “ ، والقدرة علي الاستغناء من أمارات طوبي .
 
990 - وغضب الخلق يكون من أجل الصلح ، وفخاخ الراحة دائما ما تكون بلا راحة .
- وكل عقاب يكون من أجل الإكرام ، وكل عتاب يقرن بالشكر .
- فانقل تنسمك الرائحة من الجزء إلي الكل أيها الكريم ، واجعل تنسمك الرائحة من الضد إلي الضد أيها الحكيم .
- فإنها الحروب هي التي تؤدي إلي السلام حقا ، وصياد الحيات بحث عن الحيات من أجل العون علي المعيشة .
- والإنسان يبحث عن الحية من أجل العون ، ويعاني الهم من أجل قرين فارغ من الهم .
 
995 - كان “ الصياد “ يبحث عن حية ضخمة حول الأماكن الجبلية أيام الثلج .
- فرأي أفعي ضخمة ميتة في ذلك المكان ، بحيث ملىء قلبه رعبا من شكلها .
- كان صياد الحيات ذات شتاء قارس البرودة يبحث عن حية فرأي أفعي متجمدة .
- وصياد الحيات من أجل إدهاش الخلق ، يصيد الحيات وهذا هو جهل الخلق .
 
“ 104 “
 
- والإنسان كالجبل فكيف يصير مفتونا ؟ وكيف يصير الجبل مندهشا من أجل حية ؟
 
1000 - فالآدمي المسكين لم يعرف نفسه ، بدأ من الزيادة وأخذ في النقصان .
- وباع الإنسان نفسه رخيصة ، كان أطلس فخاط “ نفسه “ علي خرقة .
- ومئات الآلاف من الحيات والجبال حائرة فيه، فكيف صار هو مندهشا محبا للحيات؟
- فأخذ صياد الحيات هذه الأفعي ، وجاء بها إلي بغداد ليدهش بها الناس .
- أخذ يجر أفعي كأنها عماد البيت من أجل أن ينصب حلقة للعب .
 
1005 - مناديا : لقد أتيت بأفعي ميتة ، وكم تحملت من المشاق في صيدها .
- كان يظنها ميتة لكنها كانت حية ولم يدقق فيها النظر .
- كانت قد تجمدت من البرودة والثلج ، كانت حية لكنها كانت تبدو ميتة .
- وهناك عالم متجمد واسمه الجماد ، والجماد يكون متجمدا أيها الأستاذ .
- فانتظر حتى تسطع شمس الحشر عيانا ، لكي تري حركة جسم العالم .
 
1010 - ولما كانت عصا موسي قد انقلبت إلي حية هنا ، فقد أخبرت العقل عن الأمور الساكنة .
- وما دام قد سوي من قطعة من التراب بشرا ، ينبغي عليك أن تعرف التراب بأجمعه .
- فهم موتي في هذه الناحية “ الدنيا “ أحياء في تلك الناحية “ عالم المعني “ ، وهم صامتون هنا متحدثون هناك .
 
“ 105 “
 
- وعندما يرسلهم إلينا من تلك الناحية ، تصير تلك العصا عندنا حية .
- وتغني الجبال ألحانا داودية ، ويصير الحديد شمعا في الكف .
 
1015 - وتصير الرياح حاملة لسليمان ، ويتحدث البحر مع موسي ،
- ويكون القمر مرسلا الإشارات إلي أحمد ، وتصبح النار بالنسبة لإبراهيم كزهور النسرين .
- ويبتلع التراب قارون وكأنه حية ، ويثوب الجذع الحنان إلي رشده .
- ويسلم الحصي علي أحمد ، وينقل الجبل الرسالة إلي يحيي “ 1 “ .
- وكلها كأنها تقول : نحن سميعون وبصيرون وطيبون ، لكننا معكم يا من لم يسمح لكم بالسر صامتون .
 
1020 - وما دمتم تسيرون نحو جماد ، فكيف يصير مسموحا لكم بروح الجماد ؟
- فامضوا من الجماد إلي عالم الأرواح ، لكي تسمعوا ضجيج أجزاء العالم
- ويأتينك تسبيح الجماد عيانا ، ولا تتخطفك وساوس التأويل .
- وما دامت القناديل لم تلق بنورها علي روحك ، فقد تأولت كثيراً في موضوع “ الرؤية “ “ 2 “ .
- قائلا : متي يظهر غرض هذا التسبيح ؟ إن دعوي الرؤية من خيال الغي
 
1025 - بل إن الناظر إلي هذا الجماد ، يعتبر فيقوم بالتسبيح .
- ومن ثم فما دام “ الجماد “ يدفعك إلي التسبيح ، فإن هذا الأمر يتخذ علي أنه هو الذي قام بالتسبيح .
- وهذا هو تأويل أهل الاعتزال ، ومن لم يكن لديه قبس من نور الحال .
..............................................................
( 1 ) / 6 - 498 : وكل ذرات العالم في الخفاء تحدثك ليل نهار .
( 2 ) ج / 6 - 498 : وكانت دعوي الرؤية عاراً ، إنها بالنسبة للناظر كجدار 
- إذن فما دام ( الجماد ) يعلمك التسبيح تكون هذه الدلالة كالقول .
 
“ 106 “
 
- وما لم يخرج الإنسان عن “ قيود “ الحس ، يكون عاجزا عن “ إدراك “ الصور الغيبية .
- وهذا الكلام لا نهاية له ، فصياد الحيات أخذ في جر تلك الحية بمشقة شديدة .
 
1030 - حتى جاء إلي بغداد ذلك الباحث عن تجمع الناس ، وذلك لكي ينصب حلقة علي مفارق الطريق .
- وعلي الشاطئ نصب الرجل حلقته ، فوقعت ضجة في مدينة بغداد .
- “ وطير الخبر “ بأن صيادا قد جاء بأفعي ، وأنه صاد صيداً عجيبا نادراً .
- وتجمع مئات الآلاف من السذج ، فصاروا صيداً له كما تحول هو إلي صيد من حمقه .
- كانوا منتظرين كما كان هو منتظرا ، حتى تجمع الخلق المتفرقون .
 
1035 - وعندما يزداد الناس عددا في الحلقة ، فإن التكدي والارتزاق يكون أفضل .
- تجمع مئات الآلاف من الهازلين ، وتحلقوا ملتصقين .
- فلم يكن لرجل علم بامرأة من الازدحام ، واختلطا معا كيوم القيامة ، الخاص والعام .
- وعندما كان يحرك الغطاء الذي كان يغطيها به ، كان الجمع المتحلق يشرئبون بحلوقهم .
- والأفعي التي كانت قد تجمدت من الزمهرير ، وكانت تحت مائة نوع من الخرق والأغطية .


1040 - وكان قد شد وثاقها بحبال غليظة ، واحتاط للأمور ذلك الحويط .
- وفي فترة الانتظار وتجمع “ الناس “ ، سطعت فوق تلك الأفعي شمس العراق .
 
“ 107 “
 
- وأدفأتها شمس المناطق الحارة ، فذهبت عن أعضائها أخلاط البرودة .
- كانت ميتة فبعثت حية من الانتظار ، وأخذت الأفعي تتلوي حول نفسها .
- ومن تحرك هذه الحية الميتة تضاعف عجب الخلق أضعافا مضاعفة .
 
1045 - ومن شدة دهشتهم جأروا بالصراخ ، ومن حركتها أخذوا جميعا في الفرار .
- كانت تقطع القيود بصوت مهول ، وكانت تتحرك في كل صوب مصلصلة بقيودها .
- وقطعت القيود وخرجت من تحت الأغطية ، أفعي قبيحة ذات فحيح كأنه “ زئير “ الأسد .
- وقتل كثير من الخلق عند تقهقرهم ، ومن الذين سقطوا قتلي تكدس مائة قتيل .
- وتجمد صياد الحيات من الخوف في مكانه . قائلا : ما الذي أتيت به من الجبل والخلاء ؟
 
1050 - لقد أيقظت تلك الشاه العمياء الذئب ، وسعت البلهاء إلي حتفها بظلفها .
- وابتلعت الأفعي ذلك الأبله دفعة واحدة ، ومن السهل علي “ الحجاج “ سفك الدماء .
- ولفت نفسها علي جذع وشدت ، فدقت عظامه الهشة ثم ابتلعته “ 1 “ .
- والنفس أفعي ، فمتي ماتت ؟ لقد تجمدت هما من انعدام المكنة .
- ولو - كان - فرعون - قد و - جد المكنة والوسيلة ، لما - جري الماء في النهر إلا بأمره .
..............................................................
( 1 ) ج / 6 - 498 : وخلت المدينة ، وتحركت الأنعي نحو الجبل ، وهي تثير في سيرها الغبار من الصحراء .


“ 108 “
 
1055 - وكل من يضع الأساس لبناء فرعوني ، فإنه يقطع الطريق علي مائة من “ أمثال “ موسي وهارون .
- وتلك الأفعي لم تكن سوي دودة قز ، ومن المال والجاه تتحول البعوضة إلي صقر .
- فلتحتفظ بالأفعي في جليد الفراق ، وإياك أن تجرها إلي شمس العراق .
- وما دامت هذه الأفعي متجمدة ، فإن فريستها تنجو كما تنجو هي نفسها أيضا .
- فاقتلها وكن امنا من القتل ، وإياك أن ترحمها فهي ليست من أهل الصلة .
 
1060 - فإن حرارة الشمس تلك تؤجج الشهوة ، ويحلق خفاشك التافه بجناحيه - فداوم علي جذبها إلي الجهاد وإلي القتال ، كما يفعل الرجل والله يجزيك الوصال .
- وعندما أتي ذلك الرجل بالأفعي ، صارت في الجو الحار الحسن شيطانا مريداً .
- فلا جرم أنها أحدثت من الفتن أيها العزيز قدر ما قلناه عشرين مرة .
- وأنت لا زلت تطمع أن تقيدها في الوقار والوفاء وذلك بلا جفاء ؟
 
1065 - ومتي يصل كل خسيس إلي هذه الأمنية ؟ ينبغي أن يوجد موسي حتى يقتل الأفعي .

- إن مئات الألوف من الخلق قد قتلوا عند تقهقرهم من أفعاه وهذا من رأيه “ 1 “ .
تهديد فرعون موسى عليه السلام

- قال له فرعون : لماذا أيها الكليم قتلت الخلق وأوقعت فيهم الرعب .
- وعند فرارهم سقط الخلق خوفا منك ، وعند فرارهم قتل الخلق من سقوطهم بعضهم فوق بعض منزلقين .
..............................................................
( 1 ) ج / 6 - 50 : ومن الطمع ذري هو نفسه أدراج الرياح ، وقد قيل هذا والله أعلم بالسداد .


“ 109 “
 
- فلا جرم أن الناس قد اعتبروك عدوا ، ووقر الحقد عليك في قلوب الرجال والنساء .
1070 - وكنت تدعو الناس إليك وانقلب الأمر إلي عكسه ، ولا بد للناس من مخالفتك .
- وأنا أيضا وإن كنت أعاني من شرك ما أعاني ، فإنني عقابا لك أدبر لك أمرا .
- فاصرف عن قلبك أنك تستطيع خداعي ، أو أن أحداً ، سوف يتبعك ، اللهم إلا ظلك .
- ولا تغتر بما صنعت ، أو أنك أوقعت الرعب في قلوب الخلق .
- فهات أضعاف ما أتيت به ، وتفتضح ، تذل وتصير أضحوكة للغوغاء .
 
1075 - فقد كان هناك كثير من المشعوذين والمحتالين أمثالك ، وفي النهاية افتضحوا في مصرنا .
 
جواب موسى على فرعون وعلى ما هدده به
 
- قال له - موسي : لا إشراك - عندي مع أمر الحق ، و - لو سفك أمره دمي - فلا ضير .
- فأنا راض وأنا شاكر أيها الخصم ، أن أكون مفتضحا هنا لكني شريف أمام الحق .
- وأن أكون أمام الخلق ذليلا محقراً موضع سخرية ، وأن أكون أمام الحق محبوبا ومطلوبا ومحموداً .
- إنني أبدي هذا قولا وإلا فإن الله سوف يجعلك أنت من المفتضحين غداً .
 
1080 - فالعزة له ولعبيده ، وأتل من نبأ ادم وإبليس اية ذلك .
- وإن شرح “ آيات “ الحق كالحق بلا نهاية ، فهيا أغلق فمك ، واشرع في كلام غير هذا “ 1 “ .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : اعبر هذه الأوراق .
 
“ 110 “ 
 
جواب فرعون على موسى عليه السلام
 
- قال له فرعون : إن الكلام كله “ 1 “ مسير بحكمنا ، والدفتر وديوان الحكم الآن لي .
- وقد اختارني أهل الدنيا ، فهل أنت أعقل منهم يا هذا ؟ ! 
- يا موسي لقد أصبت بالعجب بنفسك فامض ، وكفاك غرورا ولا تغتر بنفسك .
 
1085 - ولأجمعن لك سحرة الدهر ، حتى أبدي جهلك للمدينة .
- ولن يتم هذا في يوم أو يومين ، بل أمهلني حتى أربعين ، أي إلي تموز وشدة الحر .
 
جواب موسى عليه السلام على فرعون
 
- قال موسي : لا إذن لي بذلك ، وأنا عبد ولست مأمورا بإمهالك .
- فإذا كنت قويا وأنا بلا رفيق ، فأنا عبد لأمره تعالي ولا شأن لي بما تريد .
- ولأقاتلنك بكل ما وسعني ما دمت حيا ، وما شأني بانتصاري وأنا عبد .
 
1090 - فلأقاتل حتى يصلني أمره تعالي ، وهو الذي يفصل بين كل خصمين .
 
جواب فرعون على موسى ونزول الوحي
على موسى عليه السلام
 
- قال فرعون : لا . . لا ، ينبغي أن تمنح المهلة ، وكفاك خداعا وقلل من هذر الكلام .
- فأوحي الله تعالى إليه في التو واللحظة أن أعطه المهلة واسعة ولا تخش منها .
- أعطه الأربعين يوماً مهلة طوعاً ، حتى يفكر في ألوان المكر لونا لونا .
- وحتى يسعي هو فلست بنائم ، وقل له : جد في السير فقد أخذت أنا أول الطريق .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : الأوراق .
 
“ 111 “


1095 - وسوف أحبط حيلهم جميعاً ، وكلما زادوا فيها جعلتها قليلا .
- ليأتوا بالماء فأجعله نارا ، وليأخذوا العسل والشهد ولأجعلنه مرا .
- ليعقدوا الود ولأقم بنقضه ، ولأفعلن كل ما لا يأتي لهم في وهم .
- ولا تخف أنت وأعطه مهلة مطولة ، قل له : أجمع جيشك وقم بمئات الحيل .
 
إمهال موسى لفرعون حتى يجمع السحرة
من المدائن
 
- قال له موسي : لقد جاء الأمر فاذهب والمهلة لك ، وأنا ذاهب إلي مكاني فقد تخلصت مني .
 
1100 - وطفق يسير والأفعي في أثره ، كأنها كلب الصياد مدربة ومطيعة .
- مثل كلب الصياد مبصبصة بذنبها ، تجعل الحجارة رملا تحت أقدامها .
- وتبتلع الحجارة والحديد في لحظة واحدة ، وتبدي الحديد في فمها وهي تمضغه .
- تمد جسدها في طباق الجو فتكون أعلي من البرج ، حيث يفر منها “ هلعا “ الروم والكرج .
- وتلقي بالزبد كأنها البعير الهائج ، وكلما سقطت قطرة من زبدها علي أحد أصابه الجذام .
 
1105 - وكان صرير أسنانها يحطم القلوب ، وتضيع منها أرواح الأسود السوداء
- وعندما وصل إلي قومه ذلك المجتبي ، أمسك بشدقها فانقلبت ثانية إلي عصا .
- فاتكأ عليها وقال : واعجباه ، هي بالنسبة لنا شمس وبالنسبة للخصم ليل .
- واعجباه إذ لم ير هذا الجيش ، عالما مليئا بشمس الضحي .
- العين مفتوحة والأذن مفتوحة وهذه ذكاء ، كم أنا حائر من الغشاوة التي وضعها الله علي العيون .
 
“ 112 “
 
1110 - أنا حائر منهم وهم حائرون مني ، ومن ربيع واحد هم شوك وأنا زهر فل 
- وقد حملت إليهم كثيراً من كئوس الرحيق ، فصار ماؤهم خمرا هذا الفريق .
- جمعت لهم باقات الورد وقدمتها لهم ، صارت كل وردة كالشوك وصار العسل وخزا .
- لكنها من نصيب أرواح من سلبوا نفوسهم ، ومتي تبدو عيانا لأولئك الذين يحسون بذواتهم .
- ينبغي أن يكون المرء نائما مستيقظا أمامنا ، حتى يري الأحلام في اليقظة .
 
1115 - لقد صار فكر الخلق عدوا لهذا الحلم الجميل ، فالحلق مسدود ما لم ينم الفكر “ في الذات “ .
- وتنبغي حيرة حتى تكنس الفكر ، فإن الحيرة هي التي تبتلع الفكر والذكر .
- وكل من يكون كاملا في الفضل ، يكون بالمعني مؤخرا وإن بدا بالصورة أكثر تقدما .
- لقد قال : “ راجعون “ والرجوع يكون علي هذا النسق ، أن يعود القطيع ويمضي نحو المنزل .
- وعندما يعود القطيع من الورود ، يتقهقر ذلك الماعز الذي يكون مرشد القطيع .
 
1120 - ويتقدم هذا الماعز الأعرج الذي كان في المؤخرة ، وتضحك الرجعي وجوه العابسين .
- ومتي صار هؤلاء القوم عرجا جزافا ، فأعطوا الفخر واختاروا العار . ؟
 
“ 113 “
 
- يمضي هؤلاء القوم إلي الحج محطمي الأقدام ، ومن الحرج طريق خفي إلي الفرج .
- وهذا الفريق محا “ العلوم “ من القلوب ، وذلك لأن هذه العلوم لا تعرف هذا الطريق .
- إذ تنبغي “ علوم “ يكون أصلها من تلك الناحية ، لأن كل فرع دليل إلي أصله .
 
1125 - ومتي يطير كل طائر فوق عرض البحر ، حتى يأخذ العلم من جهة “ العلم اللدني “ .
- إذن لماذا تعلم أحداً علما ينبغي أن يمحي من صدره ؟
- ومن هنا : لا تبحث عن القدم في هذه الناحية وكن أعرج ، وعند الرجعة كنت أنت قائد القطيع .
- وكن أيها الأريب من الآخرين السابقين ، إذ تكون الفاكهة اللذيذة سابقة علي الشجرة .
- وبالرغم من أن الثمرة تظهر اخرا في الوجود ، فهي الأولي لأنها هي المقصودة .
 
1130 - وكن كالملائكة وقل :لا عِلْمَ لَنا، حتى تأخذ بيدك عَلَّمْتَنا.
- ولو أنك لا تعرف الهجاء في هذه المدرسة ، فإنك تصبح مثل أحمد تمتلئ بنور الحجي .
- وعندما لا تكون مشهوراً في البلاد ، فلست بالقليل والله أعلم بالعباد .
- وتلك الخرابة التي لا تكون معروفة ، تكون من أجل حفظ كنوز الذهب .
- ومتي توضع الكنوز في الأماكن المعروفة ، من هنا كان الفرج في التعب .
 
1135 - والخاطر يأتي بالشبه كثيراً في هذا الموضع ، لكن الدابة القوية تقطع العقال .
 
“ 114 “ 
 
- وعشقه نار محرقة للعقال ، ونور النهار يمحو كل خيال .
- واطلب الجواب أيها المرتضي من نفس ذلك المكان الذي جاءك منه السؤال .
- والقلب الذي لا زاوية له زاويته طريق شديد الاتساع ، ونوره من قمر لا شرقي ولا غربي .
- وأنت كالشاذ من التردد بين هذه الناحية وتلك الناحية ، فيا جبل المعني أي بحث لك عن الصدي .
 
1140 - وليكن طلبك من تلك الناحية ففي أوان ألمك ، تصبر وأنت ذاكر “ بياربي “ منحنيا .
- فعند الألم والموت تنادي تلك الناحية ، وعندما مضي أملك كيف حالك ؟ أخرس وأصم .
- ففي وقت المحنة لا تفتأ تنادي يا الله ، أتنادي عندما تمضي المحنة أين الطريق ؟ “ 1 “ .
- لقد تأتي هذا مع أن كل من عرف الحق فهو بلا شك مقيم عليه .
- وكل من حجابه من العقل والوهم ، أحيانا محجوب وأحيانا ممزق الجيب .
 
1145 - والعقل الجزئي حينا منتصر وحينا منقلب ، والعقل الكلي امن من ريب المنون .
- فبع العقل والفضل واشتر الحيرة ، وامض نحو الذلة لا إلي بخاري أيها الابن “ 2 “ .
- فكيف انغمسنا نحن في الكلام ، صرنا من حكاية حكاية .
- إنما أنمحي وأصير عدما في أنيني ، حتى أجد التقلب في الساجدين .
..............................................................
( 1 ) ج / 1 - 637 : وفي زمان الحزن والألم تذكره ، وعندما يمضي تغفل ؟
( 2 ) ج / 1 - 638 - حتى تجد بخاري أخري في داخلك ، الساكنون في محفلها (لا يعقلون).
 
“ 115 “
 
- وهذه ليست حكاية أمام رجل العمل ، هي وصف حال وهي حضور صديق الغار .
 
1150 - و “ أساطير الأولين “ تلك التي تفوه بها ذلك العاق بالنسبة لكلمات القران كانت من اثار النفاق .
- واللامكان هو الذي فيه نور الله ، ومن أين له “ ألفاظ “ الماضي والمستقبل والحال؟
- وإن ماضيه ومستقبله أمران بالنسبة لك ، وكلاهما شيء واحد وإن خلته اثنين ! !
- وشخص واحد يكون بالنسبة لأحد أب وبالنسبة لنا ابن ، والسقف تحت زيد ويكون ( فوق ) “ بالنسبة لعمرو “ .
- والفوق والتحت بالنسبة لهذين الشخصين ، أما السقف بالنسبة “ له “ فهو سقف فحسب .
 
1155 - وليس هذا الكلام بمثل أنه مثال ، فالألفاظ القديمة قاصرة عن التعبير عن المعاني الجديدة .
- وما دام شاطىء الجدول ليس موجودا فضم شفتيك أيتها القربة ، فبلا شاطىء ولا ساحل كان بحر السكر هذا “ 1 “ .
 
إرسال فوعون إلى المدائن في طلب السحرة
 
- عندما عاد موسي وبقي فرعون ، استدعي أمامه أهل الرأي والمشورة . “ 2 “
- وتشاوروا قائلين : إن لدينا من السحرة من كل واحد منهم إمام في سحره فرد “3”.
- وهكذا رأوا أن يجمعهم ملك مصر وصرافها من أطراف البلاد .
..............................................................
( 1 ) ج / 6 - 638 : وهذا الكلام لا نهاية له فعد ، نحو فرعون المتكبر لنر ماذا فعل ؟
( 2 ) ج / 7 - 102 : ( محمد تقي جعفري - تفسير ونقد وتحليل مشنوي جلال الدين محمد مولوي قسمت دوم از دفتر سوم 
- ط 11 تهران ربيع 1367 - فيما بعد : ج / 7 ) - واجتمعوا وأصروا ، عرض كل منهم راية 
- وفي النهاية قال هامان الدني - وأبدي رأيه ووله قائلا : أيها الملك المظفر زاد الغم وينبغي أن تجمع السحرة سريعا .
( 3 ) هذا البيت من إضافات نسخة استعلامي .
 
“ 116 “ 
 
1160 - وفي التو واللحظة أرسل كثيراً من الرسل إلي كل جهة من أجل جمع السحرة .
- وحيثما كان ساحر مشهور ، أنفذ إليه سريعاً عشرة من الرسل .
- وكان هناك شابان ساحران مشهوران ، كان سحرهما ينفذ إلي قلب القمر 
- كان مشهوراً عنهما أنهما حلبا من القمر لبنا ، وأنهما في أسفارهما كانا يركبان دنا .
- وأبديا ضوء القمر كأنه قماش الكرباس ، وقاساه وباعاه سريعاً .
 
1165 - وقبضا الثمن ثم أفاق المشتري ، وأخذ يلطم وجهه بيديه حسرة .
- ومئات الآلاف من أمثال هذا السحر ، كانا مبتكرين فيها ، ولم يكونا كالمقلدين .
- وعندما جاءتهم تلك الرسالة من الملك ، “ قائلين لهما “ : إن الملك يطلب منكما حلا .
- ذلك أن رجلين من الدراويش قد جاءا ، ونصبا حلقتهما علي الملك وعلي قصره .
- وليس معهما إلا عصا ، تتحول بأمره إلي أفعي .
 
1170 - وقد صار الملك والعسكر بلا حيلة ، وضاق الجميع ذرعا بهذين الشخصين .
- وينبغي أن يكون هناك حل بالسحر ، حتى ينجو بروحه من هذين الشخصين .
- وعندما نقلت الرسالة لهذين الساحرين ، تنازع قلب كل منهما الرعب والإعجاب .
- وعندما أخذ عرق المجانسة في الحركة ، وضع كل منهما رأسه فوق ركبته متفكراً .
- لأن الركبة هي مدرسة الصوفي ، والركبتان ساحرتان في حل المشاكل .
 
“ 117 “
 
نداء هذين الساحرين لوالدهما من القبر وسؤالهما روحه
عن حقيقة موسى عليه السلام
 
1175 - ثم قالا : تعالي يا أمنا . . أين قبر أبينا ، كوني دليلنا إليه .
- فاصطحبتهما إلي القبر وأرشدت عن الطريق ، وكان أمامهما ثلاثة أيام ليلحقا بالملك .
- فقالا : يا أبانا إن الملك قد أرسل إلينا رسالة “ تبدي “ خوفه وقلقه .
- وأن رجلين قد ضايقاه أشد الضيق ، وأراقا ماء وجهه أمام العسكر .
- وليس معهما سلاح أو جند ، “ ليس معهما “ إلا عصا فيها الشر والفتنة .
 
1180 - لقد مضيت أنت إلي عالم الصادقين ، بالرغم من أنك في الظاهر قد رقدت تحت التراب .
- وإذا كان هذا سحرا فأخبرنا ، وإذا كان أمرا إلهيا أيها الأب الحبيب .
- فأخبرنا أيضا حتى نسجد وحتى نعرض نفسينا علي الكيمياء ( الإلهية ) .
- فنحن قانطان وقد وصل الأمل ، ونحن مطرودان والكرم يدعونا .
 
جواب الساحر الميت على ولديه
 
- فصاح “ 1 “ : يا ولديّ الحبيبين ، إن الجواب صراحة علي هذا الأمر مرهون بشيء .
 
1185 - فلست مأذونا بأن أجيب علي الأمر صراحة وعلي الإطلاق ، لكن السر ليس بعيداً عن عيني .
- لكني أبدي لكما أمارة حتى يصير هذا السر مكشوفا لكما .
- يا نور عيني ، عندما تذهبان إلي ذلك الموضع ، اعلما أين ينام .
- وعندما ينام هذا الحكيم ، اقصدا تلك العصا ودعكما من الخوف .
..............................................................
( 1 ) ج / 7 - 107 : قال لها في النوم يا ولدي ، ليس من الممكن الحديث في هذا ظاهرا .
 
“ 118 “
 
- فإذا سرقتماها واستطعتما ذلك فهو ساحر ، وحيلة الساحر موجودة لديكما .
 
1190 - وإن لم تستطيعا فالحذر الحذر فهذا أمر إلهي ، وهو رسول من ذي الجلال ومهتد .
- ولو أن الدنيا ملأي بالفراعين من شرقها إلي غربها، فسوف يقلبها الله عندما تستعر الحرب.
- وقد أعطيتكما هذه الأمارة الصادقة يا روح أبيكما ، فاكتباها والله أعلم بالصواب .
- يا روح أبيكما عندما ينام الساحر لا يكون لسحره ومكره موجه .
- وعندما ينام الراعي يطمئن الذئب ، وعندما ينام الساحر يسكن جهده .
 
1195 - لكن الحيوان الذي يرعاه الله ، من أين يكون للذئب رجاء فيه وطريق إليه ؟
- فالسحر الذي يقوم به الله حق وصدق ، ومن الخطأ أن يسمي الله بالساحر .
- وهذا برهان قاطع يا روح أبيكما ، وحتى إذا مات فالحق رافعه .
 
تشبيه القرآن المجيد بعصا موسى ووفاة المصطفى عليه السلام
بنوم موسى والقاصدين تغيير القرآن بابنى الساحر اللذين
قصدا سرقة العصا عندما وجدا موسى نائما
 
- لقد وعد اللطف الإلهي المصطفى قائلا : إذا مت أنت فلن يموت هذا الدرس
- فأنا رافع لكتابك ومعجزتك ، وحائل دون من يزيد في القرآن أو ينقص منه .
  
“ 119 “ 
 
1200 - أنا حافظك في الدارين ، ورافض للطاعنين في حديثك .
- ولن يستطيع أحد أن يزيد فيه أو ينقص منه ، فلا تطلب حافظا أخر خيراً مني .
- ولأزد من رونقك يوماً بعد يوم ، ولأضرب اسمك علي الذهب وعلي الفضة .
- ولأضع من أجلك منبرا ومحرابا ، ومحبة لك صار قهري هو قهرك .
- إنهم يذكرون اسمك الآن في السر خوفا ، وعندما يصلون يتخفون .
 
1205 - ورعبا وخوفا من الكفار الملاعين يتخفي دينك تحت الأرض .
- لكني سوف أملأ الآفاق بالمأذن ، وأصيب بالعمي عيني من ينكر هذا
- ويستولي أتباعك علي المدن ويزدادون جاها ، وينتشر دينك من الآفاق إلي الآفاق .
- وسوف أبقيه أنا حتى تقوم الساعة ، فلا تخف من نسخ الدين أيها المصطفى .
- يا رسولنا لست ساحرا ، أنت صادق ورفيق لموسي في الخرقة .
 
1210 - والقران بالنسبة لك كالعصا بالنسبة له ، يبتلع الكفر وكأنه الأفعي .
- وأنت وإن نمت تحت التراب ، اعتبر ما قلت كأنه عصاه .
- فليست للقاصدين قدرة علي عصاه ، فنم أنت أيها المليك نوم العافية .
- فالجسد نائم ونورك علي افاق السماوات ، قد شد قوسه من أجل الدفاع عنك .
- والمتفلسف وكل من يطعن فيه ، يصمي بسهم من قوس نورك .
 
1215 - وكذلك فعل وفوق ما قاله ، فقد نام “ المصطفى “ لكن حظه وإقباله لم ينما .
  
“ 120 “
 
- “ وواصل الساحر الأب “ : يا روح أبيكما : إذا نام الساحر ، يصير أمره بلا رونق أو قدرة .
- وقبل كلاهما القبر ومضيا نحو مصر من أجل هذا الصراع المرير .
- وعندما قدما إلي مصر من أجل هذا العمل طلبا موسي ومنزله .
- واتفق أنه في يوم مجيئهما ، كان موسي نائما في ظل نخلة .
 
1220 - ثم دلهما الناس عليه ، قائلين لهما : امضيا فابحثا عنه عند هذا النخيل .
- وعندما أتيا أبصرا في ظلال النخيل نائما كان هو نفسه “ يقظ “ الدنيا .
- أغلق إكراما عينيه اللتين في رأسه ، لكن العرش والفرش كليهما كانا تحت ناظريه .
- وما أكثر أيقاظ العيون نيام القلوب ، وأي شيء تراه حقا عيون الماء والطين ؟
- وذلك الذي يكون قلبه يقظا ، إذا نامت منه عين الجسد يتفتح فيه مائة بصر .
 
1225 - وإذا لم تكن من أهل القلب فكن يقظا، كن طالباً للقلب وجاهد “من أجل هذا” .
- وإذا استيقظ قلبك فنم هنيئا ، فليس نظرك غائبا من “ السماوات “ السبع والجهات الست .
- فقد قال الرسول عليه السلام “ تنام عيني “ ، لكن متي ينام قلبي ويأتيه الوسن ؟
- فافترض أن الملك يقظان وإن كان الحارس نائما ، ألا فلتكن الروح فدي للنائمين ذوي القلوب البصيرة .
- ووصف يقظة القلب أيها المهتم بالمعاني ، لا تستوعبها آلاف من الكتب المسماة بالمثنوي .
 
“ 121 “
 
1230 - وعندما رأياه كان قد نام ممدداً ، فاحتالا من أجل أن يسرقا العصا .
- واتجه الساحران إلي العصا سريعاً ، مستديرين من خلفه لكن يقوما باختطافها .
- وعندما تقدما في “ تنفيذ “ حيلتهما قليلا ، بدأت تلك العصا في الحركة .
- وهكذا تحركت تلك العصا والتوت حول نفسها ، فتيبس كلاهما في مكانه خوفا .
- ثم تحولت إلي أفعي وهجمت عليهما ، فهرب كلاهما مصفر الوجه .
 
1235 - وبدا في التعثر من الخوف ، وهما يتدحرجان عند الفرار في كل منخفض .
- فتيقنا أنها من السماء ، وذلك لأنهما كانا يعرفان حدود السحر “ 1 “ .
- ثم ظهر عليهما الوهن “ وأصابتهما “ الحمي ، وبلغ بهما الأمر إلي الاحتضار وتسليم الروح .
- فأرسلا في التو واللحظة رجلا إلي موسي يحمل إليه الاعتذار منهما قائلين :
- لقد امتحانك ومتي يصل بنا الأمر إلي امتحانك إنه لم يكن ثم حسد .
 
1240 - نحن مجرما فرعون فاعف عنا، يا من أنت في بلاط الجلالة من خواص الخواص.
- فعفا عنهما فارتدت إليهما العافية في التو واللحظة ، وأخذا في إظهار الخضوع والمذلة أمام موسي .
- فقال لهما موسي : لقد عفوت عنكما يا من أنتما من الكرام ، وصارت روحاكما وجسداكما حراما علي النار .
..............................................................
( 1 ) ج / 7 / 113 : - ومن ثم فتعلم علم السحر ، صار ممنوحا وحراما ومحقرا - ومن أجل التمييز بين الحق الطيب والباطل ، صار علم السحر حراما أيها الصديق .
 
“ 122 “
 
- فأنا لم أركما يا صديقي ، فهيا كفا عن الاعتذار .
- بل وادخلا في الصراع وأنتما عالمان ( بنتيجته ) دون أن تبديا ذلك للملك “ 1 “ .
 
1245 - فقبلا الأرض بين يديه ومضيا ، وظلا ينتظران الوقت والفرصة .
 
تجمع السحرة من المدائن عند فرعون وتلقيهم ألوان التشريف 
و “ وقوفهم واضعين أيديهم على صدورهم من أجل الانتصار
على الخصم قائلين له : اكتب علينا هذا
 
- عندما أتي أولئك السحرة إلي فرعون ، خلع عليهم الخلع الثمينة .
- ووعدهم بالوعود وقدم لهم العبيد والخيل والمال والبضائع والزاد .
- ثم أخذ يقول لهم : هيا أيها السابقون فلو كنتم الغالبين في هذا الامتحان
- فسوف أنثر عليكم العطاء الكثير ، بحيث يتمزق حجاب الجود والسخاء .
 
1250 - فقالوا له : بإقبالك أيها الملك ، سوف نكون نحن الغالبين ويصير أمره إلي تباب .
- نحن في هذا الفن أبطال صناديد ، ولا أحد في الدنيا له ما لنا من قدرة فيه .
- لقد صار ذكر موسي قيدا علي الخواطر ، فكم من قائل : مالنا نحن وهذه الحكايات القديمة ؟
- إن ذكر موسي هنا مجرد دريئة وحجاب ، لكن ليكن لك منه نور موسي أيها الرجل الطيب .
- إن موسي وفرعون في وجودك ، وينبغي أن تبحث عن هذين الخصمين في داخلك .
 
1255 - وهناك نتاج من موسي حتى القيامة ، وليس نورا اخر وإن تغير السراج .
- فهذه المشكاة وهذه الفتيلة من نوع اخر ، لكن نورها لم يتغير لأنه من تلك الناحية .
..............................................................
( 1 ) ج / 7 - 113 : وكل ما لديكما من الفنون ، اجمعاه من الداخل والخارج .
 
“ 123 “
 
- وإذا نظرت في الزجاجة فإنك تضل ، ففي الزجاجة توجد الأعداد والإثنينية .
- وإذا نظرت إلي النور تنجو من الإثنينية وأعداد الجسد المتناهي المحدود .
- ويا لب الوجود ، إن الخلاف بين المؤمن والمجوسي واليهودي نتيجة لاختلاف وجهات النظر .
 
الاختلاف في كيفية الفيل
 
1260 - كان الفيل “ موجوداً “ في حجرة مظلمة ، وكان الهنود قد عرضوه فيها .
- ودخل الناس من أجل مشاهدته إلي تلك الحجرة المظلمة فردا فرداً .
- ولما كانت رؤيته بالعين غير ممكنة ، أخذوا يتحسسونه بأيديهم في تلك الظلمة .
- فوقعت كف أحدهم علي خرطومه ، فقال : إن شكله مثل الأنبوبة .
- ووصلت كف اخر إلي أذنه ، فبدا له كأنه المروحة .
 
1265 - أما الثالث فعندما تحسس قدمه فقد صاح ، لقد أدركت شكل الفيل ، إنه كالعمود .
- أما ذلك الذي وضع يده علي ظهره فقد قال : هذا الفيل كأنه نجد .
- وهكذا فكل من وصل منهم إلي جزء منه ، كان يفهمه طبقا لما بلغ مسامعه عنه في كل مكان .
- واختلفت أقوالهم من اختلاف وجهات النظر ، قال أحدهم : إنه “ معوج “ كالدال ، وقال اخر بل “ مستقيم “ كالألف .
- ولو كانت في يد كل واحد منهم شمعة ، لا نتفي الاختلاف عن أقوالهم .
 
1270 - وعين الحس مثل كف اليد فحسب ، وليست لكف واحدة قدرة الإحاطة به ككل .
 
“ 124 “
 
- وعين البحر شيء وزبده شيء مختلف ، فاترك الزبد وانظر لعين البحر .
- إن حركة الزبد من البحر ليل نهار ، وأنت لا تفتأ تنظر إلي الزبد ولا تنظر إلي البحر وهذا أمر عجيب .
- ونحن كالسفن . يصطدم بعضها ببعضها الآخر ، ونحن عمي الأبصار في الماء الصافي .
- ويا من قد رحت في النوم في سفينة الجسد ، لقد رأيت الماء فانظر إلي ماء الماء .
 
1275 - فللماء ماء يسيره ، وللروح روح تدعوها .
- وأين كان موسي وعيسى عندما كانت شمس “ الحقيقة “ تروي بالماء مزرعة الموجودات ؟
- وأين كان ادم وحواء ذلك الزمان الذي وضع الله تعالى فيه هذا الوتر في القوس ؟
- إن هذا الكلام ناقص أبتر ، وذلك الكلام الذي ليس بناقص هو من تلك الناحية .
- فلو تحدثت عنه لزلت قدمك ، وويلاه إن لم تنبس عنه ببنت شفة .
 
1280 - ولو قيل إنه علي مثال الصورة ، فإنك تتعلق بنفس الصورة أيها الفتي .
- وأنت مقيد القدم كأنك النبات في الأرض ، وتحرك رأسك بهبة نسيم دون يقين .
- لكن لا قدرة لك علي الانتقال ، أو اقتلاع قدميك من هذا الطين .
- فكيف تقتلع القدم من هذا الطين وحياتك منه ؟ إن السير في حياتك هنا أمر شديد الإشكال .
 
“ 125 “
 
- وعندما تستمد الحياة من الحق أيها السالك ، تصبح بها مستغنيا وتمضي عن الطين “ 1 “ .
 
1285 - فالرضيع عندما يفطم عن مرضعته ، فإنه يتركها ويصير أكلا لكل ما لذ وطاب “ 2 “ .
- وأنت ملتصق بلبن الأرض كالغلال ، فابحث عن فطامك من قوت القلوب .
- وتغذ من كلام الحكمة فإن النور قد صار مضمرا فيه ، يا من لست قابلا لنور بلا حجب .
- حتى تصبح قابلا للنور أيها الحبيب ، حتى تري المستور بلا حجب .
- فتتجول كالنجوم فوق سماك الأفلاك ، بل تسافر بلا فلك سفرا لا وصف له ولا كيفية .
 
1290 - ألست بهذه الطريقة قد جئت من العدم إلي الوجود ؟ هيا . . وقل كيف أتيت ؟ لقد أتيت ثملا .
- لقد انمحت طرق المجيء من ذاكرتك ، لكننا سوف نتلوا عليك رمزا عنها .
- فاترك الفهم وكن آنذاك ذا فهم ، وسد أذنيك وكن أنذاك صاحب أذن .
- لا ، لن أتحدث إليك فإنك لا تزال فجا ، إنك لا زلت في الربيع لم ينضجك هجير الصيف “ 3 “ .
- وهذه الدنيا كالشجرة أيها الكرام ، ونحن عليها كالثمار الفجة .
 
1295 - والثمار الفجة شديدة الالتصاق بالأغصان ، وذلك لأنها من فجاجتها لا تليق بالقصور .
..............................................................
( 1 ) ج / 7 - 121 : تمضي فارغاً مستغنيا صوب القلب ، تمضي بلا قيد حراً من أهل الطين . 88
( 2 ) حرفيا : أكلا للدسم .
( 3 ) حرفيا : لم تر حرارة تموز .
 
“ 126 “
 
- وعندما تنضج وتصير مقبولة للمذاق ، فإنها تحتقر الأغصان بعدها .
- وعندما تتذوق الأفواه حلاوة هذا الإقبال ، يهون بعدها ملك الدنيا علي الإنسان .
- إن التنطع والتعصب من قبيل الفجاجة ، وما دمت جنينا فإن ديدنك هو شرب الدم .
- وبقي شيء اخر ، لكن قوله لك منوط بالروح القدس ، يتحدث به إليك دون واسطة مني .
 
1300 - لا ، إنك أيضا تتحدث به إلي نفسك ، تهمس به في أذني نفسك ، لا أنا ولا غيري يتحدث به إليك يا من أنت مني .
- ومثل ذلك عندما تروح في النوم ، إنك تنتقل من جوار نفسك إلي جوار نفسك .
- تسمع من نفسك وتظن أن فلانا من الناس قد تحدث إليك في النوم وأفضي إليك بهذا السر .
- ولست واحداً قائما بذاتك أيها الرفيق ، بل إنك فلك وبحر عميق .
- وما هو قوي فيك هو ذاتك ذات التسعمائة طية ، هي محيط وموضع غرق لمائة ذات .
 
1305 - وما هو حد النوم واليقظة نفسهما ؟ لا تتحدث ، الله أعلم بالصواب “ 1 “ .
- لا تتحدث حتى تسمع من المتحدثين ، ما لم يأت علي لسان أو يرد في بيان
- لا تتحدث حتى تستمع من تلك الشمس ، ما لم يأت في كتاب أو خطاب .
- لا تتحدث حتى تتحدث الروح من أجلك ، واترك العوم وأنت في سفينة نوح .
..............................................................
( 1 ) ج / 7 - 122 : لا تتحدث حتى تسمع من هذا القمري الطلعة ، هيا . . أيها اللاعبون بطهر هيا . - لا تتحدث حتى تسمع أسرار الحال ، من اللسان الذي لا لسان له ، قائلا لك : تعال .
 
“ 127 “
 
- مثل “ كنعان “ الذي كان يسبح قائلا : لست أريد سفينة نوح العدو .
 
1310 - “ فيقول له “ : هيا . . تعال واركب سفينة أبيك حتى لا تغرق في الطوفان أيها المهين .
- فقال : لا ، لقد تعلمت السباحة ، وأشعلت شموعا غير شموعك .
- هيا لا تفعل فهذا هو موج طوفان البلاء ، واليد والقدم والعوم كلها أمور لا تجدي .
- وثمة ريح للقهر والبلاء تطفئ الشموع ، ولا يجدي أمامها إلا شموع الحق فاصمت .
- قال : لا ، اويت إلي هذا الجبل المرتفع ، وهو عاصمني من كل أذي .
 
1315 - انتبه وأقلع عن هذا فالجبل قشة الآن ، وهو لا يهب الأمن إلا لحبيبه .
- قال : متي كنت انتصح بنصحك ، لقد طمعت أن أكون من بين أسرتك .
- إن قولك لم يقع قط موقعا من قلبي ، وأنا بريء منك في الدارين .
- هيا يا بني لا تفعل . . فليس اليوم يوم الدلال ، وليس لله تعالي قريب أو شريك .
- لقد فعلت ما فعلت وهذه اللحظة حاسمة ، ومن الذي يقبل الدلال علي هذه العتبة ؟
 
1320 - إنه لم يلد ولم يولد من القدم ، لا أب له ولا ابن ولا عم .
- فمتي يتحمل دلال الأبناء ؟ ، ومتي سيسمع دلال الآباء ؟
 
“ 128 “
 
- “ إنه يقول “ : لست مولودا فقلل الدلال أيها الأب ، ولست والدا فقلل الاندفاع أيها الشاب .
- ولست زوجا ولست بالذي تسيطر عليه الشهوة ، فاتركي الدلال هنا أيتها السيدة .
- وليس إلا للخضوع والعبودية والاضطرار في هذه الحضرة من اعتبار .
 
1325 - قال : يا أبي ، لقد تحدثت بهذه الأمور سنوات طويلة ، وها أنت ذا تكررها ثانية بجهل وتخوض فيها .
- لقد تحدثت بهذه الأمور مرات مع كل إنسان ، وسمعت الجواب المر عليه كثيراً .
- وكلامك السخيف هذا لم يصادف مني أذنا صاغية ، فهل سيعقل الآن وقد صرت عالما وكبيراً ؟
- قال نوح : يا بني ماذا ستخسر إذا سمعت - ولو مرة واحدة - نصيحة أبيك ؟
- وهكذا ظل يمحضه النصيحة الخالصة ، وظل الابن يرد هذا الرد العنيف .
 
1330 - فلا الأب كف عن نصح كنعان ، ولا كلمة واحدة منه صادفت أذنا من ذلك المدبر .
- وبينما كانا في هذه المحاورة إذ ضرب الموج المتلاطم رأس كنعان ومزقه إربا .
- وقال نوح : أيها الملك الحليم ، إن لي حماراً قد مات وسيلك جارف للأحمال .
- لقد وعدتني أنت مرات ومرات ، “ وقلت لي “ : إن أهلك ناجون من الطوفان .
 
“ 129 “
 
- وقد اعتمدت علي هذا راجيا فيك واثقا ، إذن فلماذا جرف السيل “ كليمي “ مني ؟
 
1335 - قال : إنه ليس من أهلك وأسرتك ، ألم تر أنت نفسك أنك أبيض البشرة وهو أسودها ؟
- وعندما يقع السوس في أسنانك ، اقتلعها فليست بأسنان أيها الأستاذ .
- وذلك حتى لا يشتكي بقية الجسد منها ، وبالرغم من أنها بضعة منك إلا أنه عليك أن تستغني عنها .
- قال نوح : إنني ملول ضائق من كل ما هو سواك - ولا سواك ، وإن كان فليكن هالكا منك .
- إنك تعلم كيف أنا معك ، أضعاف أضعاف “ 1 “ ما تكون الأمطار مع الرياض .
 
1340 - إنني حي بك ، سعيد منك ، محتاج إليك ، مستمد لغذائي دون واسطة أو حائل .
- ولست متصلا ولا منفصلا أيها الكمال ، إنها علاقة بلا كيفية أو بحث عن علة .
- إننا أسماك وأنت بحر الحياة ، ونحن أحياء من لطفك يا حسن الصفات .
- وإنك لا تستوعب في نطاق فكرة ، ولست مقترنا بمعلول فأنت علة “ العلل “ .
- وقبل هذا الطوفان وبعده ، كنت مخاطبا إياي “ مخبراً “ لي عن كل ما حدث .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : عشرون ضعفا .
 
“ 130 “
 
1345 - كنت أتوجه إليك لا إليهم بالحديث ، يا واهب الكلام الحديث والحال القديم - أليس هكذا يفعل العاشق ؟ يتوجه بالحديث ليل نهار حينا إلي الأطلال وحينا إلي الدمن .
- لقد توجه إلي الأطلال في ظاهر الأمر ، فإلي من يتحدث بالثناء عليك إلي من ؟
- لقد أوليت الشكر للطوفان الآن ، ذلك أنك رفعت ( به ) واسطة الأطلال .
- وذلك لأن الأطلال كانت لئيمة شريرة ، فلا هي تنادي ولا هي تسمع الحديث .\
 
1350 - وأنا سوف أريد تلك الأطلال التي عند الخطاب ، تكون كالجبل تردد الصوت عندما تريد الجواب .
- وذلك حتى أسمع اسمك مرتين ، لأنني عاشق لاسمك الذي يريح الروح .
- وكل نبي يحب الجبل لهذا السبب ، وذلك حتى يسمع اسمك مترددا مضاعفا .
- وإلا فإن ذلك الجبل الذليل الذي هو من الحجارة ، يليق بالفأر مقاما لا بنا .
- إنني أتحدث وهو لا يصير نديما لي في الحديث ، إنه يبقي صامتا عند حديثي .
 
1355 - وأولي بالنسبة له أن تسويه بالأرض ، فليس برفيق تصاحبه خطوة بخطوة .
- قال الله تعالى : يا نوح لو أنك تريد “ من غرقوا “ جميعا ، لامرن بالحشر ولأخرجنهم جميعا من الثري .
- ولا أجعلك كسير القلب من أجل كنعان ، لكني أنبئك “ بحقيقة “ الأحوال .
- قال نوح : لا . . لا ، أنا راض حتى وإن تغرقني أنا نفسي إن كانت هذه مشيئتك .
 
“ 131 “
 
- أغرقني في كل لحظة فأنا سعيد بهذا ، وحكمك هو الروح أرضي به كما أرضي بالروح .
 
1360 - ولا أتحول بنظري إلي أحد وإن فعلت ، يكون هو مجرد دريئة وأنت المنظور .
- وأنا عاشق لصنعك شاكر لك صابر “ علي بلائك “ ، ومتي أكون عاشقا للمصنوع كالمجوس ؟
- إن عاشق صنع الله يكون ذا مجد وجلال، أما عاشق مصنوعه فيكون كافرا “1” .
 
التوفيق بين الحديثين الشريفين : “ الرضا بالكفر كفر “
والحديث الآخر - “ من لم يرض بقضائي فليطلب ربا سواي “
 
- بالأمس سألني سائل “ كان مغرما “ بالجدال .
- قال : هناك حديث يقول : “ الرضا بالكفر كفر “ وقد قاله الرسول وكلامه ختم “ لكلام الأنبياء “ .
 
1365 - لكنه قال في موضع اخر “ ما فحواه “ : إن علي المسلم أن يكون راضيا بكل قضاء .
- أليس الكفر والنفاق من قضاء الله ؟ وإذا رضيت بهما إذن فهذا شقاق .
- وإذا لم أرض بهما فهو الخسران ، فما حيلتي إذن بين هذين الحديثين ؟
- فأجبته : إن الكفر مقضي لا قضاء ، فهذا الكفر حقيقة من اثار القضاء .
- ولتعلم إذن القضاء من المقضي أيها السيد ، حتى يرفع الإشكال لديك في التو واللحظة .
 
1370 - فأنا أرضي بالكفر من حيث إنه قضاء ، لا من حيث يكون نتيجة جدالنا وخبثنا .
..............................................................
( 1 ) ج / 7 - 148 : وبين هذين الاثنين فرق خفي ، وإنما يعرفه ذو الرؤية الصافية .
 
“ 132 “
 
- فالكفر جهل والقضاء بالكفر علم ، فمتي كانا سواء الحلم والجهل .
- وقبح الخط لا يعني قبح الخطاط ، لكنه أبدي القبح من ناحيته .
- والقوة في النقاش أنه يصور القبح كما يستطيع أن يصور الجمال .
 
1375 - ولو واصلت المناقشة جدلا ، لتعددت الأسئلة ولطال الجواب .
- ولمضت لذة نقاط العشق مني ، ولصار دور خدمتي دوراً اخر .مثل في أن الحيرة تمنع البحث والفكر
- جاء رجل أشيب متعجلا إلي أحد الحلاقين المهرة .
- فقال له : انزع الشعرات البيضاء من لحيتي ، ذلك أنني سأزف إلي عروس جديدة أيها الفتي .
- فحلق لحيته كلها ووضعها أمامه ، وقال له : اختر أنت فعندي عمل مهم
 
1380 - هذا هو السؤال وهذا هو الجواب فاختر ما تشاء ، فإن رؤوس ( هؤلاء ) لا تحتوي علي ألم الدين .
- لقد صفع أحدهم “ زيدا “ فحمل “ زيد “ عليه رداً علي كيده .
- فقال الصافع : إنني سوف أسالك سؤالا فأجبني عليه ثم اصفعني .
- لقد صفعتك علي قفاك صفعة ذات رنين ، وأسالك الآن سؤالا طالبا للوفاق .
- أكان هذا الصوت من كفي أو من موضع “ الصفع “ علي قفاك يا فخر العائلة ؟
 
1385 - فأجاب : إن الألم الذي أحس به لم يترك لي مجالا للفكر والتفكر .
- وأنت لا تحس بالألم فاستغرق في التفكير ، والذي يحس بالألم لا يفكر علي هذا النحو فانتبه “ 1 “ .
..............................................................
( 1 ) ج / 7 - 161 : والمتألمون لا يفكرون في الغير ، فاذهب إلي المسجد أن شئت أو الدير .
وليس لصاحب الألم إلا حزن الذين ، وهو يعلم التمييز بين الرجل والغبار .
ويضع حكم الحق علي رأسه ووجهه ، ويلقي بحفظه وفكره جانبا
 
“ 133 “
 
حكاية
 
- قل من كان حافظا “ للقرآن “ من الصحابة ، بالرغم من أن أرواحهم كانت شديدة الشوق .
- وذلك أنه كلما كان لب الثمرة ممتلئا ناضجا ، كانت قشرتها شديدة الرقة وتشققت .
- ومن ثم فثمار الجوز واللوز والفستق عندما يمتلئ لبها ترق قشورها .
 
1390 - وعندما يزداد لب العلم تقل قشوره ، ومن قبيل ذلك أن العاشق يمزق جيبه .
- وما دامت طبيعة المطلوب تكون ضد طبيعة الطالب ، فإن الوحي وتجلي نوره يكونان محرقين “ لصورة “ القران .
- وما دامت أوصاف القديم قد تجلت ، فإن الحجاب ( الذي هو ) وصف الحادث قد احترق .
- ومن ثم فقد كان يسمع من الصحابة “ أنهم يقولون “ : جل فينا من يحفظ ربعا من القران .
- وجمع الصورة إلي مثل هذا المعني العميق ، ليس ممكنا إلا لسلطان مهيب وعظيم .
 
1395 - وفي مثل هذا السكر لا تجب مراعاة للأدب ، وإن وجبت لكان هذا أدعي للعجب .
- وعند الاستغناء تكون مراعاة الابتهال ، جمعا للضدين “ كجمع “ المستدير والطويل معا .
- والعصا في حد ذاتها تكون محبوبة لدي العميان ، والأعمي نفسه يكون صندوقا للقران .
 
“ 134 “
 
- وقد قال العميان أنفسهم : إنهم صناديق مملوءة من ألفاظ المصحف ومن الذكر والنذر .
- وأيضا فإن الصندوق الملئ بالقران أفضل من صندوق خال في اليد .
 
1400 - ثم إن الصندوق الذي يكون خاليا من الثمار ، أفضل من صندوق يكون مليئا بالفئران والحيات .
- والخلاصة أنه عندما يصل المرء إلي الوصال ، تصير الدلالة أمامه عنه لا نفع فيها .
- وما دمت قد وصلت إلي مطلوبك أيها المليح ، فإن طلب العلم حينذاك يكون قبيحا .
- وما دمت قد سموت إلي عنان السماء ، يكون سخيفا البحث عن السلالم وطلبها .
- وليس إلا من أجل الباري وتعليم الخير ، يكون طريق الخير سخيفا من بعد وصول الخير .
 
1405 - وعندما تكون المراة صافية مضيئة ، من الجهل أن تسلمها للصقال .
- والجلوس أمام السلطان بسعادة وقبول ، قبيح أثناءه البحث عن الخطاب والرسول .

.
* * *

شرح تشبيه فرعون وادعائه الألوهية بابن أوى

الذي ادعى الطاووسية

( 778 - 789 ) لا يكاد مولانا يترك فرصة دون أن يسخر من جبارى الأرض أولئك الذين ينازعون الإله رداء كبريائه ، وكيف يصير هؤلاء فتنة للخلق ولأنفسهم ، وهذا هو “ فرعون “ يرصع لحيته بالجواهر ( أو يرصع بزته بالنياشين والأنواط ) ، ويظن بهذا المظهر أنه أعلى من عيسى عليه السلام ، وما هو إلا ابن اوى سقط في دن المال والجاه ، وسجد له الخلق وصدق ، وهؤلاء الخلق هم الذين يخلقون “ كل فرعون “ في “ كل عصر “ وذلك أنه كما روى عن أفضل الخلق - صلّى اللّه عليه وسلم - “ المال حية والجاه أضر منه “ ( استعلامى 3 / 256 ) فكل المتجبرين المغرورين بالدنيا كأبناء اوى الملونة والطواويس المذكورة - بيت ( 784 وما بعده ) - هم رجال الله ، وهم المحك الذي يفضح أولئك المدعين الذين يرتدون إهاب الأسود وهو كلاب ولا يمكن أن تتواءم صورة الأسد مع أخلاق الكلاب ، وإلا تعرض لامتحان من زئير أسد حقيقي .
 
( 790 - 796 ) يتناول تفسيرا للآية الكريمة التي نزلت في شأن المنافقين - أي الذين تختلف ظواهرهم عن بواطنهموَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ( محمد / 30 ) والسياق مناسب بالطبع فالنفاق والادعاء سيان ، والبيتان 792 ، 793 اقتباس


“ 449 “
 
من قول منسوب للإمام على - كرم الله وجهه - “ كما تعرف أواني الفخار بامتحانها بأصواتها فيعلم الصحيح منها من المكسور كذلك يمتحن الإنسان بمنطقة فيعرف ما عنده “ ( استعلامى 3 / 256 - 257 ) .
 
( 797 - 800 ) قصة الملكين ببابل أي هاروت وماروت من قصص القرآن الكريم التي تستوى مولانا كثيرا وذلك للدروس الكثيرة التي تقدمها في ميدان العرفان والتصوف ، ومولانا نفسه يذكر أنه تحدث مرات عن القصة ( انظر الكتاب الأول الأبيات 539 ، 540 ، 3334 فما بعد 3425 : الكتاب الثاني 2475 ، 2476 ) وانظر أيضا البيت 417 من هذا الكتاب ) وأنه يعود إليها هذه المرة ليقول جزءا من آلاف الأجزاء أو معنى من آلاف المعاني التي تثيرها هذه القصة في وجدانه العرفاني ، أو كأنه ذكر عضوا واحدا من أعضاء الفيل ( انظر الأبيات 1260 فما بعده من هذا الكتاب وتعليقاتها ) والقصة نفسها مذكورة مع اختلافات يسيرة في كل كتب التفاسير ( على الآية 102 من البقرة ) وكتب قصص القرآن ( الثعلبي مثلا قصص الأنبياء 42 - 45 ) ويتناول مولانا القصة من منطلق “ الامتحان “ وكلما ذكر الامتحان في المثنوى ذكر هذين الملكين ، وكيف كانا يعتبر أن الذنب خاصاً بأبناء ادم وبناء على طلب منهما وبإذن من الله نزلا إلى الأرض حتى يثبتا أن الملائكة أبرياء من الذنوب ، ووضع امتحان الحق في طريقهما امرأة جميلة ، وبعد أن زنيا بها تعرضا لعقاب الحق بأن علقا في بئر ببابل .
 
( 801 - 807 ) كانا ملكين مقربين وعلى صلة بالروح المطلقة ، وكأنما كانا يشاهدان الإله ويسكران من هذه المساعدة ، لكن هذا السكر كان استدراجا لهما ، أي من قبيل تلك القدرة الظاهرية التي لا توصل السالك إلى شئ ، وتصيبه بالغرور ، فيأتيه الامتحان ( انظر عن الاستدراج تعليقات البيت 508 من هذا الكتاب ) وفي البيت 802 يتساءل مولانا : إذا كان سكر الاستدراج هكذا فكيف


“ 450 “
 
يكون سكر المعراج حيث قوبل الرسول في حظيرة الحق ؟ والحبة في الشراك المذكورة في البيت 803 هي نفس هذا الاستدراج ومائدة الإنعام هي المعراج أو رؤية الحق . وأية حبوب تستطيع أن تفتقها ، أي ماذا يمكن أن تفعل معنا ؟
بالتأكيد تغيرنا وتبدلنا تماما ، وفي البيت 804 : ناجيان من الوهق أي حران من الحياة النفسانية والمادية ، قبل أن ينزلا إلى الأرض وفي البيت 805 : الامتحان هو امتحان الحق الذي يشبه “ ريح الصرصر “ التي اختطفت قوم عاد ، وما قوم عاد ؟ إنها الريح التي يكون الجبل في مهبها كأنه القشة . . ولم يكن لهما أي حس بهذا الامتحان فقد كانا “ ثملين “ ، وهما في سكرهما كالعاشق . . . الذي لا يرى الخطر أمامه ولا يستطيع أن يدركه .
 
( 808 - 817 ) في هذه الأبيات يشبه حالة هاروت وماروت بحالة الماعز الجبلي وكيف يلقى بنفسه في الخطر عندما يرى أنثاه على جبل اخر وذلك لتشبيه سقوط هاروت وماروت من أجل امرأة . . فالشهوة هي بالفعل التي تعمى العين عن الخطر ، ولعل مولانا في هذا التشبيه متأثر ببيت ورد في أسرار نامه لفريد الدين العطار :
حتام تريد السفاد كالماعز * فسوف يقصم ظهرك في هذا طوعا أو كرها ( ماخذ / 92 ) .
 
( 818 - 827 ) إن رجل قوى كرستم يكون مصرعه الشهوة نفسيا وهوى النفس والبيت التالي يتحدث عن نفسه وربما يقصد العارف عموما ، وهو يعتبر سكر الشهوة أمرا حيوانيا ، ومثاله في الجمل الذي يتحمل الأثقال والعطش والرحلات الطويلة في الصحراء القاحلة لكنه ينوء بكلكله من ثقل الشهوة وسكره بها ، جاء في ( معارف بهاء ولد 2 / 3 ) “ سكر الجمل في كل سنة أربعون يوما في الربيع في حالة قضاء شهوته بالناقة وفي السكر لا يأكل شيئا
 
“ 451 “
 
أربعين يوما “ لكن شتان بين سكر وسكر : سكر الشهوة وسكر الملائكة من مشاهدة الحق ، فسكر المشاهدة يقضى على سكر الشهوة الذي يشبه الماء المالح لا تحس بملوحته إلا إذا جربت الماء العذب ، وخمور السماء أي عنايات الحق تجعلنا في غنى عن أي سكر أو خمر ساق ، ومن ثم فإن الملائكة ورجال الحق ذوى الأرواح الطاهرة ذوو نصيب من هذه الخمر الإلهية بحيث لا يلقون أي بال إلى خمور الدنيا ، وما هي خمور الدنيا ؟ إنها المال والجاه والمقام والمنصب ، أما القانطون والمطرودون من رحمة الله فهم مثل الكفار في القبور “ كما يئس الكفار من أصحاب القبور “ فقد يئسوا من التوبة تماما ، وكانوا كل ما يزرعونه شوكا ، ومتى ينبت الشوك الثمر ؟ وهل ينبت الشوك إلا الشوك ؟
 
( 828 - 839 ) يعود مولانا إلى قصة هاروت وماروت ، لقد أمنا في عصمة الله وثملا بمشاهدة جماله واستبعدا أن يبدر منهما خطأ أو ذنب وعابا وعذلا وتدخلا في ملكوت الله بقولهما ، لو كنا في الأرض لعمرناها بالعدل والعبادة والوفاء ، لكن القضاء الإلهى كان يقول لهما : قفا ، خففا الوطء ، حذار فإن طبيعة الأرض صحراء البلاء ، حذار وامشيا الهوينى ، مفتحى البصر في هذه الأرض التي من طبيعتها قتل الطيبين الأخيار الأطهار ( كربلاء ) ، انظرا إلى الأقوام الذين أهلكهم سيف القهر الإلهى “ فأديم الأرض من هذه الأجساد “ . . . ومن هنا يقول الله تعالىوَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً( الفرقان / 63 ) وفي البيت 835 مزرعة الشوك أي الدنيا ، لكن هاروت وماروت لم يستمعا إلى تحذير القضاء ، فقد كان هناك من الوجد والسكر حجابا على أذانهم ، وهكذا الجميع أغلقوا عيونهم واذانهم ، اللهم إلا رجال الحق الذين تخلصوا من ذواتهم ، وهذا الختم على الأسماع والأبصار لا دواء له ولا علاج إلا العناية الإلهية ، وهذا القهر لا يطفؤه إلا محبة الحق ، ولا جهد هناك يؤدى إلى نتيجة إلا بتوفيق وعناية الحق العالم بالسداد .
 
( 840 - 845 ) القصة التي تبدأ بهذه الأبيات من قصص القران الكريم
 
“ 452 “
 
ويتضمن هذا الكتاب جزءها الرئيسي ، ولا يكاد كتاب من كتب المثنوى الستة يخلو من ذكر لموسى عليه السلام وفرعون عليه العنة الله . . ترى إذا لم يكن مولانا يعتبر الحرب بين الطغيان والإيمان من أهم المبادئ التي يتجلى فيها العرفان ، ويقوى بها السالك ، إذن لماذا أخذت منه القصة كل هذا الاهتمام ؟
( انظر مقدمة الترجمة العربية للكتاب السادس ) وقصة موسى وفرعون وردت في سور عديدة من سور القرآن الكريم ، ولا داعى لتكرارها منعا للإطالة . ويرى فروزانفر أن مولانا اعتمد في سرده لأحداث القصة ( معانيها بالطبع ) على تفسير أبى الفتوح الرازي ( ماخذ 93 - 93 ) ويقدم مولانا القصة هنا كنموذج للجهد الذي بلا توفيق ، فكل مساعي فرعون انتهت دونما نتيجة ، فالله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، والمقصود بليلة الحمل في البيت 845 هو موعد انعقاد النطفة .
 
( 858 - 861 ) يرى استعلامى ( 3 / 259 ) أن هذه الأبيات إشارة من مولانا إلى أحوال المصريين في آسيا الصغرى في عصره ومقارنتها بأحوال بني إسرائيل تحت حكم فرعون وفي تلك الفترة كان هناك صراع بين عز الدين كيكاوس وأخيه ركن الدين قلج أرسلان على حكم قونية ، لعل عز الدين تحالف مع مماليك مصر ومن أجل ضرب هذا التحالف كان قلج أرسلان يقتل المصريين ، وهذا التفسير غير مفهوم فعز الدين وأخوه ركن الدين لم يكونا من المغول ، ولم يصل المغول إلى آسيا الصغرى إبان حياة جلال الدين ، والقصة شبيهة بقصص حكيت عن المغول في التسام ، وربما سمعها جلال الدين من أحد شيوخه الشوام أو أثناء إقامته في الشام .
 
( 865 - 866 ) حتى بين الشحاذين الطماعين الملحاحين قد يوجد رجل حق كما يوجد الجوهر بين حصى البحر .


“ 453 “
 
 
( 879 ) طبقا لكثير من تفاسير القران ومن بينها تفسير أبى الفتوح الرازي :
“ أن الملائكة حملت امرأة عمران إلى زوجها في مقر عمران ، وبعد جماعها حملوها مرة ثانية وأعادوها “ . وطبقا لرواية قصص الأنبياء للثعلبي أن النساء فكرن بأن فرعون لن يعود إلى الميدان ، وأسرعت كل منهن إلى زوجها وعلى باب البلاط وجدت امرأة عمران زوجها .
 
( 901 ) طبقا لمعتقد في المأثور الإسلامي أن كل نبي كان يولد إلا ولدت نجمة حمراء له في السماء ( انظر ماخذ ص 94 ) كما قال جلبنارلى ( ثالث / 123 ) أنها وردت في إنجيل متى .
 
( 952 ) طبقا لتفسير أبى الفتوح الرازي ، “ ألقت بالطفل في التنور ، وسدت باب التنور وهربت تاركة البيت “ ( ماخذ ص 94 ) .
 
( 959 - 960 ) البيتان ترجمة تقريبية للآية 7 من سورة القصص :فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.
 
( 963 - 968 ) “ الأعمى حاد البصر “ أي الأعمى الذي لا يرى ما تحت قدميه ومع ذلك يمد بصره طامحا إلى رؤية الأشياء البعيدة ، وهكذا كل إنسان من الحرص والطمع قد يغمض العين عما في يده ويمد بصره إلى ما بعد عنه ، مثل فرعون يقتل أطفال الناس حيثما وجدهم ، و “ موسى “ وهو الهدف في صدر منزله لكن الله أعماه عن رؤيته ليتم أمره - وهذا هو الجهد بلا توفيق ، كان مكر فرعون كالأفاعى ، لكن موسى كان أكثر قوة منه ، وكانت أفعاه أقوى من أفعى مكر فرعون . . . وفي البيت 967 يد فوق يد مثلما نقول نحن : أبدان مسلطة على أبدان ، بمعنى أن كل من في هذا الكون مسلطون بعضهم على البعض ، فالقوى يقضى على الضعيف ثم هو أقوى منه فيقضى عليه ، وهكذا
 
“ 454 “
 
حتى نصل إلى الله سبحانه وتعالى . . . فإليه المنتهى . . . فهو البحر الذي لا نهاية له . . . وكل البحار أمامه كأنهار كونها مجرى السيل .
 
( 971 - 975 ) يعلق مولانا على قوى الشر الكامنة في البشر ، فهو عندما يتحدث عن فرعون موجود ، إنما يتحدث عن القوى الفرعونية الكامنة في كل إنسان إن كل ما هو موجود في فرعون موجود فيك ، لكن فرعون وجد الوسيلة ، ولو وجدت أنت الوسيلة لصرت أشد فرعونية من فرعون ، فالأفاعى الفرعونية والرغبات الكامنة وقوى الشر والتدمير هي في بئر من الضعف وانعدام الوسيلة ونار الفرعونية موجودة في كل إنسان لكنها لا تجد الحطب ولو وجدت الحطب لأصبحت مثل نار الفرعون ، ولا يرى مولانا أنه لابد أن ينبه إلى هذه الحقيقة ، إنه يتحدث عن فرعون ، لأن السالك سوف يخاف أن يتحدث إليه عن فرعونية مباشرة ، كما أنه لن يتركه بلا تنبيه حتى لا يظن أن ما يحدثه عنه مجرد حكاية أو أسطورة لا يوجد مثيلها داخل النفس المهلكة الموجودة عند كل إنسان .
 
( 976 - 977 ) إن “ أفعى “ فرعون أو نفس فرعون التي تشبه الأفاعي تجعل مولانا يستحضر حكاية جديدة وهي حكاية الصياد والأفعى المتجمدة وبالرغم من أن فروزانفر لا يذكر الحكاية في كتابه عن مصادر حكايات المثنوى ، يصل استعلامى إلى أن أصل الحكاية من حكايات العرب ، كما يذكر حكاية وردت في مرزبان نامه لسعد الدين الوراوينى عن فلاح صادق حية ، وذات يوم من أيام الشتاء يجدها متجمدة فيضعها في مزود الحمار حتى تدفئها أنفاس حماره ، وعندما تعود الحية إلى وعيها تلدغ الحمار وتعود إلى جحرها ( استعلامى 3 - 263 - مرزبان نامه - تأليف مرزبان بن رستم بن شروان - وأعاد صياغتها سعد الدين الوراوينى ص 36 - ص 37 من طبعة طهران أوفست عن طبعة بريل بلندن ) والواضح أن الحية المتجمدة ترمز هنا إلى النفس الإنسانية إن وجدت القدرة انقلبت إلى عدو ذي خطر ، ويبدأ مولانا القصة ببيتين ثم يتركها حتى البيت رقم 995 ) .
 
“ 455 “
 
( 978 - 994 ) يترك مولانا قصة صائد الحيات ، ويتحدث “ عن الطلب “ أي دور الطلب عند سالك طريق الحق ، والطلب إما أن تكون بإرشاد مرشد أو شيخ ، وإما أن يكون بإرادة الحق وعنايته ، والطلب مقبول بأية طريقة كانت ، “ وبلا أدب “ أي بلا أي نوع من رعاية الشكليات ، والشم : أي الجهد في معرفة طريق الحق عن طريق اثاره ومظاهره ، والنموذج الحقيقي للطلب طلب يعقوب ليوسف عليهما السلام ، فلا يأس ولا قعود مصداقا للآية الكريمةيا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ( يوسف / 87 ) ، وإذا كان هذا هو حال نبي من أنبياء الله فأولى بالسالك والمريد ألا يقعد عن البحث ، وعليه أن يوظف كل قواه في هذا الطلب : السؤال أو السمع أو إدراك اثار الحق .
والرائحة الطيبة هي اثار وجود الحق أو عناية الحق التي تمدها القلوب الواعية ، وإذا ظفرت بأحد عنده هذه الرائحة وفيه أثر من اثار اللطف الإلهى فالزمه وخذه دليلا فإن هذا الجزء يدل على الكل . . . وكل ما في الكون من حسن يدل على وجود هذا الحسن الكلى ، وكل امرئ لديه منه بقدر استعداده وبقدر طلبه ، والمطلوب جدير بهذا الطلب والجهد ، أليست حروب الخلق كلها من أجل الوصول إلى الحسن ؟ وأليس السلام في حاجة إلى حرب ؟ وألا يتعب المرء من أجل أن يصل إلى الراحة ، فما بالك بمنبع الحسن ومنبع السلام ومنبع الراحة ، ألا يستحق دأبا في الطلب ومواصله له ؟ وحتى مظاهر الحياة المادية وصراعات الحياة اليومية ، وتلك الهموم الصغيرة التي تشغل الإنسان هي في الحقيقة سعى إلى الله وسير إليه فالمجاز قنطرة الحقيقة . . . فحتى صياد الحيات يبحث عن الحية من أجل أن تعينه على الحياة ، غائبا عن حقيقة الأمر وهي أنه يطلب العون ممن لا عون منه ، ويقلق من أجل فارغ من الهم .
 
( 995 - 1002 ) يعود إلى قصة صائد الحياة وتكرار المعنى لإبداء الدهشة والتعجب ، وسبب الدهشة هو عجب ذلك الصياد من منظر الحية ، فكيف يعجب
 
“ 456 “
 
الإنسان ويفتن وهو جبل تعيش فيه الحيات والأفاعي إلى جوار آلاف العوالم ، كيف يتعجب ذلك “ العالم الأكبر “ من حية ؟ يقول يوسف بن أحمد “ الإنسان في حد ذاته جبل عظيم ، معدن أنواع الصفات ومنبت أصناف الأعمال والأفعال ومسكن جميع الوحوش والطيور والهوام ومع كل هذه العظمة لأي شئ يكون مفتونا .لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍوهو لا يعرف قدره وفي المعاصي يصرف وقته ( مولوى 3 - 150 ) فأصل الوجود الإنسانى هو الوجود المطلق . إن الكون حائر في الإنسان ومع ذلك فالإنسان قد يحط من قدر نفسه ويحار في جزء تافه وحقير من هذا الكون فكيف ؟ لأن الجانب الضعيف فيه هو الذي يوجهه ، وإذا لم يكن صائد الحيات واقعا تحت سيطرة النفس وهي أفعى ، فكيف كان له أن يسعى في أثر الحيات ؟
 
( 1008 - 1012 ) كما أن الحية متجمدة ميتة في الظاهر ، يقول مولانا : إن عالم التراب هذا ميت في الظاهر وكل “ جامد “ يبدو بلا حركة ، لكن عندما تسطع عليه شمس الحشر ، ويشاء الله أن تبعث الروح في التراب ، سوف نرى ، سواء في الدنيا أو في الآخرة - عالم الجماد وهو يضج بالحياة ، والدليل : عصا موسى التي تخبرنا كيف تحيا الجمادات ، وكل الجمادات إذن في نظرنا ميتة ، لكنها في علاقتها بعالم الغيب ذات حياة وهي تتحدث مع ذلك العالم ، قال الشيخ نجم الدين كبرى - أستاذ بهاء ولد والد جلال الدين “ إن الله تعالى أثبت أن لكل ذرة من ذرات الموجودات ملكوتا لقولهفَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍوالملكوت باطن الكون وهو الآخرة ، والآخرة حيوان لا جماد لقوله تعالى :وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ” منهج 3 / 151 “ وقال الإمام أبو محمد البغوي في معالم التنزيل : إن الله علما في الجمادات والنباتات وسائر الحيوانات لا يقف عليه غيره تعالى فلها صلاة وتسبيح وخشية ( أنقروى 3 / 161 ) .
 
“ 457 “
 
( 1013 - 1019 ) يواصل مولانا قضية أن للجمادات حياة بأمره تعالى ، وهذا شديد الوضوح بالنسبة للأنبياء ، فعصا موسى تنقلب إلى حية ، وتغنى الجبال مع داودوَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ( الأنبياء / 79 )وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ( سبأ / 10 ) ، ووَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ،فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ( الشعراء / 63 )اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ( القمر / 1 )قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ( الأنبياء 69 ) ( ويبتلع التراب قارون بدعوة من موسى ) ( القصص / 79 وما بعدها ) ، ويئن الجذع ويتوجع شوقا إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم - عندما يتركه ليقف على منبر . . . ويقول - صلّى اللّه عليه وسلم - : إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علىّ ، وعندما هرب يحيى عليه الصلاة والسلام من اليهود قال له جبل : “ أهرب إلىَّ حتى أضعك في جوفي “ ، ويعترف الحصى في يد أبى جهل بنبوة محمد - صلّى اللّه عليه وسلم - ، وعن علي - كرم الله وجهه - : كنا بمكة مع النبي عليه السلام - فخرج إلى بعض نواحيها فما استقبله حجر ولا شجرة إلا قال : السلام عليك يا رسول الله . ( الأنقروى 3 / 167 ) .
 
( 1020 - 1028 ) يواصل مولانا مناقشة المنكرين لتسبيح الجماد الذين يريدون إدراك أسرار عالم المعنى متوسلين بالمعايير المادية وموازين الدنيا ، فهم إنما يسيرون إلى جماد أي أنهم في حدود هذا العالم يسيرون ، “ وروح الجماد “ أي علاقة الجماد بعالم المعنى وبعالم الحق ، ولو توجهوا إلى عالم الروح لوجدوا كل أجزاء العالم في ضجيج من التسبيح ، لكنهم بدلا من هذا يلجأون إلى “ التأويل “ ، إنهم لا يستطيعون إنكار القرآن الذي يعترف صراحة بأن ما من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا يفقهون تسبيحهم فيلجئون إلى التأويل ، ولو سمعوا
 
“ 458 “
 
 
بإذن الروح تسبيح الجماد لما لجأوا إلى التأويل ، لكن هذا الأمر لا يتم إلا بنور الحق . ويشرح مولانا عقيدة المعتزلة : الذين يرون أن تسبيح الجماد مقصود به أنه يدفع الإنسان إلى التسبيح تسبح بلسان الحال إن المرء ليعتبر من عالم الجماد فيسبح ، وليس هذا في نظر مولانا إلا لأنهم ينظرون بنظر الحس .
( 1051 ) المقصود الحجاج بن يوسف الثقفي والى بنى أمية المشهور ويضرب به المثل في المأثور الإسلامي في سفك الدماء .
 
( 1053 - 1066 ) تنتهى قصة صياد الحيات ويبدأ مولانا في الحديث عن الدروس المستفادة من القصة . إياك أن تظن أن نفسك التي بين جنبيك قد ماتت ، إنها “ تجمدت “ فحسب لأنها لم تجد الوسيلة ، إن فرعون مع كل جبروته وعظمته لو كان قد وجد الوسيلة ، لما جعل ماء النيل يجرى إلا بأمره ، ( وردت في حديقة سنائى 1440 - 1446 ) ولبلغ بعتوه هذا المبلغ وقد جاء في كتاب شرح التعرف أن فرعون وصل إلى هذه المرتبة استدراجا من الإله وقال : جاء في الخبر أن الله تعالى حبس النيل عن أهل مصر ، فخرج فرعون منفردا عن قومه وسجد لله وتضرع إليه واعترف على نفسه بالكذب في دعواه الربوبية وسأل له أن يجرى النيل بأمره ، فاستجاب له الله استدراجا وامتحانا فصار الماء يجرى معه فإذا وقف فرسه وقف الماء ، وإذا أمر بجريه جرى الماء ( أنقروى 3 / 172 ) أي أن طغيان النفس لا حدود له . فعليك ألا تعطيها القوة ، لأنها بهذا تنجو هي وتنجو أنت ، وهذا مصداق لقوله عليه الصلاة والسلام : “ إذا أحب الله أحدا حماه الدنيا كما يحمى أحدكم سقيمه عن الماء ( جامع 1 / 16 ) وقال على رضي الله عنه :في طلب البسطة لا تجتهد * إن من العصمة ألا تجد( إنقروى 3 / 172 )
 
“ 459 “
 
وكما تشبه النفس بالأفعى ، فإن “ شمس العراق “ هي الشهوة ، إنها تجعل هذا الخفاش الضعيف صقرا ، وما الحل إذن : جهاد النفس مجاهدة الرجال ، وهذا هو الجهاد الأكبر ، فمن المستحيل إذن أن تنتصر في هذه المعرفة دون تضحيات ودون أن تتعرض للأذى ، فهذه هي المعركة الكبرى ، فإذا انتصرت على أعدى أعدائك أي نفسك التي بين جنبيك سهل عليك بعدها القضاء على معظم الأعداء ، هنا تكون الحية طوع بنانك ، كما كانت مع موسى بالرغم من كل ما دبره فرعون ، وهذا من رأى موسى وقوته ، ونور الله الذي يمشى به .
 
( 1067 - 1095 ) منطق الطغيان ، ففرعون الذي استذل الناس واستبعدهم وأضلهم وادعى الألوهية ، ينقلب فجأة إلى حبيب الشعب “ يلوم موسى رسول الله إلى الناس لإنقاذهم من استبعادهم وكفرهم وحياتهم البائسة التي تفضلها حياة الحيوانات ، ويبلغ منطق الطغيان و “ استحمار “ الخلق مداه عندما ينذر فرعون موسى بأنه لن يتبعه سوى “ ظله “ وأن نهايته سوف تكون على أيدي “ الناس “ والذين يسميهم فرعون “ الغوغاء “ ، وهذا هو كل فرعون في كل عصر ، ويستمر المنطق الفرعونى الذي يرى أن الخلق قد اختاروه ( بنسبة 99 % لا جدال ) ، وأن “ موسى “ وحده هو الذي يقف ضده ، فهل من المعقول أن يكون موسى أعقل من كل هذا الإجماع “ الذي لم يسبق له مثيل “ ! وهكذا يرى مولانا أن “ الطغيان “ هو من أهم أمراض “ النفس “ بل أخطرها ، لأن صاحب “ النفس المريضة “ يدمر نفسه فحسب ويبعدها عن الحق ، ويرضى لها بالظلمة ، لكن الطاغية لا يرضيه إلا أن يكفر الناس جميعهم ، وهكذا فتنة الطغيان ، تلك التي لا يحطمها إلا ثبات الإيمان الذي يبديه موسى في هذا الحوار وهو وحيد في مواجهة فرعون إلا من تأييد الله سبحانه وتعالى ، ويطلب فرعون المهلة ، لا ليدبر هو ، فهو عاجز عن التدبير عجزه عن الكلام ، يملؤه الرعب من هذا الفرد وعصاه ،
 
“ 460 “
 
 
لكن ليجمع السحرة ، وهذه نقطة أخرى جديرة بالتوقف : ففراعين العصر أيضا لا تدير شيئا ولا تستطيع ، لكنها تجمع “ السحرة “ من خبراء الإعلام وكتاب الخطب ، والمنادين “ بعزة فرعون “ دون عزة الله تعالى .
 
( 1101 - 1107 ) “ فهرب فرعون ، وكان أعرج ، فأخذت الحية ذيل ثيابه ، ورمته خلف السرير ، فجعل يقول يا موسى بحق أسية خلصني من هذه الحية فلما سمع موسى بذكر آسية صاح بالحية فأقبلت نحوه كالكلب الذي يكون لصاحبه متعاقبا فأدخل موسى يده في فمها فإذا هي عصا كما كانت “ ماخذ / 95 عن قصص الأنبياء للثعلبي 154 وغيره ) .
 
( 1108 - 1117 ) يتحدث مولانا عن الغشاوة التي يضعها الله على العين وذلك على لسان موسى ، فتلك المعجزة التي يحملها في يمينه كانت كفيلة بالإقناع لولا أن ختم الله على القلوب ، إن الحقيقة واضحة كشمس الضحى ، لكن الله سبحانه وتعالىخَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ( البقرة / 7 ) وكم من الغشاوات توجد على العين : من الكفر والطغيان والانبهار بعزة فرعون وقوة “ الحضارة “ ( ! ! ) وهكذا يتساءل موسى :
لماذا لا يحنى الطاغية جبهته أمام المعجزة ؟ لماذا لا يسلم ويصر على الكفر ؟
ويجيب مولانا : إن هذه النفس وما تحمل من أفكار ومعتقدات ووساوس وما تراه أمامها من مغريات هو الذي يحجب أصحابها عن تقبل المعجزة رغم بساطتها ، إنما يتقبلها أولئك النائمون الأيقاظ الذين يغمضون أعينهم عن المغريات والأوهام والأفكار المسبقة ، لكن عيونهم متفتحة على الجانب الآخر ، فهم على علاقة مباشرة بالحق ، قلوبهم صفحات بيضاء لم يخط عليها خط واحد من خطوط الدنيا ، ومن ثم فعندما ينام فكر النفس وفكر الذات يكون حلق الروح مفتوحا لكي يتقبل الحقائق كما هي ، والسبيل إلى فتح هذا الحلق هو “ الحيرة “ تلك الحيرة التابعة من التدبير في حقائق الكون ، ليس الفضل أو العلم بصالح هنا ،
 
“ 461 “
 
الحيرة إذن هي التي تبتلع الفكر والذكر وتفتح الطريق أمام الإيمان الذي لا يشوبه تساؤل منه فكر مستيقظ أو علم مكتسب يسد الطريق إلى الله ، ولذلك قال الصوفية “ اللهم زدني فيك تحيرا “ ولم يقولوا “ اللهم زدنا من علوم الدنيا “ وأنشد الشبلي :” قد تحيرت فيك خذ بيدي * يا دليلا لمن تحير فيكا “وأنشد النوري : “ يا من أشاهده عندي وأحسبه منى قريبا وقد عزت مطالبه “ والمعنى : إنك لست في مكان حتى أطلبك في هذا المكان ولا في زمان حتى أنتظرك في هذا الزمان ولست بمعلول حتى أبحث عن العلة ، ولذلك فأنا قانط من الحصول عليك لكني بحكم المشاهدة أظن أنني وجدت ولست أمنا بهذا القدر من المشاهدة ، فهي ليست الحصول بذاته والمشاهد على خطر ( شرح التعرف 3 / 169 ) . وأولئك الذين يبدون هنا في مقدمة البشر بعلمهم في الحقيقة متأخرون عندما تنقلب المسيرة .
 
( 1118 - 1125 ) إن هذا القطيع من أبناء ادم في رجعة صوب الحق ، والماعز التي تكون مقدمة في القطيع ، تكون في نهاية القطيع عند العودة ، فهذا واضح جدا عندما يعود القطيع من وروده للماء ، فالماعز المتقدمة تكون في المؤخرة بينما يتقدم ذلك الماعز الأعرج “ الإنسان الذي ترك الأسباب والوسائل وظهر عليه الضعف بحيث سبقه كل القطيع من البشر “ في طريق العودة فهو في اخر الصفوف ، ومن هنا فالعابسون هنا يضحكون عند الرجعة ، عندما تنعدم المقاييس إلا من مقياس واحد هو قرب الحق ، وهكذا مثلهم تماما أولئك الدراويش الفقراء المسلمون لله تعالى الخالون من كل علم إلا علم الحق ، إنهم هم الذين باعوا فخر هذه الدنيا ، واشتروا عارها ، لكن بالرغم من أقدامهم المحطمة فهم يذهبون إلى الحج أسرع من غيرهم ( جامى : نفحات الأنس ص 136 - 137 ) “ ربما يكون المقصود مجازا وربما إشارة إلى الحكاية الواردة


 
“ 462 “
 
 
في سيرة ابن خفيف الشيرازي : يفعل بالضعيف حتى يتعجب القوى ، ( ص 136 - ص 137 ) فهذا الفريق من الدراويش غسل القلوب من “ هذه العلوم “ أي علوم الدنيا وظاهرها وزخرفها ، أما المعرفة التي تبقى لهم فهي المعرفة القادمة من تلك الناحية أي المعرفة اللدنية من الملأ الأعلى ، هو “ العلم اللدني “ ( وعلمناه من لدنا علما ) ( الكهف 65 ) .
 
( 1126 - 1135 ) العلم الذي ينبغي أن يمحى من الصدر ، علوم هذه الدنيا ، ومن ثم فاختر الاستسلام والضعف ، كن محطم القدم حتى تصل سريعا ، لا تكن كثير الوسيلة والفيهقة والجدل فكلها حجب في طريق الله تعالى ، كن من الآخرين السابقين أي من أمة محمد الحقيقية تلك التي قال فيها الرسول - صلّى اللّه عليه وسلم - :
“ نحن الآخرون السابقون “ أي المتأخرون عن الأمم السابقون لها بالعز والشرف ، كن كالفاكهة من الشجرة ، هي اخر ما يظهر في الشجرة لكنها هي المقصودة بخلقة الشجرة اخر الأمر ، اعترف بالضعف كالملائكة الذين قالوا “ سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا “ ، إن أحمد كان أميا ، لكنه طار بنور الحب ، إن لم تدع العلم هنا أودع الله لك العلم في قلبك ، وما ذا في هذا ؟ قد تفقد بعض الشهرة هنا ، قد لا تكون معروفا بين الناس لكنك لست بالقليل عند الله سبحانه وتعالى ، “ فبحسب امرئ من الشر أن يشار إليه بالأصابع إلا من عصمه الله في دنيا أو اخرة “ و “ رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره “ ( أنقروى 3 / 185 ) ، والخرابات المهجورة هي موضع الكنوز ، ومن ثم فالعلم الإلهى في صدور هؤلاء المهجورين من الخلق . ويدرك مولانا أن في هذا الكلام كثيرا من الشبه : كيف يهاجم مولانا “ العلم “ وكيف يمكن أن نتقبل نحن هذا في “ عصر العلوم “ ؟ لكن مولانا يرى أن الدابة القوية تحطم العقال والقلوب العامرة تحطم الشبه وتقضى عليها ولا تسرع في أثر “ الزيغ “ ، فالطريق الذي يتحدث عنه مولانا هنا هو طريق خاصة الخاصة وواضح أنه يتحدث عن “ الطريق
 
“ 463 “
 
إلى الله “ ليس الطريق إلى “ الحضارة العظمى “ وإلا فإن تبجيل “ العلم والعمل “ منتشر على طول المثنوى وعرضه .
 
( 1136 - 1147 ) إن العشق . . . عشق الحق تعالى يمحو كل هذه الشبه ، إنه كنوز النهار يمحو كل خيال ، فإذا كان السؤال قد جاءك من الحق فاطلب جواب سؤالك من الحق ، إذا كان السؤال قد نبع من قلبك ، فاطلب من الحق أن يضع جوابه في قلبك أيضا ، فإن لم يكن قلبك محدودا بزوايا ، فهو طريق واسع شاسع ممتد مباشرة إلى الحق ، تنيره شعلة إلهية من قمر لا هو بالشرقى ولا بالغربى ولا تتردد إذا كنت تعرف طريقك ، فالشحاذ هو الذي يتردد ، فإذا كنت أنت جبل المعنى ، فكيف تريد جواب المسائل المعتقدة المعنوية من الدنيا وأسبابها ( الصدى ) ؟ ضع أذنك على داخلك وانصت حتى تستمع إلى حديث الحق ، تذكر عندما تكون متألما . فأنت لا تعرف سوى جهة واحدة تتجه إليها رافعا أكف الضراعة وأنت راكع . فكيف إذن عندما يمضى الألم تقول : أين الطريق ؟ لما ذا لم تعكف على من أزال عنك الألم ؟ إنه هو القادر أيضا على شفاء شبه العقل ؟ إنك بعدها تقول إن لديك عقلا ، لكن متى كان هذا العقل على وتيرة واحدة ؟ لكن العقل الكلى العقل الباحث عن الله امن من ريب المنون ، فعقل الدنيا جدير بعلوم الدنيا ، وأفضل منه الحيرة ( انظر تعليقات 1117 ) ، وتقبل “ الذل “ في طريق الحق ، ودعك من الدنيا وزخرفها وزينتها . ( بخارا حيث مركز العلم الظاهري ) .
 
( 1147 - 1156 ) إنه يتعجب ، ما هذا ؟ لقد جرفنا الحديث وتركنا موضوعنا الأصلي “ السبزواري : هذه ليست حكاية : إنها شهود ففي الحديث :
( اعرفوا الله بالله والرسول بالرسالة وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) “ ص 203 “ ( موضوعه الأصلي هو هذه الأحاديث بالفعل ، وليس الحكايات ) ، على كل فليست هذه الحكايات إلا تجل لشخصيتنا وأفكارنا إنني
 
“ 464 “
 
أنمحى عن ذاتي ، وأنغمس في أنينى وحنينى حتى أجد التقلب في الساجدين ( الشعراء / 219 ) ، أي حتى أحسب من بين عباد الحق ، ومن ثم فإن ما تقوله يعد من قبيل الحكايات ، إنه صورة لأنفسنا وما يدور فيها من أفكار وطموحات إلى الملإ الأعلى ، إن الذي لا يقبلها كحكاية هو من يكون في هذا العمل ، إنها وصف لحالة وحضور لرجال الحق وهم الأصدقاء الأعزاء ، قالوا : إن القران هو أساطير الأولين ، إنما قالوا هذا من نفاقهم ، إن هي إلا وصف لأحوالنا نحن وما نحن فيه ، وفي عالم المعنى لامكان ولا زمان ، أما الماضي والحاضر والمستقبل فهي كلها أمور فينا نحن وخاصة بنا ، إن ما أقوله عن عالم المعنى هو مجرد مثال ، وإلا فكيف تستطيع ألفاظنا أن تصف هذا العالم ؟ إن الله تعالى قد ضرب المثل لنوره بمشكاة فيها مصباح . وما المناسبة بين هذا النور ونور المشكاة ؟
( منهج 3 / 171 - 172 ) وفي شعر أبى تمام :لا تنكروا ضربي له من دونه * مثلا شرودا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره * مثلا من المشكاة والنبراس( ديوان ص 153 ط - دار صعب . . . بيروت ) وليس بحر الحق بالجدول الذي له شاطئ بحيث تملأ قربتك منه وتمضى ، ينبغي أن تمخر فيه لا أن تبحث عن الشاطئ أو الساحل .
 
( 1157 - 1197 ) المقصود بالأبيات أن الساحرين كانا مبتكرين في سحرها ولم يكونا مقلدين ، وهما في رواية من أهل مصر وفي رواية أخرى من أهل نينوا ، لقد تنازع الدهشة والإعجاب قلبيهما ، لأنهما أعجبا بموسى وهارون كساحرين مثلهما ، والمقصود بعرق الجنس هنا أي المنافسة في العمل بين أهل المهنة الواحدة ، وفي البيت 1174 يتحدث مولانا عن حال المراقبة عند الصوفية عندما يضعون رؤوسهم على ركبهم في تفكر لكشف أسرار الحق ( انظر : ج 2
 
“ 465 “
 
تعليقات البيت 158 ) وفي الأبيات التالية ما جاء عن سلوك الساحرين وزيارتيهما لقبر أبيهما ونصيحة أبيهما ومحاولتهما سرقة العصا . . . إلى اخره هو مطابق لما ورد في تفسير أبى الفتوح الرازي ( انظر الرواية في ماخذ / 93 - 94 ) .
 
( 1198 - 1215 ) القران بالنسبة لمحمد - صلّى اللّه عليه وسلم - هو كالعصا بالنسبة لموسى عليه السلام ، هو معجزته والمعجزة لا تبلى على مر الزمن ، والذي أنزلها وعد بحفظها ،إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ( الحجر / 9 ) والمقصود الحفظ من التحريف والتعدي والفهم الموجه والتأويل ، ويفسر استعلامى “ رافض للطاعنين في حديثك “ على أن المقصود هنا بالحديث هو القران ( 3 / 272 ) ، والواقع أن هذا تزيد ، فالقران ليس حديث الرسول وإنما هو حديث الله سبحانه وتعالى ، والمقصود بالحديث هنا أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام كجزء لا غنى عنه من مصادر الدين ومصادر التشريع ، ويركز مولانا كثيرا على هذا المعنى ، وكأنه كان يستشرف أنه كما طعن كثير من المغرضين في الأحاديث النبوية الشريفة ، سوف يأتي زمان يحاول فيه بعض من ينتسبون إلى الإسلام بالاسم أن يخرجوا الأحاديث النبوية من الشريعة الإسلامية على أساس أن بعضها مشكوك فيه وما دام بعضها مشكوك فيه فإنه من الممكن أن ينصرف هذا الشك إلى الكل . وهذا مجرد نموذج كما يمكن أن يؤدى إليه تطبيق مناهج الشك الحديثة على موضوعات قديمة ، والمقصود بكل هذا الجزء عند مولانا أنه كما أن الساحرين لم يستطيعا مع كل براعتهما أن يحصلا على عصا موسى أثناء نومه ، فإن أحدا من سحرة المقال والمنهج العلمي لن يستطيع أن ينال من القرآن مهما أوتى من قوة ومن “ فلسفة “ فإن النور المحمدي كالسهم سوف يصمى فاه .
 
( 1216 - 1228 ) عودة إلى قصة موسى عليه السلام ومحاولة الساحرين سرقة العصا ، إن وصف مولانا لنومة سيدنا موسى عليه السلام خارج المدينة
 
“ 466 “
 
في النخيل مستوحى من وصف كتب السيرة والتاريخ لنومة سيدنا عمر - رضي الله عنه - عند مجىء رسول الروم . إن هذا النائم كان هو الوحيد اليقظ في عالمه ، لقد أغلق عين الرأس لكن عين القلب كانت تستشرف الأكوان ، وهكذا فعندما تنغلق عيون الماء والطين “ الجسد “ فإن عين البصيرة تنفتح على كل الأكوان ، وما إغماض العين إلى جوار يقظة القلب ، أليس الرسول الكريم هو الذي قال : “ عيناي تنامان ولا ينام قلبي “ ( منهج 3 / 180 ) وإذا كان الملك “ القلب “ يقظا . . . بماذا يضر نوم الحارس ( عين الجسد ) ؟
 
( 1252 - 1259 ) يترك مولانا قصة سيدنا موسى دون عودة ويدخل في النتيجة المستفادة من سردة للقصة : والواقع أن مولانا كان يقتبس من قصص الأنبياء والأولياء ما يصلح للتعبير عن أفكار عنت له عند إملاء المثنوى ، وواضح من قصة سيدنا موسى هنا أو الجزء المنقول منها أنها تعبر عن موقفين : الجهد الذي لم ير توفيقا من الله سبحانه وتعالى وكيف لا يؤدى إلى نتيجة مهما كان المدبر أو المجتهد ومهما كان حوله وطوله ومهما كان عدد خيله ورجله ومهما ركض وسعى ، فالله غالب على أمره في النهاية . وفكرة أخرى منبثقة عنها وهي أن أقل جهد مبذول بنور الله يستطيع أن يقضى على كل هذه الجهود وأن معجزة واحدة إلهية تستطيع أن تبتلع سحر العالم بأجمعه ، ويخلص مولانا إلى أن كلا منا في داخله موسى وفرعون ، وعلى كل منا أن يتبع موسى وفرعون في داخله . هما موجودان حتى القيامة ، ويتغير السراج ولكن لا يتغير النور فالنور واحد ، وأما أن تكون من رجال الحق وترى هذا النور أو تتغلب عليك تلك النفس الفرعونية وتقضى عليك ، والنور هو الواحد ، وهو الذي ينجى من الضلال ، لكن الأعداد والثنوية والاختلاف بين الأديان تأتى من اختلاف وجهات النظر وإن كان الكل يسيرون في أثر حقيقة واحدة . ومن تعليق يوسف بن أحمد ( فموسى وفرعون نقد حالك . . . موجود فيك ، اللائق أن تطلب هذين الخصمين في نفسك
 
“ 467 “
 
لأنهما حسب حالك ، وتعلم أن المراد من موسى الروح الإنسانى ومن هارون عقل المعاد ، ومن العصا القران أو العرفان والإيقان والخواطر الرحمانية التي يعبرون عنها بالوحي الإلهامى ، ومن اليد البيضاء نور التوحيد ومن فرعون النفس الأمارة ومن هامان عقل المعاش والوساوس الشيطانية ومن السحرة الفسق والعصيان وأعوان النفس من الهوى والشهوة وغيرها ، وهذه كلها في الأنفس ما دام سالك طريق أهل الله يصادق فرعون نفسه ، ويخاصم روح بدنه وعقل معاده لا يقدر على الوصول لربه ، وإن أردت الحصة من الآفاق تعلم أن المراد من موسى الدال على الباقيات الصالحات من الوعاظ ومن هارون الذي يعاون الناس على الصلاح ، ومن العصا القران لزجر الفساق ، ومن فرعون أصحاب العصيان ومن هامان إخوان الشياطين أصحاب الخذلان ومن السحرة أهل الدنيا الذين يزينون للناس العصيان والشهوات ( منهج 3 / 183 ) .
 
( 1260 ) الحكاية التي تبدأ بهذه الأبيات وردت قبل مولانا جلال الدين في مقامات أبى حيان التوحيد وأحياء علوم الدين وكيمياى سعادت للغزالي ، كما وردت في حديقة الحقيقة لسنائى باختلافات جزئية ، فمولانا هنا جعل الفيل في حجرة مظلمة بينما جعلته الروايات الأخرى ظاهرا للملأ لكن الناس كانوا عميانا وواضح من بعض التفصيلات أن مولانا كان - مع ذلك - ناظرا إلى رواية سنائى :
“ كانت هناك مدينة كبيرة في حدود الغور ، وكان كل أهل هذه المدينة عميانا - ومر ملك بهذه المدينة ، أحضر العسكر وضرب الخيام - وكان له فيل كبير ذو هيبة ، اتخذه من أجل الجاه والحشمة والصولة - فرغب الناس في رؤية الفيل ، وذلك من كثرة ما سمعوا عنه من تهويل - وتقدمت مجموعة من هؤلاء العميان إلى الفيل ، ولكي يعلموا شكل الفيل وهيئته ، أسرع كل واحد منهم إليه متعجلا ، فتقدموا إليه وأخذوا يلمسونه بأيديهم ذلك أنهم جميعا كانوا فاقدى البصر


“ 468 “
 
فلمس كل واحد منهم عضوا ، واطلع على جزء منه - وتعلق كل منهم بصور مستحيلة ، وربط روحه وقلبه وراء خيال - وحينما عادوا إلى أهل المدينة ، تجمع العميان الآخرون حولهم - وكان كل واحد من هؤلاء الضالين سيىء العقيدة راغبا ومتشوقا - فسألوا عن صورة الفيل وشكله ، وسمعوا جميعا ما قالوه ، فذلك الذي وقعت يده على الأذن ، سأله الآخر عن شكل الفيل فقال : شكل مهول وعظيم عريض وسميك ومتسع كالكليم - وذلك الذي وقعت يده على الخرطوم قال : لقد صار شكله معلوما لدى - فهو كالأنبوية أجوف القلب ، هو عظيم ومسبب للحيرة - وذلك الذي وقع ملمسه من الفيل على قوائمه الغليظة المليئة بالجذور - قال : إن شكله كما هو مضبوط حقيقة كأنه العمود المخروط . لقد رأى كل واحد منهم جزءا من الأجزاء ووقع لهم الظن الخطأ ( انظر الترجمة العربية لحديقة الحقيقة الأبيات 166 - 187 وشرحها ) والحكاية من أشهر الحكايات التي انتشرت على المستوى العالمي وواضح من البيتين 1263 و 1264 أنهما مطابقان تماما لما قاله سنائى .
 
( 1269 - 1280 ) ما دمت لا تعرف ، وما دمت لا تملك عينا بصيرة فلماذا لا تأخذ مرشدا دليلا لك ؟ وإذا كنت معتمدا على عين الحس فإن عين الحس لن تكون لك في هذا المجال أكثر من كف لا يمكن أن تحيط ( به ) ، إنك ترى الزبد من البحر لأنك تنظر بالعين التي ترى الزبد ، فانظر بالعين التي ترى البحر لتراه أن كل ما تراه هو من اثار عالم الغيب وأنى لك رؤية عالم الغيب ذاته ؟ ومن هنا فنحن في نزاع . . . نطفو على سطح البحر كالسفن المتصادمة دون علم لنا بماهية البحر وأعماقه ، إنك تنظر إلى الماء ، فانظر إلى الماء الذي يسيره والتعبير مأخوذ من حديقة سنائى أو النفس الرحماني ( الذي أطلق اسم الماء عليه للطف سريانه في الأشياء “ أنقروى 3 / 208 “ وذلك الماء أي الماء الأصلي موجود من قبل موسى ومن قبل عيسى بل من قبل آدم وحواء هو أزلي يسقى مزرعة الموجودات منذ الأزل ، ثم يستدرك مولانا : ما هذا الكلام الناقص ؟ ما الفيل ؟

“ 469 “
 
وما البحر ؟ وما القوس ؟ وما الكف ؟ 
تعالى الله لكن كيف نعبر بكلام هذه الدنيا عن تلك الدنيا ؟ كيف نعبر بكلام الصورة عن المعنى ؟ 
كيف نعبر عما لا يعبر عنه بالكلام ؟ إنه لكلام ملىء بمواطن الزلل ومواطن الانزلاق ، وإن لم تتحدث لغص باطنك بالكلام 
- وربما قتلك ، ولو قلته على سبيل المثال ، فإن الناس قد يتعلقون بالمثال ، وما الحل إذن ؟ ؟ ! ! 
مشكلة إذن ظلت بلا حل أمام مولانا ، شبهها في مجال اخر بغسل الدم بالدم ، عندما تحدث عن المقال الذي هو آفة الحال ( انظر الأبيات 4728 - 4730 الكتاب الذي بين أيدينا ) .
 
( 1281 - 1298 ) يقول مولانا : إننا نتعلق بظاهر القصص فحسب لأننا قد تعلقنا بهذه الحياة الدنيوية ( حياة الصورة ) مثل نبات جذوره في الطين ولذلك فهو يهتز عند أقل ريح دون يقين كما نسمع نحن الحقائق ونصدقها دون تيقن ( وليتنا نصدقها ) ، فإن انتقلت القدم من الطين سوف نستطيع الانتقال لأنك في هذا الوقت سوف تكون مستغنيا عن الحياة المادية ، لكن سيرك سوف يكون صعبا فما الحل إذن ؟ 
ينبغي أن تأخذ حياتك من الحق ، حياة لا علاقة لها بمتاع الدنيا المادية ، وهي أشبه بفطام الطفل يستغنى عن لبن الرضاع ويكون أكلا للغذاء فإذا انقطعت إذن عن مص العصارة من الأرض ستأخذ “ قوت القلوب “ أي معرفة الحق وأسرار الغيب ، حينئذ سوف تمحى الحجب بالتدريج ، وسوف ترى الأسرار المستورة دون حجب ، وسوف تسافر بين الأفلاك كأنك النجم سفرا بلا كيفية ولا يوصف ، إنه أشبه بالسفر من الوجود إلى العدم فكما خلقتنا المشيئة من عدم ونحن لا ندري كيف حدث هذا ، 
فعلى نفس النسق سوف نعود إلى الحق مصداقا لقول الإمام على - كرم الله وجهه - “ إن لم تعلم من أين جئت ، لم تعلم إلى أين تذهب “ ( استعلامى 3 / 176 ) “ والفكرة هنا موجودة بنصها في معارف بهاء ولد ( 1 / 39 ) “ جاهد الآن حتى تفتح على نفسك بابا من أبواب الخير حتى تفتح عليك عشرة أبواب من أبواب الخير
 
“ 470 “
 
وتخلص بك من الجلد إلى اللحم ، ومن اللحم إلى الدم ومن الدم إلى اللبن ، ومن اللبن إلى ماء الحياة وساحة الغيب ، وعندما تدفن في التراب تصل إلى الماء . وإذا واصلت هذا الطريق تصل إلى الملك والدولة وفي النهاية لقد جئت من عالم الغيب ، ومن تلك الناحية من الحجاب إلى هذه الناحية فأي علم لك الغى ، ومن تلك الناحية من الحجاب إلى هذه الناحية منه ولم تعرف كيف جئت ، وستعود ثانية من هذه الناحية من الحجاب إلى تلك الناحية فأي علم لك بكيفية الذهاب ؟ من العدم أتيت وإلى الله تمضى الذي أوجدك من عدمإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ .
قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌوإذا كنت لا تعلم هذا الطريق وأنت تعلمه فسوف أقول لك سرا من أسراره : اترك العقل الذي يحسب وأنس هذه الدنيا ، وسد أذن الجسد التي تسمع كلام هذه الدنيا ، وراقب وانتظر ، حتى تحل بك عنايته ( انظر 1146 ) .
 ولكيلا يستمر مولانا في إفشاء هذه الأسرار وهتك هذه الحجب ، فإنه يمنع نفسه عن الحديث ، فالمستمع لم ينضج بعد بحيث يكون قابلا لهذه الأسرار ، وهو كالفاكهة الفجة ما لم يصل إلى معرفة الله فلا نفع منه ولا حاصل ، والفاكهة الفجة هي التي تتشبث بأشجار الدنيا ولا تليق بأن توضع في القصور لكنها بعد نضجها تضيق بالأشجار وتتركها ، وما هي فجاجة الإنسان ؟ 
التنطع والتعصب . إنه أشبه بالجنين الذي يتنطع ويتعصب للرحم ولا يرى عالما سواه وليس له غذاء فيها إلا الدم ، ولا يرى العالم الرحب والواسع ولا الأرزاق العظيمة التي سوف يظفر بها إن ترك الدم ( انظر تعليقات 74 - 52 وتعليقات 3965 - 2771 من نفس هذا الكتاب ) .
 
( 1299 - 1305 ) مثال الفاختة التي تقول كو ( أين ) موجود عند الخيام وعند سنائى ص 82 من الحديقة ) : أما الرجال فهم كالفاختة في الطريق الطوق في أعنقاهم ويقولون : أين أين . يعود مولانا فيقول : إن هناك الكثير مما يقال ، يقوله لك روح القدس ، يقوله لك إدراكك ، وكل ما هو موجود في الكون وحدة
 
“ 471 “
 
واحدة ، ولا يوجد “ أنا “ أو “ أنت “ فكلاهما واحد كيف ذلك ؟ 
يضرب مولانا الأمثال من الحياة اليومية ، فكما أنك ترى في النوم وتسمع وتسعى دون أن يبدر منك شئ من ذلك في الحياة الواقعية ، فالعلاقة مع الحق سبحانه وتعالى علاقة داخلية لا شئ منها مطروح في العالم الخارجي فإنك إذن إذا تنبهت إلى هذا الباطن فسوف تدرك أنك “ ملك “ وحدك وعالم عميق ، عالم صغير انطوى فيك العالم الأكبر ، وما فيك قوى هو هذه الذاتية ذات الأعمال والدهاليز والسراديب ( ذات التسعمائة طية ) ، لقد شبهت هذا السير الباطني بالنوم ، وهو سواه .
فاصمت إذن والله أعلم بالصواب .
 
( 1306 - 1331 ) اصمت إذن ، واترك الفرصة للمتحدثين الذين يعلمون أسرار الغيب عن طريق كوة القلب أو عن طريق عناية الله ولطفه ، إنهم الشموس الساطعة ، والأرواح ذات الرابطة المباشرة مع الحق ، وما دمت مع رجال الحق ، فدعك من أنيتك ، ولا تظهر العلم بالسباحة ما دمت في سفينة نوح ، لقد أعطاك الله طريق النجاة فما لك أنت والبحث مالك والجدل ؟ 
وإن فعلت فأنت مثل كنعان : لقد كانت السفينة أمامه ، لكنه تنفج بالقدرة على السباحة ، وما سباحته وسعيه وجهده وكده إلا كضوء شمعة خافتة أمام هذه الرياح الصرصر ، وما الجبل الذي يريد أن يأوى إليه والجبال في ذلك اليوم كأنها قشة أمام ذلك الطوفان المهلول ؟ 
وما هذا الدلال المقيت أمام من لا والد له ولا ولد ولا صاحبة ولا شريكة ؟
إن كل إلا اتى الرحمن عبدا ، لكن الإدبار يضع الأختام على قلوب المدبرين وأسماعهم . 
هذا الحوار بين نوح عليه السلام وبين ولده كنعان ، هذا الحوار الحي المفعم بالحرارة والحياة نموذج يقدمه مولانا جلال الدين كثيرا ، فمهما كان هناك من ناصح ، فإن نصحه لا يجدى مع من لا يريد الله له الهداية ، فالمهم العناية الربانية ، هي التي تجعل نصح الناصح ذا فائدة وأثر .
 
( 1332 - 1355 ) بعد غرق كنعان ، يتوجه نوح بقلب ملىء بالألم إلى الله
  
“ 472 “
 
تعالى ، لقد جرف السيل يا الله كل ما أملك ( الحمار والأحمال ) ولقد وعدتني ووعدك الحق بأن أهلي ناجون ، وهناك يأتي الجواب الإلهى ، نعم وعدتك ووعدى الحق ، لكن هذا ليس من أهلك ، إنه ليس منك ، إنه عضو فاسد ، والعضو الفاسد وهو أقرب إلى الإنسان من كل أهله وولده يستغنى عنه بالبتر في سبيل أن ينجو الكل ويسلم ، 
ويواصل نوح ( ليس مولانا كما يقول استعلامى 3 / 278 فالحوار مستمر ) : يا إلهي إن كل ما هو سوى وجودك الحق مسبب لألمى وضيقى ، وإن كان ثمة غير ، فليكن هالكا منك ، إن صلتي بك يا الله هي صلة دائمة مباشرة لا واسطة فيها ولا حائل بيني وبينك فيها ، فنحن الأسماك وأنت بحر الحياة ، فنحن أحياء بك يا من لا تستوعبك الأفكار والأوهام لقد كان كل كلامي مع هؤلاء في الظاهر لكنه كان معك أنت في الحقيقة لقد كان هؤلاء الناس هم بمثابة الأطلال والدمن والمخاطب الحقيقي هو أنت ، ومتى كان الشاعر الذي يقف على الأطلال والدقن يمدح الأطلال والدمن ، إنه إنما يمدح الأطلال والدمن ظاهرا ، لكن هدفه من كل ذلك هو “ المحبوب “ إن كل ما قالوه من غزل في العين والحاجب والوجه الحسن كلها في حمد الله ومن ثم فأبيات كثيرة قيلت في هذا الشأن وهدف الأبيات هو هذا ( معارف 1 / 392 ) ، 
فالحمد لله أنك أزلت الأطلال والدمن حتى أحدثك بلا واسطة ، لقد كنت أحدث هؤلاء الناس عن “ الله “ حتى أسمع صدى صوتي على ألسنتهم يقولون “ الله “ لأسمع اسمك مرات ومرات فأنا عاشق لهذا الاسم ، وكل نبي هكذا أنه إنما يخرج إلى الجبل يذكرك حتى يردد الجبل صدى صوته فيسمع أسمك مرددا مضاعفا ، أما أولئك الذين لا يرددون اسم الله حتى وإن كانوا جبالا ، فهي جبال لا تليق إلا بسكنى الحشرات والفئران ما دامت خالية من اسمك . ومن الأفضل أن ندعها وشأنها ، فهي ليست جديرة بالرفقة والصداقة .
 
( 1362 - 1376 ) لم يرد الحديث الأول الوارد بالعنوان في كتب الحديث
 
“ 473 “
 
فيما نعلمه وقال جلبنارلى ( 3 / 240 ) أنه من الحديث ( كل نفس تحشر مع هواها فمن هوى الكفرة فهو مع الكفرة ولا ينقصه علمه شيئاً ) ، أما الحديث الثاني فهو جزء من حديث قدسي ورد في الجامع الصغير “ قال الله تعالى : من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فيلتمس ربا سواي “ . ويشير مولانا إلى التناقض ( الظاهر ) الموجود بين الحديثين والذي يثيره إنسان مغرم بالجدل : إذن فكفر الكفار ونفاق المنافقين هو أيضا من قضاء الله فلماذا لا ترضى عنه ، 
ويجيب مولانا : إن البشر في رأيه مسؤولون عن أعمالهم ، وأهل الخير فقط هم الذين يربطون كل أعمال البشر من خير وشر بالله تعالى ومن ثم فهم لا يخشون الكفر ، وهذا ليس صحيحا في نظر مولانا ، ويرى مولانا أن التناقض الموجود بين الحديثين تناقض لفظي ، فالقضاء هو حكم الله تعالى ومبنى على علمه الأزلي أما المقضى : فهو نفاذ قضاء الله في مواضع جزئية تتناسب مع المرء وأعماله وأفكاره ، أما عمل الكافر فهو من اثار القضاء ومن الأمور “ المقضية “ والرضا بقضاء الحق هو أن تقبل وقوع الكفر كما يقع أي شئ وليس أن تقول : إن شقاق الكفار وخبثهم أمر مستحب . والكفر في مرحلة القضاء لا يعد كفرا ولكنه عندما “ يتعين “ أي يأخذ الصورة العينية في سلوك الكفار نسميه آنذاك كفرا ، وإذا سميناه كفرا في مرحلة القضاء فكأننا سمينا الحق بالكافر ، وقضاء الحق هو علمه الأزلي والأبدي بكل الأمور ، وليس جزئياتها . 
فالنقاش يستطيع أن يرسم صور الحسن والقبح ، وحتى رسمه للقبح لا يدل على أنه يحبذه أو يدعو إليه ، بل إن رسمه للقبح يبين أيضا قوته على رسم الشر كقوته على رسم الخير ، وفي النهاية يخلص مولانا إلى أن هذا الجدل ليس من ديدنه وليس من الطريق الذي يسير عليه ، والخوض فيه يمنعه عن الخوض في حديث “ العشق “ ( القابل للخير والشر على السواء ) والإرشاد وهو خدمة اجتماعية والهية .


 
“ 474 “
 
( 1377 - 1386 ) يسوق هنا فكاهة لكي يبين أن الحيرة ( وليس التحير ) ، تمنع السالك من بيان أفكاره لأنه عندما يدرك عظمة عالم الغيب لا يستطيع أن يفصح عن مواجيده ، ويعجز أيضا عن البحث والفكر : والفكاهة واردة في مقالات شمس الدين التبريزي ( ص 91 تحقيق أحمد خوشنويس - تهران - زهره - 1351 ه - . ش ) 
والبحث إذن والفكر عن القضاء والكفر أشبه بفصل الشعيرات البيضاء عن السوداء في لحية الكهل ، هي عمل فيه تنطع ، ولا مجال للعاشق ولا وقت للتنطع والدخول في جدل كلامي ، ثم يسوق فكاهة أخرى ، أشبه بمن ضرب أحدهم على قفاه ، وعندما يهم الآخر برد الضربة يدخل في جدل : هل الصوت الذي نتج عن الضرب من القفا أو من الكف ، 
ويجيب المضروب : بأن الألم الذي أحس به من الصفعة لم يترك له فرصة للتفكير أو الجدل ، ومن ثم فإن من لديه “ ألم الدين “ والعشق لا يدخل في مثل هذا الجدل فهو جدل جدير بعلماء الكلام لا بأصحاب القلوب .
 
( 1387 - 1393 ) تحت عنوان الحكاية لا يسوق مولانا حكاية بالمعنى المفهوم ، بل هو خبر متصل بالمعنى الذي يبحثه ، هو أن اللباب يصرف الذهن عن القشور ، أو أن الباطن يصرف الذهن عن الظاهر ، أو السلوك والذوق يمنعان عن الخوض في المسائل الجدلية الكلامية ، ومن هنا فالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لم يهتموا بحفظ القران . . . فقد كان لهم طريق من وجود الرسول صلّى اللّه عليه وسلم إلى لب القران ، ومن ثم فقد شغلهم هذا اللب ، وفي البيت رقم 1390 يقول : إن رقة القشر وتلاشيه يشبهان قرب العاشق من المعشوق كلما اقترب انقضت ذاتيته وفنى وجوده في المحبوب ، وفي البيت 1391 أن كيفية أن تكون طالبا وكيفية أن تكون مطلوبا كلاهما عكس للآخر ، وحقيقة القران الكريم هو النور ، والصحابة الذين كانوا يدركون ذات النور في وجود الرسول لم تكن بهم حاجة إلى حفظ الألفاظ ، وتجلى نور الحق كان يبعد كل شئ حتى القرآن عنهم وفي البيت 1392
 
“ 475 “
 
أوصاف القديم أي أوصاف الله سبحانه وتعالى والحادث أن المخلوق وما له وجود عيني وصوري في هذا العالم ، ومن ثم فطبقا لقول الجنيد “ إذا قرن المحدث بالقديم لم يبق له أثر “ ( مولوى 3 / 202 ) ، والقديم نور الله والحادث “ ألفاظ القران وصوره . . “ وفي البيت 1393 جل فينا : أي عظم فينا وارتفع قدره ، ويحتمل أن هذا البيت متأثر برواية وردت في مصادر الحديث عن أنس رضي الله عنه : “ أن رجلا كان يكتب للنبي صلّى اللّه عليه وسلم - وقد كان قرأ البقرة وآل عمران ، وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا “ ( استعلامى 3 / 281 ) 
يقول يوسف بن أحمد “ وما كان هذا الحال من عدم قوة الحافظة بل كما قال صاحب شرعة الإسلام كانت الصحابة يتعلمون عشر آيات لا يتجاوزونها إلى غيرها حتى يعلمون ما فيها من العمل ، فضلا على أنهم صرفوا أوقاتهم في تدبر القران وتفكر معناه الشريف “ ( مولوى 3 / 201 - 202 ) وورد في مقالات شمس الدين التبريزي “ لم يكن الصحابة يروون قط على المصطفى - صلّى اللّه عليه وسلم - فقد كانوا في سكر من الطريق ، وفي هذا المجال لم يرو العتيق - أي الصديق رضي الله عنه - أكثر من سبعة أحاديث ( ص 164 ) .
 
( 1394 - 1400 ) يواصل مولانا : إن الجمع بين ظاهر القران ومعناه لا يجتمعان إلا لسلطان عظيم ( ذي قوة إلهية ) ، وبيان هذا المعنى العظيم في ألفاظ أشبه بأن تنتظر من الثمل أن يراعى الأدب ، فأولئك الذين يصلون إلى الحقيقة تسكرهم هذه الحقيقة ولا يتأتى حالهم في لفظ ( انظر تعليق الأبيات 1269 - 1280 ) ، والمستغنى لا يراعى الضراعة والابتهال ، 
ثم يقول : إن العصا محبوبة للعميان ولازمة لهم ، وأهل الظاهر كالعميان لا يعلمون حقيقة القران ، لكن أذهانهم كالصناديق المليئة بألفاظ القران مثل عصا العميان يستدل بها عميان القلب ، ويتكئون عليها بأن يجعلوها أسباب المعاش ، وعلى هذا يعشقون ألفاظ القران أو يحفظونها للمراء والشهرة “ مولوى 3 / 203 “ .
 
“ 476 “
 
وهؤلاء العميان يستطيعون أن يحفظوا جيدا ما يحتوى عليه القران الكريم من البينات والذكر والنذر ، ولكنهم لا يفهمون معناها ، ويتدارك مولانا الأمر : حتى حفظ الألفاظ خير من لا شئ : فالإنسان الخالي من الخير والشر أفضل من إنسان مملوء بالشر والكفر والنفاق .
 
( 1401 - 1406 ) يصل مولانا إلى نتيجة أعمق : إن الذي يصل إلى المعشوق ما حاجته بعدها إلى التوسل بالوسائل ؟ ومن ثم فقبيح بأهل المعنى أن يتوسلوا بوسائل أهل الظاهر والعبارة لأبى الحسن أحمد بن أبي الحوارى ، بلغ رتبة الإمامة في علوم الظاهر وبعدها رمى كل كتبه في البحر وقال : نعم الدليل كنت أما الاشتغال بالدليل بعد الوصول فمحال ( وردت أيضا في الحلية ج 1 ص 6 ) 
ويعلق الهجويرى : إذا وصل المرء إلى الحي فالطريق والباب لا فائدة منها ، وقد لام بعض المشايخ على ادعاء أبى الحسن وقالوا : “ من ظن أنه قد وصل فقد فصل “ ويدافع الهجويرى على أنه لم يدع هذا ، بل كل ما ادعاه أنه عرف أن الطريق إلى الله لا يتأتى بالكتب ومثله فعل كثيرون مثل الشيخ أبي سعيد بن أبي الخير ، وقد يقال : إن تمزيق الكتب يراد به نفى استحالة العبارة عند تحقيق المعنى ، والاستحالة قائمة أيضا بالنسبة للسان “ من عرف الله كل لسانه “ ( كشف المحجوب 145 - 146 من الترجمة العربية للمترجم وآخرين القاهرة 1974 ) ، 
وما دمت وصلت إلى الكمال الروحاني “ الماء “ فما حاجتك إلى السلالم “ العلوم الشرعية “ ؟ إنه أمر يكون من البلة ، اللهم إلا إذا توسلت بهذه العلوم الشرعية لإرشاد الآخرين . والبيت 1406 مقدمة للحكاية التالية .
.


واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: