السبت، 29 أغسطس 2020

10 - أطوار خلق الإنسان ومنازلة من البداية .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

10 - أطوار خلق الإنسان ومنازلة من البداية .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

أطوار خلق الإنسان ومنازلة من البداية .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

أطوار خلق الإنسان ومنازلة من البداية
- لقد جاء في البداية إلى إقليم الجماد ، ومن الجمادية انتقل إلى ( المرحلة ) النباتية .
- وعمر في المرحلة النباتية بضع سنوات ، وهو لا يذكر في بحبوحة النباتية شيئا عن الجمادية .
..............................................................
( 1 ) البيت في نسخة جعفري تحت العنوان الذي يتلوه ( ج - 11 / ص 55 )

« 352 »

- وعندما انتقل من المرحلة النباتية إلى المرحلة الحيوانية ، لم يذكر شيئا قط من أحوال المرحلة النباتية .

3640 - اللهم إلا هذا الميل الموجود لديه إلى النبات ، خاصة في وقت الربيع ، وأوان الرياحين .
- تماما كميل الأطفال إلى أمهاتهم ، دون أن يعلموا أن سر هذا الميل هو الرضاع .
- وكذلك الميل المفرط من كل مريد جديد في الطريق ، إلى شيخه فتى الاقبال .
- فهو بمثابة العقل الجزئي والشيخ بمثابة الكلى، وحركته منه كحركة الظل من غصن الورد.
- وفي النهاية يفنى ظله فيه ، فيعلم - من ثم - سر ميله إليه وطلبه إياه .


3645 - ويا أيها المقبل ، متى يتحرك هذا الغصن مرة ثانية إن لم تتحرك الشجرة من أساسها ؟ .
- ثم يجذبه ذلك الخالق الذي تعلمه مرة ثانية من المرحلة الحيوانية إلى المرحلة الإنسانية .
- وهكذا ، فقد انتقل من إقليم إلى إقليم ، حتى صار الآن عاقلا عالما عظيما .
- ولا يتذكر شيئا عن عقوله الأولى وأنه قابل أيضا للتحول عن هذا العقل الذي هو فيه .
- وإنه عندما يتخلص من هذا العقل الملئ بالحرص والطلب ، يرى مئات الآلاف من العقول العجيبة . 

« 353 »


3650 - وإذا كان قد صار نائما وناسيا ما فات ، فمتى يترك نسيانه ذاك .
- إنه يجذب من نومه هذا إلى اليقظة ، بحيث يسخر من أحواله ( السالفة ) .
- متسائلا : أي حزن ذاك الذي أحسه في النوم وكيف نسيت أحوال الصواب ؟ ! 
- وكيف لم أعلم أن ذلك الحزن والاعتلال هو من فعل النوم . ومجرد خداع وخيال ؟ .
- وكذلك الدنيا ، فهي مجرد حلم نائم ، والنائم يظن أن نومه دائم 
 

3655 - حتى ينبثق على حين غرة صبح الأجل ، فينجو من ظلمة الظن والوهم والخداع .
- فيضحك ساخرا من أحزانه تلك ، عندما يرى نفسه مستقرا في مكانه .
- وكل ما تراه في النوم من خير وشر ، يبدو لك يوم الحشر ظاهرا عملا عملا .
- وكل ما فعلته في نوم الدنيا هذه ، يصبح لك عند اليقظة واضحا عيانا بيانا .
- حتى لا تظنن أن فعل الشر هذا هو مجرد رؤيا نائم ، ولا تفسير لها من أجلك .

3660 - بل إن ذلك الضحك يكون بكاء وعويلا في يوم التعبير يا ظالما للأسير .
- وأعلم أن بكاءك وألمك وحزنك وعويلك ، يصير فرحا وسرورا عند يقظتك .
- وأنت يا من مزقت جلود أمثال يوسف تنهض من نومك هذا ذئبا .

« 354 » 

- وصارت كل خصلة من خصالك ذئبا لا يفتأ ينهش أعضاءك غضبا .
- والدم لا ينام بعد موتك من القصاص ، فلا تقل : لقد مت إذن ووجدت الخلاص .


3665 - وإن هذا القصاص ( في الدنيا ) هو جزاء احتيالك ومكرك ، وهو بالنسبة لذلك القصاص ( في الآخرة ) مجرد ألعوبة .
- ومن هنا فقد سمى هذه الدنيا لهوا ولعبا ، ذلك أن هذا الجزاء مجرد لهو ولعب أمام ذلك الجزاء .
- إن هذا الجزاء مجرد تسكين للخصومة والفتنة ، إنه كالختان ، وذاك الجزاء في الآخرة مثل الخصي .

بيان أن أهل جهنم جوعى ومتضرعون إلى الحق قائلين : أكثر أرزاقنا ،
وعجل لنا في إرسال الزاد ، فلم يبق لدينا صبر .

- يا موسى . . هذا الكلام لا نهاية له ، هيا . . ودع هذه الحمر في رعيها !
- حتى تسمن كلها من هذا الرعى الجيد ، هيا ، فإن عندنا ذئابا غاضبة في إنتظارها.


3670 - ونحن نعلم أن ذئابنا آخذه في العواء، ولنجعل هذه الحمر إذن طعاماً لها.
- وإن تلك الكيمياء طيبة النفس المنبعثة من شفتيك أرادت أن تحول هذه الحمير إلى بشر .
- ولقد دعوت كثيرا باللطف والجواد ، ولم يكن لتلك الحمر طالع ورزق .
- فابسط عليهم إذن لحاف النعم مغطيا إياهم به، وذلك حتى يخطفهم نوم الغفلة سريعا.

« 355 »

- وعندما تفرغ هذه الجماعة من نوم ( ثقيل ) كهذا يكون الشمع قد انطفأ والساقي قد مضى .


3675 - لقد حيرك طغيانهم، فدعهم يشعرون بالحسرة عندما يقرأون ( جزاهم ).
- فما أن يخرج عدلنا بقدمه إلى الوجود ، حتى يعطى لكل عاص الجزاء الجدير به.
- ( ويعلمون ) أن ذلك المليك الذي لم يكونوا يرونه عيانا ، كان موجودا معهم في عالم المعاش مخفيا عن عيونهم 
- وما دام العقل موجودا معك مشرفا على جسدك ، لكن رؤيتك كانت قاصرة عن وجوده .
- وبسبب رؤيتك القاصرة يا هذا ، إنه دائما يمتحن حركاتك وسكناتك 
 

3680 - فأي عجب أن يكون خالق ذلك العقل موجودا معك أيضا وكيف لا تجيز هذا الأمر ؟ !
- ألا يكون المرء غافلا عن عقله ويحوم حول الشر ، ثم يلومه عقله فيما بعد ؟ !
- لقد صرت غافلا عن عقلك، لكن عقلك لم يغفل عنك ، فمن حضوره تكون الملامة.
- وإذا لم يكن حاضرا وكان غافلا ( مثلك ) ، فمتى كان يقوم بصفعك عند اللوم ؟!
- وإذا لم تكن نفسك غافلة ، فمتى كانت تقوم بكل هذا الجنون والفساد ؟ .

3685 - إذن فعقلك بالنسبة لك ( أيها الإنسان ) كالإصطرلاب ، فمنه تعرف قرب ( سطوع ) شمس الوجود .

« 356 »

- وعقلك قريب منك قربا بلا كيفية ، ليس عن يمينك ولا عن يسارك ولا قدامك أو وراءك .
- فكيف لا يكون للمليك قرب بلا كيفية ، لا يستطيع العقل أن يحدد الطريق إليه أو ماهيته ؟ .
- وليست هذه الحركة في أصبعك أمام هذا الأصبع أو خلفه أو عن يساره أو عن يمينه .
- إنها تمضى عنه عند النوم والموت ، وتكون معه عند اليقظة ( والحياة ) .


3690 - فمن أي طريق تأتى هذه ( الحركة ) إلى إصبعك ، وبدونها لا فائدة من إصبعك 
- ونور العين وإنسان العين عندك من أي طريق أتى . . . غير الجهات الستة ؟ .
- إن عالم الخلق ذو اتجاهات وجهات ، لكن فأعلم أن عالم الأمر هو والصفات فوق الجهات .
- وأعلم أن عالم الأمر هو بلا جهات أيها المحبوب ولا جرم أن تكون الجهات أكثر انتقاء عن الآمر .
- وبلا جهة كان العقل ، وعلام البيان أكثر عقلا من العقل وأكثر روحا من الروح .


3695 - ولا يوجد مخلوق قط بلا تعلق أو اتصال به ، لكن ذلك الاتصال بلا كيفية أيها العم .
- ذلك أن الروح لا فصل فيها ولا وصل، لكن الظن لا يفكر إلا في الفصل والوصل.

« 357 » 

- فافهم من الدليل ما هو غير الوصل وغير الفصل ، لكن هذا الفهم لا يشفى الغليل .
- واسع دائما إن كنت بعيدا عن الأصل ، حتى يأتي بك عرق الرجولية إلى الوصل .
- وكيف نفهم العقل هذه الصلة وهذا العقل مرتبط بالفصل والوصل ؟ !


3700 - ومن هنا فإن المصطفى عليه السلام قد نهانا عن البحث في ذات الله .
- ذلك أن ما هو قابل للتفكير في ذاته ، هو في الحقيقة ( في ذات المفكر ) ليس في ذاته هو ( جل وعلا ) .
- إنه ظنه هو ، ذلك أنه في الطريق . . . هناك مئات الآلاف من الحجب . . . حتى الإله .
- وكل إمرىء في حجاب ذي صلة بطبيعته وجبلته ، لكن وهمه ( يملى عليه ) أن هذا الحجاب هو ذات ( الله ) .
- ومن ثم فإن الرسول قد دفع هذا الوهم عنه ، حتى لا يتمادى في تربية الوهم على سبيل الخطأ .


3705 - وذلك الذي يكون في توهمه ترك للأدب ، فإن الله سبحانه وتعالى قد نكس من لا أدب عنده .
- وهذا النكس يكون فحواه أنه يمضى إلى الحضيض بينما يظن أنه منتصر وغالب وسام .
- ذلك أن حد الثمل هو ألا يستطيع التمييز بين السماء والأرض .
- ففكروا إذن ف‌ى آلائه وعجائبه ، وتوهوا ( عن ذواتكم ) من العظمة والمهابة .
- وعندما يفقد المرء من ( مشاهدة ) صنعه كبرياءه وإدعاءه « 1 » يعرف حده . . . ويقر بالصانع .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : لحيته وشاربه .


« 358 » 


3710 - ولا يهتف من أعماق روحه إلا بلا أحصي ( ثناء عليك ) ، فإن بيان ( تلك العظمة ) خارج عن الحد والحصر .

ذهاب ذي القرنين إلى جبل قاف وسؤاله إن يحدثه عن عظمة صفات الحق ،
وجواب جبل قاف عليه بأن الحديث عن عظمة الحق وصفات عظمة
لا تتأتى في بيان فأمامها تفنى الأفهام وتضرع ذي القرنين إليه قائلا :
حدثني عما تذكر من صنائعه وما ترى قوله سهلا عليك .

- ذهب ذو القرنين إلى جبل قاف ، فرأى إنه من الزمرد الصافي .
- قد أحاط بالعالم إحاطة السوار بالمعصم « 1 » ، فتحير في ذلك الخلق اليسير ( علي الله تعالى ) .
- فقال : إذا كنت جبلا فماذا تكون تلك الجبال الأخرى، إنها بالقياس إلي عظمتك مجرد دمى.
- قال : إن هذه الجبال هي عروقي ، ولا تكون مثلي في الحسن والبهاء .


3715 - إن لي عرقا خفيا في كل مدينة ، وأطراف الدنيا مجموعة بهذه العروق .
- وعندما يريد الحق أن يبتلى إحدى المدن بزلزال، يأمرني بأن أحرك العرق (الخاص بها).
- فأحرك طبقا للقهر ( الإلهى ) ذلك العرق الذي تكون تلك المدينة متصلة به .
- وعندما يقول : كفي تسكن عروقي ، لكن هذا السكون سكون بالعقل وأكون أنا في حركة .
- كالمرهم يكون ساكنا لكنه شديد الفعالية، كالعقل يكون ساكنا والكلام في حركة منه.
..............................................................
( 1 ) حرفيا : كالحلقة .


« 359 » 

3720 - وفي رأى ذلك الذي لا يستطيع عقله أن يدرك هذا الأمر ، أن الزلازل تحدث من أبخرة الأرض ! « 1 »


كانت نملة تسير على « ورقة » فرأت كتابة القلم ، فأخذت في مدح القلم ،
فقالت نملة أحد بصرا : إمداحى الأصابع فإني أرى أن هذا فصلها ،
فقالت نملة أخرى أحد بصرا منها وأنا أمدح الساعد فالأصابع
فرع من الساعد . . . إلى آخره

- رأت نملة صغيرة قلما ( خط ) على ورقة ، فباحت بهذا السر لنملة أخرى .
- قائلة : لقد قام هذا القلم بعجائب الصور والنقوش ، لقد نقش الريحان ومزرعة السوسن . . والورود .
- فقالت تلك النملة : إن الإصبع هي التي قامت بكل هذا الصنع ، والقلم في فعله مجرد فرع وأثر .
- فقالت النملة الثالثة : إن هذا ( من فعل ) الساعد ، فإن الإصبع النحيلة قامت بالتصوير بقوته .


3725 - وهكذا أخذت ( كل نملة ) تمضي إلى ( علة ) أعلى . . حتى رئيسة النمل التي كانت أكثر فطنة بقليل .
- قالت : لا تنظروا إلى هذا الفن من مجرد الصورة فإن هذه الصورة تفقد حسها بالنوم والموت !
- فالصورة كأنها اللباس وكأنها العصا ، وليس إلا بالعقل والروح تتحرك الصور .
..............................................................
( 1 ) . ( 2 ) ج / 11 - 76 : ليس من أبخرة الأرض ، إنه من أمر الحق ومن هذا الجبل المرسل ! !


« 360 »
  

- لقد كانت ( تلك النملة الذكية ) غافلة أيضا عن أن ذلك العقل والفؤاد هما أيضا دون تقليب الله مجرد جماد .
- وأنه إن صرف عنايته عنه لحظة واحدة ، فإن عقل الذكي يقوم بكثير من البلاهات .

3730 - « 1 » وعندما وجد ذو القرنين ( الجبل ) ناطقا ، قال عندما ثقب جبل قاف در النطق .
- أيها المتحدث الخبير العالم بالسير ، حدثني ببيان ( فصيح ) عن صفات الحق .
- قال : إمض ، فإن هذا الوصف أعظم من أن يستطيع بيان أن يتحدث عنه ،
- أو تكون للقلم جرأه أن يكتب بسنه علي الصحف خبرا ( عن ) هذه الصفات .
- قال : حدثني عن نبذة من عجائب الحق أيها الحبر الطيب .


3735 - قال : هذه صحراء تقطع في ثلاثمائة سنة ، ولقد ملأها المليك بجبال من الثلج .
- جبال من الثلج متراكمة فوق بعضها لا يحدها عد أو حصر ، يصل إليها في كل لحظة مدد من الثلج ،
- يحف جبل من الثلج بجبل آخر من الثلج ، ويوصل الثلج البرودة حتى الثري .
- ولحظة بلحظة يطا من جبل من الثلج جبلا آخر من الثلج ، لحظة بعد أخري في المخزن العجيب الذي لا حد له .
- ولو لم يكن مثل هذا الوادي موجودا أيها العظيم ، لكانت حرارة الجحيم قد قامت بمحوى والقضاء على .
..............................................................
( 1 ) هنا عنوان في نسخة جعفري ( ج - 11 / 80 ) التماس ذي القرنين لجبل قاف ليبن له صنعا من صنائع الله .


« 361 » 

3740 - فأعلم أن الغافلين هم بمثابة جبال الثلج ، ذلك لكي لا تحترق حجب العاقلين .
- ولو لم تكن صورة الجهل الناسجة للثلوج ، لاحترق جبل قاف هذا من نار الشوق .
- إن النار في حد ذاتها ذرة من غضب الله وقهره ، وهي بمثابة الدرة من أجل ردع اللؤماء .
- ومع مثل هذا القهر الذي هو مهول ويفوق الحد ، أنظر إلي برد لطفه الذي سبقه .
- إنه سبق معنوي لا مثال له ، ولقد رأيت السابق والمسبوق دون أن تكون هناك إثنينية .


3745 - وإن لم تر هذا فالسبب هو الفهم الدني ، فإن عقول الخلق بالنسبة لهذا المنجم كحبة شعير .
- فاعتبر أن العيب من نفسك لا من آيات الدين ، فمتي يحلق في أفلاك الدين طائر الطين ؟ !
- إن هذه الطيور لا تحلق في مكان أعلي من هذا الفضاء ، ذلك لأن نشأتها ونموها من الشهوة ومن الهوي . . .
- فكن حائرا إذن دون إنكار أو إقرار ، ربما يتقدمك عون من الرحمة ومحمل .
- فما دمت غبيا و ( دون ) فهم هذه العجائب ، تكون قد تكلفت . . إذا أقررت أو أنكرت .


3750 - وإن قلت لا ، فإن لا هذه تضرب عنقك ، ويسد القهر ب - « لا » هذه كوة ( الرحمة ) أمامك .
- إذن فكن حائرا ووالها فحسب ، حتى يأتيك نصر الحق من قدام ومن وراء .

« 362 »

- وما دمت قد أصبحت حائرا مندهشا فانيا فقد قلت بلسان الحال : إهدنا .
- إنها ( حقيقة ) شديدة العظمة وعندما ترتعد أمامها ، تصير تلك العظمة رقيقة مستوية .
- ذلك أن السحنة العظيمة المهابة تكون من أجل المنكر ، لكنك إن أبديت العجز تكون لك لطفا وبرا .

 
إظهار جبريل عليه السلام للمصطفى صلى الله عليه وسلم لصورته ،
وعندما ظهر جناح واحد من أجنحته السبعمائة سد الأفق
وحجب الشمس بكل أشعتها

 
3755 - أخذ المصطفى يقول لجبريل ، أظهر لي صورتك كما هي أيها الخليل .
- بحيث تكون محسوسة وظاهرة ، حتى أراك رأي العين .
- قال : إنك لن تتحمل ، فلا طاقة لك بهذا ، فالحس ضعيف ودقيق ، ويشق الأمر عليك .
- قال ( المصطفى ) : فلتبد لي حتى يري هذا الجسد إلي أي مدي هو رقيق ضعيف وبلا مدد .
- فإن حس الجسد في الإنسان سقيم ضعيف ، لكنه ببساطة خلق عظيم


3760 - إن هذا الجسد علي مثال الحجر والحديد ، لكن فيه صفة الزند ( يولد النار ) .
- والحديد والنار هما منشأ إيجاد النار ، ومولد النار القاهرة من هذين الوالدين .
- ثم إن النار مسلطة علي صفة البدن ، فهي قاهرة له مضرمة لهبها فيه !

« 363 » 


- ثم إن في بدن الإنسان شعلة كإبراهيم الخليل ، بصير برج النار مقهورا منها « 1 » .
- فلا جرم أن قال ذلك الرسول صاحب الفضائل رمز « نحن الآخرون السابقون » .

3765 - إن ظاهر هذين أي الجسد والحديد أن كليهما ضعيف أمام السندان ، لكنهما في الصفة يزيدان ( في القوة ) عن مناجم حديد .
- فالإنسان في صورته فرع من فروع هذا الكون ، لكن إعلم أنه بصفته أصل هذه الدنيا .
- إن ظاهرة تؤدي بعوضته إلي الدوار حول نفسه ، لكن باطنه محيط بالأفلاك السبعة .
- وعندما ألح عليه ( المصطفى ) أبدي ( جبريل ) قليلا ( من كثير ) وكان لهذا القليل هيبة يندك منها الجبل .
- لقد أبدي جناحا واحدا احتوي الشرق والغرب ومن الهيبة أغمي علي المصطفى .


3770 - وعندما رآه فاقد الوعي من الخوف والرعب ، جاء جبريل وأخذه بين أحصانه .
- قائلا له : إن هذه المهابة هي نصيب الغرباء ، لكن اللطف عندنا مبذول للأحبة دون ثمن .
- إن الملوك عندما يركبون ( في مواكبهم ) تتم لهم الهيبة من القواد والسيوف ( مشرعة ) في أيديهم .
- وصيحات الإبعاد والحراب والسيوف ، بحيث يرتعد الأبطال الشجعان مهابة وخوفا .
..............................................................
( 1 ) هنا زائد في نسخة جعفري ( 11 / 85 ) هو :

إنك أن أخرجت من داخلك نار ( الشهوة ) ، فإن نارك تصير ملكا منقادة إليك .

« 364 »

- وأصوات الحراس وتلك الصولجانات ، التي تهلع الأرواح رعبا منها .

3775 - إن هذا كله من أجل المارين من الخواص والعوام ، بحيث تجعلهم يعرفون أن الملك ( سوف يمر ) .
- تكون هذه المهابة من أجل العوام ، حتى لا ترتدي هذه الجماعة قلنسوة الكبرياء !
- حتى تنكسر نفوسهم وتنسحق ذواتهم ، وتكف نفوسهم المغرورة عن الفتنة والشر .
- ومن هذا تأمن المدينة ، ذلك أن الملك عنده في غضبه الضرب والأخذ والاعتقال .
- فتموت تلك الشهوات في النفوس ، وتمنع هيبة الملك من وقوع هذه ( الفتن ) المنحوسة .


3780 - لكنه عندما يأتي نحو مجلسه الخاص ، متي تكون هناك مهابة أو قصاص ؟ .
- إنه حلم مجسد ورحمة جياشة فوارة ، ولا تسمع صوتا إلا أنغام الصنج والناي .
- إن الطبل والكوس تكون رعبا في أوان الحرب ، لكن عند الله و مع الخواص هناك أنغام الصنج .
- إن ديوان المحاسبات يكون من أجل العوام ، لكن حور الوجوه يكن قريعات الكئوس .
- وذلك الدرع وتلك الخوذة تكونان من أجل الحرب والقتال ، وتلك الأوتار « 1 » وذلك الرود « 2 » من أجل الخميلة .
..............................................................
( 1 ) في النص حرير والمقصود به الأوتار .
( 2 ) اسم آلة موسيقية شبيهة بالعود .


« 365 » 


3785 - إن هذا الكلام لا نهاية له أيها الجواد ، فاختمه والله أعلم بالرشاد .
- إن ذلك الحس الذي هو غارب عند أحمد ، قد نام الآن تحت تراب يثرب .
- لكن عظيم الخلق ، ذلك البطل الذي شق الصفوف ، في مقعد صدق لم يطرأ عليه تغير .
- إن أوصاف الجسد هي موضع التغيير ، لكن الروح الباقية شمس ساطعة .
- فلا يطرأ عليها تغيير إذ أنها « لا شرقية » ، ولا يعتريها تبديل إذ أنها « لا غريبة » .


3790 - ومتي تصاب شمس بالدهشة أمام ذره ؟ ! ومتي يصير الشمع فاقد الوعي من الفراشة ؟ !
- لقد كان للجسد صلة بهذا الأمر ، فأعلم أن هذا التغير مرتبط بهذا الجسد فحسب .
- كما يطرأ عليه المرض والنوم والألم ، لكن الروح تكون منفصلة عن هذه الصفات بريئة منها .
- أنني لا أستطيع الحديث عن وصف الروح ولو تحدثت عنها ، لزلزل هذا الكون والمكان زلزاله !
- فلو كان جسده عليه السلام وهو علي مثال الثعلب قد اضطرب للحظة ، أكان أسد الروح قد نام هو الآخر في تلك اللحظة ؟ !


3795 - أيكون ذلك الأسد البريء من النوم والغفلة قد نام ؟ ! هاك إذن أسد مخيف رقيق . !
- إن الأسد ليتظاهر بالنوم بحيث تظن هذه الكلاب أنه قد مات تماما .
- وإلا فمن كان يجرؤ في هذه الدنيا علي اختطاف شيء مهما كان حقيرا « 1 » من أحد الضعفاء ؟ !
..............................................................
( 1 ) حرفيا : تربده وهي نبات مسهل .


« 366 »


- لقد خدش جسد أحمد من تلك النظرة ( إلي جبريل ) ، لكن بحره ( روحه ) من حب الزبد صار شديد الجيشان .
- والقمر في حد ذاته ليس إلا كفا واهبة للنور، وإن لم يكن للقمر هذا الكف . . فقل له لا كنت.


3800 - ولو كان أحمد قد نشر هذا الجناح الجليل ، لا ندهش جبريل إلي الأبد .
- وعندما عبر أحمد السدرة ومرصدها ، وجاوز مقام جبريل وحده ،
- قال له : هيا ، طرفي أثري ، قال له : هيا إمض : إنني لست ندا لك .
- ثم قال له : تعال يا محرق الحجب ، إنني لم أمض إلي أوجي بعد ،
- قال : بعد هذا الحد - يا عظيم المجد - لو خفقت بجناحي لاحترق هذا الجناح .


3805 - إن هذه القصص حيرة في حيرة ، كحيرة الخواص تكون فيما هو أخص .
- وكل أنواع الحيرة هنا عبارة عن ألاعيب . . فكم روحا لديك، إن هنا مقام التضحية بالروح.
- فيا جبرائيل مهما كنت شريفا وعزيزا ، فلست بفراشة . . ولست أيضا بشمعة ؟ !
- والشمع عندما يدعو وهو في ألق ضوئه ، فإن روح الفراشة لا تتوفي الاحتراق .
- فلتدفن هذا الحديث المقلوب في تراب ( النسيان ) واجعل الأسد علي العكس صيدا لحمر الوحش .


3810 - واربط قربة كلامك الذي يتناثر كالبول ، ولا تفتح فوهة هميان عبثك وتخريفك .


« 367 » 


- إن ذلك الذي لم تبارح أعضاؤه هذه الأرض ، يكون هذا الكلام أمامه معكوسا ويكون هذرا .
- « لا تخالفهم حبيبي ، دارهم ، يا غريبا نازلا في دارهم .
- أعط ما شاءوا وراموا أرضهم ، يا ظعينا ساكنا في أرضهم » « 1 » .
- وفي الوصول إلي الملك وإلي عزة تواءم أيها الضد مع ضدك « 2 » .


3815 - ويا موسي . . ينبغي لك أمام فرعون العصر . . . أن تتحدث هونا وأن تقول قولا لينا .
- فإنك إن وضعت الماء في الزيت المغلي ، فإنك تحطم الأثافي وتحطم القدر .
- تحدث هونا ، لكن لا تقل غير الصواب ولا تتبع الوسوسة في لين الخطاب .
- لقد حان وقت العصر فاقصر الكلام ، يا من بيانك منبه ومخبر لأهل العصر .
- وقل لآكل الطين أن السكر أفضل ، ولا تلن له في الفساد ولا تعطه الطين .


3820 - إنك « يا حسام الدين » روضة الروح لنطق الروح ، هذا إن استغنيت عن الحرف والصوت .
- إنه ( أي الحرف والصوت والحكايات ) أشبه برأس حمار في مزرعة قصب ، وما أكثر الناس الذين كانت لهم شوكا « في الطريق » .
- إنه يظن من بعيد أن الأمر هكذا فحسب ، فأخذ يتقهقر كأنه كبش مغلوب .
..............................................................
( 1 ) بالعربية في المتن .
( 2 ) حرفيا : تواءم أيها الرازي مع المروزي .

 
« 368 »


- فأعلم أن صورة الكلام هي رأس الحمار يقينا ، في كرم المعني والفردوس الأعلي .
- فياضياء الحق يا حسام الدين نصب رأس حمار في مزرعة الشهد هذه .


3825 - فما دامت رأس الحمار هذه قد ماتت وسلخت عن جسدها فإن هذا الوضع يهبها حياة أخري .
- هيا فمنا الصورة ومنك الروح . . لا أن هذا خطأ ، فكلاهما منك .
- إنك محمود علي الفلك . . أيتها الشمس المنتشرة ، فلتكن محمودا إلي الأبد فوق الأرض .
- حتى يصير الأرضي شريكا مع السماء العالية في القلب والقبلة والطبع .
- فتنتهي التفرقة والشرك والاثنينية ، ذلك أن الوحدة في الوجود المعنوي .


3830 - فما دامت روحي تعرف روحك ، فإنهما يعرفان معا ذلك الاتحاد الذي حدث .
- وموسي وهارون يصيران ممتزجين معا في الأرض كما يمتزج اللبن والعسل .
- وعندما تفهم روحي قليلا من الأمر وتنكر ذلك ، يصير الإنكار حجابا ساترا علي الحقيقة .
- ورب عارف قد حول وجهه ( عن الحقيقة ) ، وأغضب من حجوده ذلك القمر .
- ومن ثم فإن الروح الشريرة جهلت روح النبي ونبذتها وراء ظهرها .



3835 - لقد قرأت كل هذا فأقرأ أيضا «لم يكن» حتى تعلم عناد ذلك المجوسي القديم العنيد.

« 369 »


- وقبل أن تظهر صورة أحمد بمجدها ، كان ذكره تعويذة عند كل كافر .
- وكانت قلوبهم تخفق من مجرد تصور ظهور مثل هذا الشخص ووجوده ومن تخيل وجهه .
- كانوا يسجدون قائلين : يا رب البشر ، إيت به عيانا بأسرع ما يمكن .
- وعندما كانوا يستفتحون باسم أحمد ، كان طغاتهم ينقلبون .


3840 - وكلما حدثت حرب ضروس ، كان ذكر أحمد عونا لهم عليها .
- وحيثما كان هناك مرض مزمن ، كان ذكرهم له هو الدواء الشافي .
- كانت صورته تطوف في طرقهم وفي قلوبهم وفي آذانهم وفي أفواههم .
- ومتي يدرك كل من هو ( في طبع ) ابن آوي صورته ، بل فرعا من صورته أي خيالها .
- وإن صورته لو وقعت علي جدار لتساقط من قلب الجدار دم القلب .

 

3845 - ولصارت صورته مباركة بالنسبة للجدار ، ولتخلص من حالة كونه ذي وجهين .
- واتصافه بأنه ذو وجهين عيب عند إخوان الصفاء والذين يتميزون بأنهم ذوو وجه واحد .
- وكل هذا التعظيم والتفخيم والوداد ، ذهب كله إدراج الرياح عندما رأوه بصورته .
- لقد تعرض الزيف للنار فاسود لوقته ، ومتي كان للزيف طريق إلي القلب ؟ !
- وإن الزيف لينفج بشوقة إلي المحك ، حتى يلقي بالمرتدين في ( هاوية ) الشك .


3850 - ويسقط الخسيس في شباك مكره ، وهكذا يصدر هذا الظن عن كل خسيس ،

« 370 »



- ( إذ يظن ) قائلا : إن لم يكن هذا ذهبا خالصا متي كان ليرغب في حجر المحك .
- إنه يريد المحك ، لكن بحيث لا يبدو زيفة للعيان من هذا المحك .
- وذلك المحك الذي يخفي الصفات لا هو بالمحك ولا هو بنور المعرفة .
- والمرآة التي تخفي عيوب الوجه رعاية لخاطر كل ديوث .



3855 - لا تكون مرآة . . بل موجود منافق ، فلا تبحث عن مثل هذه المرآة ما استطعت . « 1 »
..............................................................
( 1 ) ج / 11 - 89 :

- أبحث عن مرآة صادقة القول لانفاق عندها واختم والله أعلم بالوفاق .
- حتى يصنع الله تعالى مرآتك نفسها بحيث تبدي العرش وكأنه السها .
- أي عرش . . وأي ملك يا ذا اللباب ، إفهم والله أعلم بالصواب .


.
* * *

شرح أطوار خلق الإنسان ومنازلة من البداية
( 3637 - 3646 ) : مر الحديث عن الأطوار الخلقية للإنسان ، وعن قوس الصعود وقوس النزول في الكتاب الثالث ( انظر شروح الأبيات 3906 - وما بعده ) وإن كان مولانا يتوسع بعض الشئ في هذه الأبيات ، ويرى أنه بما أن الإنسان هو العالم الأكبر ، والجامع لكل ما في الكون فإنه لا يعبر مرحلة من

« 619 »

المراحل حتى ينساها تماما وإن احتفظ في خلقته وخلقه ببعض ما فيها ، انظر إلى ميل الإنسان إلى النبات وإلى الخضرة خاصة في فصل الربيع ، إن هذا من آثار المرحلة النباتية . . إنه مثل ميل الأطفال إلى الرضاع طبيعي تماما كميل المريد إلى شيخه . . لماذا ؟ ! لأن عقله الجزئي جزء من عقل الشيخ الكلى . وكل شئ يحن إلى أصله ، وعندما ينمحى المريد في ظل الشيخ ، يعرف سر الميل إلى المرشد . . يكون منه كغصن من شجرة ، وهل يتحرك الغصن إن لم تتحرك الشجرة ، هذا هو الحنين إلى الأصل ، وكل ما في الإنسان يحن إلى أصله ، الطاهر يحن إلى الطاهر والتراب يحن إلى التراب ، ويمضى كل جزء إلى معدنه الأصلي .

( 3647 - 3654 ) : وهكذا من إقليم إلى أقليم حتى يصبح عاقلا وعظيما وهو لا يتذكر عقوله الأولى وعندما ينجو من عقل المعاش الملئ بالحرص والطلب يربى عقولا عجيبة تعد بالآلاف ، والإشارة هنا إلى ما يقوله الحكماء الإشراقيون إنه بإزاء كل نوع من الجواهر الموجودة في هذا العالم للأجسام سواء كانت نفوسا أو أجساما طبيعية يوجد عقل يحفظ عليها علاقتها بالعالم الأعلى على نحو أكمل وأتم ، والأنوار المدبرة التي هي النفوس الآنية عندما تصل إلى الكمال بعد طرح جلابيب الأبدان وطي الفيافي والبرزخ ملتحقة بالأنوار القاهرة والعقول المفارقة ، ومن ثم تعدد العقول غير متناه وسوف يزداد وفيض الله لا ينقطع ونور الله لا يأفل وكلمه الله لا تنفد ( سبزوارى 4 / 323 - 324 )

والإنسان وإن كان نائما ناسيا للمراتب التي قطعها من قبل ، فإنه لا يترك لهذا النسيان ، بل ينبه من نومه هذا ، فيسخر من كل العالم لمعرفته بالعوالم التي قطعها من قبل ، ويتساءل أية أشياء هذه تلك التي جذبت اهتمامى في عالم الدنيا ، لقد كان هذا من قبيل المرض والنوم والخداع . . وهكذا الدنيا مجرد حلم نائم ، يظنها النائم دائمة ، وهي حلم ، والرجل فيها كطالب القافلة والقرار فيها كقدر المتخلف

« 620 »

عن القافلة وما بينها وبين الآخرة غمضة عين ، وسرعان ما يشرف على الدنيا صبح الأجل فينبه الناس من ظلمات الظن والخداع والاحتيال .

( 3655 - 3667 ) : وهكذا فكل مرحلة تأتى يحس المرء بعبث المرحلة التي تسبقها وعندما يجد الإنسان نفسه في مستقره يضحك من اهتماماته السابقة ويسخر منها وكل ما تراه في الدنيا ( النوم ) يفسر لك في الآخرة . . حتى لا تظنن أن أحلامك التي حلمتها دون تعبير . . ضحك في الدنيا بكاء في الآخرة ، بكاؤك ونواحك وحزنك سرور وحبور . . إن كنت مزقت جلود الطيبين فسوف تنهض من نومك ذئبا ، خصالك الذميمة سوف تتحول كلها إلى ذئاب تنهش كل أعضائك . . الدم لا ينام والثأر لا ينام . . إياك أن تظن إنك بموتك قد نجوت من الثأر ومن عاقبة ظلمك للناس . . لكنك نجوت من قصاص هين إلى قصاص شديد ، إن قصاص الدنيا مجرد لعب بالنسبة لقصاص الآخرة ، ومن هنا قال الله تعالى «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» ( الأنعام / 32 ) جزاء الدنيا بالنسبة لجزاء الآخرة كالختن بالنسبة للإخصاء . . فكن على حذر ، « فإن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من جهنم » كما ورد في الحديث الشريف .

( 3668 - 3676 ) : هيا يا موسى دع هؤلاء الناس في نوم الغفلة ، دع هذه الحمر ترعى في عشبها حتى تسمن ، فإن كلاب الجحيم في انتظارها . . فسمنها لهم . . كفاك دعوة لكي ينقلبوا إلى بشر . . فليست الهداية من رزقهم . . هيا اجعلهم غارقين في النعمة كي يغطوا في نوم الغفلة والكسل . . وعندما يستيقظون يكون شمع الهداية قد انطفأ . . وساقى الفيض الإلهى قد مضى إلى حال سبيله . . طالما هديت ولا مهتد ، دعهم يتحسرون يوم القيامة عندما يرون مصداق قوله تعالى في أهل الجنة «وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً» ( الإنسان / 12 ) .


« 621 »


( 3677 - 3682 ) : إنهم لم يتقبلوا الهداية . . فليتحملوا العدل ، لقد كان ذلك المليك معهم : أقرب إليه من حبل الوريد ، ولم يتابعوه وتابعوا الشيطان ، تماما كما يكون العقل مشرفا على الجسد في حين أن المنصرف إلى شهوات جسده لا علم له بالعقل . . فأي عجب أن يكون خالق العقل أيضا معكم ؟ أنت غافل عنه وهو ليس بغافل ، عنك إنه يلومك كلما أسرعت في أثر جسدك وشهواتك ولا تستطيع نفسك أن تلقى بك في الشر إلا إذا غفلت عن العقل .

( 3685 - 3692 ) : إن علاقتك بالعقل هي ميزان على سطوع الحقيقة على وجودك . . وأنت تفكر أن العقل قريب منك ساكن معك ، إذن فاعلم أن هذا القرب قرب بلا كيفية تماما كقرب المليك منك ، وحركة إصبعيك هل تستطيع أن تحدد كيفية قربها من هذا الأصبع ؟ ! أليست تغادره هذه الحركة عند النوم والموت ثم تعود عند اليقظة ؟ ! فمن أي طريق تأتيه هذه الحركة وتذهب عنه ؟ ! ونور عينيك من أين جاء ؟ ! إنه من عالم الأمر . . عالم المجردات . . وكل ظنك وفكرك من عالم الخلق . . فكيف يمكن أن تصل إلى عالم الأمر ؟


( 3694 - 3699 ) : إذا كان العقل بلا جهات تحده . . فما بالك بخالق العقل ؟ ! لا يوجد مخلوق غير مرتبط . . ولكن كيفية هذا الارتباط خافية وفي الروح لا فصل ولا وصل . . بينما الوهم لا يمكنه أن يفكر إلا في الفصل والوصل والاتصال والاختلاف . . فافهم من دليلك شيئا غير الفصل والوصل ، وإن كان هذا الفهم لن يشفى غليلك لأنك لن تقنع ، وإن كنت رجلا فجاهد حتى تصل إلى الوصل وتنجو من الفصل . . وحذار أن تحاول فهم هذا بالعقل . .

فالعقل هو الآخر لا يفكر إلا في الوصل والفصل .

( 3700 - 3710 ) : من هنا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم « تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا » ( كنوز الحقائق بهامش الجامع

« 622 »

الصغير ) وفي رواية أخرى « تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله » وفي رواية ثالثة « تفكروا في كل شئ ولا تفكروا في ذات الله » إن كل ما تصل إليه الأوهام في ذاته . . إنما تنبع من ذات المفكر لا ذاته هو ، فهناك مئات الآلاف من الحجب على ذاته مصداقا لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم « إن لله تعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة ، لو انكشفت لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره » وقال على رضي الله عنه « كل ما يعلم عقلك فالله خالقه » فالعقل والفكر لا مدخل له في هذا الخصوص وكل ما يعلمه فهو عين الحجاب . .



وكل من ظن أنه وصل فهو في حجاب ، ومن ثم فقد جاهد المصطفى صلى الله عليه وسلم في دفع هذا الوهم ، ومن ابتعد عن الأدب فإن مصيره الانتكاس . . إنه ينزل من حيث يظن أنه يصعد ، يظن أنه في السماء وهو في الأرض ، وهذا هو حد من تاه عقله من الخمر ، وما عليك إلا أن تفكر في خلقه وفي آلائه وفي عجائبه . .

واعلم أنك لن تحيط بها وأنت ذرة في بحر علمه ، وهي كلها صنعه الذي تعلمه فما بالك بالذي لا تعلمه . . ولتقف أمام هذا الصنع خاشعا متنازلا عن كبريائك . . ولا تقترب من الصانع . . وقل كما قال خير خلق الله وأجدرهم بمعرفة ذات الله إن كان يمكن معرفتها والإحاطة بها « لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك » واعتبر بعالم عظيم جليل مثل ابن سينا الذي قال :

-اعتصام الورى بمغفرتك * عجز الواصفون عن صفتك-تب علينا إننا بشر * ما عرفناك حق معرفتك( المولوي 4 / 508 - 509 - الأنقروى 4 / 861 - 863 )


( 3711 ) - الحكاية التي تبدأ بهذا البيت تعتمد على رواية وردت عند الثعلبي « قال وهب إن ذا القرنين أتى على جبل قاف فرأى حوله جبالا صغارا ،


« 623 »


فقال له : من أنت ؟ قال : أنا قاف ، قال : فأخبرني ما هذه الجبال التي حولك ؟

قال : هي عروقي ، فإذا أراد الله أن يزلزل أرضا أمرني فحركت عرقا من عروقي فتزلزل الأرض المتصلة به ، فقال : يا قاف أخبرني بشأن عظمة الله تعالى ، فقال : إن شأن ربنا عظيم تقصر عنه الصفات ، تنقضى دونه الأوهام ، قال :

فأخبرني بأدنى ما يوصف منها ، قال : إن ورائي أرضا مسيرة خمسمائة عام من جبال الثلج يحطم بعضها بعضا ومن وراء ذلك جبال من البرد مثلها ولولا ذلك الثلج والبرد لاحترقت الدنيا من حر جهنم ( الثعلبي قصص ص 5 ) وفي المأثور الفارسي أن قاف اسم على جبلين يمسك كل منهما بطرف من أطراف الأرض ، وأن طائر العنقاء يقيم خلف هذا الجبل .


( 3720 ) : المثال الذي يبدأ بهذا البيت ورد في إحياء علوم الدين للغزالي « مثال النملة لو خلق لها عقل ، وكانت على سطح قرطاس ، وهي تنظر إلى سواد الخط فتعتقد إنه بفعل القلم ولا تترك في نظرها إلى مشاهدة الأصابع ثم منها إلى اليد ، ثم منها إلى الإرادة المحركة لليد ثم منها إلى الكاسب القادر المريد ثم منها إلى خالق اليد والقدرة والإرادة ، فأكثر نظر الخلق مقصور على الأسباب القريبة السافلة مقطوع من الترقي إلى مسبب الأسباب ( إحياء / أول / ص 30 - مطبعة عيسى البابي الحلبي / القاهرة 1957 ) .


( 3728 - 3730 ) : إن عظيمة النمل . . وهي رمز على ذلك الإنسان المتعالم الذي يظن أنه أحاط بالكون علما وهو لا يعدو نملة تنظر إلى خط في كتاب ترى أن العقل والفؤاد هو السبب في الصورة والنقش ، ولم يصل علمها إلى معرفة أن بدون خالق العقل والفؤاد لا يمكن أن يأتي العقل والفؤاد بشئ ، بل إن أعقل العقلاء إذا تخلت عنه رعاية الله لحظة واحدة لأتى عقله من ضروب البله ما يفوق الحمقى أجمعين .


« 624 »

( 3740 - 3754 ) : تعليق على رواية جبل قاف : إنه لو لم توجد جبال الثلج هذه لاحترق جبل قاف من الشوق . . ليس هذا فحسب بل إن الغافلين هم بمثابة جبال الثلج في هذا العالم ولولا هم لاحترق العاقلون من نار التجلي ، فكأن هؤلاء الغافلين يخففون من نار التجلي التي لو تجلت لأحرقت العالم كله . . ثم ماذا تكون هذه النار إلى جوار الغضب الإلهى ، إنها مجرد سوط ( درة ) في يده يهدد بها اللئام في الدنيا . . وأنت لا تزال تردد أن الرحمة قد سبقت الغضب ، فإن رأيت السابق والمسبوق فقد اعترفت بالإثنينية . . إنه سبق معنوي ، وإلا اقتضى وجود سابق ومسبوق في الذات الإلهية ، وأنت إن لم تدرك هنا فلك عذرك فإن ذلك من نقصك . . فأنت من تراب وما للتراب ورب الأرباب . . أنت طائر طيني من الصعب عليك أن تصل إلى فلك الدين . . وما الذي تستطيع أن تفعل كن طائرا مندهشا ( عن الحيرة انظر الكتاب الثالث / شرح الأبيات 1108 - 1117 ) قل : اللهم زدني تحيرا ، لا تصدق ولا تنكر ، فإنك إن صدقت تكلفت ، فكيف تصدق ما لا تحيط به ، وإن أنكرت فكأنك أنكرت صفات رب العالمين وجلبت القهر على نفسك . .

فكن طائرا مندهشا مبهوتا صامتا حتى تنزل عليك رحمة الله ويبدو لك الصعب سهلا والمشكل واضحا ومحلولا ، فالأمر إنما تشكل على المنكر ، أما المقر عجزه وحيرته أمام الصنع الإلهى والصفات الإلهية فقد استجلب لنفسه اللطف والرحمة .


( 3755 ) - الرواية هنا أقرب إلى رواية الإحياء ( ج - 4 ص 130 ) ولذلك قال النبي لجبريل عليه السلام : أحب أن أراك في صورتك التي هي صورتك فقال :

لا تطيق ذلك . قال : بل أرى ، فواعده البقيع في ليلة مقمرة فأتاه فنظر النبي فإذا هو به قد سد الأفق يعنى جوانب السماء فوقع النبي مغشيا عليه ، فأفاق وقد عاد جبريل إلى صورته الأولى » .

« 625 »


( 3757 - 3764 ) : إن الحس وإن كان حس المصطفى صلى الله عليه وسلم ضعيف ، محدود القدرة ، لا يستطيع أن يستوعب حتى بعض المحسوسات ، ولولا القوة الموجودة في باطن الإنسان ما استطاع أن يطمح إلى إدراك ما هو فوق محسوسه . . وانظر إلى الصورة في البيت التالي : قد يكون جسد الإنسان مجرد حديد وحجر ، أي مجرد جماد . . لكن حتى من الحديد والحجر يتولد الشرر ومن جسم الإنسان هذا تتولد طموحات عظيمة ، منهما ما يمكن أن يحرقه هو نفسه كما يحرق الشرر الحديد والحجر وهو متولد منها . . لكن الإنسان ليس حجرا أو حديدا بل إن فيه شعلة تحرق برج النار نفسه وتكون النار بلا حيلة أمامه ، كأنها النار التي ألقى فيها إبراهيم الخليل ومن هنا قال الرسول عليه الصلاة والسلام « نحن الآخرون السابقون » ( انظر شرحها في الكتاب الثالث شرح الأبيات 1126 - 1135 )


( 3765 - 3767 ) : إن هذه القداحة ( التي يخرج منها الشرر ) والمقصود الإنسان تبدو في الظاهر وكأن حديد السندان يستطيع أن يفلها . . لكنها في الباطن والحقيقة أقوى من مناجم الحديد ، إنه ضعيف من حيث هو جسد ، هو فرع وهو العالم الصغير باعتبار الجسد لكنه أصل العالم بالنسبة للروح هو أول الفكر وآخر العمل ، هو الأخير السابق ، هو ثمرة شجرة الوجود والمقصود منها ، ظاهره تستطيع أن تصيبه بعوضة بالأذى لكن باطنه محيط بالوجود كله .


( 3771 - 3785 ) : إن تلك المهابة التي أصابت الرسول صلى الله عليه وسلم عندما مد جبريل جناحيه هي من نصيب الحس ، لكن تلك الملاطفة التي أبداها جبريل هي من نصيب الأحباب ، هذه المهابة لأهل الدنيا هلاك ولأهل الآخرة رعاية . . إنها أشبه بتلك المظاهر التي يحيط بها السلطان نفسه من حرس


« 626 »


ومطرقين . . هي ردع للعوام وإرهاب لهم بمظاهر السلطة كيلا تسول لهم أنفسهم الثورة على السلطان . . لكن السلطان في مجلسه بين أصحابه وندمائه مختلف تماما ، هو ملئ باللهو والموسيقى والحبور . . وهذا كلام يبدو بلا نهاية . .
إذ يطول شرح تلك الأحوال التي يكون فيها سلاطين الدنيا . . فما بالك بسلاطين الدين وقلوبهم بين إصبعين من أصابع الرحمن ، أصبع للطف وأصبع لقهر .


( 3786 - 3799 ) : وهكذا أحمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ، حسه الذي لم يطق رؤية جبريل غارب وآفل وموجود الآن حيث يثوى جسده الشريف صلى الله عليه وسلم تحت تراب يثرب ، لكن تلك الروح العظيمة حالها دون تغير ودون تبدل « في مقعد صدق عند مليك مقتدر » فإن البدن هو محل التغيير أما الروح الباقية فهي الشمس التي لا تأفل ، شمس الحقيقة وموضع السر الإلهى ، لأنها لا شرقية ولا غربية ، هي من نور الله ، لا شرقية : أي ليست من شرق الأزل والعدم ولا غربية : أي ليست من غرب الفناء والعدم كعالم الأجساد ( مولوى 4 / 521 ) ومن ثم فإن الجسد وإن اندهش ولم يحتمل رؤية جناح جبريل فكيف تندهش الروح وهي شمس من ذرة . ومتى يفقد الشمع الوعي من فراشة تطوف به ، هذا التغير لائق بالبدن ، كما يجرى عليه المرض والنوم والألم ، أما الروح فلا تجرى عليها هذه الأوصاف . . هي ظاهرة منفردة ، عالم أكبر انطوى في جسد الإنسان ، وشتان ما بينه وبين جسد الإنسان . .

عالم لا يوصف ولا توصف دقائقه ( انظر الكتاب الثالث قصة الدقوقى شرح البيت رقم 2063 ) فلو تحدثت لزلزل المكان والزمان ، فإذا كان الجسد قد فتر فلأن الروح قد تكون قد غفلت ونامت لحظة واحدة . لكنه نوم الأسد . . يتناوم ليرى ماذا تفعل كلاب الطبع . . لقد كانت تلك الدهشة أشبه بخدش في كف زبد بحر أحمد ، لكن روحه التي كانت في سعة المحيط كانت تفور وتلقى بالزبد . .

والقمر ( روح أحمد ) هو كف ناثر للنور ، وإن لم يكن للقمر كف فماذا يكون ؟

« 627 »

( 3800 - 3804 ) : ولو أن أحمد المصطفى فتح جناحيه أي أبدى عظمة روحه لأغمى على جبريل إلى الأبد ، وإلا فاقرأ في المعراج النبوي الشريف : أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما وصل إلى سدرة المنتهى قال له جبريل :

تقدم أنت لأننى لو دنوت أنملة لاحترقت . . لقد جاوزه الرسول صلى الله عليه وسلم ( الإنسان الكامل أعلى مرتبة من الملائكة وهذه قمة الإنسانية عند الصوفية ) .

( 3805 - 3809 ) : يا لها من حيرة تثيرها هذه القصص ، إنها حيرة الخواص أولياء الله . . والملائكة المقربين في الأخص أي محمد صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين ، إن كل أنواع الغياب عن الوعي هنا مجرد ألعوبة . .
إنها ليست جديرة بأقل من التضحية بالروح فحتام تحتفظ بروحك . . ويا جبريل أو يا من أنت في مقام جبريل كفاك فخرا بجناحك ، بالرغم من عزتك وشرفك لست أنت بالشمع ، فالشمع هو الحضرة الإلهية والفراشة هي المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو الجدير بالمشاهدة . .
والجدير بالفناء في ذات الله لأن في فنائه بقاء في بقاء . . ودعك من هذا الحديث المنقلب ، انتبه : لقد قلبت الحديث جعلت الأسد صيد الحمار الوحشي . . والأولى بك أن تخفى هذا . .
ثم قلبته مرة ثانية فوضعت الأسد في موضعه الصحيح . . فعد واجعل من أسد الحقيقة صيدا لحمار الوحش ، حتى يجد الخلق سبيلا إليه . . وحتى يطلع العارف على باطنه . .
ولا يراه شيئا فوق مستوى المثال ، هيا اختم النص حتى لا تنساق إلى قول ما لا تريد .


( 3810 - 3819 ) : كلامك هذا يتناثر بالرغم منك كأنه البول . . فكف عنه . .
وكفاك هذرا . . فأي أسد وأي حمار وحشى . . وما هذا الكلام تلقيه أمام أولئك الذين لا يزالون متشبثين بالأرض ورهن الطين . . وهو يبدو أمامهم معكوسا

« 628 »

ويسيئون فهمه . . دارهم . . فقد أمر الرسول بمداراة الناس ومخاطبتهم على قدر عقولهم . . وأنت غريب في دارهم وظعين مسافر ، وبينك وبينهم ما بين الرازي والمروزي من بعد ومسافة ( الري غرب إيران ومرو أقصى شرقها ) فدارهم حتى تصل إلى سلطان الحقيقة . . ويا من أنت تتخذ من موسى مرشدا تحدث إلى فرعون الزمان بالحديث اللين . . فإنك إن وجهت إلى غلاظ القلوب الذين تشبه قلوبهم زيتا مغليا كلاما قاسيا ( الماء البارد ) لا شتعل الإناء واشتعلت الأثافى ولهدمت من حيث أردت أن تبنى . . تحدث بالكلام اللين لأنه يمكن أن تقول الصواب بالكلام اللين .


( 3820 - 3825 ) : إيذان بختم هذا الكتاب الرابع : لقد حل العصر ، فلأقصر الكلام . . والعصر في المأثور الصوفي هو زمان خاتم الأنبياء بالنسبة لزمان آدم فكأن علينا ونحن في أوان خاتم الأنبياء ألا نطيل الكلام ، وإن كان هذا الكلام تنبيه وتوعية لأهل العصر . . وهو الذي يعطيهم شهد الروح ويبعدهم عن طين الدنيا وطين النفس . . والكلام موجه إلى حسن حسام الدين : إنك روضة روحانية ومستغن عن الحروف والأصوات بالنسبة لفهمى . .

لكن لا محيص من اللجوء إلى هذه الحروف والأصوات حتى يفهم الناس ويدرك العوام ، أولئك الذين يكونون في حاجة إلى حروف وكلمات ، ألست ترى الرياض والبساتين يضع فيها الناس ملواحا على شكل رأس حمار ، هكذا الكلمات والحروف والأمثال والحكايات في المثنوى . . وكثير من الناس يرى رأس الحمار ولا يرى الروضة ورياحينها وثمارها . . وكثير من الناس أيضا يحيطها بالأشواك . . ويظن المحروم من بعيد أن البستان هو هذا فحسب ، فيتقهقر عن الروضة كأنه كبش مغلوب . .

فهيا يا حسام الدين هات رأس الحمار ( الحروف والأصوات والحكايات ) وضعها في مزرعة البطيخ هذه . . فإن رأس الحمار وإن كانت ميتة ( الحكايات المنسية ) فإنها ترتد حية مرة أخرى في أذهان العوام من وضعها في هذا المكان لأنها تصبح ذات معنى وفائدة .

« 629 »

( 3826 - 3834 ) : إن التصوير فن لكنك أنت الذي تبعث فيه الروح . . لا . .

لقد أخطأت فالصورة والمعنى كلاهما منك ( في الحقيقة الصورة والمعنى يسيطر عليهما المخاطب وليس المتحدث ) إنك محمود كالأولياء في السماء . . فلتكن محمودا إلى الأبد في الأرض ، وذلك حتى يتوحد الأرضي مع السماوي وتنتفى التفرقة والاثنينية والشرك ، فإن هذا العمل المسمى بالمثنوى مع عظمته هذه هو من توحد روحينا وعندما تتوحد أرواح الطيبين الأولياء يحدث التغيير في الأرض ، فإن الأفكار بين الأرواح حجاب ، حجاب يوضع على وجه الحقيقة فيخفيها الغرض ويخفيها المرض . . وكثيرا ما عرف الناس الحقيقة فأداروا لها وجوههم ، فغضب ذلك الولي الكامل القمر المنير والرسول المصطفى فغضبه من غضب الرب .


( 3835 - 3844 ) : ومن هنا ولعدم التجانس فإن روح الشرير لم تتعرف على روح النبي وجهلتها وأعرضت عنها . . وكل هذا قرأته . . فاقرأ «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ، رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ، فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» إن عناد الكفار ولجاجهم لمما يحير : قبل أن يظهر المصطفى صلى الله عليه وسلم في الدنيا . . كان ورد ألسنتهم ، كان ذكره كالتعويذة ، كانوا ينتظرونه . . كانت قلوبهم تخفق بذكره ، وألسنتهم تلهج بالثناء عليه . . كانوا يدعون الله صباح مساء أن يعجل بعثته ، كانوا يستفتحون باسم الرسول أحمد .

 قال تعالى «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» ( البقرة / 89 )

( ينظر أيضا البيهقي دلائل النبوة / 1 ) كانوا يستنجدون به في حروبهم وعند مرضهم ، كانت صورته تبدو لهم


« 630 »

في طرقهم . . لا . . إن صورته لا يستطيع أي كافر أن يتخيلها ، لقد كانت مجرد صورة في مخايلهم .


( 3845 - 3847 ) : إن هذه الصورة لو انعكست على جدار دمى قلب ذلك الجدار . . ولأصابت الجدار بركة انعكاس هذه الصورة عليه ونجا من كونه ذي وجهين . . ولصار جديرا بأن يكون ذا وجه واحد كأهل الصفاء .


( 3848 - 3855 ) : كل هذا التعظيم والوداد ذهب أدراج الرياح بمجرد أن رأوه كانوا زيفا عرض على النار فاسود وافتضح . .
وهكذا الزيف يهزل طالبا المحك ، وهو يعلم أن المحك سوف يفضحه ، كان يفعل ذلك حتى يلقى بمريديه في الشك والظين في صلاحه ، وهكذا يقع من ليس بأهل في حبال مكره ، وينخدع فيه كل خسيس ، نعم إن مجرد طلبه للمحك دليل على صدقه . .
وهو لن يعرض نفسه على المحك أبدا ، وإن عرض نفسه على محك فسوف يطلب محكا زائفا مثله . .
والشيخ الذي يخفى عيب كل وجه من أجل كل ديوث في الطريقة ليس بشيخ بل هو منافق . . فابتعد عنه ما استطعت فهو لا يخفى عيبا ، واختم يا حسام الدين إذن هذا الكتاب الرابع والله الموفق .
( تم الكتاب الرابع من المثنوى بحمد الله تعالى ويليه الكتاب الخامس بإذنه تعالى ) .

  *
تم بحمد الله تعالى رب العالمين
عبدالله المسافر بالله
.


واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: