الأربعاء، 12 أغسطس 2020

18 - هوامش وشروح 2146 - 2614 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

18 - هوامش وشروح 2146 - 2614 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

18 - هوامش وشروح 2146 - 2614 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

شرح ذهاب المصطفى صلى اللّه عليه وسلم لعيادة أحد الصحابة 
وبيان فائدة العيادة
( 2146 ) : الحكاية التي تبدأ بهذا البيت فيما يرى فروزانفر ( مآخذ / 66 - 76 ) ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خف فصار مثل الفرخ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل كنت تدعو بشئ أو تسأله إياه ، قال : نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبى به في الآخرة فعجله لي في الدنيا ، فقال الرسول صلى اللَّه عليه وسلم سبحان الله لا تطيقه ، أو لا تستطيعه ، أفلا قلت : اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، قال فدعا به فشفاه .
 
( 2149 - 2160 ) : من الممكن لهذا المريض الذي تعوده أن يكون هو القطب المرتجى للطريق ( للقطب أنظر 249 من الكتاب الأول والبيت 1988 من
 
« 426 »
 
الكتاب الذي بين أيدينا ) ، والفكرة هنا أن الأرض لا تخلو من أقطاب ( عند الشيعة الإمام ) ، لكن ليس من المسموح لكل إنسان أن يعرفه وما دام موجودا في العالم ، فلا بد أنك ستراه وإن لم تعرف أنه هو ، لكن ، لما كان من المحتمل أن يكون من بين الدراويش فداوم على غشيان مجالس الدراويش ، فمن أراد أن يجالس الله فليجلس مع أهل التصوف ( عن استعلامى 3 / 277 ) .
 
وكن دائما مؤمنا بهذا الاحتمال ، أنه موجود وثق أنك سوف تصل إلى نتيجة ، فإن لم تصل إلى القطب ، فقد تصل إلى من يكون دونه كمالا ( فارس الجيش ) والذي يوصلك إليه ، وإن لم يكن هذا أو ذاك ، فأقل فوائد الاحسان إلى الناس أن يقل حقدهم عليك إن كانوا لك أعداء ، والرفقة مهمة ، والصحبة طيبة ،
[ والجماعة رحمة والفرقة عذاب ] ،
ألست ترى النحات ينحت من الحجر ما يكون رفيقا له وشاغلا لوقته ومؤنسا لوحدته ؟ ! ! وإنك لتظن أن هناك كنزا في كل موجود ، وهذا عيب فيك أن تصور أن الله في كل موجود وتسرع متأثرا بهذا الخيال الذي لا حقيقة فيه .
( مناقب العارفين للأفلاكى 1 / 155 ) .
 
( 2161 - 2170 ) أنظر لهذه الروايات الأبيات 1741 - 1742 من الكتاب الذي بين أيدينا وشروحها .
 
( 2172 ) : الحكاية التي تبدأ بهذا البيت فيما يرى فروزانفر ( مآخذ / 67 - 69 ) وردت قبل مولانا في جوامع الحكايات لمحمد عوفي ، وهي ناظرة أيضاً إلى ما ورد في مجمع الأمثال للميدانى في تعليقه على المثل " إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض " وليس المهم في الحكاية عملية تفريق الناطور للثلاثة : الفقيه والصوفي والعلوي ، لكن نظرة الناطور لكن منهم في حالة التقرب والدس والتفرقة ، ثم نظرته لكل منهم حين يظفر به وحيداً ، وهو تعبير عن واقع
 
 
« 427 »
 
اجتماعي لكثير من الطبقات " واجبة الاحترام " في المجتمع الإسلامي آنذاك ، في حين أن الاحترام الحقيقي للعقل والتصرف وليس للكسوة والمظهر والنسب ، وهو ما صوره سنائى في حديقته ( خاصة في الفصول الأخيرة ) .
 
( 2193 ) : أنظر البيت 216 من الكتاب الأول وشروحه .
 
( 2216 ) : قال استعلامى ( 3 / 279 ) الإشارة إلى كتاب الإمام الغزالي " الوسيط المحيط بأقطار البسيط " في حين أن الوسيط كتاب لأبي حامد لخص فيه كتابه البسيط وهو في فروع المعاملات والعبادات ومن أمهات كتب الفقه الشافعي والمحيط كتاب في الفقه لشمس الأئمة محمد أبى بكر السرخسي ( المتوفى 489 / 1909 ) وقد ورد أسمه أيضاً في سلسلة الطريقة المولوية ( جلبنارلى 20 / 275 ) .
 
( 2224 ) : الحكاية الواردة هنا ( ولا يزال حديث مولانا عن الصحبة عموما وصحبة الأولياء على وجه الخصوص ) وردت قبل مولانا فيما يرى فروزانفر في رسالة النور ( المؤلفة بالعربية في القرن الثامن الهجري ) كما نقلها فريد الدين العطار في سيرة أبى اليزيد في تذكرة الأولياء ، كما وردت في مقالات شمس ( عن مآخذ 69 - 70 ) .
 
وممن الممكن أن يكون من معاني القصة وأهدافها التي لا ينتبه إليها الشراح القدامى أن الإنسان والإحسان إلى الإنسان أولى من الشعائر وإقامتها ( وبخاصة إن لم تكن المرة الأولى ) وفي المأثور الشعبي في البلاد الإسلامية حكايات عديدة قد تكون مستوحاة من هذه الحكاية ، عن احسان المزمع على الحج بنفقات حجه على جار معوز أو أرمل محتاج ، وتنتهى الحكاية دائماً بأن يُشاهد ذلك المزمع على الحج والذي لم يحج من قبل جيرانه في المشاعر وأماكن الحج .
 
ويعلق مولانا على الحكاية : بأن الهدف هو الإنسان والهدف من بين البشر هو الشيخ ، وقلب الشيخ هو الكعبة ( في ديوان شمس : قلب الإنسان
 
« 428 »
 
عموما هو الكعبة ، أنظر عدد 21 ابريل 1996 من أخبار الأدب حيث ترجمة لخمس غزليات في هذا المجال لكاتب هذه السطور ) .
 
( 2234 ) : تحت عنوان الحكاية يسوق مولانا حوار بين شيخ ومريد ومفاده طلب الضروري وتبعاً له سوف تحصل على الثانوي من الأمر وغير الأساسي " فالنور من الكوة ثانوي ولكن الأذان ( من حيث النور الذي لا يخبو ولا يأفل هو الضروري فإن نفذ من الكوة ( كوة لدار أو كوة القلب ) تبعه النور الأصلي .
 
( 2236 - 2241 ) : عودة إلى قصة أبى اليزيد وحجه ، والخضر عليه السلام هو في المأثور الصوفي نبي ولى شيخ حي يظهر لمن يتوسم فيه الاخلاص وينجى الصوفية من متاهات الطريق ، " مجازيها وحقيقيها " وهو أيضا العبد الصالح الذي أوتى علما من لدن الله ، ولم يستطع معه موسى عليه السلام برغم كونه من أولى العزم من الرسل صبراً ، روى البخاري حديثا أن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم ، فقال : أنا ، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك ( مولوى 2 / 473 ) .
 
ورؤية الفيل الهندي في النوم ، الحنين إلى الموطن الأصلي للإنسان ، وهو تعبير تكرر عند مولانا في المثنوى كثيراً ( أنظر على سبيل المثال لا الحصر الكتاب الرابع الأبيات 3068 - 3071 وشروحها ) ورؤية الهند هي الحنين إلى الجنة ، فكأن الشيخ الذي لقيه أبو اليزيد ، كان مسروراً وكأنه يشاهد الجنة ، إنه يرى أثناء النوم ما لا يراه في اليقظة ( أنظر البيت 39 من الكتاب الذي بين أيدينا والبيتين 394 و 395 من الكتاب الأول ) .
 
( 2251 - 2256 ) : [ الإنسان سرى وأنا سره ] حديث قدسي ( لأسانيده أنظر أحاديث مثنوى / 62 )
والبيت ( 2252 ) ترجمة لعبارة شمس الدين التبريزي بنصها " يا أبا يزيد ، هناك بيت الله ، وقلبي أيضا بيت الله ، لكن بالله الذي هو
 
 
« 429 »
 
رب ذاك البيت ورب هذا البيت إنه لم يدخل ذلك البيت مذبناه ، لكنه مذبنى هذا البيت لم يخل منه "
وفي البيت ( 2253 ) إشارة إلى الحديث [ من رآني فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي ] ، ومن رآني فقد رأى الحق " ( أحاديث مثنوى / 6399 . والمزاوجة بين ذلك العبد الفقير المحتاج إلى نفقات حج أبى اليزيد البسطامي وبين الحقيقة الإلهية ، وجه من وجوه النزعة الإنسانية البارزة في التصوف الإسلامي ( أنظر شروح البيت 2224 من الكتاب الذي بين أيدينا ) ،
ولسعدى الشيرازي :
ليس العبادة بالخرقة والسجادة * ليست العبادة إلا بخدمة الخلق ( 2258 - 2269 ) : عودة إلى حكاية عيادة الرسول صلى الله عليه وسلم للمريض التي بدأها مولانا في البيت 2146 ثم عاد إليها في البيت 2218 وتركها ليعود إليها في هذا البيت ، والمقصود بالنفس ، النفس النبوي الشريف ، الذي جعل المريض يحس أن النعمة التي أسبغها عليه المرض ، بزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم تتضاءل إلى جوارها كل النعم .
 
( 2272 - 2289 ) : إشارة إلى الحديث النبوي الشريف [ شاوروهن وخالفوهن ] ، وهنا يشمل النفس الأمارة بالسوء ، ( أنظر البيتين 2629 و 2969 من الكتاب الأول ) والنفس الأمارة حتى وإن أمرت بالصوم والصلاة ، فإن ذلك يكون مكرا منها ( لأنها قد تأمر بالصلاة رياءً وبالصوم حيث لا ينبغي الصوم ولا يجب ) ولا حل لها إلا ما يدق عليه مولانا كثيراً ، لزوم الشيخ ، وفي البيت 2289 ليس المقصود بالطبع إفقاد القدرة الجنسية بل المقصود إفقاد الرجل قدرته على طي الطريق وتحمل مشاقه ، ومواجهة النفس ( التي هي بمثابة المرأة ) .
 
( 2290 - 2298 ) : يستنجد مولانا بالخطاب إلى حسن حسام الدين كلما آنس
 
 
« 430 »
 
من بقية المريدين مللا أو إنصرافاً ، فهو يراه حلالا للمشاكل ، والمشكلة الآن أن مولانا يحس بصعوبة في الإفاضة ، وليست هذه الصعوبة إلا لأن أحد من يحبهم الحق قد تعرض لأذى ، ومن ثم وضع الله سترا على الإفاضة وحجبها ، وهذا هو قضاء الله وقضاء الله علاجه من قضاء الله أيضاً . نفر من القضاء إلى القضاء ( أنظر 1267 - 1269 من الكتاب الأول ) ،
ولا جدال أن مولانا يشير هنا إلى حادثة معينة ، لكنها لا تخرج عن أن مريدا كان مبتدئا في الطريق " دودة " ، فلما تقدم في الطريق صار أفعوانا وحية على شيخه ، وها هو يطلب من حسن حسام الدين ، وهو موسى الطريقة أن يلقى عصاه تلقف ما صنعوا ، وأن يخرج يده من جيبه بيضاء فتضىء هذا الليل ، ليل النفوس المظلمة ، وأن يتلو رقية يجعل بها هذا الجحيم ينطفئ .
 
( 2300 - 2305 ) : إشارة إلى ما ورد في الآية الكريمة وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا ، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا ( الأنفال / 44 )
 
والحديث عن المسلمين والكفار في موقعة بدر وفي البيت 2304 إشارة إلى الآيات الكريمات في سورة " الليل " ، إن هذه هي عناية الله التي تيسر عباده لليسرى ، وتيسر مخالفيه للعسرى ، وفي هذا البيت كان الحديث عن أولئك الذين يسرهم الله تعالى لليسرى ( من أمثال حسن حسام الدين ) ، يجعل لهم الصعب هيناً ، والعدو الكثير يبديه في أعينهم قليلا .
 
( 2306 - 2313 ) : يتحدث مولانا عن من لا تشملهم هذه العناية الإلهية ، هؤلاء يبدو أعداؤهم في أنظارهم أقوى ممن هم عليه بالفعل ، " يبدو القط أسدا هصوراً ، فإن أراد الله إهلاكهم أرى لهم سيف علي رضي الله عنه القاصم مجرد حربة ،
 
« 431 »
 
والأسد الهصور مجرد قط ، حتى يسعون إلى حتفهم بأظلافهم ، وعادة ما يبدي أولياءه ضعافاً تزدريهم العيون وكأنهم القشة ، بحيث يتجرأون عليها ، ويهاجمونها ، وبينما تكون الدنيا باكية شوقا إليهم وولها فيهم ، يضحكون هم سخرية منها ، إنه يبديهم ذوى أعماق ضحلة سطحية ، بينما مياه علمهم تغرق العماليق من أمثال عوج بن عنق ( عاج بن عنق زعيم قوم عاد ، ومن أتباع شداد ، كان ضخم الجثة بحيث كان ينحنى فيخرج السمكة من قاع البحر ، ويرفعها فيشويها على الشمس ، وصل طوفان نوح إلى ركبته ، عاش حتى عهد موسى عليه السلام وقام لقتال موسى ، فحمل صخرة من الجبل ليلقيها على موسى وقومه فخرت الصخرة بأمر الله وسقطت في عنقه ، وقفز موسى فضرب كعبه بعصاه فقتله " أشبه بكعب اخيل في الأساطير اليونانية " ، وفي فترة الأكاسرة صنعوا من عظمة من عظامه جسرا على الفرات وعبر عليها الناس طيلة مائة سنة ) ( جلبنارلى 2 / 277 )
 
وعند مولوى ( حكى أن عوج بن عنق كان طوله ثلاثة آلاف وستمائة وثلاثون ذراعاً وعمره ستة آلاف وستمائة سنة ، فلما وقع الطوفان وعلا الماء على الجبال لم يتجاوز ركبته ، وكان هلاكه على يد سيدنا موسى ، وذاك أنه إذا غضب على أهل بلدة بال عليهم وأغرقهم ، فشكوه إلى سيدنا موسى عليه السلام فطلبه ووجده ودعاه إلى الإيمان فامتنع ، وخوفه بالقتل فضحك محقرا لسيدنا موسى فأحال عليه عصاه فبلغت عنقه وشقت رأسه فهلك ( مولوى 2 / 485 ) .
 
( 2314 - 2318 ) : وهكذا تبدو الأمور هيئة سهلة للطواغيت والفراعين ، لقد رأى البحر يابسة ، فساق فيه ، فغرق ( البقرة / 50 ، يونس / 90 وأنظر البيت 867 من الكتاب الأول ) ، وإنما تدرك العيون حقيقة الأشياء عندما تنور بنور الله

 
« 432 »
 
لكن الأحمق يرى الأمور معكوسة ، يرى في الطعام الذي يتناوله بشره شهدا وسكراً وهو له سم قاتل ، ويرى الذي أمامه هو الطريق السليم وهو في الحقيقة المتاهة التي يدعوه إليها الغول .
 
( 2319 - 2324 ) : الخطاب إلى الفلك ، وحدة الفلك في سيره تسرع بعمر الإنسان فلا يستفيد منه في الطاعات ، ويمر على المرء دون أن يحس به ( استعلامى 2 / 283 ) ، وفتنة آخر الزمان هي فتنة الدجال ، تحدث في المأثور الإسلامي في الألف السابعة من عمر البشر ، تكون فتنة لا يدرك فيها المرء الحق من الباطل ، فكأنك أيها الفلك بشر تتجه إلينا ! ! فأين رحمتك ولمَ لمْ تتعلم الرحمة من الحق ، نحن ضعاف كالنمل فهل نتحمل لدغ الحيات ! ! أيها الفلك :
بحق من أدار عجلتك ، إرحمنا ففي ظلك نمت جذورنا ، فكيف تقتلع هذه الجذور .
 
( 2325 - 2331 ) : الحديث إلى الفلك ، لكن مولانا تناول مشكلة أخرى :
مشكلة حدوث هذا العالم وقدمه ، فالدهرى يرى أنه قديم والسنى يرى أنه حديث ، لأن مبدأ كل شئ هو الله سبحانه وتعالى ، ومن أين لهذا الدهري أن يعلم الحدوث والقدم وهو عنكبوت في دار ووردة في بستان ( لتفصيلات أنظر ، الكتاب الرابع ، الجواب على الدهري المنكر للألوهية والذي يقول أن العالم قديم ، الأبيات 2833 - 2863 وشروحها ) .
 
( 2332 - 2340 ) : إن هذا العقل ( هو هنا عقل المعاش وليس بعقل المعاد كما قال استعلامى 2 / 283 ) يبدي لنفسه الصورة إنها صور نابعة منه هو بقدر خياله وتصوره ، وما أشبهها بتصورنا جميعا للجنى ، كلنا نتصوره ، لكن أية صورة يا
 
 
« 433 »
 
ترى تنطبق عليه في الحقيقة ؟ ! ! وهذا العقل الباحث عن المعاد أعلى مرتبة من الفلك بدوره ، لأنه مرتبط بالعقل الكلى أول فيض عن الله تعالى ( أنظر 1909 و 2064 من الكتاب الأول ) ،
والإنسان برغم وجود هذا العقل الذي يطير في الأوج ، ذو جسد متشبث بالحضيض مقيم على التقليد الذي يحد من انطلاق عقله ، يستنيم المرء إلى العلم الناتج عنه ، وهو الذي يحول بينه وبين العلم الحقيقي ، إن الجنون أفضل من هذا العقل ، يقول لك العقل : هذا نفع فاهرب منه ، وهذا سم فتجرعه ، وهذا أمن ، فانتقل منه إلى موضع الخوف ، وهذا شرف ، فاختر الافتضاح ، دعك من معابير عقل هذا العالم ، فهي في الحقيقة جنون في جنون ، وأنا - شخصيا - جربت ذلك العقل الذي يتعمق الأمور ، ولم أجد بعده بدا من التظاهر بالجنون .
 
( 2341 ) : بطل الحكاية هنا " دلقك " ( ترجمتها بالمهرج ) اسم علم عرف بحكاياته الطريفة ، كان معاصرا للسلطان محمود الغزنوي ( المتوفى 421 ه ، 1030 ) وفي رسالة دلكشا " شارحة الصدر " للشاعر الساخر عبيد الزاكانى ( القرن الثامن الهجري ) عرف باسم طلحك ونقل تسع عشرة حكاية عنه ، والسيد الأجل يجب أن يكون من آل على الذين عاشوا في ذلك العصر ، وفي تاريخ اليميني للعتبى تحدث من هذه الأسرة عن سيد جعفر بن سيد محمد وأبى جعفر محمد وأبى البركات على ويجب أن يكون واحدا منهم .
( شرح جلبنارلى 2 / 297 ) كما وردت حكايتان أخريان عن " دلقك " والسيد الأجل في الكتابين الخامس والسادس ، حيث صرح أن السيد الأجل كان حاكم ترمذ ودلقك كان نديما له .
 
( 2346 ) : الحكاية التي تبدأ بهذا البيت قال الأنقروي أنها وردت في كتاب بستان العارفين لأبي الليث السمرقندي المتوفى سنة 375 للهجرة " 985 م " ، كما ذكر في بعض نسخ المثنوي غير المعتمدة اسم بهلول ( وهو مجذوب فقير تقترن حكاياته
 
« 434 »
 
باسم هارون الرشيد وتذهب بعض الروايات أنه كان أخا له ) ( استعلامي / 2 - 284 ) ، وذكر فروزانفر ( مآخذ / 70 - 72 ) أن الحكاية وردت في العقد الفريد لابن عبد ربه وربيع الأبرار للزمخشري وإسكندر نامه المنثور وفي جوامع الحكايات لمحمد عوفي . وفي كثير من هذه المصادر لا تجري الحكمة المذكورة في الحكاية على لسان عاقل يبدو مجنونا ، بل تجري على لسان النبي سليمان عليه السّلام حينما كان طفلا عندما أحال إليه داود عليه السّلام سائلا يستشيره في من يتزوج .
وفي جوامع الحكايات يرد عليه : النساء في الدنيا ثلاث ، البكر كالذهب الأحمر ، والأيم كالفضة البيضاء ، والأيم المسن كالرصاص ، وإن كان لها ولد فهي كالفخار ، وتبدو رواية أبي الليث السمرقندي ورواية محمد عوفي أقرب الروايات إلى حكاية مولانا .
 
( 2351 - 2360 ) : لكن - ويحذر مولانا من ظاهرة تفشت فيما بعد - إياك أن تعتبر كل مجنون حكيما ، فأي علم لك بالأسرار التي يبوح لك بها المجنون ، إن لم تكن عليما من البداية لكي تستطيع أن تميز بين الغث والسمين في ما يبوح به ، وما دام في حجاب الجنون ، فلن يعرفه كل أعمى ، والأمر يحتاج إلى بصيرة مستنيرة ، هذه البصيرة تعرف أنه من الممكن أن يغطي الكليم " غطاء الدرويش " كليما " موسى الكليم عليه السّلام " والولي لا يعرفه إلا الولي [ أوليائي تحت قبائي لا يعرفهم غير أوليائي ] . وإذا كان قد جعل نفسه مجنونا ، فكيف تستطيع أن تعرفه بالعقل ؟ واللص المبصر هو النفس ، والأعمى هو غير العارف بالأسرار .
 
( 2362 - 2366 ) : بمناسبة البيت 2361 وفحواه أن الأعمى لا يعرف الكلب الذي يعقره " النفْس التي تتسلط عليه " ، ويضرب مثلا على ذلك بالمتسول " رجل الدنيا " الأعمى الذي يهاجمه كلب ، والحكاية هنا قائمة على تلاعب لفظي
 
 
« 435 »
 
بين لفظي : كور أي أعمى بالفارسية ، وكور أي حمار الوحش ، وقال بعض المفسرين أن الحكيم المذكور هنا المقصود به نصير الدين الطوسي المعاصر لمولانا " كلاهما توفي سنة 672 هـ " ، وقد أنكر استعلامي ( 2 / 285 ) هذا الأمر ، ولم يلتفت كل المفسرين إلى تعبير ذيل الحمار ، وهو يشير إلى شكل من الأشكال التي كان المغول يصففون شعورهم عليها ، ومن ثم يكون المعنى المطلوب أن الرعب دفع حكيما مثل نصير الدين الطوسي إلى ممالأة الحاكم المغولي . والله أعلم .
 
( 2375 - 2379 ) : الأرض رغم كونها عمياء ، إلا أنها أصبحت مبصرة بنور الله ، فخسفت بقارون ( القصص : 76 - 81 ) وزلزلت خسفا بقوم صالح ( الأعراف / 78 - 90 وانظر أيضا الكتاب الأول الأبيات : 2581 . 2521 وشروحها )
واستمعت إلى أمر اللهيا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ( هود / 24 ) ، ليس هذا فحسب ، بل واستمع إليه - أي إلى أمر الله - الماء " قوم موسى " والنار " إبراهيم عليه السلام " والهواء " قوم عاد " ، كل العناصر فهمت دون نبي ودون تدبر ، وامتثلت للأمر ، على عكسنا نحن ، قصرنا معرفتنا على الخلق ، وتركنا معرفة الحق .
 
( 2380 - 2383 ) : لا جرم إذن أن هذه العناصر أشفقت من حمل الأمانة ، وذلك لمعرفتها بالحق ، لكن هذا الإشفاق قد ضعف عندما دب عليها الأحياء ، وامتزجت بالروح الحيوانية ، وهي لا تزال تحس بالضيق من هذه الحياة ، فهم يسمونها حياة ، لكنها عند الحق موت ، وذلك الذي يسمي نفسه حيا يحس باليتم عندما يبتعد عن الخلق ، في حين أن الأنس الحقيقي يكون بالله .
 
( 2383 - 2394 ) : الحديث عن نفس الإنسان ، فما دامت النفس مسلطة عليه يكون كالأعمى الذي يسيطر عليه اللص ، وتعذيب اللص - أو حرفيا عصره - هو الجهاد الأكبر [ رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ، قيل وما

 
« 436 »
 
الجهاد الأكبر يا رسول الله ؟ قال : جهادك في هواك ] . أتدري ما هذه البضاعة التي يسرقها اللص ؟ إنها كحل البصيرة من البصر والحكمة من القلب ، لكن من عمى قلبه لا يعرف هذا اللص ، كما لا يدلك عليه أيضا جماد في صورة إنسان . ثم يعود مولانا إلى قصة العاقل المتظاهر بالجنون .
لقد تقدم منه طالبا المشورة ، لكنه دفعه عنه ، فلم يكن اليوم يوم البوح بالأسرار ، ولم يكن الموضع موضعه ، ويقول : لو كان عندي أنا أيضا إذن للبوح بالأسرار لكنت أنا أيضا مثل بقية المشايخ صاحب دكان ، ويرى جلبنارلي ( 2 / 298 ) أن مولانا يقصد أولئك المشايخ الذين يفتحون الزوايا كالحوانيت ، ويبدون الكرامات المزيفة ، ويتلقون الهدايا والنذور والخلع ، ويجمعون حولهم أصحاب المال والجاه .
 
( 2395 ) : الحكاية التي تبدأ بهذا البيت لم ترد بتفصيلاتها في كتاب قبل المثنوي ، ويرى نيكلسن أن بعض أجزائها يشبه بعض عبارات وردت في المنقذ من الضلال للإمام الغزالي ( استعلامي 2 / 287 ) ونقل فروزانفر ( مآخذ / 72 ) عن نثر الدر للآبي حوار دار بين المأمون وثمامة يبدو أصلا للحكاية ، كما نقل عبيد الزاكاني الجزء الأخير من الحكاية في لطائفه . ولعلها من الحكايات الشعبية التي كانت منتشرة في عصر مولانا ، ونقلها عبيد الزاكاني عنه .
 
( 2400 - 2402 ) : يطلب المحتسب " مراقب حدود الشرع في الأسواق والأماكن العامة " من السكران أن يتأوه ، وذلك بالطبع حتى يشم فمه ، لكن السكران يفطن إلى الحيلة ، فيطلق صياح الدراويش " هو . . . هو " ، حتى يوهم المحتسب أن ما به من سكر الخمر الإلهية ، أو ما يعبر عنه بالسرور .
 
( 2406 ) أنظر شرح البيت 2394 من الكتاب الذي بين أيدينا .
 
« 437 »
 
( 2428 - 2432 ) : يذكر حديث العاقل الذي تظاهر بالجنون هنا بما روي عن تظاهر مسعد بن كدام بالجنون حتى لا يتولى قضاء الخليفة المنصور العباسي ( أنظر الرواية كاملة في كشف المحجوب ، الأصل الفارسي صص 113 - 114 والترجمة العربية لكاتب هذه السطور ص 117 ) .
 
( 2433 - 2436 ) : الحديث هنا يبدو على لسان العاقل الذي يدعي الجنون ، لكنه في الحقيقة على لسان مولانا جلال الدين ، وأن المجنون مجنون بالعشق وسكران بالمشاهدة ، فكنز المعرفة لا يمكن أن يُبدى لكل شخص ، وإلا كان هذا هو الجنون بعينه ، يكون تماما كمن رأى العسس يجوبون الطرقات يأخذون الناس ويقعون فيهم ثم لم يغلق عليه بابه ( الهجوم على العسس والشرطة ملمح بارز من ملامح المثنوي . أنظر لتفصيلات : الكتاب الرابع - الأبيات : 55 - 64 وشروحها )
وفي قصة ذي النون المصري " لقد حبس نفسه في داره هربا من شر العوام
 
- البيت 1438 من الكتاب الذي بين أيدينا " ، ومعرفة الولي جوهر ، والجوهر لا يُبذل من أجل عرض ، وهو متصلٌ بالله " اتصال السكر بقصب السكر " .
 
( 2437 - 2443 ) : يفرق مولانا بين نوعين من العلم : علم تقليدي يتأتى عن طريق التقليد والتكرار والتعلم في المدارس ، وهو العلم الذي ينفر المستمع من صاحبه ضيقا ، ذلك أن طلبه من أجل مشترين ، لا من أجل الله ، لقد طلبه من أجل كسب الجاه بين الناس ، لا من أجل اكتساب نور الحق ، وما أشبه ذلك العالم التقليدي بفأر ينقلب لنفسه جحرا " وما أكثر الجحور التي يلجأ إليها فئران العلم والمعرفة في زمننا الحاضر " ، وهم لا يستطيعون البعد عن الجحر ، تجد الواحد منهم ملازما لجحره الذي اختاره لنفسه ، ولو رآه النور لطرده

 
« 438 »
 
أو لصرخ هو نفسه : واويلاه . ولذلك فهو يبذل جهده ، لكن داخل الظلمات ، لا يستطيع أن يخرج منها ، لأنه لم يوهب " عقل المعاد " ، ولو وهبه ، لحلق بجناحه كالطيور .
 
( 2444 - 2450 ) : علم المقال هو نفس العلم التقليدي ، وهو بلا روح ، وآيته أن يكون طالبا للمشترين ، فإن وجدهم تعمق ، وإن لم يجدهم ، " أغلق دكانه " ومضى . لكن النوع الثاني من العلم هو ذلك النور الذي يقذفه الله في القلب ، مشتريه هو الله سبحانه وتعالىإِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ( التوبة / 111 ) وأترك أنا لك تصور البون الشاسع بين المشتري الذي من الطين ، المفلس ، آكل الطين وبين أن يكون المشتري هو الله . وعليك بقوت القلوب " العلم الإلهي والفيض والنور والحكمة " فيتجلى في وجهك نور الحقيقة .
 
( 2451 - 2456 ) : يناجي مولانا جلال الدين الله سبحانه وتعالى : ليس في مقدورنا أن نحول هذا الطين إلى نور ، لكن لطفك الذي يحيط بنا دون سبب ودون استحقاق " اللطف الخفي " جديرٌ حقا بأن يهب الإنسان المخلوق من الطين والعاكف على الطين ، ملكة التسامي ، فتأخذ بيده وتحرره وتشتريه ، بأن تجعله عبدا خالصا لك ، وتجعله ناظرا إلى الحقيقة دو حجب تحول بينه وبينها ، فحل - يا إلهي - بيننا وبين تسلط هذه النفس ، فقد بلغ بنا منها السيل الزبى والحزام الإبط ، وضع عنا - يا إلهي - إصرنا والأغلال التي تقيدنا بها هذه النفس الدنية ، فلا يستطيع هذا إلا أنت ، وها نحن نستغيث بك من نفوسنا ، لأنك أقرب إلينا مناوَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ( ق / 16 ) .
 
( 2457 - 2463 ) : الدعاء أيضا عطية من الله تعالى ، وإذا أراد الله
 
 
« 439 »
 
خيرا بعبده ، أجرى به الدعاء على لسانه ، وإلا فإن هذا الدعاء كالورد ، ومتى ينبت ورد الدعاء من مزبلة الجسد إلا بلطف من الله سبحانه ، ذلك اللطف الذي أجرى كل هذه الملكات من الإنسان ، وأصدرها من جسد الإنسان دون أن يكون هناك تناسب بينهما ، فجعل الفهم والذكاء بين الدم والأمعاء ، وجعل نور البصر في شحمة ، وسيل الحكمة يجري من قطعة لحم " اللسان " وجعل ثقبا وعظمة أداة للسمع ،
وهذه المعاني ناظرة إلى ما روي عن الإمام علي عليه السلام [ اعجبوا لهذا الإنسان ، ينظر بشحم ويتكلم بلحم ويسمع بعظم ويتنفس من خرم ] ( عن استعلامي 2 / 290 )
والشرع " وهو علم ومقال " هو الذي يوصلنا إلى عالم الغيب وعالم الروح ، وبساتين العالم الدنيوي ورياضه فرع لذلك البستان : بستان الغيب ، بستان الجنة التي تجري من تحتها الأنهار ( التوبة / 100 وانظر البيت 2730 من الكتاب الأول ) .
 
( 2471 ) : " الغريق يتشبث بكل حشيش " ( مثل عربي ) .
( 2475 - 2478 ) : أنظر الكتاب الأول الأبيات 3334 وما بعده وشروحها .
( 2495 ) : أنظر الكتاب الأول الأبيات : 80 - 83 وشروحها .
 
( 2501 - 2502 ) : إنني أمدحك أنت ، لكني أذكر اسم موسى عليه السلام ، لأن مدح الحاضر يوجب البعد ، وأنت نفسك يا رسول الله قد قلت
[ لا تمدح أخاك في وجهه ] .
 
( 2503 - 2505 ) : من هذا البيت يبدأ مولانا في مناجاة ، وعهد الله تعالى للإنسان باق ، لكن الإنسان لا يزال ينكص عن عهده لله وينساه ، وينصرف عن عبادته والاعتراف بربوبيته ، ولا يفتأ يتنقل بين الألوان " شهوات الدنيا على
 
« 440 »
 
اختلافها " ، وأمير الألوان هو الله سبحانه وتعالىفِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ( الانفطار / 8 ) . ونحن أدرى بفضائحنا يا الله وبما ارتكبنا من شرور ، فاستر علينا ، ولا تفضحنا .
 
( 2511 ) : لتكن البقية من وجودنا لك - يا الله - فأنقذها من براثن الشيطان .
 
( 2514 - 2524 ) : تندمج قصة الصحابي المريض مع إفاضات مولانا " حتى البيت 2560 " والدعاء أيضا من تعليمك يا إلهي ( أنظر البيت 2457 من الكتاب الذي بين أيدينا ) والمثال على عفوك أنك عفوت عن آدم ، وأرجعته إلى الجنة ، وفي وسعك أن تعفو عن أبنائه . . . وكيف تبيح يا إلهي أن تنصر الشيطان على الإنسان الذي كرمته ونفخت فيه من روحك ، لكن تراه إنتصر على آدم عليه السلام حقيقة ؟ لقد كان يظن ذلك ، ذلك أنه قنع بالبدايات " النقلة الأولى " ، ولم يكن يعلم أن اللعنة الأبدية سوف تحيق به ، والهزيمة الأبدية سوف تكون له ، وأنه كان يصف جنده ، ويمكر مكره ، لكي تحيق الهزيمة به هو .
 
( 2525 - 2534 ) : إن الخطوة الأولى عند من يريد العلاج أن يعترف أولا بأنه مريض ، وأن يدرك إلى أي مدى وصل هذا المرض ، وأن يتألم ، وذلك قبل أن يصل مرضه إلى مرحلة غير قابلة للعلاج . يولد الرجاء وينقضي اليأس ، مثلما يولد الطفل من ألم المخاض ، ومثلما تكون الأم حاملا بالطفل ، يكون القلب حاملا بالأمانة ، اى بأسرار الحق ، والأم لا تعلم ، لكن القابلة " المرشد " تعلم ، وهناك مدعون يتظاهرون بأنهم يعانون حمل الأمانة ، لكن حذار ، فثمة فرق بين أن يقول الحلاج " أنا الحق " وبين أن يقول فرعون "أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى"
( أنظر الأبيات 1819 من الكتاب الأول و 307 و 1351 و 1402 من الكتاب
 
 
« 441 »
 
الذي بين أيدينا ) ف " أنا " هنا تطرح بمعنيين مختلفين متناقضين ، يستوجب أحدهما الرحمة ، ويستتبع الآخر اللعنة ، بين قولة حق يقولها فإن في الله ، وبين إدعاءٍ للألوهية يصدر عن متكبر جبار وطاغية ظالم يشارك الله ملكوته . يقول مولانا في كتابه " فيه ما فيه "
[ إن الناس يظنون أن قول أنا الحق إدعاءٌ عظيم ، لكن دعوى أنا العبد إدعاءٌ أعظم ، فمن يقول أنا عبد يثبت وجودين : وجوده هو ووجود الله ، لكن من يقول أنا الحق يفني نفسه ويذروها أدراج الرياح ، يقول أنا الحق أي أنا عدم ، والكل هو ، فلا وجود إلا وجود الله ، وأنا بأجمعي عدم محض وهباء ، وفيها تواضع أكثر ، ومن هنا فالناس لا يفهمون ، يقوم العبد بالعبودية حسبة لله ، والخلاصة أن عبوديته موجودة ، بالرغم من أنه يرى نفسه لله وفعله لله ويرى الله ، فهو ليس إلا غريق في ماء ، وغريق الماء هو الذي لا يصدر عنه فعل ولا حركة ، وتكون حركاته هي حركات الماء ]
( عن جلبنارلي 2 / 299 ) ، المهم إذن هو الموقف الذي صدر فيه القول ، والمنطلق الذي انطلق منه ، وانظر إلى هذا المثال البسيط :
إن أذان الديك في أوانه مستحب ، لكن الديك الذي يؤذن في غير أوانه يكون ضار مضلا ، ومن ثم يستوجب قطع رأسه ( مثال تكرر أكثر من مرّة في المثنوي ، على سبيل المثال لا الحصر أنظر الكتاب الأول 947 والبيت 1167 ) وما قتل هذا الديك ؟ المجاهدة والأخذ بالشدة وقتل النفس الأمارة بالسوء .
 
( 2535 - 2542 ) : وفي قتل النفس أمان لها ، ألست ترى أنك بقطع ذنب العقرب تنجيه من التعرض للقتل ؟ وفي قطع ناب الحية تنجيها من الرجم بالأحجار ؟ والشيخ " المرشد " هو الذي يساعدك في قتل النفس ، فقوته من قوة
 
 
« 442 »
 
الله ، لأنها بتوفيق من الله ، وإن لم تصدق أن الله يجري بعض الأفعال على أيدي عباده المخلصين والفعل فعله تعالى فاقرأوَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ، وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى ( الأنفال / 17 - وانظر أيضا البيتين 619 و 620 من الكتاب الأول )
حتى الروح في كل ما تقوم به تكون صادرة عن الله تعالى وهو روح الروح ، والأخذ المذكور ها هو أخذ العناية لا أخذ العقوبة ، وهو مهما أمهل الداعي ، فإنما يمهله حبا في سماع دعائه ، ويؤخره ليسمع شكواه وبثه ، لا كرها منه سبحانه بل حبا منه ، يريدك حاضرا حضور المحتاج ، لا غائبا غيبة المستغني ، ولو كان لا يريدك ، لما أصابك بلحظة من ألم لأنه لا يجب أن يسمعك تتضرع إليه ( أنظر الكتاب الثالث الأبيات 197 - 207 وشروحها ) .
 
( 2543 - 2551 ) : الإنسان دائما في فصل وفي وصل ، واعلم هذا يقينا ، واقرأ وَالضُّحى متمعنا ، فلقد غاب الوحي عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى
( أنظر البيتين 302 و 303 من الكتاب الذي بين أيدينا ) ، وإن كان لديك شك وإنكار فعلم أن فضل الله تعالى دائما يفوق استحقاق العبد ( أنظر البيت 1890 من الكتاب الأول والبيت 909 من الكتاب الذي بين أيدينا ) و إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ * ( آل عمران / 73 )
وكل مظاهر الكون من قبيح وجميل من فعله هو ، والنقش القبيح أيضا يدل على أستاذية النقاش ( أنظر الترجمة العربية لحديقة الحقيقة لكاتب هذه السطور الأبيات : 399 - 411 و 441 - 464 وشروحه )
ويضرب مولانا الأمثلة : يوسف والحور في مقابل الشياطين والأبالسة ، كلها من كمال معرفته وحسن صنعه .
 
( 2552 - 2555 ) : البيت 2552 يكاد يكون منقولا من حديقة سنائي ( البيت رقم 11 . أنظر الترجمة العربية للحديقة وشرح البيت رقم 235 ) وكلاهما عابد :
مؤمن يرجو وجه الله ، ومجوسي يعبده من أجل حطام هذه الدنيا ، أو أن المعنى
 
« 443 »
 
المؤمن يعلم أنه يعبد الله ، والمجوسي يعبد ما يرى أن الألوهية متمثلة فيه ، أحدهما يعبد لعمارة الروح ، والآخر يعبد لعمارة الجسد ، وفي النهاية يعود إلى الله ، والقبيح لا يرى في الله إلا أنه خالق القبح الذي هو فيه ، وإبليس نفسه قالرَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي( أنظر البيت رقم 1498 من الكتاب الأول ) لكن الجميل لا يرى فيه سبحانه إلا صفات الجمال .
 
( 2560 - 2567 ) : عودة إلى الحكاية التي بدأت بالبيت 2146 وعاد مولانا إليها في البيت 2218 وفي البيت 2258 : ينصح الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابي المريض بدلا من أن يطلب من الله أن يعذبه في الدنيا العذاب الذي سوف يتعرض له في الآخرة ، أن يطلب من الله في دنياه حسنة وفي آخرته حسنة ويقولرَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ، وَقِنا عَذابَ النَّارِ( البقرة / 201 ) . .
 
يومذاك يتساءل المؤمنون : رب ، ألم تقل في كتابك العزيز وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا إننا لم نمر بنار ، بل كان كل ما مررنا به بساتين ورياض ، والمعنى ناظر إلى الحديث الشريف
[ يأتي أقوام أبواب الجنة فيقولون : ألم يعدنا ربنا أن نرد النار ؟ فيقال : بل مررتم به وهي خامدة ]
( أحاديث مثنوي / 64 - وانظر أيضا معارف بهاء ولد / ص 418 ) .
 
( 2568 - 2582 ) : وإخماد نار الآخرة من أجل المؤمنين جزاء أوفي لقيامهم بإخماد نار شهواتهم وغضبهم وحرصهم وظلمة جهلهم في الدنيا ، لقد قضوا على النفس الامارة وبذروا بذور الوفاء ، واستجابوا لدعاة الحق من أنبياء وأولياء وهَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ( الرحمن / 60 ) ، لقد فنوا عن أنفسهم وبقوا بالحق ( عن البقاء والفناء أنظر مقدمة الترجمة العربية للكتاب الثالث ) ، وخيال الحبيب الأسمى كامن في السرائر " الباطن وهو أعلى من
 
 
« 444 »
 
القلب وبه تبدأ المعرفة - أنظر البيت 264 من الكتاب الذي بين أيدينا ) ( استعلامي / 2 - 294 ) .
 
( 2583 - 2590 ) : إشعال شموع البلاء أي جعل القلوب متجهة إلى عشق الحق ، وأولئك العشاق الذين وصلوا إلى معرفة الحق وأصبحوا في أتون العشق ، يضحون بأنفسهم كما يضحي الفراش بنفسه على لهب النار ، وأولئك المميزون شيوخ الإرشاد هم مجنك أمام البلاء ، ويصلون بك إلى مرحلة لا يؤذيك معها العشق ، فتمتليء علما وفيضا ومعرفة ، كما يمتليء الكأس بالخمر ، فاجعل لنفسك منزلا في قلوبهم " الفلك " ، فهم كواكب الهداية والإرشاد والتعليم ( عطارد : أنظر البيتين 158 و 1602 من الكتاب الذي بين يدينا ) ، فهناك يفتحون دفاتر قلوبهم للمريدين الجديرين ويبوحون لهم بالأسرار ، فهم الأهل ، وهم بدور الهدى .
 
( 2591 - 2592 ) : البيتان يؤكدان دور المرشد في كمال السالكين ، فالجزء هو المريد ، والكل هو المرشد ، وقد أثار البيت 2592 مناقشة واسعة لاستخدامه مصطلحي الجنس والنوع ، وأغلب من تناولوا البيت بالشرح كانوا ناظرين إلى المعنى الفلسفي وإن كان استعلامي قد فسر المصطلحين بأنه لا علاقة لهما بمصطلحات الفلاسفة ، وأن المرشدين هنا تشملهم كلية معينة بينما تشمل المريدين كلية أشمل ، أي أن المريد باتصاله بالشيخ يدخل في كلية أجمع ، بحيث يشاهد الغيوب بعين الباطن ( استعلامي / 2 - 295 ) ويستفيض جعفري ( 5 / 185 - 193 ) كعادته في المناقشة وينتهي إلى قبول رأى الأنقروي ( 2 / 308 )
 
الذي قال :
إن كل جنس إمتزج بنوع خاص وآنس إليه يكون في حكم نفس ذلك النوع ، مثل امتزاج كلب أهل الكهف بأهل الكهف ، واتحاد جنس النبات بصورة الحيوان ،
 
 
« 445 »
 
واتحاد الحيوان مع الإنسان ، فيدخل في شكل الإنسان ، وانظر إلى الحقائق الغيبية التي تخلصت من مرتبة الباطن وظهرت في عالم الظهور بمرتبة العيان ، أي اتجه إلى أرواح جاءت من عالم الغيب إلى مرتبة اليقين " وقال المولوي ( 2 / 532 ) تفسيرا قريبا من هذا التفسير .
والواقع أن الشراح قد استفاضوا حيث لا موجب للإستفاضة : فالجنس هنا هم عامة المريدين ، والمرشدون نوع خاص من هذا الجنس ، صار نوعا من سيره وسلوكه ، وبانضمام المريدين إلى المشايخ ، وسلوكهم الطريق ، تتفتح أمامهم الغيوب فيتحولون بدورهم إلى نوع خاص .
 
( 2593 - 2604 ) : يوجه مولانا الكلام إلى أولئك الذين لا يهتمون بالمرشدين الأولياء ، وما أشبههم بالنساء ، كل عملهن الغواية ، ومع ذلك يخدعن بالمداهنة واللفظ الحلو ، وما أشبههن بالنفس الأمارة
( أنظر الأبيات 2629 - 2632 من الكتاب الأول وشروحها )
وسب الملوك لك وصفعهم إياك وشقهم عليك بالتكاليف أفضل لك من ثناء الضالين المضللين ، وخير لك صحبة الشيوخ ، فهم الدولة الخالدة ، وهم خلعة السلطة ، يتحول جسدك بهم إلى روح ، وبهر وبك منهم تصبح عاريا معوزا مثلما يهرب صبي من أستاذه في الصنعة ، فلا يتقن عملا ، وإذا كنت قد عاينت هذا الأمر بالنسبة لحرف الدنيا ، فما بالك بحرفة الدين ؟ تلك التي لا ينفض سوقها هناك ، وليست قاصرة على سوق الدنيا .
 
( 2605 - 2613 ) : إن حرف الدنيا بالنسبة لحرفة الدين لعب ولهووَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ( الأنعام / 6 - العنكبوت / 29 - محمد / 36 - الحديد / 20 ) إنها أشبه بجماع الأطفال ، تماس ولا جماع ، حانوت طفل
 
« 446 »
 
يفتحه للعب ، وهمي ولمجرد إزجاء وقت الفراغ ، وأية قيمة لها عندما يدلهم الليل ، ليل الموت ، ويتفرق الأطفال ويمضي كل طفل إلى منزله . لكن أنظر إلى كسب الدين : العشق والانجذاب والتواصل المستمر مع المحبوب الأزلي ، كسب القلب ، لا كسب النفس الخسيسة التي من ديدنها المكر والحيلة حتى في سبيل الكسب الشريف .
 
( 2614 ) الحكاية التي تبدأ بهذا البيت فيما يرى فروزانفر ( مآخذ / 72 - 73 ) ورد أصلها في قصص الأنبياء للثعلبي " ويروى أن رجلا كان يلعن إبليس كل يوم ألف مرة ، فبينما هو ذات يوم نائم ، إذ أتاه شخصٌ فأيقظه وقال قم فإن الجدار ها هو يسقط ، فقال : من أنت الذي أشفقت عليّ هذه الشفقة ؟ فقال له : أنا إبليس ، قال : كيف وأنا ألعنك في اليوم ألف مرة ؟
قال : هذا لما علمت من محل الشهداء عند الله تعالى فخشيت أن تكون منهم فتنال ما ينالون " كما أورد فروزانفر ما يشبهه نقلا عن البيان والتبيين للجاحظ ، وحديثا عن حلية الأولياء ولا علاقة لكليهما بالحكاية . ومعاوية هنا شخصية ثابتة الإيمان ، متضرعة إلى الله ، به مسحة روحانية ، وعنده معرفة بخداع النفس مما دفع الشراح الشيعة إلى الاعتراض ( ! ! ) ( استعلامي / 2 / 295 - 296 وجعفري 5 / 202 ) .
 .

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: