السبت، 29 أغسطس 2020

16 - الهوامش والشروح 1263 - 1738 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

16 - الهوامش والشروح 1263 - 1738 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

الهوامش والشروح 1263 - 1738 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

شرح جلوس الشيطان في مقام سليمان عليه السلام وتشبهه في أعماله
بسليمان عليه السلام ، والفرق الظاهر بين السليمانية - الحقيقية )
وبين السليمانية الإسمية التي قام بها الشيطان

( 1263 - 1286 ) يستمر مولانا جلال الدين في مواصلة الحديث عن هذا الموضوع المحبب إليه . . إن التشابه في الهيئة لا يعنى التشابه في الباطن ، وأن التشبه لا يعنى بالمرة تغير الجبلة والطبيعة ، وإن الناس وإن تشابهوا في صورهم ، إلا أن القلوب تختلف اختلافا بينا ، وها هو يعود إلى قصة جلوس الجنى صخر على عرش سليمان عليه السلام وتشبهه به ، إلا أن الشيطان يظل شيطانا . . ولا يعنى تغير الصورة أن يتغير الباطن ( واردة في قصص الأنبياء ) ( عن مآخذ / 137 )

ففرق بين يقظ القلب والضمير ومستنير الباطن بنور الله ، ومجىء الصورة باهرة تخفى خلفها طبيعة شيطانية ، إن الازدواجية في الشخصية من الموضوعات المحببة عند مولانا جلال الدين والزيف في المظهر والذي ينبئ عنه المخبر ويفضحه ، ذلك النموذج الفذ في الأدب العالمي فيما بعد جلال الدين بمئات السنين عند فاوست جوته وصورة دوريان جراى لاسكار وايلد وعشرات من الشخصيات في الآداب العالمية ذات الظاهر الذي يقوم به المرء والذي يفضحه في نفس الوقت ، لأن المتظاهر يبالغ في الحقيقة فيفضح نفسه ،

« 458 »


دون أن يدرى ، وكلما جاهد الجنى في تقمص شخصية سليمان ازداد الخلق شكا ، إنه محروم من ذلك الصفاء ، إن الفرق بينه وبين سليمان مثل ذلك الفرق الشاسع بين الوزير أبى الحسن الجواد والوزير الآخر أبى الحسن البخيل ، ثم إن الشيطان يسقط على نفسه ، إنه يجسد سليمان الحقيقي ، فيقول للناس سوف يظهر شيطان على صورتي فإياكم أن تنخدعوا به ، وما يجول هذا الخاطر أبدا بخيال من تزين بالصفاء ، لقد فضح نفسه بنفسه ، ثم اعترف بلسانه ، لقد فهمه الطيبون والمستنيرون ويخاطبونه : إنك تخاطبنا تقصد شيئا ، لكن ما يصل إلينا هو عكس كلامك تماما أي الحقيقة التي تحاول أن تفر منها فتظهرها :

إن سليمان الحقيقي الظاهر بين وإن كان سليمان الحقيقي في الأسمال فإن نور الملوكية

( الإلهية ) ساطع من جبهته ، ومهما تظاهرت أيها الشيطان بالفخامة ، ومهما أسبغت على نفسك من مظاهر السلطنة وأبهتمها ومواكبها ، فأنت لا شئ ، لا طاعة لك علينا ، وحتى إذا أردنا أن نركع لك غفلة ، فإن يدا سوف تظهر من الأرض تمنع جباهنا من السجود لك ، وفي هذه الحالة سوف تفضح ويفتضح إدبارك . .
ويحس مولانا جلال الدين أن الفكرة لا تزال غامضة إلى حد ما . .
كيف يستطيع الخلق أن يطلعوا على الباطن وأن يكتشفوا الزيف من الحق . .
وأن يميزوا بين الخبيث والطيب . . يجيب إنه لو لم يخش من الغيرة الإلهية على كشف الأسرار لتحدث في هذا الموضوع واستفاض ، لكنه يرجىء هذا الأمر إلى وقت آخر . .
لقد سمى نفسه سليمانا النبي ، لكنه كان يحتال من أجل أن تخيل حيلته على كل صبي ، فدعك أيها المريد الطيب من الأسماء ، لا يغرنك فلان المشهور أو فلان الوزير أو فلان المفكر دعك من الأسماء ودعك من الألقاب وابحث عن العقل والمعنى .

( 1287 - 1300 ) أصل هذا الجزء من حكاية سليمان عليه السلام والمسجد الأقصى ورد في مصادر عديدة . . كانت الشجرة تنبت في محراب سليمان النبي

« 459 »

عليه السلام وتكلمه بلسان ذلق فتقول : أنا شجرة كذا وفي دواء كذا فيأمر بها سليمان فيكتب اسمها ومنبعها وصورتها وتقطع وترفع في الخزائن حتى كان آخر ما جاء منها الخروبة فقالت : أنا الخروبة فقال سليمان الآن تعيت لي نفسي وأذن في خراب بيت القدس ( قصص الأنبياء للثعالبي ص 275 مآخذ / 138 ) ويعلق مولانا بأن الوحي أصل العلوم وإلا فهل يستطيع العقل الجزئي أن يكتشف ما لا سبيل إليه إلا به ؟ والثابت أن الأصول الأولى للعلوم مجهولة ، وأن الناس في العصور القديمة كانوا يقولون عن بعض كبار العلماء أنهم أنبياء بل كانوا يألهون بعضهم وربما نبعت الفكرة من هنا ويفسر عبد الباقي ( 209 / 4 )

بأن رأس أرباب الفتوة إدريس النبي وصناعة الدروع من الحديد داود وصنعة
( وعلمناه صنعه لبوس لكم ) النسيج للنبي شيث بل والزراعة لآدم ، لكن مولانا لا يقف عند هذا الحد ، فإذا كان العلم يبدأ بالأنبياء إلا أن البشر بالتجربة يطورونه وبالعقل يزيدون عليه . .
ولا يمكن للعقل الجزئي أن يتعلم حرفة دون أستاذ فهو قابل ومتلق . .
ولا يمكن أن تحصل حرفة دون أن يقوم أستاذ بتعليمها ، ولو كان الأمر غير ذلك لاستطاع العقل وحده أن يكتشف حرفة .

( 1301 ) كمثال يقدم مولانا جلال الدين نموذجا من قصة مصرع هابيل على يد قابيل ، وكيف أنه بعد قتله لم يستطع أن يوارى الجثة التراب لأنه لم يكن يعرف صنعة حفر القبور ( على بساطتها ) «فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ» ( المائدة : 31 )
وقد خاض المفسرون كثيرا في هذا الموضوع فليطلب من مظانه ، وثمة تفسير آخر صوفي قدمه مولانا نجم الدين كبرى جدير بالذكر : إن آدم الروح بازدواجه مع حواء القالب ولد قابيل النفس وتوأمته إقليما الهوى في بطن أولا ثم ولد هابيل القلب وتوأمته لبودا العقل وكانت إقليما الهوى في غاية الحسن في نظر قابيل النفس لأن النفس به تميل إلى الدنيا وما فيها وهي مزينة وفي نظر هابيل القلب أيضا لأن القلب به يميل

« 460 »

إلى طلب المولى وما عنده وهو محبب إليه ، وكانت لبودا العقل في نظر هابيل القلب في غاية القبح والدمامة لأن القلب يغفل به عن طلب الحق وأيضا في الله ولهذا قيل العقل عقيلة الرجال وفي نظر قابيل النفس أيضا في غاية القبح لأن النفس به تغفل عن طلب الدنيا والاستهلاك فيها فالله تعالى حرم الازدواج بين التوأمين كليهما وأمر بازدواج توأم كل واحد منهما إلى توأم الأخرى لئلا يغفل القلب عن طلب الحق بل يحرضه الهوى على الاستهلاك والفناء في اللهو لهذا قال بعضهم ولولا الهوى ما سلك أحد طريقا إلى الله ، فإن الهوى إذا كان قرين النفس يكون حرضا فيه وينزل النفس إلى أسفل سافلى الدنيا وبعد المولى وإذا كان قرين القلب يكون عشقا فيه يصعد القلب إلى أعلا عليى العقبى وقرب المولى ولذا سمى العشق هوى

كما قال الشاعر :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى * فصادف قلبا فارغا فتمكنا
ولتغفل السعي عن طلب الدنيا يحرضها العقل على العبودية وينهاها عن متابعة الهوى فذكر آدم الروح لولديه ما أمر الله ،
فرضى هابيل وسخط قابيل النفس وقال هي أختي يعنى إقليما الهوى ولدت معي في بطن وهي أحسن من أخت هابيل القلب يعنى لبودا العقل وأنا أحق بها ونحن من ولادة جنة الدنيا وهي من ولادة أرض العقبى فأنا أحق بأختى فقال له أبوه : فإنها لا تحل لك يعنى إذا كان الهوى قرينك تهلك في أودية حب الدنيا وطلب الدنيا لذاتها وشهواتها فأبى أن يقبل قابيل النفس هذا الحكم من آدم الروح
وقال : إن الله لم يأمره به وهذا من رأيه فقال له آدم الروح فقربا قربانا فإنه من يقبل قربانه فهو أحق بها فخرجا لتوهما وكان قابيل النفس صاحب زرع يعنى مدبر النفس النامية وهي القوة الثابتة فقرب طعاما من أردى زرعه وهو القوى الطبيعية وكان هابيل القلب راعيا لمواشى أخلاق الإنسانية وصفات الحيوانية فقرب فحلا يعنى صفة البهيمية وهي أحب الصفات إليه لاحتياجه لها لضرورة التغذى والبقاء ولسلامتها بالنسبة إلى

« 461 »

الصفات السبعية والشيطنة فوضعا قربانهم على جبل البشرية ، ثم دعا آدم الروح فنزلت نار المحبة من سماء الجبروت وأكلت حمل صفة البهيمية لأنها حطب هذه النار ولم تأكل من قربان قابيل النفس لأنها ليست من حظها بل هي حطب نار الحيوانية فطوعت نفس قابيل النفس قتل أخيه وهو القلب لأن النفس أعدى عدو للقلب فقتله فأصبح من الخاسرين يعنى في قتل النفس خسارة النفس في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فتحرم من الواردات والكشوف والعلوم الغيبية التي تنشأ من القلب وعن ذوق المشاهدات ولذة المؤانسات فيبقى في خسران جهولية الإنسان ، وأما في الآخرة فيخسر الدخول في جنات النعيم ، ( مولوى 4 / 179 - 180 )

وهناك تفسير آخر قدمه الفيلسوف الشهير الدكتور على شريعتي ويعد من أحدث التفاسير على القصة « من قصة ابن آدم يمكن فهم أول حرب وتناقض في حياة الإنسان على وجه الأرض ومن قصة قابيل وهابيل يمكن استنباط فلسفة التاريخ فقابيل بسبب مسألة جنسية هي عشقه لجمال أخته التي كانت خطيبة أخيه هابيل قام بأول ذنب وحقد وقتل للبشر وخيانة لأخيه وعصيان لأبيه وذنب أمام الله ، فمن بين ابنتي آدم تصير الأجمل خطيبة لهابيل ، ولا يقبل قابيل ويرفع آدم قضية الأخوين إلى حكم الله ، فيأمر بأن يقدم كل منهما قربانا إلى الله وأيهما يقبل قربانه سوف يكون هذا دليلا على حكم الله وعلى الآخر أن يقبله وقبل الأخوان ،
كان هابيل راعيا فاختار أفضل إبله الذهبية الغالية القوية ، وكان قابيل زارعا فقرب إلى الله حفنة من القمح المصفر العطن من مزرعته ، وواضح أن قربان هابيل الذي لم يدع حق أحد ولم يفكر في المال في سبيل إيمانه وقرب إلى معبوده أغلى وأعز ما عنده قد قبل ،
وفي نفس الوقت لم يستسلم قابيل وتمرد على حكم الله الذي لم يكن في صالحه ، وواصل تمرده في اعتدائه وقال هابيل : إني سلمت لحكم الله ولئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا باسط إليك يدي لأقتلك ولن أفصم عرى الأخوة

« 462 »

بيننا ، لكن قابيل قد جن جنونه استدرج هابيل إلى الخلاء وقتله خفية ، وسفك دم إنسان على يد إنسان لأول مرة على وجه الأرض : هذه القصة كما رويت تفهم غالبا على أنها حادثة تاريخية ونزاع بين أخوين حول شهوة ، وخبث جبلة قابيل وطهر جبلة هابيل . . إلى آخره في حين أن جبلة كل منهما واحدة ، كلاهما ولد من أب واحد وأم واحدة وربى في بيئة واحدة وعلى يد مرب واحد لم يكن المجتمع قد تكون بعد وتحول إلى البيئات المختلفة حتى تربى كل واحد بطريقة ،
وأولئك الذين قاموا بتحليل هذه القضية علميا ومنطقيا أرادوا أن يستنبطوا هذا المبدأ الذي يريد أن يقول : إن الشهوة أو الغريزة الجنسية هي السبب الرئيسي وعلة العلل في الجريمة والذنب وأن أول دم سفك في التاريخ كان من جراء الشهوة ،
هذا صحيح لكن هذا السؤال بقي بلا جواب وهو : لماذا يسقط قابيل فريسة للشهوة ولا يؤثر هذا العامل القوى على هابيل ويدفعه إلى الخيانة وسفك الدماء وقتل أخيه وارتكاب الذنب ؟
ففي هذين الأخوين العدوين ذات واحدة ولهما أب واحد وأم واحدة وبيئة تربية واحدة وبيئة طبيعية واحدة ومدرسة تربوية واحدة وتجربة كليهما واحدة فمن أين هذا التضاد في الخلق والجبلة والسلوك ؟ من هنا ينبغي من الناحية العلمية أن نبحث عن عامل يفسر هذين الشخصين المتناقضين ، . .
عامل لا يكون مشتركا بينهما وبالبحث نرى أن العامل غير المشترك في سيرة هذين الأخوين هو نوع العمل ووضع الحياة الاقتصادية لكل منهما فأحدهما راعٍ والآخر زارع ، وهذا الاختلاف جدير جدا بالتأمل . . ماذا يعنى الإنسان الراعي ؟ يعنى إنسان عصر سكنى الخيام والقبيلة إنسان بدائى ،
أي إنسان المرحلة التي لم تكن فيها الملكية قد ظهرت بعد ، مرحلة أن البشر يعيشون فيها جماعات في أحضان الطبيعة ويأكلون من مائدة الطبيعة العامة ، كان صيد البر والنهر والغابة هو مصدر الإنتاج ، ولما كان مصدر الإنتاج في الطبيعة السخية البكر موجودا بالتساوي تحت سيطرة الأفراد ، لم تكن

« 463 »

الملكية بالطبع موجودة إلا من مصادر الإنتاج الموجودة في الطبيعة ، لم تكن الملكية بمعنى احتكار فرد لمصدر الإنتاج وحرمان الآخرين فيه موجودة ، وكان المجتمع ينقسم إلى أفراد لا إلى طبقات فالطبقات الاقتصادية تتشكل على أساس الملكية والملكية أو احتكار مصادر الإنتاج تظهر عندما تصبح مصادر الإنتاج محدودة وهذا عندما يتحول شكل الإنتاج الاقتصادي من الصيد والرعى إلى الزراعة ،
وهابيل راعى أي إنسان مرحلة الحرية وتحرر الإنسان من الأرض أي الإنسان الذي ينتمى إلى مجتمع بلا طبقة ، الشركة الأولى ، العصر الذي كانت فيه الطبيعة العظيمة ملكا للمجتمع ملكا لكل من يعمل فيها ،
وقابيل زارع أي أن إنسان مرحلة السكنى وارتباط الإنسان بالأرض أي إنسان المجتمع الطبقي ، والملكية الفردية والاحتكار ، والامتلاك والحرمان ، استغلال الفرد للفرد ، تسلط الإنسان على الإنسان . . يدخل الإنسان مرحلة تاريخه الحاضرة بموت هابيل » ( على شريعتي : العودة إلى الذات الترجمة العربية لكاتب هذه السطور ص 346 - 350 بتصرف الزهراء للإعلام العربي - القاهرة 1986 ) .

( 1307 - 1314 ) ها هو قابيل بعد أن رأى الغراب يدفن الغراب الآخر ، يعيب على عقله . الجزئي يا ويلتا . . شاه هذا العقل ! ! أيكون غراب أكثر منى علما . . هذا هو العقل الجزئي . . إياك أن تغتر به فقد يتفوق عليه فيه حيوان ، ويتلاعب مولانا جلال الدين بين عقل الزاغ ( نوع من الغربان شديد السواد اللون والكلمة عربت أيضا فيقال أسود من جناح الزاغ ) وعقل ( ما زاغ ) إشارة إلى الآية الكريمة ( ما زاغ البصر وما طغى ) وإنه هو العقل الكلى ، عقل المعاد ، عقل الروح . .
الذي لا يُعلم ، بل يأتيه العلم اللدني الذي يقذف في القلب إن هذا العقل في تفسير لنجم الدين : ما مال ببصره عن مرتبة المقصود له وما التفت إلى الجنة وزخرفها ولا إلى النار ومتاعبها وما طغى قدمه عن الصراط المستقيم ( مولوى 4 / 181 )
هذا العقل هو نور الخاصة خصهم به ربهم ، حتى لا يطيروا

« 464 »

خلف كل ناعق من غربان النفس فتحملهم نحو الجبانة ( الدنيا فكل ما فيها إلى موت وإلى فناء ) . لا نحو الجنان فإن النور الإلهى هو الذي يحمل إليها . .
فإذا كنت مستهديا فاستفت قلبك ولو أفتاك المفتنون ، فإن كانت النفس على مثال زاغ ، فإن القلب هو العنقاء . . يأخذك هاديا إلى المسجد الأقصى . .
والعنقاء هو المرشد يحلق عاليا بالمريد في سماوات لا يستطيع أن يحلق فيها وحده كما أنه هو الذي يستطيع أن يتبع كل ما يدور في قلبك .

( 1315 - 1320 ) إن أهواءك النفسية وأفكارك التي تمضى كل ان إلى كل صوب تنمو في قلبك كأنها النباتات التي كانت تنبت في ساحة المسجد الأقصى فإياك أن تهملها ، بل عليك أن تقوم كسليمان بتتبعها وتتبع خواصها ، لترى هل هذه الواردات التي وردت إلى قلبك أهي دينية أم دنيوية وإياك وإنكارها ، فقد يكون منك النافع ، كما أن منها الضار وما قلبك إلا أرضك وما ينبت فيها إلا ما يترجم عنها ، والهوى في الإنسان ميوله ورغائبه ، فإذا تركت هواك صرت جديرا برسالة الله ( 1 / 1101 ) . وهذه الفكرة واردة أيضا في الكتاب الثالث ( أبيات 360 وما بعدها ) .
انظر إلى هذه الأرض التي تنبت أنواع النبات سواء كانت من قصب السكر أو من البوص إن ما يخرج منها يترجم عن طبيعتها . . ومن ثم فأرض القلب نبتها الفكر ، وهذه الأفكار التي تبدو في أرض القلب هي التي تترجم أحوال القلوب . .
ولو أجد في هذا المجلس قابلا للكلم جاذبا له مستفيدا منه متجاوبا معه متحملا إياه . .
لأبديت لك ما في قلبي من أفكار ومعارف إلهية كأنها زهور الرياض لكني إن وجدت إنسانا غثا قاتلا للفكر فإن النكات العميقة تفر من القلب فإن هذا المنكر لن يستفيد من بيان هذه الأفكار .

( 1321 - 1329 ) وحركة كل امرئ إنما تكون نحو جاذب معين ، ما من كلمة يتفوه بها أحد أو تصرف يقوم به إنسان حقيرا كان أو خطيرا إلا وجاذب معين يجذبها منك فهي موجهة إليه ، وهو المقصود بها . . والجذب الصادق ليس

« 465 »

كالجذب الكاذب ، وهكذا فإنك تمضى حينا على الطريق المستقيم وحينا على طريق غير مستقيم ، والخيط الآخذ بناصيتك الذي يجذبك ليس ظاهرا ، هذا هو خيط القضاء والقدر بيد الله تعالى إنما يقف عليه أصحاب القلوب البصيرة ولا يقف عليه عمى البصيرة . . فانظر إلى نفسك كبعير أعمى لا تستطيع الخلاص ممن يقودك ، تحس به يجذبك لكن لا تنظر إليه . . وهناك حبل الشرع المتين يقود الأتقياء الأولياء ،
 أما أرباب الغفلة والأهواء فخيط إبليس هو الجاذب ، ولو أن ذلك الحبل قد ظهر ،
ولو انكشف هذا المقود ، وانكشف سر القضاء والقدر لما بقيت الدنيا دار الغرور ،
 وإن كل من فيها مغرور لأنه يحس بذلك الجذب لكنه لا يراه ولا يعرف مصدره إذ لو عرف المصدر لرأى المجوسي أنه يسير إثر نفسه الكلبية التي تجعله عبدا للشيطان الأكبر . . ولما مضى في أثره ، ولارتد سريعا ونجا . .
 تماما كالأنعام التي يقودها القصاب إلى المذبح . . لو كانت تعلم أنها تمضى إلى الذبح لما أسرعت هكذا في إثر القصاب ، ولما أكلت من يده . .
 ولو أكلت لما هضمت ذلك العلف . . لو علمت أن المقصود منه أن تسمن وتصير صالحة للذبح .

( 1330 - 1345 ) إذن فعماد الدنيا الغفلة ، وانتظامها ورواج سوقها إنما هو قائم على هذه الغفلة ولولا الحمقى ما قامت الدنيا من هذه الغفلة هي التي تجعل الحي يظن أنه حي أبدا . . وهذا المعنى وارد في معارف بهاء ولد 1 / 347 وما دولة الدنيا إلا سعى ( دُو ) ثم ( لت ) أي ضرب . .
أولها اسع اسع من ثم آخرها خذ على أم رأسك ضربا من العجز والشيخوخة والمرض ثم الموت والحساب . . وفيها يكون هلاك الحمار . . لأن الحمار فحسب هو الذي يهلك في سبيل ما لا نفع فيه . . .
فإنك إذا أقبلت على عمل معا فإن الله يخفى كل عيوب هذا العمل عليك فالله قد ستر العيوب من أجل عمارة الدنيا ، وجعل عمارة الدنيا من أجل تمحيص الذين آمنوا من الذين أشركوا ومن ثم فهي فتنة وهي دار الامتحان ،
إنك لن تستطيع أن تقوم بعمل ما إلا إذا أخفى عليك الخالق عيب هذا العمل ، « إن الله تعالى

« 466 »

إذا أراد إنفاذ أمر ، سلب كل ذي لب لبه » ( استعلامى 4 / 264 ) وكذلك كل فكرة ترد عليك وتنشغل بالتفكير فيها . . فلو اكتشفت فيها أي عيب ، لجفلت منها روحك وبعدت عنها بعد المشرقين . .
والحاصل أنك تندم فيه في نهايته . . فلو اكتشف عيبه من بدايته هل كان لك أن تندم ؟
هذا هو القضاء الذي يخفى عليك فإن ندمت من بعد الفعل فهذا الندم أيضا قضاء مقضى عليك به ، وإن استسلمت لهذا الندم صرت معتادا عليه ، والندم لا يورث إلا الندم ، وهكذا ينتهى نصف العمر في التشتت والفرقة ونصفه الآخر في الندم فاترك كل هذا وعليك بعمل أفضل وعليك بالبحث عن صديق أفضل يساعدك في الطريق هذا وإن لم يكن أمامك عمل أفضل . . فلأي شئ . . إذن يكون الندم ؟
هل خيرت بين عملين فاخترت أسوأهما ؟ إنما تعرف الأمور بأضدادها . . فمن أين لك أن تعلم الشر وأنت لم تعلم الخير . . وإن لم تعلم الخير . .
أي علم لك بأن ما تقوم به شر . . لقد عجزت عن ترك الذنب لأنك لا تعرف سواه . . إن عكوفك على الذنب عجز ، عكوفك على القبيح عجز عن إدراك الحسن ، فمتى وجد عجز مع قدرة ؟ وما دمت عاجزا فلم الندم ؟ !
ولو كان الله سبحانه وتعالى قد أطلعك على قبح فعل ما فهل كان يستطيع أحد أن يحملك على فعله ولو بالقوة الجبرية . .
هذا هو القضاء كما يفسره مولانا جلال الدين وهو لا يفتأ يعود إلى هذه النقطة ( انظر الكتاب الأول أبيات 260 - 263 و 1502 - 1512 والكتاب الثاني أبيات 61 - 62 والكتاب الثالث البيت 1369 ) ( عن عبد الباقي وانظر مقدمة الكتاب الخامس ) ، اطلب من الله تعالى أن يريك الأمور كما هي « اللهم أرنا الدنيا كما تريها صالح عبادك . »
 أن يخفى عليك عيب الفعل النافع وأن يبدي لك شر الفعل القبيح ، وإلا فارض بما قسم الله لك ، واستسلم لقضائه ، واعلم أن الإدارة والاختيار كليهما قضاء آخر أيضا في القضاء التعليقي ( سبزوارى 4 / 289 )
وكما ورد في الحديث ألا أخبرك بتفسير لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا حول عن معصيته الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله هكذا أخبرني جبريل ) ( أنقروى 4 / 278 ) .

« 467 »

( 1355 - 1372 ) وهكذا كان سليمان عليه السلام يمضى كل صباح إلى المسجد الأقصى ليرى ما نبت فيه من نبات ، لقد كان يرى بعينه الصافية ما خفى على العوام سواء من النباتات التي تنمو في صحن المسجد ، أو نباتات الفكر التي تنمو في قلوب المريدين . . لكن ألا يوحى سير سليمان النبي في الآفاق والأنفس . . مع وجود تلك الإلطافات الإلهية التي شملت وجوده كله والتي يستطيع فيها أن يتكشف كل ما يريد دون أن ينتقل من مكانه بتساؤل ما ؟ هنا يختلف مولانا جلال الدين في منطلقه الصوفي ، فإن كان الصوفية يقولون بالمراقبة في الخلوة ، فإن جلال الدين كان يرى المراقبة في الملأ ، ويرى في هذا اجتلاء لآثار رحمة الله في خلقه مراقبة أفضل من مراقبة الخلوة ، ويضرب مولانا بحكاية الصوفي الذي وضع رأسه بين ركبتيه متفكرا ومراقبا فطلب منه أحدهم أن يرفع رأسه ليرى آثار رحمة الله في الرياض والقصة مأخوذة عن تذكرة الأولياء للعطار ( 1 / 68 ) عن رابعة العدوية ، جلست في منزلها في فصل الربيع وقد طأطأت لرأسها فقالت خادمة يا سيدة اخرجى لتشاهدى الصنع ، قالت بل ادخلي أنت لتشاهدى الصانع ،

شغلتني مشاهدة الصانع عن مشاهدة المصنوع كما رويت الحكاية في مقالات شمس قيل لصوفى : ارفع رأسك وانظر إلى آثار رحمة الله - فقال آثار الآثار واردة في القلب ( مقالات شمس ص 196 )
وهذا لا يخرج عن احتمالين في إدراك الجمال :
الاحتمال الأول : إما أن يكون الجمال جمالا لأنه يصادف هوى داخل النفس ومن هنا يختلف تقديره .
والثاني : هو أن الجمال إدراك من الداخل إلى الخارج وليس العكس ( جعفري 10 / 183 - 184 ) والكلام معتمد على الآية الكريمة : «فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . ( الروم : 50 ) قال نجم الدين : فانظر إلى آثار رحمة الله

« 468 »

الخاصة كيف يحيى أرض القلوب بالفيض الإلهى بعد موتها بكبائر الذنوب ( مولوى 4 / 184 ) ويجيب الصوفي إجابة الصوفي في رواية شمس الدين التبريزي ، إن الرياض والمروج هي في لب الروح أما ما هو موجود خارجها فهو انعكاسها تماما كما تنعكس صورة هذه المروج العينية المادية في الحياة ولطفها إنما يكون من لطف المياه . . وإن لم تكن هذه الأشياء انعكاسا فكيف سماها الله سبحانه وتعالى دار الوهم والخيال دوار الغرور ، وهذا يعنى أنها خيال :كل ما في الكون وهم أو خيال * أو عكوس في المرايا والظلال
لاح في كل الورى شمس الهدى * لا تكن حيران في تيه الضلال

( انقروى 4 / 283 ) إنها انعكاس للعالم الحقيقي والرياض الحقيقية والشموس التي لا تغيب ، والأنهار التي لا تنقطع الموجودة في قلوب الرجال الكاملين فهم « سر الهوية ومظهر نور الأحدية » ( مولوى 4 / 185 ) والناس مغرورون بالانعكاس والصور والخيالات والأوهام . . ولا يبحثون عن الأصول . . .
فإذا ماتوا علموا أنهم أضاعوا عمرهم في الخيالات والأوهام ونزلت عليهم الحسرات ، كما قال عليه السلام « ليس للماضين هم الموت إنما لهم حسرة الفوت » ( انقروى 4 / 284 ) ولا ينجو من هذا المصير إلا ذلك الذي مات قبل الموت ( انظر تفسير الموت قبل الموت في الكتاب الثالث الأبيات 3672 - 3678 ) .

( 1383 - 1401 ) المستفاد من قصة سليمان عليه السلام والخروب يقول مولانا : إن القلب هو مسجدك والجسد ساجد له أما الخروب الذي يؤدى إلى خراب المسجد فهو رفيق السوء عليك أن تهرب منه ما استطعت فاقتلعه من جذور قلبك ، أما أنت أيها العاشق فإن الخروب بالنسبة لك والذي ينذر بخرابك هو الاعوجاج . . وأنت كنت مجرما اعترف بإجرامك حتى تفتح عليك أبواب رحمة

« 469 »

المعلم ، هذا أفضل من أن تجمع بين الجهل والكبرياء وتعلم من أبيك الأول الاعتراف بالذنب «قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» ( سورة الأعراف آية : 22 ) فلا هو حاول ولا هو احتال في حين أن إبليس شرع في الجدال . . لقد قال لله تعالى إنه هو الذي صبغه بصبغة الكفر والكبرياء . . وقال إن الله تعالى هو الذي أغواه . . وهذا هو قول الجبريين . . وأنذر بإغواء بني آدم في مقابل هذا الذي يظنه إغواء من الله سبحانه وتعالى . . . فإياك أنت أن تقول : إن الله سبحانه وتعالى قد كتب عليك المعصية وقدرها عليك وأنه لا محيص لك من ارتكابها ولا مهرب من إتيانها . .
والواضح أن مولانا جلال الدين شغل في الأبيات الأخيرة بمشكلة الجبر والاختيار فهو يتركها ليعود إليها وواضح أيضا أنه من أنصار حرية الإرادة والاختيار عن الإنسان ، وكيف يكون المرء مجبرا على شئ وهو يقوم به بكل هذه اللذة والسرور والإقبال كيف يكون المرء مجبرا وهو يدافع هكذا عما يقوم به منذ فكر ويسوق الحجة تلو الحجة على أنه هو الصواب والطريق المستقيم . .
وكيف تختار كل ما تأمرك به نفسك من المعصية والفساد وتترك كل ما يأمرك به عقلك هكذا يناقش مولانا جلال الدين المشكلة دون خوض في أقوال علماء الكلام ومشايخه . . إن الأمر كله من داخل الإنسان وأن إبليس لعنه الله كان أول الجيريين فقد اعتبر المعصية التي دفعه إليها كبرياؤه وأحتقاره لآدم قدرا مكتوبا عليه من الله سبحانه وتعالى وليس عصيانا أملته عليه نفسه المتكبرة المعوجة .

( 1402 - 1413 ) وهكذا كل إنسان يعلم أن الحيلة من إبليس لكن الخضوع والعشق من آدم ، وهذا الاحتيال أشبه بالسباحة في البحار ، حيث يعتمد السباح على مهارته وليس على أي شئ آخر فهو في النهاية غريق لا محالة « انظر النحوي والملاح » وإذا كان هذا شأنه وديدنه في البحار فما بالك بهذا البحر الذي تبدو البحار السبعة كقشة تتقاذفها أمواجه والبحار السبعة تعبير كان يستخدمه

« 470 »

القدماء للتعبير عن كل بحار الدنيا وهي في نظرهم سبعة : بحر الصين ( المحيط الهادي ) وبحر المغرب ( المحيط الأطلسى ) وبحر الروم ( البحر الأبيض ) والبحر الأسود ( وبحر طبرية ) والقلزم ( البحر الأحمر ) وبحر جرجان ( بحر الخزر أو ما نسميه قزوين ) وبحر فارس ( الخليج ) ( عبد الباقي 4 / 212 ) في مثل هذا البحر العشق هو سفينة النجاة وترك الاحتيال وازدياد التحير ( عن التحير انظر الكتاب الثالث شروح الأبيات 1108 - 1117 )

وفي حضور المصطفى صلى الله عليه وسلم اجعل عقلك حائرا لأنه ملاح سفينة العشق في بحر التوحيد ( مولوى 4 / 196 ) وهذا معناه أنك أصبحت مكتفيا بالله . . . ولا يزال مولانا يضرب الأمثال بأولئك الذين اعتمدوا على حيلة عندهم وعلى من اكتسبوه ومنهم كنعان بن نوح الذي رفض أن يركب السفينة رافضا أن يحمل منة من أحد على نفسه وكأن الله سبحانه وتعالى لم يقدم له من نعمة إلا أنه كان سينجيه من الطوفان ، وكأن الله سبحانه وتعالى لم يكن ليضاعف إحسانه على نوح فضلا منه وشكرا على عشقه أليس هو سبحانه وتعالى الذي « يحبهم ويحبونه » فسبق ذكر حبه إياهم عن حبهم إياه ( انظر معاني أخرى عن قصة نوح عليه السلام مع كنعان في الكتاب الثالث شروح الأبيات 1306 - 1355 ) .

( 1414 - 1423 ) من هنا فإن العجز عن المعصية قد يكون سببا في نجاة المرء فلو لم يكن ابن نوح قد تعلم السباحة لألحق نفسه بسفينة نوح ، ولو كان كالأطفال بريئا من الاحتيال لتعلق بأذيال أمه ، وليته كان خاليا من ذلك الوهم المكتسب ،
إذن لوجد علم الوحي مكانا في قلبه فإنك إن استعنت بكتاب أو نقل مع وجود هذا النور عندك لعاتبتك ولحرمتك من علم اليقين ، ولحرمت قلبك من ذلك النور وللجأت إلى التيمم في وجود الماء أي إلى العلم النقلي في وجود قطب الزمان . .
 الذي يبغى أن تتبعه دون أن تظهر علما من لدنك أو احتيالا أو مهارة . . .
بل ينبغي أن تكون أبله ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال « إن أكثر أهل

« 471 »

الجنة البله » والبله جمع أبله وهو الغافل عن الشر المطبوع على الخير ، وقيل هم الذين غلبت سلامة صدورهم وأحسنوا الظن بالناس لأنهم أغفلوا أمر دنياهم فجهلوا حذق التصرف فيها وأقبلوا على آخرتهم فشغلوا أنفسهم بها فاستحقوا أن يكون أكثر أهل الجنة ، فأما الأبله وهو الذي لا عقل له فغير مراد في الحديث ( أنقروى 4 / 295 ) أما كثرة الفتن فهي تأتى بالكبر وتردى . . . ولست أقصد بالأبله ذلك الذي يكون سخرية الخلق لحمقه وضعفه وتذلله بل أقصد به الواله محبة الله تعالى الغافل عمن سواه .

( 1424 - 1435 ) ضحِّ إذن بهذا العقل المكتسب . ومن الرباعيات المنسوبة إلى أبي سعيد ابن أبي الخير :
ما دمنا قد شرعنا في طلب وصال الحبيب * فأول قدم أن صرنا غرباء عن الوجود إنه لم يكن يسمع العلم فأغلقنا الشفة * ولم يكن يشترى العقل فصرنا بلهاء ( سبزوارى 4 / 290 ) هو عقل المعاش في سبيل عشق الحبيب ، فالعقول كلها هبة منه سبحانه وتعالى ، وأصحاب العقول صرفوا عقولهم في محبة الله سبحانه وتعالى ، أما الحمقى المجانين فهم الذين احتفظوا بعقولهم . . فلو أن عقلك الجزئي هذا ضاع تحيرا في الله لصارت كل شعرة منك عقلا . .
لعوضك الله عما هو فوق العقول كلها بنوره تنظر به ويده تبطش بها وقدمه تسعى بها . . .
ولمنحك عقلا لا يسبب التفكير به ألما . . وإذا أهمل عقل المعاش هذا لظهرت في صحاريه الرياض والكروم تنبت الثمار الربانية حيث ينقضى وينتهى عقل المعاش . .
وعلى حافة العدم للعقل تسمع الرموز . . وينبت نخل وجودك بالمعارف الإلهية . .
وفي الطريق دعك من الفيهقة والتكبر وإياك والحركة ما دام دليلك لم يتحرك ، إنه منك بمثابة الرأس وكل الذي يتحرك بلا رأس يكون ذيلا . .
تكون حركته أذى وسما كأنها حركة العقرب يزحف ليلدغ قبيح الخطى أعشى

« 472 »

قبيح الشكل سم ، كل عمله هو لدغ الأجساد الطاهرة ومثل هذا حطم رأسه تلك التي لا تحمل للناس سوى الشر والأذى ، وصلاحه هو نفسه في تحطيم رأسه حتى تنجو روحه من الأذى الذي يشبه جسده ويشبه هواه . . هيا اسحب السلاح من يد المجنون فالسلاح يكون في يد الغازي المجاهد ، أما المجنون فسوف يرهب به الناس ويزهق أرواحهم . . فالسلاح في يد مجنون لا عقل له فيه أذى كثير ، هؤلاء الجبابرة أصحاب المناصب اعقد أيديهم خلف ظهورهم لئلا يظلموا الناس ويفسدون عليهم حياتهم .


( 1436 - 1451 )
قد يفهم بعض المتشدقين بالألفاظ وحملة الشعارات هنا أن مولانا جلال الدين ينادى بطبقية المال والتعليم وبالتالي المناصب وهو ما لم يدر لأحد بخلد ، فضلا عن وجود النظرة التي يقدمها مولانا جلال الدين الرومي هنا في المأثور الإسلامي ككل ، وفي الحديث النبوي الشريف . .
« لا تعلموا أولاد السفلة العلم » و « واضع العلم في غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر » وتكاد الأبيات تكون ترجمة لقولين مأثورين للإمام على - رضي الله عنه - الأول هو « لا يرى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطا » نهج البلاغة تحقيق مذكر فيض الإسلام ص 1116 ،
والكلمة الأخرى هي : احذروا صولة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع ( فيض الإسلام ص 1311 ،
والإشارة لعبد الباقي ( 217 / 4 ) وهناك قول آخر :
قيل لعلى صف لنا العاقل فقال - رضي الله عنه - هو الذي يضع الشئ مواضعه فقيل : وصف لنا الجاهل قال : قد فعلت ( ص 1191 ) فإن التجربة تثبت أن العلم والمنصب إن سقطا في أيدي من ليس بأهلها كانا وبالا على الناس ،
تصبح آلة للفساد ، قلة الأصل هنا ليس المقصود بها المعنى الطبقي أو حصر العلم في طبقة أبناء البيوتات حتى إن أثبتت التجربة أن العلم في طبقة أبناء البيوتات عطاء وليس أخذا ، والمقصود بسوء الأصل هذا سوء الطوية وسوء الخلق وعدم الاهتمام بالناس وحقوق الناس ، والجبروت والطغيان ، ومن يتصف

« 473 »

بهذه الصفات ثم يوضع في يده علم أو منصب بمثابة وضع السيف في يد زنجي ثمل فلا عقل عنده ولا إدراك ومع ذلك فالقوة البهيمية عنده شديدة القوة . .
وما الحل إذن إذا كان المنصب في أيدي من ليس بأهل له ومن يظلم الناس ويسعى في الأرض الفساد ؟ هنا يرى مولانا جلال الدين أن الجهاد مفروض على المسلم المؤمن في هذه الحالة حتى يأخذ السيف ( القوة أو السلطة ) من يد المجنون وأخذ السلطة من مستغلها استغلالا سيئا . . .

وما علامة استغلال السلطة ؟ ؟
علامتها تلك الفضائح التي لا يقوم بها مائة ملك متجبر ، ومن المفاسد ما لا يقوم به مائة وحش مفترس . . .

فإن السلطة هي التي تبدى عيوب كل جهول طاغية متجبر ، إذ أن جهله وطغيانه يظلان مخفيين ما لم يجد الآلة والوسيلة فإن وجد الآلة الوسيلة فقد ملأ الصحراء والوادي بالحيات والعقارب ( أعوانه وشرطته وعسسه ومخبريه والمستفيدين منه والطغاة والصغار والجهال الصغار الذين يزينون له الشر ) ،
وعلامته أن لا يضع الأمور في مواضعها ، فإما أن يبخل في غير موضع أو يسخو في غير موضع ، موازينه مختلة ، تقديره غائب ، يظنه جاها وهو بئر قد سقط فيه ، ولا هو يعلم السبيل فيعود ، بل تقوم روحه القبيحة بالقضاء على الأخضر واليابس ، وكيف يستطيع أن يبدي القمر ( المثل والقيم الجميلة ) وهو لم يره طوال حياته ؟
ثم يلقى مولانا بهذا الحكم الذي تردد عنده وعند كثير من الشعراء الإسلاميين ، عندما كانوا ينظرون إلى البون الشاسع بين قيم الإسلام من العدالة والمساواة وما كان الحكام في عصورهم يرتكبونه من مخازى ومفاسد ،
فيقول إن الحمقى هم الذين جلسوا على دست الحكم . أما العقلاء فقد أخفوا رؤوسهم تحت الأغطية ، وقبله بقرنين قال ناصر خسرو إن الدجال قد جلس على منبر الحق فاجلس أنت صامتا تحت المنبر ( ديوان ناصر خسرو ص 154 )
وبعده قال حافظ الشيرازي ( أخفى الملاك وجوده والشيطان يبدي دلال الحسن . . . وقد احترق العقل متسائلا أي عجب هذا ؟ ؟

« 474 »

( ديوان حافظ ص 77 ) ومن أجل القضاء على هذا الفساد كان بعث المصطفى - صلى الله عليه وسلم .

( 1452 - 1481 ) يبدأ الحديث عن دور المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وبعثته في القضاء على الظلم والفساد والجهل . . وقد قلنا في المقدمة إن العنصر الغالب على هذا الجزء هو توزيع الحديث حول التوحيد والدعوة والحرية . . والمزمل الملتف في ثيابه حين مجىء الوحي خوفا منه لمهابته ، وروى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعرض لاستنكاف من ملأ قريش عن الإيمان برسالته قدموه بأقوال فأتى وتغطي بثياب ونزلت «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ» ( مولوى 4 / 202 )

والواقع أن السورة من السور التي نزلت للأمر بالجهر والدعوة ، وهو ما أشار إليه مولانا في الشطرة الثانية من البيت أي كفاك هربا حذرا من أهل الرياء فإنك بالرغم منهم جميعا العقل لهذا العالم وأنت الشمع المنير لهذا العالم ، هيا قم الليل فالليل هو ليل الجهالة وقيامك بالليل هو بمثابة بث النور في هذا الليل ،
ولا بد من وجودك ليل نهار فحتى النهار بدونك ليل ، كما أن الأبطال دون عون قلبك يفقدون كل قواهم ، وأنت السفينة في هذا البحر المواج فأنت نوح الثاني والقوم جميعا يكونون في حاجة إلى دليل « النبي والرسالة والمرشد في الطريقة » خاصة في البحار الهائجة بحار الجهالة وتفرق السبل والفترة ،
هيا انهض يا رسول الله وانظر إلى القافلة البشرية قد قطع عليها الطريق . . .

وفي كل ناحية غول قد ارتدى ثياب المرشد ودبج النظريات والمعتقدات ووصف الطرق التي تقود كلها إلى النار وإلى الدمار ، انهض يا رسول الله فقد أخذوا ديننا وأخفوه عنا وشوهوه في أنظارها وسلبونا أخص مقوماتنا ، ثم حقنونا بنفاياتهم ومشوه نظرياتهم ومردود أفكارهم ، وقادونا واستعبدونا وسلبوا عزتنا ، انهض يا رسول الله فأنت الخضر في زماننا هذا ، أنت غوث كل سفينة تائهة . .
أنت نبي الأمة وأنت قائد الجماعة لست نبي العزلة كعيسى . . فكيف

« 475 »


تكون معتزلا وأنت شمع هذه الأمة . . وكيف تكون مزملا والجماعة بك جماعة وبدونك غثاء كأنها السيل ، هيا انطلق إلى جماعتك فهذا ليس وقت العزلة فهيا يا عنقاء قاف الهدى واهد الناس . .
هيا فمتى يكف القمر عن الطلوع من عواء الكلاب . . . هيا فالناس جميعا عميان . . وأنت القائل أن « من قاد أعمى أربعين خطوة غفر الله له ما تقدم من ذنبه » ( انقروى 4 / 308 )
فهيا اسحب هؤلاء العمى قافلة بعد قافلة هيا أيها الهادي فإن هذا هو عمل الهادي ، هيا فأنت السرور عندما تعم الأحزان الدنيا آخر الزمان . .
هيا يا إمام المتقين وحول أولئك الذين يحومون حول الظنون إلى اليقين . . .
هيا فإنا كفيناك المستهزئين وكل من يمكر بك أمكر به . .
أزيده عمى وأزيده من ذلك السم الذي يتناوله وهو يحسبه سكرا وكيف لا ؟
والعقول إنما تفكر بإرادته وكل من يمكر إنما يستمد حيله كلها من حيل الله تعالى ، وكلها كمنزل من شعر من ذلك يقيم به التركمان أمام قوائم الفيلة المقاتلة ، فماذا يكون مصباح الكافر بك أمام إعصارى يا رسولي العظيم ، قم أيها الرسول العظيم بنفخ ذلك الصور المهول الذي أنفخه في قلوب أتباعك بحولى وقوتى ، فيقوم الملايين من موتى الجهل من تراب العدم والمناصب الوافدة والغفلة وبيع النفس للكافر والاستضعاف والاستحمار والتخلف والضعف .
فإنك إسرافيل الوقت ، وأنت الذي تنفخ الصور فيبعث هؤلاء ويكون بعث قبل البعث وقيامة قبل القيامة . .
وكل من يسألك أيها المحبوب : أين القيامة ومتى الساعة ؟ قل له ها أنا القيامة . . أليس موتى الروح والفهم يحيون من رسالتي ؟ !
انظر ألم تقم مئات العوالم من هذه القيامة ؟ ألم يعذب الكفرة ويثاب المؤمنون فوق هذه الأرض ؟
ألم تبدل الأرض غير الأرض ؟ ! 
( 1482 - 1489 ) إن لم يكن ثمة سمع وإن لم يكن ثمة فهم وإن لم تستضاء القلوب بنور الله ، وإن لم يكن مخاطبك هو من أهل الذكر والقنوت والإيمان . . فأولى بك تسكت والخطاب هنا مزدوج : من الله سبحانه وتعالى



« 476 »
لنبيه المصطفى عليه الصلاة السلام ، ومن مولانا جلال الدين لنفسه أولى بك تسكت أيها النبي عن مخاطبة الكافر الذي طبع على قلبه وعلى سمعه وعلى بصره غشاوة ، أولى بك أن تسكت أيها المرشد عند مخاطبة هؤلاء القوم الملولين النيام . . فإن جواب الأحمق السكوت . . .
والسماء تسكت عندما لا يكون الدعاء مستجابا ، والمرشد يسكت أيضا عندما لا يكون المريد مستجيبا ثم يبدي مولانا أسفه وحسرته لقد آن أوان الجنى والمحصول . . لكن عمرنا لا يكفى لإدراكة أي وا أسفاه لقد أدركنا الرسالة ولم ندرك الرسول « قدمت حسرة على الفهم الصحيح » ( أنظر 3 / 2100 )
والإحاطة بهذه الرسالة والعمل بما يقضى حقها لا يكفيه عمر كامل ، والوقت ضيق وعمر كامل لا يكفى لبيان هذا الكلام ، كما ينبغي ، ليس ضيق الوقت فحسب بل ضيق الأفهام أيضا ، إن الحديث عن الرسالة والرسول أشبه باللعب بالحراب في طريق ضيق إنه يصيب اللاعبين بالضيق ، فإذا كان جواب الأحمق السكوت فما بالك تطيل في هذا الكلام ؟ إن الأحمق هنا هو ذلك الذي يشك في قيمة الرسالة . .
ويشك في قيمة الإرشاد ، لكن أمطار الرحمة تنزل على الأرض الصالحة والأرض البور .

( 1490 - 1496 ) الحكاية هنا لم يجد فروزانفر أصلا لها وهي أقرب إلى التمثيل بمعنى أن يلبس الشاعر معانيه أشخاصا . . فالعبد هنا قد يكون الجسد والملك والروح . .
وعندما يكون الجسد ميت العقل حي الشهوة فإن لطافات الروح تقل ومهما يشكو العبد فإن الملك لا يجيبه على أساس أن الجسد مهما يشكو من علل تحيق به من جزاء فساده وحرصه فإن الروح لا تجيبه إلى هذا ، وهكذا فإن العبد لا يدقق في خدمة السلطان ولا يقوم بما ينبغي له من الطاعات ،
 وكان ينغمس في الفكر القبيح وهو يظنه حسنا ، وهكذا يأمر السلطان بأن يقللوا من كرايته وإن اعترض فاشطبوا اسمه تماما من ديوان الأرزاق - لكن ذلك العبد كان حرونا متمردا بطبيعته فلم يسأل من السبب في تقليل رزقه ولو كان له


« 477 »
عقل لراجع نفسه ليرى أين يكمن خطؤه وذنبه ، وهكذا فلا بد أن يقوم كل إنسان عندما يصيبه شئ باستخدام عقله أولا ثم بعد ذلك يبحث عن العوامل الخارجية وهكذا الحمار مقيد القدم عندما يحرن تقيد كلتا قدميه ولا يدرى من حماريته أن هذا جزاء عصيانه ، وهكذا المذنب عموما كلما انغمس في الذنب كلما ازداد شؤمه وإدباره وهو لا يدرى أن هذا من جزاء ارتكابه للذنب وعصيانه فهذا المملوك لفقدانه عقله وغلبة شهوته أقرب إلى البهيمية منه إلى الإنسانية .


( 1497 - 1505 ) هذا التقسيم الذي يقيمه مولانا بناء على هذا الحديث يريد أن يصل به إلى الإنسان الكامل وهو عند كل الصوفية محمد صلى الله عليه وسلم - الذي يفضل كل الملائكة ، ونص على فضله على جبريل - عليه السلام - ، مع ذلك أن الملائكة لا يعرفون بطبيعتهم إلا العبادة ، ولا محل للشهوة في تركيبهم ، وعملهم هو التسبيح فلا حرص ولا هوى بل نور مطلق حي بالعشق الإلهى يتغذى به ويعيش عليه ، وفي المقابل خلق البهائم ومن يشبهها من البشر الذين يأكلون ويتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ، وهم أشبه بالحيوانات لأنها لا ترى سوى الإصطبل والعلف أو على حد قول الإمام علي كرم الله وجهه : « إن البهائم همها بطونها وإن السباع همها العدوان على غيرها » ( فيض الإسلام 457 )
ولا علم لها بالضر والشرف ولا بالشقاء والسعادة هم من أبناء اللحظة لا تهمهم إلا اللحظة التي يعيشون فيها ، هذا هو الحيوان ومن يشبهه من البشر ، ثم خلق الله صنفا ثالثا هم البشر وهو مخلوق من النقيضين :
من أدنى عنصر الطين المخمر والحمأ المسنون وهو حيوان بجسده وأسمى عنصر وهو النفخة الإلهية وليس هذا الكلام بحديث نبوي إذ يستخدم مولانا كلمة الحديث واعتبره نيكلسون منقولا من أخلاق جلالي عن كلام سيدنا على وهو مذكور في وسائل الشيعة نقلا عن جعفر الصادق - رضي الله عنه - وذكره الغزالي دون إسناد ( استعلامى 4 / 273 ) .
« 478 » 


وهكذا يعبر مولانا جلال الدين عن هذه الثنائية المتصارعة التي يعبر عنها كل الصوفية والتي تعد الميدان الحقيقي للتصوف بأن نصفه مَلاكَ والنصف الآخر حمار فالنصف الحمارى منجذب إلى عنصره أي أصله إلى شهوات الجسد والنصف الملائكى منجذب أيضا إلى الملأ الأعلى أما الصنفان الآخران فمتوافقان تماما ومستريحان من هذا الصراع وهؤلاء البشر لكي يمتحنوا قسموا إلى ثلاثة أقسام . إنهم جميعا متساوون في الشكل والصورة لكن متى كان حديثنا عن الشكل أو الصورة أو الظاهر ؟ !


( 1506 - 1512 ) إن هؤلاء البشر مع أن أشكالهم وصورهم واحدة إلا أنهم منقسمون إلى ثلاثة أقسام : وهذا التقسيم موجود في القرآن الكريم «وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ، فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ، وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» وأيضا « منهمظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ» ، ( سبزوارى 4 / 292 )
والحديث الشريف في العنوان روى أيضا عن علي - رضي الله عنه - وعن عبد الله بن سنان قال :
سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق فقلت : الملائكة أفضل أم بنو آدم فقال قال على ابن أبي طالب - رضي الله عنه - إن الله ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة وركب في بني آدم كليهما فمن غلب عقله شهوته كان خيرا من الملائكة ومن غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم ( جعفري 10 / 215 )
فنوع عاشق مستغرق في عشقه فهو كعيسى عليه السلام قد انمحت عنه البشرية وأُلحق بالملائكة ، إنه حقيقة على هيئة الإنسان ، لكنه نجا من أسوأ ما في الإنسان من حرص وهوى وغضب وجدال ، إنه حي بالعيان والمشاهدة ، لقد انتفت صفاته البشرية بالرياضة والزهد ، حتى صارت العبادة غذاء له كالملائكة . .
أما النوع الثاني فهو على النقيض تماما من النوع الأول فقد ألحق بالأدنى ، أُلحق بالحيوان ، لأن الناحية الحيوانية قد تغلبت عليه فهو غضب محض وشهوة


« 479 »


مغلقة . . وهو لم يخلق هكذا بل كان فيه وصف الملائكة لكن هذا الوصف العظيم ضاق به وجوده الضيق ويستعير هنا صورة من سنائى الغزنوي عندما وصف رحيل عثمان - رضي الله عنه - بأن الرجل كان عظيما وكانت الدنيا ضيقة ( حديقة بيت 3398 ) وهكذا فإن أوصاف الملائكة تغادر هذا الوجود الضيق الذي لا يتسع لها ، وأمثال هؤلاء موتى لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق ، وكل ما تبقى منهم جانب الحمارية « أولئك كالأنعام بل هم أضل » والروح التي لا تهتم به روح دنية وهذا الكلام حق يعرفه كل صوفي .


( 1513 - 1519 ) إن الإنسان ليقوم لهذه الروح التي نفخت فيه بأكثر مما يقوم به الحيوان إنه يحتال ويقوم بكثير من الفنون فهو الذي يستطيع أن يقوم بكثير من الصناعات الدقيقة . .
ومنها دقائق الهندسة والنجوم والطب والفلسفة والتكنولوجيا ، لكن كل هذا يقوم به من أجل عمران دنياه كل هذا يقوم به على هذه الصفة من الوجود ، ولعل مولانا قد أدرك بثاقب حسه والعلوم ( لا تزال في بدايتها )
أن هذا العمران الدنيوي إنما يخرب جانبا من جوانب الإنسانية ، فهو لا نهاية له ، وهو في نفس الوقت يعطى الإنسان كبرياء يدمر به الآخرين ثم لا يلبث أن يدمر نفسه ، لأن النهاية في العمران الدنيوي الخراب « حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت » ،


ومن ثم فإن الحل في الإسلام هو وصل الدارين - عندما يتم تكامل الإنسان ماديا على أن يصل هذا التكامل بالدار الآخرة يكون الغرض من الأموال الاكتفاء للجميع ، ومن العلم العمارة ومعرفة الخالق وإلا فإن علماء المسلمين كانوا يستطيعون أن يصلوا إلى ما وصل إليه العلم الحديث لولا أنهم لم يكونوا بالفعل بحاجة إليه فأي حاجة إلى المدفع إذا تم الفتح بالسيف ؟ ! !
( 1520 - 1532 ) وغير هذه العلوم هناك علم آخر لا يغنى وجودها عن وجوده ، وبهذا العلم يفضل الإنسان ويتفوق على غيره من المخلوقات ، إنه العلم


« 480 »


الذي يصل بالإنسان مهما كان متكاملا وناضجا وحاويا لعلوم الدنيا بالملأ الأعلى وينجيه من التدحرج من فوق القمة إلى السفح ، وإلى المحاق بعد الاكتمال ، ويفتح أمامه الحياة الأبدية الخالدة ، فلا يفنى أبدا ، ذلكم هو علم معرفة الحق ومعرفة طريقه ، ومن ثم فقد جعل هذا التركيب الحيواني مؤتلفا مع العلم ، وإلا كان الإنسان أضل من الأنعام فبهذا العلم يكون الإنسان في يقظة ذاته ناجيا من الروح الحيوانية التي لا تعرف غير النوم « الحياة الدنيا على فحوى الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا » ، وتلك الروح الحيوانية التي تجعل الناس يملكون أحاسيس معكوسة فيظنون النوم يقظة واليقظة نوما ، يفضلون الدنيا وهي خيال وحلم نائم على الآخرة التي هي دار البقاء وهي الحيوان لو كانوا يعلمون ، وعندما تأتى اليقظة يمضى النوم . . وعند ذاك تعلم أنك كنت في نوم ( انظر لشرح النوم الأول والنوم الثاني الكتاب الثالث شرح أبيات 1735 - 1739 )


وتقرأ في لوح وجودك ( قلبك ) أنك كنت نائما وتنتفى عنك الغفلة إذا ظهر هذا الحس ظهر عكسه تماما ومن هنا فالإنسان حيواني الحس يكون ( أسفل سافلين ) . . لقد خلق في أحسن تقويم وجمعت فيه الحقائق اللاهوتية والدقائق الملكوتية ، كما قال نجم الدين ثم رددناه « أسفل سافلين » الطبيعة ( المولوي 4 / 213 ) .
فكن كما كان الخليل رأس الموحدين فقال « لا أحب الآفلين » ، ودعك من الواهن العابر واختر المتين الثابت الباقي وحذار أن تخدع بالروح الحيوانية لأنها استطاعت أن تغير من أصل وجودك ، والحقيقة أن ضعفه هو الذي جعل الروح الحيوانية تنفذ إليه وتغيره وهي وإن كانت هكذا في الحيوان ،
فإن للحيوان عذره في البهيمية فهي طبعه ، أما الإنسان فهو الذي لديه استعداد الرقى ، واستعداد الصراع ضد الطبيعة ، والطبع والحيوانية هما اللذان يقودانه بالفعل ، فإن كل ما يفعله يزيده غفلة وقربا من الحيوان ،
بل إن أنواع العلاج تكون ذات نتائج عكسية تالية له . هذان هما النوعان الظاهران الواضحان من بين البشر من رقى إلى مرتبة الملائكية ومن


« 481 » 


نزول إلى مرتبة الحيوانية ثم يبقى قسم ثالث هو في صراع دائم بين النفس وبين العقل ليل نهار في صراع . . هذا الصنف هو الميدان الرئيسي للعرفان هذه الجدلية الموجودة في الإنسان المخلوق من الحمأ المسنون والنفخة الإلهية من الطين الذي ركب فيه عقل ينأى به عن ذلك الطين .


( 1533 - 1543 ) لم ترد هذه القصة في أخبار المجنون والبيت ورد في كتاب « النوادر » لأبى على القالى في قصيدة لعروة بن حزام ( مآخذ 4 / 139 ) كما روى مولانا نفس الحكاية في كتابه ( فيه ما فيه ) فميل المجنون للحرة أي ليلى أما الناقة فقد تركت فصيلها وميلها إليه ، فتنازع العقل والنفس كتنازع المجنون والناقة ، فالعاقل يريد أن يتقدم أما النفس فتريد أن تعود القهقرى ، ولو غفل المجنون ( العقل ) عن نفسه لحظة واحدة لانطلقت الناقة ( النفس ) إلى الوراء ، لكن عشق ليلى كان قد ملأ على المجنون كل وجوده ولم يكن هناك بد من أن يغيب عن نفسه قليلا . .
إن العقل هو الرقيب الذي يكبح جماح النفس ،
لكن عقل المجنون في يد ليلى ، أما الناقة فقد كانت فتية سريعة ، فأحست بأن زمامها مفلوت فأخذت ترجع القهقرى على الفور ،
وهكذا عندما تسيطر النفس فإنها تأخذ المرء معها إلى الهاوية ،
وعندما يفيق العقل يجد أنه قد تقهقر في الطريق وهكذا فإن الطريق الذي يمكن للعقل أن يقطعه في أيام ثلاثة يظل مترددا فيه لسنوات وهكذا يقول المجنون ، كلانا عاشق أيتها الناقة لكن عشقى مضاد لعشقك ولما كنا ضدين فليس زمامك وفق هواي فاللائق هنا ترك الصحبة واختيار الفراق .


( 1544 - 1551 ) وهكذا فالعقل والنفس كالمجنون والناقة ، كلاهما قاطع لطريق صاحبه ، وكذلك الروح والجسد ، فالروح من هجرانها للعرش وهو موطنها في فاقة ( انظر الكتاب الأول شرح الأبيات العشرة الأولى ) وفي مواضع أخرى شبَّه مولانا الجسد الإنسانى بأنه الناقة التي ترعى الشوك ( انظر


« 482 »


الكتاب الأول الأبيات 1966 - 1971 ) وانظر شرح مثنوى شريف لفروزانفر الجزء الثالث من الدفتر الأول انتشارات دانشگاه تهران 1348 ص 809 - 810 ) - في حنين دائم وفقر وفاقة واحتياج . . والجسد مطمئن إلى أجمة الشوك يرعى فيها كما تفعل الناقة ، والروح تخفق بأجنحتها إلى الملأ الأعلى ، بينما يتشبث الجسد بأظافره في الأرض . .


وكأنه يخاطب الروح قائلا : ما دمت معي يا غريبا عن وطنك . . فأنت ذليل ومبعد يا حبيبي ، وهكذا يمضى العمر على مثل هذه الأحوال ما دام الصراع لم يحسم ، وكأنه التيه وقوم موسى ، والطريق إلى الوصال كله خطوتان أقرب من حبل الوريد لكنه من مكرك أيتها النفس بقيت ستين سنة ، إن الطريق قريب لكني تأخرت . .


ومللت . . وأصابني الإنهاك والتعب من الروابى على مركب البدن الذي هو يعود بي القهقرى كناقة المجنون ولا يوصلنى إلى منزل المحبوب .
( 1551 - 1555 ) وهكذا عندما توصل المجنون ( العقل - السالك - الصوفي ) إلى هذا المعنى ألقى بنفسه من فوق الناقة . . وانظر إلى تعبير ( القى بنفسه ) أي لم يفكر ولم ينزل بتؤده ، ولم يجعلها تنزله ويهبط بل حزم أمره وألقى بنفسه . . قرر ونفذ ) قائلا : حتام الاحتراق في حزن التردد والتأخر عن المحبوب ،
وهكذا فقد ضاقت الصحراء الواسعة بالمجنون وعشقه فالقى بنفسه في أرض ذات أحجار فانكسرت قدمه . . هكذا تتوالى البلايا على المجنون دالة على صدق عشقه ( فالعاشق مبتلى ) وهكذا يربط قدمه . . لم يعد يستطيع السير فليتدحرج في سبيل ثنيات شعرها الذي يشبه الصولجان كأنه الكرة .
( 1556 - 1561 ) ومن هنا فإن مولانا سنائى يعيب على ذلك الذي يظل ممتطيا مركب البدن ، ويبدو عن هذا عند الحكيم في قوله : إنه لانعدام همة عجيب ألا يخرج المرء عن الروح وإنه لفارس بلا اقبال ذلك الذي لا ينزل عن الجسد ( ديوان 485 ) لقد فعل المجنون ذلك من أجل ليلى ومتى يكون عشق


« 483 » 
المولى أقل من عشق ليلى ؟ ! متى تكون الحقيقة أقل من المجاز ؟ !
فأولى بك يا عاشقا أن تصير كرة متدحرجة في ثنايات صولجان العشق . . فإنك إن نويت هذا السفر فلن تكون في حاجة إلى مركب ، نحن في حاجة إلى مركب الجسد طالما كنا في سفر الدنيا . .
أما سفر العشق عندما تتخلف من مركب الجسد فهناك الوسيلة وهي الجذب الإلهى الذي يجذبك إليه فجذبة من جذبات الرحمن توازى عمل الثقلين » ( ليس حديثا نبويا وورد في أحياء علوم الدين دون نسبة إلى أحد ونسبة عبد الرحمن الجامي إلى أبى القاسم النصر آبادي ) ( استعلامى 4 / 277 ) - جذبا خفيفا رفيقا فلا تحس بمشقة الرحلة بشكل لا يمكن أن يوصف . .


فلا يمكن أن يصفه جن أو أنس . . وليس ميسرا لكل إنسان ولا يستطيع أن يصل إلى استحقاقها عامي - فهي لخواص الخواص لقد وصفها فضل أحمد . . وهي الجذبة الأحمدية منحت لقطب الأقطاب ولا تتيسر إلا بالموت الإرادى فصاحبه يسير بالله في الله على الله ( مولوى 4 / 248 ) .


( 1562 - 1577 ) عودة إلى قصة الغلام الذي انقص أجره ( أو العبد الذي قدر عليه رزقه ) والتي بدأت بالبيت ( 1490 ) إن العبد الذي أنقص الملك أجره لم يتصرف كعبد أمام المليك بل ترك التسليم ، ولم يتأدب في الطلب ، بل ظن نفسه صاحب حق ، وكتب للملك رقعة مليئة بالإنكار والكراهية ، أما كان أولى أن ينظر في هذا الخطاب قبل أن يرسله إلى الملك . . هل هو جدير بأن يرسل إلى الملك أو لا ؟ ! وهكذا أنت أيها الإنسان ، انظر هذا الخطاب المسمى جسدك إن كان جديراً بالمليك فقدمه إليه - هيا تنح بنفسك جانبا واجمع نفسك ، وطالع صحيفة بدنك ، وحاسب نفسك قبل أن تحاسب ، وراقب أعمالك هل هي لائقة بأن تقدم إلى السلطان أولا تقدم ، فإن لم تكن لائقة ، عليك أن تقوم بتمزيقها ، عليك أن تصلح صور أعمالك ، وأن تفتح صفحة جديدة لكن إياك أن تظن أن هذا الأمر سهل هين ، وإلا لكان الاطلاع على القلب ودونه فناء الجسد والطبائع - أمر هين


« 484 » 
بالنسبة لأي إنسان ، إن الاطلاع على صحيفة البدن أمر صعب إنه عمل الرجال أولئك الرجال الذين يستطيعون مواجهة النفس ، تتبع الأمراض التي تقع في وجودهم من أثره وأنانية وكبر وغرور وحسد ، كم من الناس يستطيع أن يخلو بنفسه ، ويطالعها بعد أن يجردها من كل هذا الزيف الذي يعلوها والذي يواجه به الناس . . هل تستطيع أن تتحمل مشاهدة ما فيها من مثالب وقبح ؟ !
من منا يستطيع مثلا قبل أن ينام - أن يخلع عن نفسه وجهه المستعار . . وأن يكون نافذا نظره ليدخل إلى أغوار النفس السحيقة فيطلع على ما فيها من وحوش كامنة تنتظر الفرصة للانقضاض ؟ ! . .
لا . . إننا جائعون قانعون يفهرس هذا الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر ، قنعنا بالقشور ولم نصل إلى اللباب ، ما هذا الفهرس ؟ هو الإقرار باللسان . . وما الإيمان إلا ما وقر في القلب وصدقه العمل . . فهيا طالع قلبك وافهم ما وقر فيه . . هل هو بالفعل موافق لاقرارك ؟ ! . هل أنت مسلم ؟ !
هل سلم الناس من لسانك ويدك ؟ ! هل أنت موحد . . ألا تعترف بجبار في الأرض فتكون قد سقطت في الشرك ؟ !
هل يوافق قلبك لسانك أو تكون قد سقطت في شراك النفاق ؟ !
إنك تحمل جوالا ثقيلا مليئا بكل عطايا الإله لك . . إنه لن يقل إذا ألقيت إليه نظرة قبل أن تقدمه إلى السلطان انظر إليه أولا . . فإذا كان لائقا احمله . . وإلا فاجعله خاليا في البداية من كل ما ليس له قيمة . . وخلص نفسك من العار . . وضع في جوالك ما هو لائق حتى لا تفتضح ولا تشعر بالخزى يوم أن يعرض ما يحمله الناس إلى رب العالمين .


( 1578 - 1589 ) الحكاية هنا لم يذكر لها فروزانفر أصلا وهو تمثل وقفة من وقفات مولانا جلال الدين لكي يقدم فكاهة أو طريفة توافق مقتضى الحال . .
وفي نفس الوقت يعطى نماذج شخصيته من مجتمعه ، فها هو الفقيه المسكين يرى كبر العمامة يوحى بكثرة العلم ( وكثيرون هم في عصرنا الحالي من أشباه الأساتذة يرون أن وجاهة الحلة والمظهر اللامع أجدى من الجد في العلم . . وهم أسرع في الوصول إلى المناصب والجاه لأنهم يتعاملون في زمن يرى أن هذه هي


« 485 »


قيمته الوحيدة ، ويكتب في إعلانات طلب الوظائف حسن المظهر ) . . هذه العمامة العظيمة الفخمة الضخمة مكونة من خرق مهلهلة ( أو هذا العلم الظاهري الذي يرمز إليه الفقيه مكون من معلومات قد قمشت من هنا وهناك ) وظاهر هذه العمامة كأنه حلة من الجنة ( ظاهر هذا الفقيه يوحى بأنه عالم فذ ) لكن باطنها خلقِ كالمنافق تماما ظاهرة مزدان وباطنه قبيح . . وها هو أحد خاطفى العمائم ينتظره في مكمن وهو في طريقه إلى المدرسة . . إن فضيحة هؤلاء المتظاهرين كثيرا ما يجعلها الله تعالى على أيدي أهون خلقه ، وما أفظعها رذيلة الادعاء .
فها هو يخطف العمامة من فوق رأسه ويقع نفسه في الفخ ، لقد ظن أنه قد سقط على كنز ثمين ولا يدرى أنه قد سقط على كومة من القمامة تماما مثل أولئك الذين يغترون بمظاهر بعض مدعى العلم ، فيطلبون العلم عليهم وهم أحوج الناس إلى التعليم ، . . وها هو الفقيه يناديه بعبارة صارت مثلا ، افتح العمامة ثم احملها إذا أردت أن تظفر بشئ فتأكد أولا بأي شئ ظفرت ، لا بالخرق البالية وبالقمامة . .
وكل ما بقي في يده من تلك العمامة العظيمة الكبيرة الفخمة ذراع من القماش القديم البالي . . وهكذا كل من يغتر في هؤلاء العلماء الذين يهتمون بالظاهر . .
كل ما يظفرون به لفافة خرق بالية لا تنفع ولا تجدى وهكذا أيضا كل من يغترون بظاهر الدنيا ويسرعون في أثرها .


( 1593 - 1609 ) ها هي الدنيا بالرغم من أنها مزدانة خلابة إلا أنها كالفقيه إياه تحدثك عن عدم وفائها هي من شقين كون وفساد . . والمراد مطلق الوجود ، الوجود والعدم في عالم الحركة فالبقاء والثبات لواجب الوجود وهو الله تعالى أما العالم الطبيعي فهو متجدد ( بين الوجود والعدم ) آنا بعد آن ( سبزوارى 4 / 294 ) غير أن مولانا يرى أن كونها وفسادها حادثان معا جنبا إلى جنب ، فما من كون إلا ويتبعه فساد ثم كون . . وهكذا دواليك ، فالدنيا تتحدث إليك بلسانين : كون يقول لك هلمَّ إلىَّ إنني مبارك الخطى محمود العاقبة . . لكن الفساد




« 486 »


سرعان ما يجيب : إليك عنى فأنا لا شئ . . فما من وجود إلا ويتبعه عدم . . ما من ربيع بهى إلا ويعقبه خريف كئيب . .
ما من شمس ساطعة إلا ويعقبها غروب . . وما من بدر إلا ويعقبه محاق هذه هي سنة الله في خلقه إن الطفل الجميل ينقلب إلى شيخ مخرف ، كان هذا الغلام الجميل الفاتن سالبا للب ، انظر إليه في شيخوخته كأنه حقل قطن من شيبه . .
فلو فكر العاشق في منتهى حسن الذي يسبيه لم يسبه ( أبو العلاء المعرى ) . .
كل ما في الكون إلى فساد وفكر معي وإلام يتحول ذلك الطعام الذي كنت تتناوله باشتهاء شديد على المائدة . . كانت هذه اللذة والشهية البادية عليها فما لك . . ما من شئ من طيبات هذه الحياة الدنيا إلا ويلحقه الفساد . . . انظر إلى هنا الأستاذ الماهر في صنعته ألا ترتعش أنامله فيما بعد فلا يحسن الإمساك بشئ . . وانظر إلى هذه العين الحسناء الفاتنة ألا تصاب بالعمش وينزف منها الماء . . وانظر إلى ذلك البطل الهمام الذي يشق الصفوف ألا يخاف من فأر في شيخوخته ، انظر إلى الدنيا بهذين المنظارين لطفها البادى ثم فسادها الحتمي .


( 1610 - 1621 ) إذا كانت الدنيا تبدى لك كل هذا ، وإذا كنت تشاهده وتلمسه . . فلا تقل إذن ولقد خدعتنى الدنيا بمكرها قال على - رضي الله عنه - : وقد سمع رجلا يذم الدنيا : أيها الذام للدنيا المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها ، أتغتر بالدنيا ثم تذمها ؟ أأنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك ؟ ! أمتي استهوتك ؟ !
أم متى غرتك ؟ أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى ؟ !
كم عدلت بكفيك وكم مرضت بيديك ؟ وكم مثلت لك به الدنيا نفسك وبمصرعه مصرعك ، إن الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود عنها ودار موعظة لمن اتعظ بها » ( جعفري 10 / 243 )
فالآن وقد أخبرتك وبينت لك : انظر إلى ظاهر الدنيا بعين البصر وإلى حقيقتها بعين البصيرة : انظر إلى أطواقها الذهبية وخمائلها وسلاسلها الذهبية ، ( زينة


« 487 » 


الرؤساء والملوك ) كيف تنقلب في النهاية إلى أغلال في الأعناق ( وأحيانا في الدنيا أيضا ) وقس على هذا فليس هناك أحب إلى قلب ابن آدم من الجاه ، والجاه قتَّال حتى في الدنيا نفسها ، قس على هذا ما هو أقل من هذا بكثير انظر إلى العواقب ، ولا تنظر إلى المعلف ، انظر بعينك حتى لا تكون أعور كإبليس ، فمن عوره نظر إلى آدم على أنه من طين فحسب ولم ينظر إلى الجانب الروحي فيه ، ولقد فضل الرجل على المرأة لأنه أكثر تقديرا للعواقب ، وليس بقوته ولا بشجاعته ، وإلا فمن الحيوانات من أشجع منه وأقوى .


( 1622 - 1640 ) هيا واحزم أمرك وتدبر العواقب فأنت بين اختيارين ، والدنيا تناديك بصوتين متضادين تماما ، أحد الصوتين نشور الأتقياء والآخر خداع للأشقياء ، هي تقول إنني ورد على غصن شوك سرعان ما يسقط الورد ويبقى الشوك . . الزهر يصيح ها هنا بائع الورد والشوك يصيح حذار منا وإليك عنا . . وإن قبلت جانبا فعليك أن تفقد الأمل في الجانب الآخر . . فسوف تصم وتعمى عما سوى ما ملت إليه . . هذا صوت يصيح ها أنا ذا حاضر لك هيت لك . .
، وصوت آخر يقول : بل انظر إلى عاقبة هذا الجمال والفتنة فها هو إلا مكر وكمين منصوب لك فانظر إلى عاقبة هذا الجمال ، وما أسعده ذلك الذي حزم أمره من البداية . .
وسمع أقوال الرجال الذي قالوا : يا دنيا غرى غيرى ، لقد أدرك من النهاية أن المكان خال فانتحى جانبا ورأى سوى كل ما اختار اعوجاجا يبدو في ثوب حسن وقشيب ، وخير ما فعل من البداية ، فإنك إن استخدمت الآنية الجديدة من البداية في البول فلن تستطيع مياه الأرض بعدها أن تطهرها فلقد تمكن البول من أصلها وهكذا كل من يجعل الدنيا همه من البداية يكون من الصعب بل من المستحيل أن يقلع عنها فكل شئ في الدنيا يجذب الصالح له الموافق له : الكفر يجذب الكافر والرشد يجذب الرشيد وكم هناك من شهوات في الدنيا ، الخير نفسه شهوة بالنسبة لمن لديه استعداد للخير ، والأشياء التي


« 488 » 


تجذب مختلفة الحديد يجذبه المغناطيس والقش يجذبه الكهرمان ، وما لا ينجذب إلى الأخيار يكون انجذابه إلى الفجار ، تماما من لم ينجذب لفرعون ويخدع به إنجذب إلى موسى واستجاب إليه ، وإذا عميت عليك معرفة أحد . . فانظر من اتخذ إماما في حياته فبإمامه وقدوته يعرف .
( 1641 - 1649 ) ما ورد في العنوان : أبيت عند ربى حديث نبوي وبقيته يطعمني ويسقيني ( انظر 1 / 3840 ) وفي الدفتر الخامس شرح آخر للحديث : إن كل إنسان يجذب إليه كل من هو من جنسه ألست ترى مهر كل حيوان يسرع في أثره ، إن تجانسه يبدو من هذه المتابعة ، وانظر إن وليد الإنسان يرضع من الصدر والصدر هو الطرف الأعلى في الإنسان ، بينما وليد الحيوان يرضع من الطرف السفلى لأمه فلم يكرم بالروح ولم يكرم بالاختيار والقسمة عادلة فلا ظلم هناك ولا جور . . بل أنت مختار حر الإرادة فإن كان ثمة جبر فمتى كنت تندم على فعلك القبيح ما دام الله قد قدره عليك ؟ !
وكيف يكون ثمة ظلم تعالى الله عن الظلم علواً كبيرا وهو خالقك وحافظك . . ها هو اليوم يقترب من نهايته لتكن بقية الدرس في الغد . . أي يوم وأي غد ؟ !
وهل يمكن للأيام أن تستوعب سرنا ؟ !
هل يمكن للأسرار أن تنقل في الأصل عبر الدروس ؟ هنا يحل ضيق بمولانا فيقف شاكا في قيمة ما يعمل . . بل شاكا في اخلاصه نفسه . .
ويخاطب نفسه أو أحدا آخر : حذار أن تكون واثقا مطمئنا إلى ما فعلت فليست النجاة بالعمل بل بالتوفيق الرباني وليس كل من عمل كثيرا رزق كثيرا بل الرزق مقسوم فكيف تثق وتطمئن إلى حديث سقته رياء ونفاقا . . لعلك بالغت فيه لكنه مثل حباب الماء سرعان ما يزول وينفجر وليست بذات قيمة لكنها واهية امتلأت نورا لكنه كنور البرق لا ثبات له ولا دوام ، ولا يستطيع السالكون السير في ضوء هذا البرق .


( 1650 - 1669 ) لا يزال مولانا في نفس « القبض » الذي سيطر عليه فهو قد فقد الأمل في هذه الدنيا وأهلها ، واعتراه القنوط من أن يرى منهم خيرا أو


« 489 » 


يدفع عن نفسه منم شرا : فهذه الدنيا لا نفع فيها لا هي ولا أهلها . . هم مثلها تماما لا وفاء لهم وابن الدنيا تماما مثل أمه لا وفاء عنده . . أما أهل ذلك العالم من الأولياء والأنبياء فهم محافظون على عهدهم وميثاقهم إلى الأبد ، ولذلك فهم في توحد ووحدة فهل سمعت أن نبيين تشاجرا معا ؟ !
هل سمعت أن نبيا سرق معجزة من نبي آخر ؟ ! وهذه الفكرة مأخوذة من شمس الدين التبريزي ( مقالات 356 ) .
إن ثمارهم من العالم الآخر ولذلك لا يطرأ عليها فساد بل هي نضرة دائما ، سرورهم دائم وسعادتهم مستمرة لأنها سعادة نابعة من العقل . .


وشتان ما بين هذا السرور وبين السرور الذي نتج عن اشباع شهوات النفس ، فالنفس لا عهد لها ومن ثم وجب قتلها إنها دنية وقبلتها الدنايا من شهوة وفسق ومعصية وكبر وتفاخر وغرور وهوى وهوس ومن ثم فهذا المحفل أي محفل الدنيا لائق بالنفوس . . كما يليق القبر أو الكفن بالميت والنفس وإن كانت ذكية عالمة بالدقائق أي إن كان أربابها أذكياء مدققون عالمون بالدقائق في صدر كل مجلس وقبلتها الدنايا فاعتبرها ميتة لكن هناك أمل في أن تحيا تلك النفوس الميتة إذا صب عليها ماء وحى الحق ، إن الإيمان والمعرفة اللدنية الإلهية منهما تكون الحياة الخالدة ، والصيت الذي لا يعقبه خمول ، وشعاع شمس الحقيقة التي لا يعقبها أفول . .


وهي شمس الإرشاد ، ودعك من تلك الفنون الدقيقة والجدل والنقل وعلوم الدنيا إنها بناء فرعون ألم يبن فرعون صرحا على الطين ؟ ! ألم يكن في قصر تجرى من تحته الأنهار ؟ !


ألم يأخذ من زينة الدنيا ؟ ! وهل يمكن لأحد أن يكون له ما كان لفرعون من زينة ومن جاه وسلطان لكن الأجل في انتظارها كأنه ماء النيل الذي تحول إلى دم ، إن هذه المعارف الدنيوية بأبهتها وقعقعتها وكبكبتها وسحرها بالرغم من أنها تجذب إليها الخلق أشبه بحيات سحرة فرعون ، إنها تسحر العيون فحسب لا تتجاوز الإبهار البصري إلى العقول والأفهام والقلوب ، والموت بالنسبة لها كحية موسى يبتلعها جميعا ، لقد


« 490 »


ابتلعت حية موسى كل السحر كعالم ملىء بالظلمة ابتلعه نور الصبح والنور الذي إبتلع ذلك الظلام لم يزدد به بل ظل على حاله الذي كان عليه ، من قبل ذلك نور الله الذي يسطع على الخلائق لا تزداد به ذاته الشريفة فالزيادة في الأمر وليست في الذات ومتى وجدت الموجودات بإيجاده كان كل شئ هالكا إلا وجهه كل فان فان في الأزل وهي باقية لم تزل ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم - كان الله ولم يكن معه شئ وقال الجنيد قدس الله سره : الآن كما كان وقال عبد الرحمن الجامي : كان منجم الحسن ذاك ولم يكن ثم علامة عن الكون ، الآن آن عرفت ما عليه كان ( انقروى 4 / 362 - 363 )


فلا زيادة في ذاته من أخذ ولا نقص فيها من عطاء وهناك بلا شك فرق بين زيادة الأثر وزيادة الذات ، وزيادة الأثر اظهاره تعالى للأثر حتى تظهر صفاته الكاملة وقدرته الشاملة وغرائب صنعته الثابتة . .
والزيادة في الذات تدل على إنها حادثة وعليلة بالعلل ، وكما كان في غيب ذاته موصوفا بالكمال والغنى فهو بعد ايجاد الخلق منزه عن أوصاف الحوادث وغنى عن العالمين فالوجود لله تعالى حقيقة ولما عداه عارية كما قال في حديث القدس : « خلقت الخلق كي يربحوا على لا أن أربح عليهم » ( انقروى 4 / 364 ) .


( 1670 - 1676 ) ها هو موسى عليه السلام بالرغم من تمكينه ونبوته وثبات إيمانه ووفرة نصيبه من النور الإلهى ، يعتريه الخوف عندما يرى سحر السحرة قد اختطفت أبصار القوم وألبابهم ، وقيل بل خاف موسى لأن سحرهم من جنس معجزته فخاف أن يلتبس الأمر على الناس فلا يؤمنوا به –
وقال نجم الدين كبرى يشير إلى أن البشرية منه مأخوذة الحيلة الانسانية وكونه نبيا إلى أن ينزع الله الخوف منه ، ( مولوى 4 / 223 ) .
ويطمئن الحق موسى عليه السلام إنه سوف يخلق التمييز في الخلق ، فالتمييز هبة من الله وعطية من عطاياه فلو أنهم بدوا في أنظارك بحرا مرغيا مزبدا فإنك أنت الأعلى «فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ


« 491 »


وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ» ( الشعراء : 44 ) «فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ . . وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ ، فَوَقَعَ الْحَقُّ ، وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ» ( الأعراف : 116 - 122 )


لقد أرسل الله سبحانه إليهم معجزة من جنس ما كانوا يفخرون به كان فخرهم السحر فأرسل إليهم عصا أبطلت سحرهم ، وهكذا يكون المحك دائما من جنس الفخر ، فكل حي ادعى الملاحة والجمال فالموت في انتظاره ، المحك إذن في انتظار تمييز الذهب النضار رجل الحق من المزيف المدعى وبخاصة عند أولئك الذين يكشف لهم بعض الكشف فيغترون ويمتحنون ببعض الكرامات فيضلون ويدعون الارشاد وكل شئ يمضى ولا يتبقى إلا الاسم : مضى السحر إلى حال سبيله كما مضت المعجزة ، وانعدم الكل ولم يبق إلا الاسم ولم يبق من السحر إلا اللعنة ومن الدين إلا الرفعة .


( 1677 - 1694 ) وإذا كان المحك قد اختفى ، انتهت النبوة ولم يبق إلا المعاد محكا بالنسبة للرجال والنساء ، فهلم أيها الزيف هذا عصرك وأوانك فهيا تعال هنا وتنفج وتحدث بما ليس فيك ، فإن الأيدي سوف تتناوبك والناس سوف يلتفون حولك ، ما دام المحك ( الموت ) ليس موجودا ،
وها هو الزيف يجادل الذهب قائلا له متى كنت أيها الذهب أقل منك ،
 لكن الذهب يرد عليه قائلا قد يكون هذا في الظاهر أيها الرفيق لكن الموت آت لا محالة فكن منتظرا له « والموت هو هدية المؤمن » أليس من بعده يكون الفصل بينه وبين المنافق والموت تحفة المؤمن وريحانة المؤمن فهل ينقص الذهب الخالص من المقراض ؟
أو لو أدرك الزيف العاقبة لنجا من السواد في الآخرة ولنجا من النفاق ومن الغثاء ولطلب كيمياء من فضل الله عند الأولياء والمرشدين الذين يبدلون المنافق الشقي إلى مؤمن


« 492 »


وسعيد كما تبدل الكيمياء المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة ، ويغلب عقله وقلبه على نفاقه واحتياله ولتنازل عن كبريائه ولجأ إلى رب المنكسرين عبداً مسكينا ، إذن لجبر انكساره ولربطه على الفور برباط المنكسرين ونجاه من كبره ومن شقوته . لقد ساق الفضل الإلهى أولئك الكفار الذين يشبهون النحاس إلى الأكسير . . نعم لقد اعترفوا بأنهم كفار ، اعترف بعجزك أمام الله وبعبوديتك واحتياجك يهديك ، أما إذا كنت هكذا محتاجا متكبرا وكافرا منافقا متظاهرا بالإيمان تماما كالزيف المطلى بطلاء الذهب ، فسوف تظل محروما ، وإياك أيها الزيف من الدعوى فسرعان ما يفيق طالبوك والمتحلقون حولك فيرون زيفك ، إن ذلك الضياء الساطع الذي سيضىء عرصات المحشر سوف يفتح عيونهم وسوف يفتضح آنذاك كيف وضعت الكمائم على عيونهم ، وكيف خدعتهم وانظر آنذاك لأولئك الذين رأوا العاقبة كيف أصبحوا حسرة على الأرواح وحسدا للعيون . .


وانظر أيها الزيف إلى أولئك الذين اهتموا بالحال وكيف أبعدوا رؤسهم الفاسدة عن أصل السر والوطن الحقيقي وهجروا عالم المعنى كلية . . إن ذلك الذي يتعلق بالحاضر ويتعلق بالحال ولا يرى وجودا سوى وجود الدنيا وهو في جهل وشك يتساوى عنده الصبح الصادق ( المرشد الحقيقي ) مع الصبح الكاذب ( المرشد المزور أو المزيف ) وكم أهلك الصبح الكاذب من قوافل سارت على نوره المزيف فلم تلبث أن وجدت نفسها في الضلام الدامس وابتلعتها تلك الصحارى من الضلال ، وما من حال حاضر إلا وهو ماض في الضلالة أن نظرت إلى صورته ولم تدرك سره ، وهو جدير حقا بالأسف والحسره ذلك الإنسان الذي لا محك له ولا مقراض معه يستطيع بهما أن يختبر المعدن الذي يعرض عليه فيرى إن كان ذهبا خالصا أو كأسا مطليا بالذهب ، ألسنتهم أحلى من السكر وقلوبهم قلوب الذباب ( انقروى 4 / 369 ) .

« 493 » 


( 1695 - 1706 ) إن مثال الزيف والمعدن الرخيص الذي ادعى أنه معدن نفيس هو مسيلمة الكذاب الذي سمى نفسه أحمد مدعى أن الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه محمد فحسب وإن أحمد رسول نص عليه في القرآن ، ويسمى برحمن اليمامة ، وقتل بحربة وحشى قاتل حمزة ! ! الذي قال هذه بهذه ( انظر تاريخ الطبري ج - 3 ص والإمامة والسياسة لابن قتيبة ج - 1 ) هذا المدعى ادعى أنه سوف يقضى على دين محمد . .


فهيا قل لأبى مسيلمة الكذاب ولكل كذاب كفاك بطرا وجحودا ودعك من النظر إلى الدنيا وانظر إلى اللعنة التي سوف تصيبك في النهاية ، ولا تكن مرشدا للخلق وكل هدفك هو جمع المال وكن تابعا لشمع الدين لكي ينير لك الطريق ويخلصك من النفاق والكفر ويريك مقصدك كأنه القمر وترى أن كان في القمر نفع أو في هذا المصباح وهو الذي تستطيع أن تميز به بين الصقر ( المرشد الحقيقي ) لأنه قادر على إجتياز العقبات ولأنه في كف المليك ولأنه في حاد البصر ، - وتوصف روح الصوفي أو السالك أيضا بأنها كالصقر بينما وصف ابن سينا ( الفيلسوف ) الروح بأنها حمامة


- وبين الزاغ ( أي الشيخ المزور الكذاب ) وإن قلت أنك تستطيع أن تميز بينهما ، وأن الفرق بينهما بين واضح وليس في حاجة إلى المرشد ، أقول لك وإن طيور الزاغ أو الغربان تعلمت تقليد أصوات الطيور البيضاء أي الصقور البيضاء وهي أغلى أنواع الصقور ، أي إن أولئك الذين يدعون الإرشاد يقلدون حركات المرشدين ، وسكناتهم دون أن يكون لهم بواطنهم وعلمهم وإن تعلم أحد صوت الهدهد ، ( أي أرباب العلم والمعرفة )
فقل له أين سر الهدهد وأين الرسالة التي جاء بها من سبأ . .
نعم فأن لكل ظاهر باطنا يستتبعه ، والمنافق المدعى فحسب هو الذي يقف عند الظاهر والطيور كلها تغرد لكن فرقا شاسعا بين تغريد طائر محلق في أجواز الفضاء وتغريد طائر حبيس في ركن من قفص ،
أعلم هذا الفرق البين بين من لا تقف أمام أحاديثه حواجز والكون كله مفتوح أمامه وبين قانع بالمظهر لكن


« 494 » 
باطنه بلقع لا تجرى على لسانه حكمة الشيخ . . وميز بين تاج الهدهد وتاج الملك وإن كان كلاهما تاجا - إن أولئك الذين حرموا نعمة الحياء ( وهو من الإيمان ) أخذوا يتحدثون بأطراف ألسنتهم دون قلوبهم ( وقلوبهم خاوية ) بأحاديث المرشدين والعارفين وما كان هلاك الأمم إلا من اتباعهم لأمثال هؤلاء ، لقد ظنوا إن الصندل عود هذا بالرغم من أن تلك الأمم كانت تستطيع التمييز وكان لديها نفس المقاييس لكن الحرص والهوى يصمان ، حبك الشئ يعمى ويصم ، إن الأعمى ليس مبعدا عن رحمة الله ، بل أن الله سبحانه وتعالى يضع الرحمة في قلوب عباده بالنسبة له ويشفقون عليه لكن أعمى الحرص وأعمى الهوى وأعمى الغرض ليس معذورا ، وإن الذي يصلبه الملك ليس بعيدا عن الرحمة أيضا لكن الذي يصلبه الحسد أي يكون مبتلى بالحسد فيكون كالمصلوب الذي ينظر إلى موضع واحد وأفق نظره محدود تماما يكون في عناء وبلاء من حسده لكنه لا يستطيع أن ينجو منه لأنه مرض بلا دواء والعياذ بالله .


( 1707 - 1716 ) انظرى يا سمكة في بحر الحياة المتلاطم إلى الشص ، وقاومى ، فإن شهوة الحلق قد أغلقت عين العاقبة عندك . . هيا انظر بعينيك الاثنتين إلى البداية والنهاية ولا تكن أعور كإبليس اللعين ، والأعور هو الذي ينظر بعين واحدة وينظر إلى الحاضر فحسب ، ومن ثم فهو كالدواب لا علم لها عندها بما خلفها وقدامها عن الظاهر والباطن وعن المبدأ والمعاد ، ومن هنا فإن دية عيني بقرة هما كدية عين واحدة ، لأن بصرها محدود والفقهاء يفسرون ذلك بأن الدابة لها عيناها وعينا مستعملها فهي بمثابة عيون أربعة ، ومن ثم فالعينان بمثابة عين واحدة عند إنسان وقد قضى - صلى الله عليه وسلم في عين الدابة بربع القيمة ، ويفسر مولانا بأن عين البقرة تساويان نصف قيمة عين الإنسان لأنهما تعتمدان على عين الإنسان . . ولأن عيني الإنسان تقومان بالعمل دون مساعدة من الآخر . وبالطبع كان مولانا فقيها قبل أن يكون صوفيا ، لكنه


« 495 »


يسرع ويترك هذه المجادلة الفقهية لبفسر لنا تفسيرا صوفيا بأن عين الحمار ناظرة إلى اللحظة إلى الحاضر وليست ناظرة إلى العاقبة ، فحكم الحمار هو حكم الأعور ويرى نفسه سوف ينغمس مرة أخرى في المناقشة الفقهية فيقول بأن هذا الكلام كلام آخر وأن الغلام الذي أنقض أجره مشغول بكتابه رقعة طمعا في الرغيف .
ولكل اهتمامه ، فهمة المرشد إلى ما ينفع مريديه وهمة الغلام إلى ما يملأ بطنه .


( 1717 - 1728 ) عودة إلى قصة الغلام الذي أنقص أجره والتي بدأت بالبيت 1491 وأشار إليها إشارة عابرة في البيت 1563 فها هو يريد أن يضع وزر ما حاق به على كل الناس إلا على نفسه ، فها هو يجادل رئيس الطابخين الذي يحاول أن يقنعه أن الذي حدث لم يكن من فعله هو أولا ،
ثانيا : إن السلطان لم ينقص أجر الغلام بخلا منه . فالسلطان مشهور بالسخاء والجود وإنما يعطى لكل إنسان على قدر مصلحته « وإن من عبادي من يصلح لهم الغنى وإذا أفقرتهم فسدوا وإن منهم لمن يصلح لهم الفقر وإذا أغنيتهم فسدوا » .
( حديث نبوي ) وإنما هم عبيد مأمورون والعاطى في الحقيقة هو السلطان : فليدع السلطان ، ليدع الأصل وليترك الفروع ، هيا انظر إلى الآية الكريمة «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» ( الأنفال : 17 )


قال نجم الدين : نفى القتل عن الصحابة بالكلية وأثبته لنفسه ونفى الرمي عن حبيبه وأثبته له ثم أثبته لنفسه وهنا ما نفى الرمي عن النبي عليه السلام بالكلية بل أسند إليه الرمي ولكنه نفى وجوده بالكلية في الرمي وأثبته لنفسه أي ما رميت بك إذ رميت ولكن رميت بالله وذلك في مقام التجلي فإذا تجلى الله لعبد بصفته من صفاته يظهر على عبد منه فعل يناسب تلك الصفة .
كما كان من قال عيسى عليه السلام لما تجلى الله له بصفته الإحياء كان يحيى الموتى بإذنه وهذا كقوله : كنت له سمعا وبصرا ويدا ( مولوى 4 / 243 ) والغلام مع كل ذلك لم يرتدع . . فانتحى جانبا وكتب رسالة .


« 496 »


( 1729 - 1738 ) إن رقعة الغلام للملك شبيهة بأحاديثنا جميعا إلى السلطان : لقد أثنى الغلام في رقعته على السلطان ، تحدث عن جوده وسخائه وعن أنه أكرم من البحر والسحاب ، ذلك أن السحاب يجود بالمطر باكيا ، أما الملك فيجود بالعطية ضاحكا هذا هو المدح الموجود بالرقعة لكن رائحة الغضب تفوح منها وانظر إلى أي إنسان قدر عليه رزقه انظر إليه وهو ينادى : يا الله أهي رنة التضرع التي تفوح من قوله والاحتياج ، أو هي رنة العتاب والغضب . .
إنه خطاب غاضب هدفه اظهار الغضب ، وما الثناء والمدح هنا إلا من قبيل الرياء ويترك مولانا جلال الدين الغلام الذي يغضب ويمدح من أجل الخبز لا من أجل الرضا ، ويتجه بالحديث إلى غلمان السوء في الدنيا : من هذا فكل أفعالك أيها الغافل المرائي بلا نور ،
ليست أفعالك القبيحة بل عباداتك وطاعاتك أيضا لأنك بعيد تماما عن النور الطبيعي والنور الإلهى ، وهكذا أعمال الأخساء الأدنياء لا رونق فيها ولا ازدهار ولا طائل من ورائها مهما بدت طيبة ،


فهكذا شأن الفاكهة الفجة غير الناضجة تماما سريعا ما تعطن ، وهكذا رونق الدنيا وزخرفها ، لا طائل من ورائه فهي عالم الكون والفساد وطالما أنت تمدح أحدا باللسان دون أن يمدحه قلبك . فإن الصدور لا تنشرح بهذا المدح فالحقد في قلب المادح يمنع مدائحه من التأثير فلا صدق في التعبير ولا إخلاص فلا يتجاوز الآذان إلى القلوب . . فقبل أن تقرأ « الحمد » أخل قلبك في البداية من الحقد والكراهية ، فالحمد على اللسان . .
والاكراه في القلب يكون نوعا من خداع اللسان وغشه واحتياله إذ أن « الله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم » الاخلاص في العمل إذن أساس قبول أي عمل أو نجاحه : لا تتحدث عن المستضعفين وأنت غارق في الرفاهية ، لا تكتب عن الجهاد وأنت خامل ضعيف لا يتأتى منك فعل ، لا تكتب عن العمل وأنت عاطل ، ولا تتحدث عن العطاء وأنت لا تفعل شيئا إلا أن تأخذ . . كثيرون هم أمثالك في هنا العالم .
.

.

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: