الأربعاء، 26 أغسطس 2020

01 - مقدمة المترجم والمحقق المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

01 - مقدمة المترجم والمحقق المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مقدمة المترجم والمحقق المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

الكتاب الثالث
مقدمة [ المترجم ]
فلسفة البقاء في الفناء عند جلال الدين
“ البقاء من البداية في الفناء “ البيت 4662 من هذا الكتاب “ خلقتم للبقاء لا للفناء ومن هنا سُمى البعث قيامة “ من شرح ملا محمد هادي السبزواري على المثنوى ص 243 –
1 - يستهل مولانا جلال الدين الرومي الكتاب الثالث من المثنوى - وهو الذي بين أيدينا - بطرح يتناول بين ثناياه معضلة من أهم معضلات التصوف الإسلامي وجدلية من أهم جدلياته إذ بينما يؤمن الصوفية جميعا بأن الوجود الحقيقي الذي لا يقبل الفناء ولا يتصور الفناء بالنسبة له ، ويعد كل الوجود بالنسبة له بمثابة الظل هو وجود الله تعالى ، يرى أكثرهم ومن بينهم جلال الدين الرومي نفسه أن الإنسان بدوره لا يقبل الفناء ولا يتصور بالنسبة له ، وربما كانت هذه الجدلية هي لب التجربة الصوفية والفلسفة الصوفية التي تسمى في المأثور الفارسي بالعرفان ، ومن هنا فإن الحل الظاهر لهذه القضية يكمن في إيجاد توافق أو - مصالحة بين نظرية - عدم - قابلية الإنسان للفناء وبين التصور الذي يقدمه كل أصحاب نظرية الوجود الحقيقي والمطلق لله تعالى ، وقد بذل مولانا جلال الدين قدرا كبيرا من الجهد في تقديم هذه المصالحة .
وخلاصة ما يراه أنه بالرغم من أن الوجود الحقيقي مقصور علي الله سبحانه وتعالى فحسب ، فإنه كرم الإنسان بأن وهبة شطرا من هذا الوجود الحقيقي “ فيذوب الوجود الظلي في الوجود الحقيقي كما يذوب النحاس عند تعرضه لصنعة الكيمياء “ والمقصود بوجود الإنسان هنا وجوده
 
“ 4 “
 
الروحي و “ عمارة الروح من خراب الجسد “ ، وقد تبدل أبدال الحق أو الأولياء العظام إلي أرواح خالصة .
ومن هنا يستهل مولانا هذا السفر من أسفار المثنوي بفكرة أن كل ما في الكون “ أكل ومأكول “ ، وواهب الحلوق التي تيسر هذا الأكل هو الله سبحانه وتعالي ، وكل يأكل ما يسر له ، ثم يصير بدوره مأكولا لمن هو فوقه في مراتب الخليقة ، والإنسان فحسب هو الذي يستطيع أن ينجو من هذا المصير - أي أن يكون مأكولا لغيره - عندما يتحول إلي “ إجلالي “ أي منسوبا لذي الجلال يتحول إلي روح خالصة ، فيتبدل طعامه من طعام مادي إلي طعام معنوي ، ويوهب كل - عضو - فيه خلقا جديدا بحيث تري العين - ما لا تراه العين العادية ، وتشم الأنف ما لا تشمه الأنف العادية ، وتسمع الأذن ما لا تسمعه الأذن العادية .
وتقوم دورة الخليقة - في رأي مولانا - علي هذه الفكرة ، فالحياة دائما في رقى ، وإنما يفني المأكول في الأكل ، لأنه أدنى منه مرتبة ، فالوجود في صعود ، أو بتعبير لملا محمد هادي السبزواري فيلسوف إيران المعاصر “ في الصعود تكون الجمادات غذاء للنباتات ، والنباتات غذاء للحيوانات ومن ثم فكل عالم أدني يفنى فيما هو أعلي كفناء الغذاء في المتغذي ، وهذا ما تراه في الإنسان حتى يظل من الخالدين “ 1 “ فالفناء هنا نوع من الرقى والصعود ، عبر عنه مولانا جلال الدين بطريقته البسيطة المعجزة عن طريق حكاية السيدة التي كانت تغلي حبوب الحمص وتقلبها في القدر ، ويكسب مولانا جلال الدين حبة الحمص “ حياة مفترضة “ بعد أن شرحت لها السيدة “ سر الغليان والنضج “ فتخاطبها قائلة “ ما دام الأمر هكذا يا سيدتي فلأغل جيدا وساعدينى بصدق - إنك في هذا الإنضاج بمثابة المعمار لي ، فقلبينى بالمعرفة
..............................................................
( 1 ) ملا محمد هادي سبزوارى : شرح المثنوى ص 198 - “ طهران “ بدون تاريخ .
 
“ 5 “ 
 
فما أجمله من تقليب “ 1 “ وترد عليها السيدة “ لقد كنت مثلك قبلا من أجزاء الأرض - وعندما احتسيت شراب الجهاد الناري ، صرت قابلة للسمو جديرة به - فغليت فترة في الأرض ، وغلبت فترة داخل قدر الجسد - ومن هذين الغليانين اكتسبت قوة الأحاسيس ، ثم صرت روحا ومن بعدها صرت سيدة لك - 
وكنت أقول في مرحلة الجمادية : إنك ستعبرينها مسرعة ، لكي تتحولى إلي علم وصفات معنوية - وعندما أصير روحا يكون لي غليان أخر ، أعبر به مرحلة الحيوانية “ 2 “ .
ليست حبة الحمص - وهي من النبات - الشيء الوحيد خارج الإنسان الذي يرى فيه مولانا معراج الصعود والترقي فحسب ، فالجمادات نفسها ذات حركة وتطور ، ألم تكن عصا موسى من قبيل الجماد ومع هذا وهبت حلقا لكي تلقف العصي الأخري فلا تمتليء بها ولا تزداد ؟ 
إن طعامها معنوي شأنه في ذلك شأن طعام النفس في مرتبة اليقين يفترس كل ظن ويبعد كل شك من قلب العبد ، ومن ثم فالأمور الروحانية الباطنية ذات حلوق كالأعيان ، وليس رزقها ماديا ، وهذا هو ديدن الخليقة من أدني العالم إلي أعلاه ، فكل المخلوقات بل والظواهر الروحانية غير المرئية ذات حلوق تناسب خلقتها ، وحتى تلك الروح التي يصل إليها رزقها مباشرة من ذي الجلال “ 3 “ .
ويعبر صدر الدين القونيوي أحد أساتذة جلال الدين عن هذه الفكرة قائلا :
“ إن لكل شيء غذاء خالصا فغذاء الأسماء أحكامها بشرط المظاهر التي هي محل الحكم وغذاء الأعيان الوجود وغذاء الوجود أحكام الأعيان وغذاء الجوهر الأعراض وغذاء الأرواح وعلومها وصفاتها وغذاء الصور العلوية حركاتها وما به دوام حركاتها ، وغذاء العناصر الصورة والمزاج “ “ 4 “ .
..............................................................
( 1 ) أبيات 4200 - 4201 من هذا الكتاب .
( 2 ) أبيات 4206 - 4212 من هذا الكتاب .
( 3 ) عن شرح الأبيات 36 - 42 من هذا الكتاب .
( 4 ) عن شرح يوسف بن أحمد 3 / 14 والأنقروى 3 / 25 .
 
“ 6 “
 
وبمضي مولانا في تقديم هذه الصورة الحية عن عالم الخليقة ، فالجمادات نفسها في حركة دائبة ومستمرة “ وهناك عالم متجمد واسمه الجماد ، والجماد يكون متجمدا أيها الأستاذ - فانتظر حتى تسطع شمس الحشر عيانا ، لكن ترى حركة جسم العالم - ولما كانت عصا موسى قد انقلبت إلي حية هنا ، فقد أخبرت العقل عن الأمور الساكنة - وما دام قد سوى من قطعة التراب بشرا - ينبغي عليك أن تعرف التراب بأجمعه - فهم موتى في هذه الناحية “ الدنيا “ أحياء في تلك الناحية “ عالم المعنى “ ، وهم صامتون هنا متحدثون هناك - وعندما يرسلهم إلينا من تلك الناحية ، تصير تلك العصا عندنا حية - وتغني الجبال بألحان أودية ، ويصير الحديد شمعا في الكف - وتصير الرياح حاملة لسليمان ، ويتحدث البحر مع موسي - ويكون القمر مرسلا الإشارات إلي أحمد ، وتصبح النار بالنسبة لإبراهيم كزهور النسرين - ويبتلع التراب قارون كأنه حية ، ويثوب الجذع الحنان إلي رشده - ويسلم الحجر علي أحمد ، وينقل الجبل الرسالة إلي يحيي - وكلها كأنها تقول : نحن سميعون بصيرون طيبون ، لكننا معكم يا من لم يسمح لكم بالسر صامتون - ومادمتهم تسيرون نحو جماد ، فكيف يصير مسموحا لكم بروح الجماد ؟
- فامضوا من الجماد إلي عالم الأرواح ، لكي تسمعوا - ضجيج أجزاء العالم - ويأتيك تسبيح الجماد - عيانا ، ولا تتخطفك وساوس التأويل “ “ 3 “ .
وكيف يكون الجماد جمادا وقد نزل من أعلي إلي أسفل ؟ “ خلق من أعلى “ وديدن كل من انبت عن أصله أن يحن إلي هذا الأصل ولا بد أن تكون رجعته إليه “ وأصل كل النعم هبط من الفلك إلي الأرض ، جاء من أعلى إلي أسفل غذاء للروح - وعندما هبطت من الفلك إلي الأرض تواضعا ، صارت جزءا من الإنسان الحي الشجاع - ثم اكتسب هذا الجماد صفات الإنسان ، فسما سعيدا إلي أعلي العرش
..............................................................
( 3 ) الأبيان 1008 - 1022 من هذا الكتاب .
 
“ 7 “ 
 
قائلا : لقد جئت من العالم الحي منذ البداية ، وهأنذا قد عدت من أسفل إلي أعلى وجملة الأجزاء متحركة كانت أو ساكنة ، ناطقةإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ” 1 “ .
وينتقل مولانا دائما - كدأبه في كل أجزاء المثنوي - من العالم الكبير “ الكون “ إلى العالم الصغير “ الإنسان “ مع فارق جوهري ، وهو أن مولانا يعتبر الكون تصغيرا للإنسان الذي هو في رأيه “ العالم الأكبر “ مما سيتضح في كتاب تال ، علي كل حال يدق مولانا سواء تناول الإنسان أو الكون علي أن البقاء والصعود والسمو كامن - في الفناء المرحلى ، والتشابه - موجود علي الدوام بين مراتب الحياة الجسمانية ، ومراحل الكمال الروحاني ، فالإنسان في رقي وسمو دائم ، من جنين يتغذي علي الدم إلي رضيع يتغذي علي اللبن ، ثم أكل للطعام ثم نابذ للطعام سام بروحه إلي أفاق عليا ، الفكرة نفسها التي وردت عند سنائي في الحديقة من منطلق أن الله حافظ للإنسان في كل مراحل حياته ، ولا يمكن أن يضيعه بعد موته “ 2 “ .


وفي هذا السير التطوري يصبح الموت مجرد بوابة إلي حياة جديدة وأفضل ، ويفيض مولانا كغيره من الصوفية في شرح هذه الفكرة ، أن في الموت خراب الجسد لكن فيه أيضا عمارة الروح يقول : “ كنت مثل ادم من البداية في حبس وكرب ، وامتلأ الآن الشرق والغرب بنسل روحي - كنت شحاذا في هذا المنزل - الشبيه بالجب ، وصرت ملكا ، والملك في حاجة إلي قصر - ذلك أن الملوك يأنسون إلى القصور ، أما الموتى فيكفيهم القبر منزلا ومكانا - لقد ضاقت هذه الدنيا علي الأنبياء ، فمضوا كالملوك إلي اللامكان - وإن لم تكن ضيقة فلماذا هذا الصراخ ؟ ، وكيف انحنى كل من عاش فيها طويلا ؟ 
- وكيف تحررت الروح عند النوم من ذلك المكان ؟ ، وكيف صارت من نومها هذا “ بادية “ السعادة ؟ 
لقد تخلص الظالم ثانية من ظلم الطبع ، وانفلت السجين “ خارجا “ من تفكيره في السجن “ “ 3 “ .
..............................................................
( 1 ) الأبيات 460 - 464 من هذا الكتاب .
( 2 ) انظر شروح الأبيات 50 - 68 من هذا الكتاب .
( 3 ) الأبيات 3538 - 3544 من هذا الكتاب وشروحها .
  
“ 8 “
 
وإذا كان كل عنصر يعود إلى أصله ومنبته ، فإلي أين تمضي الروح إذن إن لم تمض إلي أصلها ومنبتها ؟ والمثنوي بأجزائه الستة عبارة عن تتبع لرحلة الروح في العودة إلي منبتها . وافتتاحية الكتاب الأول عبارة عن أنين الناي شوقا إلي الغاب أو أنين الروح شوقا إلي الجنة ، يقول مولانا في هذا المعنى : “ يقول التراب لتراب الجسد : عد ، اترك الروح وأقبل نحونا كالغبار - إنك من جنسنا وأولي بك أن تكون عندنا ، - وأفضل لك أن تنجو من الجسد ومن تلك الرطوبة التي فيه - فيقول : لبيك ، لكني مقيد القدم ، بالرغم من أنني في ألم من الهجران مثلك - ويطلب الماء رطوبة الجسد قائلا لها : أيتها الرطوبة عودي إلينا من الغربة - ويستدعي الأثير حرارة الجسد قائلا لها : أنت من نار فعودي إلي أصلك - وهناك اثنتان وسبعون علة من العلل في الجسد ، فاقدة للزمام في جذب العناصر - ثم تأتي العلة “ الكبري “ حتى تفتت البدن ، وحتى تترك العناصر بعضها البعض الآخر - وهذه العناصر طيور أربعة مقيدة القدم ، والموت والمرض والعلة هي التي تفك قيد القدم - وعندما تفك قيودها ، يشرع طائر كل عنصر في الطيران علي وجه اليقين - وجذب هذه الأصول لفروعها ، تضع في كل لحظة ألما علي أجسادنا - حتى تمزق كل هذه التراكيب ، ويعود طائر كل عنصر محلقا إلي أصله - ولما كان كل جزء ييبحث عن اللحاق برفيقه ، فكيف تكون الروح الغريبة في الفراق ؟ إنها تقول : يا أجزائي الأرضية الدنية ، إن غربتي أكثر مرارة فأنا من العرش “ 1 “ .


لا نقص إذن من الموت والفناء ، فالفناء سبيل إلي البقاء ، هو تمام الدائرة ، فقبل قوس الصعود كان قوس النزول ، لكي تتم دائرة الكون التي يعبر عنها الرقص المولوي ، ويلخص مولانا هذه الفكرة في أبيات هي أشهر أبيات هذا الكتاب الثالث من المثنوى “ لقد مت من الجمادية وصرت ناميا ، ومت من النماء
..............................................................
( 1 ) الأبيات 4424 - 4240 من هذا الكتاب . 
 
“ 9 “
 
وانقلبت حيوانا - ومت من الحيوانية وصرت إنسانا ، إذن فمن أي شيء أخاف ؟
ومتي نقصت من الموت ؟ - وأموت مرة أخري من البشرية ، حتى أخذ من الملائكة أجنحتها وقوادمها - ومن الملائكية ينبغي أن أقلع عن الطلب ، ذلك أن كل شيء هالك إلا وجهه - ثم أصير بعدها فداء من الملائكية ، وأصير إلي مالا يحده وهم - إذ أصير عدما والعدم كالأرغنون ، يتغنى لي قائلا :إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ- فاعلم أن الموت هو ما اتفقت عليه الأمة ، من أن ماء الحيوان مخبوء في الظلمة “ 1 “ .
وإياك أن تقيس هذه الأمور بمقياس العقل ، فكما جئت تعود ، فهل تعلم كيف جئت ؟ هذه المراحل تطلب في البداية انتفاء المكان والزمان والكثرة والأعداد وكل ما يتعلق بمنطق الجسد ، فإنك إن فعلت لا يمكن تصور هذه الأفكار إلا كجزء من أخيلة الشعراء وتهاويم الصوفية عند السكر وغلبة الوجد .
ولكن مولانا يقدم قياسات عديدة تتصل بنظرية تكامل الأنواع عنده ، فإن المادة التي تنقلب إلي موجود حي هي مادة ميتة ، لكنها تكتسب حياة قائمة علي الوحدة مع عناصر الحياة المتعددة ، وقد تناول الهجويري هذه القضية تحت عناوين مختلفة ، وعندما يتناول بالحديث فرقة الطيفورية اتباع أبي يزيد البسطامي يقول : إن نظريتهم الخاصة هي الغلبة والسكر ، ولقضية الصحو والسكر علاقة وثيقة بقضية البقاء والفناء فقد كان أبو يزيد وأتباعه يرجحون السكر علي الصحو ، في حين أن الهجويري نفسه كان يفضل الصحو علي السكر ، إذ كان أبو يزيد يعتقد أن الصحو يتضمن إثبات الأعراض البشرية التي تقف كحائل أمام الإنسان في سيره إلي الله ، في حين أن السكر يتضمن نفي الصفات البشرية ، بحيث تبقي فيه فحسب تلك الملكات التي لا تنتسب إلي البشرية وهي أعظم ملكاته على الإطلاق .
..............................................................
( 1 ) الأبيات 3904 - 3909 من هذا الكتاب .
 
“ 10 “
 
ولا أظن أن صوفيا ما يري بإثبات الصفات للإنسان ، بل أن الهجويرى برغم مخالفته الظاهرة للبسطامى يخلص إلي نتيجة أقرب إلى فكر البسطامي ، ويرى أن كل مشايخ الصوفية يتفقون علي أنه عندما يفر الإنسان من أسر المقامات ، ويتخلص من ظلام الأحوال ، ويتحرر من عالم الكون والفساد ، يكون حضوره مع الله بلا نهاية ، ولا يبقى وجوده متعلقا بعلة ، بل يصير ربانيا يفني عن دنياه واخرته “ 1 “ .
هذا ما يسميه مولانا جلال الدين الميلاد الثاني ، وهو ليس إلا موت الذات والبقاء في الله وهو ما يعبر عنه بقوله : “ وعندما يولد المرء للمرة الثانية ، فإنه يضع قدمه فوق مفرق العلل - فلا تكون العلة الأولي دينا له ، ولا تحقد عليه العلة الجزئية أو تعاديه “ “ 2 “ .
وكل القياسات التي يقدمها مولانا لبيان هذه الفكرة عن فقدان الذات البشرية الذي يعبر عنه الصوفية عموما بلفظ الفناء ليس إلا تحول النفس الدنية إلى نفس عالية أو ما عبر عنه الهجويري ب “ إسقاط الصفات المذمومة وابدالها إلي صفات محمودة “ “ 3 “ ، ولا يمل مولانا من تصوير الجهاز الدقيق للحياة الكلية الإلهية ، وعلي كل امريء أن يسعي لكلى يصبح جزءا من هذا الجهاز الدقيق الحي ، وإلا صار في حكم الجزء المنقطع عن الجسد الإنسانى الحي والذي يتحول إلي ميتة : فإذا انقطع الجزء عن الكل صار بلا نفع ، وإذا انقطع العضو عن الجسد صار ميتة - وما لم يتصل بالكل مرة ثانية ، يكون ميتا لا خبر عنده عن الروح - وإذا تحرك فليس هذا في حد ذاته دليلا علي حياته ،
..............................................................
( 1 ) خليفة عبد الحكم : عرفان مولوى - الترجمة الفارسية لأحمد محمدي وأحمد مير علائى ص 153 والنص من الترجمة العربية لكشف المحجوب للهجويرى لكاتب هذه السطور وآخرين ص 192 القاهرة 1974 .
( 2 ) البيتان 3578 - 3579 من هذا الكتاب .
( 3 ) كشف المحجوب الترجمة العربية ص 291 .
 
“ 11 “
  
فإن العضو الذي بتر حديثا يختلج أيضا - وإذا قطع الجزء من هذا الكل يضيع تماما ، إذا لا يصبح بعدها كلا ذلك الذي انقطع - أن قطعة ووصله لا يتأتيان في مقال ، لقد قيل شيء ناقص على سبيل المثال “ 1 “ .
هذا الموضوع إذن - وهذه نقطة يدق عليها مولانا ويكرر القول فيها - لا يتأتي في مقال ، ولا يمكن التعبير عنه صراحه بل لابد من الأمثلة والقياسات ، فالإنسان لا ينمحى ولا يفنى تماما ، وحتى إذا انمحى في الذات الإلهية فإنه يشبه انمحاء نور الشمع في ضوء النهار “ قال قائل : ليس في الدنيا درويش ، وإن كان ثم درويش فليس بدرويش فهو “ باق “ من ناحية ببقاء ذاته ، لكنه أفني صفاته في صفات الحق - مثل شعلة الشمعة أمام الشمس ، تكون فانية لكنها موجودة في الحساب - تكون ذاتها موجودة بحيث إنك عندما تضع قطعة من القطن عليها تحترق من لهيبها ، وتكون فانية فهي لا تمنحك ضياء ، إذا تكون الشمس قد أفنتها في نورها “ “ 2 “ . أو كالظل والشمس “ وهكذا يكون الباحث عن العتبة الإلهية ، عندما يتجلى الإله يصير هو فانيا - وبالرغم من أن ذلك الاتصال بقاء خالص ، لكن ذلك البقاء متوقف في البداية على الفناء - والظلال التي تكون باحثة عن النور ، تنعدم عندما يظهر لها ذلك النور - فمتى يبقي العقل عندما يطل هو ،كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ- إنما يهلك أمام وجهه الوجود والعدم ، والوجود في العدم أمر طريف في حد ذاته - وفي هذا المحضر تاهت العقول ، وعندما وصل القلم إلي هنا انكسر “ “ 3 “ .
فناء الإنسان أمر يحتوي علي درجة من الوعي في الفاني في الله ، ويكاد مولانا هنا ينقل تعبيرا عن الهجويري “ فمن فني عن مراده بقي في مراد الله ،
..............................................................
( 1 ) الأبيات 1938 - 1942 من هذا الكتاب .
( 2 ) الأبيات 3671 - 3675 من هذا الكتاب .
( 3 ) الأبيات 4661 - 4666 من هذا الكتاب .
 
“ 12 “
 
لأن مرادك فان ومراد الله باق ، فإذا بمرادك كنت متصلا بالفناء ، ولكن إذا خضعت لمراد الله تعالى صرت متصلا بالبقاء ، وكان ذلك أشبه بالقوة التي تشعل كل ما يقع فيها من أشياء ، وحيث إن قوة مراد الله تعالى هي أكبر وأشد من النار ، فالنار تؤثر في الحديد ولا تغير مادته ، لأن الحديد لا يمكنه أن يكون نارا “ “ 1 “ وهذا هو عين ما عبر عنه مولانا فالحديد المذاب يكتسب خاصية النار دون أن يفقد تماما خاصية كونه حديدا ، “ فلون الحديد ينمحى في لون النار ، وكأن الحديد في صمته يباهي بناريته - فحين غدا في حمرته مثل ذهب المنجم ، فهو يباهي بدون لسان قائلا : أنا النار - لقد صار مهيبا بلون النار وطبيعتها ، فهو يهتف قائلا : أنا النار أنا النار - إنني أنا النار فإن كنت في شك من ذلك أو ريب ، فلتجرب ولتضع فوقي يدك - إنني أنا النار ، فإن كان لك في ذلك اشتباه ، فضع وجهك فوق وجهي لحظة واحدة - والإنسان حين يقتبس النور من الله ، يكون الجدير بسجود الملائكة ، لأن اللّه اجتباه - وكذلك يكون جديرا بسجود الإنسان ، الذي خلصت روحه من الشك والطغيان مثل الملائكة - وما النار ؟ وما الحديد ؟ ألا فلتغلق شفتيك ولا تهزأ بلحية تشبيه المشبه “ “ 2 “ إنه ليس فناء إذن بل مجرد تحول وتغير وفقدان لصفات واكتساب صفات أخرى .
والأمر كله معنوي ، فلا معني هنا للقرب والبعد ، والمعراج ليس دائما إلى أعلى ، والرسول صلّى اللّه عليه وسلم اعتبر غياب يونس عليه السلام في بطن الحوت معراجا ، ويسوق مولانا هذه الرواية “ قال الرسول عليه السلام : إنه ليس لمعراجي فضل علي معراج يونس بن متى - إن كان معراجي علي الفلك وكان معراجه تحت الأرض ، ذلك أن قرب الحق خارج عن الحسب - وليس القرب هو الذهاب إلي أعلى أو إلى أسفل ، إن قرب الحق هو الخلاص من حبس الوجود - فأي مكان
..............................................................
( 1 ) كشف المحجوب - الترجمة العربية ص 293
( 2 ) كفافي : الكتاب الثاني ص 143
 
“ 13 “
 
للعالي والسافل في عالم العدم ؟ وليس فيه عجلة أو بعد أو تأخير “ “ 1 “ والعالم الذي يسميه مولانا عالم العدم هو عالم الغيب وعالم الأمر ، وهو فيما وراء العالم المحسوس ، أي عالم الكون ، وهو حقيقة لا تنكر ، لكن لا يمكن التعبير عنه ، فإذا عبر عنه انقلب إلى عالم كثرة قابل لإدراك الحواس والمشاعر “ 2 “ .
ومن هنا فإن تصور مولانا للوجود ينبع من تصوره للنفس المتسامية وعقائده المثالية ، فالذي يدرك أن حياته الدنيا هي محض تجربة وامتحان ، وأنها مرحلة من مراحل الخلق ومراحل وجود الإنسان الخالد الذي لا يفني ، متي يخشي الموت ؟ إن هو إلا بوابة للرقي “ 3 “ والجسد مجرد ظل للروح وليست الروح ظلا للجسد “ لم يكن يدرى أنهم قد نجوا ، وجلسوا على كوة نور القلب - واعتبروا أجسادهم التي هي ظلالهم من أنفسهم ، أي من أرواحهم ، فهم مسرعون نشطاء متحملون مرحون - فلو أن هاون الفلك قد دقهم ومزقهم إلي مائة قطعة في موطن الطين هذا ، ما داموا قد رأوا أصل هذا التركيب ، فقد قل خوفهم من فروع الوهم ، وهذه الدنيا حلم فلا تتوقف على الحلم والظن ، فإن بترت يد في حلم فلا بأس “ “ 4 “ الخلاص إذن في ذلك القلب الذي يسكنه النور ، فإنه جوهر الوجود الإنسانى “ لقد ظننت أن قلبك هو هذا الملوث ، فلا جرم أنك فصلت عن أصحاب القلوب - وهل تجيز أنت نفسك أن يكون ذلك الذي يكون عاشقا للبن والعسل قلبا ؟ - إن لطف اللبن والعسل انعكاس للقلب ، وإن كان ثمة لذة فهي حاصلة من القلب - ومن ثم فإن القلب جوهر والعالم عرض فكيف يكون عرض القلب غرضا للقلب ؟ “ “ 5 “ .
..............................................................
( 1 ) الأبيات 4515 - 4518 من هذا الكتاب .
( 2 ) الأبيات 3092 - 3100 من هذا الكتاب .
( 3 ) شروح الأبيات 3529 - 3536 من هذا الكتاب .
( 4 ) الأبيات 1727 - 1731 من هذا الكتاب .
( 5 ) الأبيات 2265 - 2268 من هذا الكتاب .
 
“ 14 “
 
- 2 - وإذا كانت فكرة البقاء في الفناء ، هي الخيط الجامع لهذا الكتاب ، فإن موضوع العشق هو الخيط الجامع لكل كتب المثنوي الستة ، وهو العالم الرحب الذي يسرع فيه بيان مولانا جلال الدين ركضا ، وهو أيضا الذي يستطيع أن يمنح العقلانية والمنطقية لكل هذه البيانات الغربية عن أهل الشرع وأهل الكلام وأهل الفلسفة .
وقد لاحظ بعض الباحثين أن الجانب الوحيد الذي يمنع ذهاب سعى مولانا جلال الدين في تحليلاته للأمور سدى ، هو بياناته الحافلة بالوجد بشأن العشق وهو الذي يجعل وجه الاشتراك بين الفرضية والحياة والتجربة منعدما “ 1 “ فلو كان حديثه عن العشق يحتوي فحسب على أشواق غنائية أو جذبات عاطفية لكان الأمر ميسورا ، لكننا نلتقى من خلاله بقضايا عاطفية تهز في داخلنا أوتارا من الأعماق ، وتثير في نفوسنا أحوالا لا يمكن التعبير عنها بالكلمات ، وبينما يمنح هذا الجانب جلال الدين صفة العالمية والقرب من قارئه أيا كانت اللغة التي يقرأ بها أعماله ، إلا أنه إحدي النقاط التي تثير الجدل في المثنوي فبينما يحدثنا مولانا حديثا مفهوما يضمنه تجربته الأخلاقية والحياتية الواسعة الغنية ، ينتقل إلى الحديث عن العشق فيزج بنا داخل بحر متلاطم الأمواج يفصم عري التجاوب المشترك ، فمن بين مستويات جلال الدين في الحديث والتي المحث إليها في شروحى على هذا الكتاب يبقي مستوى العشق خاصا بالكمل الواصلين الذين أدركوا النذر اليسير من هذا العالم الشديد الغني ، فمولانا يعبر عن تجربته هذه بشكل باطني حافل بالوجد ينعكس على اللغة ، بحيث إن مولانا نفسه الذي يعترف بأن العشق هو الدافع والمحرك لكل إنتاجه الأدبي ويقول : “ أمر العشق كلامي فظهر ، ما جدوي المرأة إن لم تعكس الصور ؟ “ 2 “ لا يجد ما يعينه علي
..............................................................
( 1 ) عرفان مولوى ص 59 .
( 2 ) الكتاب الأول من المثنوى بيت 34 .
 
“ 15  
 
بيان حقيقة العشق إلا الموسيقي “ أنين الناي والرباب “ ، فالأسرار كلها مخفية في وتري الجهير والخفيض “ 1 “ ، وبرغم أن العشق هو القاسم المشترك الأعظم للمثنوي ، وهو الموضوع الغالب تماما على ديوانه الكبير الذي سماه باسم شيخه شمس الدين التبريزي ويحتوي على مائة ألف بيت أو يزيد ، يظل مولانا ينبه على أنه لم يقدم عن العشق الحديث الجدير به “ كل ما أتحدث به عن العشق من شرح وبيان ، أخجل منه عندما أصل إلى العشق نفسه - وحتى وإن كان بيان اللسان واضحا ، فإن العشق أكثر وضوحا بلا بيان . “ 2 “ ولكي نلقي بعض الضوء هنا عن بيان مولانا عن العشق نشير إلى ما يلي :
( أ ) العشق موجه إلى الجمال ، والجمال الإلهي هو أصل الجمال ، وكل جمال في هذا الكون المرئي ما هو إلا شعاع أو انعكاس للجمال الإلهي ، كأنه انعكاس الشمس على الجدار وعندما تولى الشمس وجهها عن الجدار انظر أي جمال يبقي فيه : “ كان ذلك شعاعا على جدارهم ، وعندما سطعت الشمس محت تلك العلامة - وكلما يقع الشعاع على شئ تقوم أنت بعشقه أيها الشجاع ، ويمض النور من الجدار نحو الشمس ، فامض أنت أيضاً نحو الشمس الجديرة بالمعنى “ 3 “ .
ومن هنا لا ينبغي أن ينصب العشق علي كل شيء ذي نور مؤقت ومستعار ، بل ينبغي أن ينتقل من المظهر إلى الجوهر والأصل ، أي إلي جوهر الجمال وأصله ، أو بتعبير مولانا معدن الجمال ومنجمه ، كما عبر في كليات ديوان شمس الدين التبريزي “ 4 “ .
..............................................................
( 1 ) الكتاب الأول بيت 12 .
( 2 ) الكتاب الأول البيتان 112 - 113 .
( 3 ) الأبيات 552 - 553 - 559 من هذا الكتاب .
( 4 ) كليات ديوان شمس الدين التبريزي غزل 441 بيت 6 ص 303 طهران أمير كبير بدون تاريخ .
 
“ 16 “ 
 
( ب ) العشق أحد مبادئ الاتحاد والفناء ، وهناك قوى جذابة في كل ذرة من ذرات الوجود ، وبها تنجذب العناصر إلى بعضها وتحدث أشكال الحياة وصورها ومن هنا تصبح الحياة كلها تجليا للعشق ، وأمور الكسب فيها قائمة على العشق ، فهو المحرك لكل مظاهر الحياة : “ إن لم يكن العشق متى كان الوجود ؟ ومتى رزقك بالخبز ومتى خلقت ؟ - ومن أي شيء صار لك الخبز ؟ من العشق والاشتهاء ، وإلا فمتي كان لك لتنجو بروحك ؟
إن مجرد عشق الخبز ليحي الميت ، ويجعل الحياة باقية فيه “ 1 “ . وإذا كان العالم الأرضي يحركه العشق لميت فان فكيف لا يحركه العشق للحى الذي لا يموت ؟ “ وما أكثر المنعمين الذين يحملون الشوك ، أملا في محبوب قمري الوجه وردي الوجنة - وما أكثر الحاملين الذين صاروا ممزقى الظهور ، من أجل محبوباتهم الفاتنات ذوات الوجوه كالأقمار - وذلك الحداد سود وجهه الجميل حتى يقبل القمر عندما يجن الليل - والسيد مسمر في حانوت حتى الليل ، ذلك أن سروة ممشوقة القوام قد مدت بجذورها في قلبه - وتاجر يمضي في البر والبحر ، لكي يسرع بحب نحو - قعيدة منزل - إن لكل واحد منهم شهوة مع ميت ، أملا فيمن عنده ملامح حي - فكن مجتهدا علي أمل الحي الذي لا يتحول بعد يومين إلى جماد “ 2 “ . لقد زاول الناس عشقهم مع من مصيره إلى الزوال ، في حين أنهم إن زاولوه مع الحي الذي لا يموت فإن ما يظنونه موتا سوف يكون حياة متجددة ، فالعشق بجذبه يقضي علي كل ما هو زيف في وجود البشر ويقدم لهم بدلا منه حياة جديدة ، “ وللعشاق في كل لحظة موت ، وموت العشاق في حد ذاته ليس من نوع واحد - إن له مائتي روح من الهدي ، يضحي بها كلها في لحظة واحدة - وكل روح يأخذها
..............................................................
( 1 ) المثنوى - الكتاب الخامس 2012 - 2014 .
( 2 ) الأبيات 540 - 547 من هذا الكتاب
 
“ 17 “
 
يردها بعشرة أرواح ، وأقرأ من القرآنعَشْرُ أَمْثالِها، فإن سفك دمي ذلك الحبيب الوجه ، فإنني أضحي بها أمامه راقصا ، لقد جربت الأمر ، وموتى في حياتي ، وعندما أنجو من هذه الحياة فهذا هو الثبات “ 1 “ .
( ج ) هذا العشق الإلهي لا يتأتي بالدروس أو التعليم أو النقل ، إنه عطية وهبة إلهية توهب للعبد ، نوع من الصلة الخاصة بين الخالق والمخلوق يقول مولانا : “ وعندما يتضرع أريج ذلك الحبيب ، تتحير كل اللغات - ولأقصر فلقد ورد ذكر الحبيب في الحديث فاستمع والله أعلم بالصواب وعندما يتوب العاشق فليحل بك الخوف أنذاك ، فهو كالعيارين يعطي الدروس وهو علي المشنقة - وبالرغم من أن هذا العاشق يمضي إلي بخاري ، فإنه يمضي لا إلى درس ولا إلى أستاذ - لقد صار حسن الحبيب هو المدرس للعشاق ، ودفترهم وواجبهم المدرسي هو وجهه - إنهم صامتون لكن صيحات وجدهم المتوالية تمضي حتى عرش محبوبهم - وفي بخاري تكون ناضجا رشيدا في العلم ، وعندما تتجه نحو الذلة تصير فارغا من هذه الأمور - ولم يكن لذلك البخاري اهتمام بالعلم ، كان يقصر بصره علي شمس الأبصار “ 2 “ . - “ وما شأن الدروس بألام العشق “ وفي تلك الناحية التي زاد فيها العشق الألم ، لم يدرس الشافعي وأبو حنيفة “ 3 “ “ وهذا المعني نفسه جعله حافظ الشيرازي مجال أحاديث طويلة فيما بعد ، ويجمع كل هذه المعاني في بيت واحد ويقول : ( امح الأوراق إن كنت رفيقا لنا في الدرس ، فإن علم العشق لا يوجد في كتاب ) “ “ 4 “ .
..............................................................
( 1 ) الأبيات 3836 - 3841 من هذا الكتاب .
( 2 ) الأبيات 3845 - 3850 - 3856 - 3857 من هذا الكتاب .
( 3 ) البيت 3838 من هذا الكتاب .
( 4 ) ديوان حافظ الشيرازي تحقيق مسعود فرزاد غزلية 228 بيت 5 ص 182 - كيهان 1346 هـ . ش . 
 
“ 18 “
 
( د ) وإذا كان العاشق يطلب المعشوق فإن المعشوق أيضا يطلب العاشق ، وهذه الجاذبية المتبادلة هي السر في بقاء الكون وبقاء الخليقة “ من القلب إلي القلب كوة علي وجه اليقين ، ليست منفصلة أو بعيدة مثلما يكون الجسدان - وقاعدتا مصباحين لا يلتقيان ، لكن نوريهما يمتزجان في مجاله - ولا يوجد عاشق قط يكون باحثا عن الوصل ، ولا يكون معشوقه باحثا عنه - وعندما لمع في هذا القلب برق حب الحبيب ، اعلم أن الحب موجود علي وجه اليقين في ذلك القلب - وعندما صار حب الحق في قلبك زائدا ، فعند الحق بلا شك الحب لك “ 1 “ .
ليس العشق إذن مقصورا علي الخالق والمخلوق بل إن الذي يجعل الكون كله علي درجة من الانسجام والتناسق هو العشق “ إن الظمأن يجأر بالشكوى قائلا : أين الماء العذب ؟ والماء يشكو أيضا قائلا : أين الشارب ؟
- إن هذا العطش في أرواحنا جذب للماء ، نحن له وهو أيضا لنا - وكلمة الحق في القضاء والقدر ، قد جعلت كلامنا عاشقا للآخر - وكل أجزاء الدنيا من ذلك الحكم السابق ، صات أزواجا كل عاشق لزوجه “ 2 “ . “ وكل جزء في العالم طالب لزوجه ، تماما كما يجذب الكهرمان قطع القش - وتقول السماء للأرض مرحبا ، إنني معك كما يكون حجر المغناطيس وبرادة الحديد - والسماء هي الرجل والأرض هي المرأة في نظر العقل ، وكل ما تلقيه السماء تربية الأرض - وعندما لا تبقي فيها حرارة ترسلها إليها ، وعندما لا تبقي فيها رطوبة أو ماء تعطيها إياهما - والبرج الترابي مدد لتراب الأرض ، والبرج المائي يبث فيها الرطوبة - والبرج الهوائي يحمل إليها السحاب ، حتى يجذب منها الأبخرة الوخمة - وحرارة الشمس
..............................................................
( 1 ) الأبيات 4394 - 4399 من هذا الكتاب
( 2 ) انظر الأبيات 4401 - 4419 وشروحها من هذا الكتاب .


“ 19 “
 
من البرج الناري ، وهو كالمقلاة الحمراء من النار ظهرا ووجها - والفلك دوار حول الأرض ، مثل الرجال حول الكدح من أجل النساء - وهذه الأرض تتكفل بالتدبير ، وتقوم بأمور الولادة والرضاع - فاعلم إذن أن الأرض والفلك من العقلاء ، فهما يقومان بأعمال العقلاء - وإن لم يكن هذان الحبيبان يستمع كل منهما بالآخر ، فلماذا إذن يتداخلان كالأزواج ؟
- وبدون الأرض متي ينمو الورد والأقحوان ، وماذا يتولد إذن من ماء السماء وحرارتها ؟ ومن أجل هذا يكون الميل في الأنثي إلي الذكر ، حتى يكمل كل منهما الآخر - لقد وضع الحق الميل في الرجل والمرأة ، حتى تجد الدنيا البقاء من هذا الاتحاد ، ويضع الميل أيضا في كل جزء إلى جزء ، ومن اتحادهما معا يوجد توليد “ “ 1 “ وهذا البقاء يعقبه فناء فيعود كل جزء إلي أصله في الفلك ، ومن ثم تعود الروح إلي أصلها ، فالعشق حركة صوب الكمال وأصل من أصول التوحيد .
( ه - ) هذا الإحسان الفياض الكوني هو جوهر الدين “ إن كسب الدين هو العشق وهو الجذب الباطني - انه القابلية لتلقى نور الحق أيها الحرون “ 2 “ والإنسان الذي يحس هذا الإحساس لا يمكن أن يسمي ملحدا ولا أهمية للشكل الذي يبدو به إيمان المرء بالنسبة للآخرين ، فيكون القلب قابلا لكل صورة ، والطرق إلي الله تكون بعدد أنفاس بني آدم ، ومذهب العشق منفصل عن كل المذاهب ، والحديث عن المذاهب في ظله محض هراء “ “ 3 “ .
وهذا التصور يقضى تماما على كل الشكوك والخلافات التي تنتج من عكوف المرء على الصور وحرصه علي المظاهر ، وتلاعبه بالألفاظ “ عشقه
..............................................................
( 1 ) انظر الأبيات 4401 - 4419 وشروحها من هذا الكتاب .
( 2 ) المثنوى - الكتاب الثاني - الأبيات 2601 - 2602 .
( 3 ) الأبيات 4722 - 4724 من هذا الكتاب . 
  
“ 20 “
 
نار محرقة للعقال ، ونور النهار يمحو كل خيال “ 1 “ : “ ومن ثم فهذا الاتجاه اللامتناهى عند الإنسان ينفر من كل متناه فلا يصح أن يكون جبل المعاني ويسرع في أثر الصدى “ 2 “ وماذا بشأن الشكوك والخلافات إذن ؟ فلتبحث عن الجواب عليها من حيث نبع السؤال “ ابحث أيها المرتضي عن الجواب من تلك الناحية التي جاءك منها السؤال “ “ 3 “ .
( و ) وهذه التجربة لا يمكن أن تستوعب في مقال ، فكيف يمكن التعبير عن العشق وهو غير أرضي بلغة أرضيه ؟ وكيف يمكن التعبير عن هذه التجربة الباطنية بلغة تراعي أصول العقل والمنطق ؟ كيف يمكن التعبير عن هذه التجربة أهل الظاهر ، وأهم من هذا كله كيف يمكن التعبير عنها بعد زوالها ؟
“ إن مطرب العشق يتغني بهذا وقت السماع ، العبودية قيد والسيادة صداع - إذن فماذا يكون العشق ؟ إنه بحر العدم ، لقد حطم العقل هنا القدم - صارت العبودية والسلطنة معلومتين ، وعن هذين الحجابين كتم العشق - وليت الوجود كان ذا لسان ، حتى يرفع الحجب عن الموجودات وكل ما تقوله يا نفس الوجود عنه ، اعلم إنك قد وضعت به عليه حجابا أخر إن أفة الإدراك هو ذلك المقال والحال - وغسل الدم بالدم محال محال “ 4 “ .
وتبلغ الحيرة مداها عندما لا يستطيع العاشق الحديث ولا يستطيع الصمت في الوقت نفسه “ عندما يتحدث اللسان عن سره ولطفه ، تتلو السماء :
يا جميل الستر - فكيف أسعي في إخفاء سره وهو يطل كالعلم قائلا :
..............................................................
( 1 ) البيت 1136 - من هذا الكتاب .
( 2 ) البيت 1139 - من هذا الكتاب .
( 3 ) البيت 1137 - من هذا الكتاب .
( 4 ) الأبيات 4725 - 4730 من هذا الكتاب .
  
“ 21 “
 
هأنذا - إنه يأخذ برغم أنفي بكلتا أذني قائلا : إيها الغبي كيف تخفية ؟ أخفة إذن “ “ 1 “ .
3 - بقي هنا أن نقدم بعض للملاحظات علي الحكاية في هذا الكتاب ، فلا شك أن المثنوي كتاب تعليمي وضع في الأصل لتربية المريدين ، ولا يمكن اعتبار سياق الحكايات مقطوعا عن السياق العام لهذا الكتاب ، فالحكاية سيقت في الأصل لتوضيح فكرة ما ، فهي مرتبطة بهذه الفكرة إلى حد كبير ، وتتداخل الحكايات بقدر ما تتداخل الأفكار ، وتنقطع الحكاية في الكتاب الواحد ، وقد لا يعود إليها مولانا إلا في كتاب تال .
وبمجرد أن ينتهي مولانا من مقدمة الكتاب عن نظرية الاكل والمأكول يدخل إلي حكاية قصة أكلي ولد الفيل وهي مناسبة للسياق تماما ، فطالما كان الأكل علي النسق الذي وضعه الله فلا بأس ، وإن خرج عن إطاره الطّبعي فالنتيجة معلومة ، وتعن لمولانا بعض الأفكار الجانبية فيضرب بعض الأمثال ، وعندما يتحدث عن التفيهق وعمارة اللفظ مع خراب المعني يتحدث عن بلال للّه وعن عجمته في الأذان برغم باطنه الغني ، وعندما يتحدث عن الحزم يسوق حكاية من أطول حكايات هذا الكتاب القروي والحضروي ، وتتجلي فنيات مولانا في هذه الحكاية وكيف ابتعد بها عن الأصل الذي نقله عنها ، ليقدم حكاية ذات مستويات عديدة من المعاني كأغلب حكاياته بحيث يجد فيها المريد المتعلم أيا كان مستواه ما يستطيع أن يتعلمه منها .
وللقصص الديني نصيب كبير في المثنوي ككل وفي هذا الكتاب على وجه الخصوص ، لكن لا ينبغي أن يتبادر إلي الذهن أن مولانا يعيد نظم ما ورد في المأثور الديني لمجرد النظم ، فالقصص الديني هنا “ نقد للحال “ وإياك أن تعتبره كالكفار مجرد أساطير ، فكل ما فيه موجود فيك ، ولأن مولانا شديد الاهتمام
..............................................................
( 1 ) الأبيات 4735 - 4738 من هذا الكتاب .
  
“ 22 “
 
بقضية الطغيان ، ويعتبره من أشد أفات النفس فإن قصة موسي وفرعون تجد منه اهتماما خاصا ، لكن موسي وفرعون موجودان في داخلك أيضا ، وإن كان لا يستطيع أن يتحدث إليك مباشرة حتى لا يأتيك النفور من هذا الكتاب ، وأغلب القصص الديني قد سيق بتفسيرات صوفية ، ولا غرو ، فالولي هو وريث النبي ، وعندما ينتهي مولانا من حكاية ما ، ينصرف إلي الحديث عن الدروس المستفادة منها ، وفي تعليقاته عليها يدخل في حكايات أخري ، ويتعامل مع شخوصه تعامله مع شخوص حية ، فيعتذر لها إن نسيها قليلا في تدفقه وانطلاقه في حكايات أخري ، بل ويبدي الشكوى أنه لا يستغرق في الحكايات علي حساب ما يريد أن يتحدث فيه بالفعل ويتدارك فيقول : إنها ليست حكايات ، لكنها تجسيد للحال ، ووصف لحضور صديق الغار ، أو بتعبير الفيلسوف السبزواري شهود لمولانا يجده في هذه الحكايات ، ويقصد بالطبع أن مولانا قد يستغرق في فكرة ما حتى يشهدها مجسدة في شخصيات يبعثها حية ، من القصص الديني ، أو من التاريخ وسير الصوفية ، أو من زواياهم ، وقد ينزل إلي الشارع والواقع المعاش فيقدم قصصا بادية البساطة لكنها تحتوي في ثناياها على أعمق المعاني .
ويحذر مولانا من التعلق بظاهر القصص “ 1 “ ، إنها مجرد صورة فاتخذها صورة وانصرف إلي المعني كما ينصرف المرء من التبن إلى القمح ، وقد تكون الحكاية ساخرة أو مسلية أو جنسية ، لكن ما إلي هذا قصد مولانا مما شرحته باستفاضة ، فاطلبه في شروح هذا الكتاب .
وبعد ، فقد قصدت بهذه المقدمة تقديم صورة كلية لهذا الكتاب ، قد يختلف معي كثيرون حولها بعد قراءتهم للكتاب ، فأتركهم إذن وما يذوقون وما يتقبلون ، وقد يغفر لي أخطائي جهدي الذي بذلت ، ولله سبحانه وتعالي الأمر من قبل ومن بعد ، ومنه جل وعلا التوفيق .
..............................................................
( 1 ) البيت 1281 - من هذا الكتاب .
 
.
* * *

مقدمة المترجم والمحقق على منتدى إتقوا الله ويعلمكم الله


واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: