الخميس، 27 أغسطس 2020

20 - الهوامش والشروح 2308 - 2738 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

20 - الهوامش والشروح 2308 - 2738 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

الهوامش والشروح 2308 - 2738 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

الهوامش والشروح 2308 - 2738 فى المثنوي المعنوي الجزء الثالث د. أبراهيم الدسوقي شتا

شرح حكاية ذلك الذي كان طالبا للرزق الحلال بلا كسب
وتعب في عهد داود عليه السلام والاستجابة إلى دعائه
( 2308 - 2311 ) يأتي ذكر الطلب ، فتذكر مولانا تلك الحكاية التي بدأت بالبيت 1451 وتركها دون أن يتمها ، مما يدل على أن المثنوى كان يملى بشكل

“ 513 “
 
تلقائى وبنوع من الاسترسال مع المعاني ودون خطة مسبقة . فكثيرا ما يترك موضوع “ حتى تنصب الحكمة من فضل الحق “ كما ورد في البيت 2311 .
 
( 2334 - 2359 ) المقصود أن رؤيا يوسف كانت بشارة له عليه السلام ، ومن ثم فإن كل ما كان يحدث له من بلايا مثل الجب والسجن والافتراء والتهم ، كلها كانت خطوات في سبيل وصوله إلى العرش ، مع أنها للنظر السطحي وللمنطق الإنسانى خطوات لا تؤدى إلى هذه النتيجة وقد ورد هذا التفسير في مقالات شمس الدين التبريزي ، “ مثل يوسف عليه السلام اعتمادا على رؤيا سجود الشمس والقمر والكواكب استعذب الجب والسجن “ ( ص 48 ) : فلو لم يلق يوسف في البئر لما وجده السيارة ، ولو لم يجده السيارة لما وصل إلى مصر وإلى بيت العزيز ، ولو لم تتهمه امرأة العزيز لما دخل السجن ، ولو لم يدخل السجن لما وصل العرش ، وهكذا فإن بعض “ ترتيبات “ الإله تتناقض تماما مع “ تدابير “ البشر ، وهذا يشبه “ لذة ألست “ وبشرى “ ألست “ أو يوم العهد والميثاق . فالإنسان منذ أن كان في ظهور أجداده وابائه قد شهد بالإيمان وعاهد الله عليه ، ومن ثم فهو يتحمل ما يتحمله في الدنيا ألما في تحقق العهد . إنه هذا اليوم كالحلم ، كالرؤيا التي يظل الإنسان يتذكرها ، وتجعله جلدا على تحمل الشدائد والمصاعب والأثقال كما يتحمل الجمل الأحمال والنقل ، وها هو حال المؤمن في هذه الدنيا . . لكن ذلك الذي لا يذكر “ ألست “ يظل من المُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ( النساء / 143 ) . . . 
وبما أن مولانا في عجلة من أمره لكي يعود إلى قصة مدعى الثور فهي يوصى السامع أو القارئ بالعودة إلى سورة الشرح ففيها من المعاني ما يكفيك في هذا الموضوع الذي أنا مدين بشرحه . فإن هذا ( الشرح ) المذكور في السورة الشريفة هو بمثابة شرح الباطن الذي يوصل الإنسان إلى الإيمان والعبودية الحقيقة ( انظر بيت 1476 من الكتاب الأول ) .
 
“ 514 “
 
( 2360 - 2370 ) عودة إلى القصة : فها هو مغتصب الثور يثور على صاحبه لأنه دعاه بالأعمى ، وهو يسمى هذا قياسا بقياس إبليس في موضوع السجود ، إنه قياس ليس نابعا من الإيمان ، لأن مغتصب الثور لم يتكد إلا من باب الله ولم يلجأ إلى الخلق ، وعمى العشق هو ألا يرى العبد شيئا سوى الله تعالى وإشارة إلى الحديث النبوي ( حبك الشئ يعمى ويصم ) وحسن المذكور هو حسن حسام الدين . إنه لم يعتبر الثور غصبا بل اعتبره مجرد استجابة من دعائه لله سبحانه وتعالى . . لقد كان يدعو ولا ينتظر سوى الاستجابة . . تماما مثل رؤيا يوسف التي كانت تدفعه وهو في أشد الظروف سوءا إلى انتظار عرش مصر من الله سبحانه وتعالى .
 
( 2370 - 2375 ) لا يرى صاحب الثور أبعد من ثوره ، ولا يرى في ضراعة الرجل واتجاهه إلى السماء داعيا وحديثه العميق عن العشق إلا نوعا من الاحتيال لا يخيل عليه . . فهو بالطبع ينكر أن يكون ( للدعاء ) دخل في ( الرزق ) أو في نقل الملكية ، أنه مقيد بعالم الحس قد أعمته المادة كما سنرى .
 
( 2391 - 2395 ) يعدد داود عليه السلام الأسباب الشرعية للملكية :
أهي الهبة أو الشراء أو هل أخذها لكسب على عمل أداه ؟ هل ورثها وهل يعمل له بالزراعة وأعطاه إياه ؟ وداود هنا في صورة البشرية واقف عند ظاهر الشرع يطبق القانون حرفيا ، وذلك قبل أن يلقى الله سبحانه وتعالى في قلبه النور ليعلم لب القضية .
 
( 2403 - 2415 ) لقد أثر بكاء الرجل قاتل الثور في قلب داود ، وبدأ يحس أن وراء القضية سراما ، لكن كيف له بانكشاف هذا السر ؟ لا حل سوى الخلوة والصلاة ، وهكذا يكون مصداق الحديث النبوي “ وقرة عيني في الصلاة “ حيث تنفتح كوة القلب على الملكوت وتتجلى فيه الأسرار دون واسطة ، وهذا من الصفاء الذي تمنحه الصلاة للباطن ، والخطاب والمطر والنور كلها رموز عن
 
“ 515 “
 
الإلهامات الغيبية و ( معدنى ) المقصود به مبدأ الوجود والأصل ، والمنزل الذي لا كوة فيه أي القلب الذي لا طريق منه إلى الخالق : “ وفتح الكوة “ أي تسليم القلب لله سبحانه وتعالى وفي البيت 2407 : جاهد وقم بعمل حتى تجد الطريق إلى الله سبحانه وتعالى وفي 2408 أيها العبد إنك تحب شمس هذه الدنيا وحياة هذه الدنيا والجمال الموجود وفيها انعكاس للشمس الكلية الموجودة وراء الحجاب ، وإذا انتفى حجاب العلائق الدنيوية ترى تلك الشمس وفي 2409 النور الحقيقي ليس هو النور الموجود في هذه الدنيا ، فهذا النور يراه الحيوان أيضا ، وكرامة الإنسان المذكورة في الآية الكريمةوَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ( آية 70 سورة الإسراء ) تعنى أنه كرم بمشاهدة النور الكلى ، ثم يتحدث داود عليه السلام حديث أهل الحق : إن رجل الحق هو النور وهو غارق في النور ولا يرى “ ذاته “ منفصلة عن ذلك النور ، لكن العبادة من أجل هداية الخلق ، فالعبادة أمر في حد فهم السالكين ، لكنها ليست في المستوى الروحاني لرجل الحق ، وهي مثل الخدعة مع العدو لا بأس بها طبعا للحديث المروى عن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم “ الحرب خدعة “ . . وينقل جلبنارلى ( 3 / 259 ) الحديث النبوي الشريف ( كل الكذب يُكتب على ابن آدم إلا ثلاث ، رجل يكذب في الحرب فإن الحرب خدعة ، ورجل يكذب على المرأة فيرضيها ورجل يكذب بين الرجلين فيصلح بينهما ) .
ويقول مولانا : لولا أن الله لم يأذن لتحدث داود عليه السلام بكل الأسرار ، وفي 2415 المقصود أن أحدكم أخذ بخناقه لكي يخرجه من حالة الوجد التي هو فيها ، ولكي يوقفه عن الحديث حتى يتحدث حديثا مناسبا للوقت ، وهي عادة بين العارفين إذا تم الوجد وزاد أن يأخذ عارف كامل في إيقاط العارف الذي في الوجد “ مولوى 3 / 328 “ .
 
( 2422 - 2443 ) ما ستره الله هو أن صاحب الثور كان عبدا لوالد مغتصب الثور ، وبعد أن قتله سلب أمواله ، وبالنسبة لتفاسير القران يعترف صاحب
 
“ 516 “
 
الثور بهذا الذنب ، وفي الرواية أن داود رأى في النوم من يأمره بقتل صاحب الثور فلما علم صاحب الثور بذلك اعترف ( استعلامى 3 / 327 ) لكن مولانا يفصل في القصة بما يتوافق وذوق المريدين . بحيث يطيل في اعتراض صاحب الثور على حكم داود ( الملك النبي ) ، وكان مولانا لم يكن يجد مندوحة في أن يعترض “ متظلم “ على حكم الحاكم حتى ولو كان ذلك الحاكم يجمع بين “ الحكم والنبوة “ وهذه هي روح الإسلام الحقيقية ، كما أن داود عليه السلام كان يعلم سر الرجل برمته ومع ذلك أراد أن ينهى الأمر “ وديا “ لولا أن الرجل بجهله وعناده ولجاجته في الأمر لم يكن بالذي يقبل . فأي علم لهم بما وراء الحجاب ؟
إنهم في هوى أنفسهم الظالمة فكيف يعرفون الظالم من المظلوم ؟ وهذا الموقف من الناس هو الذي جعل داود عليه السلام يقلع عن ستره على الرجل ، فإن الأمر كان يهدد بأن ينقلب إلى “ فتنة “ فها هم الناس بدورهم يعذلون داودا عليه السلام .
 
( 2454 - 2473 ) الفسقة والعجزة هم الذين يفضحون أنفسهم ويعلنون جرمهم على الملأ لأن الله سبحانه وتعالى عندما يسترهم فإنهم يمدون في طغيانهم وفسقهم وفجورهم ، بحيث لا يبقى طي الكتمان وبحيث يستشرى ولا يمكن إخفاؤه والشهود موجودون ، وتشهد اليد والقدم واللسان في الآخرة فقط بل وفي الدنيا أيضا . عندما يعمينا الغضب تكون فرصة الضمير أن يأمر اللسان بأن ينطق ، بل إن الظلم والقسوة التي نرتكبها تأمر الأيدي والأقدام بأن تتحدث وتفشى . وشاهد السر هو الضمير الذي يمسك بزمام الإنسان ويدفعه إلى إفشاء سره بنفسه . فإذا كان هذا الأمر في الدنيا فما بالك بالآخرة ؟ إن الله سبحانه وتعالى يستطيع أن يوكل بك من داخلك من يشهد عليكالْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ( يس / 65 ) إن جوهر الظالم شديد الوضوح ونفسه النارية تشهد عليه أنه ماض إلى النار .
 
“ 517 “
 
ومثاله ذلك العنود اللجوج العاصي الذي ستر الله عليه ، وأبى إلا أن يفضح نفسه . لقد قام بكل هذا العناد من أجل ثور . ففقد كل ماله وروحه . لقد فعل ما فعل بينما كان غلاما لا يعقل ، ولو كان قد تاب واستناب ودفع دية قتيله ، وطلب من الله سبحانه وتعالى أند يدفع الدية لأنه “ عاقلة “ كل القاتلين خطأ منذ يوم ألست “ والدية على العاقلة “ فحوى حديث نبوي والعاقلة هم أقارب قاتل الخطأ من ناحية الأب وعند الشافعي - رضي الله عنه - قبيلة القاتل وعشيرته ( انقروى 3 / 402 - 403 ) لقد كان در الاستغفار والضراعة والاستنابة كافيا لغفران الله ورحمته وستره .
 
( 2488 - 2505 ) إلزامه الحجة : أي إثبات الجرم عليه ، وفي البيت 2490 الدم لا ينام أي لا يبقى الجرم خفيا ، ويفسر في الأبيات التالية كيف يكون هذا :
إن عدالة الله توحى للناس أن يتساءلوا عما حدث وأن يتحيروا وبهذا يظل الدم يفور ، وفوران الدم هو عدم بقاء الجرم خفيا ، وهكذا يسجد الناس لداود متذكرين بهذه المعجزة الجديدة معجزاته السابقة بما يطابق الآيات 247 - 251 من سورة البقرة ، معجزة الحجارة الثلاثة التي كلمت داود وهو راع يرعى الغنم قائلة له خذني من أجل غزو جالوت فحملها في مقلاعه وفتله ، وصنعة الدروع ، وتأويب الجبال ، وهبة الحياة الخالدة أي الحياة الباطنية والروحانية التي هي باقية ببقاء الحق ، ونفس المعنى هو المقصود من “ الحياة الأبدية “ - وحين يموت الظالم تحيا الدنيا ولا يعبد أحد إلا الله بعد الضلال وعبادة الطواغيت ، فالظلم كفر على أساس أنه يؤدى إلى الكفر وإلى الشرك بالله ( مناقب العارفين 1 / 23 ) .
 
( 2506 - 2527 ) هكذا تنتهى القصة ، ويقدم مولانا الدروس الصوفية المستفادة منها أو المستوى الصوفي لها والمراد بالبيت 2506 أن فناء “ الذات “ يؤدى إلى الوجود الحقيقي وفي تلك المرحلة “ الدنيا “ حياة باقية ببقاء الحق والمقصود “ بالسيد “ الروح الباحثة عن الحق في الإنسان والذي ينبغي أن
 
“ 518 “
 
تكون “ النفس “ “ أمة “ لها . . والبيت مناظر للآية الكريمةفَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ( البقرة 54 ) فهذا القتل الباحث عن الله ينبغي أن يكون غالبا ومسيطرا على “ ثور الجسد “ أما الرزق الذي لا تعب فهو الأرزاق - الإلهية والمعنوية التي أعطيت للأنبياء والوصول إلى إلى هذه الأرزاق منوط بصفاء النفس والكنز هو التوفيق في الوصول إلى هذا الرزق ونحن لا نزال في الحياة الدنيا ، ويشير مولانا في بعض الأحيان إلى أن المعاني لا تطيعه فلا بد أنه “ أكل شيئا “ على أساس أن الطعام يمنع من حدة الذهن ، ثم يعود فيقول : إن الأمر ليس مرتبطا بطعام أو شراب لكنها مشيئة الله سبحانه وتعالى “ وحسان العيون “ أي أولئك الذين لديهم بصيرة الباطن ، وهؤلاء لا يتعلقون “ بالأسباب “ لأن فوق الأسباب أسبابا أخرى ، وهم لذلك قائلون بقطع “ الأسباب “ أي الإيمان بأن هناك أسبابا أخرى تحرك أسباب الدنيا ، وإلا فإن كل معجزات الأنبياء لا علاقة لها بأسباب الدنيا : وفي البيت 2521 : إشارة إلى ما روى عن إبراهيم الخليل عليه السلام ، إنه ذات يوم أخذ النمرود في توزيع الأرزاق على الجميع ما عدا إبراهيم فتوجه إبراهيم إلى الله تعالى طالبا منه الرزق ، ثم ملأ جواله بالرمل عند عودته إلى المنزل ، فحول الله الرمل إلى دقيق خبز منه أهل البيت ، ووجد إبراهيم عليه السلام الخبز جاهزا في الصباح ( ماخذ / 110 ) وفي الشطرة الثانية إشارة إلى تحول الصوف إلى وبر في يد موسى عليه السلام وزوجه بينما كان يغزلانه ( ماخذ / 111 )
 أما سنابل القمح دون زراعة فهي إشارة إلى مائدة عيسى عليه السلام ، وفي البيت التالي إشارة أبى لهب ليس المقصود بها الشخص المعروف بل هي هنا علم الكفار ومنكري المعجزة عموما ، وفي البيت 2523 إشارة إلى واقعة محاولة أبرهة هدم الكعبة على ما ورد في سورة الفيل ، وفي 2524 يحلق عاليا أي يسير في عالم الغيب ويأخذ أمره من الحق وإلهامه فيجندل الحصى الصغير الفيل الضخم وفي البيت 2527 إشارة


“ 519 “
 
إلى معجزة لسيدنا موسى عليه السلام الواردة في الآية 67 فما بعد في سورة البقرة حيث أمر الله تعالى بذبح بقرة ثم ضرب القتيل بذيلها حتى يحيا ويدل على قاتله ( انظر كفا في : الكتاب الثاني من المثنوى ص 151 - ص 152 والتعليقات 475 - 476 من نفس الكتاب ) وكل هذه دلائل تدعو إلى رفض الأسباب وقطعها .
 
( 2528 - 2538 ) ما زال مولانا يتحدث عن قطع الأسباب ، إن هذا الأمر ليس موكولا بالعقل الذي يكشف عن الأسباب والعلل ، أو العقل الدنيوي أو العقل المزايد ، والإدراك هذه الحقيقة هنا طريق واحد : العبودية المحضة دون استدلال ، فالفلسفى هو أهل الاستدلال والمنكر للحقائق الغيبية فهو أسير للمسائل العقلية والاستدلالية ، لكن الصفى ذو عقل اخر ، إنه عقل العقل الذي يستمد مداركه من منبع النور والضياء ، فالعقل الدنيوي قشر والقشر لائق بالحيوان والإنسان أجدر باللب ، والقشر باحث عن البرهان ، واللب أو عقل العقل باحث عن اليقين ، والعقل الظاهر همه في تسويد الكتب بالأبحاث والمقالات ، والجدل لكن العقل العارف يمضى في نور من مئات الأقمار والمواجيد الإلهية ، والأسود والأبيض كناية عن مظاهر العالم المادي ، وقيمة كل ما هو موجود في العالم المادي بقدر النور الذي يسطع عليا من عقل العقل ، وكذلك أرواحنا الإنسانية في قيمتها بقدر تقلبلها للنور ومن هنا فالكافرون موتى ( ص / 30 ) لأن أرواحهم بلا نصيب من هذا النور .
 
( 2539 - 2552 ) هنا يحس مولانا أن كلامه باق للأجيال ويستحث نفسه للحديث فكلامه هذا سوف يبقى “ رفيقا للباحثين عن الحق “ كما أن التوراة والإنجيل كانا قبل القرآن مصدقين للقرآن ومؤيدين لهوَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ( هود / 120 ) هذا هو الرزق الذي بلا تعب فخذه ، إنه الأرزاق المعنوية والغيبة التي تصل إلى رجال الحق
 
“ 520 “
 
( انظر الأبيات 2509 - 2513 ) . . إنها تؤدى نفس ما يؤديه الخبز ، هي الخبز الذي بلا مائدة يهبه الله لأوليائه فحسب ، وهي لا تتأتى بالكدح في الدنيا ، بل يعطيها الشيخ لمريديه ، وهو يشبه الشيخ بالنبي داود عليه السلام هو العادل كداود ( كما ورد في القصة المذكورة ) ونفس داود : هو النفس الروحاني لرجل الحق المستند على العلم الإلهى . إن نفس الشيخ هي بمثابة زمردة التي تعمى عين الأفعى ( في المأثور الإيراني أن الزمرد يعمى عين الأفعى ) .
 
( 2554 - 2571 ) يعود مولانا إلى مطابقة أفكاره بالرموز الواردة في القصة فكما كان صاحب الثور كاذبا مرائيا فإن النفس أيضا كاذبة مرائية ، إنها تخدع المدينة بأجمعها إلا الملك ( الشيخ ، المرشد ، داود ) ، إنها لا تستطيع أن تتغلب على العقل إلا إذا وجدت مجالا في وجودك وبقي عقلك غريبا ، هنا تكون كالكلب الذي يبدو على باب صاحبة أسدا ( مثل فارسي عامي ) لكن الأسود الحقيقيين هم سالكو طريق الحق ، واجمتهم هي حضور الشيخ ، والعوام في المدينة لا يعلمون مكر النفس ، وليس لها إلا القلب غريما والعوام جميعهم على صلة بالنفس بشكل أو بأخر يصاحبونها ويبتغون هواها اللهم إلا الشيخ فهو ليس من “ جنس “ النفس وليس رفيقا لها ، “ وكل من يرفعه الله عن مرتبة النفس ويوصله إلى مرتبة القلب لا يصبح بعد من جنس الجسد “ ومراتب الكمال المطروحة هنا هي اللطائف السبعة أو الأطوار السبعة “ الطبع ، النفس ، القلب ، الروح ، السر ، الخفي ، الأخفى “ وهي المراتب التي يقطعها الإنسان ليصل إلى “ مقام القلب “ وليس هذا لكل إنسان ، بل للصفوة ، لأن معظم الناس مرضى من السير وراء العلل والأسباب ، ومن ثم فهم يميلون إلى كل خسيس ظانين أن النجاة في يده ، غافلين عن أنه كالصياد الماكر يصفر للصيد حتى يسقط في شباكه ، إن المطلوب هو الهرب من مثل هذا المدعى ، الذي لا تعرف ضحيته نقده ( أي إدراكه المستقيم ) من نقله ( أي ما ينقله عن الأخرين ويدعى أنه وصل إليه
 
“ 521 “
 
بجهده هو ) المفروض الهرب منه مهما بدا “ معنويا “ أي مهما بدا عالما بالمعاني ومهما تشتدق بالمعاني ، فإن النجاة على يديه هي عين الأسر ، واليقين الذي يتأتى منه هو الشك بعينه ، ومهما كان المرء ذكيا . إن لم يميز “ المدعى “ من “ الحقيقي “ فهو أحمق ، ومن الخير أن تفر من الأحمق .
 
( 2572 - 2601 ) بما أن الحديث يدور عن الحمق والغواية وغلبة هوى الأحمق ونفسه عليه يسوق مولانا حكاية عن سيدنا عيسى عليه السلام ، وكيف فر من الأحمق رغم أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى لأن :لكل داء دواء يستطب به * إلا الحماقة أعيت من يداويهاوالحكاية وردت عند الزمخشري في ربيع الأبرار وكتاب يذكر فيه حماقة أهل الإباحة للغزالي ( ماخذ 112 - 113 ) والأبيات فيما بعد تعتمد على ما روى من معجزات عيسى عليه السلام في القران الكريم وكتب التفاسير وسير الأنبياء وفي البيت 2590 قول منسوب إلى عيسى عليه السلام “ ما عجزت عن إحياء الموتى كما عجزت عن إصلاح الأحمق “ وتنتهى القصة بأن هرب عيسى عليه السلام لم يكن خوفا ، فهو امن بالله سبحانه وتعالى ، لكنه هرب لكي يعلمنا أن نهرب من الأحمق .
 
( 2602 - 2613 ) الحمق هو سبب الكفر ، وهو ليس مقصورا على الأفراد بل قد يكون مرضا جماعيا عند أمة من الأمم ، ويكون منشأه الوصول إلى درجة عليا في الحياة المادية ، وهدا أشبه بما يقال عن نمو الحضارات ووصولها إلى المراتب العليا من الناحية المادية فيغيب الإيمان ، ويتجرأ الناس على الخالق ، فيكون الانهيار المادي نتيجة للانهيار الروحي ، وقد التقط مولانا نموذجا لهذه النظرية من القران الكريم ، حيث قدم قوم سبأ مثالا على الفراغ مع عدم الإيمان والذي يعقبه الانهيار ، وقد بدأ مولانا القصة في البيت 282 ثم تركها إلى البيت
 
“ 522 “
 
364 ثم تركها ليعود إليها هنا عندما جاء سياق الحديث عن العلاقة بين الحمق والكفر ، ويقدم مولانا فيما بعد نماذج عن نزول الأنبياء في قوم أثقل الترف نفوسهم وختم على قلوبهم وأبصارهم فجرأهم على الجدل وأفشى بينهم المنطق الأرضي فختم الله على سمعهم وعلى أبصارهم وعلى قلوبهم غشاوة فهم لا يعلمون . وفي البداية يقدم مولانا مفارقة عن طريق قصة من قصص الأطفال . .
وكم في قصص الأطفال من عبر ومواعظ ، فكأن سبأ بكل ما فيها من فراغ هي البلدة التي وردت في قصة الأطفال التي يسوقها ، وكأن أهلها قد تلخصوا في هؤلاء الأشخاص الثلاثة الذين يرمزون إلى ما في البشرية من داء عياء ، وكأن الله سبحانه وتعالى أجرى على ألسنة الأطفال وهم صغار العقول ما يدل على هؤلاء الحمقى الذين بلغوا الغاية من الترف المادي ، ويرى يوسف بن أحمد أن المراد بالبلدة الإنسان وسكان المدن العشرة هم الحواس الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة والخلق هم القوى الجسمانية والتقوى الروحانية والأعمى حاد البصر هو الحرص وسليمان الحقيقة ورجل النملة الدنيا ، أما الأصم حاد السمع فهو الأمل والعريان الكاسى هو حب المال والطير السمين النحيل هو الدنيا ، أكلوا منه وهو ميتة مصداقا لقول الرسول ، : “ الدنيا جيفة وطلابها كلاب “ وظنوا أنفسهم قد تضخموا لكنهم مضوا من فرجة باب الموت وهي خفية وظاهر والزفاف هو الموت لأنه عودة الروح إلى أصلها ( منهج 3 / 351 - 353 ) ، وهناك تفسيرات أخرى ستأتي خلال عرض الأبيات .
 
فالمدينة العظيمة الواردة في البيت 2604 هي الوجود المادي وهو في نظر أهل الدنيا عظيم جداً وضخم في حين أنه في نظر أهل الحقيقة صغير جداً لا يعدو حجم الفنجان وفي البيت 2608 تبلغ بنا هذه التناقضات إلى أن أفراد الكائنات في هذه الدنيا بلا وجود حقيقي ، وهو مع هذه الكثرة لا شئ ، ماله وجود هنا هو الشهوة والحرص والغرور أو الادعاء وهم لم يغسلوا وجوههم أي ليسوا جديرين
 
“ 523 “
 
بحضرة الحق سبحانه وتعالى ، وفي البيت 2609 يعود فيقول : إن الخلائق على كثرتهم لا وجود لهم فالحرص والشهوة والغرور تظهر أنفسها منهم في كل أن ، 2610 فكل هذه النفوس لو أنها لا تسير إلى الله فهي لا تساوى لو كانت آلاف فهي لا تساوى نصف شخص وفي 2612 يصف الشهوة التي تسمتع إلى كلام أهل الدنيا جيداً لكنها صماء عند سماع أسرار الغيب ، ولا يساوى سمعها الحاد شيئاً . أما في البيت 2613 فالعارى هو الغرور أو المغرورون يظنون أنفسهم يملكون كل شئ لكن كل ما لهم لا يمكن أن يكون لباساً فوق الروح الباحثة عن الله تعالى هو فقط ذيل سابغ للثوب يعوق السير إلى الله ( استعلامى / 334 ) .
 
( 2614 - 2619 ) في هذه المدينة العظيمة التي لا تعدو فنجانا صغيراً في نظر أهل الحقيقة فإن الحرص والشهوة والغرور يتحدث بحديث لا علاقة له بالواقع وهو من نتاج الخيال الباطل عندها ، وهي تستمع من أنفسها لهذه الأباطيل وتصدقها وتخاف وتهرب من المدينة .
 
( 2620 - 2629 ) إن الحرص والشهوة والغرور ، هي رفاق تخاف من كل شئ بل يخاف كل واحد منها من الآخر ، تفر من مكان إلى اخر ، لكن ما تجده في الحقيقة لا شئ ، فالمدينة هي الأوضاع المساعدة في هذا العلم ، وهؤلاء الأصدقاء الثلاثة يهربون منها إلا ما لا يساوى قربة ، فالطير السمين هو لذات هذه القرية وهو يرضى الأصدقاء الثلاثة لكنه لا يزيد عن جلد وريش وعظامه أشبه بالأغصان الجافة ، واللذة التي تحدث من طيبات “ المدينة العظيمة “ كلها باطلة ، ومع كل هذه “ السمنة “ المتخيلة المظنونة يعبر الأصدقاء الثلاثة من طريق الموت بسهولة ، وكم يمر به من حفلات الزفاف أي انتقال الروح من غربتها إلى موطنها الأصلي .
 
( 2630 - 2635 ) يفسر مولانا في هذه الأبيات رموزه أن هؤلاء الأشخاص
 
“ 524 “
 
الثلاثة هم : الشهوة وهي صماء والحرص وهو أعمى والغرور الذي يخشى أن يسلب ثوبه بينما في الحقيقة عار ، ثم يقول : إن الشهوة معنا حتى الموت دون أن تعلم أنها هي نفسها إلى موت ، والعاري : هو ادعاء الإنسان الأجوف الذي يظن أن لديه ما يسلب ويخاف عليه من كل الناس ، ورجل الدنيا هو من يتصف بهذه الصفات الثلاثة .
 
( 2636 - 2643 ) إن الروح لتضحك عندما تسمع النواح عند الموت لأنها تعلم أن الموت هو تحرر للروح من الحرص والشهوة والغرور وفي البيت 2638 يشبه التعلق بالدنيا عندنا بحالة طفل يملأ حجرة بقطع الفخار والحصى وهو مثل تردد كثيراً عند مولانا ( أنظر 2245 - 2282 ) ويستخدمها في ألعابة كفضة وذهب ، وهكذا هو فلا دثار له من العلم ، وهكذا أيضاً يكون الغنى الذي يظن نفسه مالكاً لما في يده بينما هو في الحقيقة مستخلف فيه مبتلى به لينظر الله تعالى ماذا يكون سلوكة فيما استخلف فيه ، فأهل الدنيا في نوم الغفلة ، وشاد الأذن “ هو القدرة الإلهية توقظنا من حلم الدنيا “ ( انظر تعليقات البيت 1735 ، الدنيا كحلم النائم ) .
 
( 2644 - 2658 ) لقد مر الحديث عن المدينة العظيمة جداً التي تبدو هكذا لأنظار أهلها لكنها لا شئ ، وعن أهل هذه الدنيا المفلسين الخائفين من اللصوص كالأطفال الذين يملأون حجورهم بالحصى ، ويتحدث هنا عن علماء الدنيا : وهو يسخر منهم بأنهم “ عقلا ذوو فنون “ ، ومن هنا قال عنهم الله تعالى : أنهم لا يعلمون . . إن هؤلاء يشكون دائماً من الناس ويقول أحدهم : إنهم “ يسرقون وقتي “ في حين أن وقته كله لا نفع فيه ، إنه أشبه بالعريان الذي تؤرقه الخشية من سرقة ثوبه ، إن علمه كله خارج ذاته ، ماذا يجديه أن يعرف مئات الآلاف من الفصول دون أن يعرف نفسه ؟ ماذا يجديه لو عرف خاصية كل جوهر وهو لا يدرى شيئا عن جوهره هو ؟ وعلماء الشرع هؤلاء علماء الظاهر الذين يفنون


“ 525 “
 
الوقت في الجائز أو غير الجائز دون أن - يدرى أحدهم ، هل هو نفسه جائز أو أنه في حضرة الحق شيخ مهدم فان لا يتأتى منه أي شئ . . وعالم النجوم الذي يعرف مطالع السعد ومطالع النحس دون أن يعرف هل هو جدير بحضرة الحق أم لا وروح العلوم كلها هو معرفة النفس : لأن من عرف نفسه فقد عرف ربه ، ومعرفتك لنفسك أهم من معرفة الأصوليين “ أصول الفقه وأصول الكلام “ ومعرفة النفس أهم ، لأن فيها النجاة ، فقلل من فخرك بالعلوم الظاهرة ، وتدرك قيمة اللامتناهى في الحقارة أمام اللامتناهى في العظم وهذا هو لب المعرفة .
 
( 2659 - 2670 ) يعود مولانا إلى قصة أهل سبأ : بدأها في البيت 282 ثم تركها ، ثم عاد إليها في البيت 2602 وتركها وها هو ذا يعود إليها والمقصود من يفرون من أسباب اللقاء : أي السبل الموصلة إلى معرفة الحق ، ويعدد مولانا فيما بعد ذلك من أسباب مظاهر الغنى عند قوم سبأ على ما ورد في كتب التفاسير ويضيف إلى أن النعمة لم تكن نعمة مادية فحسب ، بل كانوا إلى جوار ذلك يتمتعون بالنعمة الثانية وهي نعمة “ الأمن “ فما فائدة الغنى إذا كان المرء غير امن على نفسه أو ماله ؟ وفي الإسلام نعمة المال مقرونة دائماً بنعمة الأمن “ أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف “ ثم يمنع مولانا نفسه عن الاسترسال في الحديث عن نعم القوم ، لأن هذا قد يمنعه عن الحديث في الموضوعات المهمة وبخاصة أن الأمر الإلهى ورد بلزوم الاستقامة ، والاستقامة هي القصد .
 
( 2671 - 2678 ) حدد عدد الأنبياء الدين جاءوا إلى سبأ بثلاثة عشر نبيا بناء على رواية أبى الفتوح الرازي في تفسيره ، والنعمة والشكر مرتبطان أشد الارتباط ، فلا نعمة بلا شكر ، ولا شكر بلا نعمة ، وإلا فغضب الله سبحانه وتعالىلَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ( إبراهيم / 7 ) وهؤلاء المرفهون يحسون علل النعمة الذي يسلب منهم الشكر عليها والغول في مصطلح مولانا هو الذي يضل المرء في بيداء الغفلة ولا يزال يناديه بصوت يشبه صوت صديق أو حميم حتى يضله “ أشبه بالنداهة في المأثور الشعبي المصري “ . . لقد بلغ بهم الملل مبلغه بحيث إن النعم المتصلة لم يعد لها طعم في
 
“ 526 “
 
أفواههم ، وبحيث ضلوا عن منبعها وفي الأبيات بعض ما ورد في تفسير أبى الفتوح الرازي ، “ كفروا وقالوا لا نرى لله نعمة علينا ، ولو كانت النعمة منه ، قولوا له أن يأخذها منا “ ( ماخذ / 113 ) .
 
( 2679 - 2690 ) من هنا فصاعدا يطرح مولانا مناقشة قوم سبأ للأنبياء ومن خلالها أيضاً يسوق مولانا الحديث إلى مريديه ، ويدور الحديث هنا عن الروح المريضة التي لا تجد في نفسها ميلا إلى الحق ، والتي طمست النعمة والرفاهية الجسدية طرقها إلى السمو والعلو ، فهي تزهد ما في يدها ، وتتوق إلى ما ليس في يدها مهما كان تافهاً وحقيراً ، فهي من مرضها تظنه عظيماً ، هو الشذوذ إذن الذي تبتلى به النفوس التي عبت من الرفاهية والرخاء ما شاء لها أن تعب حتى لا ينقلب الموت إلى حياة ، إذ لا تجد هذه الروح المريضة شيئاً تدمره فتدمر نفسها . . فكل ما تحصل عليه ينقلب داخلها إلى أداة تدمير ، وكل ما يصل إلى يدها تزهده وتتوق إلى ما وراءه ، هي إذن تلك الحمى التي تنتج من اعتبار المادة هي غاية المنى ومنتهى الأمل ، أترى مولانا كان يستشرف من خلال قصة قوم سبأ ما نشاهده الآن من أمراض في الحضارة الغربية يرى اشبنجلر بفكرة المصير بدلًا من العلية ، إذ إن المصير يعبر عن جزع الروح لما يهدد جوهرها أو كيانها أو تفاعلها ، من أجل إثبات الذات وفي ذلك تعبر عن الحياة ولا يمكن إدراك فكرة المصير إلا بالتجربة الحية فلا يمكن تعرفها بمنطق العلم ، ولا يعبر عن سياق التاريخ في نظر اشبنجلر إلا غير المصير ويسرى على الحضارات ما يسرى على الكائنات العضوية تنبت وتنضج وتذبل وتفنى ، وأهم ما في نظرية اشبنجلر مما ترهص به أفكار مولانا أن القوة الروحية أساس رئيسى من أسس الحضارة وإن للحضارة إمكانات خارجية وإمكانات باطنية وحين تبلغ الحضارة غايتها خارجياً ينضب دمها وتتحجر قواها ، وخريف الحضارة هو فترة مدن باقية وتجارة منتشرة وملكيات مركزية وفيه يبدو انحلال الدين وفقر الحياة الداخلية ، كما أن العقلانية والتنوير علاقاته بظاهره ثم تنحدر الحضارة إلى الشفاء الذي يتمثل في ذبول الإبداع الفنى والذهني وموت الدين وظهور
 
“ 527 “
 
الشك والمادية المفرطة وعبادة العلم بقدر فائدة العلم وهي أمور يبديها مولانا هنا في مناقشة أهل سبأ للأنبياء وشكهم وظهور الملل من الترف المادي الزائد .
“ لآراء اشبنجلر أنظر : مصطفى النشار : فلاسفة أيقظوا العالم 307 - 323 ( القاهرة دار الثقافة 1981 ) وأنظر أيضا عبد الرحمن بدوي : اشبنجلر القاهرة النهضة المصرية طبعة 1945 م - واشبنجلر : تدهور الحضارة الغربية - الترجمة العربية لأحمد الشيباني : الجزء الأول : دار مكتبة الحياة :
بيروت - بدون تاريخ “ .
 
( 2691 - 2701 ) يدور الحديث حول نوعين من العلاقة : أحدهما بين عقلين طالبين للكمال ، وفيها الصفاء والنور المعنوي ، وهي تتوطد وتزداد أو اصرها بمرور الوقت ، هي “ الولاء “ والثانية بين النفوس الإنسانية تقوم على أسس مادية وهي تقل لحظة بلحظة ، وعندما تكون النفس مريضة تفسد العلاقة وتسوء المودة ، وفي هذه الحالة تسمم كل ما تلمسه بيدك حتى الفنون وحتى الشعر بيدو لك كل ما تقوله ثقيلا ممجوجا مبتذلًا “ ميل الحضارات في أفولها إلى كل غريب وعجيب من الفنون مللا من كل ما هو سائد “ وكل هذا من العلة والمرض - فإن شفيت من العلة والمرض ، أي التخمة وعبادة المادة ، فإن كل قديم سوف يبدو أمامك جديدا سوف ينقلب الوجود إلى جمال في عينيك . انظر إلى الجذر القديم في الحفرة : أليست تنبت منه في كل أن أوراق خضراء وبراعم وزهور ؟
 
( 2702 - 2711 ) إن الأنبياء والأولياء أهم أطباء هذه العلة ، وهم الذين ينشق البحر لهم ( إشارة إلى معجزة موسى عليه السلام ) وهم غير الأطباء الطبيعيين الذين يعرفون أحوال المريض عن طريق النبض ، لأنهم ينظرون إلى القلب دون واسطة “ واعلم أنه كما يقال في الطبيب إنه خادم الطبيعة ، كذلك يقال في الرسل والورثة إنهم خادموا الأمر الإلهى في العموم . فالرسول والوارث طبيب أخروي للنفوس منقاد الأمر الله حين أمره فينظر في أمره تعالى وينظر في إرادته تعالى فيراه قد أمره بما يخالف إرادته ولا يكون إلا ما يريد ولهذا كان


“ 528 “
 
الأمر ، فأراد الأمر فوقع “ محيي الدين بن عربى - فصوص الحكم - 97 - 98 شرح أبو العلا عفيفي - دار الكتاب العربي ببيروت - بلا تاريخ “ تاريخ المقدمة 1946 ) ، لأن لديهم فراسة من الحق سبحانه وتعالى ، أولئك هم أطباء الغذاء وعلل الجسد ، أما الأولياء فهم أطباء الفعال والمقال ، وهم يعالجون بنور الله سبحانه وتعالى ، أولئك يلاحظون البول ويستنتجون منه ، وأما هؤلاء فوسيلتهم إلهام الله تعالى وهم لا يريدون أجراإِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ( هود 29 ) . . وهم يدعون إليهم المرضى . وليسوا مثل الآخرين يذهب المرضى إليهم ، فإن مرض القلب مستتر حتى على صاحبه .
 
( 2712 - 2734 ) إن المنكرين في كل عصر وزمان لا ينظرون إلى هؤلاء الأطباء من الأنبياء والأولياء إلا نظرتهم إلى كل إنسان أنه جسد “ يأكل الطعام ويمشى في الأسواق “ ولا فرق هناك بينهم وبين غيرهم من المرضى ، “ “ فليرعوا “ إذن في هذا المرعى “ ويعيشوا “ دون أن تشغلهم هذه الأمور ، إن المتعة جاهزة فلماذا لا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ؟ ويرد الأنبياء : إن كلامكم هذا هو ناشىء من العلة ، إنهم لا يرون جوهر النبوة ، وهذا من العمى ، إن الشمس هي الدليل على وجود الشمس ، ولو تحدثت لقالت لك : انهض لقد طلع النهار و “ الصباح أغنى عن المصباح “ . وكل من يطلب في الصباح مصباحا إنما يقدم الدليل على عماه . فإذا كنت لا ترى لكنك تظن أن هذا الكلام حقيقي فاسكت حتى يأتيك الفضل من الله سبحانه وتعالى ، فالصبر والصمت سبيلان إلى الرحمة . فإذا كنت في أثر الدليل فمعناه أنك عليل ، واستمع وانصتوَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ضح بمالك وبروحك أمام رجل الحق حتى لا تنتكس ، وضح بنفسك وبعلائقك في سبيل الطريق إلى الله ولا تنبس ببنت شفة ، فإن رضى هؤلاء الأطباء عنا ، فسوف نعرف “ أنفسنا “ وأننا “ لا شئ “ أمام عظمة الوجود ، هؤلاء الأطباء لا يشفون الناس من لدن أنفسهم أو الجانب البشرى فيهم ، بل هي هداية من الحق .
 
“ 529 “
 
( 2735 - 2755 ) يرد المنكرون : ما هذا إلا مكر واحتيال ، فمتى ينيب الله عنه بشرا عاديين ، ونائب الحق ينبغي أن يكون من جنسه لا من الماء والطين ؟
أين أنتم من الله ؟ وأين البعوضة من العنقاء ؟ وأين الهباء من الشمس ؟ 
إن هذا أشبه بما ورد في كليلة ودمنة من قصة الأرانب والعين التي كان القمر يظهر فيها ، وكيف احتال الأرانب لإبعاد الفيلة ، وكيف أن أحد الأرانب ادعى أن رسول القمر الذي في البئر إلى ملك الفيلة وكيف أن صورة القمر في البئر واهتزازها من اهتزاز الماء قد خوف ملك الفيلة فجلوا عن العين ، 

وها هم المكرون يقولون : نحن لسنا من الذين يخافون من وهم ( يقول الملحدون المعاصرون كالقدماء تماما : إن الإيمان بالألوهية نوع من الوهم باق من طفولة البشرية ) .
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: