الخميس، 27 أغسطس 2020

18 - الهوامش والشروح 1406 - 1879 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

18 - الهوامش والشروح 1406 - 1879 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

الهوامش والشروح 1406 - 1879 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا


مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

شرح قصة انشغال عاشق بقراءة كتب العشق ومطالعة رسائل العشق ،
في حضور معشوقه ، وعدم استحسان المعشوق لذلك ،
طلب الدليل عند حضور المدلول قبيح والاشتغال بالعلم
بعد الوصول إلى المعلوم مذموم
( 1407 ) الحكاية التي تبدأ بهذا البيت وردت باختلافات يسيرة في محاضرات الراغب الأصفهاني وأغانى أبى الفرج الأصفهاني ( ماخذ 99 / 100 ) ، والعاشق الذي يقرأ رسالة في حضور المعشوق أشبه بالواصل الذي يجد في طلب علوم الظاهر ( انظر البيت 1402 ) ، وهذا يدل على أنه حتى من بين رجال الحق
 
“ 477 “
 
من يوجد في سيره نوع من الآفة والعيب ، فالعاشق الذي خلا من ألام العشق هو الذي يتوسل بألفاظ تتحدث عن هذه الآلام . والعين الجافة هي العلاقة الظاهرية بالمعشوق والماء الزلال ، هو حقيقة العشق : وفي البيت 1415 ترد المعشوقة : حسبك . . إن ما بيننا هو بعد المشرقين ، كما يبتعد البلغار عن مدينة قتو ( في التركستان ) ، إن العاشق إنما يريد المعشوق كله ، ولا يريد حالة واحدة من حالاته وإلا كان عاشقا لهذه الحالة والحكاية شبيهة ( في أجزاء ) بحكاية أوردها سنائى في الحديقة ( الترجمة العربية . . . الأبيات 4736 - 4750 وشرحها ( عن الذي نهرته محبوبته لأنه رأى خالا في وجهها ولم يكن قد رآه من قبل مع أنها مولودة به ) ، والحال لا يبقى ، فهو مؤقت ، يقلبه مقلب الأحوال ، إن ذلك الجزء الذي تعشقه كان لك ، وجئت تطلبه ولم يعد لك ، إنك لست طالبا لي بأجمعى ، والآن وليس لدى هذا الخال فأنا كمنزل للمعشوق بلا معشوق وكخزانة لا مال فيها .
 
( 1419 - 1426 ) انتهت الحكاية ، ويحدثنا مولانا في المعرفة والتمجيد للمعشوق الفرد الصمد الذي لا تطرأ عليه الأحوال فهو المبدأ والمنتهى ، وإذا وصلت إليه فلن يكون بعد الوصل فصل ، وسوف تراه مهما تبدلت أحوالك ، فهو ليس في حالة وهو مسلط عليها والزمان عبد له ، ويستطيع حتى من الهواجس المادية في داخلنا أن يبعث روحا باحثة عن الله ، فهو المنتهى لأنه لو طرأت عليه الأحوال لما استطاع أن يكون المنتهى ، والمحدود هو الذي ينتظر حتى يوجد الله تعالى فيه حالا ، والمقيم على الحال هو الإنسان الذي تطرأ عليه أحوال مختلفة بإرادة الحق .
 
( 1427 - 1436 ) كما أن هناك إنسانا متوقفا على الحال ، فمن بين سالكى الحق من هو صوفي يلزم الوقت الذي يأتيه فيه الحال ومن ثم يقال عليه “ ابن الوقت “ العارف ابن الوقت أي أن ظاهره تبع لباطنه وباطنه تبع للحق ، لأن الله
 
“ 478 “
 
سبحانه وتعالى هو الذي يحرك باطنه أو يسكنه فيتحرك ظاهره ويسكن ، وهذا كما يكون الماء في لون الكأس ، فهناك وقت يجب فيه على العارف السكون ووقت يجب عليه فيه الاضطراب والحركة ووقت ينبغي فيه أن يشكو ، وحينا يصبر وحينا يشكو ، وحينا يختلط بالناس وحينا يعتزلهم “ شرح التعرف 4 / 142 “ لكن هناك من هو في مرتبة أعلى فلا حاجة به إلى الوقت ، أو إلى الحال وهو “ الصافي “ من صافاه الحب فهو صاف ومن صافاه الحبيب فهو صوفي والصفاء طبع والتصوف تكلف ، وليست صفة الصفاء مرتبطة بالأعمال والأحوال ، بل الصفاء سمة الأحباب وهم شموس بلا سحاب ، فالصفاء صفة المحبين ، والمحب هو الفاني في صفائه والباقي في صفات محبوبه ، ( كشف المحجوب ترجمة 41 - 44 ) والحكاية التي رواها السبزواري ( ص 208 ) مناسبة في هذا المجال : التقى صوفي مع صافي فسألة الصافي في أي مقام أنت ؟ قال :
في مقام التوكل وبعد فترة التقى به فسأله في أي مقام ؟ قال : في مقام الصبر ، ثم لقيه فسألة في أي مقام فقال : في الرضا فقال : كل عمرك مشغول بنفسك وإصلاح نفسك فمتى تشغل بالله والمقصود عدم رؤية العمل لا عدم العمل فالسير في الله والسير إلى الله والسير من الله كلها مطلوبة ، والصافي هو الواصل المسيطر على أحواله ، ومن أنفاسه التي تشبه أنفاس المسيح هناك أحوال مختلفة تتوالى عليه بعزمه ، الذي تتوقف عليه أحوال الصوفية وأوقاتهم ، وليس هو مثل ذلك المذكور في الحكاية السابقة ، إنه لا يمكن أن يكون معشوقا للخليل الذي قال : “ لا أحب الآفلين “ ، إن هؤلاء المتوقفين على الأحوال أشبه “ ببرج القمر “ ( صورة برج القمر في علم الهيئة ) دون نور القمر ، والصوفي ينتظر الوقت ليغتنمه ، لكن الصافي غريق في نور الجلال ، وهو ليس ابن الوقت أو ابن شئ اخر ، إنه غريق النور الذي لم يلد ولم يولد فهو أزلي أبدى ليس محدودا بمكان أو زمان .


“ 479 “


 
( 1437 - 1450 ) يدور الحديث حول العشق الذي يجعلك غريقا في نور ذي الجلال وينسيك “ أنيتك “ ولا يجعلك عبدا للأحوال المختلفة ، وشخصية كل امرئ يمكن معرفتها من مطلوبه وهمته ( الهمة هي التوجه الباطني للسالك ، وللمراد أو الشيخ قدرته ونفوذه الباطني ) ، وجاف الشفة هو ذلك الذي ترى فيه علامات الحاجة إلى السير إلى الله ، ويراها مولانا في كل حركات العبد في السير إلى الله ( انظر الأبيات 979 وما بعدها ) وفي مقابل السعي هناك الجذب ، السعي جالب للجذب لا محالة :
إذا كان الظمأى يبحثون عن الماء * فالماء يبحث عن الظمأى في العالم ( الكتاب الأول / بيت 171 ) وهذا الطلب هو الذي يقضى على كل مانع في الطريق ، والآلة في البيت 1446 مقصود بها الاستعداد الروحي من أجل سلوك الطريق وربما يقصد بها المرشد أيضا ، فلا حاجة في أمور الحق إلى الأسباب والعلل ، إن لم يكن لديك الة فابحث عن طلاب الحق والزمهم ومهما رأيت في نفسك من عدم جدارة أو استحقاق لو سلكت طريق الحق ، تستطيع أن تكون رفيق طريق رجال الحق ، فالنملة وجدت الطريق إلى حضرة سليمان عليه السلام والمعنى في ( سورة النمل / 18 - 19 ) .
 
( 1451 ) الحكاية التي تبدأ هنا من قصص القران ووردت في التفاسير المختلفة كما وردت في قصص الأنبياء للثعلبي ( ص 234 ) وفي تفسير أبى الفتوح الرازي ( ماخذ / 100 - 101 ) وواضح عند المقارنة بين الأصل وتناول مولانا جلال الدين أن مولانا لم يكن يأخذ من القصة إلا الجزء الخاص بالحادثة فيها ثم يضيف ويحذف بما ينفق مع هدفه في إرشاد السالكين والمريدين ، وتناول المعاني الصوفية العرفانية . . . والنبي داود عليه السلام هنا رمز للشيخ


“ 480 “
 
المراد ، والكسول الذي كان يريد رزقا بلا سعى رمز للمريد الذي أسلم نفسه لله دون ألة أو عدة أو استعداد ، اللهم إلا الإلحاح والضراعة في الدعاء وعن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنهما قال : إني أجدني أمقت الرجل يتعذر عليه المكاسب فيستلقى على قفاه ويقول : اللهم ارزقني ويدع أن ينتشر في الأرض ويلتمس من فضل الله والذرة تخرج من جحرها تلتمس رزقها . ( جعفري 7 / 179 ) ( 1475 ) المقصود أن نوره من نور الله لا من جهة الشرق أو من جهة الغرب ولذلك فهو في كل الجهات .
 
( 1485 ) حديث إن الله يحب الملحين في الدعاء ( الجامع الصغير 1 / 75 - البيهقي في شعب الإيمان ) .
 
( 1491 ) يترك مولانا استرساله في الحكاية ويجيب سائلا يستحثه في إتمام الحكاية وهل بيده أن يكمل الحكاية ؟ إن الحكاية ( العمل الفنى - العمل الأدبي ) كالجنين لا بد أن يأخذ دورته المحتومة لكي يولد . وهكذا كان مولانا يعتبر العمل الأدبي والفنى مخاضا وولادة معنوية قبل أن يشيع هذا التعبير بقرون ( انظر أيضا الكتاب الثاني - بيت 1 وشروحه ) هذا الجذب متأثر بإلهام الله سبحانه وتعالى مسير بقدرته ، ويتجه مولانا إلى الله تعالى طالبا منه العون . فهو قادر على أن يجعل لسانه يجرى بالنظم ، كقدرته على جعل الجماد مسبحا ( انظر تعليقات الأبيات 1013 - 1028 ) وليس بمستبعد أن ينكر الإنسان تسبيح الجماد ، وكل إنسان ينكر تسبيح الإنسان نفسه إذا لم يكن على مذهبه . مع أن التسبيح مهما اختلفت أشكاله وألفاظه موجه إلى ذات عليا واحدة هي الله سبحانه وتعالى . فالسنى والجبري مسبحان . لكن كلاهما ينكر تسبيح الآخر ، وكلاهما ينكر على الآخر أن يقوم ملبيا أمر الله تعالى لنبيه بأن “ قم “ ( سورة المدثر ) . وما هذا الخلاف إلا لكي يظهر الله سبحانه وتعالى حقيقة كل منهم ،
 
“ 481 “
 
فالله سبحانه وتعالى يضع القهر في صورة اللطف واللطف في صورة القهر امتحانا لعباده ، والناس يرون القهر قهرا واللطف لطفا ، اللهم إلا أولئك الذين وضع الله في قلوبهم محقا ربانيا ، أما أولئك الذين يسيرون على الظن فكأنهم طائر يطير نحو عشه بجناح واحد ماله الضلال والسقوط .
 
( 1511 - 1522 ) العلم المقصود هنا هو العلم الإلهى ، وفي مقابله يستخدم مولانا الظن والوهم وما إليها ، ومقصوده منها العلم الظاهري وأبحاث علماء الدرس الذين يسميهم أهل الحس أيضا ، وعلم أهل الحق متصل بالحق ومن ثم فهو قرين باليقين . وهو يقصد بهذه الأبيات أنه بعلوم هذه الدنيا أو علوم أهل الحس أو العلوم التقليدية والمدرسية غالبا ما يقع الإنسان في الظن والوهم ولا يصل إلى الحقيقة أو إلى الراحة التي تبعثها الحقيقة ( انظر المقلد والمحقق الأبيات 491 - 496 الكتاب الثاني ) وفي البيت 1515 يشير مولانا إلى الآية الكريمةأَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ( الملك / 22 ) .
 
وفي البيت التالي يقصد بالقال والقيل الجدل الموجود بين الفرق المختلفة . وفي الأبيات التالية يصف الإنسان الذي يصل إلى مرتبة التيقن : لا يغره الثناء ولا يؤيسه الذم ، إنه نسيج وحده ، لا يطير خلف كل ناعق ، ولا يهمه إن كان وحيدا في يقينه حتى وإن كان العالم كله على نقيضه ولا يؤمن بما يؤمن به . وهو أيضا لا يمرض بالوهم بطعن الطاعنين والبيت تمهيد للحكاية التالية .
 
( 1523 ) شخصية مريض الوهم من الشخصيات التي يقال إن الذي أدخلها إلى الأدب العالمي هو موليير في مسرحيته التي تحمل هذا الاسم ، لكن مريض الوهم الذي يقدمه مولانا جلال الدين أقدم من مريض موليير بقرون ، والقصة وردت مثلها في عيون الأخبار وألف ليلة وليلة وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( ماخذ / 101 ) وفيها يتجلى فن مولانا في نسج القصة وحبكها ، ومن ثم فمثل كثير من القصص التي وردت في المثنوى أصبحت بعده جزءا من التراث
  
“ 482 “
 
الشعبي كمثل من الأمثال الشعبية يعتمد على هذه الحكاية ، يضرب لمريض الوهم الذي يظهر من التفجع ما يفوق مرضه فيقال له “ اخوند بدنباشى أو ملا بيمار مكن “ أي لا بأس عليك يا شيخ “ أو “ لا تجعل الملا مريضا “ ( انظر داستانهاى أمثال 13 و 421 ) والمعلم هنا نموذج لفاقد اليقين الذي يقع في الوهم والظن من كلام هذا وذاك .
 
( 1538 - 1539 ) تتفاوت العقول كما تتفاوت الصور ، والشطرة الثانية من البيت 1539 فيها إشارة إلى كلام منسوب إلى الإمام علي عليه السلام : تكلموا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه “ ويروى في بعض المصادر كحديث نبوي شريف ( استعلامى 3 / 287 ) . كما ينقل جلبنارلى ( 3 / 243 ) بعض الأحاديث الآخرى منها “ الجمال في الرجل اللسان “ .
 
( 1540 - 1546 ) غالبا ما يناقش مولانا المعتزلة ، وهو أقرب في فكره الكلامي إلى الأشاعرة ( مثل سنائى والعطار ) وقد مرت مناقشته لتأويلهم لتسبيح الجماد ، وناقشهم في الكتاب الثاني في مسألة رؤية الله تعالى بالأبصار وهنا يناقض قول المعتزلة في تساوى العقول ، ثم تفاوتها بتأثير التعليم والإرشاد ، ويرى مولانا أن كل الفضائل تنبعث من تأثير الأنبياء والأولياء كتجل للعناية الإلهية ، ومن هنا يرى أن اختلاف العقول موجود في الأصل وفي الجبلة ، فذكاء طفل المكتب أكثر ذكاء من كل أقرانه ، ويكاد رأى مولانا جلال الدين يكون مشهودا ، فما من مدرسة أو فصل واحد إلا وفيه الجاهل والعالم والذكي والخامل ، ومن هنا ، يخلص أن الذكاء الفطري أكثر أهمية من الذكاء الحاصل عن التعليم ، وفي البيت التالي يصف أهل المدرسة بأعرج يحاول أن يعدو .
 
( 1556 - 1562 ) في خلال القصة يعرج مولانا على نموذج لمريض اخر بالوهم ، إنه فرعون الذي أدى الألوهية من تعظيم الخلق له ( وكم من فرعون
 
“ 483 “
 
ينفخ فيه من حوله ! ) ، فالعقل الجزئي ( عقل البشر ) لأنه محدود في معرفته الحياة المادية مأخوذ بالوهم والظن . فهو نابع من ظلمات النفس والحس ، وخوف الوهم ، والوهم يولد الخوف . وانظر إلى الصورة فالذي يمشى على جدار عال عرضة للسقوط مهما كان الجدار عريضا ، لأن الخوف من السقوط موجود ، بينما يكون السائر على الأرض - الواقف على أرض صلبة متماسكة - امنا لو كان عرض الطريق نصف ذراع و ( 1580 ) مأخوذ من حديث منسوب إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم : لا تمارضوا فتمرضوا ولا تحفروا قبوركم فتموتوا ( استعلامى 3 / 288 ) .
 
( 1606 - 1611 ) يترك مولانا القصة عندما يذكر الشيخ أنه كان منهمكا في القيل والقال وغافلا عن هذا الألم الموجود في داخله . وهكذا يرى مولانا أن الانشغال بالظاهر قد يجعل الإنسان يغيب عما يمكن أن يجرى له : فنسوة مصر قطعن أيديهن من النظر إلى يوسف عليه السلام ( يوسف 31 ) والمقاتل قد ينهمك في القتال دون أن يحس أن عضوا منه قد جرح .
 
( 1612 - 1615 ) يتحدث مولانا عن الجانب الباطني للوجود . وليس الجسم إلا رداء وغطاء للوجود الحقيقي ، ومن البله التعلق هكذا بالظاهر ( فما بالك بمن يتعلق بظاهر الظاهر أي بما يوضع على الجسم ) وأولى بالروح ذكر الله تعالى ، وفي البيت التالي يبرهن على فكرته بأنك ترى في النوم أنك تسعى بقدميك وتستخدم يديك ، في حين أن قدميك ، ويديك اللتين تعتبرهما حقيقتين - موجودتان في الفراش ، وإذا كنت هكذا وبدنك نائم تمتلك البدن فلماذا تعتبر إذن أن الموت هو موت البدن وتخشاه ؟
 
( 1616 - 1617 ) الحديث القدسي المروى في العنوان الذي يسبق هذين البيتين “ أنا جليس من ذكرني وأنيس من استأنس بي “ أصله موجود في الإتحافات السنية في الأحاديث القدسية : “ أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت
  
“ 484 “
 
شفتاه “ ويقول جعفري ( 7 / 336 ) أن مضمون العنوان راجع إلى خطبة لعلى رضي الله عنه في نهج البلاغة : اللهم إنك انس الآنسين لأوليائك وأحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك تشاهدهم في سرائرهم وتطلع عليهم في ضمائرهم وتعلم مبلغ بصائرهم ، فأسرارهم لك مكشوفة وقلوبهم إليك ملهوفة إن أوحشتهم الغربة انسهم ذكرك وإن صبت عليهم المصائب صبا لجأوا إلى الاستجارة بك علما بأن أزمة الأمور بيدك ومصادرها عن قضائك . كما أن البيت المذكور قبل البيت 1616 ليس في المثنوى وإنما هو من المنسوب للشاعر الصوفي الفارسي أبي سعيد بن أبي الخير . . . والمقصود بالحديث هنا الصوفي أبو الخير عباد بن عبد الله التيناتى الأقطع النيسابوري في بعض المصادر ، ويخلط صاحب المنهج بينه وبين صوفي اخر ورد في مقالات شمس الدين التبريزي ، ومن شيوخه هو أبو بكر سله باف التبريزي ، ( 134 ) وربما حدث هذا الخلط لأن مولانا نفسه نسج من حياة الشيخين حياة واحدة . وماذا في ذلك والأولياء كلهم كنفس واحدة وإن كان قد ذكر أيضا أن أبا الخير الأقطع كان يجدل السلال بيدين وأن الله كان يرد له يده المقطوعة عند قيامه بعمله كما سنرى .
وذكر العطار أنه نقل حكايته رواية عنه ( توفى أبو الخير بعد سنة 345 هـ
- بينما توفى العطار كما يقال في غزوة المغول سنة 616 هـ - ) ( ! ! )
على كل ينقل العطار عنه حكاية لا بأس بها فحواها أنه حدث ذات يوم أن ملكا كان يمر بجوار جبل وكان يعطى كل فقير دينارا وأخذ أبو الخير الدينار بظهر يده وألقى به ، وبعد ذلك قرأ القران ذات يوم دون أن يتوضأ ، في ذات يوم فقدت أموال في سوق المدينة واتهموا جماعة من الدراويش ومن بينهم أبو الخير ، وأقاموا الحد عليه وقطعوا يده وهو يقول : هذه اليد التي لمست أموال العسكر وحملت القران دون وضوء مستحقة للقطع . وكان يقول لامرأته وهي تنوح : ليتهم قطعوا هذا القلب ( تذكرة الأولياء للعطار أوفست عن ليدن 549 ) والحكاية عند مولانا جلال الدين
 
“ 485 “
 
أقرب إلى ما رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس ( ص 312 - ص 314 ) وواضح أن مولانا يركز في الحكاية على بعض الجزئيات التي تخدم الهدف من قصها .
وبعد البيتين 1616 - 1617 يترك مولانا الحكاية حتى البيت رقم 1636 ( 1618 - 1625 ) كل إنسان له ميله الخاص في الحياة ، ولقد خلق الله كل إنسان لعمل ، ويسره لهذا العمل “ اعملوا فكل ميسر لما خلق له “ ( 1622 ) :
ترجمت طائر “ الهما “ وهو طائر خرافي ورد في الأساطير الفارسية بطائر البُلَح ( بضم الباء وفتح اللام ) متابعة للزمخشري في أساس البلاغة ( ج 1 ص 61 ) والمقصود بالبيت أنك إذا كنت منبتا عن الأرض وكل ميلك نحو رجال الحق ونحو الأعمال الروحانية فإنك سوف تستطيع أن تصل إلى أعلى ما يحلق إليه طائر البُلَح ، وأن تتفوق على ملوك الأرض ، وفكر في المنتهى ، في حضرة الحق .
 
( 1626 ) الحكاية هنا فيما يرى استعلامى من الحكايات الشائعة في زمن مولانا ( 3 / 290 ) والواقع أنها من التراث الشعبي إذ يوجد مثيل لها في الأدب الشعبي المصري ويقصد أن الذكي يرى عواقب الأمور وهي لا تزال في بداياتها .
 
( 1636 - 1642 ) يواصل مولانا حكاية أبى الخير الأقطع ، ومن الواضح أن ما ورد هنا غير متطابق مع ما يروى عن قصة أبى الخير الأقطع ، وهو يتصل بعهد أخذه أبو الخير الأقطع على نفسه ، وهو عهد يبدو فيه أنه شق على نفسه ، و “ تنطع “ مع الله تعالى ، وهذا الجزء من الحكاية الخاص بالعهد ورد في شأن كثير من الصوفية الذين عاهدوا على أمور غير طبيعية ، ومن ثم فقد لحق بهم الامتحان الإلهى ، ذلك أنهم تركوا الاستثناء ، أي قولهم : “ إن شاء الله “ واعترفوا بالقوة والحول لأنفسهم دون استمداد من قوة الله تعالى ومن حوله ( انظر الأبيات 48 - 50 من الكتاب الأول ) فالله تعالى يحول القلوب كل لحظة ، وهو مقلبها ومحولهاكُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ( الرحمن / 29 ) .


“ 486 “
 
( 1643 - 1651 ) في هذه الأبيات إشارة إلى حديث نبوي “ إن هذا القلب كريشة بفلاة من الأرض يقلبها الريح ظهرا لبطن “ وحديث آخر هو “ لقلب ابن ادم أشبه انقلابا من القدر إذا اجتمعت غليا “ ( استعلامى 3 / 291 ) و “ شرح الأنقروى 3 / 266 - مولوى 3 / 231 “ والمقصود أن غليان القدر ليس منه بل من شئ اخر . إن رغائب القلب ليست نابعة منه لكنها نابعة من المشيئة الإلهية التي تجعل غزل الإنسان أنكاثا ، وقوة قضاء الحق هي التي تجعل كل نواياك بددا ، ولا سبيل إلا الاستثناء ، أي قول إن شاء الله .
 
( 1652 - 1672 ) ابن العظيم الحافي العاري الذي سقط في حب بغى فأفلسته وحطمته هو الإنسان ابن الخليفة الذي سقط في حب الدنيا فذرت كل تراثه الروحي ومكامن عظمته أدراج الرياح . إنه يطلب الدعاء من أهل الحق قائلا :
أدعو حتى يخلصني الله من هذا القيد . وتنظر إليه فلا تجد قيدا على قدميه أو على يديه . فأين إذن هذا القيد : انه قيد قضاء الحق الثقيل الذي يعجز كل حدادى العالم عن تحطيمه ، إنه قيد معنوي لا يتحطم إلا بهمة رجال الحق إذ لا يراه سواهم وهم أطباء القلوب . وزعيم أطباء القلوب هو محمد صلّى اللّه عليه وسلم إذ إنه هو وحده الذي رأى الحبل في جيد زوجة أبى لهبوَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ( 4 - 5 المسد ) فمتى كانت زوجة أبى لهب المنعمة المدللة تحمل الحطب ومن رأى سواه صلّى اللّه عليه وسلم الحبل على جيدها ؟ إنه هو الذي يستطيع أن يرى الأمراض المعنوية التي لا تنبىء منها هيئة المريض أو مظهره ، لم ير أحد الحبل فأولوا السورة - يقول يوسف ابن أحمد “ وأولوا سورة المسد بأنها تقصد جنون امرأة أبى لهب ، فلا يعقل وهي ابنة العز والحسب أن تحمل الحطب ، فأولوه بأنها تحمل حطب الأوزار وحطب النميمة التي تشعل نار الفتنة . . ولم يعلموا أن حملها للحطب حقيقة ومجاز ، وفي تفسير نجم الدين كبرى : في عنق كبرها حبل من ذلة فهو حبل معنوي ، وفسر نجم الدين ابن الداية ( امرأته حمالة
 
“ 487 “
  
الحطب ) أي الهوى المؤذى في أهل خاطر الهوى ( مولوى 3 / 233 - 234 ) وغضب الله عندما يحط على إنسان - والعياذ بالله - يكون دائم الشكوى وهو لا يعاني شيئا في الظاهر ، وغالبا ما يتعجب إنسان : مالفلان هذا دائم الشكوى وهو لا يعاني شيئا في الظاهر ، فلا هو يشكو مرضا في البدن أو نقصا في المال . . . لكنها القيود الربانية التي توضع حول النفس العاصية وتجعلها دائمة الشكوى . إن الذي يرى العلامات الباطنة هو رجل الحق ، والمصطفى صلّى اللّه عليه وسلم رأى الحبل ولم يره سواه . وهو الذي يعرف الشقي من السعيد لكنه لا يكشف سرا لذي الجلال .
 
( 1673 - 1701 ) يعود مولانا إلى قصة أبى الخير الأقطع : لقد مرت خمسة أيام وبلغ به الجوع مبلغه . وهذا أول امتحان من الله . فهذا الصوفي المنقطع جاع بعد خمسة أيام فقط في حين أن غيره من الصوفية كانوا يطوون ( يصومون صوما متواصلا ) أربعين يوما . فما باله لم يصبر سوى هذه الفترة ؟ لقد كان عهده جرأة ولم يكن يحسب فيه حساب المشيئة ، ولم يلبث الامتحان الثاني والعقاب الإلهى أن وصل إليه ، وهنا يختلف مولانا في رواية القصة عن منابعها ، فها هو في الجبل ويصل جماعة من اللصوص يقسمون المسروقات ، “ ويكبس “ عليهم الشرطة بعد بلاغ من أحد المخبرين ، “ ويقبض على أبى الخير وهو لا يتكلم ولا يدافع عن نفسه ، فهو يعلم الدرس جيدا ، وبعد أن تقطع يده ، يمد رجله لقطعها “ حد الحرابة “ فيصل فارس ( لعله من رجال الغيب ) وينقذ قدم الشيخ في اخر لحظة . ويقدم مولانا الدرس المستفاد على لسان الأقطع نفسه وهو يرد على اعتذار الوالي ( المقصود بالطبع رئيس الشرطة ) ويجعله في حل من يده : لقد نكث بالعهد ولم يحافظ على عهده أمام الله . . فأمرت محكمته بقطع يمينه . إنه شؤم الجرأة لقد رأى لنفسه حولا وطولا ولم يذكر حول الله وقوته ومن ثم فكل شئ فداء لحكم الحبيب . إن مولانا يقدم درسا في الأدب
 
“ 488 “
 
على لسان أبى الخير طالما قدمه الصوفية . قال الشبلي ذات مرة بين يدي الجنيد : لا حول ولا قوة إلا بالله . فقال له الجنيد : هذا ضيق صدر وضيق الصدر إنما يكون من عدم الرضا بالقضاء ، وقيل لرابعة : متى يكون العبد راضيا فقالت : إذا سرته المصيبة كما تسره النعمة ( مولوى 3 / 237 ) ويسوق مولانا تعليقه هو اخذا الأمثلة من الحياة التي تحيط به : هذا هو الطائر يحلق عاليا لكن طمعه في الحب يجعله يسقط في الشراك ، وطائر اخر مغرد يسقط في قفص الأسر من جراء طمعه ، والسمكة في أعماق الماء يأخذها الشص لحرصها وطمعها ، والسيدة العفيفة في حجابها قد تنهار وتبيع جسدها من جراء شهوة الفرج وشهوة الحلق . والقاضي العالم الحبر حسن السمعة قد يرتشى طمعا ويفتضح ، ولماذا نبتعد أليس هاروت وماروت قد حرما من ملكوت السماء من جراء الشهوة ؟ ( انظر شروح 471 و 797 ) .
 
( 1702 - 1704 ) الرواية الواردة عن أبي يزيد البسطامي هنا وردت في تذكرة الأولياء ص 184 ( 1707 - 7221 ) ذكر ياقوت الحموي عند حديثه عن بلدة تينات أن بها أبا الخير التينانى وهو يفعل بيد واحدة ما لا يمكن القيام به إلا بيدين ، لكن في كثير من مصادر الصوفية - ومن بينها هذه الأبيات - أن الله كان يرد إليه يده وقت العمل ، وبالطبع هذا أكثر مناسبة للمذاق الصوفي ، كان أبو الخير يخفى هذه الكرامة ، لكن الناس اطلعوا عليها ، فناجى ربه : يا إلهي إنك أنت الذي تعلن ويجيب الحق : إن هذا لكيلا يسئ الناس الظن بالحق . وحتى لا يردوا قانطين عن الأعتاب الإلهية . وإلا فبالنسبة لك تستوى الأمور ، فإن ضياع البدن لا يعنى عندك شيئا .
 
( 1723 - 1734 ) إن هذا هو السبب الذي لم يخف سحرة فرعون ( الذين امنوا بموسى ) من تهديد فرعون لهم بقطع أجسادهم ، كانوا قد تحرروا من
 
“ 489 “
  
الخوف وعرفوا القيمة الحقيقية للجسد ، إنه مجرد ظل وإن الوجود الحقيقي لله ، وإنه إذا انتفى الظل أصبح الطريق إلى الوجود الحقيقي مفتوحا ، فكان ما يعتبره فرعون موتا هو بالنسبة لهم حياة ، وما يعتبره هلاكا هو بالنسبة لهم وجود ونجاة ، إن اليد التي تبتر هنا إنما تبتر في حلم ما دامت الدنيا حلما ، ولا ضير إن بترت اليد في حلم فإنك إذا استيقظت سوف تجد يدك في مكانها ، بل إن الحلم ليدل على عكسه تماما ، فإن قطعت ( في سبيل الله بالطبع ) في هذه الدنيا . .
فتأويل ذلك أن عمرك خالد طويل ، وأنك في أتم صحة ( روحانية ) .
 
( 1735 - 1739 ) عن جابر قال : كنت مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم إذا أتاه رجل أبيض الوجه فقال : يا رسول الله ما الدنيا ؟ قال عليه السلام : حلم النائم . فقال : كم ما بين الدنيا والآخرة ؟ قال عليه السلام : غمضة عين . فقال : كم القرار فيها .
قال عليه السلام : قدر التخلف عن القافلة . ثم ذهب الرجل فقال عليه السلام :
هذا جبريل أتاكم يزهدكم في دنياكم ( مولوى 3 / 242 ) ويقول جلبنارلى ( 3 / 245 ) أن المعنى ناظر إلى قول منسوب إلى علي رضي الله عنه “ الدنيا حلم والآخرة يقظة ونحن بينهما أضغاث أحلام “ يقول مولانا : لقد قبلت هذا القول على سبيل التقليد لكن أهل الله يرونه على سبيل التحقيق ، وحتى حياتنا عند اليقظة هي حياة على سبيل النوم . وعندما تنام تقول ها أنا سأذهب لأنام وأنت غافل عن أنك في النوم الثاني : فالنوم الأول هو حياتك في غفلة أما النوم الثاني فهو النوم البدني ، إنك تدرك معنى النوم الثاني عندما تدرك النوم الأول ، ويكون مطلعا على كل أعمالك خلال هذا النوم .
 
( 1740 - 1747 ) الفخارى هنا كناية عن الحق سبحانه وتعالى ، وهو الذي يستطيع أن يجبر كل كسورنا ويستر عوراتنا ، والأعمى هو الذي لا يملك البصيرة ويخشى من مشكلات الدنيا ويجعلها كل همه ومبلغ علمه ، أما رجل الحق فهو العالم بالطريق والعالم بحفره . . ومن ثم فهو مستبشر بالله تعالى .
  
“ 490 “ 
 
ويعود مولانا إلى الحديث على لسان السحرة : والمراد بتمزيق الخرقة تمزيق الجسد والعرى من الجسد أفضل فهو انطلاقه الروح من سجنها ، فالروح تحتضن المحبوب في عريها ، ومن الأفضل أن تكون بلا لباس والتحرير من المزاج والطبيعة أي التحرير من الجسد ومن الانشغال بنشاطه الفسيولوجى وهذه هي الحرية الحقيقة .
 
( 1748 - 1764 ) المثال الوارد هنا ورد بنصه في مقالات شمس الدين التبريزي في ثلاثة مواضع : ص 44 ، وص 241 وص 327 . . فالبغل كناية عن أعمى البصيرة المذكور فيما سبق ، والجمل رمز لمن يستشرف الدنيا من عل وهو الشيخ كامل النظر . ثم يتحدث مولانا عن أصحاب الرؤية الاستشراقية من ذوى البصيرة ، وفي البيت 1757 يشير مولانا إلى الآية الكريمةقُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ( الأنعام / 50 ) ويعود إلى مثال الجنين : لقد علمه الله في مقامه هذا كيف يجذب غذاءه . ثم يظل مع الإنسان يعلمه جذب الأشياء فكيف لا يعلم الروح أيضا جذب الأشياء ، أليست الروح تتغذى كما يتغذى الجسد ؟ فكيف يهتم الله سبحانه وتعالى بالجسد وهو عارية ولا يهتم بالروح وهي الأصل ؟ ، بل إن الحق جامع لذرات هذا العالم . وهو الذي يرتق وجود الخليقة بهذه الذرات . ويستطيع ثانية أن يضمها إليه . ألست ترى هذا يحدث لك كل يوم عند النوم : أنت ترى أن كل إحساساتك تسلب منك عند النوم وعندما تستيقظ تستدعيها ثانية لتعود إليك . فكيف تشك أنها تضيع في النوم الأبدي ؟ أليس بقادر على أن يعيدها مرة ثانية ؟
 
( 1765 - 1773 ) لقد ضرب الله المثال على هذا بوضوح أكثر ودون لبس وراه غيرك بعين الحس ، فلماذا لا تراه أنت بعين الروح ؟أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ
 
“ 491 “
 
فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( البقرة / 259 ) والقصة وردت باسم عزيز في قصص الأنبياء وفي البيتين 1772 - 1773 : يخاطب الحق عزيزاً لقد بينت لك هذا حتى تفهم فلا تخشى الموت وتعلم أنه كالنوم ، فمتى نقص بدنك من النوم ؟ .
 
( 1774 - 1790 ) يواصل مولانا الأمثلة والحكايات حول هذه الفكرة :
والحكاية المذكورة لها أشباه كثيرة في سير الصوفية ، فقد وردت في “ حلية الأولياء “ و “ الرسالة القشيرية “ و “ تذكرة الأولياء “ ، وفي المصدر الأخير ذكرت في موضعين الموضع الأول حكاية عن الفضيل بن عياض ، وأنه لم ير مبتسما إلا يوم أن مات له ولد ، والموضع الثاني حكاية عن ابن عطاء ، وكيف أن قطاع الطرق قد وقعوا عليه ومعه أبناؤه العشرة ، فأخذ اللصوص في قتل أبنائه وهو ينظر إلى السماء ويبتسم ، فعيره الابن العاشر بعدم شفقته وقسوة قلبه .
فقال له : إن من يفعل هذا لا يمكن الاعتراض عليه فهو يعلم ويرى ويستطيع .
ولو يشاء لحفظهم جميعا ( ماخذ / 105 - 106 ) وواضح أن مولانا وفق بين الحكايتين في حكاية واحدة . وفي البيت 1776 العبارة المذكورة على أساس أنها حديث نبوي ذكرت في كثير من المراجع على أساس أنها من مأثورات الصوفية
 
( استعلامى 3 / 297 ) أما البيت 1785 فهو إشارة إلى الحديث النبوي “ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي “ ( ينظر شرح التعرف ج 2 ص 11 وما بعدها ) وفي رواية أخرى : أترونها للمطيعين ؟ لا بل هي لأصحاب الدماء والعظائم المتلوثين بالذنوب ، وقوله عليه السلام : وإني اختبأت شفاعتي لأمتي ، وتمام هذا الخبر أن الرسول قال : لكل نبي دعوة مستجابة واختبأت دعوتي لأمتي ، وعن عائشة الصديقة رضي الله عنها قلت لرسول الله صلّى اللّه عليه وسلم : أين أطلبك يا رسول الله ؟ ، قال : عند الحوض أسقى أمتي ، قلت : فإن لم أجدك ؟ قال : عند


“ 492 “
 
الميزان أثقل ميزان أمتي ، قلت : فإن لم أجدك ؟ قال : عند الصراط أقول رب سلم رب سلم ، قلت : فإن لم أجدك ؟ : قال : لا أخلو من هذه المواطن الثلاثة ما بقي من أمتي واحد . وشفاعة الرسول في كل موضع أما الشفاعة الكبرى فهي أن الناس عندما يخرجون من القبور يقفون أمامها ألف عام يتشفعون بالرسل فلا يرد عليهم أحد فيأتون محمدا عليه السلام وهو قدام العرش فيخر ساجدا فيقال : يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع - ( ص 115 ج 2 شرح التعرف ) . ويعلق صاحب مناقب العارفين : عندما يكون السيف المهند قاطعا في غمده فقس أنت عليه عندما يُسّل ( 1 / 356 ) وفي البيت 1789 : صلحاء أمتي لا يحتاجون لشفاعتى ، وإنما لهم شفاعة في المذنبين ( استعلامى 3 / 298 )
وفي البيت 1790 : الشطرة الأولى إشارة إلى الآية الكريمة :وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى *( الأنعام / 164 ) والشطرة الثانية إشارة إلى الآية الكريمة :وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ( الشرح / 2 ) .
 
( 1791 - 1800 ) من كل ما سبق من إشارات قرانية ونبوية يشير مولانا : إن الذي لا وزر عليه هو “ الشيخ “ وكأنه قوس انطلق من يد الحق : إنه ليس شيخا بمعنى أنه أشيب الشعر ، بل بمعنى أنه لم يبق فيه مثقال شعرة من التعلق بالدنيا والأمل بالباطل هو المؤمل في الدنيا . ولا علاقة للمشيخة بالعمر .
فعيسى عليه السلام كان شيخا في المهد . والذي فنى عن أوصافه هو الشيخ أما الذي بقي من وصفه مقدار شعرة فهو “ افاقى “ وقد فسر استعلامى افاقى بأنه “ دنيوي “ ( 3 / 298 ) بينما ورد اللفظ نفسه في شرح التعرف بأن الآفاقي هو الذي يكلف برؤية الآيات في الآفاق وهي مرتبة دون رؤية الآيات في الأنفس الأولى للعامة والثانية للصلحاء والصديقين ( شرح تعرف 2 - 115 وما بعدها من طبعة لكهنو الكاملة دون تاريخ ) .
 
( 1806 - 1815 ) يخرج مولانا من سياق القصة ليتحدث عن تأثير الأولياء
 
“ 493 “
  
في نظام الكون وفي نسقه . . فالأولياء رحمة للعالمين وهو وصف اختص به محمد صلّى اللّه عليه وسلم ( الأنبياء 107 ) إلا أن مولانا يرى أن الأولياء ملحقون أيضا بهذا الوصف ، أما الرحمة الجزئية المذكورة في البيت 1809 فالمقصود بها عشر الرحمة الذي وزع على الخلق فيه يتراحمون ، أما الرحمة الكلية فهي تسعة أعشار الرحمة التي بقيت لله تعالى ( إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها في الأرض رحمة منها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض ، وأخر تسعا وتسعين فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة ) وفي رواية أخرى أن الله تعالى خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة وأرسل في الخلق كلها رحمة واحدة ، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ولو يعلم المؤمن بالذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار ( جامع 1 / 70 ) والرحمة الجزئية هي السبيل إلى الرحمة الكلية . وإن وقف عليها الإنسان فهو يظن أن كل غدير بحر . وإذا كان هو نفسه أي صاحب الرحمة الكلية ( من الأولياء وغيرهم ) . ولا يدرى أين البحر فكيف يدل الناس على هذا البحر ؟ .
 
( 1819 - 1825 ) في جواب الشيخ على امرأته يشير مولانا إلى أن الشيخ يرى بنور الباطن ما لا نراه نحن ، ويقصد بالشطرة الثانية : أننا لسنا متساوين في الرؤية . إن من تظنهم قد غابوا تحت طيات الثرى يراهم هو حوله يلعبون ، لأن رؤيته فوق الزمان وفوق المكان . وبينما يراهم الآخرون في النوم يراهم هو في اليقظة ، لماذا ؟ ، لأنه يعطل الأحاسيس الدنيوية لحظة ويسقطها من شجرة الوجود . . . ومن ثم يكون حس العقبى وهو سلم لذلك العالم في قوته . . فيراهم ( انظر . حس الدنيا وحس العقبى - الكتاب الأول البيت 570 وما بعده ) .
 
( 1826 - 1836 ) ينتهى كلام الشيخ ليبدأ كلام مولانا . عن كيفية الخروج
 
“ 494 “
  
من سلطة الحس ، فكما أن الحس أسير للعقل ، ولا يحكم العقل إلا في منطقة الحواس ، وإطارها ، فهناك عقل أخر فوق هذا العقل ، وهو كالماء الصافي عليه على الحواس مشاهداتها فتحجبه عن المشاهدات السامية العليا ، ثم يأتي العقل الآخر ( الباحث عن الله ) فيزيح كل القذى ( المشاهدات الحسية ) عن هذا الماء وإلا فإن “ هوى النفس “ يأخذ كل من عالم الحس فيضعه على هذا الماء بحيث يصبح “ غورا “ ، ولا حل إلا أن تقيد يد الهوى بالتقوى ، ومن هنا تصبح الحواس المتسلطة الدنيوية مساعدة للعقل الباحث عن الله بدلا من أن تكون عقبة في طريقه ، ذلك أن غلبة العقل العارف تجعل هذه الحواس نائمة دون نوم ظاهر ، ويعدها يسطع نور معرفة الغيب في الروح ( استعلامى 3 / 300 ) .
 
( 1837 - 1856 ) وردت هذه القصة في الرسالة القشيرية عن زاهد ضرير يقال له أبو معاوية ( ماخذ 106 ) وفي خلال هذه الحكاية يورد حكاية أخرى في المجال نفسه عن لقمان وداود وردت في “ العقد الفريد “ لابن عبد ربه و “ قصص الأنبياء “ للثعالبي و “ إحياء علوم الدين “ للغزالي وتفسير أبى الفتوح الرازي ( ماخذ / 106 - 107 ) وإن كان يغلب أنه أخذها من مصدر قريب منه وهو مجمل التواريخ والقصص والمقصود بالبيت 1850 أنك أن تسرعت وسألت ولم تظفر بالإجابة الشافية فكأنك أضعت وقتا كان أولى أن تقضيه في الصبر ، ولذا فهو أسرع في التوصيل إلى المقصود وفي البيت 1854 عبارة شبيهة بعبارة وردت في مجمل التواريخ والقصص “ الصمت حكم وقليل فاعله ( ماخذ / 107 ) والصبر قرين للحق سبحانه وتعالى مصداقا لقوله وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ( العصر ) 
 
“ 495 “ 
 
( 1874 - 1879 ) يخلص مولانا من قصة الضرير والمصحف إلى نتيجة هي أن الولي لا اعتراض عنده ، لأنه على ثقة بالله تعالى ، وفي يقين من أمره وحكمه وأنه إن سلبه شيئا فسوف يعوضه أفضل منه ، وحتى إن قضى على الحياة نفسها وسلبها فإن العوض هو وصاله وهو الحياة الحقيقية ، وفي البيت 1876 إشارة إلى حكاية أبى الخير الأقطع ( انظر الأبيات 1707 وما بعدها ) ويقصد في البيت 1878 بتعبير “ بلا نار “ أي بترك الأسباب الدنيوية و “ تجذبنا ناره “ أي تقضى مصاعب طريق الحق على وجودنا المادي ( استعلامى 3 / 301 ) .

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: