السبت، 29 أغسطس 2020

21 - الهوامش والشروح 3637 - 3858 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

21 - الهوامش والشروح 3637 - 3858 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

الهوامش والشروح 3637 - 3858 المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

شرح أطوار خلق الإنسان ومنازلة من البداية
( 3637 - 3646 ) : مر الحديث عن الأطوار الخلقية للإنسان ، وعن قوس الصعود وقوس النزول في الكتاب الثالث ( انظر شروح الأبيات 3906 - وما بعده ) وإن كان مولانا يتوسع بعض الشئ في هذه الأبيات ، ويرى أنه بما أن الإنسان هو العالم الأكبر ، والجامع لكل ما في الكون فإنه لا يعبر مرحلة من

« 619 »

المراحل حتى ينساها تماما وإن احتفظ في خلقته وخلقه ببعض ما فيها ، انظر إلى ميل الإنسان إلى النبات وإلى الخضرة خاصة في فصل الربيع ، إن هذا من آثار المرحلة النباتية . . إنه مثل ميل الأطفال إلى الرضاع طبيعي تماما كميل المريد إلى شيخه . . لماذا ؟ ! لأن عقله الجزئي جزء من عقل الشيخ الكلى . وكل شئ يحن إلى أصله ، وعندما ينمحى المريد في ظل الشيخ ، يعرف سر الميل إلى المرشد . . يكون منه كغصن من شجرة ، وهل يتحرك الغصن إن لم تتحرك الشجرة ، هذا هو الحنين إلى الأصل ، وكل ما في الإنسان يحن إلى أصله ، الطاهر يحن إلى الطاهر والتراب يحن إلى التراب ، ويمضى كل جزء إلى معدنه الأصلي .

( 3647 - 3654 ) : وهكذا من إقليم إلى أقليم حتى يصبح عاقلا وعظيما وهو لا يتذكر عقوله الأولى وعندما ينجو من عقل المعاش الملئ بالحرص والطلب يربى عقولا عجيبة تعد بالآلاف ، والإشارة هنا إلى ما يقوله الحكماء الإشراقيون إنه بإزاء كل نوع من الجواهر الموجودة في هذا العالم للأجسام سواء كانت نفوسا أو أجساما طبيعية يوجد عقل يحفظ عليها علاقتها بالعالم الأعلى على نحو أكمل وأتم ، والأنوار المدبرة التي هي النفوس الآنية عندما تصل إلى الكمال بعد طرح جلابيب الأبدان وطي الفيافي والبرزخ ملتحقة بالأنوار القاهرة والعقول المفارقة ، ومن ثم تعدد العقول غير متناه وسوف يزداد وفيض الله لا ينقطع ونور الله لا يأفل وكلمه الله لا تنفد ( سبزوارى 4 / 323 - 324 )

والإنسان وإن كان نائما ناسيا للمراتب التي قطعها من قبل ، فإنه لا يترك لهذا النسيان ، بل ينبه من نومه هذا ، فيسخر من كل العالم لمعرفته بالعوالم التي قطعها من قبل ، ويتساءل أية أشياء هذه تلك التي جذبت اهتمامى في عالم الدنيا ، لقد كان هذا من قبيل المرض والنوم والخداع . . وهكذا الدنيا مجرد حلم نائم ، يظنها النائم دائمة ، وهي حلم ، والرجل فيها كطالب القافلة والقرار فيها كقدر المتخلف

« 620 »

عن القافلة وما بينها وبين الآخرة غمضة عين ، وسرعان ما يشرف على الدنيا صبح الأجل فينبه الناس من ظلمات الظن والخداع والاحتيال .

( 3655 - 3667 ) : وهكذا فكل مرحلة تأتى يحس المرء بعبث المرحلة التي تسبقها وعندما يجد الإنسان نفسه في مستقره يضحك من اهتماماته السابقة ويسخر منها وكل ما تراه في الدنيا ( النوم ) يفسر لك في الآخرة . . حتى لا تظنن أن أحلامك التي حلمتها دون تعبير . . ضحك في الدنيا بكاء في الآخرة ، بكاؤك ونواحك وحزنك سرور وحبور . . إن كنت مزقت جلود الطيبين فسوف تنهض من نومك ذئبا ، خصالك الذميمة سوف تتحول كلها إلى ذئاب تنهش كل أعضائك . . الدم لا ينام والثأر لا ينام . . إياك أن تظن إنك بموتك قد نجوت من الثأر ومن عاقبة ظلمك للناس . . لكنك نجوت من قصاص هين إلى قصاص شديد ، إن قصاص الدنيا مجرد لعب بالنسبة لقصاص الآخرة ، ومن هنا قال الله تعالى «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» ( الأنعام / 32 ) جزاء الدنيا بالنسبة لجزاء الآخرة كالختن بالنسبة للإخصاء . . فكن على حذر ، « فإن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من جهنم » كما ورد في الحديث الشريف .

( 3668 - 3676 ) : هيا يا موسى دع هؤلاء الناس في نوم الغفلة ، دع هذه الحمر ترعى في عشبها حتى تسمن ، فإن كلاب الجحيم في انتظارها . . فسمنها لهم . . كفاك دعوة لكي ينقلبوا إلى بشر . . فليست الهداية من رزقهم . . هيا اجعلهم غارقين في النعمة كي يغطوا في نوم الغفلة والكسل . . وعندما يستيقظون يكون شمع الهداية قد انطفأ . . وساقى الفيض الإلهى قد مضى إلى حال سبيله . . طالما هديت ولا مهتد ، دعهم يتحسرون يوم القيامة عندما يرون مصداق قوله تعالى في أهل الجنة «وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً» ( الإنسان / 12 ) .


« 621 »


( 3677 - 3682 ) : إنهم لم يتقبلوا الهداية . . فليتحملوا العدل ، لقد كان ذلك المليك معهم : أقرب إليه من حبل الوريد ، ولم يتابعوه وتابعوا الشيطان ، تماما كما يكون العقل مشرفا على الجسد في حين أن المنصرف إلى شهوات جسده لا علم له بالعقل . . فأي عجب أن يكون خالق العقل أيضا معكم ؟ أنت غافل عنه وهو ليس بغافل ، عنك إنه يلومك كلما أسرعت في أثر جسدك وشهواتك ولا تستطيع نفسك أن تلقى بك في الشر إلا إذا غفلت عن العقل .

( 3685 - 3692 ) : إن علاقتك بالعقل هي ميزان على سطوع الحقيقة على وجودك . . وأنت تفكر أن العقل قريب منك ساكن معك ، إذن فاعلم أن هذا القرب قرب بلا كيفية تماما كقرب المليك منك ، وحركة إصبعيك هل تستطيع أن تحدد كيفية قربها من هذا الأصبع ؟ ! أليست تغادره هذه الحركة عند النوم والموت ثم تعود عند اليقظة ؟ ! فمن أي طريق تأتيه هذه الحركة وتذهب عنه ؟ ! ونور عينيك من أين جاء ؟ ! إنه من عالم الأمر . . عالم المجردات . . وكل ظنك وفكرك من عالم الخلق . . فكيف يمكن أن تصل إلى عالم الأمر ؟


( 3694 - 3699 ) : إذا كان العقل بلا جهات تحده . . فما بالك بخالق العقل ؟ ! لا يوجد مخلوق غير مرتبط . . ولكن كيفية هذا الارتباط خافية وفي الروح لا فصل ولا وصل . . بينما الوهم لا يمكنه أن يفكر إلا في الفصل والوصل والاتصال والاختلاف . . فافهم من دليلك شيئا غير الفصل والوصل ، وإن كان هذا الفهم لن يشفى غليلك لأنك لن تقنع ، وإن كنت رجلا فجاهد حتى تصل إلى الوصل وتنجو من الفصل . . وحذار أن تحاول فهم هذا بالعقل . .

فالعقل هو الآخر لا يفكر إلا في الوصل والفصل .

( 3700 - 3710 ) : من هنا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم « تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا » ( كنوز الحقائق بهامش الجامع

« 622 »

الصغير ) وفي رواية أخرى « تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله » وفي رواية ثالثة « تفكروا في كل شئ ولا تفكروا في ذات الله » إن كل ما تصل إليه الأوهام في ذاته . . إنما تنبع من ذات المفكر لا ذاته هو ، فهناك مئات الآلاف من الحجب على ذاته مصداقا لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم « إن لله تعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة ، لو انكشفت لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره » وقال على رضي الله عنه « كل ما يعلم عقلك فالله خالقه » فالعقل والفكر لا مدخل له في هذا الخصوص وكل ما يعلمه فهو عين الحجاب . .



وكل من ظن أنه وصل فهو في حجاب ، ومن ثم فقد جاهد المصطفى صلى الله عليه وسلم في دفع هذا الوهم ، ومن ابتعد عن الأدب فإن مصيره الانتكاس . . إنه ينزل من حيث يظن أنه يصعد ، يظن أنه في السماء وهو في الأرض ، وهذا هو حد من تاه عقله من الخمر ، وما عليك إلا أن تفكر في خلقه وفي آلائه وفي عجائبه . .

واعلم أنك لن تحيط بها وأنت ذرة في بحر علمه ، وهي كلها صنعه الذي تعلمه فما بالك بالذي لا تعلمه . . ولتقف أمام هذا الصنع خاشعا متنازلا عن كبريائك . . ولا تقترب من الصانع . . وقل كما قال خير خلق الله وأجدرهم بمعرفة ذات الله إن كان يمكن معرفتها والإحاطة بها « لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك » واعتبر بعالم عظيم جليل مثل ابن سينا الذي قال :

-اعتصام الورى بمغفرتك * عجز الواصفون عن صفتك-تب علينا إننا بشر * ما عرفناك حق معرفتك( المولوي 4 / 508 - 509 - الأنقروى 4 / 861 - 863 )


( 3711 ) - الحكاية التي تبدأ بهذا البيت تعتمد على رواية وردت عند الثعلبي « قال وهب إن ذا القرنين أتى على جبل قاف فرأى حوله جبالا صغارا ،


« 623 »


فقال له : من أنت ؟ قال : أنا قاف ، قال : فأخبرني ما هذه الجبال التي حولك ؟

قال : هي عروقي ، فإذا أراد الله أن يزلزل أرضا أمرني فحركت عرقا من عروقي فتزلزل الأرض المتصلة به ، فقال : يا قاف أخبرني بشأن عظمة الله تعالى ، فقال : إن شأن ربنا عظيم تقصر عنه الصفات ، تنقضى دونه الأوهام ، قال :

فأخبرني بأدنى ما يوصف منها ، قال : إن ورائي أرضا مسيرة خمسمائة عام من جبال الثلج يحطم بعضها بعضا ومن وراء ذلك جبال من البرد مثلها ولولا ذلك الثلج والبرد لاحترقت الدنيا من حر جهنم ( الثعلبي قصص ص 5 ) وفي المأثور الفارسي أن قاف اسم على جبلين يمسك كل منهما بطرف من أطراف الأرض ، وأن طائر العنقاء يقيم خلف هذا الجبل .


( 3720 ) : المثال الذي يبدأ بهذا البيت ورد في إحياء علوم الدين للغزالي « مثال النملة لو خلق لها عقل ، وكانت على سطح قرطاس ، وهي تنظر إلى سواد الخط فتعتقد إنه بفعل القلم ولا تترك في نظرها إلى مشاهدة الأصابع ثم منها إلى اليد ، ثم منها إلى الإرادة المحركة لليد ثم منها إلى الكاسب القادر المريد ثم منها إلى خالق اليد والقدرة والإرادة ، فأكثر نظر الخلق مقصور على الأسباب القريبة السافلة مقطوع من الترقي إلى مسبب الأسباب ( إحياء / أول / ص 30 - مطبعة عيسى البابي الحلبي / القاهرة 1957 ) .


( 3728 - 3730 ) : إن عظيمة النمل . . وهي رمز على ذلك الإنسان المتعالم الذي يظن أنه أحاط بالكون علما وهو لا يعدو نملة تنظر إلى خط في كتاب ترى أن العقل والفؤاد هو السبب في الصورة والنقش ، ولم يصل علمها إلى معرفة أن بدون خالق العقل والفؤاد لا يمكن أن يأتي العقل والفؤاد بشئ ، بل إن أعقل العقلاء إذا تخلت عنه رعاية الله لحظة واحدة لأتى عقله من ضروب البله ما يفوق الحمقى أجمعين .


« 624 »

( 3740 - 3754 ) : تعليق على رواية جبل قاف : إنه لو لم توجد جبال الثلج هذه لاحترق جبل قاف من الشوق . . ليس هذا فحسب بل إن الغافلين هم بمثابة جبال الثلج في هذا العالم ولولا هم لاحترق العاقلون من نار التجلي ، فكأن هؤلاء الغافلين يخففون من نار التجلي التي لو تجلت لأحرقت العالم كله . . ثم ماذا تكون هذه النار إلى جوار الغضب الإلهى ، إنها مجرد سوط ( درة ) في يده يهدد بها اللئام في الدنيا . . وأنت لا تزال تردد أن الرحمة قد سبقت الغضب ، فإن رأيت السابق والمسبوق فقد اعترفت بالإثنينية . . إنه سبق معنوي ، وإلا اقتضى وجود سابق ومسبوق في الذات الإلهية ، وأنت إن لم تدرك هنا فلك عذرك فإن ذلك من نقصك . . فأنت من تراب وما للتراب ورب الأرباب . . أنت طائر طيني من الصعب عليك أن تصل إلى فلك الدين . . وما الذي تستطيع أن تفعل كن طائرا مندهشا ( عن الحيرة انظر الكتاب الثالث / شرح الأبيات 1108 - 1117 ) قل : اللهم زدني تحيرا ، لا تصدق ولا تنكر ، فإنك إن صدقت تكلفت ، فكيف تصدق ما لا تحيط به ، وإن أنكرت فكأنك أنكرت صفات رب العالمين وجلبت القهر على نفسك . .

فكن طائرا مندهشا مبهوتا صامتا حتى تنزل عليك رحمة الله ويبدو لك الصعب سهلا والمشكل واضحا ومحلولا ، فالأمر إنما تشكل على المنكر ، أما المقر عجزه وحيرته أمام الصنع الإلهى والصفات الإلهية فقد استجلب لنفسه اللطف والرحمة .


( 3755 ) - الرواية هنا أقرب إلى رواية الإحياء ( ج - 4 ص 130 ) ولذلك قال النبي لجبريل عليه السلام : أحب أن أراك في صورتك التي هي صورتك فقال :

لا تطيق ذلك . قال : بل أرى ، فواعده البقيع في ليلة مقمرة فأتاه فنظر النبي فإذا هو به قد سد الأفق يعنى جوانب السماء فوقع النبي مغشيا عليه ، فأفاق وقد عاد جبريل إلى صورته الأولى » .

« 625 »


( 3757 - 3764 ) : إن الحس وإن كان حس المصطفى صلى الله عليه وسلم ضعيف ، محدود القدرة ، لا يستطيع أن يستوعب حتى بعض المحسوسات ، ولولا القوة الموجودة في باطن الإنسان ما استطاع أن يطمح إلى إدراك ما هو فوق محسوسه . . وانظر إلى الصورة في البيت التالي : قد يكون جسد الإنسان مجرد حديد وحجر ، أي مجرد جماد . . لكن حتى من الحديد والحجر يتولد الشرر ومن جسم الإنسان هذا تتولد طموحات عظيمة ، منهما ما يمكن أن يحرقه هو نفسه كما يحرق الشرر الحديد والحجر وهو متولد منها . . لكن الإنسان ليس حجرا أو حديدا بل إن فيه شعلة تحرق برج النار نفسه وتكون النار بلا حيلة أمامه ، كأنها النار التي ألقى فيها إبراهيم الخليل ومن هنا قال الرسول عليه الصلاة والسلام « نحن الآخرون السابقون » ( انظر شرحها في الكتاب الثالث شرح الأبيات 1126 - 1135 )


( 3765 - 3767 ) : إن هذه القداحة ( التي يخرج منها الشرر ) والمقصود الإنسان تبدو في الظاهر وكأن حديد السندان يستطيع أن يفلها . . لكنها في الباطن والحقيقة أقوى من مناجم الحديد ، إنه ضعيف من حيث هو جسد ، هو فرع وهو العالم الصغير باعتبار الجسد لكنه أصل العالم بالنسبة للروح هو أول الفكر وآخر العمل ، هو الأخير السابق ، هو ثمرة شجرة الوجود والمقصود منها ، ظاهره تستطيع أن تصيبه بعوضة بالأذى لكن باطنه محيط بالوجود كله .


( 3771 - 3785 ) : إن تلك المهابة التي أصابت الرسول صلى الله عليه وسلم عندما مد جبريل جناحيه هي من نصيب الحس ، لكن تلك الملاطفة التي أبداها جبريل هي من نصيب الأحباب ، هذه المهابة لأهل الدنيا هلاك ولأهل الآخرة رعاية . . إنها أشبه بتلك المظاهر التي يحيط بها السلطان نفسه من حرس


« 626 »


ومطرقين . . هي ردع للعوام وإرهاب لهم بمظاهر السلطة كيلا تسول لهم أنفسهم الثورة على السلطان . . لكن السلطان في مجلسه بين أصحابه وندمائه مختلف تماما ، هو ملئ باللهو والموسيقى والحبور . . وهذا كلام يبدو بلا نهاية . .
إذ يطول شرح تلك الأحوال التي يكون فيها سلاطين الدنيا . . فما بالك بسلاطين الدين وقلوبهم بين إصبعين من أصابع الرحمن ، أصبع للطف وأصبع لقهر .


( 3786 - 3799 ) : وهكذا أحمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ، حسه الذي لم يطق رؤية جبريل غارب وآفل وموجود الآن حيث يثوى جسده الشريف صلى الله عليه وسلم تحت تراب يثرب ، لكن تلك الروح العظيمة حالها دون تغير ودون تبدل « في مقعد صدق عند مليك مقتدر » فإن البدن هو محل التغيير أما الروح الباقية فهي الشمس التي لا تأفل ، شمس الحقيقة وموضع السر الإلهى ، لأنها لا شرقية ولا غربية ، هي من نور الله ، لا شرقية : أي ليست من شرق الأزل والعدم ولا غربية : أي ليست من غرب الفناء والعدم كعالم الأجساد ( مولوى 4 / 521 ) ومن ثم فإن الجسد وإن اندهش ولم يحتمل رؤية جناح جبريل فكيف تندهش الروح وهي شمس من ذرة . ومتى يفقد الشمع الوعي من فراشة تطوف به ، هذا التغير لائق بالبدن ، كما يجرى عليه المرض والنوم والألم ، أما الروح فلا تجرى عليها هذه الأوصاف . . هي ظاهرة منفردة ، عالم أكبر انطوى في جسد الإنسان ، وشتان ما بينه وبين جسد الإنسان . .

عالم لا يوصف ولا توصف دقائقه ( انظر الكتاب الثالث قصة الدقوقى شرح البيت رقم 2063 ) فلو تحدثت لزلزل المكان والزمان ، فإذا كان الجسد قد فتر فلأن الروح قد تكون قد غفلت ونامت لحظة واحدة . لكنه نوم الأسد . . يتناوم ليرى ماذا تفعل كلاب الطبع . . لقد كانت تلك الدهشة أشبه بخدش في كف زبد بحر أحمد ، لكن روحه التي كانت في سعة المحيط كانت تفور وتلقى بالزبد . .

والقمر ( روح أحمد ) هو كف ناثر للنور ، وإن لم يكن للقمر كف فماذا يكون ؟

« 627 »

( 3800 - 3804 ) : ولو أن أحمد المصطفى فتح جناحيه أي أبدى عظمة روحه لأغمى على جبريل إلى الأبد ، وإلا فاقرأ في المعراج النبوي الشريف : أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما وصل إلى سدرة المنتهى قال له جبريل :

تقدم أنت لأننى لو دنوت أنملة لاحترقت . . لقد جاوزه الرسول صلى الله عليه وسلم ( الإنسان الكامل أعلى مرتبة من الملائكة وهذه قمة الإنسانية عند الصوفية ) .

( 3805 - 3809 ) : يا لها من حيرة تثيرها هذه القصص ، إنها حيرة الخواص أولياء الله . . والملائكة المقربين في الأخص أي محمد صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين ، إن كل أنواع الغياب عن الوعي هنا مجرد ألعوبة . .
إنها ليست جديرة بأقل من التضحية بالروح فحتام تحتفظ بروحك . . ويا جبريل أو يا من أنت في مقام جبريل كفاك فخرا بجناحك ، بالرغم من عزتك وشرفك لست أنت بالشمع ، فالشمع هو الحضرة الإلهية والفراشة هي المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو الجدير بالمشاهدة . .
والجدير بالفناء في ذات الله لأن في فنائه بقاء في بقاء . . ودعك من هذا الحديث المنقلب ، انتبه : لقد قلبت الحديث جعلت الأسد صيد الحمار الوحشي . . والأولى بك أن تخفى هذا . .
ثم قلبته مرة ثانية فوضعت الأسد في موضعه الصحيح . . فعد واجعل من أسد الحقيقة صيدا لحمار الوحش ، حتى يجد الخلق سبيلا إليه . . وحتى يطلع العارف على باطنه . .
ولا يراه شيئا فوق مستوى المثال ، هيا اختم النص حتى لا تنساق إلى قول ما لا تريد .


( 3810 - 3819 ) : كلامك هذا يتناثر بالرغم منك كأنه البول . . فكف عنه . .
وكفاك هذرا . . فأي أسد وأي حمار وحشى . . وما هذا الكلام تلقيه أمام أولئك الذين لا يزالون متشبثين بالأرض ورهن الطين . . وهو يبدو أمامهم معكوسا

« 628 »

ويسيئون فهمه . . دارهم . . فقد أمر الرسول بمداراة الناس ومخاطبتهم على قدر عقولهم . . وأنت غريب في دارهم وظعين مسافر ، وبينك وبينهم ما بين الرازي والمروزي من بعد ومسافة ( الري غرب إيران ومرو أقصى شرقها ) فدارهم حتى تصل إلى سلطان الحقيقة . . ويا من أنت تتخذ من موسى مرشدا تحدث إلى فرعون الزمان بالحديث اللين . . فإنك إن وجهت إلى غلاظ القلوب الذين تشبه قلوبهم زيتا مغليا كلاما قاسيا ( الماء البارد ) لا شتعل الإناء واشتعلت الأثافى ولهدمت من حيث أردت أن تبنى . . تحدث بالكلام اللين لأنه يمكن أن تقول الصواب بالكلام اللين .


( 3820 - 3825 ) : إيذان بختم هذا الكتاب الرابع : لقد حل العصر ، فلأقصر الكلام . . والعصر في المأثور الصوفي هو زمان خاتم الأنبياء بالنسبة لزمان آدم فكأن علينا ونحن في أوان خاتم الأنبياء ألا نطيل الكلام ، وإن كان هذا الكلام تنبيه وتوعية لأهل العصر . . وهو الذي يعطيهم شهد الروح ويبعدهم عن طين الدنيا وطين النفس . . والكلام موجه إلى حسن حسام الدين : إنك روضة روحانية ومستغن عن الحروف والأصوات بالنسبة لفهمى . .

لكن لا محيص من اللجوء إلى هذه الحروف والأصوات حتى يفهم الناس ويدرك العوام ، أولئك الذين يكونون في حاجة إلى حروف وكلمات ، ألست ترى الرياض والبساتين يضع فيها الناس ملواحا على شكل رأس حمار ، هكذا الكلمات والحروف والأمثال والحكايات في المثنوى . . وكثير من الناس يرى رأس الحمار ولا يرى الروضة ورياحينها وثمارها . . وكثير من الناس أيضا يحيطها بالأشواك . . ويظن المحروم من بعيد أن البستان هو هذا فحسب ، فيتقهقر عن الروضة كأنه كبش مغلوب . .

فهيا يا حسام الدين هات رأس الحمار ( الحروف والأصوات والحكايات ) وضعها في مزرعة البطيخ هذه . . فإن رأس الحمار وإن كانت ميتة ( الحكايات المنسية ) فإنها ترتد حية مرة أخرى في أذهان العوام من وضعها في هذا المكان لأنها تصبح ذات معنى وفائدة .

« 629 »

( 3826 - 3834 ) : إن التصوير فن لكنك أنت الذي تبعث فيه الروح . . لا . .

لقد أخطأت فالصورة والمعنى كلاهما منك ( في الحقيقة الصورة والمعنى يسيطر عليهما المخاطب وليس المتحدث ) إنك محمود كالأولياء في السماء . . فلتكن محمودا إلى الأبد في الأرض ، وذلك حتى يتوحد الأرضي مع السماوي وتنتفى التفرقة والاثنينية والشرك ، فإن هذا العمل المسمى بالمثنوى مع عظمته هذه هو من توحد روحينا وعندما تتوحد أرواح الطيبين الأولياء يحدث التغيير في الأرض ، فإن الأفكار بين الأرواح حجاب ، حجاب يوضع على وجه الحقيقة فيخفيها الغرض ويخفيها المرض . . وكثيرا ما عرف الناس الحقيقة فأداروا لها وجوههم ، فغضب ذلك الولي الكامل القمر المنير والرسول المصطفى فغضبه من غضب الرب .


( 3835 - 3844 ) : ومن هنا ولعدم التجانس فإن روح الشرير لم تتعرف على روح النبي وجهلتها وأعرضت عنها . . وكل هذا قرأته . . فاقرأ «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ، رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ، فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» إن عناد الكفار ولجاجهم لمما يحير : قبل أن يظهر المصطفى صلى الله عليه وسلم في الدنيا . . كان ورد ألسنتهم ، كان ذكره كالتعويذة ، كانوا ينتظرونه . . كانت قلوبهم تخفق بذكره ، وألسنتهم تلهج بالثناء عليه . . كانوا يدعون الله صباح مساء أن يعجل بعثته ، كانوا يستفتحون باسم الرسول أحمد .

 قال تعالى «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» ( البقرة / 89 )

( ينظر أيضا البيهقي دلائل النبوة / 1 ) كانوا يستنجدون به في حروبهم وعند مرضهم ، كانت صورته تبدو لهم


« 630 »

في طرقهم . . لا . . إن صورته لا يستطيع أي كافر أن يتخيلها ، لقد كانت مجرد صورة في مخايلهم .


( 3845 - 3847 ) : إن هذه الصورة لو انعكست على جدار دمى قلب ذلك الجدار . . ولأصابت الجدار بركة انعكاس هذه الصورة عليه ونجا من كونه ذي وجهين . . ولصار جديرا بأن يكون ذا وجه واحد كأهل الصفاء .


( 3848 - 3855 ) : كل هذا التعظيم والوداد ذهب أدراج الرياح بمجرد أن رأوه كانوا زيفا عرض على النار فاسود وافتضح . .
وهكذا الزيف يهزل طالبا المحك ، وهو يعلم أن المحك سوف يفضحه ، كان يفعل ذلك حتى يلقى بمريديه في الشك والظين في صلاحه ، وهكذا يقع من ليس بأهل في حبال مكره ، وينخدع فيه كل خسيس ، نعم إن مجرد طلبه للمحك دليل على صدقه . .
وهو لن يعرض نفسه على المحك أبدا ، وإن عرض نفسه على محك فسوف يطلب محكا زائفا مثله . .
والشيخ الذي يخفى عيب كل وجه من أجل كل ديوث في الطريقة ليس بشيخ بل هو منافق . . فابتعد عنه ما استطعت فهو لا يخفى عيبا ، واختم يا حسام الدين إذن هذا الكتاب الرابع والله الموفق .

( تم الكتاب الرابع من المثنوى بحمد الله تعالى ويليه الكتاب الخامس بإذنه تعالى ) .
  *
تم بحمد الله تعالى رب العالمين
عبدالله المسافر بالله
.

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: