السبت، 29 أغسطس 2020

13 - الهوامش والشروح 37 - 520 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

13 - الهوامش والشروح 37 - 520 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

الهوامش والشروح 37 - 520 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

الهوامش والشروح 37 - 520 فى المثنوي المعنوي الجزء الرابع د. أبراهيم الدسوقي شتا

شرح حكاية ذلك العاشق الذي هرب من العسس  
( 40 - 51 ) : يبدأ مولانا في إكمال الحكاية التي وردت في نهاية الكتاب الثالث بداية من البيت 4807 ، لكنه كعادته ودأبه في القص ، يقدم من خلال الحكايات أفكارا عديدة ، وها هو يحدثنا عن حال عاشقه الذي وقع على معشوقته فجأة ، كان المعشوق بالنسبة له كالعنقاء ، لم يكن يسمع عنه إلا الاسم ، لم يكن قد شاهدها إلا مرة واحدة ثم نفذ سهم القضاء ، وهكذا كل شئ فيما يرى مولانا . . . يكفى أن يومض كالبرق في حياة الإنسان المظلمة شهاب من معشوق حي أو معشوق ميت ، ليس هذا فحسب بل إن حادثة ما قد تغير الإنسان تغيرا تاما ، وهذا واضح في سير الصوفية جميعا كما تقص . . حادثة فجائية تغير فهم الإنسان من النقيض إلى النقيض ، ليس هذا في الطريق الصوفي فحسب بل وفي كل أمور الدنيا ، ويظل الإنسان في أثر هذا الشهاب الذي ذاق حلاوته مرة

« 379 »
 
واحدة ، وينتقل مولانا من المطلق إلى المحدود ، ويقدم صورا محسوسة إن عاشق كل حرفة وكل شئ إنما يعشقها لأن الله تعالى قد أذاقه حلاوته منذ البداية ( انظر للذوق 1 / 255 - 277 ) وهكذا فعشق عمل ما إنما يمثل أساس هذا العمل ، ثم توضع العراقيل لأن كل لذة تنافس لذه القرب باطلة ، وكل شئ ما خلا الله باطل ، وإنما يضع الله سبحانه وتعالى العراقيل لكل يدفع الطالب مهر مطلوبه ، ويؤمله ويؤيسه في كل لحظة حتى لا يكف عن الطلب ، فالطلب في حد ذاته نوع من العشق هو عبادة قد يبطلها الوصول ، ولكل إنسان مطلوب يقف على بابه ، فانظر ما يكون مطلوبك ، فهو بقدر همتك ، والباب يفتح فيكون رجاء ثم يغلق فيكون يأس واضطراب وفي هذه البوتقة يصهر الإنسان .
 
( 52 - 64 ) : يعود مولانا جلال الدين إلى الحكاية ، فها هو العاشق الذي وجد محبوبه بينما كانت الشرطة تطارده يطلق لسانه يطلب الرحمة للشرطة لكن مولانا لا ينسى أن يحلل طبيعة الشرطة التي تكون أكثر فتكا من السلطة التي تقصد حمايتها ، فمن الواضح أن العاشق لم يكن قد ارتكب ذنبا ما ، لكن الشرطة كانت تطارده فحسب لكي تأخذ منه بعض الدراهم ( ! ! ) وها هو يدعو الله أن يعوضهم عما كانوا سيأخذون منه بأضعاف أضعافه ( ! ! ) وليس هذا فحسب بل يدعو أن يخلصه الله من طبيعة الشرطي فيه ، وما هي طبيعة الشرطي ؟ إنه لا يريد الخير للبشر ، إنه يفرح إذا قسا الملك على الرعية ، ويحزن إذا رحمها ، إنه يعتبر هذا العمل ابتلاء من الله سبحانه وتعالى ، بل إنه ليضلل الحاكم لكي تطلق يده في الرعية .
 
( 63 - 77 ) : لأن هذا الشرطي الذي لا يتأتى منه الخير ، قد يأتي منه الخير للعاشق ، وإن لم يكن هذا بإرادته ، يخلص مولانا إلى أنه لا يوجد شر مطلق
 
« 380 »
 
في هذا العالم . فما يكون شرا بالنسبة لأحد ، يكون خيرا بالنسبة لآخر ( انظر 1 / 2005 - 2008 ) وهذا نفى لكل مدارس الفسلفة التي تحدد المشكلة ( جعفري 9 / 295 وما بعدها ) والفكرة واردة عن سنائى في الحديقة « وفي ذلك الزمان الذي خلق الله فيه الآفاق لم يخلق شرا على الإطلاق » ( انظر الترجمة العربية للحديقة البيت 459 ) كما وردت في معارف بهاء لد ( 1 / 389 ) ،
وهكذا فقد كان مولانا جلال الدين شأنه في هذا شأن الصوفية يؤمن بأن الخير هو الأصل في العالم ، ويرى ملا هادي سبزوارى أن الحكماء الإلهيين كانوا يرون الخير بالنسبة للوجود بديهيا لأن هذا الأمر متعلق بأصل الأصول أي التوحيد ( سبزوارى 4 / 262 ) ،
ويروى الأنقروى حكاية عن محى الين بن عربى في هذا المجال إذا كان جالسا ذات يوم في جماعة من مريديه فمر أحدهم ذو رائحة كريهة ، فسأل مريديه عن سر هذه الرائحة الكريهة فقال بعضهم : للتواضع ، والمسكنة ، وقال بعضهم هضما لنفسه ، وقال بعضهم : سترا عن الناس لأسرار باطنه ، وقال الشيخ : لا بل الوجود خير محض وهو نظر إلى هذه الحبة فاحتملها لأجل الخيرية ( الأنقروى 4 / 24 )
أو كما قال ابن الفارض :فلا عبث والخلق لم يخلقوا سدى * وإن لم تكن أفعالهم بالسديدةوإلى مثل هذا المعنى ذهب حافظ الشيرازي بقوله :
قال شيخنا إن قلم الصنع لم يجر بخطأ قط ويستمر مولانا على هذا النسق في تفصيل هذه الفكرة ، فالسم قد يكون لهذا غذاء لكنه لذاك موت ، تماما كما ذكر سنائى في الحديقة إشارة إلى شرب
 
« 381 »
 
خالد بن الوليد السم الذي وجد في غنائم المدائن لم يصبه بأذى ( حديقة البيت 460 وشروحه ) وهكذا أمور الدنيا بأجمعها إلى ما لا نهاية . . ولماذا نبتعد ؟ انظر إلى شخص واحد ولنفرض أنه زيد مثلا . . فزيد هذا تتعدد الآراء فيه بتعدد الناس لكنه ذات واحدة في ظاهر الأمر ، فإذا كنت تريد أن يبدو لك طيبا فانظر إليه بعين عشاقه ، انظر إلى المطلوب بعيون طالبيه واستعر عيونا من طالبيه إذا لا يحمل عطاياه إلا مطاياه ، انظر إلى المجنون بعيون ليلى .
 
( 78 - 80 ) : وإذا كان الأمر هكذا بالنسبة لزيد فما بالك بمعدن الجمال وسره والحقيقة الخالدة ، فإذا كنت تريد أن تأمن الكسل والملال ، فاقرأ ( من كان لله كان الله له ) ، واقرأ أيضا : « ما يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها » والنتيجة أن أي مكروه في سبيل الحبيب يكون محبوبا .
 
( 80 - 97 ) : لم ترد الحكاية التي تبدأ بهذه الأبيات في « مآخذ » فروزانفر ، وهي على كل حال قد تكون من مبتكرات مولانا جلال الدين نفسه ، وتدور في نفس السياق السابق ، فهذا الواعظ كان يرى في الشر نفسه خيرا ، وفي الأشرار فائدة للأطهار ، فكان دعاؤه كله وهو على المنبر للأشرار وقطاع الطريق والمشركين والمستهزئين بأهل الخير والدين ، وقد سئل كيف يدعو لأهل الضلالة ؟ فقال : لأدلهم علىَّ . . والحكاية في لبها أشبه بحكاية لقمان الذي سئل : ممن تعلمت الحكمة ؟ فقال : من الحمقى كلما فعلوا شيئاً تركته ، كما أشار عبد الباقي ( 25 / 4 ) إلى قول للإمام على قريب من هذا المعنى « كفاك أدبا لنفسك اجتناب ما تكرهه من غيرك » فحتى شر الأشرار قد يكون خيرا على
 
« 382 »
 
غيرهم ، فإنما يعلمون أن الشر المجسد يرغب أهل الخير في الخير ، وكلما اتجه إليهم من طبع على الخير ولقى من شرهم العنت والأذى ابتعد عنهم إلى جنب الله ، كما تعود الشاة الخائفة إلى القطيع ، وهكذا فالأشرار هم الذين يهيئون عن غير قصد وعمد للأخيار طريقهم ، فكم من عالم فذ حاربه أهل السوء وعصبة الضلال من المحيطين به عن كيد وحسد فكانت خلوته إلى كتبه وعلمه وأبحاثه سببا في خيره ، ويقص الأنقروى عن نفسه حكاية من هذا القبيل فليطلبها في موضعها ( 4 / 29 - 30 ) من يريدها بتفصيلاتها ، وهذا هو اللطف المخفى في ثياب القهر والذي يلجؤك إلى الله سبحانه وتعالى ، أليس أعداؤك في النهاية هم الذين يلجئونك إلى حلقة الذكر والفكر ؟ ! وكم يكون هناك من قهر مخفى في ثياب اللطف : أليس من أولاد المرء وأزواجه من يكون عدوا له . . ترى ماذا تكون هذه العداوة إلا الصرف عن الذكر ؟ ( عبد الباقي 25 / 4 ) ، أليس أصدقاؤك ومحبوك هم الذين يأخذونك من حلقة الذكر والفكر ؟ ! إن نفس المؤمن إنما تطيب بالبلاء ، ومن هنا كان « أشد الناس بلاء الأنبياء فالأولياء ثم الأمثل فالأمثل . » .
 
( 98 - 109 ) : يواصل مولانا الحديث عن البلاء وكيف يصقل الإنسان وينضجه ، فالإنسان دون تجربة وبلاء كالجلد غير المدبوغ لا قيمة له ، فالبلاء للإنسان كالملح والدباغة بالنسبة للجلد ، والطائفي منسوب إلى الطائف وهو جلد شهير بجودته ، وحتى إن لم تستطيع أن تأخذ أجر الصابر ، فخذ أجر الراضي ، فأنت مأجور في كلتا الحالتين ، « فإن الله إذا أحب عبدا إبتلاه وإن رضى اصطفاه » والصفاء بعد البلاء ، وعلمه فوق تدبيرك ، وكل ما قدر يكون ، ولا حيلة لك إلا التسليم والرضا ، حينئذ يكون البلاء حلوا ، وإن الله يجرب عبده بالبلاء كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار ( استعلامى 4 / 196 ) ، هكذا رأى الحسين بن منصور الحلاج نفسه حيا بالموت فصاح
 
« 383 »
 
اقتلونى اقتلونى يا ثقات * إن في قتلى حياة في حياة( انظر أول 3949 - 3950 ) .
 
( 110 - 119 ) - يعود مولانا فيعلق على نفسية الشرطي ، إنه مردود عن باب الله وإن كان يعتبر نفعا لغيره ، إنه لا يسعى لنفسه بالأعمال الصالحات وفي حديث قدسي قال الله تعالى لموسى أتخاف غيرى ؟ ! قال : بل أخاف من لا يخافك قال الله تعالى : حق لك أن تخاف من لا يخافنى ، وهكذا فإن الشفقة التي هي من الإيمان مقطوعة عن الشرطي ، ولا تنزع الرحمة إلا من شقى » بل هي القسوة والغضب المسيطران على الشرطي ويسوق مولانا مثلان هذا المجال ، وهو مستند على حديث نبوي ، أن رجلا سأل عيسى عليه السلام فقال : يا عيسى ما أشد الأشياء : قال غضب الرب فقال : وبم النجاة منه قال : إذا غضبت أن تترك غضبك ، كما قال الله تعالى في حديثه القدسي : يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب ، ( انقروى 4 / 34 ) ورد فروزانفر أصل الحكاية إلى حديث نبوي سئل النبي ما يبعد عن غضب الله عقابي ؟ قال أن لا تغضب وروى عن سيدنا على رضي الله عنه : يباعدك من غضب الله أن لا تغضب ، كما نقل عن الإمام موسى الكاظم : من كف غضبه عن الناس كف الله عنه غضب يوم القيامة ( مآخذ 129 ) .
 
ويخلص مولانا من جواب سيدنا عيسى إلى أن الشرطي هو مصدر الغضب وقد جاوز الوحوش في الغضبية ولا أمل له في رحمة الله ، وإنما يسوقه في غيه وضلاله أن النظام في العالم لا غنى له عنه ، هذا هو ما يدريه ، إذ لا علاقة هناك بين من يقيم النظام وهو مقيم على سجيته وعلى غضبه ، ويسوق مولانا تشبيها
 
« 384 »
 
في هذا المجال على ما ورد في النص هذا بالرغم من أن الروايات كانت تروى عن احترام السلطة لجلال الدين - الخوف هنا عن الحساسية من السلطة المطلقة التي لا يرد عنها رادع .
 
( 120 - 154 ) : عودة إلى حكاية العاشق الذي وجد محبوبته في البستان وها هو يراودها عن نفسها ، فلا شاهد عليهما إلا النسيم ، وترد عليه زاجرة إياه : وأين محرك النسيم ؟ ! وينطلق مولانا جلال الدين في هذه الفكرة : إن هذه الرياح الجزئية التي هي طوع أمرنا لا تتحرك إلا إذا حركناها نحن بالمروحة وهذا النفس إنما هو متحرك بحركة الله سبحانه وتعالى « ولا متحرك إلا بمحرك » ( سبزوارى 4 / 274 ) بل الكلام الذي تجعله حينا مدحا وحينا ذما لابد له من محرك وهكذا دواليك حتى الرياح الكلية ، تستطيع أن تتعرف على طبائعها قياسا على هذه الرياح الجزئية التي تلمسها وتحس بها ، أحيانا تكون على الدنيا ربيعا وأحيانا تكون ريحا صرصرا كما كانت على قوم عاد ، وهناك ريح السموم وريح الصبا وفي الحديث النبوي « نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور » . وهكذا الكلام حينا لطف وحينا قهر ، وهو نفس رحماني في كلتا الحالين على فحوى « لا تسبوا الريح فإنه من الرحمن »
( مولوى 4 / 35 ) وإذا كانت المروحة حينا تكون للترويح ولكنها هلاك للبعوض ، فكيف تنكر هذا على الرياح الكلية أي الأبراج السماوية الهوائية الجوزاء والميزان والدلو ( سبزوارى 4 / 264 ) .
وكما يقدم مولانا فكرته على مستويات : ألا يطلب الفلاح الرياح لكي يذرى محصوله ؟ ! أليس طلق الولادة من قبل الرياح ؟ ! أليس ألم الأسنان نوعا من الرياح ؟ ! وهل تراك ترى كل هذا ؟ ! ألست تعرفها بآثارها ؟ ! .
 
« 385 »
 
( 156 - 160 ) : يقول العاشق أنه إذا كان قد جاوز حد الأدب فإنه يغفر له عند محبوبته سعيه وطلبه ، وكأنما كان يقول بلغة معاصرة : أن يسعى إلى غاية قبيحة بوسائل شريفة ( ! ! ) وترد المحبوبة ساخرة أن ما رأته فيه من حسن الأدب حقا ، وهذا هو ما يظهره فما بالك بما يبطنه فلا هو مستهلك في المعشوق ظاهراً أو باطنا ، وإنما تريد القول أن ظاهره يدل على باطنه فإن كل إناء ينضح بما فيه ( بيت أورده الأنقروى 4 / 41 والمولوي 4 / 28 ولم يرد في طبعة نيكلسون ) ، وتضرب مثلا بحكاية الصوفي الذي ضبط زوجته متلبسة بجرم الزنا مع اسكاف فألبسته ملابس النساء وادعت أنها زوجة أحد الأعيان جاءتها طلبا لابنتها ، والحكاية من الحكايات الكثيرة التي تجاهلها فروزانفر في مصادر حكايات المثنوى ولعله لم يجد لها أصلا ، وقال استعلامى إنها من المأثور الشعبي المشهور 4 / 198 .
 
( 161 - 171 ) : يسوق مولانا داخل الحكاية بعض الأفكار تعليقا على زوجة الصوفي إلى عودة زوجها في ذلك الوقت من النهار لكن الأمان من مكر الله لا يستقيم على طول الخط ، « والقياس » المذكور في 164 تأكيد من مولانا جلال الدين على عدم الاعتماد على القياس ( انظر أيضا الأبيات 82 من الكتاب الثاني و 3994 من الكتاب الثالث ) فإنه مهما كان ستَّارا إلا أنه يجازى ويعاقب ، والإثم أشبه بالبذرة ، ولا بد للبذرة من أن تنبت نباتا يظهر فوق الأرض وينبئ عنها ، ثم يضرب مثلا بحكاية أخرى ( تجاهلها أيضا فروزانفر ) وفحواها حكاية ذلك اللص الذي ضبط في عهد عمر بن الخطاب فسلمه إلى الجلاد ، وأخذ اللص يصيح بأنها أول مرة يفعلها ، فأجاب سيدنا عمر - رضي الله عنه - بأنه : حاشا لله أن يفضح مذنبا عند أول فعله للمذنب ، إنه يستر مرات من فضله لكنه يفضح من أجل العدل ، وذلك حتى تتجلى صفتاه : اللطف والقهر .
 
« 386 »
 
( 172 - 185 ) - لقد فعلت زوجة الصوفي هذا الفعل مرات ومرات ولكن ليس في مرة تسلم الجرة ، وهكذا يصاب المنافق بموت الفجاءة كي تفوته فرصة التوبة ، وها هو الصوفي يخاطب الزوجة الفاجرة ، أن الله يعلم لكن غضبه يفعل فعله بالتدريج كمرض السل ، يظن المريض أنه صحيح بينما يقضى عليه المرضى لحظة بلحظة ، وهكذا فقد وجدت المرأة نفسها كأنها في العرصات يوم الحشر ، حيث لا ترى عوجا ولا أمتا يستطيع المجرم أن يختبىء خلفه ( انظر طه / 102 ، 107 ) .
 
( 186 - 209 ) : أخفت المرأة خدنها في ملابس النساء ، إن الرجل مفتضح داخل ملابس النساء كأنه جمل على رأس سلم ، لكن المرأة تواصل حديثها ، ولكي تتم السخرية لا تجد موضوعا تتحدث فيه إلا الشرف ، فإنه هذه المرأة من نسوة الأعيان جاءت خاطبة ابنتها ، كيف ؟ ! وأول شروط الزواج الكفاءة ، لا يهم هي لا تريد لابنها سوى الشرف والأصل والمنبت الطيب . .
كم من الغارقين في الإثم لا يتحدثون إلا عن الشرف ؟ ! وهل صادفت في أي زمان ومكان متشدقا بالشرف والعفة إلا وهو غريق في الإثم حتى أذنيه ؟ ! إنه نوع من الازدواجية حيث يبدو في الظاهر ما يتوق الباطن إليه . . جزئية من جزئيات الحياة اليومية التقت إليها مولانا بعينه الناقدة الفاحصة . . أشبه بنظريات الإسقاط في علم النفس الحديث ، فقد كانت المرأة تستطيع أن تدخل أي موضوع إلا موضوعات الستر والعفة والأصل والمنبت الطيب .
 
( 210 - 224 ) : هذا هو المستفاد من الحكاية : تواصل المعشوقة حديثها إلى عاشقها : لقد رويت لك هذه الحكاية حتى تكف عن التشدق بالكلام من افتضاح أمرك . . إنك أشبه بزوجة الصوفي غريق في الخيانة والإثم ومتشدق بكلام لا
 
« 387 »
 
جدوى منه ، إنك تخجل منى ، لكنك لا تخجل من الله سبحانه وتعالى ويواصل مولانا جلال الدين ( المعشوقة في الظاهر ) حديث عن صفات الله وهي أولى المشكلات الكلامية التي يخوض فيها في هذا الكتاب الرابع لقد سمى الله سبحانه وتعالى نفسه سميعا لكي تكف عن قول الهزل ، وسمى نفسه عليما حتى لا تفكر في الفساد خوفا منه ، وليست هذه كلها أسماء أعلام بالنسبة لله تعالى ، فمن الممكن أن تسمى الأشياء بأضدادها ، والاسم جامد ومشتق لكن أسماء الله قديمة ، ويرى ملا هادي سبزوارى
 
( 4 / 266 ) أن مولانا جلال الدين يرد بهذا على مذهبين : المذهب الأول هو مذهب المعتزلة الذين قالوا بنفي الصفات عن الله تعالى بالنيابة بمعنى أن الآثار المترتبة على الصفات تترتب عنده سبحانه وتعالى على الذات ، وقالوا ليس له صفة قائمة به بل صفته هي وصف له ( انقروى 4 / 53 )
وهذا مثل أحكام الفعل وإتقانه وهو من آثار العلم ، أوخذ الغايات ودع المبادئ وهذا خطأ محض لأن الأثر غير ابتداء الأثر ، وهو في حد ذاته مبدأ الكمال ، ومستجمع للكمال كله بالوجوب ، كما نفى أيضا مذهب الأشاعرة الذين قالوا بزيادة الصفات على الذات ،
وهذا يعنى أن الصفة قائمة بغيرها بحيث يعنى هذا أنها لا محالة زائدة على الذات وهذا باطل ، فالصفات عين الذات ، وكما قال أمير المؤمنين ، رضي الله عنه : كمال الإخلاص نفى الصفات عند الشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة فمن وصفه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ،
وفي رأى العارفين المتألهين أنهم يقولون بالحقيقة النورية للوجود الصرف كوجوب محض دون تعينات الذات وكل حقيقة مأخوذة بتعين كمال يسمونها الصفة ويطلقون على مجموع الذات والصفة « اسما » ( سبزوارى 4 / 266 - 267 وانظر مذاهب الإسلاميين لعبد الرحمن بدوي ص 545 وما بعدها ) .
ولعل مولانا يقدم هنا رأيا جديدا ، وهو أن
 
« 388 »
 
الأسماء مشتقة من أوصاف قديمة ، والاشتقاق على نوعين اشتقاق انتزاعي بمعنى أن كون الله سميعا وبصيرا صفات منتزعة من صفاته القديمة بلا تأخر أو تقدم ، والمعنى الثاني الإشتقاق الفعلي أي أنها قديمة اشتقت منها الصفات له سبحانه وعالي من العالم المحدث ، كما يرد في البيت نفسه ( 219 ) أنه ليس سميعا على مثال العلة الأولى فقد سماه بعض الفلاسفة بالعلة الأولى أو علة العلل ( جعفري 9 / 363 - 365 ) .
 
ويواصل مولانا جلال الدين مناقشة القضية على طريقته ، فإنك إن فصلت الصفة عن الذات فكأنك تسمى الأصم سامعا والضرير ضياء أو تسمى الحيى وقحا ، والقبيح صبيحا والوليد حاجا ومن لم يغز غازيا فإذا كانت هذه الصفات موجودة في المسمى فهي مدح وإلا كانت من قبيل السخرية أو الجنون ، وتعالى الله سبحانه وتعالى عما يقوله الظالمون علوَّا كبيرا .
 
( 225 - 237 ) : وتعود المحبوبة لمخاطبة عاشقها أو مولانا لمريديه لا حاجة إلى لجاجك وعنادك ونقاشك ، لقد كنت أعرف قبل اللقاء أنك مجادل راسخ في الشقاء ، وليس مهما أن أراك ، فإن المرء يحسن بمرض عينيه مع أنه لا يراها وها هو الدليل من أول لقاء عندما رأيتني دون حارس ، ظننت أنه لا حارس لي ، بينما يبكى العاشقون حقيقة إذا نظروا حيث لا ينبغي النظر ، وهناك كثير من الروايات حول عاقبة النظر إلى ما لا يحل ( أنظر كشف المحجوب ص 396 - ص 398 ، وانظر حديقة الحقيقة الترجمة العربية ص 186 ) ،
إنما يصلهم العقاب الفورى من الحارس الذي لا ينام وحارسي هو الذي لا يغفل ولا ينام ، وهو الذي يعلم كنه الريح التي تهب علىَّ ، وهو ليس بغائب ، ترى كيف عرفتك من بعيد ؟ !
يكفى أن أعلم نفسك الشهوانية وهي تدل بعدها على كل شئ يتعلق بك ، وهي أي النفس الشهوانية عمياء عن الحق لا تراه ولا تسمعه ، أأسألك عن أي شئ يخصك . . وكيف أسأل من هو في مستوقد الحمام بين القمامة وأسباب الإحراق هل هو في نعمة أو في شقاء . . يكفى أن أنظر لحاله ؟
 
« 389 »
 
( 238 - 251 ) يقدم مولانا جلال الدين صورة للدنيا على أساس أنها كمستوقد الحمام ، إنه شديد القذارة ، لكن الحمام لا يقوم إلا به ، ولا يتم الطهر إلا إذا أوقد هذا الحمام واستقرت فيه النيران ، لكن بينما يكون للمتطهر المتقى الصفاء منه ، يكون أولئك الذين ينغمسون في هذا المستوقد في قذارة وشقاء ، فكأن الدنيا لا غنى لها عن هذا التكالب والتكاثر لكي يستقيم أمرها ، والأغنياء أو المهتمون بالمال عموما أشبه بمن ينقلون أنواع القمامات إلى مستوقد الحمام لكي يحتفظوا به مشتعلا ، إن حرصهم هو الذي يجعل هذا الحمام مشتعلا . . .
 
والحاصل أن عليك أن لا تكون من أهل المستوقد بل أن تكون من أهل الحمام ، إن مجرد ترك المستوقد يعنى أنك قد انتقلت إلى الحمام . أي أن مجرد الزهد في الدنيا يعنى أولى خطواتك نحو التطهر . ، وكل شخص من الفريقين ظاهر السمات والمتطهر يبدو ذلك من وجهه وهيئته ، كما أن المنغمس في ذلك الذي يبدو به كذلك .
وأنت إن لم تر وجه ذلك المتطهر فتنسم رائحته ، فالرائحة تعنى العصا لكل ضرير ، وإذا لم تكن تشم فاجعله يتحدث وفي حديثه إنباء به ،
نعم سوف نجد أولئك الذين يحملون القمامة إلى المستوقد يتفاخرون بعدد ما ينقلون إلى الحمام من سلال القمامة وكأنهم يتحدثون عن الذهب ، وهؤلاء لا أمل منهم فلا حياة لهم إلا في الدنس فيه حياتهم وفيه غاية همهم وفيه شقاؤهم أيضا .
 
( 257 - 275 ) : القصة التي تبدأ بهذا البيت يردها فروزانفر ( مآخذ / 129 ) إلى ما ورد في كيمياى سعادت لأبى حامد الغزالي « ومثله ( أي من لا يأنس إلى الحق ) مثل ذلك الكناس الذي ذهب إلى سوق العطارين فسقط مغشيا عليه من الروائح الطيبة وأخذ الناس يتقاطرون عليه يرشون عليه ماء الورد ويضمخونه
 
« 390 »
 
بالمسك بينما حاله يزداد سوءا ، حتى وصل أحد الكناسين إلى ذلك المكان وفهم حاله ، فأتى بقطعة من براز وجعلها لينة وحكها بأنفه فعاد إليه وعيه وقال يا لها من رائحة جميلة ، كما نظهما العطار في أسرار نامة ( ص ص 61 - 62 من تحقيق سيد صادق كوهرين )
وتشير الحكاية أن الذي يحيا في الدنس ويعتاد عليه ويكون قائما بالفساد لا حياة له إلا به ، تكون حياته في هذا الفساد إن ابتعد عنه مات ، ويكون الجو النظيف وبالا عليه ، وتصدق هذه الظاهرة على النظم أيضا فالنظام الذي يكون قائما على الفساد والنهب يظل بقاؤه ما دام الفساد والنهب قائما ، ومهما تشدق بالإصلاح فإنه أبعد ما يكون عن الإصلاح لأن في الإصلاح موته ونهايته ، فيتردى من فساد إلى فساد حتى يقتله نفس هذا الفساد .
 
( 276 - 288 ) : التعليق بالطبع من إفاضات مولانا جلال الدين ، فها هو يسوق على لسان أخ ذلك الدباغ الذي أغمي عليه في السوق أن هكذا أوصى جالينوس : « أعط المريض ما اعتاد عليه » لكن هذا القول ليس من أقوال جالينوس ، وهو منسوب إلى أبو قراط ونقله عنه ابن أبي أصيبعة « يتداوى كل عليل بعقاقير أرضه فإن الطبيعة تفزع إلى العادة » ( استعلامى 4 / 302 ) .
أو « داوها بالتي كانت هي الداء » ، فإن علاجه بخلاف عادته يزيد من مرضه ، وإن لم تكن تصدق هذا فاقرأ من القرآن الكريم « الخبيثات للخبيثين » واعلم ظهره وبطنه ، أي أعلم أنه وإن كان قد نزل في حالة خاصة هي حالة براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من حديث الإفك ، فإنما يقصد أن كل خبيث لخبيث وكل طيب لطيب ، وذلك مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام « اعملوا فكل ميسر لما خلق له » .
وكما قال في حديث قدسي : « خلقت الجنة وخلقت لها أهلا وخلقت النار وخلقت لها أهلا ( مولوى 4 / 43 ) » ولا يتواءم الخبيثون مع الطيبات ، أليسوا هم الذين لم يصل عطر الوحي إلى مشامهم ، فقالوا للأنبياء :
 
 
« 391 »
 
« إنا تطيرنا بكم » ( انظر الكتاب الثالث الأبيات : 2602 - 3094 وشروحها وانظر الكتاب الثاني حكاية ذي النون ) ، وكأنهم كانوا يقولون : لقد نشأنا على اللهو واللعب وسمنا به وتعودنا عليه ، إن قوتنا في هذا الهذر وفي هذا الفساد واللهو واللعب ولا حياة لنا إلا به ، إنكم تشبهون من يعالج العقل بالأفيون ، كأن مولانا كان تنبأ بمن سوف يقول « إن الدين أفيون الشعوب » ( جعفري ، 9 / 381 ) » .
 
( 289 - 295 ) : يواصل مولانا حكايته : ها هو الدباغ يصرف الخلق المتزاحمين حول أخيه المغمى عليه ليعالجه خفية بعلاجه الذي لا يزيد عن فضلات الكلاب ، ويفيق ، وها هم الخلق يظهرون عجبهم : يا لها من رقية عجيبة تلك التي تلاها في أذن المغمى عليه فأفاق للحظته ، غير واعين إلى أنه عالج فسادا بفساد ، وهكذا كل من الأدواء الفاسدة في كل العصور التي لا يزيد عن فضلات الكلاب يطرحها أولئك المحتالون على العقول الفاسدة ، فتدهش منها وتعجب ، كم من الأفكار المسمومة والفنون الهابطة تجد لها جماهير من المغيبين عقليا ، ويكون انتشارها دليلا على سحرها دون أن يكلف إنسان خاطره بأن يسأل عن كنهها ، وهكذا تكون حركة أهل الفساد ، حيث يكون الزنا والتلاعب بالحواجب ، وكلها مغيبات للوعى إلا أن أهل الفساد يرون فيها وعيهم وصحتهم ، وكل من لم يعتمد على الطهر تكون حياته بالفساد ، وكل من لم تشغله الكبائر شغلته الصغائر .
 
( 296 - 300 ) : ومن هنا قال الله تعالى : «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» ( التوبة : 28 ) وذلك لنجس باطنهم ( انظر نجس الباطن الكتاب الثالث ) والدود الذي تربى في البعر ، لا يتغير طبعه من
 
 
« 392 »
 
العنبر ، وأولئك الذين لم يصيبهم رش النور الذي ورد في الحديث النبوي الشريف « إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأ فقد ضل » ( مولوى 4 / 45 ) أما من أصابه رش النور فإن بيضته تلد طائرا كما يحدث في مصر عندما توضع البيض في الزبل فتخرج منه فراريج ، إن رش النور الإلهى إذن يوجد اعتدالا طبيعيا ، يجعل الحياة تخرج من المزابل ، لا . . ليس المقصود هو ذلك الدجاج الهزيل بل دجاج العلم والمعرفة ، أولئك الدراويش المطعمين بالنور الإلهى الذين يعيشون في الخرابات ثم تفيض ألسنتهم بالحكمة الإلهية .
 
( 301 - 319 ) : عودة إلى حكاية المحبوبة وحبيبها في البستان إنك تبدو كمن حرم رش هذا النور ، فها أنت بعد ثماني سنوات من الفراق لم تنضجك التجربة ( يبدو أنها حكاية عاشق مدع في مقابل حكاية العاشق الناضج الواردة في حكاية وكيل صدر جهان في آخر الكتاب الثالث )
وها هو فراق ثماني سنوات لم يغير من عدم نضجك ومن تفاهتك ، وإن ثمان سنوات من الفراق تجعل من الحصوم زبديا لكنك لا زلت حصر ما متحجرا . .
ويرد العاشق ، والعاشق في الحقيقة لا يرد بل يتقبل كل ما يقوله المعشوق ، لكننا أمام عاشق مجادل يوقعه الجدل في الخطأ تلو الخطأ ويرده عن باب المعشوق ، ويزيده هجرا وفراقا ، وصرما لحبال الود ، وماذا كان رده ؟ !
إني أمتحنك لأرى إن كنت عفيفة أو غير عفيفة ، لكن متى يكون الخبر كالعيان ؟ !
إنك كالكنز في هذه الخرابة ( الدنيا ) والناس إنما يبحثون عن الكنوز إنما قمت بكل هذا حتى أتحدث مع أعدائك عن عفتك وصلاحك ( عن شرح الأنقروى ( 4 / 69 ) : الشيخ الذي هو إمام مرشد إذا امتحنه مريد فهو حمار )
 
« 393 »
 
وانظر إلى هذه الأجوبة الغثة مقارنا إياها مع هذا البحر الخضم في العشق في حكاية وكيل صدر بخارى في الكتاب الثالث إن العاشق يطمع أول ما يطمع في المشاهدة ولا يؤمن إلا بما يرى . . وإن كان قد تجاوز الحد فها هو يقدم روحه فداء على أن تسلب بيد المحبوبة ولا تحكم عليه بالفراق . . ، وهكذا عندما يصل الحديث إلى الفراق يفضل مولانا ألا يتحدث ( انظر هذا المعنى في الكتاب الثالث مقدمة حكاية وكيل صدر جهان ) .
 
( 320 - 338 ) : ترد المعشوقة كل ما تراه دفينا مستورا إنما هو نهار مضىء واضح أمامنا وضوح النهار وما فيك مستور ليل مظلم . . فإن كنت عاشقا صادقا كيف تأتى بهذه الحيل والألاعيب ؟ !
وإن صمتنا من رحمتنا بالعباد ، فلماذا تتجاوز الحد ؟ !
تعلم من أبيك الأول واستغفر لذنبك ولا تلج ، ولا تجادل ، فإنه لم ينتقل من غصن إلى غصن ، أي لم ينتقل من حديث إلى آخر لقد اكتفى بقوله : «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» ( الأعراف : 22 ) انظر التفسير في الكتاب الأول ) .
ليس عليك إلا أن تكون نملة أمام سليمان وإلا مزقتك تلك الهراوات في أيدي الزبانية ، وليس لك إلا مقام الصدق ، لست محروما من البصر لكن القدر قد ضرب على بصرك وإذا جاء القدر عمى البصر ، ( انظر مقدمة هذا الكتاب وانظر الكتاب الثالث وانظر الكتاب الأول أبيات ( 1241 - 1244 ) .
 
إذا جاءت التقادير سلبت التدابير وخاصة عن القلب الذي هو سبعون طية ( سبزوارى 4 / 269 ) والأعمى يقع على الدوام في النجاسة لكن من النادر أن يقع فيها المبصر ، ومن هنا فالعين البصيرة بنور الله سبحانه وتعالى أفضل من مائة أم وأب ، والعين هي عين القلب وهي سبعون ضعفا من عين الجسدية ( انظر الكتاب الثالث ) وفي هذا تكون العين الجسد من طفيلى مائدتها ( انظر الكتاب الثالث ) .
 
« 394 »
 
( 339 - 351 ) : هناك كلام كثير ينبغي أن يقال عن الفرق بين عين النظر وعين القلب ، لكنها لحظة توقف من الحظات جلال الدين ، إنه يخشى أولئك الذين يقفون عند ظواهر الأمور ، يخشى العذل والملام ويخشى أكثر ألا يفهم كما ينبغي ، وألا تكون هناك الأفهام القادرة على تلقى هذه الأفكار والفكر المستنيرة التي تخيلها ( انظر الكتاب الثالث ) كما يخشى أهم من ذلك كله الغيرة الإلهية على تلك الأسرار عن أن تفشى لغير أهلها ، وعلى هذا فإن تلك الكلمات والإفاضات والمواجيد تلقى على عواهنها من غير ترتيب فإنما هي كالدرر التي يطحنها طاحون الغيرة الإلهية وحتى وهي مطحونة هكذا فإن من الدر المطحون يكون علاج العين الرمداء ، فيتم الكمال للدر والشفاء للعين فكمال الشئ باستخدامه حتى ولو حطم ، فانظر إلى القمح أيتم كماله إلا إذا صار طحينا ؟ ! وهكذا أنت أيها العاشق ، إن كمالك في أن تصير بددا ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتسليم ، لا تكن كإبليس جدلا ، ولا كأبى جهل الذي طلب معجزة من الرسول ، كن كآدم وكالصديق . . فمتى تصل أيها العاشق إلى مرتبة امتحان المعشوق .
 
( 325 - 365 ) : الحكاية الواردة هنا ردها فروزانفر إلى حلية الأولياء لأبى نعيم الأصفهاني « لقى عيسى بن مريم إبليس فقال : أمام علمت أنه لا يصيبك إلا ما قدر لك قال : نعم ، قال إبليس : فارق إلى ذروة هذا الجبل فترد منه فانظر أتعيش أم لا ؟ قال عيسى : أما علمت أمر الله تعالى قال : لا يختبرنى عبدي فإني أفعل ما شئت ( حلية الأولياء 4 / 12 ) كما وردت في تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 281 ( عن مآخذ ص 130 )
وردت أيضا في إنجيل متى الإصحاح الرابع ( عبد الباقي - ( 63 / 4 ) ويبدو أن الحكاية رويت عن أكثر من راو وبأكثر من صيغة ) والمراد بالحكاية كما هو واضح أن العبد لا يمتحن ربه ( العاشق لا يمتحن محبوبه ولا المريد يمتحن شيخه ) .
 
« 395 »
 
( 365 - 388 ) : الكلام على لسان المحبوبة ( وعلى لسان جلال الدين أيضا ) إن عذرك أقبح من ذنبك يا من تدعى العشق ، ثم يبين لنا مولانا جلال الدين : أنى لك امتحان ذلك الذي رفع السماء بغير عمد ، أولى بك أن تمتحن نفسك ، فأنت لا تعرف الخير من الشر ، وإذا شغلت بامتحانك لنفسك وشغلتك عيوبك فإنك لن تشغل بعدها بعيوب الآخرين .
إنك إن امتحنت نفسك باجتناب المعاصي وزينت نفسك تعلم فطرتك التي فطرت عليها هي مظهر للطف والعناية الإلهية ، وتعلم بلا امتحان أن الإله لم يرسل إليك لطفه في غير محله ، بل لأنك جدير بهذا اللطف ، وإلا فهل يرمى عاقل الدر الثمين في مجارى الفضلات ؟ !
وأي مريد هذا الذي يريد أن يمتحن شيخه ؟ ! إنه بهذا يدل على حماريته ، إنك إن فعلت هذا فسوف تقع أنت نفسك في الامتحان والبلاء ، وهكذا تدل سير المشايخ وحكايتهم عن مريدين عرضوا أنفسهم لهذا الامتحان ، فيتعرى جهلهم ، فكيف يمكن قياس الشيخ بميزان المريد ؟
إن الامتحان أشبه بمن يريد أن يتدخل في ملكه ، إنه أشبه بتمرد الصورة على المصور ، وأي قدر لصورتك هذه أمام المصور التي خلقها ، إن مجرد التفكير في هذا الامتحان هو وسوسة من الشيطان حلت بك ، وإن حلت بك هذه الوسوسة فعلاجها السجود والدمع حتى يخلصك الله من هذه الوساوس التي هي بمثابة إرهاص بخراب دينك كما كان ظهور نبات الخروب في المسجد الأقصى إيذانا بخراب المسجد .
 
( 389 - 405 ) : الرواية الموجودة هنا بشأن المسجد الأقصى موجودة في العهد القديم ، كما وردت في حلية الأولياء ج - 5
وأيضا رواية فصوص الحكم وفي تفسير أبى الفتوح الرازي ج - 4 ،
أما رواية الحلية وهي أقرب الروايات إلى مولانا « عن رافع بن عمير قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « قال الله تعالى لداود : « ابن لي بيتا في الأرض فبنى داود عليه السلام
 
« 396 »
 
بيتا لنفسه قبل البيت الذي أمر به فقال الله تبارك وتعالى : يا داود بنيت بيتك قبل بيتي قال : أي رب هكذا قلت فيما قضيت من ملك استأثر ثم أخذ في بناء المسجد فما تم السور سقط ثلثاه فشكى ذلك إلى الله تعالى فأوحى الله تعالى إليه إنه لا يصلح أن تبنى لي بيتا قال : أي رب ولِمَ ؟ قال : لما جرت عليك من الدماء ، قال : أي رب أوليس ذلك في هواك ومحبتك ، قال : بلى ولكنهم عبادي ، وأنا أرحمهم قال : فشق ذلك عليه فأوحى الله إليه أن لا تحزن فإني سأقضى ببنائه على يدي ابنك سليمان . فلما مات داود عليه السلام أخذ سليمان عليه السلام في بنيانه ( مآخذ 130 / 131 حلية الأولياء ج - 5 ص 246 - 247 ) ،
تجرى الحكاية التي وردت في الرواية السالفة إلا فيما يتعلق بالحوار الذي جرى بين داود عليه السلام والله تعالى ، وتفسير أن الدماء التي سفكت على يد داود عليه السلام إنما كانت دماء أولئك الذين أسلموا الروح بتأثير جمال صوته عند المواعظ واعتذار داود عليه السلام بأنه كان مغلوبا والمغلوب كالمعدوم ويرد على الله سبحانه وتعالى : بأن المغلوب ليس معدوما ، فمتى يكون الفاني في الله معدوما والفناء هو عين البقاء
( انظر مقدمة الكتاب الثالث ) ومثل هذا المعدوم التي غلبت عليه المحبة هو أعظم من كل الموجودات ، إنه ليس مضطرا ولكنه مختار إنه مختار من الولاء ، ومن ثم فكل الموجودات تحت سيطرته ، وكل الأرواح والأجساد في مرمى سهمه ، إن منتهى الاختيار أن يكون اختيار المرء تحت سيطرة اختياره هو سبحانه وتعالى والاختيار نفسه لا معنى له إلا إذا محيت منه الأنية محوا تاما ، تسليم المرء وجهه ووجهته وضميره وسره للَّه سبحانه وتعالى ،
وحين تنقطع اللذات الطبيعية أي حين يترك المرء لذائذ الدنيا تسفر له اللذة الباقية عن وجهها ، لذة تهون إلى جوارها كل اللذات ، أو كما يرى السبزواري : « منتهى الاختيار أن يذوب اختيار المحدود في اختيار الحق المطلق الموجود ( سبزوارى 4 / 270 ) ( انظر مقدمة الكتاب الخامس ) .
 
« 397 »
 
( 406 - 441 ) : أن يتم المسجد على يد سليمان دون داود ليس في هذا انقاص من قدر داود عليه السلام ، فالمؤمنون جميعاً نفس واحدة ( انظر الكتاب الثالث المقدمة الشعرية ) فالمؤمن مرآة المؤمن ، والمؤمن وحده جماعة سبزوارى 4 / 270 ) وما الذي يجمعهم ؟ !
إنه الإيمان ، فالرسالة واحدة والنبوة واحدة فكما أن الروح مشتركة بين الحيوان والإنسان إلا أن هناك فرقا بين روح الإنسان وروح الحيوان ، وهناك فرق أيضا في العقل والفهم ، وهذا التفاوت حاصل أيضا بين أرواح العوام وأرواح الأولياء ، والأرواح الحيوانية لا اتحاد بينها ، بل هناك تنافر وتصارع وتكاثر وتحاسد ، ويفسر السبزواري الروح الهواء بأنها الروح المحيطة بالبدن ، والبدن بمثابة الغلاف لها ،
 
وهي على ثلاثة أقسام :
الروح الدماغية بها الدماغ ومجراها الأعصاب والروح القلبية ومنبعها القلب ومجراها الشرايين والروح الكبدية ومجراها الأوردة ( 4 / 271 )
إنها لا تستحق الجمع إلا لفظا وإلا فهي أرواح شتى وإن تشابهت في البنية إلا أن أرواح أسد الله واحدة وإن تحدثنا عنها بأسلوب الجمع وهو ما يعبر عنه في كتب زيارة الأئمة بالعبارة « أنتم نور واحد » ( سبزوارى 4 / 271 )
يصور مولانا هذه الوحدة بأنها كنور الشمس واحدة لكنه متعدد في الأفنية وإن رفعت الجدران « الأجساد » عاد نورا واحدا ، وإلى مثل هذا ذهب ابن الفارض :
نسب أقرب في شرع الهوى ، بيننا من نسب أبوتى .
 
وقال في التائية :
وجل فنون الاتحاد ولا فخد إلى فئة في غيره العمر أفنت فكم واحد جمع غفير ومن عداه شرذمة حجبت بأبلغ حجة
 
شرح حكاية ذلك العاشق الذي هرب من العسس 
« 398 »
 
( أنقروى 4 / 86 ) إذا انتفت القواعد إذن ( أي الأبدان ) عاد النور متحدا ، وقد يورد هذا التشبيه إشكالات لأن هناك فرقا بين الإنسان والأسد لكن المثل يتضح عند التضحية بالروح ، لا تشبيهات إذن إلا عند القيام بالعمل ولا صورة متحدة في هذه الدار : بل تفرق بينها الأشكال والأجساد وإن اتحدت الصفات وإلا ضربت لك مثالا ، فكل جماعة مظهر من مظاهر الصفات فالملوك هم مظهر لملوكية الله ، والعارفون هم مظهر نعيم الله ( سبزوارى 4 / 272 ) .
 
ويقرب مولانا جلال الدين - كما قال - الصورة التي يراها محيرة ، فلا شئ في الدنيا يشبه ما يريد أن يعبر عنه ، إن الأجساد في الدنيا أشبه بالمصابيح التي توضع ليلا في البيوت ، تحتاج إلى فتيل وإلى زيت من هذا وذاك ، وفتيلها هو تلك الحواس الخمسة ، فهو لا يحيا بلا نوم أو طعام ولا بقاء له دون زيت أو فتيل ، وهي أيضا لا وفاء لها بالزيت والفتيل ، إن طلوع النهار إيذان بموتها ، وهكذا جملة أحاسيس البشر فانية يوم الحشر ، وهذه الأحاسيس وإن تكن معدومة ، لكن الأرواح تظل موجودة ، وحقائقنا وماهياتنا وأعياننا الثابتة ليست قابلة للعدم لكنها مثل النجوم ومثل ضوء القمر تكون ممحوة في نور الشمس ، وهكذا مثلما ينمحى أثر لدغ البرغوت أن سعت الحية إليك ، ومثلما يهرب عريان في الماء حتى ينجو من لدغ الزنبابير تطوف فوق رأسه فرحة تنتظره أن يرفع رأسه من الماء لتلدغه . . فما هو الماء ؟ !
إنه ذكر الحق ، وما هي الزنابير في هذا الزمان ؟ !


إنها ذكر هذا وذاك ، فظل في الماء وأصبر حتى تنجو من الوساوس القديمة ، وسوف تأخذ بعدها طبع الماء الصافي بحيث تهرب منك وساوس الدنيا إلى الماء بدلا من أن تهرب أنت منها ، وبعدها ابتعد عن الماء إن استطعت فقد وصلت إلى سر التوحيد ، وصار قرينا لك ، مصاحبا إياك ، ويشير الأنقروى إلى معنى مشابه في شعر محيي الدين ابن العربى :
  
« 399 »
 
لقد كنت دهرا قبل أن يكشف الغطا * إخالك أنى ذاكر لك شاكر
فلما أضاء الليل أصبحت شاهدا * بأنك مذكور وذكرك ذاكر( أنقروى 4 / 91 ) 


( 442 - 466 ) : يواصل مولانا جلال الدين إفاضاته في هذا المجال إذن فالذين ذهبوا عن هذه الدنيا ليسوا بفانين أو معدومين وإنما هم في صفات الحق مغمورون ، وكل صفاتهم أمام صفات الحق فانية مختفية كأنها أنوار الكواكب أمام نور الشمس ، وإن جادلت في هذا فاستمع من القرآن الكريم «وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ» ( يس : 22 )
قال نجم الدين في تفسيره « ما هي إلا جذبة واحدة بالخروج من لدنهم والغيب عنهم فاليوم لا تظلم نفس من استحقاقاتها وما هي مستعدة لقوله ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ، فمن عمل للدنيا يجز من الدنيا ، ومن عمل للآخرة يجز منها ، ومن عمل لله يجز من عواطف إحسانه ( مولوى 4 / 64 )
والمحضرون لا يكونون معدومين وحسبك هذا دليلا على بقاء الأرواح . . . وثمة عذاب آخر للأرواح مختلف عن عذاب الأجساد :
وهو أن تحجب الروح عن بقاء الحق وهذا هو عذابها ، أما أرواح الأنبياء والأولياء فتكون منتفية عن الحجاب ببقاء الله ،
وها أنا قد حذرتك وقلت لك : ألا تحجب من اتحاد من هذا المصباح الحسى الحيواني ، وصل روحك بأرواح السالكين القدسية ، فإن كان لك فإنه مصباح من قبيل مصابيح الحس فهي ليست متحدة ،
 ومن هنا فالحرب قائمة والخصومة مستمرة ، والجدل محتدم بين أصحاب المصابيح الحسية والأرواح الحيوانية ولم يسمع أحد أن حربا قد قامت بين الأنبياء فأرواحهم شموس ، وأنوارنا الحسية مصابيح وشموع ودخان يموت أحدها فيشتعل آخر حتى الصباح ( القيامة ) ،
لكن مصباح النبي إن مات أو طوى
 
« 400 »
 
فمتى يظلم بيت الجار من موته ، إن نوره باق ، لأنه مستمد من نور الله ، ونو الله لا ينطفي ، والأرواح الحيوانية موتها مؤقت بطلوع شمس الحقيقة ، والمصابيح المتفرقة بين الدور ، يقوم على كل منها نور كل بيت فحسب ، يظلم البيت بظلام مصباحه ، هذه هي الأرواح الحيوانية ، وهي مختلفة عن الروح الربانية التي هي أشبه بالقمر يسطع على كل البيوت فيأخذ كل بيت بقدر كوته ، وكلها نور واحد وهو بدوره باق ما بقي القمر ،
فإن سطعت الشمس فلا قمر ، وإن غابت الشمس فكل البيوت في ظلام .
ويعود مولانا جلال الدين فيذكرنا بأنها كلها أمثلة لمعان أكبر وأعظم لا تتأتى في بيان ، ومن هنا فإن المثل قد يهدى وقد يضل بقدر القابليات ، وويل لمن لا يفرق بين المثال والمثل وليس فيهما من المناسبة إلا شئ واحد وهو أن المحسوسات تتكشف بنور الشمس كما تتكشف المعقولات بالعقل ، وقد ضرب الله عز وجل بالمثل لنوره بقوله «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ . . .إلى آخر الآية »
 
وأي مماثلة بين نوره ونور الزجاجة والمشكاة والشجر والزيت وكذلك ضرب الله المثل للحياة الدنيا بالماء النازل من السماء وضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل للإسلام بالقبة وضرب المثل للعلم باللبن والقرآن بالحبل ،
فأي مناسبة بين هذه الأمور وبين الأشياء المضروبة لها الأمثال ؟ !
ولكن لما كان الحبل يمسك به للنجاة والقرآن مثلا يمسك به للنجاة مع التمثيل وقس على هذا ( مولوى 4 / 67
نقلا عن عبد الوهاب الشعراني من الموازين ) وذلك السىء الطوية هو مثل العنكبوت ينسج حول نفسه شباكا من لعابه النتن ،
وهو أوهن البيوت إنه ينسج حول نفسه ما يحجب النور عنه ، وكذا كل من في الحياة الدنيا ،
إنما يقيم حول نفسه من نفسه ما يحجب عنه الحقائق ويمنع عنه النور قانع به مقيم عليه ، يظن أنه قد وصل من حيث إنه قد فصل ،
 
« 401 »
 
وقد اهتدى من حيث إنه قد ضل ، وذلك أنه يمسك بقدم نفسه الحيوانية من حيث يظن إنه قد أمسك بعنقها وسيطر عليها ، في حين إنه بإمساكه بقدمها إنما يدفعها إلى العثار والرفس ، دون لجام أو زمام من العقل ، ودون دليل من العقل أو الدين ، وإياك أن تظن أن هنا الطريق هين سهل سلس فهو في حاجة إلى صبر ، وإلى شق أنفس ،
وإلى مثل هذا ارشاد مولانا نجم الدين إلى « أن الصفات الحيوانية إنما خلقت فيكم لتحمل أثقال أرواحكم إلى عالم الجبروت الذي لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس لحمل أعباء الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال حملها وأشفقن منها وشق الأنفس نقصها بافنائها في عالم الجبروت » ( عن مولوى 4 / 68 ) .
 
( 467 - 483 ) : يقص مولانا جلال الدين كيفية بناء المسجد الأقصى الذي كان طاهرا كالكعبة وذا إقبال مكين . . إن الأبنية التي تبنى لله سبحانه وتعالى لا تشبه بقية الأبنية ، بل تتميز بالطهر والشموخ ، فليس كل ماء وطين يتميز بالكدر وليس كل فجر بالذي لا تضج فيه الحياة ، إن الأبنية الدينية تتمز بأن الله ييسر في بنائها بحيث تبعث الحياة في الحجارة فيختار الحجر المناسب نفسه ويطلب من البنائين أن يحملوه إلى مكانه ، وإذا لم يكن الأمر كذلك فلماذا ينبعث النور من قالب آدم مع أنه من ماء وطين ؟ !
بالطبع من النفخة الإلهية ، فإذا كانت المساجد هي بيوت الله على الأرض . . فلماذا لا ينبعث منها النور الإلهى ؟ !
وهكذا فإن كل ما اتصل به النفس الإلهى إنما يبعث فيه الحياة ، وهكذا تكون ثمار الجنة وأشجارها وأنهارها . .
تكون كلها في حديث وفي حوار ، وكل ما في الجنة عامر بالحياة . . إنما خلق الله من الطاعات ، فهذه الطاعات في الدنيا تترجم إلى ماديات من ماديات الجنة ( انظر الكتاب الثالث الأبيات 3459 - 3484 وشروحها )
وعن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول :
 
« 402 »
 
« المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إذا اشتكى شئ منه وجد ألم ذلك في سائر جسده وأرواحها روح واحد فإن روح المؤمن أشد اتصالا بروح الله من اتصال الشمس بها ( جعفري 9 / 459 ) . ومن شروط هذا كله أن يطهر القلب بالتوبة « سبزوارى 273 - 274 » 
« وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون » فالنشأة الآخرة أساسها على الحضور والجمع بعكس النشأة الأولى وأساسها على الغيب والفرق ، وما الدنيا وما فيها إلا كحلم النائم ، ويرى بعض علماء الكلام أن الجنة والنار قد خلقتا بالفعل ، ويرى بعضهم أنهما لم تخلقا بعد ، وإنما تخلقان فيما بعد من الأعمال والملكات والنوايا ، وتجسم الأعمال الذي يترجم إلى صور عينية في الجنة والنار ورد مرارا في الحديث الشريف في مثل قوله صلى الله عليه وسلم « في الجنة قيعان غراسها سبحان الله » وقد مر الحديث عن هذه الفكرة بالتفصيل في الكتاب الثالث ويرى مولانا جلال الدين أنه لن يستطيع أن يصل في هذا المضمار إلى نتيجة على أساس أن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فيعود إلى قصة سليمان والمسجد الأقصى .
 
( 483 - 486 ) : ينبه مولانا إلى أن سليمان عليه السلام كان يعظ بالقول والفعل ، ويدق على هذه النقطة القائلة أنه لا يغنى قول عن فعل ، وقد دق الصوفية كثيرا على هذه النقطة ، وفي هذا المجال قال سنائى في الحديقة :
« لا تقل إني سوف أفعل ، بل قل دائما لقد فعلت » ( بيت رقم 3972 ) ،
ولا جدال أن القدوة تتحقق بالفعل لا بالقول وفي قول لأبى عبد الله رضي الله عنه « كونوا دعاة للناس بأعمالكم ولا تكونوا دعاة بألسنتكم » ( جعفري 9 / 465 ) ونستطيع أن ندرك أهمية هذا الأمر في الإسلام إذا نظرنا إلى كثير من
 
« 403 »
 
القوالين دون أفعال في زمننا الحالي وفي كل عصر وزمان أولئك الذين يؤيسون الخلق ويصيبونهم بالقنوط دائما ، فبين أقوالهم وأفعالهم بعد المشرقين .
 
( 487 - 496 ) : يضرب مولانا المثل بقصة شاعت في مصادر متأخرة عن عثمان رضي الله عنه - حينما صعد المنبر وقال كلمته التي اشتهرت في هذا المجال « حاكم فعال خير من حاكم قوال » ولما ولى عثمان صدور المنبر فقال :
رحمهما الله - يقصد أبا بكر وعمر - لو جلسا هذا المجلس ما كان بذلك من بأس ، فجلس على ذروة المنبر فرماه الناس بأبصارهم ، فقال : إِنَّ أول مركب صعب وإن مع اليوم أياما وما كنا خطباء وإن نعش لكم تأتكم الخطبة على وجهها إن شاء الله تعالى » . ( عيون الأخبار للدينوري ج 2 / ص 235 ، ماخذ 131 ) وقد فسر سنائى صمت سيدنا عثمان رضي الله عنه من الخطبة تفسيرا آخر إذ قال : إن الحياء قد عقد لسانه عن الخطبة ( حديقة البيت 214 وهكذا فسره الأنقروى 4 / 101 )


وهنا مغزى سياسي إسلامي شديد الأهمية والوضوح ، في تفسير مولانا على لسان عثمان رضي الله عنه لسبب تنسمه لذروة المنبر ،
 وهو أن أخذ السياسة والحكم عن الرسول مباشرة ، وما يعنيه هنا هو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أتمم الرسالة دنيا ودينا ، وإنما تختلف صورة التطبيق في بعض الأحيان لاختلاف بعض الأمزجة بين الشدة ولين الجانب ، وبين الأخذ بالعزائم والأخذ بالرخص . . إلى آخره
مما لم ينبه إليه المفسرون القدماء للمثنوى من ناحية ، وما لم ينبه إليه أيضا الباحثون في السياسة الإسلامية من المعاصرين .
 
( 497 - 511 ) : ينتقل مولانا جلال الدين إلى حديث عن الحقيقة فعندما تسطع شمس الحقيقة التي لا كسوف لها ولا غياب لأنها تشرق في القلب يرى
 
« 404 »
  
كل إنسان المسموع من الحقائق عيانا ، وهذا النور لا يحتاج إلى حديث ، لقد غمر المسجد النور دون أن يتفوه عثمان رضي الله عنه بكلمة واحدة ، بل إن الأعمى نفسه يدرك قبسا من هذه الشمس ، أليس الأعمى في النهاية يحس بسطوع الشمس على وجهه من حرارتها ، ومن تلك الضجة والحالة العامة التي تصاحب سطوعها ؟ إنك من مشاهدة قليلة يا فلان تصاب بالسكر . .
فلا تظنن أنك بطاعة قليلة قد وصلت إلى شمس الحقيقة ، إنها مجرد شعاع ، وإذا كان هذا هو نصيب الأعمى ( أي المحجوب ) من الشمس فتخيل أنت ما يمكن أن يصل إليه البصير ؟ ! !
إن من يكون مستنيرا بنور هذه الشمس لا يمكن أن يصل إلى كنهه عقل حي ولو كان من أقوى العقول كعقل أبى علي بن سيناء ولو جرد العقل وهتك أسرار المشاهدة وفضحها ومد يده ، في حرمها ، لقطع السيف الإلهى هذه اليد أي يد ؟ ! !
بل لقطع رأسه نفسها وما نبأ الحسين بن منصور الحلاج منك ببعيد .
 
( 512 - 520 ) : إن ما بين القيل والقال والادعاء والتفيهق وتحريك اللسان وبين العين البريئة من الشك بعد المشرقين ، لو قلت لك مئات الآلاف من السنين فهو قليل ، لكن إياك واليأس من وصول نور السماء إليك ، فعندما يشاء الله يصل هذا النور في لحظة من الزمان وإلا فإنه يوصل إلى المعادن من الكواكب رحمته وقدرته في كل لحظة فيتحول الحجر إلى معدن ثمين ،
وكواكب الرحمة غير تلك الكواكب التي في الفلك ، إن تلك الكواكب التي في الفلك يقضى عليها الظلام لكن كواكب الحق راسخة في صفاتها لا تجرى عليها ولا تخفيها شمس ، إن قدرته سبحانه وتعالى سيارة حتى زحل وبيننا وبينه مسيرة مئات آلاف
 
« 405 »
 
السنين وهذه القدرة مستمرة لحظة بلحظة ، وفي لحظة واحدة يقربها الله بيد القدرة الإلهية ، إنها كلها في يد القدرة الإلهية كالظل أمام الشمس ( لب لباب فلسفة جلال الدين . . . الأكوان كلها أمام الله سبحانه وتعالى كالظل أمام الشمس ) ، وهكذا فإن شمس الحقيقة تطوى آثار كل الكواكب كما يطوى الظل أمام الشمس ،
إن النور الحقيقي لا يصل من النجوم والكواكب إلينا ، بل يصل النور من النفوس النورانية للأنبياء والأولياء ( التي قبلت أكبر قدر ممكن من نور الله ) إلى الكواكب نفسها ومع أن الذي يبدو في الظاهر أن هذه الكواكب هي القوامة علينا . .
والتي تدبر أمورنا على أساسها . . لكن الإنسان ليس الإنسان المطلق بل الإنسان بباطنه هو القوام على الكون وهذا يشبه ما قاله ابن الفارض :
ولا فلك إلا ومن نور باطني . . . به ملك يهدى الهدى بمشيئتى .
.
* * *

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: