الخميس، 27 أغسطس 2020

08 - حكاية ذلك الذي كان طالبا للرزق الحلال بلا كسب وتعب في عهد داود .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

08 - حكاية ذلك الذي كان طالبا للرزق الحلال بلا كسب وتعب في عهد داود .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

حكاية ذلك الذي كان طالبا للرزق الحلال بلا كسب وتعب في عهد داود .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

“ 206 “
عودة إلى شرح حكاية ذلك الذي كان طالبا للرزق الحلال بلا كسب
وتعب في عهد داود عليه السلام والاستجابة إلى دعائه
 
- يذكرني ذلك بتلك الحكاية ، أن هذا الفقير كان يجأر بالصياح والضراعة ليل نهار .
- وكان يطلب من الله الرزق الحلال ، بلا صيد أو تعب أو كسب وانتقال .
 
2310 - لقد ذكرنا من قبل بعض أحواله ، لكن حدث بعض التأخير وتضاعف وامتد “ 1 “ .
- ونحن نقول له : إلي أين كان سيمضي ؟ عندما انصبت الحكمة عن سحاب فضل الحق ؟
- لقد راه صاحب الثور وقال له : توقف ، يا من صار ثوري بظلمك رهينا لديه .
- وانتبه وقل لي لماذا ذبحت ثوري ، أيها الأبله السارق ؟ أنصف وأصدق في الجواب .
- فأجاب : كنت كل يوم أطلب الرزق من الله ، وكنت أزين القبلة بضراعتي “ 2 “ .
 
2315 - فاستجيب لي دعائي القديم ، كان رزقا لي ، وذبحته ، هذا هو الجواب .
- فاتجه إليه غاضبا وأخذ بخناقه ، ولطمه عدة لطمات شديدة علي وجهه بلا توقف أو إمهال .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : صارت خمسة مضاعفة .
( 2 ) ج / 8 - 46 : ( محمد تقي جعفري تفسير ونقد وتحليل مثنوي جلال الدين محمد بلخي 
- قسمت سوم از دفتر سوم - ط 11 تهران 1366 . فيما بعد ج / 8 ) : 
- لقد بعد كان عملي لسنوات هو الدعاء ، حتى أرسل إلي الله تعالى النور وعندما رأيت الثور نهضت ، كان رزقي وأرادت ذبحه .
 
“ 207 “
 
ذهاب الخصمين إلى داود عليه السلام
- وأخذ يجره إلي داود النبي ، قائلا له : هيا أيها الظالم الأبله الغبي ! !
- واترك هذه الحجة السخيفة أيها المحتال ، وأعد عقلك إلي جسدك وعد إلي وعيك .
- ما هذا الذي تقول ؟ أي دعاء يكون ؟ لا تسخر من رأسي ولحيتي ومن نفسك أيها الفاسد .
 
2320 - فقال : لقد توجهت إلي الله بدعاء عريض ، وكدحت كثيرا في هذا الدعاء .
- وأنا موقن بأن الله استجاب لدعائي ، فاضرب رأسك بعرض الحائط يا فاحش القول .
- فقال : تجمعوا هنا يا مسلمين ، وانظروا إلي هزل هذا الحقير وهذيانه “ 1 “
- و “ خبروني “ أيها المسلمون كيف يجعل الدعاء ما لي له بحق الله ! !
- ولو كان الأمر هكذا لكان كل الناس بهذا قد اغتصبوا حقدا أملاك الآخرين بدعاء واحد ! !
 
2325 - ولو كان الأمر هكذا لصار الشحاذون والعميان من الأغنياء والأمراء .
- فهم ليل نهار في دعاء وثناء ملحين قائلين : أرزقنا وأعطنا يا الله .
- فما دمت لا تعطي فلا أحد يعطي يقينا ، افتح علينا يا فتاح مشكل هذا الأمر .
- وتجارة العميان هي الضراعة والدعاء ، فلا يجدون من العطاء إلا لقمة تملأ الفم .
- وقال الناس : لقد صدق هذا المسلم ، أما هذا المتاجر بالدعاء فهو ظالم .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 49 : أيها المحتال ، إلام هذا الهذيان ؟ ، قل حجة قاطعة . . فماذا يكون الدعاء ؟ !


“ 208 “
 
2330 - فمتي يكون الدعاء من أسباب الملك ، ومتي سلكت الشريعة هذا القول في مسلكها ؟
- فالبيع أو الهبة أو الوصية أو العطاء ، أو ما هو من جنس ذلك يجعل الشيء لك .
- ففي أي دفتر هذه الشريعة الجديدة ، رد الثور إلي صاحبه أو فامض إلي السجن .
- فكان يوجه وجهه نحو السماء ، قائلا : لا يعرف ما بيننا سواك .
- لقد ألقيت أنت هذا الدعاء - في قلبي ، وأشعلت - كثيرا من الآمال بين جوانحي .
 
2335 - ولم أكن أنا أوجه هذا الدعاء جزافا ، إنني مثل يوسف كنت قد رأيت الأحلام .
- لقد رأي يوسف الشمس والكواكب ساجدة أمامه كأنها الأتباع .
- كان اعتماده علي الرؤيا الصادقة ، ولم يكن في الجب والسجن يبحث إلا عنها .
- ومن ثقته في هذا الأمر لم يطرأ عليه أي حزن أو اهتمام من العبودية أو من العطاء والمنع والملام .
- كان واثقا في رؤياه التي كانت تضيء له الطريق كأنها شمعة أمامه .
 
2340 - وعندما ألقوا بيوسف في البئر ، هتف به هاتف من الإله .
- قائلا : إنك في يوم من الأيام سوف تصير ملكا أيها البطل . حتى تنتقم منهم لهذه القسوة التي عاملوك بها .
- والهاتف بهذا النداء لا يبدو للنظر ، لكن القلب عرف القائل من اثاره .
- ووقر في قلبه من هذا النداء ، قوة وراحة وثقة .
- فصار البئر عليه بهذا النداء الجليل ، روضة ومحفلا كما صارت النار علي الخليل .
 
“ 209 “
 
2345 - وكان كل جفاء يحل به بعد ذلك ، يجذبه إليه بقوة وفرح وعلي هذا النسق .
- فإن لذة نداء “ الست “ في قلب كل مؤمن حتى يوم الحشر .
- وذلك حتى لا يبقي لديهم علي البلاء اعتراض ، ولا يكون عندهم من أمر الحق ونهية انقباض .
- فإنه يجعل لقمة الحكم التي تصيب بالمرارة ، سائغة كمنقوع السكر بالورد .
- وعندما لا يكون عند أحد ثقة في منقوع السكر بالورد ، فإنه يقييء هذا الشراب منكرا له .
 
2350 - وكل من رأي رؤيا يوم “ ألست “ يصير ثملا في طريق الطاعات .
- ويتحمل كالجمل المنتشي هذا الجوال ، بلا فتور وبلا شك وبلا ملال .
- فإن زبد تصديقه حول فمه ، صار دليلا علي سكره وحرقته .
- فصار البعير من قوته كأنه الأسد الهصور ، قليل الطعام يحمل الأحمال الثقال .
- والذي من شوقه إلي الناقة يحس بشدة الفاقة ، يبدو الجبل أمامه كأنه الشعرة .
 
2355 - أما الذي لم ير هذه الرؤيا “ ألست “ فإنه لم يصبح في هذه الدنيا عبدا ومريدا .
- ولو أصبح ، يكون في شكه ذا مائة قلب ، يكون شكره لحظة وشكواة سنة .
- إنه يخطو خطوة إلي الأمام وخطوة إلي الخلف في طريق الدين ، مع كثير من التردد ويلا يقين .
- إنني مدين بشرح هذا أو هأنذا أقوم به ، وإن كنت في عجلة فاستمع إلي “ ألم نشرح “ .
 
“ 210 “
 
- وما دام شرح هذا المعني بلا نهاية ، فسق مركب “ 1 “ القول نحو مدعي الثور .
 
2360 - قال : لقد دعاني أعمي من هذا الجرم ذلك المحتال ، لقد قاس كإبليس يا الله .
- فمتي كنت أوجه الدعاء كالعميان ، ومتي تكديت إلا من الخالق ؟
- إن الأعمي يطمع في الخلق من جهله ، وأنا أطمع فيك فكل صعب منك سهل .
- إن هذا الرجل قد اعتبرني أعمي من العميان ، إنه لم ير ضراعة روحي وإخلاصها .
- إن عماي هذا هو عمي العشق ، والحب يعمي ويصم يا حسن .
 
2365 - إنني أعمي عمن هو غير الله مبصر به ، وهذا هو ما يقتضيه العشق .
- وأنت أيها البصير لا تعتبرني من العميان إنني دائر حول لطفك أيها المدار .
- وكما أبديت الرؤيا ليوسف الصديق وجعلتها له سندا .
- فإن لطفك أيضا قد أبدي لي رؤيا ، ودعائي الذي حد له هذا لم يكن لهوا
- والخلق جميعا لا يعرفون أسراري . ومن ثم يعتبرون أقوالي من قبيل الهذيان .
 
2370 - والحق معهم فمن الذي يعلم سر الغيب إلا علام السر وستار العيب .
- فقال له الخصم : “ التفت إلي وقل الصدق ، فأي اتجاه لك نحو السماء يا عماه ؟ “ 
- إنك تقوم بالألا عيب وتغالط ، وتتشدق بحديث العشق وكلمات القرب .
- فبأي وجه ما دمت ميت القلب قد اتجهت إلي السماء ؟
- فوقعت ضجة في المدينة من هذا الأمر وذلك المسلم يطأطىء بوجهه إلي الأرض .
 
2375 - قائلا : يا الله لا تفضح عبدك هذا ، وإذا كنت شريرا لا تكشف سري .
..............................................................
( 1 ) حرفيا سق الحمار .
 
“ 211 “
 
- إنك تعلم ، والليالي الطويلة التي كنت أتجه فيها إليك بالدعاء شديد التضرع .
- وإذا لم يكن لهذا قيمة عند الخلق ، فهو عندك كأنه المصباح المنير “ 1 “ .
 
استماع داود عليه السلام كلام كل من الخصمين
وسؤاله المدعى عليه
- وعندما خرج إليهم النبي داود قال : هيه : . . ما هذه الأحوال ، وماذا يجري ؟
- فقال المدعي : الغياث يا نبي الله ، لقد وقع ثوري علي منزله فقتله .
 
2380 - فسله : لماذا ؟ لماذا ذبح ثوري ؟ ولَيفسَّر ما حدث .
- فقال له داود : قل يا أبا الكرم : كيف أتلفت أملاك هذا المحترم ؟
- هيا ولا تتحدث كحاطب ليل وبين حجتك ، حتى يفصل في هذه الدعوى وينتهي الأمر .
- قال : يا داود لي سبع سنوات وأنا مشغول بالدعاء والسؤال ليل نهار .
- وهكذا كنت أطلب من الله داعيا : يا الله أريد رزقا حلالا بلا كسب .
 
2385 - والرجال والنساء يعرفون تضرعي ، حتى الأطفال يمكنهم أن يصفوه لك .
- فسل أي إنسان تريد عن هذا الخبر ، ينبئك به بلا قسر ولا ضرر .
- اسأل الخلق في السر واسألهم في العلن ، عما كان يقوله هذا الفقير المهلهل الثياب .
- وبعد كل هذا الدعاء وكل هذه الضراعة ، رأيت ثورا في منزلي فجأة .
- وغشي بصري ، ليس من أجل قطع اللحم ، كان فرحى لأن الله استجاب لقنوتي .
 
2390 - فذبحته من فوري وتصدقت بلحمه شكرا علي أن عالم الغيب قد استمع لدعائي .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 51 : إنهم يريدون الثور مني يا الله ، وأنت الذي أرسلته وأنا لم أخطىء
 
“ 212 “
 
حكم داود على قاتل الثور
- قال داود : دعك من هذا الكلام ، وقدم لنا حجة شرعية في هذه الدعوى .
- فهل تجيز أنت أن أسن سنة باطلة في المدينة دون حجة ؟
- هل وهبك إياه ؟ هل اشتريته ؟ هل ورثته ؟ كيف تأخذ الريع ؟ هل أنت شريكه في حرثه ؟
- فاعلم أن الكسب كالزراعة يا عماه ، ما لم تزرع لا تحصد .
 
2395 - وما تزرعه تحصده ويكون لك ، وإلا فقد ثبت عليك هذا الظلم .
- فامض وأد إلي المسلم ماله ولا تتشدق بالكلام وامض واقترض وأد ماله عليك ، ولا تطلب الباطل .
- قال أيها الملك إن ما تقوله لي ، هو نفس ما يقوله الظلمة ! !
 
تضرع ذلك الشخص في حكم داود عليه السلام
- وسجد وقال : يا عالما بالحرقة ، ألق في قلب داود ذلك النور ! !
- ضع في قلبه ما قد ألقيت في قلبي سرا يا متفضلا علي .
 
2400 - قال هذا وانفجر في بكاء مرير ، حتى انخلع قلب داود من موضعه .
- وقال : انصرف اليوم يا طالب الثور ، أمهلني ولا تثر هذه الدعوى .
- حتى أمضي نحو الخلوة وأصلي ، وأسأل عالم الأسرار عن تلك الأحوال .
- فإن من عادتي أن “ يأتيني “ هذا العطاء في الصلاة ، وهذا هو معني “ قرة عيني في الصلاة “ .
- تكون كوة روحي مفتوحة من الصفاء ، فتصل الرسائل من الله تعالى بلا واسطة .
 
2405 - تنزل الرسالة والمطر والنور من كوتي إلي منزلي من لدن أصلي ومعدني .
 
“ 213 “
 
- إن تلك الدار التي تفتقر إلي كوة تكون جحيما ، وأصل الدين أيها العبد هو فتح هذه الكوة .
- فقلل الدق ببلطتك فوق كل أجمة ، ودق ببلطتك في فتح هذه الكوة ، هيا .
- أو أنك لا تدري أن ضوء الشمس هو انعكاس الشمس الخارجة عن الحجاب .
- فإذا كنت تعتبر أن هذا النور هو الذي راه الحيوان ، إذن فما قيمة “ كرمنا “ بالنسبة لآدم ؟
 
2410 - وأنا - كالشمس - غارق في أعماق النور ، ولا أستطيع أن أفصل - ما بين نفسي وبين النور .
- لكن ذهابي إلي الصلاة وتلك الخلوة ، ليس إلا من أجل تعليم الخلق الطريق .
- إنني أمضي في طريق متعرج لكي تستوي هذه الدنيا ، وهذا هو معني “ الحرب خدعة “ أيها البطل .
- وليس هناك إذن إلا لكان الغبار قد ارتفع من بحر السر .
- وهكذا ظل داود يتحدث علي هذا النسق ، حتى أوشكت عقول الخلق علي الاحتراق .
 
2415 - فأخذ أحدهم بخناقة من خلفه ، قائلا له : اصمت لا شك عندنا في وحدانيته .
- فعاد إلي وعيه وكف عن الحديث ، وزم شفتيه وعزم علي الخلوة .
 
ذهاب داود إلى الخلوة حتى يظهر الحق
- أغلق بابه ، وانصرف حينذاك سريعا ، نحو المحراب والدعاء المستجاب .
- فأبدي له الحق ما أبداه له علي وجه التمام ، وصار واقفا علي جزاء الانتقام . “ 1 “
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 66 : رأي أحوالا لم يقف أحد عليها ، وسرا خفيا يزيد الحيرة .
 
“ 214 “
 
- وفي اليوم التالي أتي المتخاصمان ، ووقفا علي السوية أمام داود النبي .
 
2420 - ثم جري ما جري علي النحو السابق ، وأخذ ذلك المدعي يلقى بالتشنيع القبيح . “ 1 “


حكم داود على صاحب الثور قائلا له : اترك حقك في هذا الثور ،
وتشنيع صاحب الثور على داود عليه السلام
 
- قال له داود : اصمت ودعك من هذا ، واجعل هذا المسلم في حل من ثورك .
- وما دام الله قد ستر عليك أيها الشاب ، فاذهب واصمت وأد لهذا الستر حقه ! !
- فقال : واويلاه ! ! أي حكم هذا وأي عدل ! ! هل ستضع من أجلي شريعة جديدة ؟
- لقد ذاعت شهرة عدلك بحيث عطرت منه السماء والأرض .
 
2425 - لكن هذا الظلم لم يجر حتى على الكلاب العمياء ، لقد انشق الحجر والجبل من هذا التعدي وتمزقا إربا .
- وهكذا أخذ يشنع علي الملأ صائحا : اجتمعوا ! ! اجتمعوا ! ! هذا أوان الظلم. “2”
 
حكم داود على صاحب الثور أن : أعطه كل مالك
- ثم قال له داود : أيها العنود ، هبه كل مالك سريعا .
- وإلا شق عليك الأمر قلت لك ، وحتى لا يفتضح من جراء هذا ظلمك .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 96 : أعطني ثوري سريعا أيها المحتال ، واخجل من إلهك ومثل هذا الظلم الواضح الذي لا يليق ، يحري في عهد النبي . . 
هيا ، لقد أكلت الثور المذبوح بلا خوف ولا وجل وتزيد في الجواب أيها اللئيم ، قائلا لقد دعوت لسنوات 
- وطلبت من الحق فأعطاني إياه - فهل يجوز هذا يا رسول الحق - أن يكون الثور ثوري ويعطيه له الله ؟ !
( 2 ) ج / 8 - 68 : فلا توجه إلي هذا الظلم والخطأ ولا تتحدث يا نبي الله عن هذا الفسق .
 
“ 215 “ 
 
- فحثا التراب علي رأسه ومزق ثوبه قائلا : أإنك لتزيدن في الظلم كل لحظة ؟
 
2430 - ثم انطلق مرة أخري في هذا التشنيع ، فاستدعاه دواد إليه .
- وقال : لما لم يكن لك - حظ أيها التعس ، فإن ظلمك قد افتضح قليلا قليلا .
- لقد نجست “ بالظلم “ وآنذاك تطلب الصدر والحضرة ، وا أسفاه عليك من حمار “ تأكل “ التبن والقش .
- اذهب فإن أبناءك وزوجتك ، قد صاروا عبيدا له فلا تزد في القول !!
- فأخذ يدق صدره بحجر بكلتا يده ، وأخذ يقفز من جهله وغضبه إلي أعلي ثم ينزل .
 
2435 - وبدأ الخلق أيضا في اللوم ، إذ كانوا غافلين عن فعله .
- فمتي يعرف الظالم من المظلوم ذلك الذي يكون في مهب هواه ، كأنه القذي ؟
- إن من يعرف الظالم من المظلوم هو ذلك الشخص الذي يقطع رأس “ نفسه “ الظلوم .
- وإلا فإن ذلك الظلوم الذي هو النفس تكون من باطنها خصما للمظلومين ، وهذا من جنونها .
- والكلب العقور هو الذي يحمل علي المسكين ، وبقدر ما يستطيع يعقر ذلك المسكين .
 
2440 - فاعلم أن الحياء من “ صفات “ الأسود لا الكلاب ، فهي لا تسلب الصيد من جيرانها .
- والعوام قتلة للمظلوم عبدة للظلمة ، خرجت “ كلاب “ غضبهم من مكامنها قافزة علي داود .

“ 216 “
 
- فاتجهوا إلي داود قائلين : أيها النبي المجتبي الشفيق بنا .
- إن هذا لا يليق منك فهو ظلم بين ، ولقد قهرت بريئا بلا داع .
 
عزم داود عليه السلام على دعوة الخلق إلى الخلأ
حيث يفشى السر ويقطع كل الحجج
 
- قال : أيها الرفاق ، لقد حان الوقت الذي ينكشف فيه سره الخفي .
 
2445 - فهيا جميعا حتى نمضي خارجا ، وحتى نعلم هذا السر الخفي .
- ففي صحراء كذا شجرة ضخمة ، فروعها كثيفة وممتدة ومتشابكة ،
- وجذعها راسخ وجذورها ممتدة ، لكن رائحة الدم تهب علي أنفي من جذورها .
- لقد سفك دم تحت هذه الشجرة الطيبة ، إذ إن هذا المشئوم قتل سيده “ 1 “ .
- وحتى الآن ستر حلم الله هذا الأمر ، وفي النهاية من جحود هذا الديوث
 
2450 - الذي لم يقم مرة واحدة بزيارة أهل سيده ، لا في عيد النوروز ولا في أيام الأعياد .
- ولم يقدم لأولئك المساكين لقمة واحدة ، ولم يذكر الحقوق الأولي .
- بل وحتى الآن من أجل ثور ، يقوم ذلك اللعين بإهانة ابن سيده ! 
- فهو إذن نفسه الذي رفع الحجاب عن ذنبه ، وإلا فإن الله كان يستر علي جرمه .
- إن الكافر والفاسق في هذا الزمان اللعين ، هما اللذان يمزقان ستريهما بأيديهما ! !
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 75 : وسلب ماله هذا الديوث ، وهو غلامه ، أيها الأحرار وهذا الشاب هو ابن هذا السيد ، كان طفلا ، لا خبر له عن الأمر .
 
“ 217 “
 
2455 - والظلم مستور في غياهب أسرار الروح ، لكن الظالم هو الذي يعلنه علي الملأ .
- قائلا : انظروا ثور الجحيم علي الملأ ، انظروا إليّ ، فأنا ذو قرون .
 
شهادة اليد والقدم واللسان على سر الظالم
وهو لازال في الدنيا
 
- ومن ثم : فيدك وقدمك بارتكاب الأذي، تشهدان علي ضميرك “المستتر في باطنك” .
- وعندما يصبح الضمير موكلا بك ، فإنه لا يزال يقول لك : أعلن اعتقادك علي الملأ ، لا تخفه .
- “ وهذا يحدث “ خاصة عند الغضب والجدال ، فإن سرك يظهر برمته وتفصيلاته .
 
2460 - وعندما يسيطر عليك الظلم والجفاء ، فإنه يقول : أظهريني أيتها اليد ، أعلنيني أيتها القدم .
- وعندما يأخذ الضمير بالزمام “ ويسيطر عليك ما في باطنك “ ، خاصة عند الانفعال والغضب والانتقام .
- فإنه يوكلك أنت نفسك ، وذلك حتى تنشر لواء السر علي الملأ .
- وهو “ سبحانه وتعالي “ يستطيع أن يخلق موكلين آخرين يوم الحشر من أجل النشر .
- فيا من أبديت كل قواك “ 1 “ في الظلم والحقد ، إن جوهرك واضح ولا حاجة بك إلي إعلانه .
 
2465 - وليست هناك حاجة بك إلي شهرة في الأذي ، إنهم واقفون علي ضميرك الناري .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : عشرة أيدي .
 
“ 218 “
 
- إن نفسك تطلق كل لحظة مئات من الشرر ، قائلة : انظروا إليَّ فأنا من أصحاب النار .
- إنني جزء من النار وأمضي إلي الكل الخاص بي ، وأنا لست بالنور حتى أمضي صوب الحضرة .
- مثلما قام هذا الظالم الجحود بارتكاب عدد من الأخطاء من أجل ثور .
- فأخذ الآخر منه مائة ثور ومائة جمل ، وهذه هي النفس أيها الأب فاهجرها .
 
2470 - وأيضا فإنه لم يقم يوما واحدا بالتضرع إلي الله ، ولم تصدر منه “ يا رب “ مرة واحدة بألم .
- ولم يقل : يا الله اجعل خصمي قانعا ، ولو كنت ألحقت به الخسارة فعوضه عنها ربحا “ .
- وإذا كنت قد أخطأت فالدية علي العاقلة ، وأنت “ عاقلة “ روحي منذ يوم “ الست “ ! !
- وإنها “ أي النفس “ لا تعطي حجرا عوضا عن در ، وهذا هو إنصافها يا حر الروح ! !
 
خروج الناس صوب تلك الشجرة
 
2475 - وعنما خرجوا نحو تلك الشجرة ، قال “ داود “ قيدوا يديه بإحكام خلف ظهره 
- حتى أكشف عن ذنبه وجرمه ، وحتى أنشر لواء العدل علي الملأ .
- وقال له : أيها الكلب ، لقد قتلت جد هذا الرجل ، وكنت غلاما له وبهذا القتل صرت سيدا .
- لقد قتلت سيدك وسلبت ماله ، وها هو ذا الله قد كشف حاله .
- وكانت زوجتك جارية عنده ، وقد اشتركت معك في عقوق هذا السيد .
- فكل ما ولدته من ذكر وأنثي ، يكون كله ملكا لوريثه .
 
“ 219 “
 
2480 - وأنت غلام فكل عملك وكسبك ملك له ، لقد طلبت حكم الشرع ، هاكه وامض فهذا خير لك .
- لقد قتلت سيدك ظلما وصبرا ، وفي نفس هذا المكان كان السيد يصرخ : وا غوثاه .
- ودفنت السكين تحت التراب مسرعا ، من ذلك الخاطر المفزع الذي خطر لك .
- ولا يزال السكين مع رأسه الآن تحت الأرض ، وهكذا فاحفروا هذه الأرض ثانية .
- واسم هذا الكلب مكتوب علي السكين ، وهو الذي مكر بسيده وارتكب هذا الجرم .
 
2485 - وهكذا فعلوا ، وعندما حفروا وجدوا تلك السكين والرأس تحت الأرض .
- وقامت ضجة بين الخلق آنذاك، وشق كل منهم زناره عن وسطه “داخلا في الدين” .
- ثم قال : تعال أيها المتظلم وخذ بحقك منه ، لقد افتضح أمره .
 
أمر داود عليه السلام بالقصاص من القاتل بعد إلزامه الحجة
 
- أمر “ داود “ بالقصاص منه بنفس سلاحه ، فمتي يخلصه مكره من علم الحق ؟
- فهو وإن كان يستر كثيرا ويتغاضي ، إلا أنه يفضح عندما يزيد “ المجرم “ في إجرامه عن الحد .
 
2490 - والدم لا ينام ، بل يسقط في كل قلب الميل نحو البحث والتقصي عن كشف المشكل .
- وباقتضاء حكم رب الدين ، يخرج السر ، بين هذا وذاك ،
 
“ 220 “
 
- “ إذ يتسائل الناس “ : ماذا جري لفلان ؟ وكيف حاله ؟ وكيف هو ؟
وهذا كما ينبثق النبات من الرياض .
- وغليان الدم هو هذه التساؤلات ، وقلق القلوب والبحث عما جري .
- وعندما انكشف سر عمله ، شاعت معجزة داود وتضاعفت .
 
2495 - فأتي الناس جميعا مكشوفي الرؤوس ، وأخذوا يسجدون علي الأرض قائلين :
- إننا كنا عميانا في الأصل ، مع ما رأيناه منك من مئات المعجزات .
- لقد تحدث الحجر معك وهذا أمر شهير ، قائلا لك : خذني من أجل غزو طالوت .
- ثم أتيت ومعك أحجار ثلاثة ومقلاع ، ففرقت جمع مئات الآلاف من الرجال .
- تفتت حجارتك الثلاثة إلي مئات الآلاف من الحجارة ، جندل كل حجر منها أحد الخصوم .
 
2500 - وصار الحديد في يدك كالشمع ، عندما صار أمر صناعتك للدروع معلوما .
- والجبال أوبت معك وصارت شكورة “ لله “ ، وهي تقرأ معك عندما تقرأ الزبور ! .
- ولقد فتحت مئات الآلاف من أعين القلوب من أنفاسك ، وصارت مستعدة لتلقي الغيث .
- وما هو أقوي من هذا كله لأنه دائم ، هو هبة الحياة التي تظل قائمة إلي الأبد .
- وروح كل المعجزات من هذا هي تلك المعجزة التي تهب الميت الحياة الأبدية .
 
2505 - لقد قتل ظالم واحد فانبعثت دنيا بأكملها حية ، وصار كل إنسان عابدا لله من جديد .
 
“ 221 “
 
بيان أن نفس الإنسان هي بمثابة ذلك السفاك الذي كان قد ادعى ملكيته الثور ،
وإن ذابح الثور هو العقل ، وداود هو الحق والشيخ نائب الحق ،
والذي بقوته وعونه يمكن قتل الظالم والغنى برزق دون كسب وحساب
 
- اقتل نفسك “ التي بين جنبيك “ وأحيي دنيا بأكملها ، لقد قتلت السيد فاجعلها أمة ! !
- إن مدعي الثور هو نفسك فانتبه ، لقد جعلتك بهذا “ الادعاء “ سيدا وعظيما .
- وذابح الثور هو عقلك فامض ، ولا تكن منكرا القاتل ثور جسدك .
- إن العقل أسير ولا يفتأ يريد من الحق ، رزقا بلا تعب ونعمة حاضرة “ 1 “ .
 
2510 - فعلام يتوقف رزقه الذي بلا تعب ؟ علي أن يقتل الثور وهو أصل الشر .
- فتقول النفس : كيف تقتل ثوري ؟ ذلك أن ثور النفس هو صورة الجسد .
- وابن السيد هو العقل بقي بلا زاد ، لأن النفس السفاكة قد قتلت السيد والمرشد .
- أتعلم إذن ما هو الرزق بلا تعب ؟ إنه قوت الأرواح وأرزاق النبي .
- لكنه متوقف علي ذبح الثور ، فاعلم أن الكنز في “ إهاب “ الثور أيها الطلعة المدقق .
 
2515 - إنني ليلة الأمس قد أكلت شيئا ما ، وإلا لأعطيتك في يدك زمام الفهم تماما .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : علي الطبق .
 
“ 222 “
 
- “ ليلة الأمس أكلت شيئا “ إن هذا مجرد ذريعة وأسطورة ، لأن كل ما يأتي إنما يأتي من منزل السر .
- فلأي شيء تعلقنا بالأسباب وتركيز أبصارنا عليها ، إذا كنا قد تعلمنا الغمز بالعيون من حسان العيون .
- وهناك فوق الأسباب أسباب أخري ، لا تنظر إلي الأسباب بل انظر إلي تلك الأسباب الأخري .
- لقد جاء الأنبياء لقطع الأسباب ، وطامنوا بمعجزاتهم فلك عطارد .
 
2520 - فشقوا البحر دون وسائل وأسباب ، وأنبتوا سنابل القمح دون زرع .
- وصارت الرمال دقيقا من سعيهم ، كما صار شعر الماعز حريرا ممتدا .
- والقران بأجمعه قطع للأسباب ، هو عز للفقير وهلاك لأبي لهب .
- وطير الأبابيل رمي بحجر أو حجرين فهزم جيش الأحباش الضخم .
- وألقي بالفيل مجندلا مليئا بالثقوب ، ذلك الحجر الذي ألقي به الطائر المحلق عاليا .
 
2525 - فاضرب القتيل بذيل البقرة المذبوحة ، حتى يبعث حيا في كفنه في اللحظة نفسها .
- يقفز في مكانه وهو مقطوع الحلق ، ويطلب ثأره من قاتله .
- وهكذا من أول القران إلي اخره ، رفض للأسباب والعلل والسلام .
- وكشف هذا لا يكون من العقل الذي يعقد الأمور ، فزاول العبودية حتى يكشف لك .
- فالمشتغل بالفلسفة أسير للمعقولات ، بينما امتطي الصفي عقل العقل .
 
2530 - إن عقل العقل هو بالنسبة لك لب وعقلك قشر، ومعدة الحيوان غالبا ما تطلب القشر.
 
“ 223 “
 
- وطالب اللب يمل القشور أشد الملل ، لكن اللب صار حلالا للأذكياء .
- وبينما يقدم قشر العقل مائة برهان ، متي يخطو العقل الكلي خطوة واحدة دون يقين ؟
- إن العقل يسود الدفاتر كلها لكن عقل العقل ذو افاق مليئة بالأقمار .
- فهو فارغ من السواد “ الحبر “ ومن البياض “ الورق “ ، ونور قمره بازغ من القلب والروح .
 
2535 - وإذا كانت هذه الكتب قد وجدت القدر ، فمن ليلة القدر تلك “ 1 “ التي تألقت كأنها الكوكب .
- فقيمة الهميان والأكياس تكون من الذهب ، وبلا ذهب تكون الهميان والأكياس ناقصة لا قيمة لها .
- وكذلك فإن قدر الجسد يكون من الروح ، وقدر الروح من ضياء الأحبة .
- فإذا كانت الأرواح لم تحي حتى الآن بالنور الإلهي ، لما قال الله قط إن الكفار موتي .
- فهيا تحدث ، إن النفس الناطقة تشق جدولا ، يجري فيه الماء حتى بعد قرن من وفاتنا .
 
2540 - وبالرغم من أنه يوجد في كل ات بالكلم ، فإن كلام السلف يكون عونا له .
- أليست التوراة والإنجيل والزبور قد صارت شاهدا علي صدق القران أيها الشكور ؟
- فابحث عن رزق دون تعب وحساب ، ومن الجنة يأتيك جبريل ، بثمار التفاح .
- بل إن رزقا من رب الجنان ، يأتيك بلا تعب من الناطور وبلا كدح في الزراعة .
..............................................................
( 1 ) أي عقل العقل أو العقل الكلي .
 
“ 224 “
 
- ذلك أنه وهب في الخبز نفع الخبز ، وهو الذي يهبك هذا النفع دون واسطة من القشور .
 
2545 - إن اللذة خفية ، وصورة الخبز كغطاء المائدة ، لكن الولي ذو نصيب من الخبز دون صورته .
- فمتي تحصل علي رزق الروح بالسعي والبحث والهم ، إن هذا ليس إلا بعدك عن الشيخ الذي هو داود بالنسبة لك .
- وعندما تري النفس خطوك مع شيخ ، فإنها تصبح - وأنفها راغم - مطيعة لك .
- مثلما صار صاحب الثور مستسلما هادئا ، عندما صار عليما من أنفاس دواد .
- ويصير العقل غالبا في الصيد ، عندما يصير الشيخ معينا علي “ كلب “ نفسك .
 
2550 - والنفس أفعي ذات قوة شديدة واحتيال ، ووجه الشيخ بالنسبة لها كالزمرد يقتلع عينها “ 1 “ .
- فإذا أردت أن يكون صاحب الثور ضعيفا ، فسقه واخزا إياه بالسفود كالحمر نحو تلك الناحية أيها الحرون .
- وعندما يقترب من ولي الله ، يقصر لسانه الذي يبلغ طوله مائة ذراع .
- فهو ذو مائة لسان وكل لسان يتحدث مائة لغة ، ولا يوصف خبثه واحتياله .
- إن النفس فصيحة تدعي ملكية “ الثور “ تأتي بمئات الآلاف من الحجج وكلها غير صحيحة .
 
2555 - إنها تخدع المدينة كلها إلا الملك ، ولا تستطيع أن تقطع الطريق علي ملك الوعي .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 96 : فإذا أردت الأمن من الأفاعي ، فلا تترك طرف ثوبه لحظة واحدة ، وكن ترابا أمام الشيخ الصفي ، حتى تنبت في ترابك كيمياء التبديل .

“ 206 “
عودة إلى شرح حكاية ذلك الذي كان طالبا للرزق الحلال بلا كسب
وتعب في عهد داود عليه السلام والاستجابة إلى دعائه
“ 225 “
 
- فالنفس تمسك بالمصحف والمسبحة في يمينها ، لكنها تخفي السيف والخنجر في كمها .
- فلا تصدق مصحفها ورياءها ، ولا تجعل نفسك نجيا وقرينا لها .
- إنها تصحبك حتى الحوض بحجة الوضوء ، لكنها تلقي بك إلي قاعه .
- إن العقل “ نوراني “ وطالب مجد ، فكيف تكون النفس “ الظلمانية “ غالبة عليه .
 
2560 - ذلك أنها من أهل الدار وعقلك غريب ، ويكون الكلب علي باب داره كالأسد المهيب .
- فانتظر حينئذ الأُسد إلي الآجام ، وتميل تلك الكلاب العمياء إلي ذلك المكان .
- إن عموم أهل المدينة لا يعلمون مكر النفس والجسد ، ويعلمون أنها لا تقهر إلا بوحي من القلب .
- وكل ما يكون من جنسها يكون محبا لها رفيقا بها ، فمن يصلح لها إلا داود الذي هو شيخ لك .
- إنما بُدّل ولم يبق من جنس الجسد ، كل من وضعه الله في مقام القلب .
 
2565 - إن الخلق جميعا من أنصار العلة في بواطنهم ، ويقينا أن نصير العلة يكون مريضا .
- وكل خسيس يدعي الداووية ، ويستمسك به كل من هو بلا تمييز .
- إن ذلك الطائر الأبله يسمع من الصياد صفير الطير فيمضي نحوه .
- ولا يعرف ذلك الغوي النقل من النقد “ الحاضر “ ، فاهرب منه حتى وإن كان مشتغلا بالمعاني .
- فإن الناجي والأسير سيان عنده ، وهو في شك وإن كان يدعي اليقين .
 
2570 - والمرء وإن كان ذكيا علي الإطلاق ، هو غبي إن لم يكن لديه تمييز .
- فاهرب منه كما يهرب الغزال من الأسد ، ولا تسرع نحوه أيها العالم الشجاع
 
“ 226 “
 
هروب عيسى عليه السلام من الحمقى نحو جبل
 
- كان عيسى بن مريم يهرب متجها إلي جبل ، وكأن أسدا كان يهم بسفك دمه .
- فأخذ أحدهم يعدو خلفه صائحا : خيرا ؟ ليس وراءك أحد ، فلماذا تهرب كالطير ؟
- لكنه أخذ يعدو بسرعة ، حتى إنه لم يكن قادرا علي رد الجواب من شدة سرعته .
 
2575 - فأسرع ذلك الرجل منزلا أو منزلين خلف عيسى ، ثم نادي عيسى جادا في النداء .
- قائلا : قف برهة من الزمن ، فإني من هربك في مشكلة .
- من أي شيء تهرب نحو تلك الناحية أيها الكريم ، فلا أسد في أثرك ولا خصم ، ولا خوف لديك أو هلع ؟
- قال : إنني هارب من الأحمق فامض ، إنني أنجى نفسي منه - فلا تعطلنى .
- قال : ألست أنت المسيح اخر الأمر ، الذي يبريء الأعمى والأصم ؟
 
2580 - قال : بلي قال : ألست أنت ذلك الملك الذي أصبح موضع طلسم الغيب ؟
- وعندما تقرأ هذا الطلسم علي ميت ، يقفز كأسد وجد صيدا ؟
- قال بلي ، أنا هو قال : ألست أنت الذي تجعل من الطين طيرا يا جميل الوجه “ 1 “ ؟
- قال : بلي . قال : إذن أيها الروح الطاهرة ، إن كل ما تريده تفعله فمم تخاف ؟
- مع مثل هذا البرهان الذي لك في الدنيا ، وليس لأحد غيرك في عباد الله ؟
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 151 : تنفخ فيه فترتد فيه الروح سريعا ، ويطير لتوه في الهواء .
  
“ 227 “
 
2585 - قال عيسى : بذات الله الطاهرة ، مبدع الجسد خالق الروح .
- وحرمة ذاته وصفاته الطاهرة ، التي تجعل من الفلك عاشقا ممزق الجيب .
- إن ذلك الطلسم والاسم الأعظم الذي قرأته أنا علي الأصم والأعمي فشفيا .
- وقرأته علي الجبل والحجر فانشق ، ومزق خرقته من علي جسده حتى سرته .
- وقرأته علي جثة الميت فبعث حيا ، وعلي اللاشيء فصار شيئا .
 
2590 - قرأته علي قلب الأحمق مئات المرات ، لكن الله لم يمن عليه بالشفاء .
- صار حجرا أصم لم يرجع عن طبعه ، صار رملا لم ينبت فيه أي نبات .
- قال الرجل : وما الحكمة في أن اسم الله أجدي في مواضع عديدة ولم يجد في هذا الموضع ؟
- إنه داء مثل أي داء فلماذا عالج بقية الداءات ولم يجد فيه ؟
- قال عيسى : إن داء الحمق غضب من الله ، أما داء العمي فليس مرضا إنه ابتلاء .
 
2595 - ومرض الابتلاء يثير الشفقة ، لكن الحمق داء يسبب الجراح .
- وذلك الذي ختم بميسم الحمق ، لا يمكن أن تجد له حيلة .
- فاهرب من الحمقي كما هرب عيسى ، فما أكثر الدماء التي أسالتها صحبة الحمقي “ 1 “ .
- فكما يسرق الهواء الماء قليلا قليلا ، يسرق الأحمق الدين منكم .
- إنه يسلبك حماسك ويهبك الفتور ، إنه مثل ذلك الذي يضع تحت مقعده حجرا .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 152 : وإن مرض الحمقي ليصب الجراح علي أم الرأس ، ولا رحمة علي توسل ذلك الأحمق بالحيلة .
 
“ 228 “
 
2600 - لم يكن هروب عيسى خوفا ، فقد كان امنا ، كان هروبه من أجل التعليم .
- فإذا ملأ الزمهرير الآفاق ، أي حزن عند تلك الشمس ذات الإشراق ؟


[ قصة أهل سبإ ]
 
قصة أهل سبإ وحمقهم وعدم تأثير نصيحة الأنبياء في الحمقى
 
- يحضرني في هذا المقام قصة سبأ وإذ صارت رياح الصبا عندهم وباء من أنفاسهم الحمقاء .
- كانت سبأ هذه مدينة كبيرة جدا ، استمع إلي حكايتها كحكاية من حكايات الأطفال .
- إن الأطفال يقصون الحكايات ، وتحتوي حكاياتهم علي كثير من الأمثال والعظات .
 
2605 - إنهم يتحدثون بكثير من الهزل في حكاياتهم ، فداوم علي البحث عن الكنوز في الخرابات .
- كانت هناك مدينة كبيرة جدا وضخمة ، لكن حجمها لم يكن يزيد عن حجم الفنجان .
- كانت ضخمة جدا واسعة مترامية الأطراف ، واسعة شديدة الازدحام بحجم بصلة .
- اجتمع فيها سكان عشرة مدن ، لكن مجموعهم كان ثلاثة أشخاص من الأنجاس .
- كان سكانها خلقا بلا عد أو حصر ، لكنهم في مجموعهم ثلاثة من السذج أكلي ما يجدونه .
 
2610 - إن الروح التي لم تسع في سبيل الأحبة ، إن كانت في آلاف فإنهم لا يبلغون “ قيمة “ نصف شخص .
 
“ 229 “
 
- كان أولهم حاد النظر جدا لكنه أعمي البصر ، أعمي عن مثل سليمان لكنه أبصر رجل النملة .
- وكان ثانيهم حاد السمع لكنه أصم ، كان كنزا ليس فيه مثقال حبة شعير من ذهب .
- وكان ثالثهم عاريا تماما كأنه الجيفة ، لكن أطراف ثوبه كانت شديدة الطول .
- قال الأعمي : هذا جيش يتقدم ، إنني أري أي قوم هم ، وأري كم عددهم
 
2615 - قال الأصم : إنني أسمع أصواتهم ، وماذا يقولون في العلن والسر .
- فقال العاري : أخشي ما أخشاه أن يسلبوني قدرا من ذيل ثوبي .
- قال الأعمي : لقد اقتربوا الآن ، انهضوا فلنهرب قبل أن يعملوا فينا الطعن والأسر .
- وقال الأصم : أجل ، فإن ضجيجهم يقترب أكثر ، هيا يا رفاق .
- فقال العاري : واحسرتاه علي ثوبي ، سوف يسلبونه طمعا ، إنني لا أحس بالأمان ! !
 
2620 - فتركوا المدينة وخرجوا منها ، وفي فرارهم دخلوا إحدي القري .
- ووجدوا في تلك القرية طائرا سيمنا ، ليس علي جسده ذرة واحدة من لحم أو شحم “ 1 “ .
- كان طائرا ميتا متيبسا ، ومن نقر الغربان صار عظاما مهترئة كالهشيم “ 2 “ .
- فأكلوا منه جميعا كما يأكل الأسد من صيده ، وشبع كل منهم من أكله كالفيل .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 156 : راه الأعمي ، وسمع الأصم تغريده ، واخذه العاري في حجره .
( 2 ) ج / 8 - 156 : فطلبوا قدرا ووجدوه ، لا غطاء له ولا قاع وأسرعوا ، فوضعوه علي النار أولئك الثلاثة ، ذلك الطائر السمين كثير الدسم . وأنضجوه فوق النار كثيرا حتى نضجت عظامه ولا خبر عن اللحم .
  
“ 230 “
 
- أكلوا منه ثلاثتهم فازدادوا سمنة ، صار الثلاثة من الفيلة الضخمة الفخمة .
 
2625 - وأصبح كل واحد من هؤلاء الفتيان الثلاثة من سمنته بحيث لا تتسع له الدنيا من ضخامته .
- وبرغم هذه الضخامة وتضخم الأعضاء ، خرجوا من شق باب ومضوا إلي حال سبيلهم .
- إن طريق الموت بالنسبة للخلق طريق خفي ، ولا يبدو للنظر ذلك الطريق الذي لامكان له .
- والقوافل الآن تقتفي اثار بعضها البعض ، من فرجة الباب هذه المختفية
- وإذا بحثت عن الباب فلن تجد هذا الشق ، إنه شديد الاختفاء وإن كان يتم عن طريقه كثير من حفلات الزفاف .
 
تفسير ذلك الأعمى حاد النظر ، وذلك الأصم حاد السمع ،
وذلك العاري سابغ الثوب
 
2630 - إن الأصم هو الأمل الذي سمع بموتنا ، ولم يسمع بموت نفسه ولم ير نقل ذاته .
- والأعمي هو الحَرِصُ الذي يري عيوب الخلق بأجمعها ، ويتحدث عنها مفصلا إياها .
- ولا تري ذرة واحدة من عيوبه عينه العمياء ، بالرغم من أنه باحث عن العيوب .
- والعاري الذي يخشي من سرقة ثوبه ، فتري متي يمزق الناس ثوب رجل عار ؟
- إنه رجل الدنيا مفلس وخائف ، ولا يملك شيئا قط ، ومع ذلك فهو خائف من اللصوص .
 


“ 231 “


 
2635 - لقد جاء عاريا ويمضي عاريا ، لكنه من خوف أن يسرق يدمي كبده .
- وفي وقت موته عندما يتقدم جنازته النواح والعويل ، تضحك روحه سخرية من ذلك الخوف الذي كان يعانيه .
- ويعلم الغني في تلك اللحظة أنه لا ذهب لديه ، كما يعلم الذكي أنه كان خاليا من الفضل .
- ويكون الأمر كما يمتليء حجر طفل بقطع الفخار ، فيرتعد خوفا عليه كما يكون رب المال .
- فيبكي إن أخذت منه قطعة من الفخار ، ويضحك إن رددتها إليه .
 
2640 - ولما لم يكن عند الطفل دثار من العلم ، فلا اعتبار هناك لبكائه أو ضحكه .
- وعندما يري الغني العارية ملكا ، فإنه يربت “ بلطف “ علي ذلك المال المملوك بالباطل .
- ويعتبر أن لديه أموالا ، ويخشي من أن يخطف اللص “ الجوال “ .
- وعندما يفزعه من نومه هذا عاركٌ لأذنيه ، يسخر كثيرا من خوفه .
- وشبيه بهذا الخوف الشديد الموجود عند هؤلاء العلماء يملكون علوم هذه الدنيا والعقل الجدير بها .
 
2645 - وفي شأن هؤلاء العقلاء ذوي الفنون ، قال الله تعالى في القران أنهم لا يعلمون .
- كل واحد منهم خائف من سرقة أحد ( له أو لعلمه ) ويظنون لأنفسهم علما غزيرا .
- فيقول : إنهم يسرقون وقتي ، وليس له هو نفسه وقت نافع .
- ويقول : إن الخلق يشغلونني عن عملي ، وروحه غارقة في البطالة حتى الحلق .


“ 232 “
 
- وهكذا العاري خائف قائلا : إنهم يجذبون طرف ثوبي ، كيف أخلص طرف الثوب من أيديهم ؟ !
 
2650 - إنه يعلم مئات آلاف الفصول من العلوم ، لكنه لا يعرف روحه ذلك الظلوم .
- وهو يعلم خاصية كل جوهر ، لكنه في بيان جوهره هو كالحمار .
ويقول :
- إنني أعلم ما يجوز ، وأنا أقول له : أنت نفسك لا تعلم أنك في مرتبة تقليد التصديق “ 1 “ .
- إنك تعلم أن هذا جائز وهذا غير جائز ، فانظر جيدا هل أنت جائز أم غير جائز ؟
- وإنك تعلم ما هي قيمة كل بضاعة ، لكنك لا تعرف قيمتك وهذا حمق .
 
2655 - ولقد علمت مطالع السعد النحس ، ولم تنظر هل أنت سعد أم نحس وشؤم .
- وإن روح كل العلوم هي هذي : أن تعلم من تكون يوم الدين “ 2 “ .
- ولقد علمت أصول الدين تلك ، لكن : أنظر إلي أصلك إذا كان جيدا .
- فأصولك أفضل من “ الأصولين “ “ 3 “ اللذين تعرفهما ، وأفضل أن تعرف أصولك أيها الرجل الكريم .
 
صفة رخاء مدينة أهل سبأ وجحودهم
 
- كان أصلهم سيئا أهل سبأ هؤلاء ، كانوا يفرون من أسباب اللقاء .
 
2660 - لقد وهبهم اللّه تعالي كثيرا من الضياع والبساتين والمراعي ، عن يسار ويمين لكي يتسني لهم الفراغ .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : لا تعلم أنك “ تجوز “ أو “ عجوز “ أي تؤمن إيمان العجائز .
( 2 ) ج / 8 - 161 : وروح كل العلوم هذا في حد ذاته ، أن تهبك كلها الروح الأبدية . 
إن الغني يعتبر العارية ملكا له ، ويرتعد لهذه الأموال ذلك الدني .
( 3 ) أصول الفقه وأصول الكلام .
 
“ 233 “
 
- ومن كثرة تساقط الثمار من وفرتها ، كان الطريق يضيق علي عابره .
- كانت الفاكهة المتساقطة تسد الطريق ، وكان المار من كثرتها يصاب بالدهشة الشديدة .
- وكانت السلة علي الرأس في بساتينهم ، تمتليء بالثمار عن غير قصد منهم
- كانت الرياح تسقط هذه الفاكهة دون أن يسقطها أحد ، وكانت حجور كثيرة تمتليء بهذه الفاكهة .
 
2665 - وكانت العناقيد الضخمة المتدلية ، تتساقط علي وجوه المارة ورؤوسهم .
- ومن كثرة الذهب ، حتى الوقاد في الحمام كان يعقد حول منطقته حزاما ذهبيا .
- كان الكلب يدوس الفطائر بقدميه ، كما كان ذئب الصحراء متخما من الزاد “ 1 “ .
- كانت المدينة امنة والقرية امنة من الذئب واللص ، ولم يكن الماعز يخاف من الذئب المفترس .
- ولو أنني تحدثت عن نعم القوم ، التي كانت تزداد يوما بعد يوم .
 
2670 - لصرفني ذلك عن قول ما هو أهم ، وقد أهم بلغنا الأنبياء الأمر ب :
استقم .
 
مجىء الأنبياء من الحق لنصح أهل سبأ “ 2 “
 
- جاء ثلاثة عشر نبيا إلي ذلك المكان وأخذوا جميعا يرشدون الضالين
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 164 : وعندما كانت ثيابهم تتسخ ، كانت النار لهم بمثابة الصابون - كانوا يلقون بالثَوب في التنور ، وبعد برهة يصير نظيفا .
( 2 ) ج / 8 - 166 : وعندما زاد جحودهم عن الحد ، فعلت غيرة الحق فعلها في التو واللحظة .
 
“ 234 “
  
- قائلين : هيا فالنعمة قد زادت وأين الشكر ؟ فإذا رقدت مطية الشكر حركوها .
- إن شكر المنعم واجب بمقتضي العقل ، وإلا انفتح باب الغضب الأبدي .
- هيا ، أنظروا إلي الكرم ، فهل يمكن أن يقدمه شخص ؟ أيمكن أن يتأتي من شخص يشكر مرة واحدة علي كل هذه النعم ؟
 
2675 - إنه يهب رأسا ويريد الشكر عليها سجدة ، ويهب قدما ويريد الشكر عليها “ قعدة طاعة “ “ 1 “ .
- قال القوم : لقد سرق “الغول” شكرنا ، لقد صرنا ملولين من النعمة والشكر “2”.
- لقد صرنا مترهلين من العطاء ، بحيث لم نعد نحس بلذة في طاعة أو معصية .
- نحن لا نريد النعم أو البساتين ، ولا نريد الأسباب ولا الفراغ .
- قال الأنبياء : إن في قلوبكم علة وغرضا ، وهي آفة تحول دون الاعتراف بالحق .
 
2680 - بحيث تصير نعمته سبحانه وتعالي علة للجميع ، ومتي يصير الطعام قوة للمريض ؟
- لقد قدم لك العديد من النعم أيها المبصر ، فانقلبت كلها إلي نقمة وصار صافيها كدرا .
- وصرت أنت عدوا لهذه النعم ، فانقلب إلي قبيح كل ما تلمسه بكفك .
- فكل من صار صديقا لك مؤتلفا معك ، انقلب إلي ذليل وحقير أمام ناظريك .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 166 : إن شكر النعمة يزيد في النعمة ، وتنبت في الأشواك مئات الورود .
( 2 ) ج / 8 - 166 : أية نعمة ، لقد شبعت أرواحنا منها ، وأي شكر نشكره ، هيا ، أشكروا 
- إن هذه النعمة محنة بالنسبة لنا ، ولا يشكر أحد علي المحنة أيها الفتي .
 
“ 235 “
  
- وكل من صار غريبا عنك نافرا منك ، صار في نظرك شديد العظمة والاحترام .
 
2685 - وهذا كله من تأثير المرض ، إن سمه سار في كل الأرواح .
- وينبغي أن تعالجوا هذه العلة من فوركم ، فهي التي تجعل السكر يبدو بُرازا عندكم .
- وكل خير يصيبك ينقلب إلي سوء ، ولو عثرت علي ماء الحيوان فإنه يتحول إلي نار .
- وتلك صفة كيمياء الموت والألم ، بحيث يصبح الموت هو العافية الوحيدة لك في هذه الحياة .
- وكثير من الغذاء الذي يحيا به القلب ، عندما يدخل جسدك يصير متعفنا .
 
2690 - وكثيرا ما تظفر بوصال عزيز بعد دلال ، لكنك عندما تظفر به تزهده .
- ومعرفة العقل للعقل من الصفاء ، وعندما تتم يزداد الولاء فيها كل لحظة .
- ومعرفة النفس مع كل نفس دنية ، اعلم يقينا أنها تقل وتضعف لحظة بعد لحظة .
- ذلك أن النفس تدور حول علة ، فتفسد المعرفة والصداقة منها سريعا .
- وإن لم ترد أن يتحول الحبيب إلي عدو لك في الغد ، فاعقد حبال الود مع العقل ومع العاقل .
 
2695 - وما دمت ذا علة من سموم النفس ، فكل ما تظفر به يكون سببا للمرض .
- فإذا ظفرت بجوهرة تحولت إلي حجر ، ولو ظفرت بحب القلب تحول إلي حرب .
 
“ 236 “
  
- وإذا توصلت إلي فكرة مبتكرة ولطيفة ، تحولت عند إدراكك إياها إلي فاقدة للذوق ومستهجنة .
- فتقول : لقد سمعتها كثيرا وصارت مبتذلة قديمة ، فهيا قل غيرها أيها السيد السند ! 
- “ فيقول لك “ : إليك فكرة جديدة سمعتها أخيرا ، وفي الغد تصبح ملولا منها ونفورا .
 
2700 - فعالج العلة فعندما تقضي علي العلة ، يكون كل حديث قديم جديدا بالنسبة لك .
- بل إن ذلك القديم يورق من جديد ، ويتفتح من جذوره الممتدة في الحفرة مائة عنقود “ جديد “ .
- ونحن “ الأنبياء “ أطباء وتلاميذ الحق ، لقد رانا بحر القلزم فانفلق .
- لكن أطباء الطبيعة شيء اخر ، إنهم ينظرون إلي القلب عن طريق النبض .
- لكننا ننظر إلي القلب جيدا بلا واسطة ، فنحن من الفراسة ننظر من عل .
 
2705 - أما أولئك فهم أطباء الغذاء والثمر ، والروح الحيوانية قائمة بهم .
- ونحن أطباء الفعال والمقال ، وملهمنا هو ضياء نور الجلال .
- “ ونقول لك “ إن هذا الفعل يصلح لك ، أما ذاك الفعل فهو قاطع للطريق .
- إن مثل هذا القول يدفعك إلي الأمام ، أما مثل ذلك القول فيعرضك للعقاب “ 1 “ .
- إن البول هو دليل أولئك الأطباء ، لكن دليلنا هو الوحي الجليل .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 167 : مثل هذا ومثل ذاك من القبيح والحسن ، نضعه أمامك ، ونبدي الخير ، فاختر هذا إن شئت أو ذاك ، فقد صار السم والسكر والحجر والجوهر عيانا .
 
“ 237 “
  
2710 - ونحن لا نريد أجرا من أحد ، فأجرنا يصل إلينا من حضرة القدس .
- فهيا تعالوا يا مرضي الجراح التي لا تشفي ، فنحن الدواء للمرضي واحدا بعد اخر .
 
طلب القوم المعجزة من الرسل
 
- قال القوم : يا جماعة من المدعين . . أين الدليل علي علم الطلب والنفع ؟
- وما دمتم تأكلون وتنامون كما نأكل وننام فكونوا مثلنا واحشوا بطونكم في القرية بالطعام. “ 1 “
- وما دمتم في شراك هذا الجسد الذي هو من الماء والطين ، متي تكونون صيادي عنقاء القلوب ؟
 
2715 - بل هو حب الجاه والرئاسة قد دفعكم إلي اعتبار أنفسكم من الأنبياء .
- ونحن لا نريد هذا النفاج والكذب في اذاننا ثم السقوط من ذلك في اللبن المخيض .
- قال الأنبياء : إن هذا هو من تلك العلة ، وأساس العمي حجاب الرؤية .
- إنكم تسمعون دعوتنا ، وترون هذه الجواهر في أيدينا .
- فهذه الجواهر امتحان للخلق ، نديرها نحن أمام العيون .
 
2720 - وكل من يسألنا أين الدليل ؟ قوله هو الدليل لكنه لا يري الجواهر من سجن عماه .
- فإذا تحدثت إليك الشمس وقالت لك : انهض ، فقد طلع النهار انهض وكفاك عنادا .
- فتقول أنت : وأين الدليل أيتها الشمس ؟ سوف تقول لك : أيها الأعمي أطلب من الله بصرا .
- وكل من يطلب في النهار المنير مصباحا ، فإن هذا الطلب في حد ذاته ينبيء عن عماه .
- وإذا لم تر فإنك تظن أن المصباح هلك لأنك في حجاب .
..............................................................
( 1 ) أي تجرع الخديعة .
 
“ 238 “ 
 
2725 - فلا تفش سر عماك على الملأ بهذا القول ، وأصمت وكن في انتظار العقل “ من الله “ “ 1 “ .
- فالقول في وضح النهار “ أين النهار ؟ “ هو فضح للنفس يا باحثا عن النهار .
- والصبر والصمت جاذبان للرحمة ، والبحث عن الدليل علي هذا دليل علي علة .
- فاقبل “ انصتوا “ حتى يصل لروحك من الأحبة جزاء “ انصتوا “!.
- وإذا أردت ألا تنتكس أمام هذا الطبيب، فألق أمامه علي الأرض بالروح والمال أيها اللبيب.
 
2730 - وبع قولك الزائد واشتر بذل الروح والتخلي عن الجاه وإنفاق الذهب .
- حتى يتحدث فضله مثنيا عليك ، بحيث يحسدك الفلك علي جاهك .
- وعندما تراعون الأطباء حق الرعاية ، تنظرون إلي أنفسكم وتخجلون من أنفسكم .
- إن دفع هذه العمي ليس في أيدي الخلق ، لكنه إكرام من الهدي للأطباء .
- فكن عبدا بروحك لهؤلاء الأطباء ، حتى تضمخ بالمسك والعنبر .
 
اتهام القوم للأنبياء
 
2735 - قال القوم : إن هذا كله حيلة ومكر ، فمتي ينيب اللّه عنه أمثال زيد وبكر ؟
- وكل رسول لملك لا بد أن يكون من جنسه ، فأين الماء والطين من خالق الأفلاك ؟
- إننا نكون أغبياء “ 2 “ لو اعتبرنا - مثلما تفعلون
- أن البعوضة يمكن لها أن تكون موضع سر طائر البُلح ؟ “ 3 “ .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 180 : ربما لحقك فضل “ بلا علة “ وتحول قلبك عن هذا الشقاء وإلا بقيت في عمي الأبد ذاك ، وتختبيء مرأتك تحت اللباد .
( 2 ) حرفيا : أكلنا مخ حمار .
( 3 ) ج / 8 - 186 : فأين البعوضة من العنقاء وأين الطين من الله ؟ ! وأين ذرة الهباء من شمس السماء ؟ !
 
“ 239 “
  
- فأية نسبة بين هذه وأية صلة ؟ حتى يصدقها عقل أو تدخل إلي لب ؟ “ 1 “

.
* * *
شرح حكاية ذلك الذي كان طالبا للرزق الحلال بلا كسب
وتعب في عهد داود عليه السلام والاستجابة إلى دعائه

( 2308 - 2311 ) يأتي ذكر الطلب ، فتذكر مولانا تلك الحكاية التي بدأت بالبيت 1451 وتركها دون أن يتمها ، مما يدل على أن المثنوى كان يملى بشكل

“ 513 “
 
تلقائى وبنوع من الاسترسال مع المعاني ودون خطة مسبقة . فكثيرا ما يترك موضوع “ حتى تنصب الحكمة من فضل الحق “ كما ورد في البيت 2311 .
 
( 2334 - 2359 ) المقصود أن رؤيا يوسف كانت بشارة له عليه السلام ، ومن ثم فإن كل ما كان يحدث له من بلايا مثل الجب والسجن والافتراء والتهم ، كلها كانت خطوات في سبيل وصوله إلى العرش ، مع أنها للنظر السطحي وللمنطق الإنسانى خطوات لا تؤدى إلى هذه النتيجة وقد ورد هذا التفسير في مقالات شمس الدين التبريزي ، “ مثل يوسف عليه السلام اعتمادا على رؤيا سجود الشمس والقمر والكواكب استعذب الجب والسجن “ ( ص 48 ) : فلو لم يلق يوسف في البئر لما وجده السيارة ، ولو لم يجده السيارة لما وصل إلى مصر وإلى بيت العزيز ، ولو لم تتهمه امرأة العزيز لما دخل السجن ، ولو لم يدخل السجن لما وصل العرش ، وهكذا فإن بعض “ ترتيبات “ الإله تتناقض تماما مع “ تدابير “ البشر ، وهذا يشبه “ لذة ألست “ وبشرى “ ألست “ أو يوم العهد والميثاق . فالإنسان منذ أن كان في ظهور أجداده وابائه قد شهد بالإيمان وعاهد الله عليه ، ومن ثم فهو يتحمل ما يتحمله في الدنيا ألما في تحقق العهد . إنه هذا اليوم كالحلم ، كالرؤيا التي يظل الإنسان يتذكرها ، وتجعله جلدا على تحمل الشدائد والمصاعب والأثقال كما يتحمل الجمل الأحمال والنقل ، وها هو حال المؤمن في هذه الدنيا . . لكن ذلك الذي لا يذكر “ ألست “ يظل من المُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ( النساء / 143 ) . . . 
وبما أن مولانا في عجلة من أمره لكي يعود إلى قصة مدعى الثور فهي يوصى السامع أو القارئ بالعودة إلى سورة الشرح ففيها من المعاني ما يكفيك في هذا الموضوع الذي أنا مدين بشرحه . فإن هذا ( الشرح ) المذكور في السورة الشريفة هو بمثابة شرح الباطن الذي يوصل الإنسان إلى الإيمان والعبودية الحقيقة ( انظر بيت 1476 من الكتاب الأول ) .
 
“ 514 “
 
( 2360 - 2370 ) عودة إلى القصة : فها هو مغتصب الثور يثور على صاحبه لأنه دعاه بالأعمى ، وهو يسمى هذا قياسا بقياس إبليس في موضوع السجود ، إنه قياس ليس نابعا من الإيمان ، لأن مغتصب الثور لم يتكد إلا من باب الله ولم يلجأ إلى الخلق ، وعمى العشق هو ألا يرى العبد شيئا سوى الله تعالى وإشارة إلى الحديث النبوي ( حبك الشئ يعمى ويصم ) وحسن المذكور هو حسن حسام الدين . إنه لم يعتبر الثور غصبا بل اعتبره مجرد استجابة من دعائه لله سبحانه وتعالى . . لقد كان يدعو ولا ينتظر سوى الاستجابة . . تماما مثل رؤيا يوسف التي كانت تدفعه وهو في أشد الظروف سوءا إلى انتظار عرش مصر من الله سبحانه وتعالى .
 
( 2370 - 2375 ) لا يرى صاحب الثور أبعد من ثوره ، ولا يرى في ضراعة الرجل واتجاهه إلى السماء داعيا وحديثه العميق عن العشق إلا نوعا من الاحتيال لا يخيل عليه . . فهو بالطبع ينكر أن يكون ( للدعاء ) دخل في ( الرزق ) أو في نقل الملكية ، أنه مقيد بعالم الحس قد أعمته المادة كما سنرى .
 
( 2391 - 2395 ) يعدد داود عليه السلام الأسباب الشرعية للملكية :
أهي الهبة أو الشراء أو هل أخذها لكسب على عمل أداه ؟ هل ورثها وهل يعمل له بالزراعة وأعطاه إياه ؟ وداود هنا في صورة البشرية واقف عند ظاهر الشرع يطبق القانون حرفيا ، وذلك قبل أن يلقى الله سبحانه وتعالى في قلبه النور ليعلم لب القضية .
 
( 2403 - 2415 ) لقد أثر بكاء الرجل قاتل الثور في قلب داود ، وبدأ يحس أن وراء القضية سراما ، لكن كيف له بانكشاف هذا السر ؟ لا حل سوى الخلوة والصلاة ، وهكذا يكون مصداق الحديث النبوي “ وقرة عيني في الصلاة “ حيث تنفتح كوة القلب على الملكوت وتتجلى فيه الأسرار دون واسطة ، وهذا من الصفاء الذي تمنحه الصلاة للباطن ، والخطاب والمطر والنور كلها رموز عن
 
“ 515 “
 
الإلهامات الغيبية و ( معدنى ) المقصود به مبدأ الوجود والأصل ، والمنزل الذي لا كوة فيه أي القلب الذي لا طريق منه إلى الخالق : “ وفتح الكوة “ أي تسليم القلب لله سبحانه وتعالى وفي البيت 2407 : جاهد وقم بعمل حتى تجد الطريق إلى الله سبحانه وتعالى وفي 2408 أيها العبد إنك تحب شمس هذه الدنيا وحياة هذه الدنيا والجمال الموجود وفيها انعكاس للشمس الكلية الموجودة وراء الحجاب ، وإذا انتفى حجاب العلائق الدنيوية ترى تلك الشمس وفي 2409 النور الحقيقي ليس هو النور الموجود في هذه الدنيا ، فهذا النور يراه الحيوان أيضا ، وكرامة الإنسان المذكورة في الآية الكريمةوَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ( آية 70 سورة الإسراء ) تعنى أنه كرم بمشاهدة النور الكلى ، ثم يتحدث داود عليه السلام حديث أهل الحق : إن رجل الحق هو النور وهو غارق في النور ولا يرى “ ذاته “ منفصلة عن ذلك النور ، لكن العبادة من أجل هداية الخلق ، فالعبادة أمر في حد فهم السالكين ، لكنها ليست في المستوى الروحاني لرجل الحق ، وهي مثل الخدعة مع العدو لا بأس بها طبعا للحديث المروى عن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم “ الحرب خدعة “ . . وينقل جلبنارلى ( 3 / 259 ) الحديث النبوي الشريف ( كل الكذب يُكتب على ابن آدم إلا ثلاث ، رجل يكذب في الحرب فإن الحرب خدعة ، ورجل يكذب على المرأة فيرضيها ورجل يكذب بين الرجلين فيصلح بينهما ) .
ويقول مولانا : لولا أن الله لم يأذن لتحدث داود عليه السلام بكل الأسرار ، وفي 2415 المقصود أن أحدكم أخذ بخناقه لكي يخرجه من حالة الوجد التي هو فيها ، ولكي يوقفه عن الحديث حتى يتحدث حديثا مناسبا للوقت ، وهي عادة بين العارفين إذا تم الوجد وزاد أن يأخذ عارف كامل في إيقاط العارف الذي في الوجد “ مولوى 3 / 328 “ .
 
( 2422 - 2443 ) ما ستره الله هو أن صاحب الثور كان عبدا لوالد مغتصب الثور ، وبعد أن قتله سلب أمواله ، وبالنسبة لتفاسير القران يعترف صاحب
 
“ 516 “
 
الثور بهذا الذنب ، وفي الرواية أن داود رأى في النوم من يأمره بقتل صاحب الثور فلما علم صاحب الثور بذلك اعترف ( استعلامى 3 / 327 ) لكن مولانا يفصل في القصة بما يتوافق وذوق المريدين . بحيث يطيل في اعتراض صاحب الثور على حكم داود ( الملك النبي ) ، وكان مولانا لم يكن يجد مندوحة في أن يعترض “ متظلم “ على حكم الحاكم حتى ولو كان ذلك الحاكم يجمع بين “ الحكم والنبوة “ وهذه هي روح الإسلام الحقيقية ، كما أن داود عليه السلام كان يعلم سر الرجل برمته ومع ذلك أراد أن ينهى الأمر “ وديا “ لولا أن الرجل بجهله وعناده ولجاجته في الأمر لم يكن بالذي يقبل . فأي علم لهم بما وراء الحجاب ؟
إنهم في هوى أنفسهم الظالمة فكيف يعرفون الظالم من المظلوم ؟ وهذا الموقف من الناس هو الذي جعل داود عليه السلام يقلع عن ستره على الرجل ، فإن الأمر كان يهدد بأن ينقلب إلى “ فتنة “ فها هم الناس بدورهم يعذلون داودا عليه السلام .
 
( 2454 - 2473 ) الفسقة والعجزة هم الذين يفضحون أنفسهم ويعلنون جرمهم على الملأ لأن الله سبحانه وتعالى عندما يسترهم فإنهم يمدون في طغيانهم وفسقهم وفجورهم ، بحيث لا يبقى طي الكتمان وبحيث يستشرى ولا يمكن إخفاؤه والشهود موجودون ، وتشهد اليد والقدم واللسان في الآخرة فقط بل وفي الدنيا أيضا . عندما يعمينا الغضب تكون فرصة الضمير أن يأمر اللسان بأن ينطق ، بل إن الظلم والقسوة التي نرتكبها تأمر الأيدي والأقدام بأن تتحدث وتفشى . وشاهد السر هو الضمير الذي يمسك بزمام الإنسان ويدفعه إلى إفشاء سره بنفسه . فإذا كان هذا الأمر في الدنيا فما بالك بالآخرة ؟ إن الله سبحانه وتعالى يستطيع أن يوكل بك من داخلك من يشهد عليكالْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ( يس / 65 ) إن جوهر الظالم شديد الوضوح ونفسه النارية تشهد عليه أنه ماض إلى النار .
 
“ 517 “
 
ومثاله ذلك العنود اللجوج العاصي الذي ستر الله عليه ، وأبى إلا أن يفضح نفسه . لقد قام بكل هذا العناد من أجل ثور . ففقد كل ماله وروحه . لقد فعل ما فعل بينما كان غلاما لا يعقل ، ولو كان قد تاب واستناب ودفع دية قتيله ، وطلب من الله سبحانه وتعالى أند يدفع الدية لأنه “ عاقلة “ كل القاتلين خطأ منذ يوم ألست “ والدية على العاقلة “ فحوى حديث نبوي والعاقلة هم أقارب قاتل الخطأ من ناحية الأب وعند الشافعي - رضي الله عنه - قبيلة القاتل وعشيرته ( انقروى 3 / 402 - 403 ) لقد كان در الاستغفار والضراعة والاستنابة كافيا لغفران الله ورحمته وستره .
 
( 2488 - 2505 ) إلزامه الحجة : أي إثبات الجرم عليه ، وفي البيت 2490 الدم لا ينام أي لا يبقى الجرم خفيا ، ويفسر في الأبيات التالية كيف يكون هذا :
إن عدالة الله توحى للناس أن يتساءلوا عما حدث وأن يتحيروا وبهذا يظل الدم يفور ، وفوران الدم هو عدم بقاء الجرم خفيا ، وهكذا يسجد الناس لداود متذكرين بهذه المعجزة الجديدة معجزاته السابقة بما يطابق الآيات 247 - 251 من سورة البقرة ، معجزة الحجارة الثلاثة التي كلمت داود وهو راع يرعى الغنم قائلة له خذني من أجل غزو جالوت فحملها في مقلاعه وفتله ، وصنعة الدروع ، وتأويب الجبال ، وهبة الحياة الخالدة أي الحياة الباطنية والروحانية التي هي باقية ببقاء الحق ، ونفس المعنى هو المقصود من “ الحياة الأبدية “ - وحين يموت الظالم تحيا الدنيا ولا يعبد أحد إلا الله بعد الضلال وعبادة الطواغيت ، فالظلم كفر على أساس أنه يؤدى إلى الكفر وإلى الشرك بالله ( مناقب العارفين 1 / 23 ) .
 
( 2506 - 2527 ) هكذا تنتهى القصة ، ويقدم مولانا الدروس الصوفية المستفادة منها أو المستوى الصوفي لها والمراد بالبيت 2506 أن فناء “ الذات “ يؤدى إلى الوجود الحقيقي وفي تلك المرحلة “ الدنيا “ حياة باقية ببقاء الحق والمقصود “ بالسيد “ الروح الباحثة عن الحق في الإنسان والذي ينبغي أن
 
“ 518 “
 
تكون “ النفس “ “ أمة “ لها . . والبيت مناظر للآية الكريمةفَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ( البقرة 54 ) فهذا القتل الباحث عن الله ينبغي أن يكون غالبا ومسيطرا على “ ثور الجسد “ أما الرزق الذي لا تعب فهو الأرزاق - الإلهية والمعنوية التي أعطيت للأنبياء والوصول إلى إلى هذه الأرزاق منوط بصفاء النفس والكنز هو التوفيق في الوصول إلى هذا الرزق ونحن لا نزال في الحياة الدنيا ، ويشير مولانا في بعض الأحيان إلى أن المعاني لا تطيعه فلا بد أنه “ أكل شيئا “ على أساس أن الطعام يمنع من حدة الذهن ، ثم يعود فيقول : إن الأمر ليس مرتبطا بطعام أو شراب لكنها مشيئة الله سبحانه وتعالى “ وحسان العيون “ أي أولئك الذين لديهم بصيرة الباطن ، وهؤلاء لا يتعلقون “ بالأسباب “ لأن فوق الأسباب أسبابا أخرى ، وهم لذلك قائلون بقطع “ الأسباب “ أي الإيمان بأن هناك أسبابا أخرى تحرك أسباب الدنيا ، وإلا فإن كل معجزات الأنبياء لا علاقة لها بأسباب الدنيا : وفي البيت 2521 : إشارة إلى ما روى عن إبراهيم الخليل عليه السلام ، إنه ذات يوم أخذ النمرود في توزيع الأرزاق على الجميع ما عدا إبراهيم فتوجه إبراهيم إلى الله تعالى طالبا منه الرزق ، ثم ملأ جواله بالرمل عند عودته إلى المنزل ، فحول الله الرمل إلى دقيق خبز منه أهل البيت ، ووجد إبراهيم عليه السلام الخبز جاهزا في الصباح ( ماخذ / 110 ) وفي الشطرة الثانية إشارة إلى تحول الصوف إلى وبر في يد موسى عليه السلام وزوجه بينما كان يغزلانه ( ماخذ / 111 )
 أما سنابل القمح دون زراعة فهي إشارة إلى مائدة عيسى عليه السلام ، وفي البيت التالي إشارة أبى لهب ليس المقصود بها الشخص المعروف بل هي هنا علم الكفار ومنكري المعجزة عموما ، وفي البيت 2523 إشارة إلى واقعة محاولة أبرهة هدم الكعبة على ما ورد في سورة الفيل ، وفي 2524 يحلق عاليا أي يسير في عالم الغيب ويأخذ أمره من الحق وإلهامه فيجندل الحصى الصغير الفيل الضخم وفي البيت 2527 إشارة


“ 519 “
 
إلى معجزة لسيدنا موسى عليه السلام الواردة في الآية 67 فما بعد في سورة البقرة حيث أمر الله تعالى بذبح بقرة ثم ضرب القتيل بذيلها حتى يحيا ويدل على قاتله ( انظر كفا في : الكتاب الثاني من المثنوى ص 151 - ص 152 والتعليقات 475 - 476 من نفس الكتاب ) وكل هذه دلائل تدعو إلى رفض الأسباب وقطعها .
 
( 2528 - 2538 ) ما زال مولانا يتحدث عن قطع الأسباب ، إن هذا الأمر ليس موكولا بالعقل الذي يكشف عن الأسباب والعلل ، أو العقل الدنيوي أو العقل المزايد ، والإدراك هذه الحقيقة هنا طريق واحد : العبودية المحضة دون استدلال ، فالفلسفى هو أهل الاستدلال والمنكر للحقائق الغيبية فهو أسير للمسائل العقلية والاستدلالية ، لكن الصفى ذو عقل اخر ، إنه عقل العقل الذي يستمد مداركه من منبع النور والضياء ، فالعقل الدنيوي قشر والقشر لائق بالحيوان والإنسان أجدر باللب ، والقشر باحث عن البرهان ، واللب أو عقل العقل باحث عن اليقين ، والعقل الظاهر همه في تسويد الكتب بالأبحاث والمقالات ، والجدل لكن العقل العارف يمضى في نور من مئات الأقمار والمواجيد الإلهية ، والأسود والأبيض كناية عن مظاهر العالم المادي ، وقيمة كل ما هو موجود في العالم المادي بقدر النور الذي يسطع عليا من عقل العقل ، وكذلك أرواحنا الإنسانية في قيمتها بقدر تقلبلها للنور ومن هنا فالكافرون موتى ( ص / 30 ) لأن أرواحهم بلا نصيب من هذا النور .
 
( 2539 - 2552 ) هنا يحس مولانا أن كلامه باق للأجيال ويستحث نفسه للحديث فكلامه هذا سوف يبقى “ رفيقا للباحثين عن الحق “ كما أن التوراة والإنجيل كانا قبل القرآن مصدقين للقرآن ومؤيدين لهوَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ( هود / 120 ) هذا هو الرزق الذي بلا تعب فخذه ، إنه الأرزاق المعنوية والغيبة التي تصل إلى رجال الحق
 
“ 520 “
 
( انظر الأبيات 2509 - 2513 ) . . إنها تؤدى نفس ما يؤديه الخبز ، هي الخبز الذي بلا مائدة يهبه الله لأوليائه فحسب ، وهي لا تتأتى بالكدح في الدنيا ، بل يعطيها الشيخ لمريديه ، وهو يشبه الشيخ بالنبي داود عليه السلام هو العادل كداود ( كما ورد في القصة المذكورة ) ونفس داود : هو النفس الروحاني لرجل الحق المستند على العلم الإلهى . إن نفس الشيخ هي بمثابة زمردة التي تعمى عين الأفعى ( في المأثور الإيراني أن الزمرد يعمى عين الأفعى ) .
 
( 2554 - 2571 ) يعود مولانا إلى مطابقة أفكاره بالرموز الواردة في القصة فكما كان صاحب الثور كاذبا مرائيا فإن النفس أيضا كاذبة مرائية ، إنها تخدع المدينة بأجمعها إلا الملك ( الشيخ ، المرشد ، داود ) ، إنها لا تستطيع أن تتغلب على العقل إلا إذا وجدت مجالا في وجودك وبقي عقلك غريبا ، هنا تكون كالكلب الذي يبدو على باب صاحبة أسدا ( مثل فارسي عامي ) لكن الأسود الحقيقيين هم سالكو طريق الحق ، واجمتهم هي حضور الشيخ ، والعوام في المدينة لا يعلمون مكر النفس ، وليس لها إلا القلب غريما والعوام جميعهم على صلة بالنفس بشكل أو بأخر يصاحبونها ويبتغون هواها اللهم إلا الشيخ فهو ليس من “ جنس “ النفس وليس رفيقا لها ، “ وكل من يرفعه الله عن مرتبة النفس ويوصله إلى مرتبة القلب لا يصبح بعد من جنس الجسد “ ومراتب الكمال المطروحة هنا هي اللطائف السبعة أو الأطوار السبعة “ الطبع ، النفس ، القلب ، الروح ، السر ، الخفي ، الأخفى “ وهي المراتب التي يقطعها الإنسان ليصل إلى “ مقام القلب “ وليس هذا لكل إنسان ، بل للصفوة ، لأن معظم الناس مرضى من السير وراء العلل والأسباب ، ومن ثم فهم يميلون إلى كل خسيس ظانين أن النجاة في يده ، غافلين عن أنه كالصياد الماكر يصفر للصيد حتى يسقط في شباكه ، إن المطلوب هو الهرب من مثل هذا المدعى ، الذي لا تعرف ضحيته نقده ( أي إدراكه المستقيم ) من نقله ( أي ما ينقله عن الأخرين ويدعى أنه وصل إليه
 
“ 521 “
 
بجهده هو ) المفروض الهرب منه مهما بدا “ معنويا “ أي مهما بدا عالما بالمعاني ومهما تشتدق بالمعاني ، فإن النجاة على يديه هي عين الأسر ، واليقين الذي يتأتى منه هو الشك بعينه ، ومهما كان المرء ذكيا . إن لم يميز “ المدعى “ من “ الحقيقي “ فهو أحمق ، ومن الخير أن تفر من الأحمق .
 
( 2572 - 2601 ) بما أن الحديث يدور عن الحمق والغواية وغلبة هوى الأحمق ونفسه عليه يسوق مولانا حكاية عن سيدنا عيسى عليه السلام ، وكيف فر من الأحمق رغم أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى لأن :لكل داء دواء يستطب به * إلا الحماقة أعيت من يداويهاوالحكاية وردت عند الزمخشري في ربيع الأبرار وكتاب يذكر فيه حماقة أهل الإباحة للغزالي ( ماخذ 112 - 113 ) والأبيات فيما بعد تعتمد على ما روى من معجزات عيسى عليه السلام في القران الكريم وكتب التفاسير وسير الأنبياء وفي البيت 2590 قول منسوب إلى عيسى عليه السلام “ ما عجزت عن إحياء الموتى كما عجزت عن إصلاح الأحمق “ وتنتهى القصة بأن هرب عيسى عليه السلام لم يكن خوفا ، فهو امن بالله سبحانه وتعالى ، لكنه هرب لكي يعلمنا أن نهرب من الأحمق .
 
( 2602 - 2613 ) الحمق هو سبب الكفر ، وهو ليس مقصورا على الأفراد بل قد يكون مرضا جماعيا عند أمة من الأمم ، ويكون منشأه الوصول إلى درجة عليا في الحياة المادية ، وهدا أشبه بما يقال عن نمو الحضارات ووصولها إلى المراتب العليا من الناحية المادية فيغيب الإيمان ، ويتجرأ الناس على الخالق ، فيكون الانهيار المادي نتيجة للانهيار الروحي ، وقد التقط مولانا نموذجا لهذه النظرية من القران الكريم ، حيث قدم قوم سبأ مثالا على الفراغ مع عدم الإيمان والذي يعقبه الانهيار ، وقد بدأ مولانا القصة في البيت 282 ثم تركها إلى البيت
 
“ 522 “
 
364 ثم تركها ليعود إليها هنا عندما جاء سياق الحديث عن العلاقة بين الحمق والكفر ، ويقدم مولانا فيما بعد نماذج عن نزول الأنبياء في قوم أثقل الترف نفوسهم وختم على قلوبهم وأبصارهم فجرأهم على الجدل وأفشى بينهم المنطق الأرضي فختم الله على سمعهم وعلى أبصارهم وعلى قلوبهم غشاوة فهم لا يعلمون . وفي البداية يقدم مولانا مفارقة عن طريق قصة من قصص الأطفال . .
وكم في قصص الأطفال من عبر ومواعظ ، فكأن سبأ بكل ما فيها من فراغ هي البلدة التي وردت في قصة الأطفال التي يسوقها ، وكأن أهلها قد تلخصوا في هؤلاء الأشخاص الثلاثة الذين يرمزون إلى ما في البشرية من داء عياء ، وكأن الله سبحانه وتعالى أجرى على ألسنة الأطفال وهم صغار العقول ما يدل على هؤلاء الحمقى الذين بلغوا الغاية من الترف المادي ، ويرى يوسف بن أحمد أن المراد بالبلدة الإنسان وسكان المدن العشرة هم الحواس الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة والخلق هم القوى الجسمانية والتقوى الروحانية والأعمى حاد البصر هو الحرص وسليمان الحقيقة ورجل النملة الدنيا ، أما الأصم حاد السمع فهو الأمل والعريان الكاسى هو حب المال والطير السمين النحيل هو الدنيا ، أكلوا منه وهو ميتة مصداقا لقول الرسول ، : “ الدنيا جيفة وطلابها كلاب “ وظنوا أنفسهم قد تضخموا لكنهم مضوا من فرجة باب الموت وهي خفية وظاهر والزفاف هو الموت لأنه عودة الروح إلى أصلها ( منهج 3 / 351 - 353 ) ، وهناك تفسيرات أخرى ستأتي خلال عرض الأبيات .
 
فالمدينة العظيمة الواردة في البيت 2604 هي الوجود المادي وهو في نظر أهل الدنيا عظيم جداً وضخم في حين أنه في نظر أهل الحقيقة صغير جداً لا يعدو حجم الفنجان وفي البيت 2608 تبلغ بنا هذه التناقضات إلى أن أفراد الكائنات في هذه الدنيا بلا وجود حقيقي ، وهو مع هذه الكثرة لا شئ ، ماله وجود هنا هو الشهوة والحرص والغرور أو الادعاء وهم لم يغسلوا وجوههم أي ليسوا جديرين
 
“ 523 “
 
بحضرة الحق سبحانه وتعالى ، وفي البيت 2609 يعود فيقول : إن الخلائق على كثرتهم لا وجود لهم فالحرص والشهوة والغرور تظهر أنفسها منهم في كل أن ، 2610 فكل هذه النفوس لو أنها لا تسير إلى الله فهي لا تساوى لو كانت آلاف فهي لا تساوى نصف شخص وفي 2612 يصف الشهوة التي تسمتع إلى كلام أهل الدنيا جيداً لكنها صماء عند سماع أسرار الغيب ، ولا يساوى سمعها الحاد شيئاً . أما في البيت 2613 فالعارى هو الغرور أو المغرورون يظنون أنفسهم يملكون كل شئ لكن كل ما لهم لا يمكن أن يكون لباساً فوق الروح الباحثة عن الله تعالى هو فقط ذيل سابغ للثوب يعوق السير إلى الله ( استعلامى / 334 ) .
 
( 2614 - 2619 ) في هذه المدينة العظيمة التي لا تعدو فنجانا صغيراً في نظر أهل الحقيقة فإن الحرص والشهوة والغرور يتحدث بحديث لا علاقة له بالواقع وهو من نتاج الخيال الباطل عندها ، وهي تستمع من أنفسها لهذه الأباطيل وتصدقها وتخاف وتهرب من المدينة .
 
( 2620 - 2629 ) إن الحرص والشهوة والغرور ، هي رفاق تخاف من كل شئ بل يخاف كل واحد منها من الآخر ، تفر من مكان إلى اخر ، لكن ما تجده في الحقيقة لا شئ ، فالمدينة هي الأوضاع المساعدة في هذا العلم ، وهؤلاء الأصدقاء الثلاثة يهربون منها إلا ما لا يساوى قربة ، فالطير السمين هو لذات هذه القرية وهو يرضى الأصدقاء الثلاثة لكنه لا يزيد عن جلد وريش وعظامه أشبه بالأغصان الجافة ، واللذة التي تحدث من طيبات “ المدينة العظيمة “ كلها باطلة ، ومع كل هذه “ السمنة “ المتخيلة المظنونة يعبر الأصدقاء الثلاثة من طريق الموت بسهولة ، وكم يمر به من حفلات الزفاف أي انتقال الروح من غربتها إلى موطنها الأصلي .
 
( 2630 - 2635 ) يفسر مولانا في هذه الأبيات رموزه أن هؤلاء الأشخاص
 
“ 524 “
 
الثلاثة هم : الشهوة وهي صماء والحرص وهو أعمى والغرور الذي يخشى أن يسلب ثوبه بينما في الحقيقة عار ، ثم يقول : إن الشهوة معنا حتى الموت دون أن تعلم أنها هي نفسها إلى موت ، والعاري : هو ادعاء الإنسان الأجوف الذي يظن أن لديه ما يسلب ويخاف عليه من كل الناس ، ورجل الدنيا هو من يتصف بهذه الصفات الثلاثة .
 
( 2636 - 2643 ) إن الروح لتضحك عندما تسمع النواح عند الموت لأنها تعلم أن الموت هو تحرر للروح من الحرص والشهوة والغرور وفي البيت 2638 يشبه التعلق بالدنيا عندنا بحالة طفل يملأ حجرة بقطع الفخار والحصى وهو مثل تردد كثيراً عند مولانا ( أنظر 2245 - 2282 ) ويستخدمها في ألعابة كفضة وذهب ، وهكذا هو فلا دثار له من العلم ، وهكذا أيضاً يكون الغنى الذي يظن نفسه مالكاً لما في يده بينما هو في الحقيقة مستخلف فيه مبتلى به لينظر الله تعالى ماذا يكون سلوكة فيما استخلف فيه ، فأهل الدنيا في نوم الغفلة ، وشاد الأذن “ هو القدرة الإلهية توقظنا من حلم الدنيا “ ( انظر تعليقات البيت 1735 ، الدنيا كحلم النائم ) .
 
( 2644 - 2658 ) لقد مر الحديث عن المدينة العظيمة جداً التي تبدو هكذا لأنظار أهلها لكنها لا شئ ، وعن أهل هذه الدنيا المفلسين الخائفين من اللصوص كالأطفال الذين يملأون حجورهم بالحصى ، ويتحدث هنا عن علماء الدنيا : وهو يسخر منهم بأنهم “ عقلا ذوو فنون “ ، ومن هنا قال عنهم الله تعالى : أنهم لا يعلمون . . إن هؤلاء يشكون دائماً من الناس ويقول أحدهم : إنهم “ يسرقون وقتي “ في حين أن وقته كله لا نفع فيه ، إنه أشبه بالعريان الذي تؤرقه الخشية من سرقة ثوبه ، إن علمه كله خارج ذاته ، ماذا يجديه أن يعرف مئات الآلاف من الفصول دون أن يعرف نفسه ؟ ماذا يجديه لو عرف خاصية كل جوهر وهو لا يدرى شيئا عن جوهره هو ؟ وعلماء الشرع هؤلاء علماء الظاهر الذين يفنون


“ 525 “
 
الوقت في الجائز أو غير الجائز دون أن - يدرى أحدهم ، هل هو نفسه جائز أو أنه في حضرة الحق شيخ مهدم فان لا يتأتى منه أي شئ . . وعالم النجوم الذي يعرف مطالع السعد ومطالع النحس دون أن يعرف هل هو جدير بحضرة الحق أم لا وروح العلوم كلها هو معرفة النفس : لأن من عرف نفسه فقد عرف ربه ، ومعرفتك لنفسك أهم من معرفة الأصوليين “ أصول الفقه وأصول الكلام “ ومعرفة النفس أهم ، لأن فيها النجاة ، فقلل من فخرك بالعلوم الظاهرة ، وتدرك قيمة اللامتناهى في الحقارة أمام اللامتناهى في العظم وهذا هو لب المعرفة .
 
( 2659 - 2670 ) يعود مولانا إلى قصة أهل سبأ : بدأها في البيت 282 ثم تركها ، ثم عاد إليها في البيت 2602 وتركها وها هو ذا يعود إليها والمقصود من يفرون من أسباب اللقاء : أي السبل الموصلة إلى معرفة الحق ، ويعدد مولانا فيما بعد ذلك من أسباب مظاهر الغنى عند قوم سبأ على ما ورد في كتب التفاسير ويضيف إلى أن النعمة لم تكن نعمة مادية فحسب ، بل كانوا إلى جوار ذلك يتمتعون بالنعمة الثانية وهي نعمة “ الأمن “ فما فائدة الغنى إذا كان المرء غير امن على نفسه أو ماله ؟ وفي الإسلام نعمة المال مقرونة دائماً بنعمة الأمن “ أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف “ ثم يمنع مولانا نفسه عن الاسترسال في الحديث عن نعم القوم ، لأن هذا قد يمنعه عن الحديث في الموضوعات المهمة وبخاصة أن الأمر الإلهى ورد بلزوم الاستقامة ، والاستقامة هي القصد .
 
( 2671 - 2678 ) حدد عدد الأنبياء الدين جاءوا إلى سبأ بثلاثة عشر نبيا بناء على رواية أبى الفتوح الرازي في تفسيره ، والنعمة والشكر مرتبطان أشد الارتباط ، فلا نعمة بلا شكر ، ولا شكر بلا نعمة ، وإلا فغضب الله سبحانه وتعالىلَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ( إبراهيم / 7 ) وهؤلاء المرفهون يحسون علل النعمة الذي يسلب منهم الشكر عليها والغول في مصطلح مولانا هو الذي يضل المرء في بيداء الغفلة ولا يزال يناديه بصوت يشبه صوت صديق أو حميم حتى يضله “ أشبه بالنداهة في المأثور الشعبي المصري “ . . لقد بلغ بهم الملل مبلغه بحيث إن النعم المتصلة لم يعد لها طعم في
 
“ 526 “
 
أفواههم ، وبحيث ضلوا عن منبعها وفي الأبيات بعض ما ورد في تفسير أبى الفتوح الرازي ، “ كفروا وقالوا لا نرى لله نعمة علينا ، ولو كانت النعمة منه ، قولوا له أن يأخذها منا “ ( ماخذ / 113 ) .
 
( 2679 - 2690 ) من هنا فصاعدا يطرح مولانا مناقشة قوم سبأ للأنبياء ومن خلالها أيضاً يسوق مولانا الحديث إلى مريديه ، ويدور الحديث هنا عن الروح المريضة التي لا تجد في نفسها ميلا إلى الحق ، والتي طمست النعمة والرفاهية الجسدية طرقها إلى السمو والعلو ، فهي تزهد ما في يدها ، وتتوق إلى ما ليس في يدها مهما كان تافهاً وحقيراً ، فهي من مرضها تظنه عظيماً ، هو الشذوذ إذن الذي تبتلى به النفوس التي عبت من الرفاهية والرخاء ما شاء لها أن تعب حتى لا ينقلب الموت إلى حياة ، إذ لا تجد هذه الروح المريضة شيئاً تدمره فتدمر نفسها . . فكل ما تحصل عليه ينقلب داخلها إلى أداة تدمير ، وكل ما يصل إلى يدها تزهده وتتوق إلى ما وراءه ، هي إذن تلك الحمى التي تنتج من اعتبار المادة هي غاية المنى ومنتهى الأمل ، أترى مولانا كان يستشرف من خلال قصة قوم سبأ ما نشاهده الآن من أمراض في الحضارة الغربية يرى اشبنجلر بفكرة المصير بدلًا من العلية ، إذ إن المصير يعبر عن جزع الروح لما يهدد جوهرها أو كيانها أو تفاعلها ، من أجل إثبات الذات وفي ذلك تعبر عن الحياة ولا يمكن إدراك فكرة المصير إلا بالتجربة الحية فلا يمكن تعرفها بمنطق العلم ، ولا يعبر عن سياق التاريخ في نظر اشبنجلر إلا غير المصير ويسرى على الحضارات ما يسرى على الكائنات العضوية تنبت وتنضج وتذبل وتفنى ، وأهم ما في نظرية اشبنجلر مما ترهص به أفكار مولانا أن القوة الروحية أساس رئيسى من أسس الحضارة وإن للحضارة إمكانات خارجية وإمكانات باطنية وحين تبلغ الحضارة غايتها خارجياً ينضب دمها وتتحجر قواها ، وخريف الحضارة هو فترة مدن باقية وتجارة منتشرة وملكيات مركزية وفيه يبدو انحلال الدين وفقر الحياة الداخلية ، كما أن العقلانية والتنوير علاقاته بظاهره ثم تنحدر الحضارة إلى الشفاء الذي يتمثل في ذبول الإبداع الفنى والذهني وموت الدين وظهور
 
“ 527 “
 
الشك والمادية المفرطة وعبادة العلم بقدر فائدة العلم وهي أمور يبديها مولانا هنا في مناقشة أهل سبأ للأنبياء وشكهم وظهور الملل من الترف المادي الزائد .
“ لآراء اشبنجلر أنظر : مصطفى النشار : فلاسفة أيقظوا العالم 307 - 323 ( القاهرة دار الثقافة 1981 ) وأنظر أيضا عبد الرحمن بدوي : اشبنجلر القاهرة النهضة المصرية طبعة 1945 م - واشبنجلر : تدهور الحضارة الغربية - الترجمة العربية لأحمد الشيباني : الجزء الأول : دار مكتبة الحياة :
بيروت - بدون تاريخ “ .
 
( 2691 - 2701 ) يدور الحديث حول نوعين من العلاقة : أحدهما بين عقلين طالبين للكمال ، وفيها الصفاء والنور المعنوي ، وهي تتوطد وتزداد أو اصرها بمرور الوقت ، هي “ الولاء “ والثانية بين النفوس الإنسانية تقوم على أسس مادية وهي تقل لحظة بلحظة ، وعندما تكون النفس مريضة تفسد العلاقة وتسوء المودة ، وفي هذه الحالة تسمم كل ما تلمسه بيدك حتى الفنون وحتى الشعر بيدو لك كل ما تقوله ثقيلا ممجوجا مبتذلًا “ ميل الحضارات في أفولها إلى كل غريب وعجيب من الفنون مللا من كل ما هو سائد “ وكل هذا من العلة والمرض - فإن شفيت من العلة والمرض ، أي التخمة وعبادة المادة ، فإن كل قديم سوف يبدو أمامك جديدا سوف ينقلب الوجود إلى جمال في عينيك . انظر إلى الجذر القديم في الحفرة : أليست تنبت منه في كل أن أوراق خضراء وبراعم وزهور ؟
 
( 2702 - 2711 ) إن الأنبياء والأولياء أهم أطباء هذه العلة ، وهم الذين ينشق البحر لهم ( إشارة إلى معجزة موسى عليه السلام ) وهم غير الأطباء الطبيعيين الذين يعرفون أحوال المريض عن طريق النبض ، لأنهم ينظرون إلى القلب دون واسطة “ واعلم أنه كما يقال في الطبيب إنه خادم الطبيعة ، كذلك يقال في الرسل والورثة إنهم خادموا الأمر الإلهى في العموم . فالرسول والوارث طبيب أخروي للنفوس منقاد الأمر الله حين أمره فينظر في أمره تعالى وينظر في إرادته تعالى فيراه قد أمره بما يخالف إرادته ولا يكون إلا ما يريد ولهذا كان


“ 528 “
 
الأمر ، فأراد الأمر فوقع “ محيي الدين بن عربى - فصوص الحكم - 97 - 98 شرح أبو العلا عفيفي - دار الكتاب العربي ببيروت - بلا تاريخ “ تاريخ المقدمة 1946 ) ، لأن لديهم فراسة من الحق سبحانه وتعالى ، أولئك هم أطباء الغذاء وعلل الجسد ، أما الأولياء فهم أطباء الفعال والمقال ، وهم يعالجون بنور الله سبحانه وتعالى ، أولئك يلاحظون البول ويستنتجون منه ، وأما هؤلاء فوسيلتهم إلهام الله تعالى وهم لا يريدون أجراإِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ( هود 29 ) . . وهم يدعون إليهم المرضى . وليسوا مثل الآخرين يذهب المرضى إليهم ، فإن مرض القلب مستتر حتى على صاحبه .
 
( 2712 - 2734 ) إن المنكرين في كل عصر وزمان لا ينظرون إلى هؤلاء الأطباء من الأنبياء والأولياء إلا نظرتهم إلى كل إنسان أنه جسد “ يأكل الطعام ويمشى في الأسواق “ ولا فرق هناك بينهم وبين غيرهم من المرضى ، “ “ فليرعوا “ إذن في هذا المرعى “ ويعيشوا “ دون أن تشغلهم هذه الأمور ، إن المتعة جاهزة فلماذا لا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ؟ ويرد الأنبياء : إن كلامكم هذا هو ناشىء من العلة ، إنهم لا يرون جوهر النبوة ، وهذا من العمى ، إن الشمس هي الدليل على وجود الشمس ، ولو تحدثت لقالت لك : انهض لقد طلع النهار و “ الصباح أغنى عن المصباح “ . وكل من يطلب في الصباح مصباحا إنما يقدم الدليل على عماه . فإذا كنت لا ترى لكنك تظن أن هذا الكلام حقيقي فاسكت حتى يأتيك الفضل من الله سبحانه وتعالى ، فالصبر والصمت سبيلان إلى الرحمة . فإذا كنت في أثر الدليل فمعناه أنك عليل ، واستمع وانصتوَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَضح بمالك وبروحك أمام رجل الحق حتى لا تنتكس ، وضح بنفسك وبعلائقك في سبيل الطريق إلى الله ولا تنبس ببنت شفة ، فإن رضى هؤلاء الأطباء عنا ، فسوف نعرف “ أنفسنا “ وأننا “ لا شئ “ أمام عظمة الوجود ، هؤلاء الأطباء لا يشفون الناس من لدن أنفسهم أو الجانب البشرى فيهم ، بل هي هداية من الحق .
 
“ 529 “
 
( 2735 - 2755 ) يرد المنكرون : ما هذا إلا مكر واحتيال ، فمتى ينيب الله عنه بشرا عاديين ، ونائب الحق ينبغي أن يكون من جنسه لا من الماء والطين ؟
أين أنتم من الله ؟ وأين البعوضة من العنقاء ؟ وأين الهباء من الشمس ؟ 
إن هذا أشبه بما ورد في كليلة ودمنة من قصة الأرانب والعين التي كان القمر يظهر فيها ، وكيف احتال الأرانب لإبعاد الفيلة ، وكيف أن أحد الأرانب ادعى أن رسول القمر الذي في البئر إلى ملك الفيلة وكيف أن صورة القمر في البئر واهتزازها من اهتزاز الماء قد خوف ملك الفيلة فجلوا عن العين ، 

وها هم المكرون يقولون : نحن لسنا من الذين يخافون من وهم ( يقول الملحدون المعاصرون كالقدماء تماما : إن الإيمان بالألوهية نوع من الوهم باق من طفولة البشرية ) .

.

حكاية ذلك الذي كان طالبا للرزق الحلال على منتدى إتقوا الله ويعلمكم الله

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: