السبت، 29 أغسطس 2020

14 - الهوامش والشروح 521 - 780 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

14 - الهوامش والشروح 521 - 780 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

الهوامش والشروح 521 - 780 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

شرح بيان أن الحكماء يقولون أن الإنسان هو العالم الأصغر ويقول الحكماء الإلهيون : إن الإنسان هو العالم الأكبر ذلك لأن علم الحكماء كان مقصوراً على صورة الإنسان وعلم هؤلاء
( 521 - 530 ) : الإنسان هو العالم الأصغر والكون أو العالم هو الإنسان الأكبر . . هكذا تعارف الحكماء على أساس أن الإنسان بخلقه هو مثال لهذا العالم والكون بكل كواكبه وأفلاكه ومظاهر الطبيعة فيه ( انظر جامع الحكمتين لناصر خسرو ، الترجمة العربية للمترجم 377 - 382 )
وينسبون إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه تعبيره عن هذه الفكرة شعرا :
دواؤك منك وما تشعر * وداؤك فيك وما تبصر
وأنت الكتاب المبين الذي * بأحرفه يظهر المضمر
وتزعم أنك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر
 
« 406 »
 
وينسب إليه أيضا رضي الله عنه :
والصورة الإنسانية هي أكبر حجج الله على خلقه وهي الكتاب الذي كتبه بيده وهي الهيكل الذي بناه بحكمته وهي مجموع صور العالمين وهو المحضرة من اللوح المحفوظ وهي الشاهدة على كل غائب ، وهي الحجة على كل جاحد وهي الطريق المستقيم إلى كل خير وهي الجسر الممدود إلى الجنة والنار ( سبزوارى 4 / 274 )
لكن الفكرة عند مولانا جلال الدين شأنه في هذا شأن الصوفية من قبله ومن بعده تتخذ أبعادا أخرى فإذا كان جسد الإنسان هو العالم الأصغر ، فإن روحه أو باطنه أو قلبه الملىء بالنور هو العالم الأكبر ، وكل ما في الكون إلى جواره صغير ،
بل هو المقصود من الخلق والخليقة كما تكون الثمرة هي المقصودة من الشجرة وهي أصل الشجرة هي الآخرة السابقة ( لنظر تفسير نحن الآخرون السابقون في شروح الكتاب الثالث في شرح البيت 1128 )
ولا يكتفى مولانا بهذا القدر بل يشير إلى تطبيق نفس الفكرة على الرسالة المحمدية وعلى شخصية محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو آخر الأنبياء بعثا لكنه أولهم خلقا ، وكان نبينا وآدم بين الماء والطين « وآدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة »
والأب مولود منه بالمعنى وإن هو ولد منه بالصورة :وإني وإن كنت ابن آدم صورة * فلى فيه معنى شاهد بأبوتىهذا هو أول الفكر آخر العمل ،
والعلة الغائية في العالم فاعل مقدم وفي العين مؤخرة للفعل ، إذن فأول الفكر آخر العمل ،
( انظر أيضا حديقة سنائى المقدمة ) خاصة إذا كان المقصود تلك الفكرة العظيمة أي وجود خاتم الأنبياء والمرسلين « لولاك ما خلقت الأفلاك » .
 
« 407 »
 
( 531 - 537 ) : وهكذا يدوم الفيض الإلهى وتظل الصلة بين العالمين موجودة على الدوام وظاهرة في كل مظاهر الكون ، ويكفى دليلا على وجودها تلك القوافل التي تمضى وتذهب من المواليد والموتى ، وربما يقصد مولانا جلال الدين أن أرواح الأنبياء وكل أرواح البشر هي في حالة تجوال دائم من الأرض إلى السماء . . ألا يمكن في لحظة ما أن ينفصل الإنسان عن كل ما يحيط به بحيث يكون جسده فحسب هو الموجود بينما روحه هائمة في ملكوت آخر ( جعفري 9 / 488 )
وفي الكتاب الأول :
ففي كل لحظة يا رب قافلة وراءها قافلة تسير من العدم إلى الوجود أو ليست جملة الأفكار والعقول - خاصة - تصير كل ليلة غرقى في سحر عميق ؟
 
أو ليست كل الملكات الإلهية ترفع كالأسماك رؤوسها في وقت الصباح ؟ !
وفي الخريف تذهب آلاف الأغصان والأوراق إلى بحار الموت وثانية يجئ الأمر من سيد الأرض فيقول للعدم رد ما أكلت ( 1 / - 1889 - 1894 ) ، قد تكون السماء هنا هي السماء المعنوية ولعل هنا في قول نكلسون نقله استعلامى 4 / 211 إشارة إلى قول ابن الفارض :
أسافر عن علم اليقين لعينه * إلى حقه حيث الحقيقة رحلتي
العلم المعنوي هو علم الله الحاكم والمحيط بجميع الأشياء ، فكما أن السماء الصورية مواليدها صور الأجسام تذهب وترجع كل آن بواسطة الكواكب وقطرات الأمطار فتوجد منها المواليد وتحيى بطريق تجديد الأمثال فإن وجود أفراد العالم في كل زمان تارة معدوم وفان وتارة حي وموجود ورؤيته على الدوام موجود من سرعة فيض الله ودوام إفاضته ( مولوى 4 / 76 ) ،
وليس الطريق بالطويل ، بل إن معجزة الخلق واستمرارية الخليقة تتم في هدوء وسكينة وبسرعة ، وانظر إلى السالك القوى الجلد ، إنه يجتاز كثيرا من
 
« 408 »
 
العوالم في نفس واحد ، ألا يعرج القلب ويحج إلى الكعبة في لحظة واحدة ؟ ! ! يستطيع القلب إن اتخذ صفة القلب ( نجا من الكدر وسكنه النور الإلهى ) أن يقوم بنفس الأمر ( طي المسافات عند الصوفي ) . 
( انظر سيرة ابن خفيف ص 153 وما بعدها - الترجمة العربية للمترجم - لجنة نشر الثقافة الإسلامية - القاهرة 1977 م ) ، فلا مسافات هناك أمام القلب ، إنما توصف الأجساد بالطول والقصر ، أما بالنسبة لله الواحد القهار فهلا قرب ولا بعد ولا طول ولا قصر في المسافات ، وعندما يشاء الله سبحانه وتعالى يبدل الجسم ( انظر فكرة التبديل في الكتاب الثالث شرح 4001 وما بعده ) فإن ذهابه يكون بلا مسافات . .
 
والمعراج خير دليل على ذلك وهذا في حد ذاته أيها الفتى يبعث في نفسك كثيرا من الآمال فخل الكلام واهتم بالعمل والرياضة الصوفية ، وسلوك طريق الله وتنقية القلب وجعله محلا للأنوار ، وإن فعلت فإنما مثلك يكون كمثل النائم في سفينة تقطع به الطريق وهو في حماية الربان ( النبي بالنسبة للأمة والمرشد بالنسبة للطريق ) تمضى بك السفينة هونا ، وأنت امن من أمواج البحر ( مصائب الحياة ووعورة الطريق ) .
 
( 538 - 551 ) : ولست أنا الذي أقول هذا بل يقوله الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثل أمتي كسفينة نوح . . إلى آخره والخلاف هنا : هل قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثل أمتي أو قال مثل أهل بيتي ويميل الشيعة بالطبع إلى الرواية مثل أهل بيتي وقد اعترف بصحتها الإمام الشافعي نفسه في أبيات :
ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم * مذاهبهم في أبحر الغى والجهل
ركبت على اسم الله في سفن النجا * وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل
وأمسكت حبل الله وهو ولاؤهم * كما قد أمرنا بالتمسك بالحبل
( جعفري 9 / 494 )
 
« 409 »
 
أي كن من الأمة وإن لم تلحق بالنبي فأمامك الولي الشيخ المرشد فهو كالنبي في أمته وهو نبي وقته ( وانظر هنا شروح الأبيات 1774 - 1775 من الكتاب الثالث والأبيات 2283 - 2384 من الكتاب الثاني ) .
فاستمسك به ، وحذار من اعتمادك على حولك وقوتك وطولك واحتيالك ، استسلم لقيادة الشيخ الذي عونه جنده ، وجنود الأولياء من أنفاس الرحمن ولا تقس الشيخ بلطفه وبقهره ، فإن عاملك باللطف أو عاملك بالقهر فإن النتيجة واحدة ، وإنما هو يريد خيرك وأدرى بالوسيلة التي تليق بك . . .
إنه يجعل جسدك هذا التراب ينبت السوسن والريحان مما يراه الشيخ ولا يراه غيره ، فإياك وإنكار الشيخ حتى نجد الريحان في روضته ( الأسرار من عالمه )
وحتى تشم رائحة الخلد من الشيخ مثلما شمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل اليمن ( إني لأشم رائحة الرحمن قبل اليمن ) كناية عن ظهور أويس القرني رضي الله عنه .
 
( 552 - 562 ) : مثلما كان للرسول - صلى الله عليه وسلم - معراج وكان للأولياء أيضا معارج فإن لكل سالك في هذا الطريق بعون من المرشد معراجا ، والمرشد هو الذي يهيىء البراق ، والغاية هنا هي الوسيلة إذا كنت تريد الفناء أو العدم فإنما سيكون الفناء براقك الذي يجذبك ، إياك أن تفكر في المسافات وفي الأجسام وفي المراحل وفي الأرض وفي السماء ، فليس السفر هنا كسفر البحار من الأرض إلى السماء ، ولا المعراج من الأرض حتى القمر . . ؟ ! !
 
ولكنه كمعراج الجنين يتطور إلى مرحلة العقل والنهى ، أو كمعراج البوص يتحول إلى قصب سكر ، هذا معراج براقه الفقر والسلوك ، يكون أعلى من البحار والأقمار والكواكب يجوب هذه العوالم فلا يكاد يمسها بحافر ، فهيا عليك بتلك السفينة التي هي إرشاد الشيخ امض إليها خببا كأنك ماض إلى لقاء
 
« 410 »
 
معشوق ، أو كأنك روح من الأرواح تأتى من جانب العدم فلا يد لها ولا قدم ، عودتك إلى عالم الروح هي المقابل لمجىء الأرواح من عالم العدم إن كل ما أقوله هنا إنما أقوله على سبيل القياس ، وكان في إمكانى أن أترك هذا القياس وأتحدث صراحة لو لم يكن السامع غير متصف بالحيطة الكاملة ، إنما يريد الكلام الصريح المباشر مستمعا وها هو يدعو نفسه بضمير الغائب تواضعا فيدعو الغوث الأعظم وهو بمنزلة الفلك أن يمطر جواهر العطاء الروحي عليه ، فإنه إن فعل فسوف ترد عليه عطاياه فيضا ربانيا من عطاء الشيخ من حيث تتضاعف عطاياه وشفته صامته فكأن عطاء الشيخ للفلك يكون فوق عطاء الفلك للشيخ .
 
( 563 - 572 ) : قصة إرسال بلقيس ملكة سبأ هدية إلى سليمان . .
والحديث هنا موضعه تبادل الهدايا بين الشيخ والملك ( سليمان وبلقيس ) وكيف أن ما يمنحه الشيخ خير وأبقى ، لقد أرسلت بلقيس إلى سليمان عليه السلام هدايا الذهب والرواية واردة في قصص الأنبياء للثعالبي ص 266 لكن الصحراء السليمانية كانت مفروشة بالذهب النضار . .
وقبل أن تصل القافلة إلى سليمان أحست بعدم قيمة الهدية . فهيا . . انظر أية هدية تحملها من عندك إلى الحضرة الإلهية ؟ !
هدية من العقل ؟ !
وما قيمة عقلك الجزئي هذا إلى جوار العقل الكلى الذي يسيطر على العالم ؟ !
لكن هل كانت القافلة التي تحمل هذه الهدية تستطيع أن تعود ؟ ! لا ؟ ! بل لابد وأن تنفذ الأمر .
 
( 573 - 584 ) : ها هو سليمان عليه السلام يسخر من هذه الهدية التي يحملونها إليه ويسميها مجرد ثريد . . إنه لم يطلب هدية من بلقيس لكنه طلب منها أن تكون لائقة بالهدية التي يقدمها لها ، وكيف تقدم الهدية لمن أفاض عليه الغيب بالهدايا النادرة التي لم تتوفر لإنسان من قبله أو من بعده ؟ !
ألأنكم تسجدون للشمس التي تصنع هذا الذهب ترون أنه أفضل ما يقدم لإنسان ؟ ؟
 
« 411 »
 
اسجدوا للذي خلق الشمس إذن وأي سجود للشمس تقومون به ؟ ! إن الشمس مجرد منضج لطعامنا . . ليس أكثر . . فكيف تجعلون منها آلهة ؟ ! وماذا تصنع إذا أصاب هذه الشمس الكسوف ؟ !
ألست تتضرع إلى الله تعالى أن يعيد إليها ضياءها . . وإذا أرادوا قتلك في منتصف الليل ، فأين هذه الشمس لكي تشكو إليها في حادثات الليل ؟ ! ! . .
إنك إن سجدت لله صرت مسموحا له بالأسرار مثلنا . . وإذا بلغت هذه الدرجة لتحدثت معك بحيث خرجت تاما من آثار الطبيعية . .
ولا ستطعت أن تسيطر على الشمس نفسها وأن تستحضرها في منتصف الليل ، بل تستحضر شمس وجوده ، شمس الحقيقة . . أنوار التجليات وتشاهد الجمال الإلهى .
 
( 585 - 597 ) : تسألني عن شمس الحقيقة . . ماذا أقصد بها ؟ ! إنها تلك التي تشرق في الأرواح الطاهرة ليل نهار ، تلك الأرواح التي تبدلت فلا يحجب هذه الشمس أمامها حاجب . . فهي نور دائم في نهار دائم ليلها كنهارها . . هي المحجة البيضاء . .
إن شمس الفلك بالنسبة لشمس المعاني كأنها الذرة لا قيمة لها ولا خطر منها أمام تلك العين التي نورت بالنور الإلهى وذلك النور الإلهى فعله كفعل الكيمياء إن ضعت على دخان جعلت منه كوكبا . . فكيف إذا وقع هذا الأكسيد النادر على ظلام . . ويستمر مولانا في تعبيراته الفنية . .
إن هذا الفنان يعجب بعمل واحد جعل خواص كوكب زحل كالشعلة الدائرة في الكوكب فيه خواص السماء السابعة وخواص الأرض . .
وهكذا فاعتبر كل كواكب الروح وجواهرها . . افتح عين الروح تستطيع أن تتمثل كل هذه الكواكب والأفلاك داخل وجودك وداخل نفسك . .
وتحتوى على عالم كامل داخلك وانظر إلى عين الحس . . إنها لا تستطيع أن تحدق في هذه الشمس الأرضية فهي قطر ناري . .
لكن انظر بنورى أي بنور الله تختلف تماما عنه .
 
« 412 »
 
( 598 - 612 ) : تريد مثالا إذن عن ذلك الذي قبل النور والذي كان وجوده مشرقا للأنوار الإلهية ولم يكن نوره يغيب ليل نهار فإليك الشيخ أبو عبد الله المغربي الذي كان يمشى معه أصحابه بالليل ووراءه فكان إذا حاد أحدهم عن الطريق يقول يمينك يا فلان يسارك يا فلان ، وقد ورد في نفحات الأنس لعبد الرحمن الجامي وهو متأخر عن مولانا جلال الدين أن شيخ الإسلام ( وهو الأنصاري ) روى أنه لم ير ظلمه قط وما كان يبدو للخلق ظلاما كان له نورا . . وعندما كان يتحدث فوق جبل سيناء كان الحجر يتفتت ويتساقط إلى الوادي ( نفحات الأنس ص 90 )
وقال القشيري إنه مات سنة 299 عن مائة وعشرين سنة ( الرسالة / 38 ) علق فروزانفر على البيت 606 :
وجعل المغرب كالمشرق مشعا بالنور ( مأخذ / 133 ) .
 
ولقد جعله الله غارقا في الأنوار ، إنه الذي تنطبق عليه الآية الكريمةيَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا( التحريم : 8 ) . .
اطلب من الله تعالى هذا النور حتى في الدنيا ، . . فإنه يهب هذا النور للسحاب وللظلمة وهو نور الروح الذي لا تبقى بعده ظلمة ، حتى وإن كف البصر ، فالحديث عن النور الباطني لا النور الخارجي ، بهذا النور الذي يهبك الإله إياه تستطيع أن تمضى في أمان بين عقارب الناس وأفاعيهم .
 
( 614 - 624 ) : عودة إلى قصة سليمان عليه السلام وهدية بلقيس ، ها هو يطلب من الرسل أن يعودوا بذهبهم وأن يأتوه بقلوبهم ، يقول لهم : ضعوا ذهبي على ذهبكم . . فإن كانت له قيمة لما تزينت به مؤخرات البغال ( التعبير من سنائى ديوان ص 148 )
فهي لائقة بهذا الذهب ، لكن صفرة وجه العاشق تفضل صفرة الذهب ، فهي من عشقه الله تعالى . ومن نظرة الله تعالى له ، لكن صورة الذهب من تأثير الشمس وشتان بين من هو موضع نظر الله تعالى وبين
 
« 413 »
 
ما هو موضع نظر الشمس . . وإياكم وغضبى وأخذى . . وعليكم بالإيمان بالله تعالى وإن كنت أسارى لي . . وأنتم بصيرون . .
ما أشبهكم بطائر يفتح جناحيه يرفرف بهما على سطح منزل لكن بصره مثبت على الفخ وعلى الحب فهو مأخوذ مأخوذ حتى ولو لم يؤخذ بعد . هذا هو القيد الداخلي ، الوسوسة ، الوهم ، العكوف على التفكير ، في أمر يعنى مراقبة الظاهر دون مراقبة الباطن يقال إن فلانا ( سقط فجأة ) لا يسقط أحد فجأة . . هذه هي الأمور التي تحرم الإنسان الحرية الحقيقية ( جعفري 9 / 511 )
إنه سوف يسقط في الحمى ما دام يحوم حوله . . ها هو الطائر ينظر إلى الحب . . والحب في نفس الوقت ينظر إليه . . وأنت مأخوذ بالدنيا . . والدنيا سوف تأخذك ، إنك أدَمْتَ إليها النظر . .
 
وهي تأخذ منك أيضا الصبر والقرار وما دام هذا النظر يجذبك إلىَّ . . فأنا أيضا أحس بانجذابك إلىَّ وأسحبك خلفي .
 
( 625 - 652 ) : وما أشبه هذا الذي يحس أنه مأخوذ بالدنيا ميال إليها يجعلها كل همه ومبلغ علمه بذلك الذي ذهب يشترى سكرا لكنه عاشق للطين فأخذ يسرق من صنج الميزان وهي من حجر الطفل ( مأخوذة من حديقة سنائى أنظر الترجمة العربية الأبيات 6086 - 6100 ) إن الذي يسرق الطين ليأكله لا يدرى أنه بهذا ينقص من نصيبه من الكسب وهكذا أهل الدنيا جميعا ، يستغرقون فيها ، وهم يظنون أنهم يكسبونها .
 
( 653 - 677 ) : عودة إلى قصة سيدنا سليمان مع رسل بلقيس إنه يحدثهم عن الملك الإلهى ، والملك الدنيوي ، وما الملك الدنيوي بجوار الملك الإلهى إلا جبيرة ساق ، والممالك الإلهية أدنى درجاتها تفضل هذا الملك الدنيوي ، وذلك الذي لا يستطيع أن يسيطر على شبابه ، أن يمنع نفسه العجز والهرم والشيب كيف يسمى نفسه ملكا ؟ !
إن ملك الملوك يمنحك في مقابل العبودية ملكا عظيما
 
 
« 414 »
 
إن أحسست به مثقال ذرة لتركت الملك الصوري كما فعل إبراهيم ابن أدهم ، وملوك الدنيا هؤلاء من دناءتهم وخستهم لا يحسون بهذا الملك العظيم الذي يحس به من سجد للإله سجدة طاعة واحدة من القلب . . .
لكن الله تعالى زين في قلوبهم عروشهم وتيجانهم من أجل عمارة الدنيا . . وهم وإن فخروا بأنهم يجمعون من الناس الخراج . . إلا أنهم يتركون هذا الخراج ميراثا عنهم فدعك من هذا الذهب . .
ودعك من هذا الملك . . وأطلب من الله بصيرة سليمة تستطيع أن تدرك أن هذه الدنيا مجرد بئر متعلق بحبل الله فيوسف تعلق به فخرج به من البئر فكان أول ماصك مسمعه . . يا بشرى »
وفي ديوان شمس :
يا من أنت في روح يوسف * لماذ تبقى في البئر تمسك بحبل القرآن * فاصعد من بئر الظلمات وحتى إنهم يخسرون كل شئ حتى أنفسهم ، كم من ظامىء منهوم إلى مال أو حياة أو منصب يستغرقه هذا النهم ويفسد عليه دنياه وأخراه معا كآهل الطين تماما ، ويقدم مولانا مثالا آخر للطائر والحب ، من المشترى والعطار ،
فالمشترى يظن أنه بأكله للطين من صنج العطار إنما يغبن العطار ، والعطار يلاحظه ويراه ويتغافل عنه أملا في أن يأكل أكبر قدر من الطين فإن هذا سوف ينقص بالتأكيد نصيبه من السكر . . تماما كالطائر والحبة . . الطائر ينظر على البعد ، والحبة تقطع الطريق إليه . . الصياد يطلب الفريسة ، والفريسة نفسها تطلب الصياد . .
وهكذا تصاد الطيور حتى الطيور الضخمة تصاد من سهام النظر ، ومن هنا حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن النظرة سهم من سهام الشيطان ، وفكرة أكل الشواء من الجنب تبدو من أفكار سنائى وعن
 
« 415 »
 
الإمام الصادق - رضى اللَّه عنه - « ما اعتصم أحد بمثل ما اعتصم بغض البصر فإن البصر لا يغض عن محارم الله إلا وقد سبق إلى كلية مشاهدة العصمة والجلال ( جعفري 9 / 515 ) .
فالشهوة تجعل الناس أسارى للدنيا وهم يظنون أنهم أمراؤها ، يظنون أنهم ملوك وهم مملوكون ، سادة وهم عبيد ، وما السيد إلا من خلص روحه من إسار هذه الدنيا ، إن العارفين بالله هم الكيمياء التي تحول المعادن الرخيصة إلى ذهب فكيف يمكن أن يكون للذهب قيمة في عيونهم ؟ ! !
 
( 678 - 688 ) : إن لم تكن تصدق أن أولياء الله قادرون بنظراتهم على تحويل كل شئ ينظرون إليه إلى ذهب فإليك هذه القصة عن هذا الدرويش الذي طلب من الأولياء العظام رزقا بلا تعب . . .
فدلوه على غاية في جبل وجعلوا فواكهها البرية حلوة في فمه . . ومن هذه الفاكهة الحلوة جرى لسانه بالحكمة بحيث أصبحت أقواله فتنة للخلق أجمعين وكان الدرويش يخاف شبهة الرياء ، فأدرك ما في إقبال الخلق من فتنة تقف أمام سيره الصوفي ، فدعا الله أن يسلبها عنه ، فاسستجاب لدعائه . .
أعقبه سعادة في قلبه . .
هي سعادة الإخلاص والبعد عن الرياء تلك السعادة التي لا يحسها إلا ذلك الذي جعل علاقته مع محبوبه بحيث لا يطلع عليها بشر ولا يدركها ( غيره ) ، لقد بلغ درجة من السرور الباطني بحيث أصبح يظن أنه إن لم يكن في الجنة سوى هذا السرور جزاء للمؤمنين لكفاهم هذا . . . إلى هنا . .
الحكاية تعتبر مقدمة للحكاية الحقيقية التي يريد أن يضربها كمثال على قرة أولياء الله على تحويل كل شئ إلى ذهب مما يجعل الذهب غير ذي قيمة في أنظارهم .
 
« 416 »
 
( 689 - 710 ) : يقدم مولانا جلال الدين الجزء الثاني من الحكاية وهو مأخوذ من كشف المحجوب للهجويرى ( ص 297 - 298 مآخذ 134 - الترجمة العربية لكشف المحجوب ص 279 ) كان الدرويش يملك حبتي ذهب من أيام حاجة خاط عليهما جبته رأى حطابا فقيرا فحدثته نفسه أن يهبه حبتي الذهب ما دام قد فرغ من أمر الرزق ، عليه يفرغ هو الآخر من أمر رزقه عدة أيام ، لقد ظن الدرويش نفسه مقسما للأرزاق فلا بد وأن يأتيه الدرس الإلهى . . لقد كان الحطاب الفقير من رجال الله المطلعين على الأسرار السماعين لله وبنور الله . .
لقد أخذ يهمس :
أهذا يليق بالملوك ؟ ! كيف تفكر في أن تتصدق على ملك ؟ لقد كان يتحدث بلا لسان وكان حديثه ينطلق مباشرة إلى قلب الدرويش . . وها هو يبدي المعجزة . .
 
فإذا بهيبة شديدة تمطر عليه . . هيبة حولت كومة الحطب بدعائه إلى ذهب ثم أعادها ببركاته خوف الشهرة والفتنة إلى حطب مرة ثانية وحملها وانصرف إلى المدينة . . دون أن يجرؤ الدرويش أن يسأله الصحبة ، وقد خاطب ابن سينا منكري الكرامات بقوله « ولعلك قد يبلغك من العارفين أخبار تكاد تأتى بقلب العادة فتبادر إلى التكذيب مثلما يقال : إن عارفا استسقى للناس فسقوا أو استشفى لهم فشفوا أو دعا عليهم فخسف بهم وزلزلوا أو هلكوا بوجه آخر ، ودعا لهم فصرف عنه الوباء والموتان والسيل والطوفان ، أو خشع لبعضهم سبع ، أو لم ينفر عنه طائر أو مثل ذلك مما لا تؤخذ في طريق الممتنع الصريح فتوقف ولا تعجل فإن لأمثال هذه الأشياء أسبابا في أسرار الطبيعة
ثم يقول : « إياك أن يكون تكيسك وتبرؤك عن العامة هو أن تنبرى منكرا لكل شئ فذلك طيش وعجز وليس الخرق في تكذيبك ما لم يستبن لك بعد طلبه دون الخرق في تصديقك ما لم تقم بين يديك بينة بل عليك الاعتصام بحبل التوقف وإن أزعجك استنكار ما يقرع سمعك ما لم تتبرهن استحالته لك ، فالصواب أن
 
« 417 »
 
تطرح أمثال وتمده إلى بقعه الإمكان ما لم يذرك عنه قائم البرهان ، واعلم أن في الطبيعة عجائب وللقوى العالية الفعالة والقوى السافلة المنفعلة اجتماعات على غرائب ( عن جعفري - 9 / 533 - 534 )
وقد فسر مولانا جلال الدين في الكتاب الخامس كيف يعرف المرشد ما في ضمير السالكين :
- لقد كنست المنزل في الخير والشر فصار منزلا ممتلئا من عشق الأحد - وكل ما أراه غير الله ليس ملكي بل انعكاس صورة ذلك الشحاذ .
- فلو ظهر في الماء انعكس نخلة أو عرجون . . . فليس منه بل من النخل :
- وإن رأيت في قاع الماء صورة ما تكون انعكاسا لشئ في الخارج أيها الفتى - ولكن بشرط تنقية لماء من القذى فالتنقية شرط في نهر البدن - حتى لا يبقى فيه كدر أو غثاء حتى تصبح أمينا في عكس الوجوه - فأين في بدنك سوى الماء والطين أيها المقل صف الماء من الطين يا خصم القلب - وأنت مقيم في كل لحظة من النوم والأكل في طمس هذا النهر بالتراب أكثر ( الكتاب الخامس أبيات 2804 - 2811 ) .
 
( 711 - 716 ) : مثل هذا الرجل هم الملوك الحقيقيون ، هيبتهم هيبة
 
« 418 »
 
 حقيقية ، وعظمتهم عظمة حقيقية ، ليس المهم أن تملك ، بل المهم أن يكون في إمكانك أن تملك وأن تزهد في الملك ، كثيرهم أولئك البلهاء الذين يلتقون بهؤلاء الملوك دون أن يغتنموا الفرصة ، إنهم يستكثرون عطاءهم ، مثل ذلك المتسول الذي أعطوه كثيرا من لحم الأضحية فاعتقد أن الأضحية بقرة ، دون أن يعرف أنه هكذا يكون عطاء الملوك .
 
( 717 - 725 ) : إن مزاولة سليمان للملوكية هي في هذا القبيل ، إنه ملك في المجاز والحقيقة ، ومن ثم فعطاؤه هو عطاء الملوك الحقيقيين إنه يدعو بلقيس وكل من عندها أن يغترفوا من بحر الجود ، إنه يدعوهم إلى عطاء الجنة . .
يدعوها لتطلب ويدعو من لا يطلب لكي يضم طلبه إلى طلبها . . هكذا فأساس العطاء الطلب . . ادعوني استجيب لكم . . . لا تستكبر عن الدعاء ( الطلب ) لكي يكون الفتوح .
 
( 726 - 730 ) : ليست بلقيس ببدع في الملوك الذين تركوا الملك الصوري من أجل الملك الحقيقي . . فكثيرون هم الذين أشرقت عليهم هذه اللحظة فبدلتهم تماما ودلتهم على الطريق . . وكما يكون في الأنبياء . .
يكون في الأولياء وها هو إبراهيم بن أدهم مثال حي على أولئك الذين تركوا العرش المجازى في سبيل العرش الحقيقي ليس هذا فحسب فقد يجلس أحدهم ينظر خلفه عبر رحلة عمره ،
فيرى أنه قد أفنى هذا العمر في سبيل أن يكسب الدنيا ، وها هو في سبيله إلى الخروج منها كما دخلها عاريا ، فلا هو اكتسبها ولا هو اكتسب نفسه ، عشرات النماذج تقدمها سير الصوفية في هذا المجال بحيث لا يكاد يوجد صوفي واحد لم يخبر الدنيا قبل أن يسلك طريق الآخرة ، بل عاش معظمهم في حضيضها ،
فقد كان منهم قاطع الطريق والغانية والغارق في الفجور حتى أذنيه ، درس تقدمه سير الصوفية ، إن جوهر الإنسان يظل غاليا مهما تمرغ في الطين ، ويستطيع
 
« 419 »
 
بعد هذا التدهور ، ونسيان الأصل أن ينطلق من هذا الطين فإذا بالنفخة الإلهية ترفعه إلى آفاق لم تصل إليها الملائكة . . وإبراهيم بن أدهم مثال حي ، كان على كرسي الإمارة . . أي أن الدنيا كانت ملك يمينه والسبب هداية إلهية تأتى عبر حكاية غير متصورة ، وحادثة غير عقلانية فما الذي يوصل أولئك الذين يبحثون عن الجمل إلى سطوح دار الإمارة ؟ ! ! وهل يبحث الإنسان عن بعير ضال فوق سطوح دار الإمارة ؟ ! نعم . . إنه تماما كمن يبحث عن الحقيقة الإلهية وهه وفوق كرسي الإمارة ( انظر تذكرة الأولياء للعطار ج 1 ص 88 ) ويعلق شمس الدين التبريزي : هذا ما كان فحسب ومضى والقلوب في أثره ! ! ( مقالات ص 27 ) .
 
( 730 - 744 ) : كما لا يأتي الأمن من الحرس ، بل يتأتى من العدل ، فإن طرب ابن آدم لم يكن يتأتى من أصوات الصنج والرباب ومن ذوات الأوتار ، بل لأن هذا الطرب هو شوق إلى الخطاب الإلهى « فقد كانت هذه الأصوات موجودة في الجنة يستمع إليها آدم ونحن من أبنائه فيؤثر فينا إذن هذه الأَصوات وذلك الشوق الكامن في كل منا إلى الجنة أو إلى الخطاب الإلهى ألست بربكم » . .
 
ثم انظر إلى جلال الدين وهو يشبه صوت المزمار بالأنين وقرع الطبول بالتهديد ( لا يزال الموسيقويون الكبار بعبرون بالآلات الإيقاعية ومن أهمها الطبول عن ضربات القدر أو هزيم الرعد أو البعث . . ومثلها مثلا السيمفونية السابعة لبيتهوفن المسماة بالإيقاعية ) ويرى مولانا جلال الدين : أن هذا الحزن والتهديد لأنها صورة من الناقور الكلى « إشارة إلى الآية الكريمة »فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ» ( المدثر : 28 )
 
والفكرة كلها كما ذكر نيكلسون مأخوذة من آراء فيثاغورث ومنه اتخذت سبيلها إلى أعمال فلاسفة الإسلام في رسائل إخوان الصفا ، ويواصل مولانا جلال الدين : من هنا قال الحكماء ( والمقصود فيثاغورث ) أنهم أخذوا ألحانهم من مقامات وسبعة أصوات وأربعة وعشرين شعبة وثمانية وأربعين تركيب ، فالمقامات مقابلة للأبراج والأصوات
 
« 420 »
 
للكواكب السيارة والشعبة للساعات والتراكيب لجمعات السنة ( مولوى 4 / 103 انقروى 4 / 147 ) والخلق يحاكون هذه الحركات سواء بالموسيقى أو بالغناء ، هذا ما يقوله الحكماء ، أما ما يقوله المؤمنون فهو أن هذه الألحان هي آثار أصوات أشجار الجنة وأنهار وجدرانها فهي التي تجعل كل قبيح لطيفا حسنا مقبولا . .
 
ونحن جميعاً من آدم سمعنا كل هذه الأصوات في الجنة ولا زلنا نشتاق إليها . .
نشتاق إلى خطاب اللطف الإلهى «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ» والشوق إلى الخطاب هو الشوق إلى يوم ألست يوم أقرت النطف في الأصلاب بالربوبية كما فسرها مولانا نفسه ( أتدري ما هو السماع ، إنه الاستماع إلى قوله بلى . . . وهو الانقطاع عن النفس والاتصال به ( استعلامى 4 / 229 ) .
 
لكن شتان بين هذه الألحان في أصولها الطاهرة وبين صورتها الإنسانية تمتزج الروح الطاهرة بالجسد النجس وتختلط على هذه الموسيقى برغائبنا وشهواتنا - وفي كليات شمس التبريزي يقول مولانا في إحدى الغزليات : إن علم الموسيقى هذا علم كأنه شهادة ، ولما كنت مؤمنا فإنني أتوق إلى الإيمان والشهادة ( غزل 457 ص 210 ) –
 
كما يختلط الماء العذب بالبول فيفقد عذوبته وطهر يختلط طهر الموسيقى بدنس الجسد ، لكن الماء مهما صار نجسا فإنه يستطيع أيضا أن يطفى نيران الهموم ، فكذلك الموسيقى والمعشوق الأوحد لا يمكن أن تطفى ناره هذه الموسيقى لكن السماع هو مدار العاشقين ، إذ أن « خيال » أو « ظن » اللقاء بالمحبوب يمكن في هذا السماع ، إنه مجرد شاهد للرغبة أيا كانت هذه الرغبة فإذا كانت رغبة في الدنيا اشتدت وإذا كانت رغبة في الآخرة اشتدت ، فالموسيقى والسماع إذن في رأى مولانا جلال الدين تحرك في الإنسان ما في داخله هو « وفي تعليق آخر نقله الأفلاكى ( 1 / 431 - 432 )
« سئل مولانا لماذا تقرع الطبول وتدق النقارات أيام الأعياء قال : إن الطبل من أجل الآذان الثقيلة حتى تنتبه من غفلتها وتستعد للعيد وهذا المعنى مأخوذ من نقر
 
« 421 »
 
صور القيامة وطبل يوم العرض فهي لبعضهم عيد ولبعضهم وعيد ، والعاشق إنما يجد لذة العشق في مجرد توهمه اللقاء بالمعشوق .
« فمن على سمعي بلن منعت أن أراك فمن قبلي لغيرى لذت » تماما كقصة من كان يلقى بالجوز في الماء .
 
( 745 - 759 ) : لم يورد فروزانفر هذه الحكاية في كتابه عن مصادر قصص المثنوى ، وقد وردت رواية أخرى للحكاية في الكتاب الثاني من كتب المثنوى
 
( الأبيات 1196 - 1212 ) كان يقف على الجدار الذي يحجزه عن الماء . .
وكان يقتلع منه الطوب ويلقى في الماء فيسر بصوت سماع الماء من ناحية . .
ويسرع في إزالة الجدار من ناحية أخرى . لقد كان ذلك الرجل فوق شجرة الجوز يلقى بثمارها في الماء الذي يجرى أسفلها في عمق وها هو ذلك العاقل الذي يقيس كل الأمور بعقله ، يعذله . . ما هذا الذي يقوم به ؟ !
يفقد الجوز ويزداد ظمأ إذ أن الماء يزداد ابتعادا لكن من الذي قال : إن الظمآن مراده الماء ؟ !
إنه إذا ظمأ إلى الماء لم يكن هذا الماء في متناول يده ، فإنما يكفيه أن يرى حباب الماء أن يسمع مجرد صوت الجوز في الماء نعم إنه الخيال والتصور فالظن الذي يبنى به الإنسان عالما خاصا به ، يجد فيه العزاء عن هذا الحرمان الذي يحيط به ، وأي حرمان أقبح من أن يحرم الإنسان الجنة ؟
وما الذي يهدف إليه الظمآن في هذه الدنيا إلا أن يطوف دائما حول حوض الماء إنه يجده من صوت الماء ؟
ومن خرير الماء - تماما كالحاج الذي يود أن يطوف حول الكعبة - وهكذا أيضا وانظر إلى جلال الدين في بعض تفسيره للعمل الأدبي والفنى يكون هذا المثنوى . إنه مجرد تعبير عن المقصود ، هو أنت يا حسن حسام الدين . .
إنه أنت الذي يجعل هذا المثنوى ينطلق من فمي ، ومن خيالي ومن وجداني أقدم هذا البناء الفنى العظيم الجدير بهذا الحرمان العظيم ، وقد يتساءل سائل هل من الممكن أن يكون هذا الأمر كما يعبر عنه جلال الدين . . أيكون ديوان شمس الدين التبريزي كله من أجل شمس الدين
 
« 422 »
 
والمثنوى بكل ما فيه من أجل حسن حسام الدين ويقدم جعفري ثلاثة احتمالات لهذا الموضوع : - الاحتمال الأول : إن الحالة النفسية لمولانا جلال الدين كانت تدفعه إلى أن يركز عالمه الذاتي الداخلي على نقطة معينة . . . يجعل نقطة محسوسة كجسر من الحقائق والصور التي يقدمها . . وبين عالم الوجود .
 
الاحتمال الثاني : إنه لم يقصد بشمس الدين أو بحسن حسام الدين شخصين محدودين بهذا الاسم . . بل كل السائرين في طريق الحقيقة والذين يرون فيه مصدر نجاتهم ومرشدهم ودليلهم إلى العالم الروحي العظيم .
 
الاحتمال الثالث : أن مولانا كان يرى في حسن حسام الدين المريد القادر على مواصلة الطريق والزهرة التي تبعث فيه التغريد فإن أرواح أولياء الله جديرة بالعشق الروحي ( جعفري 9 / 562 - 563 ) وأضيف أن كثيرا من المعلمين والأساتذة يرون في طالب معين من بين طلابهم مقدرة على سماعهم وتلقى أفكارهم فيكون بمثابة الملهم والجاذب لفكرهم ولأعظم ما فيهم . . الملهم موجود في التراث الإسلامي . . لكن منذ أن ابتلينا بغزو الثقافة الغربية . .
أصبح الملهم لا بد وأن يكون ملهمة وإلا فالويل كل الويل والاتهامات بالشذوذ الجنسي ( التفصيلات أكثر حول هذا المعنى انظر الكتاب الثالث شروح أبيات المقدمة الشعرية ) إنه النبات الذي زرعت أنت بذرته . . تنمو أزهارها وتنبثق بملازمتك أنت ، إنما أحب من ألفاظه أن أسمعها منك ، فإن صوتك هذا متصل بالأنوار الإلهية تنصب علىَّ هذه الأنوار الإلهية من هذا الصوت الذي يبدو في الظاهر صوتك . . ويجعل هذا المثنوى ينبثق بالرياضة والزهور .
 
( 760 - 764 ) : نعم هناك اتصال بلا تكيف ولا قياس ولا بشكل من الأشكال المصورة لرب الناس مع الناس « فإن روح المؤمن لأشد اتصالا
 
« 423 »
 
بروح الله من اتصال شعاع الشمس بالشمس ( حديث نبوي ) كما قال - صلى الله عليه وسلم : « ذهب الناس وبقي النسناس ، والناس كإبل مائة لا تجد منها راحلة وكما عبر نظامى عن هذا المعنى : إن من تراهم ليسوا كلهم بالبشر ، أغلبهم ثيران وحمر بلا ذيول لقد سلبت المعرفة من البشر فلم يعد هناك بشر موجودين ( أنقروى 4 / 155 ) ، الآدميين ، الأناسى - ولم أقل جنس النسناس الذي يشبه البشر في الشكل وليس ببشر ، أولئك الذي لهم صور البشر وأجساد البشر ينقرون كما ينقر الطائر ويرعون كما ترعى البهائم ( سبزوارى 4 / 278 ) ليس البشر إلا أولئك العارفين من أصحاب الأرواح التي تعرف روح الروح . .
 
الناس هم البشر وأين إنسان واحد ، « لقد كان الشيخ يطوف بالأمس بمصباحه في المدينة قائلا أبحث عن انسان . . أبحث عن إنسان كأسد الله وكرستم بن دستان . فقد ضاق صدري من هؤلاء الرفاق المخنثين . . الذين يتشدقون بالرجولة وما هو بالرجال . . حقيقة إنه يبحث عما لا يوجد ولكن البحث عما لا يوجد هو نهجنا الذي نسير عليه
( كليات ديوان شمس الدين التبريزي غزل 441 ص 203 ) إنك لم تر إنسانا واحدا ذلك لأنك ذيل من الذيول ( ترجمها الانقروى لم تر إنسانا لحظة ( 4 / 155 ) ولا شك إنه خطأ لأن « مردم » في الشطرة الأولى مضمومة الدال ولا بد أن تكون « دم » مضمومة الدال وليست مفتوحتها وهي بمعنى ذيل ) ولأنك ذيل تسير خلف العوام والسوقة والرعاع فإنك لا تستطيع أن تعرف الرؤوس أي الأولياء الذين يعرفون الناس . .
إن كل هذا الاتصال بين رب الناس والناس يتجلى في الآية الكريمة « وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى » لقد تجلى الله على عبده بصفة من صفاته فظهر عليه فعل هذه الصفة . تجلى على عيسى عليه السلام بصفة الإحياء وتجلى على محمد عليه السلام بصفة القدرة ( مولوى 4 / 107 ) فاترك الجسم من أجل الروح . .
أترك ملك الجسم من أجل الروح كما فعلت بلقيس من أجل سليمان النبي .
 
 
« 424 »
 
( 765 - 770 ) : يخاطب مولانا مستمعا وهميا يتصور أنه ينكر عليه هذا الحديث ، إنه يستعيذ بالله منه ويلجأ إلى الله من خيالاته التي تنكر عليه ما يقول ولا نستطيع أن تستوعب هذه الإفاضات ، وما ذلك الإنكار إلا من خياله الفاسد وظنونه الحمقاء . .
إنني ألجأ إلى الله تعالى وأستعيذ به لأنه في مثل هذه المواقف لا يملك الإنسان إلا أن يلجأ إلى الله تعالى فإنما يكون فهم كل إنسان بقدر همته ، ورب قارىء للقرآن لم يفهم فيه سوى الحرف ، وألم يقل أبو جهل إنه أساطير الأولين ( انظر الكتاب الثالث شروح أبيات 4385 وما بعدها ) فما دام حديثي قد وقف في حلقك لأن هذا الحلق لا يتسع لهذه اللقمة فلأ صمت أنا . .
وهات أنت ما عندك ، وحدثنا لا فض فوك بما تعلم أنت فها نحن كلنا آذان صاغية . . ما دام الفم لا يستطيع أن ينفخ في النادي جيدا . .
فانفخى أيتها المؤخرة وهذه الطريفة واردة في مقالات شمس تبريز ( ص 52 ) انظر كيف هبط مولانا في الحديث لكن هذا الهبوط في الحديث عند كبار شعراء الصوفية كان يحدث عندما يكون المخاطب من هذا القبيل « خاطبوا الناس على قدر عقولهم » لكن داخل هذا الهزل يكمن التعليم فالعارف هو في البداية معلم قد يلجأ داخل درسه إلى فكاهة قد توصل إلى طلابه ما لم يستطع الجد أن يوصله . .
 
وها هو الحكيم سنائى رغم جهامته الشديدة يهزل أحيانا . . لكن حذار من اعتباره هزلا . . إنه توحيد . . بل وقال مولانا جلال الدين في موضع آخر : إن بيت شعري ليس بيتا إنه إقليم كما أن هزلى ليس هزلا إنه تعليم ( مولوى 4 / 108 ) .
 
( 771 - 780 ) : يحدثنا مولانا جلال الدين عن الأدب ، ليس المقصود بالطبع الأدب المكتوب بل بمعناه الأخلاقي كعماد من عمد الطريقة ، فالأدب ليس إلا تحمل عديم الأدب ، بهذا تغلق أبواب عديده من الجدل ، ومن التلاحى ، ومن التعصب ، ومن ثم فإن كل شكاء من سوء خلق الناس لا بد وأن يكون هو نفسه
 
« 425 »
 
سىء الخلق ، فهو يشكو بدلا من أن يصبر ، لكن شكوى الشيخ مختلفة . إنها ليست غضبا ولا جدلا ولا هوى ، إنها من أمر الله تماما كأنها شكوى الأنبياء ، وإلا فهل يمكن أن نتصور نبيا لا يتحمل ، لا . . .
إنه في الحقيقة أكثر تحملا من الجبل ، أن يصدر ما يدل على الضعف من نبي تركيز على جانبه البشرى وتقريب له من أتباعه ، وإصلاح لأرواح قومه ، فهيا يا سليمان يا حسن حسام الدين ، كن مثالا على حلم الحق وتواءم مع الغربان « الوقحاء » أو الصقور ( الشرفاء ) من الناس . .
فإن كثيرا من أولئك المستعدين للدخول في الطريقة والمهيأين للإيمان كما هيئت بلقيس للإيمان بسليمان عليه السلام . هيا اقتد بالرسول - صلى الله عليه وسلم : - وقل اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون ولا تدع عليهم .
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: