الاثنين، 10 أغسطس 2020

03 - عشق الملك لجارية مريضة وتدبيره من أجل شفائها المثنوي المعنوي الجزء الأول ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

03 - عشق الملك لجارية مريضة وتدبيره من أجل شفائها المثنوي المعنوي الجزء الأول ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

03 - عشق الملك لجارية مريضة وتدبيره من أجل شفائها المثنوي المعنوي الجزء الأول ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

« 39 »
عشق الملك لجارية مريضة وتدبيره من أجل شفائها
 
35 - استمعوا أيها الأصدقاء إلى هذه الحكاية ، إنها في الحقيقة تصفية لأحوالنا . « 1 » .
- كان هناك أحد الملوك فيما مضى من الزمان ، كان قد جمع ملك الدنيا وملك الدين .
- واتفق أن ركب الملك مع خواصه ، ذات يوم من أجل الصيد .
- ورأى الملك جارية في طريقه ، فصار غلاما لها ذلك الملك . « 2 » .
- وعندما أخذ طائر روحه يتخبط في قفص " جسده " ، دفع المال واشترى تلك الجارية .
 
40 - وعندما اشتراها وقر عينا ، شاء القضاء أن تسقط تلك الجارية مريضة .
- لقد كان عند أحدهم حمار ولم يكن لديه سرج له ، وعندما وجد السرج اختطف الذئب الحمار .
- وكان لديه الإناء ولم يكن يحصل على الماء ، ولما حصل على الماء انكسر الإناء .
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 72 : - وإذا أدركنا أمرنا على حقيقتة ، استفدنا من الدنيا والآخرة .
( 2 ) ج / 1 - 72 : - كان يسعى في أثر صيد في الجبل والوادي ، فسقط بغتة صيدا في شبك العشق .


« 40 »
 
- وجمع الملك الأطباء عن يمين ويسار ، وقال : إن روح كل منا أمانة بين أيديكم .
- والأمر بالنسبة لروحى أنا سهل ، لكنها روح روحي ، فأنا مريض مهدم وهي دوائى .
 
45 - وكل من يكتشف العلاج الناجع لروحى ، فله منى الكنوز والدر والمرجان .
- فقالوا جميعا : سوف نبذل كل ما في وسعنا ، ولنضم خبراتنا ونشترك في هذا الأمر .
- فكل واحد منا مسيح عصره وأوانه ، ولكل ألم عندنا ما يصلح من دواء .
- ولم يقولوا " بمشيئة الله " بطرا من عند أنفسهم ، ومن ثم أبدى لهم الله تعالى عجز البشر .
- وما أقصده أن ترك الاستثناء من قبيل القسوة ، وليس الأمر بالقول ، فالقول عرض من الأعراض .
 
50 - وكثيرون هم الذين لم ينطقوا بهذه العبارة ، لكنها تكون مقترنة بأرواحهم إقترانا .
- ومهما بذلوا من علاج ومن دواء ، زاد في المرض ، ولم يجعل حاجتهم مقضية .
- فصارت الجارية من مرضها في نحول الشعرة ، وجرت عين الملك بالدموع الدامية .
- لقد شاء القضاء أن يؤدى كل علاج إلى عكس مفعوله ، فالخل بالعسل زاد في الصفراء وزيت اللوز أدى إلى الإمساك . ! !
 
« 41 »
 
- والإهليلج أدى إلى إنقباض المعدة بحيث فقدت طبيعتها ، والماء صار مددا لنار " الجوف " وكأنه النفط . « 1 »
 
ظهور عجز الحكماء عن معالجة الجارية واتجاه الملك إلى الحضرة الإلهية
ورؤيته أحد الأولياء في النوم
 
55 - وعندما رأى الملك عجز الحكماء ، أسرع إلى المسجد حافيا .
- ودخل المسجد ، واتجه صوب المحراب ، وأصبح موضع سجوده مبللا من دمعه .
- وعندما عاد إلى وعيه من استغراقه في الفناء ، انطلق بلسان فصيح في التحميد والدعاء ؛
- قائلا : يا من أقل عطية من عطاياك ملك الدنيا ، ما ذا أقول وأنت العالم بالسر . ؟ « 2 »
- ويا من أنت الملجأ على الدوام لحاجاتنا ، لقد أخطأنا الطريق مرة ثانية .
 
60 - لكنك قلت : وبالرغم من أنى أعرف سرك ، هيا إجعله سريعا واضحا عليك ! !
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 73 : زاد ضعف قلبها وقل نومها ، وزاد إحمرار عينيها والقلب ملىء بالغم والألم - - - - - - -
 وما وصفه الأطباء من شراب وأدوية ووصفات ، ضيع كرامتهم تماما
( 2 ) ج / 81 - : - إن أحوالنا وأحوال هؤلاء الأطباء سواء بسواء ، تكون بلا قيمة أمام لطفك العام .
 
« 42 »
 
 
- وعندما صرخ صرخة من أعماق الروح ، بدأ بحر العطاء في الجيشان 
- وبينما هو في بكائه غلبه النوم ، فرأى شيخا في ما يراه النائم .
- وقال له : أيها الملك ، بشراك ، حاجتك مقضية ، إذ يأتيك غدا من لدنا غريب .
- وعندما يأتيك فهو حكيم حاذق ، واعلم أنه صادق ، لأنه بالفعل أمين وصادق .
 
65 - وانظر في علاجه إلى السحر المطلق ، وانظر في ما يمزجه من دواء إلى قدرة الحق ! !
- وعندما حل الموعد وطلع النهار ، وبزغت الشمس من المشرق حارقة للأنجم .
- كان الملك منتظرا في الشرفة ، حتى يتحقق مما أبدى له من سر .
- فرأى شخصا فاضلا وقورا ، شمسا ( بازغة ) في قلب الظل .
- كان يقترب من بعيد وكأنه الهلال ، كان عدما ووجودا . . . كأنه الخيال .
 
70 - إن الخيال يكون كالعدم بالنسبة للنفس ، فانظر إلى عالم بأكمله قائم على خيال .
- فصلحهم وحربهم قائمان على خيال ، وفخرهم وعارهم مستندان على خيال .
- وتلك الخيالات التي هي فخاخ الأولياء ، هي انعكاس لحسان بستان الله .
 
« 43 »
 
- وذلك الخيال الذي رآه الملك في النوم ، كان يتجلى في طلعة الضيف « 1 »
- وتقدم الملك بدلا من الحجاب نحو ذلك الضيف القادم إليه من الغيب . « 2 »
 
75 - وكلاهما ينتمى إلى هذا البحر تعلما السباحة فيه ، وروحاهما متصلتان دون رتق « 3 » .
- قال ( الملك ) : لقد كنت أنت محبوبى لا تلك الجارية ، لكن الأمور في هذه الدنيا تفضى إلى بعضها ، 
- يا من أنت لي كالمصطفى أنا لك كعمر ، فلأشمر عن ثيابي في خدمتك .
 
سؤال الله ولى التوفيق إلى رعاية الأدب في كل الأحوال
وبيان وخامة ترك الأدب ومضاره
 
- إننا نسأل الله التوفيق إلى الأدب ، فمن لا أدب عنده صار محروما من لطف الرب .
- وما أساء عديم الأدب إلى نفسه فحسب ، بل أضرم النار في كل الآفاق .
 
80 - كانت هناك مائدة تنزل من السماء ، بلا شراء ولا بيع ولا مساومة أو قيل وقال .
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 82 : - لقد كان نور الحق ظاهرا في ذلك الولي ، فكن حسن الرؤية إذا كنت من أهل القلوب .
- وعندما ظهر ولى الحق ذاك من بعيد ، كان النور ينبعث من قمة رأسه إلى أخمص قدميه .
( 2 ) ج / 1 - 82 : - وعندما استقبل ضيف الغيب ، كان كالسكر الذي مزج بالورد .
( 3 ) ج / 1 - 82 : - كان أحدهما كالظمآن والآخر كالماء ، وكان أحدهما كالثمل والآخر كالخمر .

 
« 44 »
 
- وكان هناك عدد من معدومى الأدب بين قوم موسى ، فقالوا : أين الفوم والعدس ؟
- فانقطعت مائدة السماء وخبزها ، وبقي لنا شقاء الزراعة والفأس والمنجل ! ! 
- ثم إن عيسى عندما تشفع لهم ، أرسل إلينا الغنيمة والمائدة الحاضرة « 1 » .
- فترك الوقحاء الأدب ، وأخذوا كالمتسولين يتخاطفون قطع اللحم .
 
85 - فلامهم عيسى قائلا : إنها دائمة . . . ولن تنقطع عن الأرض .
- إن ممارسة سوء الظن وإبداء الحرص ، تكون من قبيل الكفران أمام مائدة العظيم .
- وبسبب أولئك العمى الذين يملكون وجوها كوجوه الشحاذين ، أغلق أمامهم ذلك الباب من أبواب الرحمة .
- فالسحاب يشح بالمطر نتيجة لمنع الزكاة ، ومن الزنا ينتشر الوباء في أنحاء البلاد .
- وكل ما يحيق بك من أضرار وأحزان ، نتيجة لانعدام الخشية والتوقح .
 
90 - وكل من يبدي عدم الخشية في طريق الحبيب ، ، ليس رجلا . . بل قاطع لطريق الرجال .
- ومن الأدب صار هذا الفلك مليئا بالنور ، ومن الأدب يكون الملك معصوما طاهرا .
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 93 : - فعادت المائدة إلى النزول من السماء ، عندما دعا قائلا أنزل علينا مائدة .


« 45 »
 
- ومن الوقاحة حاق الكسوف بالشمس ، وصار عزازيل من جرأته مبعدا مطرودا . « 1 »
 
لقاء الملك مع ذلك الولي الذي أبدى له في النوم
 
- فتح ذراعيه وعانقه ، واحتواه بقلبه وروحه وكأنه العشق « 2 » .
- وطفق يقبل يده وجبهته ، ويسأله عن موطنه وطريقه .
 
95 - وظل يصحبه حتى صدر ( المجلس ) وهو يسأله ، وقال له : لقد وقعت على كنز لكن بالصبر .
- وقال : يا نور الحق ويا دفعا للحرج أنت مصداق الصبر مفتاح الفرج . « 3 »
 - ويا من لقياك جواب لكل سؤال ، وكل مشكل له منك الحل بلا قيل أو قال .
- إنك ترجمان لكل ما هو موجود في القلب ، وأنت آخذُ بيد كل من قدمه في الطين .
- " مرحبا يا مجتبى يا مرتضى ، إن تغب جاء القضا ضاق الفضا
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 94 : - وكل من يبدي الوقاحة في الطريق ، يصبح غريقا في وادى الحيرة 
- هيا وأتمم الحديث عن الملك وضيفه ، فليس لهذا الكلام من نهاية .
( 2 ) ج / 1 - 100 : عندما تقدم الملك من ضيفه ، كان ملكا لكنه ذهب إليه بمسكنة شديدة .
( 3 ) ج / 1 - 100 : إن الصبر مر لكن عاقبته أنه يمنح ثمرة شديدة النفع .

 
« 46 »
 
100 - أنت مولى القوم من لا يشتهى ، قد ردى كلا لئن لم ينتهى « 1 » 
- عندما انتهى المجلس ورفعت مائدة الكرم ، أخذ بيده وقاده إلى الحرم
 
اصطحاب الملك ذلك الطبيب إلى فراش المريضة ليفحصها
 
- لقد قص عليه ما جرى للمريضة ومرضها ، ثم أجلسه من بعد ذلك إليها .
- فجس النبض ، وطالع لون الوجه ، وفحص قارورة البول ، كما سمع علامات المرض وما صحبه ( من أعراض ) .
- وقال : إن كل علاج قاموا به لم يكن إصلاحا ، بل كان تخريبا .
 
105 - لقد كانوا عن حال الباطن غافلين ، " أستعيذ الله مما يفترون " .
- وأدرك سر الألم ، وانكشف له المستور ، لكنه كتمه ولم يبح به للسلطان .
- لم يكن تعبها من الصفراء أو من السوداء ، فرائحة كل حطب ( يحترق ) تبدو من دخانه .
- لقد أدرك من تأوهها أنه تأوه القلب ، فالبدن معافى ، لكنها عليلة القلب .
- والعشق بين من مرض القلب . ولا مرض هناك مثل مرض القلب .
 
110 - وعلة العاشق غير بقية العلل ، فالعشق هو الأصطرلاب لأسرار الإله .
- والعشق سواء من هذه الناحية أو من تلك الناحية ، إنما يقودنا في النهاية إلى تلك الناحية .
- وكل ما أقوله شرحا وبيانا للعشق ، أخجل منه عندما أصل إلى العشق نفسه .
- وبالرغم من أن تفسير اللسان موضح ومبين ، لكن العشق أكثر وضوحا دون لسان .
...............................................................
( 1 ) بالعربية في المتن .

« 47 »
 
- ومهما كان القلم مسرعا في الكتابة ، فإنه عندما وصل إلى العشق تحطم وصار بددا . « 1 »
 
115 - والعقل في شرحه عجز كحمار في وحل ، فشرح العشق إحساس يتحدث به العشق نفسه .
- والشمس تكون دليلا على الشمس ، فإن أعوزك الدليل ، لا تشح عنها بالوجه .
- والظل وإن كان يدل عليها ، إلا أنها في كل لحظة تنشر نورا من أنوار الروح .
- والظل يأتي بالنوم وكأنه السمر ، وعندما تسطع الشمس ينشق القمر .
- وليس هناك من غريب في هذا العالم مثل الشمس ، لكن شمس الروح باقية فليس لها من أمس .
 
120 - وبالرغم من أن الشمس الخارجة عن ( الذات ) وحيدة في بابها ، إلا أنه يمكن تصوير مثلها .
- لكن الشمس التي منها أبدع الأثير ، لا يكون لها نظير في الذهن أو خارج الذات .
- فإني للتصور استيعاب ذاته ؟ بحيث يمكن له أن يتصور مثلها .
- وعندما تطرق الحديث إلى طلعة شمس الدين البهية ، تورات شمس الفلك الرابع بالحجاب . « 2 »
- ومن الواجب ما دام اسمه قد ذكر ، أن نقدم رمزا من رموز إنعامه .
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 103 : - وعندما وصل الحديث إلى وصف هذا الحال ، تحطم القلم وتمزقت الأوراق على السواء
( 2 ) ج / 1 - 105 : شمس الدين التبريزي الذي هو نور مطلق . . هو شمس من أنوار الحق .

« 48 »
 
125 - إن هذا النفس قد أمسك بتلابيب روحي ، فقد وجدت فيه رائحة قميص يوسف .
- قائلا : بحق صحبة السنين ، هلا أعدت على مسامعنا رمزا من ألوان السعادة ؟
- حتى تصبح السماء ضاحكة والأرض ضاحكة ، وحتى تكون قوة العقل والروح أضعافا مضاعفة . « 1 » « 2 »
- " لا تكلفنى فإني في الفنا ، كلت أفهامى فلا أبغى ثنا
 - كل شئ قاله غير المفيق ، إن تصلف أو تكلف لا يليق " « 3 » « 4 »
 
130 - وماذا أقول ؟ وليس في عرق في وعيه ، عن ذلك الحبيب الذي لا نظير له . « 5 » 
- فاترك الآن تفسير هذا الهجران وهذه المشقة إلى وقت آخر .
- " قال أطعمني فإني جائع ، واعتجل فالوقت سيف قاطع " « 6 »
 - والصوفي هو ابن الوقت أيها الرفيق ، وليس قول غدا من شرط الطريق .
- ألست أنت نفسك رجلا صوفيا ؟ فاعلم إذن أن من النسيئة يحيق العدم بالموجود .
...............................................................
( 1 ) حرفيا : مائة ضعف .
( 2 ) ج / 1 - 105 : - قلت يا نائيا عن الحبيب ، أأنت كمريض ناء عن الطبيب ؟ .
( 3 ) بالعربية في المتن .
( 4 ) ج / 1 - 105 : وكل ما يقوله لما لم يكن موافقا ، ويكون تكلفا لا يليق تماما .
( 5 ) ج / 1 - 106 : - إن الثناء منى هو ترك الثناء ، فهو دليل على وجودي ووجودي ذنب .
( 6 ) بالعربية في المتن .


« 49 »
 
135 - قلت : من الأفضل أن يكتم سر الحبيب ، فاستمع إليه من خلال الحكاية .
- ومن الأفضل لأسرار الأحبة ، أن ترد خلال أحاديث الآخرين .
- قال : تحدث حديثا صريحا مباشرا ، ولا تتدخل أنت . . هيا يا صاحب الأفضال .
- ولترفع الحجب ولتتحدث حديثا صريحا ، فلست أطيق حسناء تتستر بملابسها
- قلت : لو أنها انكشفت عيانا ، فلن تبقى أنت ولاعناقك . . ولا ما بيننا .
 
140 - فاشته . . . لكن في حدود ، فإن القشة لا تتحمل الجبل .
- والشمس التي أضاءت هذا العالم ، إن اقتربت قليلا أحرقته كله « 1 » .
- ولا تطلب الفتنة والتمرد وسفك الدماء ، ولا تتحدث أكثر من هذا عن شمس الدين التبريزي .
- ولا آخر لهذا الأمر فتحدث عن البداية ، وعد وقص علينا بقية الحكاية
 
طلب ذلك الولي خلوة من الملك من أجل إدراك مرض الجارية « 2 »
 
- قال : أيها الملك فلتخل المكان ، ولتبعد الأقرباء والغرباء على السواء .
 
145 - ولا ينصتن أحد في الممرات ، وذلك حتى أسأل هذه الجارية عن بعض الأشياء . « 3 » .
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 107 : - حتى لا يصير القلب دما وتنفلت الروح من الجسد ، ضم شفتيك الآن واغمض عينيك .
( 2 ) ج / 1 - 116 : - وعندما سمع الحكيم ذلك الكلام ، صار بباطنه شريكا للملك في همه .
( 3 ) ج / 1 - 116 : - أخلى الملك المكان وخرج ، ليسأل الطبيب الجارية عن أحوالها .

« 50 »
 
- وخلا المنزل إلا من الطبيب والمريضة فلا ديار واحد .
- واستدرجها في الحديث قائلا : أين موطنك ؟ فإن علاج كل مدينة يختلف عن الأخرى .
- ومن هم أقاربك في هذه المدينة ؟ ومع من كانت ألفتك وعلقتك ؟
- ووضع يده على نبضها ، وأخذ يسأل عنها واحدة بعد أخرى ، وعما حاق بها من جور الفلك .
 
150 - وعندما تتغرس شوكة في قدم أحد ، فإنه يضع قدمه على ركبته .
- ولا يزال فكره يبحث عن طرف تلك الشوكة ، وإن لم يجدها يبلل موضع ( الألم ) بلعابه . .
- وإذا كانت شوكة القدم صعبة المنال إلى هذا الحد ، فكيف تكون الشوكة في القلب ؟ أجب 
- وإذا كان كل خسيس يرى شوكة القلب ، فمتى كانت للأحزان سطوة على أحد ؟
- وإذا غرس أحدهم شوكة تحت ذيل حمار ، ولا يستطيع لها دفعا ، لا يفتأ يقفز و " يبرطع " .
 
155 - إنه يقفز فيشتد انغراس تلك الشوكة ، إذ يجب أن يكون هناك عاقل لينتزعها 
- والحمار من أجل أن يتخلص من الشوكة ، ومن حرقته وألمه ، يبرطع فيجرح مائة موضع « 1 »
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 116 : - ومتى يدفع ذلك الرفس . الشوكة خارجا ، إنما يلزمها حاذق يضع يده على موضعها .

 
« 51 »
 
- وذلك الحكيم المقتلع للشوك كان أستاذا ، كان يتحسس بيديه مجربا موضعا بموضع 
- وأخذ مسامرا يسأل تلك الجارية عن أحوال أصدقائها .
- وأخذت هي تفضى للحكيم بما لديها من أنباء عن موطنها وسادتها ومدينتها ومسكنها .
 
160 - كان يسلم أذنيه لما تقصه عليه ، لكن كل انتباهه كان منصبا على نبضها وحركته .
- وذلك ليدرك عند أي اسم سيسرع نبضها ، فإنه هو الذي يكون مقصودها من الدنيا .
- وأحصت أصدقاءها في موطنها عددا ، فذكر الحكيم اسم مدينة أخرى .
- وسألها : عندما غادرت موطنك . . أي المدن كانت إقامتك فيها أكثر من غيرها ؟
- فذكرت أسم مدينة ومر عليها ، لأن نبضها ولونها لم يتغيرا .
 
165 - وتحدثت عن المدن وسادتها فيها واحدة بعد الأخرى . . عن مقامها فيها وعمن عاشرتهم .
- وتحدثت عن المدن مدينة بعد مدينة ودارا بعد دار ، ولم يتحرك عرقها أو يشحب وجهها .
- وظل نبضها على حاله لم يتغير ، حتى سألها عن سمرقند الحلوة كالسكر . « 1 » 
- فأسرع نبضها ، واحمر لونها ثم شحب ، وذلك لأنها فارقت الصائغ السمرقندي .
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 117 - فتأوهت تلك الحسناء بحزن ، وسال الدمع من عينيها جدولا . 
- وقالت : لقد أتى بي أحد التجار إلى تلك المدينة واشترانى صائغ فيها . 
- وعشت في كنفه ستة أشهر ثم بأعنى ، وعندئذ تضرج وجهها بنار الحزن .

 
« 52 »
 
- وعندما علم الحكيم ذلك السر عن مريضته ، أدرك أصل الألم والبلاء .
 
170 - وسألها : في أي حي كان يعيش وأي شارع ؟ قالت : على رأس قنطرة غاتفر . « 1 » .
- فقال : عرفت مرضك وسرعان ما أبدى في شفائك صنوف السحر . .
- فلتسعدى ولتهنئى ولتطيبى خاطرا ، فسوف أفعل بك ما تفعله الأمطار في الرياض .
- وسوف أحمل همك ، فلا تحملى هما ، وأنا أكثر شفقة عليك من مائة أب .
- لكن ، حذار حذار وإياك أن تبوحى بهذا السر لأحد مهما فتش الملك عن أمرك .
 
175 - وعندما يكون قلبك قبرا لسرك ، فإنك سرعان ما تنالين مقصودك .
- إذا قال الرسول عليه السلام : كل من كتم سره سرعان ما وصل إلى مقصوده .
- فالحبة عندما تختبئ في باطن الأرض ، يصبح سرها خضرة في البستان .
- وإذا لم يكن الذهب والفضة مكنونين ، فمتى كان لهما أن يتكونا في أعماق المنجم ؟
- إن وعود ذلك الحكيم واللطف الذي أبداه ، جعلت الجارية آمنة من الخوف .
 
180 - والوعود إن كانت صادقة تكون مقبولة لدى القلب ، وإن كانت مجرد وعود فهي تزيل القلق والاضطراب .
- ووعود أهل الكرم كنز لا يفنى ، ووعود الأخساء عناء للنفس . « 2 »
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 117 : - قال ذلك الحكيم المصيب لتلك الجارية آنذاك : الآن نجوت من العذاب .
( 2 ) ج / 1 - 118 - : وينبغي الوفاء بالوعود تماما ، وإلا كنت سخيفا ساذجا .

« 53 »

إدراك ذلك الولي للمرض وعرضه الأمر على الملك « 1 »
 
- ثم نهض بعد ذلك وذهب إلى الملك وأخبره بشئ عن ذلك الأمر . « 2 »
- وقال له : الرأي أن نحضر ذلك الرجل من أجل علاج ذلك المرض . « 3 »
- إستدع الصائغ من تلك المدينة البعيدة ، واستدرجه بالخلعة والذهب . « 4 »
 
 185 - وعندما سمع السلطان قول الحكيم ، تقبل نصيحته بالروح والقلب . « 5 »
 
انفاذ الملك الرسل إلى سمرقند لإحضار الصائغ
 
- أرسل الملك رسولين إلى تلك الناحية ، متميزين بالحذق والكفاءة ومن العدول .
- ووصل هذان الأميران إلى سمرقند ، مبشرين ذلك الصائغ من قبل الملك العظيم .
- وقالا له : أيها الأستاذ الحاذق ذا المعرفة الكاملة ، لقد ذاعت صفاتك في البلاد .
- والملك فلان قد اختارك صائغا له ، فأنت عظيم في هذه الحرفة .
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 122 - : - عندما علم ذلك الحكيم الحنون بالسر ، أدرك تفصيلات مرض الجارية .
( 2 ) ج / 1 - 122 : - قال الملك : قل لي ما هو التدبير ؟ ، وفي هذا الحزن ما لزوم التأخير .
( 3 ) ج / 1 - 122 : فأرسل رسلا يخبرونه بالأمر ، ويأملوه بهذا الفضل والإيثار .
( 4 ) ج / 1 - 122 : عندما رأى ذلك الفقير الفضة والذهب ، انفصل عن أهله من جرائهما . 
- فالذهب يجعل العقل مفتونا والها ، خاصة بالمفلس الذي يجعله مفتضحا . والذهب وإن كان بالعقل ، يأتي به العاقل بسهولة ويسر .
( 5 ) ج / 1 - 124 : وقال له إني طوع أمرك ، وفعلك هو فعلى فقم به .

 
 
« 54 »
 
190 - وهاك هذه الخلعة فخذها ، وهاك الذهب والفضة ، وعنما تأتى ، تصبح من خواص الملك وندمائه . .
- ورأى الرجل الخلعة والمال الكثير ، فاغتر ، وانفصل عن مدينته وعياله .
- وانطلق الرجل سعيدا في الطريق ، غافلا عن أن الملك قد دبر لهلاكه .
- وامتطى جوادا عربيا وساقه سعيدا ، واعتبر الخلعة ثمنا لدمه .
- فيا من انطلقت في الرحيل برضا شديد ، " ما أشبهك " بمن سعى إلى حتفه بظلفه .
 
195 - كان يتخيل الملك والعز والعظمة ، وقال له عزرائيل : أجل ، إمضِ ، سوف تنالها .
- وعندما وصل من الطريق ذلك الرجل الغريب ، أدخله الطبيب إلى حضرة الملك
- وحملوه إلى الملك بالتجلة والإكرام ، حتى يحترق أمام تلك الشمعة المنسوبة إلى طراز .
- ورآه الملك فأبدى له صنوف التعظيم وسلم إليه خزانة ذهيه . « 1 »
- ثم قال له الحكيم : أيها الملك العظيم ، هب تلك الجارية لهذا السيد .
 
200 - حتى تشفى الجارية بوصاله ، ويطفئ ماء وصله تلك النار .
- فوهبه الملك تلك الحسناء ، وقرن بين هذين اللذين يطلب كل منهما وصل الآخر
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 125 : وأمره أن يصنع من الذهب الأساور والأطواق والخلاخيل والأحزمة . 
ومن أنواع الأواني ما لا حصر له ، بما يليق بمجلس أنس الملك . وآخذ الرجل الذهب وانشغل بعمله ، غافلا عن الأحوال وعما يحاك له .

 
 
« 55 »
 
- وأخذ كل منهما ينال وطره من الآخر طيلة ستة أشهر ، حتى شفيت تلك الفتاة تماما .
- ثم أعد له من بعد ذلك شرابا ، شربه وأخذ يذوب أمام الفتاة .
- وعندما لم يبق له من المرض جمال ، لم تبق روح الفتاة بين حبائله .
 
205 - وعندما صار قبيحا مريضا شاحب الوجه ، أخذ حبه في قلبها يبرد قليلا قليلا 
- إن أنواع العشق التي تكون من أجل اللون ، لا تكون عشقا ، بل عاقبتها العار .
- وليت هذا العار كان قد انتهى دفعة واحدة ، حتى لا يحيق به سوء القضاء .
- لقد سال الدم من عينيه اللتين كالجدول ، فقد كان وجهه عدوا لروحه .
- فجناح الطاووس عدو له ، وما أكثر الملوك الذين قتلتهم حشمتهم .
 
210 - فقال : أنا ذلك الغزال . . . ومن أجل نافجتى ، سفك ذلك الصياد دمى النقى .
- وأنا ذلك الثعلب الصحراوى الذي كمنوا له ، وقطعوا رأسه من أجل فرائه .
- وأنا ذلك الفيل وبطعنة من الفيال سفك دمى من أجل سنى .
- وذلك الذي قتلني من أجل من هم دونى ، ليس يدرى أن دمى لا يطل .
- فاليوم علىّ وغدا عليه ، وكيف يضيع هدرا دم مثلي إنسانا .
 
215 - والجدار وإن ألقى ظلا ممتدا ، فإن هذا الظل يرتد إليه ثانية .
- وهذه الدنيا كالجبل وأفعالنا كالنداء ، ويرتد إلينا من هذا النداء الصدى .
- قال هذا ومضى لتوه إلى بطن الأرض ، وخلصت تلك الجارية من العشق والشقاء .
- ذلك أن عشق الموتى ليس دائما ، لأن الموتى لا يعودون إلينا .
- وعشق الحي بالنسبة للروح والبصر ، أكثر نضرة كل لحظة من البراعم

 
 
« 56 »
 
220 - فاختر عشق ذلك الحي فهو باق ، ويسقيك الشراب الذي يطيل العمر .
- واختر عشق ذلك الذي وجد الأنبياء من عشقه الحشمة والعظمة .
- ولا تقل لا سبيل لنا إلى حضرة ذلك الملك ، فإن الأمور لا تكون صعبة مع " ذي " الكبرياء .
 
بيان أن قتل الصائغ ودس السم له كان بإشارة إلهية
لا بهوى النفس والفكر الفاسد
 
- لم يكن قتل ذلك الرجل على يد الحكيم على سبيل الخوف أو الطمع .
- ولم يقتله الملك من جراء طبعه ، وما لم يأته الأمر والإلهام من الإله .
 
225 - فذلك الغلام الذي قتله الخضر ، لم يدرك العوام سر مقتله .
- وذلك الذي يجد من الحق الوحي والجواب ، كل ما يأمر به هو " عين " الصواب .
- وذلك الذي يهب الروح يجوز له أن يقتل ، فهو نائب الله ، ويده يد الله .
- فضع رأسك أمامه وكأنك إسماعيل ، وضح بالروح سعيدا ضاحكا أمام سيفه .
- حتى تبقى روحك ضاحكة إلى الأبد ، مثل روح أحمد الطاهرة مع الأحد .
 
230 - إن الملك لم يسفك ذلك الدم شهوة ، فدعك من سوء الظن ومن الجدل .

 
 
« 57 »
 
- لقد ظننت أنه ارتكب فعلا دنسا ، ومتى تترك التصفية غشا " في حال " الصفاء ؟ ! « 1 »
- ومن أجل ذلك تكون تلك الرياضة وهذه القسوة " على النفس " ، حتى يفصل الكور الشوائب عن الفضة .
- ومن أجل ذلك يكون الامتحان بين الصحيح والزائف ، حتى ليصهر الذهب ليطفو الدخيل فوقه .
 
235 - ولو لم يكن فعله من إلهام الإله ، لكان كلبا عقورا وليس ملكا .
- لقد كان طاهرا من الشهوة والحرص والهوى ، ولقد فعل فعلا حسنا وإن بدى سيئا .
- والخضر وإن كان قد خرق السفينة في البحر ، فإن هناك مائة إصلاح في هذا الخرق .
- ووهم موسى مع كل ما كان له من نور وفضل ، صار محجوبا عن ذلك ، فلا تطر أنت بلا جناح .
- إنه ورد أحمر ، فلا تسمه دما ، وهو ثمل بالعقل ، فلا تصفه بالمجنون .
 
240 - وشهوته إن كانت متجهة إلى دماء المسلمين ، أكون لو ذكرت اسمه من الكافرين .
- فإن العرش ليهتز من مدح الشقي ، وبمدحه يسوء ظن المتقى .
...............................................................
( 1 ) ج / 1 - 133 : - فدعك من الظن الخطأ يا سىء الظن ، واقرأ " إن بعض الظن إثم "

 
 
« 58 »
 
- لقد كان ملكا ، بل كان ملكا شديد الوعي ، كان من الخواص . . . خواص الله 
- وذلك الشخص الذي يقتله مثل هذا الملك ، إنما يجذبه نحو الإقبال والدرجة الرفيعة .
- هذا وإن لم تكن ترى نفعه في قهره ، فمتى كان ذلك اللطف المطلق باحثا عن القهر ؟
 
245 - والطفل يرتعد " فرقا " من مبضع الحجام ، بينما تكون الأم المشفقة راضية مسرورة .
- إنه يسلب نصف روح ويهب مائة روح ، يهب ما لا يتأتى لك في وهم .
- إنك تقيس الأمور بنفسك . . لكنك سقطت بعيدا بعيدا ، فانظر جيدا . « 1 » .
 
.
* * *
شرح عشق الملك لجارية مريضة وتدبيره من أجل شفائها
( 35 ) : بهذا البيت تبدأ أولى حكايات المثنوى وأكثرها إثارة للجدل . ويقدم مولانا جلال الدين للقصة بأنها نقد لحالنا أو تصفية لحالنا وكأنه يوحى للسامع بألا ينظر إليها كحكاية عن أشخاص ماضين تتعلق بأحوالهم وتخصهم ، لكنها أيضاً تخصنا وتتعلق بأحوالنا وفي الكتاب الثالث ( الأبيات 524 - 526 ) 


يقول مولانا أن الحكاية ظاهر لباطن بعيد الغور ، فإن لم تستطع الوصول إلى الباطن فتعلق بالظاهر وفي نفس الكتاب ( الأبيات 976 - 973 ) يعلق على قصة موسى عليه السّلام وفرعون ويخاطب السامع بأن فرعون موجود في داخله فلا يعتبر الحكاية من قبيل الأساطير ( لتعليقات أخرى عن فن الحكاية ، أنظر مقدمة الترجمة العربية الكتاب الثالث ، ص 31 - 32 ) .
والحكاية التي بين أيدينا فيما يرى فروزانفر ( مآخذ قصص وتمثيلات مثنوى : ط 4 ، طهران ، أمير كبير ، 1370 ، ه . ش . ص 3 - 6 - يكتفى بعد ذلك بذكر مآخذ ) ورد مثيلها في فردوس الحكمة عن أمير ذاب حبا في جارية وكتم ذلك واستطاع أحد الأطباء أن يعرف الأمر عن طريق النبض وزوجه إياها ، كما ذكر نظامى العروضي مثيلا لها في كتابه جهار مقاله 
( له ترجمة عربية تحت عنوان المقالات الأربع لعبد الوهاب عزام ويحيى الخشاب ) عن معالجة أبى علي بن سينا لحالة مشابهة ، وأضاف فروزانفر أن أبا على ذكر طريقة المعالجة هذه في كتاب « القانون في الطب » . 
أما الجزء الخاص بالقضاء على عاشق الجارية ، فيرى فروزانفر أنه مأخوذ من حكاية لنظامى الكنجوى وردت في منظومة إسكندر نامه عن عشق ارشميدس لجارية صينية وهي نفس الحكاية التي اقتبسها فريد الدين العطار في اسرار نامه ، 
وهناك حكاية أخرى وردت في حديقة سنائى قد تكون قد أوحت لمولانا جلال الدين بهذا الحل غير المنطقي والذي لا يمكن أن يكون مفهوما خارج الإطار الصوفي وهو القضاء على معشوق الجارية حتى تشفى الجارية من غرامه ويخلو الجو للملك العاشق ، ( انظر حكاية في أن الملك لا ينبغي أن يربط قلبه بالهوى ، في الترجمة
 
« 374 »
 
العربية لحديقة الحقيقة لسنائى ، لكاتب هذه السطور ، ص 98 ، من الجزء الثاني - القاهرة - دار الأمين ، سنة 1995 ) .
( 39 ) : تشبه الروح هنا بالطائر والقفص بالجسد ، وهو تشبيه شائع ، وعند ابن سينا في عينيته المشهورة الروح حمامة ( ورقاء ) وعند مولانا تشبه بالطائر حينا على الاطلاق وبالبازى ( كناية عن القوة ) في أحيان كثيرة .
( 41 - 42 ) : إشارة إلى أن طيبات الدنيا لا تكتمل ، وأن الانسان يظل يعاني النقص في أمور دنياه ، وإحساسه بهذا النقص لا بد وأن يوحى إليه بأن كل شئ ما خلا الله باطل ، وكل نعيم لا محالة زائل . والبيتان من الأبيات التي جرت بها مجرى الأمثال في الاستخدام اليومى الإيراني .
 
( 48 - 50 ) : الاستثناء هو قول " إن شاء الله " وفي القرآن الكريم «وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ »وفي الآية إشارة إلى رواية سؤال اليهود المصطفى صلى اللّه عليه وسلّم عن قصة آل الكهف ، وقوله صلى اللّه عليه وسلّم لهم غدا سأخبركم ولم يقل إن شاء الله ، فتأخر الوحي عن الرسول صلى اللّه عليه وسلّم ( سيرة ابن هشام ) وفي صفة رجال الحق " كانوا لا يتكلمون إلا والاستثناء في كلامهم " ( شرح فروزانفر ص 56 ) ، 
وقول مولانا أن الحكماء لم يستثنوا بطرا وقسوة أي اعتمادا على قوتهم وحولهم وطولهم ، وعدم إرجاع الأمر كله إلى الله تعالى . ومن ثم فلم ينود علاجهم إلى نتيجة ، بل بالعكس كان كل دواء يؤدى إلى عكس مفعوله . وينقل المولوي ( 1 / 39 ) والانقروى ( 1 / 57 ) 
حديثا عن الرسول صلى اللّه عليه وسلّم [ عن أبي هريرة قال سليمان عليه السّلام لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، فلم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن ، فلم تحمل منهم إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل ، وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون ] 
ثم يعود مولانا فيقول أن الأمر ليس باللسان بل بالقلب فكثيرون هم أولئك الذين لا يكررونها بألسنتهم لكن قلوبهم مقيمة عليها ، وهم بين أيدي الله تعالى وإن لم يفصحوا .
( 55 - 61 ) : مسألة إسراع الملك حافيا إلى المسجد ليتضرع إلى الله تعالى ليرفع عنه ما هو فيه من بلاء ، ساقطة إلى مولانا من تأثير مسيحي . . فمتى كان في الإسلام ألا يخاطب الله إلا في المسجد ؟ ! ! ويقدم مولانا شروط الدعاء : البكاء والتضرع وإظهار الذل والمسكنة إلى ما لا حد ،
 
« 375 »
 
ورفع الصوت بالدعاء لأن الله يحب أن يسمع صوت عبده ( انظر مثنوى عربي ثالث ، الأبيات 197 - 204 وشروحها ، 
والكتاب الخامس ، الأبيات 1597 - 1610 وشروحها ) . 
كان الملك فانيا في تضرعه إلى الله تعالى ، فكأن شرط الدعاء هو الفناء التام من الذات والاتجاه التام إلى الله . ومن ثم لم يستطع أن يطلب حاجته في الغيبة ، وكان لا بد من العودة إلى حال الحضور ، فضلا عن أن الدعاء من المستحسن أن يكون باللسان ، وعن الإمام علي رضي الله عنه « واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء وتكفل لك بالإجابة » كما قال « من أعطى الدعاء لم يحرم الإجابة » 
[ على المشكينى : الهادي إلى موضوعات نهج البلاغة ص 240 - ص 241 ، ط 1 ، تهران 1363 ] . 


ويشير المولوي أن المراد بالخطأ مرة ثانية : طلب الشفاء من الحكماء لا من الله ، هذا هو الخطأ الثاني ، أما الخطأ الأول فهو وقوعنا في عشق جارية فانية وانصرافنا عن العشق الإلهى ، ( مولوى 1 / 42 ) والواقع أن في هذا إشارة إلى أن إحساس القارئ قد يخدش بكل هذه الضجة من ملك من أجل جارية ، وعندما يزداد الوجد في الدعاء والانهماك فيه تحل الاستجابة ، ويفور بحر العطاء ، فبقدر الإخلاص في الدعاء تكون سرعة الاستجابة .
 
( 62 - 65 ) : مثلما يتكرر الأمر في المثنوى ، يتم حل المشكلات عن طريق هاتف يأتي في النوم ( المثال الواضح في قصة محتسب تبريز والمريد في الكتاب السادس وفي قصة الذي عثر على خريطة لكنز في نفس الكتاب وفي حكاية الذي رأى في النوم ثمة كنز في مصر في الكتاب نفسه ) وكأن مولانا هنا يرى أن الملك يتصف بجزء من ست وأربعين جزء من النبوة ، أي الرؤيا الصادقة ، هذا الحكيم القادم من عالم الغيب يتسم بالحذق ، وليس حذقه إلا نتيجة للصدق والأمانة وعدم الادعاء ، ومن ثم فعلاجه أشبه بالسحر أي أنه قوى المفعول سريع الأثر ، وما الدواء الذي يحضره ويصفه إلا أثر من قدرة الحق ( الطب من العلوم التي أو حيت في البداية إلى الأنبياء في المأثور الإسلامي ) .
 
( 68 - 77 ) يواصل مولانا وصف الطبيب الإلهى أو الروحاني ( عن الفرق بين أطباء البدن وأطباء الروح ، أنظر الكتاب الثالث الأبيات : 2702 - 2711 وشروحها والكتاب الرابع ، الأبيات 1794 - 1801 وشروحها ) . ويوصف هذا الطبيب الإلهى بأنه شمس بين الظلال : أي يبدو في

« 376 »
 
هذا الدنيا وكأنه ينتمى إلى عالم آخر ، أو هو ظاهر مزدهر متألق نور كأنه الشمس بين الظلال وهو هلال لرقته ونورانية يشاهد وكأنه الخيال ، أو كان الملك كأنه يشاهد باطنه وكأنه الخيال ، ولماذا لا يكون خيالا والأمر أصله رؤيا نوم ، أليست الرؤيا من قبيل الخيال . وأليست الدنيا كلها خيال ، وأغلب الظن أن مولانا يقصد بالخيال هنا الفكر فكان الملك كان يرى الحكيم الغيبيى مجرد فكرة وقد تجسدت أمامه ، وما له الفكر وما له الخيال ؟ ! 
أليس من هذه الأفكار تكون حربهم ومنها تكون صلحهم وسلامهم ، ثم إن هذه الخيالات هي فخاخ الأولياء : إن الولي من هذه الخيالات والأفكار التي يستوحيها من بستان الله ( العالم المجرد غير المحسوس ) ، يزين لمريديه الطريقة ، ويحضهم عليها ، ويرغبهم فيما عند الله من جمال مطلق وسرور دائم ، وهي فخاخ للأولياء أنفسهم لأنها قد تصد الأولياء فرحا بها وسرورا منها عن طلب الحقيقة نفسها فيستغرقون في مجرد تصور لذة القرب ، 
وذلك الذي كان يراه ذلك الملك ( الولي ) مجردا ، تجلى في وجود هذا الضيف القادم من عالم الغيب ، ومن ثم فسرعان ما تعارفا وتألفا واتصلا واتحدا . فكلاهما ينتمى إلى بحر واحد ، والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف ، إذن كانت الجارية مجرد سبب ، مجرد رؤية ، مجرد حجاب ، وكان المقصود كله هذا العشق وليس العشق الأرضي ، عشق الولي ، عشق الجارية مجاز ، والمجاز قنطرة الحقيقة يفضى إليها ، وكان كبار الصوفية لا يردون مريديهم عن عشق احدى الجميلات ، لتعلم العشق عموما . 
ويصور الملك علاقته بهذا الولي بعلاقة عمر رضى اللّه عنه بالمصطفى صلى اللّه عليه وسلّم ، كان عمر رضى اللّه عنه فاتحا عظيما وصلت الدولة في عهده أقصى اتساعها وهزم الفرس والروم . لكن هذا كله لأنه كان يدور حول محور المصطفى صلى اللّه عليه وسلّم ، إن روح هذا الملك متصلة بذلك الولي متحدة بها ، فأرواح أسد الله متحدة ، وليست كأرواح الذئاب والكلاب ( أليست رقم 414 من الكتاب الرابع وعن الفكرة كلها بتفصيلاتها انظر الأبيات 406 - 418 من نفس الكتاب وشروحها ) .
( 78 - 79 ) : هذا الأدب الذي أبداه الملك في لقاء الولي وتواضعه له برغم ملوكيته واعترافه بأن هذا الولي هو الملك الحقيقي ، لأن هناك فرقا بين الملوكية على الأجساد والملوكية على الأرواح ، يورد على خاطر مولانا أهمية الأدب في الطريق ، فإن لم يكن ثم أدب من المريد تجاه الشيخ ، فان
 
« 377 »
 
خاطر الشيخ لا يتفتق له بالإفاضات وهمته لا تصبح معطوفة عليه . . ومن ثم يصبح محروما من فيض الله تعالى الذي جعل الشيخ واسطة له ، وهو بهذا قد لا يحرم نفسه وحده فحسب ، بل تحرم الخليفة من العلم ، لأن العلم يقبض بقبض العلماء ، فضلا عن أن سىء الأدب قد يجر على قومه الخراب ، وفي القرآن الكريم «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» والمثال عاقر ناقة صالح ، الذي أصاب شؤمه كل قومه حتى سمى أشأم عاد » وقال تعالى «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» . ويدق مولانا كثيرا على أهمية المخاطَب بالنسبة للمخاطب ، فإن لم يكن المخاطب قابلا نامت قريحة المخاطب ، ويقول مولانا " مت حسرة على الفهم الصحيح ( بيت 2100 من الكتاب الثالث ) ويدق على وجود الفهم المشترك بين الشيخ والمريد أو بين القائل والسامع عموما ( انظر الكتاب السادس الأبيات 650 - 693 وشروحها ) ويسوق في الكتاب الثالث ( الأبيات 3604 - 3615 وشروحها ) حديثا طويلا عن آداب المسمتعين والمريدين عند فيض الحكمة من لسان الشيخ كما يشرح في الكتاب السادس الأبيات 1663 - 1666 قول الرسول صلى اللّه عليه وسلّم :
إن الله تعالى يلقن الحكمة على لسان الواعظين بقدرهم المسمتعين . يقول أبو حفص الحداد التصوف كله أدب ، ولكل وقت أدب ، ولكل حال أدب ، ولكل مقام أدب وقال ذو النون المصري : عليك بالأدب ظاهرا وباطنا ، فما أساء أحد الأدب ظاهرا ، إلا عوقب باطنا ، وما أساء باطنا إلا عوقب ظاهرا ( الأنقروى 1 / 64 ) . وروى المولوي ( 1 / 47 ) أدبوا النفس أيها الأصحاب : طرق العشق كلها آداب .


( 80 - 82 ) : يضرب مولانا المثل على إساءة الأدب بقوم موسى عليه السلام ، ومن إساءة الأدب أن تدخل في جدال مع المحسن إليك ( الكتاب الثالث ، الأبيات 365 - 368 ) . لقد كان المن والسلوى ينزلان عليهم في تيهم ويحفظانهم من الهلاك ، ومع ذلك قالوا : لن نصبر على طعام واحد «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ ، فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها ، قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ( البقرة 61 ) قال نجم الدين كبرى في تفسير الآية « هذا حال من لم يرض بقضائه ، ولم يحمد على نعمائه ، ولم يصبر على بلائه ، يكله إلى نفسه بالخذلان ، ويرده إلى مقاساة الذل والهوان ، فيلقى جلباب الحياء ،

« 378 »
 
ويقطع حبل الوفاء بسكين الجفاء ، ويبيح سفك دماء الأنبياء ( مولوى 1 / 48 ) ولولا إساءة بني إسرائيل الأدب ، لما انقطعت عنهم النعم الإلهية ، وبقي لهم الكدح والتعب ، ثم التشتت والتفرق ، ولا يزالون يثبتون سوء الأدب في كل عصر ، فإن كانوا لم يحفظوه ونبيهم معهم ، فكيف بهم وهو ليس بينهم ؟ ! ! .
( 83 - 88 ) : عند مولانا البشرية واحدة ، والأنبياء نفس واحدة ، وتفسير التاريخ عنه على أنه مواجهة بين حاملي الرسالات السماوية وبين منكريهم ( انظر لتفصيلاتها الكتاب السادس ، الأبيات 2160 - 2172 وشروحها ) ، ومن ثم عندما تشفع عيسى عليه السلام نزلت المائدة من السماء ، إذ «قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ : اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ، تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ ، وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» ( المائدة / 114 ) 
لكن هؤلاء لم يحسنوا الأدب ، فتخاطفوا قطع الطعام وكأنهم الشحاذون ( الاحتكار المعاصر تطوير لهذا الموقف البدائي ) وهذا كله من قبيل سوء الظن بالله تعالى ( قوم عيسى هم الوحداء الذين ذكر عنهم الادخار في كتاب الله ) ومن ثم كان العقاب في انقطاع المائدة ( انهيار السوق العالمي الربوي الوشيك ) 
وفي رواية أن بني إسرائيل لما نزل عليهم المن والسلوى ، نهوا عن ادخارهما ، فادخروا ففسد وأنتن ، وليس هذا العقاب ووقفا على الأمم السابقة بل للأمة الإسلامية أيضا العقوبات المناسبة بمعاصيها : شح المطر وانقطاعه ، ( مهما حدث من صلاة استقساء ممن يعلمون السبب الحقيقي لكنهم يكذبون على أنفسهم ) ومن الزنا يعم الوباء ( الإيدز ) ، 
وذلك مصداقا للحديث النبوي الشريف « خمس بخمس : ما نقض العهد قومٌ إلا سلط الله عليهم عدوهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ( والطاعون ) ، ولا تطففوا الكيل والميزان إلا منعوا النبات وأُخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر » وعن كعب بن مالك قال عليه السلام « إذا رأيتم القطر قد منع ، فاعلموا أن الناس قد منعوا الزكاة ، فمنع الله ما عنده ، وإذا رأيتم الوباء قد فشا فاعلموا أن الزنا فشا » صدق الذي لا ينطق عن الهوى ( عن الأنقروى / 66 ) 
وفي حديث آخر : « في الزناست خصال : ثلاث في الدنيا ، وثلاث في الآخرة ، فأما اللوات في الدنيا ، فيذهب بنور الوجه ، ويقطع
 
« 379 »
 
الرزق ، ويسرع الفنا ، وأما اللواتي في الآخرة فغضب الرب وسوء الحساب والدخول في النار » جعفري 1 / 95 - 96 عن مجمع البيان للطبرسي .
 
( 89 - 92 ) : وكل ما يحيق بالانسان إنما يحيق به من ظلمه ومن جهله ، وقد خلق ظلوما جهولا لا يخشى الله ، ومن ثم فهو في الطريقة قاطع طريق أمام الرجال المخلصين ، وليس رجلًا ، والصفة هنا يقصد بها الشجاعة والشهامة وليست الرجولة الجنسية ، فرب امرأة في الطريق الصوفي خير من ألف رجل ، إن الملائكة صاروا معصومين طاهرين من الذنوب «وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ» . والشمس عندما تحيد عن طريقها تصاب بالكسوف وقد استخدم مولانا نفس المعنى في الكتاب السادس 
 
( البيت 935 ) : ان الشمس لتمشى معوجة في الفلك ، فيصيبها الكسوف في سواد وجهها . وصار عزازيل وهو اسم إبليس قبل أن يعصى وكان من الملائكة المسبحين ، حتى عصى وأساء الأدب ، ورفض السجود لآدم عليه السلام وأبدى التجبر والعنجهية وقال « أنا خير منه » و« أأسجد لمن خلقت طينا » خوطب بـ « أخرج منها » وصار من المبعدين المطرودين .
 
( 93 - 100 ) : يتصرف الملك مع ضيف الغيب كما ينبغي للدرويش أن يتصرف مع شيخه ، واحتواه بقلبه وروحه ، أي لم يتوقف فحسب على الترحيب الظاهر بل ترك له موضعاً في القلب وفي الروح ، وصح باطنه مع ظاهره في الترحيب به ، والحديث نصف القرى ، وهو يعتبر الطبيب الإلهي كنزا ، لأنه عن طريقه سوف يصل إلى الكنوز المعنوية وكنوز الفيض الإلهى فهو كنز من حيث أنه يسوصل إلى الكنز ، وكل هذا لأنه اقتبس من نور الحق و « أوليائي نور » وفي المؤمنين جميعاً من نور الله « يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم » . وشرط استفادة المريد من هذا النور ، هو الصبر ، وانتظار عطاء الشيخ بعد التوقير اللازم والايمان القلبي ، ومن ثم فالشيخ هو أكبر تفسير لتجلى القول المأثور « الصبر مفتاح الفرج » وهو حديث نبوي شريف و « من جد ظفر » ومن لا صبر له لا إيمان له ، ثم يشير في البيت التالي إلى استفادة المريد من الشيخ في حل مشكلاته بلا قيل أو قال ، وكثيرة هي الحكايات التي رويت عن كبار المشايخ وقراءاتهم لما في ضمير السالك وما يعانيه دون شكوى منه واسراعهم إلى تقديم الحل ، وهو ما يعرف بالفراسة ، ومن ثم يسمون جواسيس القلوب ( أنظر لتفصيل الفكرة ، الترجمة العربية للكتاب الرابع ، الأبيات

« 380 »
 
1797 - 1801 وشروحها - وأنظر لحكايات الفراسة كشف المحجوب الترجمة العربية لكاتب هذه السطور ) ويضيف مولانا صفة أخرى هي : أنهم تراجمة القلوب أي يفصحون عما في باطن السالك ، وهم المجتبون المرتضون بهم ترزقون ، وقد استبعد الشارحون أن يكون المجتبى والمرتضى هنا إشارة إلى علي بن أبي طالب والحسن بن علي رضوان الله عليهما وقالوا أنها صفات اتباعاً لتعليقات نيكلسون . وذكر مولى القوم بعدها قد يشير إلى أن هذا المعنى لم يكن بعيداً عن ذهن مولانا جلال الدين والله أعلم . ولقد ردى وأصابه الموت من لا يشتهى لقاء هؤلاء الأعلام من حملة النور الإلهى وناقليه . وإذا حان القضا ضاق الفضا ، مثل عربى ورد في مجمع الأمثال للميدانى ، وفي المعنى إشارة إلى الآية الكريمة «كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ» ( العلق / 15 ) .
 
( 102 - 111 ) : لقد توسل الطبيب الإلهي أيضاً بالأسباب مع أنه كان يستطيع بنظرة واحدة أن يدرك ما تعانيه الجارية وأن يعلم سر آلامها ، لكن علاج الباطن لا بد وأن يبدأ بالنظر إلى الظاهر ، وعلاج النفس في الطب الحديث لا يبدأ إلا بعد الاطمئنان الكامل إلى أن البدن معافى . ومن ثم أدرك الطبيب الروحاني ( أنظر عن الفرق بين أطباء الروح وأطباء الجسد ، شرح الأبيات 68 - 77 من الكتاب الذي بين أيدينا ) وأدرك الطبيب أن العلة من القلب ، أي أنها العشق ، وعلة العشق علة مختلفة عن كل العلل ، إنها الوسيلة لكشف كل الأسرار الإلهية ، أو لبيان النفس على حقيقتها ، سواءٌ كان هذا العشق متجها إلى الذات العليا ( أو تلك الناحية بتعبير مولانا ) أو إلى هذه الناحية ( العشق الأرضي أو المجازى ) وقد ذكر فروزانفر في شرحه 
( 84 - 85 ) نقلًا عن أرسطو وابن سينا تعريفهما للعشق ، فالعشق عند أرسطو هو العمى عن عيوب المحبوب ( والتعبير المصري العامي : الحب أعمى ) وعند ابن سينا أنه مرض كالماليخوليا ، وعلى كل حال فان العشق سواء أكان الهيا أو ارضيا يركز اهتمام العاشق في نقطة واحدة ، ويجعل همه هما واحداً ويجعله يتخلى عن عيوبه لكي يظهر أمام المعشوق في أبهى صورة ، والمجاز قنطرة الحقيقة ، فقد يتوصل من هذا العشق الأرضي المجازى الفاني إلى العشق الإلهي الحقيقي الدائم الخالد يقول مولوى ( 1 / 56 ) : قال بعض الأفاضل : المجاز قنطرة الحقيقة ، روى عن عين القضاة الهمداني وفخر الدين العراقي

« 381 »
 
وأوحد الدين الكرماني أنهم كانوا يقيدون الطلاب بالجمال المقيد حتى يندرج بعشق ربه ويفنى ، كالفرس يعلمونها لركوب السلطان ، ولكن بمقتضى الحديث النبوي : « من عشق فعف ثم مات ، مات شهيداً » .
 
( 112 - 118 ) : ما دام الحديث عن العشق فإن مولانا يسترسل ، لكنه ينبهنا من البداية : إن العشق غير الحديث عن العشق ، العشق تجربة ذوقية لا يعبر عنها بيان ، فأي بيان في الحقيقة تدرك منه العشق ان لم تكن عاشقا بالفعل ، العشق واضح دون لسان أو دون بيان بل إن اللسان يحجبه والبيان يحدده ( أنظر الترجمة العربية للكتاب الثالث ، الأبيات 4725 - 4731 وشروحها ) وفي ديوان شمس :
لا تسل أحدا عن العشق وسل العشق * فالعشق في حد ذاته هو شمس الروح يا بنى وهو ليس في حاجة إلى ترجمة الأنية * فالعشق في حد ذاته ترجمان يا بنى ( جعفري 1 / 109 ) والشطرة الثانية في البيت الأول في رواية أخرى :
العشق سحاب ناثرٌ للدر أي بنى ( كليات ديوان شمس غ 1097 ، ص 343 ) إن العقل كالقلم في شرحه للأنوار يسرع كما يسرع القلم عند الكتابة ، لكنه عندما يصل إلى العشق ينشق ويتوقف عن الكتابة ، ، وأغلب الشارحين هنا وقفوا على أن المراد أن معرفة الله سبحانه وتعالى لا تتم إلا بهداية ومنة . وعندما يكون العشق أظهر من الشمس ، هل يحتاج إلى دليل ؟ ! ! وهكذا تتوارد الخواطر عند مولانا : العشق ، ( والمحبة هي عين الشمس وكل العالم كآثار الأنوار حولها تستقى من المحبة معارف بهاء ص 104 ) . 
العشق ، الشمس ، شمس الدين التبريزي الدليل على وجود الشمس هو الشمس ، وأي دليل آخر يكون من فضول القول ، والمعنى ناظرٌ غلى قول المتنبي :وإذا استطال الشئ قام بنفسه * وصفات نور الشمس تذهب باطلا( جعفري 1 / 109 )
 
« 382 »
 
وفي دعاء الصباح " يا من دل على ذاته بذاته " وفي دعاء للإمام السجاد رضى اللّه عنه " بك عرفتك وأنت دللتني عليك ، ولولا أنت لم أدر ما أنت ( جعفري 1 / 110 ) وروى عن ذي النون المصري " عرفت ربى بربى ولولا ربى ما عرفت ربى " ( عن استعلامى 1 / 205 ) 
وقال الجنيد : العقل يحول حول الكون فإذا نظر إلى المكون ذاب " وسئل النوري : ما الدليل على الله ومحبته ؟ قال الله قبل : فما بال العقل : قال : عاجزٌ لا يدل إلا على عاجزٌ ( مولوى 1 / 59 - 60 ) والظل ( الألفاظ والاستدلال ) قد تعد دليلا على الشمس لكنها ليست الشمس بحال من الأحوال ، وهذا الظل لا يوحى لك إلا بالنوم ، تسمر في الظل وفي ضوء القمر ، تنغمس في الخرافات والأساطير ، ثم يغلب عليك النوم ، وتتميز الأعراض الطيبة من الأعراض الخبيثة ، وتظهر لك الأمور على حقيقتها .
 
( 119 - 122 ) : وهذه الشمس شمس الفلك هي التي تعتبرها أنت عظيمة كل هذه العظمة هي شمس آفلة في النهاية وإلى غروب ، لكن ثمة شمساً في داخلك أكثر أيضاً ونوراً وطهورا وثباتا ، كما قيل : أن شمس النهار تغرب بالليل وشمس القلوب ليست تغيب . وقال ابن الفارض :( فبدرى لم تألل وشمسي لم تغيب * وبي تهتدى كل الدراري المنيرة )( الأنقروى 4 / 492 ) ( وانظر الكتاب الرابع 2177 - 2187 وشروحها ) أليس من الممكن أن تعطى صورة ولو مصغرة لشمس الفلك رغم كونها وحيدة في بابها وتعد سيدة الكواكب ومصدر النور الأرضي ؟ ! ! لكن هذا القبس الإلهي الموجود داخلك لا يمكن لك تصويره ، انها مصدر ابداع شمس الفلك ومصدر ابداع الأثير ، انها خالدة لا تغنى ولا تغيب وفي كل مرحلة من مراحل الخلق تلقى بنورها .
 
( 123 - 127 ) : شمس الدين أي الروح لا يمكن الا تأتى إلى ذهن مولانا جلال الدين بذكر مراده شمس الدين التبريزي ، وهو روح وجوده وروح شعره ومصدر نوره ومنبع وحيه الشعرى ومثل عشقه المتمثل في صورة انسانية المظهر ربانية المخبر والباطن ، وعندما يحل ذكر شمس الدين فلا بد أن تتوارى شمس الفلك الرابع بالحجاب ، وعند ذكر شمس الدين يحتاج الوجد روح مولانا جلال الدين ، فكأن يعقوب عليه السّلام وجد قميص يوسف عليه السّلام وشم ريح يوسف فارتد بصيرا ، انفتحت عين الروح وزالت عنها أدران رؤية الكون فلم تعد تبصر إلا النور الإلهي والا الحقيقة المجردة ،
 
« 383 »
 
هذا النفس . . هذا الحال قد أمسك بتلابيب الروح ، قائلًا : ما دام ذكر شمس الدين قد ورد ، فهلا بحق صحبة السنين ورفقة العمر ، حدثتنا بشئ من أسراره ، وقدمت الينا فيضا من إنعامه وزدتنا معرفة به ؟ ! ! وذلك حتى تستمد أرض النفس وسماء القلب وتزيد لنا في قوة العقل وقوة الروح ! ! وفي رأى أن السائل هو حسن حسام الدين ! ! 
 
( 128 - 131 ) : بالله عليك لا تضع هذا التكليف على كاهلي ، فأية قدرة لي على الثناء وأنا في هذا الفناء في المعشوق ، وفي مقالات شمس ( ص 679 ) بالعربية قال طالب : يا مطلوب لا تكلفنى بشئ فانى أعبدك يأضعاف ما تكلفنى من عشق نفسي ، فإن التكليف وحشة وثقيل ، قال المطلوب : قليل من التكليف وتحمله خير لك من ألف ألف عبادة بغير تكليف ، ودرهم تعطيه مع طلب المطلوب خير من ألف درهم من تلقاء نفسك ، وما قدروا الله حق قدره " . . . ومن هنا ففي الفناء وفي غيبة السكر بالمحبوب ، كيف يتكلف ثناءً أو يبدي وجوداً وكبرياء ، إن كل ما يقوله من هو في هذا الحال من قبيل ما لا يليق ، فأي حديث هذا وأنا غائب الفكر كليل اللب معقود اللسان ؟ ! ! وما ذا يمكن أن أقول وليس في عرق واحدٌ في صحو ، في الحديث عن هذا المحبوب الذي لا حبيب له سوى الملأ الأعلى ؟ ! ! 
 
إن الثناء يتطلب أن أكون موجوداً ، وفي حال العشق لا ثناء ( لا تعبير في حال العشق ) فان أثبت وجودي وهو متجل امامي ، فهذه ثنوية وشرك ( أنت نفسك حجاب يا حافظ فارفع وجودك من بيننا - حافظ الشيرازي ) . فقل إذن كما كان الرسول صلى اللّه عليه وسلّم يقول : لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ( أحاديث مثنوى / 2 ) وأي رمز أحدثك به عن شمس الدين ؟ ! أحدثك عن الهجران وعن المشقة وعن العذاب الذي تحملته ، في هذا الفراق ؟ ! ! 
 
ألا فلتترك الحديث عن هذه الأمور ! ! ( 132 - 134 ) : الضمير في قال هنا في رأى عائدٌ على حسن حسام الدين ( مولوى 1 / 64 ) :
والطعام المطلوب هنا هو فيض العشق الذي يفيض عندما يكون الحديث عن شمس الدين التبريزي ، وعجل فخير البر عاجله ، واهتبل الوقت والحال الذي أنت فيه ، فالوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك ، والصوفي هو ابن وقته والفوت عنده أشد من الموت ، وأنت يا جلال الدين : ألست في النهاية تحافظ على هذه القاعدة الموجودة عند الصوفية من أن فوات الوقت ( الحال الطارىء الذي

« 384 »
 
يؤدى إلى تغيير باطن ويقطع الصوفي عن العلائق ) . والموجود يتحول إلى عدم إذا أوكلته إلى النسيئة وإلى التسويف ، هذا الكلام من المفروض أنه موجه من حسن حسام الدين إلى مولانا جلال الدين في رأى ، وفي رأى آخر - وهو الأرجح - من النَفس الذي أمسك بتلابيب مولانا ، والصوفي عند مولانا نفسه ليس ابناً للوقت ولا لغيره ( أنظر الترجمة العربية للكتاب الثالث الأبيات 1427 - 1429 وشروحها والكتاب السادس ، العنوان المطول قبل البيت 2723 ) والبيت أيضاً ناظرٌ إلى بيت منسوب إلى الإمام على رضى اللّه عنهما فات قضى وما سيأتيك فأين * قم فاغتنم الفرصة بين العدمين( عن جعفري 1 / 115 ) ولابن الفارض :وكن صادقا كالوقت في كل ما عسى * وإياك علّ فهي أخطر من عسى( عن الأنقروى 1 / 77 ) 
 
( 135 - 143 ) : قلت لسائلى : ليس قول ما تريد من معان عالية وأسرار باطنية بالامر السهل ، فقد تضيع فيها الرؤوس وقد تؤدى إلى ما لا يحمد عقباه ، ومن الأفضل أن يأتي ذكر الحبيب تلميحاً في خلال حديث أو سمر أو حكاية ، وأسرار الأحبة أفضل لها أن تذكر عند الحديث عن أمور الآخرين ، قال السائل :فبح باسم من أهوى ودعني عن الكنى * فلا خير في اللذات من دونها سترإنك امرء لا بخل عندك ولا خيانة ، ولديك الكثير من الفضل ، ولا يجمل بك هذا البخل وهذا المنع ، وأية متعة تكون في أن يتمتع المرء بوصال محبوبه وبينهما أستار ، 
 
يقول مولانا في ديوان شمس :
من الأفضل أن أكون معك عاريا أخلع ثوب * حتى يكون جوار لطفك قباء لروحى ( عن استعلامى 1 / 207 ) ويرد مولانا : حذار ، فإنه أي المحبوب أوسر المحبوب لو ظهر عيانا ، فإنه لا يبقى منك اثر تستطيع به أن تعانق هذا المحبوب أو تضع يدك حول خاصرته :
 
« 385 »
 
انك عاشق للحق وعندما يتجلى الحق * فإنه لا يبقى منك شعرة واحدة ( البيت رقم 4624 من الكتاب الثالث ) وإن الشمس الحقيقية - أو هذه الشمس المادية لتنير العالم ، لكن على البعد فإنها لو اقتربت لا حرقت العالم بأجمعه ، وإذا كان جبريل لم يتحمل القرب ليلة المعراج إلا بقدر رتبته - وعند حده وقف وقال للرسول صلى اللّه عليه وسلّم : لو دنوت أنملة لاحترقت ، فأي حديث لك عن شمس الدين ، كفانا فتنة وسفك دماء ( أنظر مقدمة الكتاب الذي بين أيدينا ) أليس يكفى ما حدث عندما ظهر شمس الدين في قوينه ؟ ! وكيف أبدا الحديث عن موضوع لا نهاية له ؟ ! أنه من الأفضل لنا أن نعود إلى حكايتنا .
( العودة إلى الحكاية عند الخروج منها هي وسيلة مولانا في كل أجزاء المثنوى إلى منع نفسه من الاسترسال في الحديث عن أسرار يرى أن البوح بها في غير المصلحة ) .
 
( 150 - 156 ) : طريقة العلاج الروحي التي يقوم بها الطبيب الإلهي هي نفسها ما يعتمد عليه الطب النفسي المعاصر من جعل البوح بماضى المريض وسيلة يستطيع الطبيب من خلالها ان يكتشف بعض ما يقلق مريضه وقد يكون السبب في مرضه ، ويشبه مولانا هذا الهم الذي يمض مريضه بأنه ( شوكة في القلب ) ويقارن بينهما وبين شوكة القدم : مرض الجسد ذي السبب الظاهر ، أنه يضع قدمه على ركبتيه ويفتش ، ويبلل موضع الألم بريقه علّ الشوكة تظهر له فأين شوكة القدم من شوكة القلب ، ولو كان كل خسيس سيتطيع أن يدرك أمراض القلوب ويفهمها ، فأية حاجة لنا بأطباء القلوب المرشدين ؟ ! ان من يكون غير ذي دراية بهذا الفن ، سوف يصبح مثل حمار وضعت شوكة تحت ذيله ، انه لا يستطيع استخراجها ، ومحاولاته في استخراجها لا تزيدها إلا انغراسا في لحمه وتسبب له عذابا فوق عذاب ، والمعنى ورد في معارف بهاء ولد : وشبهت النفس بالحمار والشيطان هو الذي وضع الشوكة تحت الذيل . ( ص 356 ) . بل ينبغي ان يكون هناك عاقلٌ يستخرج منه هذه الشوكة .
( 167 ) : بيات الهامش تفسر النص أكثر .
( 175 ) : المضمون هنا مأخوذ عن قول مأثور منسوب إلى علي رضي الله عنه وإلى كثيرين من كبار الصوفية : صدور الأحرار أو قلوب الأحرار قبور الأسرار . وهناك أيضاً قول للإمام على رضى اللّه عنه
 
« 386 »
 
« صدر العاقل صندوق لسره » ( نهج البلاغة - ترجمة جعفر شهيدى ، ص 3 ، تهران 1371 ، يذكر بعد ذلك نهج البلاغة - شهيدى ) .
( 176 ) : المضمون هنا مقتبس من الحديث النبوي الشريف « استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان فان كلّ ذي نعمة محسود » وهناك حديث آخر « من كتم سره . . ملك أمره » ( مولوى 1 / 74 ) .
 
( 177 ) : رد فروزانفر شرح / 106 ) المعنى في هذا البيت إلى حديقة سنائى ( انظر البيتين 7321 - 7322 من الترجمة العربية للحديقة ) .
 
( 180 - 181 ) : الوعود صنفان : وعودٌ حقيقة يستريح إليها القلب ، ووعود مجازية وغير حقيقية وهي وإن هدأت القلب إلا أنه لا نفع فيها ولا جدوى منها ، والصنف الأول وعود أهل الكرم فهي خزانة جارية من الفتوحات التي لا تنقطع ، فوعد الشيخ حقيقة وليس مجرد بشرى هو حقيقة واقعة بالقوة وان لم تقع بالفعل ، والصنف الثاني تعب مستمر وألم جار .ولا خير في وعد إذا كان كاذبا * ولا خير في قول إذا لم يكن فعل( 182 ) : من هنا تبدأ لا منطقية الحدث في هذه الحكاية وعدم اقناعه ، والواقع أن الحكاية التي اعتمد عليها مولانا تقف عند عملية اكتشاف المرض ولا تخبرنا بالعلاج ، وأي قارئ لا بد وأن يسأل نفسه : ما ذنب الصائغ السمرقندي في أن تحبه الجارية ، وأما كان من الأوفق للملك أن يتصرف كما تصرف ملك آخر في موقف مشابه في احدى حكايات مولانا جلال الدين الواردة في نهاية الكتاب الخامس عندما منح الملك جارية للقائد الذي أحبته وسما عن شهوات حبه ؟ ! ! 
( نفس السؤال سأله كاتب إيراني معاصر هو رسول برويزى في مجموعة لولى سرمست ، أنظر بحثنا بالفارسية : سيرى در داستانهاى رسول برويزى ، المنشور في مجلة كلية الآداب - جامعة القاهرة - العدد 59 سنة 1993 ) وتظل هذه السمة من عدم الاقناع وقفا على هذه الحكاية الوحيدة من حكايات المثنوى .
 
( 188 - 195 ) : المدخل إلى الصائغ واستدراجه إلى الملك وإلى حتفه من شقين : الشق الأول هو مدح مهارة الصائغ في صنعته وعلمه ، والثاني : المال الذي قدم له والذي ظن أنه لا محالة

« 387 »
 
واصلٌ إليه ، وهما فخان ندر أن ينجو منهما انسان ، فالصائغ لم يسأل نفسه كيف وصل صيته إلى الملك وهو مغمورٌ في مدينته ، وبالتالي لم يسأل نفسه على أي أساس سوف يستحق كل هذا الذهب وكل هذا المال من الملك ! ! ومن ثم سعى إلى حتفه بظلفه ، وحفر بنفسه قبره . والمضمون يوحى بقول للإمام على رضى اللّه عنه : رب ساع فيما يضره ، وبعبارة : يقدر المقدرون والقضاء يضحك ، كما يمكن أن توحي بهذا : المضمون .وكم من اكلة منعت أخاها * بلذة ساعة أكلات دهر
وكم من طالب يسعى لشئ * وفيه هلاكه لو كان يدرى( أحاديث مثنوى 3 ) 
 
( 199 ) : جزء آخر من لا منطقية الحدث في القصة ، فكيف يسلم الملك معشوقته التي يعاني من حرمانه منها لمرضها كل هذه المعاناة إلى عاشقها السابق لتشفى بوصاله ، ثم تعود إليه ؟ ! ! على كل حال ينبغي أن ننحى منطقنا المعاصر جانبا كما سيوصينا جلال الدين فيما بعد .
 
( 206 - 207 ) : العشق من أجل اللون ومن أجل الأصباغ ومن أجل الجمال الوقتى عاقبته العار ونهايته الفناء ، وهو غير العشق الخالد الذي يضيف إلى كيانك ووجودك في كل لحظة علما جديداً وآفاقاً جديدة ، دعك من صبعة الدنيا وفتات الجمال ، فكل جمال في الدنيا إنما صار جميلًا لأنه نال قدراً يسيراً من فتات الجمال الخالد ومعدن الجمال ( عن جرعة الجمال الإلهى انظر الكتاب الخامس ، الأبيات 372 - 379 وشروحها وعن أفول الجمال الدنيوي ، انظر الكتاب الرابع الأبيات 1545 - 1615 وشروحها ) وليت هذا القبح الذي حاق بالصائغ قد حاق به من البداية ، إذن لشفيت الجارية منه قبل أن تصل إلى الملك وقبل أن يحيق به سوء القضاء ( مولوى 1 / 78 ) وعند استعلامى : ليت حبها كان على هذا النسق من البداية ، إذ كان حبها يبدو قويا روحانيا فإذا به تعلق جسدي ( 1 / 210 ) .
 
( 208 - 212 ) : يظل الصائغ على غروروه ، وهاهو يرثى نفسه ، لقد قتل لأنه كان جميلًا فقد كان وجهه عدوا لروحه . ورب جميلات يصبح جمالهن وبالا عليهن لأنهن لم يجمعن إلى جمال الوجه والجسد جمال الروح والخلق ، والصائغ لا يرى إلا ما هو جسدي فيه ، ولا يتذكر في نفسه
 
« 388 »
 
إلا جماله الذي أورده موارد الهلاك . فالمخلوقات الجميلة يوردها جمالها موارد الهلاك ، الطاووس يورده جناحه موارد الهلاك ( في الكتاب الخامس حكاية عن طاووس أخذ يقلع جناحه ، انظر الأبيات 537 - 557 وشروحها ) والغزال تورده نافجته موارد الهلاك والثعلب يصاد من أجل فرائه ، والفيل يقتل من أجل سنه ، وهكذا فكمال الدنيا نقص وعطاياها هلاك .
 
( 213 - 216 ) : لا يزال الصائغ في غروره وتوعده : لقد قتل بريئا ولم يكن قد أذنب ذنبا واحدا ، لكنه قتل من أجل من هم دونه ، فهل يقصد الملك أو الجارية أو الحكيم ؟ ! ! ويتوعد قاتله بأن دمه لن يضيع هدرا ، فاليوم له ، والغد عليه ، والفعل شمس ظاهرة ورد الفعل ظل ، والفعل نداء في الجبل ورد الفعل هو ذلك الصدى الذي يرتد من هذا الصوت ( إفعل ما شئت فكما تدين تدان ) .
وللسلطة نهاية وللقدرة نهاية .
 
( 218 - 222 ) : ما إن مات الصائغ حتى شفيت الجارية من حبه ، وإذا كانت حقيقة قد عانت كل هذا المرض الشديد لفراقه ، فكيف لا يضنيها مرضه وذوبانه أمامها ، وكيف لا يحطمها موته تحطيما ؟ ! ! على كل حال ، هكذا تدور الحكاية ويعود مولانا إلى التفرقة بين نوعين من العشق :
عشق الأموات ( انظر شرح 206 - 207 من الكتاب الذي بين أيدينا ) وعشق الحي الذي لا يموت ، والذي يتجدد دائما ، فكأن العاشق شرب من ماء الحياة الذي يتجدد به وجوده ويزداد نضرة في كل لحظة . ووجد الأنبياء من هذا الحب العظمة والحشمة والعطاء المتجدد ، ولا تقل إن الأمر خاص بالأنبياء ، وأن كل امرئ إنما يعشق بقدر همته ، فالكريم كريم مع كل خلقه ، وما دام الاستعداد موجوداً فإنه لا يهب أحدا ما لا يهبه لآخر ، ويرى فروزانفر ( شرح ص 115 - 116 ) أن البيت 222 يحتوى على إجابة لأحد العارفين على ما قال به المتكلمون بأن العشق الإلهى أمر غير ممكن ، لكن الصوفية يرون أن العشق هو العشق لله فحسب فهو أقوى صلة بين العبد وربه ، وأن الله يقبل عشق عبده ولا يؤيسه ولا يرده - بكرمه - عن بابه .
 
( 223 - 228 ) : يناقش مولانا قضية قتل الملك للصائغ من وجهة النظر الصوفية ، ويرى أن قاتله هو الحكيم وليس الملك ، على كل ففي القانون المحرض أكثر مسؤولية من المنفذ - ويقيس مولانا بقصة سيدنا الخضر وقتله للغلام وخرقه للسفينة : والخضر يتكرر ذكره كثيراً في كتب
 
« 389 »
 
الصوفية ، كمرشد للأنبياء والذي أوتى العلم اللدني بنص القرآن ، وهو شارب ماء الحياة ، ولذلك لا يموت أبدا ، وكثيرٌ من الصوفية الأولياء لهم روايات عن لقاءات معه في البادية ، حيث يظهر فيدل التائه في البيداء على الطريق ، وكل مكان يمر به الخضر يخضر ، وفي رفقته لموسى عليه السّلام ميدان اشتق منه الصوفية كثيراً من معانيهم وأفكارهم ، ومن أهمها الصبر على أمر المشايخ مهما كان مراً . . . فموسى عليه السّلام نفسه لم يستطع معه صبراً ، فقتل الصائغ على يد الحكيم مثل قتل الغلام على يد الخضر ، كلاهما بأمر الله ، كلاهما من وحى الله ، وأمر الله لا يكون إلا صوابا . . . ثم يقدم مولانا تبريرات توقعنا في إشكال آخر هو ان الحكيم الإلهي يهب الروح الخالدة المنورة بالعشق والثابتة بالعشق فمن حقه أن يقتل ( في المثنوى حكاية أخرى تسبب فيها أبو يزيد البسطامي في مقتل عدد من مريديه ، انظر الكتاب الرابع الأبيات 2125 - 2134 وشروحها ) وللولاية ما للنبوة من مزايا ، لقد أسلم إسماعيل رأسه للذبح ولم يعترض .
 
( 229 - 248 ) : إن أرواح قتلى العشق تتصل مباشرة بالخالق سبحانه وتعالى وبذلك تنال الخلود ، وفي حديث قدسي يتكرر عند الصوفية « من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته » ( انظر أحاديث مثنوى / ص 134 ، وانظر الكتاب الرابع ، الأبيات 2122 - 2130 وشروحها ويوسف بن أحمد المولوي 4 / 398 ) . . . 
وحكايات العشاق الذين ضحوا بالروح رخيصة من أجل الحبيب تملأ كتب التصوف ، ولا يرضى المحبوب بما هو دون بذل الروح و " لا خير في عشق بلا موت " وعند سنائى " العشاق يموتون ضاحكين عندما يأخذون كأس الموت من أيدي الحسان " ويحس مولانا بأن كل هذه الاحتجاجات قد لا تجدي فتيلا في تبرير موت الصائغ المسكين ، فيأمرنا بعدم الجدل وعدم إساءة الظن ، ألا ترى أن طريق التصوف كله قسوة على الجسد وقسوة على النفس وأعمالٌ أن قستها بمنطقك الدنيوي تكون أشبه بالجنون والعته ؟ ! فإذا كان الغنى في الترك والشبع في الجوع فلما ذا لا تكون الحياة في الموت ؟ ! ! 
أليس كل هذا من أن تصفى فضتك الخاصة ( روحك ) من الشوائب ( أدران البدن ووساوس النفس ) التي لحقت بها ؟ ! . . . 
وألا يصفى الذهب النضار في بوتقة النار ؟ ! ( عن العمارة في الخراب انظر الكتاب الرابع الأبيات 2341 - 2353 وشروحها ) . . .
 ألم يكن في خرق الخضر للسفينة إنقاذا لها من الملك الظالم الذي كانيَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً
 
« 390 »
 
( الكهف / 71 - 79 ) وإذا كان موسى بنبوته قد حجب عن ذلك ، فما بالك تحاول التحليق إلى آفاق هذه المعاني العليا ولا جناح لك ؟ ! لما ذا تنظر إلى الأمر على أساس أن ملكاً قتل منافسا له في حب جارية اعتماداً على حوله وقوته وسيطرته ؟ ! إنه لم يكن ملكا ، بل كان وليا من خواص الله ، جاهد اذن في أن تفرق بين الورد الأحمر وبين الدم وإن اتفقا في اللون ، وجاهد في ألا تعتبر من امامك مجنونا بناء على حكم الظاهر ، وجنونه هذا إنما من فرط عقله ، انه يتظاهر بهذا الجنون عقلا منه " عقلاء المجانين طائفة من الصوفية تظهر الجنون احتماءً أو اتقاءاً تراه لو كان ملكا متعطشا إلى دماء المسلمين كنت مدحته ؟ ! 
وأنا اعلم تماما أنه إذا مدح الفاسق غضب الرب واهتز لذلك العرش ؟ ! ( استعلامى 1 / 213 ) كان يريد أن يخلص الجارية من عشق أرضى ويخلص الصائغ من عشق ارضى كان لطفا ذلك الذي يريده ويقصده ولم يكن قهرا . . . وألا تدرى أن كثيرا مما يفعله الله يبدو قهرا وهو لطف .
 ( وقد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ) ( تتردد هذه الفكرة كثيرا في المثنوى ويعبر بها مولانا بلفظ النعل المعكوس ، اى الجوء لقلب اتجاه النعل عند السير ( أنظر الكتاب الذي بين أيدينا البيت 2492 والكتاب الخامس ، البيت 416 ، والبيت 2754 ) 
وإذا كنت لا تتحمل النظر إلى الحكمة الإلهية فانظر إلى ما يجرى في الحياة حولك : الطفل يبكى من إبرة الحجام " أو يبكى من حقنة الطبيب " لكن الأم ضاحكة ، لما ذا ؟ ! لأنها تفهم أن في هذا الألم الذي يعانيه طفلا راحة له ، فإياك ان تقيس الأمور بقدر فهمك وإدراكك ، وإلا تجد نفسك قد سقطت بعيداً . . .
 .
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: