الخميس، 27 أغسطس 2020

11 - كل ما هو غفلة وكسل وظلمة كله من الجسد فهو أرضى وسفلى .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

11 - كل ما هو غفلة وكسل وظلمة كله من الجسد فهو أرضى وسفلى .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

كل ما هو غفلة وكسل وظلمة كله من الجسد فهو أرضى وسفلى .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثالث ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

بيان أن كل ما هو غفلة وكسل وظلمة كله من الجسد
فهو أرضى وسفلى
- إن الغفلة من الجسد ، وعندما يصير الجسد روحا ، فإنه يري الأسرار دون أدني بد .
- وعندما تغيب الأرض من جو الفلك ، فلا ليل ولا ظل ، سواء بالنسبة لي أو بالنسبة لك .
 
3570 - وحيثما يكون ظل أو موضع ظل ، فهو من الأرض لا من الأفلاك ولا من القمر .
- والدخان المتكاثف المتصل ، يكون من الحطب وليس من النيران المستعرة .
- والوهم يسقط في الأخطاء والغلط ، ولكن “ ميدان “ العقل هو الصواب فقط .
- وكل ثقل وكسل فهو من الجسد ، والروح من خفتها دائما في طيران .
- وأحمرار الوجه يكون من غلبة الدم ، واصفراره إنما يكون من تحرك الصفراء .
 
3575 - وبياض الوجه إنما يكون من غلبة البلغم ، ومن السوداء يكون الوجه أدهم .
- والحقيقة أنه سبحانه وتعالي خالق هذه الآثار ، لكن أهل الظاهر لا يرون سوي العلة .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 439 : وما يراه أهل القلوب مكتوبا علي جبينك ، متي تراه أنت في نفسك أيها الخجل ؟ !
 
“ 307 “
 
- واللب الذي لا يكون بعيدا عن القشور ، لابد له من “ الإيمان “ بالطبيب وبالعلة .
- وعندما يولد المرء للمرة الثانية ، فإنه يضع قدمه فوق مفرق العلل .
- فلا تكون العلة الأولي دينا له ، ولا تحقد عليه العلة الجزئية أو تعاديه .
 
3580 - فيطير كالشمس في الأفق مع عروس الصدق ، والصورة كالحجاب بالنسبة له .
- بل إنه خارج الأفق والأفلاك ، يكون بلا مكان كالأرواح والنهي .
- بل تكون عقولنا ظلالا بالنسبة له ، تسقط كالظلال تحت أقدامه .
- وعندما يكون المجتهد عالما بالنص ، فإنه في تلك الحالة لا يفكر في القياس .
- وعندما لا يجد نصا بالنسبة لصورة ما ، فإنه آنذاك يبدي من القياس عبرة .تشبيه النص والقياس
 
3585 - اعلم أن النص هو وحي الروح القدسي يقينا ، وأن قياس العقل الجزئي ذاك أدني منه .
- فالعقل صار من الروح ذا إدراك وعظمة ، فمتي تصير الروح تحت إشرافه ؟
- إن الروح ذات تأثير علي العقل ، ومن ذلك التأثير يدبر العقل “ في الأمور “ .
- فإن صدقتك الروح في داخلك كنوح ، فأين أليم والسفينة وأين طوفان نوح ؟
- والعقل يظن أن أثر الروح هو الروح ، في حين أن قرص الشمس بعيد جدا عن الشمس .
 
“ 308 “ 
 
3590 - ومن هنا فقد قنع السالك بقرص واحد من الخبز ، حتى ألقي به النور ساميا به إلي قرص الشمس .
- وذلك لأن هذا النور الموجود في الأسافل ، ليس دائما ليل نهار بل هو افل .
- وذلك الذي له قرص الشمس مسكن ومكان ، يكون غارقا في ذلك النور دائما .
- فلا السحاب يقطع الطريق عليه ولا الغروب ، لقد نجا من الفراق الذي يسبب الدق علي الصدور .
- ومثل هذا الشخص أصله من الأفلاك ، وإن كان من التراب فقد تبدل .
 
3595 - فلا قدرة للمخلوق من تراب علي أن يشرق عليه شعاع شمس “ الحقيقة “ علي الدوام .
- ولو كان نور الشمس يشرق علي التراب دائما ، لاحترق بحيث لا يتأتي منه ثمر .
- ودائما ما يكون عيش السمك في الماء ، فمتي تكون للحية رفقة معه ؟
- لكن الحية في الجبل ذات فنون ، وتقوم في ذلك الجبل بما يقوم به السمك في الماء .
- وإذا كان مكرها يفتن الخلق ، يظل نفورها من البحر فاضحا إياها .
 
3600 - وفي هذا اليم تكون الأسماك ذوات فنون كثيرة ، بحيث تحول الحية من سحرها إلي سمكة . “ 1 “ 
- وحيتان قاع بحر ذي الجلال ، قد علمها البحر السحر الحلال .
- وقد صار المحال من قدرتها حالا ، لقد ذهب إليها شؤما فصار حسن الفأل . “ 2 “
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 447 : فإن كنت حية كن قرينا للأسماك ، حتى تصبح في سير دائم كالأسماك .
( 2 ) ج / 8 - 447 - 448 : - لقد مضي السم إلي هناك وصار شهدا يقينا ، ومضي الحجر إلي هناك وصار درا ثمينا - وصار التراب ذهبا والحصي درا والقدم رأسا ، ولا تري عين البشر .
 
“ 309 “
  
- وإن حدثتك حتى القيامة هذا الحديث ، فإنما تمضي مائة قيامة ويظل ناقصا .
 
آداب المستمعين والمريدين عند فيض الحكمة
من لسان الشيخ
 
- إن تكرار هذا الكلام علي “ أسماع “ الحزاني ، هو بالنسبة لي اكتساب عمر متجدد .
 
3605 - وضوء الشمعة أفضل من البرق المتكرر ، والتراب من الحرارة المتوالية يصير ذهبا .
- وإن كان هناك آلاف الطلاب وأحدهم ملول ، لتعطل الرسول عن أداء الرسالة .
- فهؤلاء الرسل هم المتحدثون بضمير السر ، ويريدون مستمعا له طبع إسرافيل .
- وعندهم قوة الملوك وكبرياؤهم ويريدون من أهل الدنيا إطاعة والتوقير .
- وما دمت لا تقدر ادابهم حق قدرها ، فكيف تستفيد من رسالاتهم ؟
 
3610 - ومتي يوصلون تلك الأمانة إليك ، ما لم تكن راكعا أمامهم ومنحنيا ؟
- ولماذا يكون كل أدب من أدبهم مقبولا مستحسنا ؟ هذا لأنهم قد جاءوا من الإيوان العالي .
- وليسوا بالشحاذين ، يمنون عليك كل خدمة يؤدونها لك أيها المزور !
- لكن ، حتى علي من لا رغبة لديهم أيها الضمير ، انثر صدقة السلطان ولا تحبسها عنهم .
- ويا رسول السماء انطلق بجوادك عاديا ، ولا تلق بالا إلي هؤلاء الملولين في الدنيا .
 
“ 310 “ 
 
3615 - وسعيد ذلك التركي الذي يسعر الوغي ، ويقفز جواده في خندق النار .
- ويجعل جواده منطلقا “ هائجا “ متحمسا ، بحيث يتجه به إلي عنان السماء .
- وقد أغمض عينيه عن الغير “ والغيرية “ ، وأحرق الأخضر واليابس كأنه النار .
- وإن عاب عليه نادم وعذله ، فإنه قد أضرم النار في الندم منذ البداية .
- والندم نفسه لا ينجو من العدم ، عندما يتعرض لحرارة صاحب قدم .
 
معرفة كل حيوان لرائحة عدوه وحذره منه وبطالة ذلك الشخص
وخسارته ذلك الذي يكون عدوا لأحد لا يمكن الحذر منه
ولا الفرار ولا اللقاء معه
 
3620 - إن الجواد يعرف زئير الأسد ورائحته ، هذا بالرغم من أنه حيوان إلا فيما ندر .
- بل إن كل حيوان يعرف عدوه ، “ يعرفه “ من رائحته أو من الآثار “ التي يتركها خلفه “ .
- وفي النهار لا يجرؤ الخفاش علي الطيران ، فيخرج ليلا كاللصوص يلتمس قوته .
- فهو أكثر حرمانا من كل المخلوقات ذلك الخفاش ، وذلك لأنه عدو للشمس “ الساطعة “ المنتشرة .
- فلا هو يستطيع أن يطعنها في قتال ، ولا يستطيع أن يجعلها مكروهة بلعناته .
 
“ 311 “
 
3625 - وأين هي الشمس التي تتواري بالحجاب ، من جراء حزن الخفاش أو غضبه .
- فهي في غاية اللطف والكمال ، ومتي يصير مجرد “ خفاش “ واقفا في طريقها ؟
- فإذا عاديت ، عاد علي قدر طاقتك ، حتى يكون ممكنا أن تتغلب علي عدوك .
- وعندما تتحدي قطرة الماء المحيط ، فهي بلهاء تقتلع لحيتها عبثا .
- وحيلتها هذه لا تجاوز شواربها ، وكيف تمزق دائرة حجرة الشمس ؟ .
 
3630 - وهذا هو ملامي لعدو الشمس يا عدو شمس الشمس .
- يا عدو الشمس التي من عظمتها ، ترتعد الشمس “ ويرتعد معها “ كل كوكبها .
- وأنت لست عدوا لها بل عدو لنفسك ، وأي بأس علي النار إن صرت حطبا لها ؟
- فواعجباه إن أصابتها قلة من احتراقك ، أو إن امتلأت غماً من ألم احتراقك .
- إن رحمته سبحانه وتعالي مختلفة عن رحمة الإنسان فإن رحمة الإنسان غالبا ما تكون ممتزجة بالشفقة .
 
3635 - فرحمة المخلوق تكون ممتزجة بالشفقة إذن ، ورحمة الخالق مبرأة من الغم والحزن .
- فأعلم أيها الأب أن رحمة من لا مثيل له هي هكذا ، ولا يمكن أن تتصور إلا أثارها ! !
 
“ 312 “
 
الفرق بين معرفة الشئ بالمثال والتقليد ومعرفة ماهية هذا الشئ
- إن اثار رحمته وثمارها ظاهرة ، لكن متي يعرف - غيره سبحانه - ماهيتها .
- ولا يعرف أحد مطلقا ماهيات أوصاف الكمال اللهم إلا بالآثار والمثال .
- إن الطفل لا يعرف ماهية الجماع ، إلا أن تقول له : إنه كالحلوي بالنسبة لك .
 
3640 - ومتي تكون ماهية لذة الجماع مثل الحلوي أيها السيد المطاع ؟
- لكن ذلك العاقل مثل لك المتعة ما دمت كالطفل - وذلك حتى يعرفها الطفل بالمثال ، إن لم يعرف الماهية وعين الحال .
- إذن فإن قلت أعلم ، فالأمر ليس ببعيد ، وإن قلت : لا أعلم فقولك ليس كذبا وبهتانا .
- وإذا سألك أحد : هل تعرف “ نوحا “ ؟ رسول الحق ذلك ونور الروح .
 
3645 - فإذا قلت : كيف لا أعرفه وذاك القمر ، أكثر شهرة من الشمس والقمر .
- والأطفال الصغار في الكتاتيب ، وأولئك الأئمة جميعا في المحاريب .
- يقرأون أسمه عيانا في القرآن ، ويرددون سيرته بفصاحة من “ كتب “ الماضين .
- فأنت صادق إذ تعرفه من وصفه ، بالرغم من أن ماهية نوح لم تكشف لك .
- وإذا قلت : أي علم لي بنوح ، إنما يعرفه من هو مثله أيها الفتي .
 
3650 - إنني نملة عرجاء فأي علم لي بالفيل، ومتي “ يتأتي “ للبعوضة أن تعرف إسرافيل؟ .
- فهذا الكلام أيضا صدق . . لأنك لم تعرف ماهيته يا هذا .
 
“ 313 “
 
- والعجز عن إدراك الماهية يا عماه ، حالة العامي فلا تتحدث علي الإطلاق .
- وذلك أن الماهيات وأسرار أسرارها ، تكون أمام عيون الكاملين عيانا .
- فأي شئ أكثر بعدا عن الفهم والاستبصار ، من سر الحق وذاته ؟
 
3655 - وما دام “ هذا السر “ لا يخفي عمن أذن لهم ، فأي ذات وأي صفات تبقي في الخفاء ؟
- إن عقل البحث يقول : إن هذا أمر عميق بعيد “ الغور “ ، وهو بدون تأويل محال فقلل الاستماع إليه .
- فيرد القطب قائلا : يا واهن الحال ، أهناك محال يأتيك فوق حالك ؟
- والواقعات التي كشفت لك الآن ، ألم تكن تبدو لك في البداية محالا ؟
- وما دام الحق قد حررك من السجون العشرة ، فلا تجعل التيه حبسا ظالما لك “ 1 “ .


الجمع والتوفيق بين النفي والإثبات لشئ واحد عن
طريق النسبة وإختلاف الجهة
 
3660 - إن نفي الشيء الواحد وإثباته في الوقت نفسه “ أمر جائز “ ، فعندما تختلف الوجهة تكون النسبة اثنتين .
- فاية “ ما رميت إذا رميت “ من وجهة نظر النسبة ، نفي وإثبات وكلاهما قائم .
- إنك قد رميت إذا إن الأمر قد تم علي يدك ، وأنت “ ما رميت “ إذ إن القوة من الله سبحانه وتعالي .
.....................................................................
( 1 ) ج / 8 - 466 : وما دمت قد وجدت الخلاص من مائة بلاء مر ، فلا تجعل الفقر عليك عناء ونصبا 
- وخذه هونا حتى لا يصير بالنسبة لك مشكلة صار السكر سما قاتلا لك فامض نحو بحثك يا أبا الحسن يكفي لهذا الكلام نهاية يا عزيزي .
 
“ 314 “
  
- وقوة الآدمي ذات حدود ، ومتي كان لقبضة تراب هزيمة جيش ؟
- إن القبضة قبضتك والرمي منا ، ومن هنا يجوز إثباتها ويجوز نفيها .
 
3665 - يعرفون الأنبياء أضدادهم ، مثلما لا يشتبه أولادهم “ 1 “ .
- “ نعم “ ، إنهم يعرفونهم كما يعرفون أبناءهم ، يعرفهم أولئك المنكرون بمائة دليل ومائة علامة .
- لكنهم يخفون هذه المعرفة حقدا وحسدا ، ويتظاهرون بأنهم لا يعرفون .
- وما دام يعرف هذا الأمر ، كيف قيل في موضع اخر : لا يعرفهم غيري فذر الحديث “ عنهم “ جانبا .
- إنهم تحت قبابي كامنون ، لا يعرفهم إلا اللَّه سبحانه وتعالي وعن تجربة وامتحان .
 
3670 - فافترض هذا الموضوع أيضا علي سبيل النسبة ، كما “ تفترض “ أنك تعرف نوحا ولا تعرفه “ 2 “ .
 
مسألة فناء الدرويش وبقائه
 
- قال قائل : ليس في الدنيا درويش ، وإن كان ثم درويش فليس بدرويش .
- فهو “ باق “ من ناحية بقاء ذاته ، لكنه أفني صفاته في صفات الحق .
- مثل شعلة الشمعة أمام الشمس ، تكون فانية لكنها موجودة في الحساب .
- وتكون ذاتها موجودة بحيث إنك عندما تضع قطعة من القطن “ عليها “ تحترق من لهبها .
......................................................................
( 1 ) بالعربية في المتن .
( 2 ) ج / 8 - 472 : وكثير من أمثال هذا ورد في الخبر ، يمكن يا عزيزي أن يكون بالنسبة معتبرا .
 
" 315 " 
 
3675 - وتكون فانية فهي لا تمنحك ضياء ، إذ تكون الشمس قد أفنتها "في نورها " .
- وعندما تضع في مائتي “ من “ من الشهد أوقية واحدة من الخل وتذيبها فيها .
- لا تجد طعم الخل موجودا عندما تتذوق الشهد ، لكن هناك أوقية زائدة عندما تزن " الشهد " .
- وأمام أحد الأسود فقد أحد الغزلان الوعي، وصار وجوده محجوبا أمام وجود "الأسد  ".
- وهذا هو قياس الناقصين في أمر الرب ، إنه يشبه غليان العشق وليس من ترك الأدب .
 
3680 - إن نبض العاشق ليقفز متزايدا بلا أدب ، فيضع نفسه في كفة واحدة مع المليك .
- فليس هناك من هو أقل أدبا منه في العالم ، لكن ليس في الحقيقة من هو أكثر منه تأدبا .
- فاعتبر هذين الضدين : مؤدب أو بلا أدب علي سبيل النسبة أيضا أيها المنتجب .
- إنه بلا أدب عندما تنظر نظرة ظاهرية ، فدعوي العشق عنده مطامنة “ لمن لا يطامن “ ! !
- وعندما تنظر نظرة الباطن فأين الدعوى : إنه ودعواه فانيان أمام ذلك المليك ! !
 
3685 - وفي عبارة “ مات زيد “ إذا كان زيد فاعلا ، إنه ليس بالفاعل إنه مجرد عاطل ! !
- إنه حقيقة - من الناحية النحوية - فاعل ، وإلا فهو “ في الحقيقة “ مفعول به والموت قاتله .
- فأي فاعل هذا الذي صار مهزوما هكذا ، بحيث انتفت عنه كل الأفعال
“ 316 “ 
[ قصة وكيل صدر جهان ]
 
قصة وكيل صدر جهان الذي أتهم وهرب من بخارى خوفا على حياته ،
ثم جذبه عشقه مسحوبا على وجهه ذلك أن أمر الروح
يهون على العاشقين
 
- في بخاري اتهم عبد لصدر جهان ، فاختفي بعيدا عن أنظار “ صدره “ هذا .
- وساح شريدا طيلة عشر سنوات ، حينا في خراسان وحينا في قوهستان وحينا في رشت .
 
3690 - وبعد هذه السنوات العشر صار مهدودا من الاشتياق ومن مكابدة أيام الفراق .
- فقال : لم يتبق لي طاقة علي بعد ، وكيف يستطيع الصبر أن يطفئ “ لواعج “ الاستئصال .
- فمن الفراق يسرع الخراب نحو هذه الأراضي ، ويصفر الماء ويصيد أسنا كدرا .
- والريح التي تنعش الأرواح تصير وخمة رتتحول إلي وباء ، والنار تصير ترابا ثم هباء .
- والحديقة التي تشبه الجنة تصير دار مرض ، تصفر أوراقها وتتساقط نحو الهلاك .
 
3695 - والعقل الدراك يصير من فراق الأحبة ، كأنه رام بالسهم قد كسر قوسه .
- وقد صار الجحيم هكذا محرقا من الفراق ، وصار الشيخ مرتعدا هكذا من الفراق ! ! 
- وإن تحدثت عن الفراق الذي هو كالشرر حتى القيامة ، فإن ما أقوله لا يزيد علي جزء من مائة ألف جزء .
  
“ 317 “ 
 
- إذن فلتقصر القول في وصف حرقته ، وقل : يا رب سلم ، يا رب سلم ، فحسب .
- وكل ما تصير فرحا منه في الدنيا ، فكر في فراقه “ في لحظة الفرح به نفسها “ .
 
3700 - فرب شخص فرح مما فرحت به ، ثم تسرب من يديه وصار كالهباء .
- وهو لا محالة سوف يتسرب منك فلا تعلق القلب به ، وفر أنت منه قبل أن يفر هو منك .
 
ظهور الروح القدس في صورة إنسان لمريم عليها السلام
بينما كانت عارية تغتسل ولجوءها إلى الله تعالى
 
- ومثل مريم عليها السلام ، قل قبل فوت المِلْك “ إني أعوذ بالرحمن منك “ .
- رأت مريم وجودا صوريا شديد الفتنة منعشا للروح سالبا للقلب بينما كانت في خلوتها .
- انبثق أمامها ذلك الروح الأمين فوق الأرض ، وكأنه القمر “ في بهائه “ والشمس معا .
 
3705 - أنبثق من لأرض جميلا بلا نقاب ، مثلما تنبثق الشمس من المشرق .
- وارتعدت فرائص مريم ، فقد كانت عارية ، وخافت من الغواية .
- ذلك أنه قد ظهر في “ صورة “ لو شاهدها يوسف عيانا ، لقطع يديه كما فعلت النسوة .
- وكالوردة نبت أمامها من الطين ، ، مثل خيال يطل من القلب .
- فغابت مريم عن وعيها ، وفي إغمائها ، قالت : إنني أفر وألجأ إلي حمي الله .
  
“ 318 “
 
3710 - ذلك انها اعتادت ، طاهرة الذيل تلك ، أن تلقي أحمالها عند الفرار علي الغيب .
- وعندما رأت الدنيا ملكا بلا قرار ، اتخذت بحزم حصنا من تلك الحضرة .
- وحتى يكون لها حصن عند الموت ، وكي لا يجد الخصم طريقا إلي مقصده .
- لم تر حصنا أفضل من ملاذ الحق ، فاختارت مفرا لها بالقرب من ذلك الحصن .
- وعندما رأت تلك النظرات المحرقة للعقل ، والتي كانت تصيب بسهامها الأكباد .
 
3715 - بحيث صار الملك وجيشه عبيدا لها ، وسادة الوعي صاروا بلا وعي أمامها .
- ومئات الآلاف من الملوك سقطوا في رقها ، ومئات الآلاف من البدور أضناهم النحول .
- ولا جرأة لكوكب الزهرة علي التنفس أمامها ، وعندما يراها العقل الكلي يكف عن الحديث .
- وماذا أقول ؟ لقد سمرني في مكاني ، ومنبع أنفاسه أحرق منبع أنفاسي ! .
- وأنا دخان لهذه النار، وأنا دليل علي وجودها، لا : حاشاه هذا المليك، “ باطل “ ما عبروا!!.
 
3720 - فلا يكون دليلا علي الشمس ، إلا نور الشمس الشامل الممتد ! ! .
- فماذا يكون الظل حتى يكون عليه دليلا ؟ إنما يكفيه أن يكون له ذليلا ! !
 
“ 319 “
 
- وكفاه جلاله دليلا صادقا عليه ، وكل الإدراكات من بعده فهو سابق “ عليها “ .
- وكل الإدراكات “ تسعي “ علي حمر عرجاء ، وهو بمثابة الراكب علي الريح المنطلقة كالسهم .
- فإن فر لا يلحق أحد بغبار جواد المليك، وإن فروا هم فإنه يأخذ عليهم الطريق “من نهايته“.
 
3725 - وليس لكل الإدراكات راحة أو هجوع ، إنه أوان المعركة وليس وقت الكأس .
- فذاك عابد لوهم ، يطير كالبازي ، واخر كالسهم يمزق ما ينفذ منه .
- والثالث كسفينة ذات شراع ، والرابع يسير القهقري في كل لحظة .
- وعندما يبدو لها صيد علي البعد ، تزيد تلك الطيور كلها في هجومها .
- وعندما يختفي “ هذا الصيد “ تزداد حيرتها وتطير كالبوم نحو كل خرابة .
 
3730 - وتنتظر بعين مغمضة وعين مفتوحة ، حتى يظهر ذلك الصيد المشتهي .
- وعندما يطول الانتظار تقول من الحزن والملال : عجبا ؟ ! أكان هذا صيدا أو خيالا .
- وأولي بها ، ومما تقتضيه المصلحة ، أن تسترد “ هذه الطيور “ قوتها وقدرتها من ساعة راحة .
- فإذا لم يكن ثم ليل لأحرق كل الخلق أنفسهم سعيا ودأبا وحركة .
- ولأهلك كل إنسان بدنه هوسا ، وحرصا من أجل جمع ما يستطيع جمعه “ من منفعة “ .
 
“ 320 “
 
3735 - ويحل بهم الليل كأنه كنز الرحمة ، حتى يخلصهم من حرصهم ساعة من الزمان .
- وعندما يحل بك القبض أيها السالك فهو صلاح لك ، فلا تكن محترق القلب “ من هذا القبض “ .
- ذلك أنك من البسط تكون في حال سعة وإنفاق ، ولكي ينفق المرء لا بد وأن يكون له دخل .
- ولو كان فصل الصيف علي البستان سرمدا ، وسطعت عليه دائما حرارة الشمس .
- لأحرقت منابته من الجذور ، بحيث لا تخضر ثانية تلك “ الجذور “ القديمة .
 
3740 - وبالرغم من أن شهر “ ديماه “ عابس إلا أنه مشفق ، في حين أن الصيف ضاحك لكنه محرق .
- وعندما يحل بك القبض فانظر فيه إلي البسط ، وكن متهللا ولا تقطب الجبين .
- فالأطفال ضاحكون ، والعلماء عابسون ، مثلما يكون الكبد في حزن وتكون الرئة في سرور .
- وعين الطفل تكون كما تكون عين الحمار مركزه علي معلف ، وعين العاقل دائما متأملة في حساب العاقبة .
- فذاك يري العلف دسما في المعلف ، وهذا يري لنفسه اخر الأمر من القصاب التلف .
 
3745 - وإن ذلك العلف الذي يضعه القصاب مر ، لأنه وضع “ من البداية “ نيرانا للحمنا .
- فامض وخذ غذاءك من الحكمة ، فقد أعطاها الله بلا غرض ، من محض العطاء .
 
“ 321 “
 
- وعندما قال لك الحق أيها السالك “ كلوا من رزقه “ فهمت أن المقصود هو الخبز “ ولم تفهم “ أنه الحكمة .
- ورزق الحق هو الحكمة في المقام الأول ، ذلك لأنها لا تأخذ بحلقك في نهاية الأمر .
- فإن أغلقت هذا الفم “ الذي في الجسد “ ، لا نفتح لك ذلك الفم الذي يأكل لقيمات السر .
 
3750 - وإن فطمت جسدك عن لبن الشيطان ، فإنك تأكل كثيرا من النعم بعد هذا العظام .
- لقد شرحت هذا الأمر نصف شرح كما يغلي الترك اللحم نصف غلية ، فاستمع إلي تمامه من الحكيم الغزنوي .
- إن حكيم الغيب ذاك وفخر العارفين ، يشرح هذا الأمر في “ إلهي نامه “ .
- لتغتم لكل إياك وخبز الذين يزيدون لك الغم ، لأن العاقل يقتات علي الغم ، لكن الطفل هو الذي يأكل السكر .
- وسكر السرور هو ثمرة بستان الحزن ، فهذا الفرح جرح وذلك الغم مرهم .
 
3755 - وعندما تصادف الغم احتضنه بعشق ، وانظر من فوق الربوة إلي دمشق .
- والعاقل يري الخمر في العنب ، والعاشق يري في المعدوم وجوداً .
- فأول أمس ، كان الحمالون يتشاجرون وبعضهم يقول للبعض الآخر ، لا تحمل هذا الحمل حتى أحمله أنا كالأسد .
- ذلك لأنهم كانوا يرون في هذا التعب نفعا ، فكان كل منهم يختطف الحمل من الآخر .
 
“ 322 “
 
- وأين أجر الله من أجر ذلك الذي لا قيمة له ، إن الله يعطيك أجرك كنزا ، والآخر يعطيك جزءا من الدانق .
 
3760 - إنه كنز الذهب الذي يكون معك عندما ترقد تحت التراب ولا تتركه من بعدك ميراثا.
- إنه يتقدم جنازتك مسرعا ، ويصير مؤنسا لك في القبر والغربة .
- ومن أجل يوم موتك ، كن ميتا في التو واللحظة ، حتى تصير نديما للعشق السرمدي .
- وأثناء ذلك الصبر تري من حجاب الاجتهاد ، الوجه كزهر الرمان كما “ تري “ جديلتي المراد .
- والحزن هو بمثابة المرأة بالنسبة للمجتهد ، وإلي جوار الضد تتجلي “ سمات “ الضد .
 
3765 - فبعد ذلك التعب يبدو ضده الآخر ويسفر عن وجهه أي البسط والعظمة والأبهة .
- وانظر إلي هذين الوصفين في قبضة يدك ، فبعد قبض الكف يأتي البسط يقينا .
- والكف إن كانت منبسطة علي الدوام أو منقبضة علي الدوام فهي كالمبتلاة ولا جدال .
- ومن هذين الوصفين ينتظم عملها وكسبها ، هي كجناح الطائر هذان الحالان مهمان له ولا زمان .
- وعندما اضطربت مريم لحظة من الزمن ، مثلما تنتفض الأسماك عندما توضع علي الأرض .
 
“ 323 “

قول الروح القدس لمريم : أنا رسول الحق إليك فلا تضطربى
ولا تحتجبى عنى فهذا هو الأمر .
 
3770 - صاح بها مظهر الكرم ، إنني أمين الحضرة فلا تجفلي مني .
- ولا تعاندي المتكبرين بالعزة ، ولا تحتجبي عن أولئك الطيبين الذين أذن لهم بالسر .
- هكذا كان يقول ، وشعاع من النور الطاهر ينبعث من فمه في أثر بعضه إلي السماء .
- أتهر بين من وجودي إلي العدم ؟ وأنا في “ عالم “ العدم ملك وصاحب علم ؟
- إن أمري وكسبي كله من العدم ، لكن صورتي فحسب هي التي توجد أمام السيدة العظيمة .
 
3775 - فانظري يا مريم ، إنني في صورة شديدة الإشكال ، إنني هلال ، وفي القلب خيال .
- وما دام خيال قد حل في قلبك واستقر ، حيثما تهربين يظل “ هذا الخيال “ معك .
- الهم إلا الخيال العارض الباطل ، الذي يكون كأنه الصبح الكاذب .
- وأنا كالصبح الصادق من نور الرب ، بحيث لا يحوم ليل أبدا حول نهاري .
- فهيا يابنة عمران ، ولا تحوقلي من وجودي ، فإنني جئت إلي هذا المكان من المكان نفسه الذي تلجئين إليه .
 
3780 - إن الاستعاذة هي أصل من أصولي وغذاء لي ، ونورها موجود فيّ قبل أن تتفوهي بها .
 
“ 324 “
 
- إنك تفرين مني إلي الحق ، وأنا مخلوق من ذلك الملجأ فيما سبق .
- وأنا الملجأ والملاذ الذي يكون مخلصا لك ، إنك تطلبين الملاذ مني وأنا الملاذ .
- ولا آفة هناك أسوأ من أن يكون المرء غافلا ، أنت إلي جوار الحبيب لكنك لا تستطيعين إبداء العشق له .
- ولا زلت تظنين أن الحبيب من الأغيار ، وتسمين الفرح “ بلقائه “ ترحا .
 
3785 - وهذا النخل الذي هو مظهر من مظاهر لطف الحبيب ، إنما يتحول إلي مشنقة لنا إن كنا لصوصا .
- وهذا المضمخ بالمسك الذي هو جديلة أميرنا ، ما دمنا بلا عقل ، فهو قيد لنا .
- وهذا اللطف الذي يجري في صورة نيل ، ما دمنا فراعنة فهو يتحول إلي نهر من الدم بالنسبة لنا .
- ويقوم الدم : إنني ماء فلا تسكبني ، وأنا يوسف وتعتبرني ذئبا يا كثير الجدل .
- ألست تري أن الحبيب الذي يتحمل “ قسوتك “ ، عندما تنقلب عدوا له ينقلب هو إلي حية بالنسبة لك .
 
3790 - إن لحمه وشحمه لم يتغيرا ، إن هذا السوء الذي حل به إنما يبدو من مظهره .
 
عزم ذلك الوكيل على الرجوع إلى بخارى بلا مبالاة من شدة عشقة
 
- أترك شمع مريم مشتعلا ، فإن هذا المحترق يمضي إلي بخاري .
- لقد نفد صبره إلي مالا نهاية ، فهو في تنور مضطرم النيران ، وهو يقول لنفسه أمض نحو صدر جهان ولذبه .
 
“ 325 “
 
- كانت بخاري هذه منبعا للعلم ، ومن ثم فكل من كان عارفا كان منسوبا إلي بخاري .
- وأنت أمام الشيخ كأنك في بخاري ، فلا تنظرن باحتقار إلي بخاري .
 
3795 - فإن جزره ومده الصعب لا يترك طريقا إلي بخاري قلبه إلا بإبداء الذلة والخضوع .
- وما أسعد ذلك الذي ذلت نفسه ، وويلاه لذلك الذي يرديه تمرده وعدم تسليمه .
- إن فرقة صدر جهان كانت قد مزقت كيانه إربا .
- فقال : لأنهضن ولأمضين إلي هناك ، فإن من قبيل الكفر أن أميل إلي مكان اخر .
- لأمضين إلي ذلك المكان ولأسقط أمامه ، أمام ذلك الصدر خير الفكر .
 
3800 - وسوف أقول له : لقد ألقيت بروحي أمامك ، فأحيها أو فاذبحني ذبح الشاة .
- إن القتيل والميت أمامك أيها القمر ، أفضل من ملك الأحياء في مكان اخر .
- لقد جربت الأمر آلاف المرات بل أكثر ، ولا أري عيشي حلوا بدونك .
-غن لي يا منيتي لحن النشور * ابركي يا ناقتي تم السرور
-ابلعي يا أرض دمعي قد كفي * اشربي يا نفس وردا قد صفا
 
3805 -عدت يا عيدي إلينا مرحبا * نعم ما روحت يا ريح الصبا” 1 “ .
- قال : وداعا أيها الرفاق ، إنني ماض نحو ذلك الصدر الذي هو أمير ومطاع .
- إن الحرقة تشويني شيا لحظة بعد لحظة ، إنني ماض إلي هناك وليكن ما يكون .
..............................................................
( 1 ) بالعربية في المتن .
 
“ 326 “
 
- وبالرغم من أنه يجعل القلب كحجر الصوان ، فإن روحي ذاهبة إلي بخاري .
- إنها مسكن الحبيب ومدينة قلبي ، وهكذا يكون حب الوطن بالنسبة للعاشق .
 
سؤال معشوق لعاشقة السياح : أية مدينة من المدن وجدتها أجمل
وأكثر أنسا واحتراما وأوفى نعمة وأكثر شرحا للقلب
 
3810 - قال معشوق لعاشق : أيها الفتي ، إنك قد رأيت كثيرا من المدن .
- فأيها أجمل ؟ قال : تلك المدينة التي يكون فيها الحبيب .
- وحيثما كان هناك موضع مليكنا . . هو خلاء وإن كان سم خياط .
- وحيثما يكون يوسف كالقمر ، فهو جنة ولو كان قعر جب “ 1 “ .
 
منع الأصدقاء له من العودة إلى بخارى ، وتهديده وحديثه بلا مبالاة
 
- قال له ناصح : أيها الغافل ، فكر في العاقبة إن كنت ذا فضل .
 
3815 - وانظر إلي ما وراءك وما أمامك بعقل ، ولا تحرق نفسك كالفراشة .
- وعندما تمضي إلي بخاري فأنت مجنون ، خليق بك القيد وجديد ربك السجن .
- إنه يمضغ الحديد غضبا عليك ، ويبحث عنك ويطلبك بحثا لا حد له ! ! “ 2 “ .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 520 : والجحيم معك جنة يا مزيدا للروح وبدونك يكون الورود والريحان نار جهنم 
- وحينما تكون معي أكون سعيد القلب ، وإن كله منزلي قعر قبر وأعظم من الدارين أن أكون معك لقد طال هذا الكلام وعاشق صدر جهان ذارف للدموع من الانتظار .
( 2 ) حرفيا : يبحث عنك بعشرين عينا .
 
“ 327 “
 
- إنه يشحذ من أجلك سكينة ، كأنه كلب في قحط ، وأنت بالنسبة له جوال من الدقيق .
- فما دمت قد نجوت وأعطاك الله طريقا . . “ فكيف “ تمضي إلي السجن وماذا جري لك ؟ .
 
3820 - ولو أن خلفك عشرة أنواع من العسس ، للزمك عقل حتى تختفي عن أنظارهم .
- وما دام أحد قط لم يوكل “ بمطاردتك “ ، فمن أي شئ سد عليك الطريق من قدام ووراء ؟ .
- لقد كان العشق الخفي قد أسره ، ولم يكن ذلك النذير يري ذلك الموكل .
- ولكل موكل موكل خفي ، وإلا فمن أي شئ يكون “ المرء “ في إسار كلب الطبع ؟
- لقد حط غضب ملك العشق علي روحه ، وسد الطريق علي عذابه وافتضاحه .
 
3825 - إنه يضربه قائلا : هيا داوم علي ضربه ، وصراخي إنما يكون من أولئك العسس المختفين .
- إن كل من تراه ماضيا في الخسران ، إنما يمضي مع جلاد ، بالرغم من أنك تراه يمضي وحيدا .
- ولو كان واقفا علي وجوده لجأر بالشكوي ، وللجأ منه إلي سلطان السلاطين .
- ولحثا رأسه بالتراب أمام المليك ، حتى ينجيه من ذلك الشيطان المخوف .
- لقد رأيت نفسك أميرا يا أقل من نملة ، ولأنك لم تر ذلك الجلاد فأنت أعمي .
 
“ 328 “
 
3830 - وقد أصابك الغرور بهذا الجناح والقوادم المزيفين ، فهما جناح وقوادم يجرانك إلي الوبال .
- فإن ذلك الذي يملك جناحا خفيفا يطير به إلي الأعالي ، وعندما يصير ملوثا بالطين ، فإنه يبدي أنواع الأثقال “ 1 “ .

رد العاشق على الناصح العاذل بلا مبالاة من العشق
 
- قال : أيها الناصح ، أُصبت ، كفاك كفاك ، وقلل من نصحك فإن القيد شديد الإحكام .
- لقد صار القيد عليَّ أكثر قوة من نصحك ، ذلك أن عالمك لم يعرف العشق .
- وفي تلك الناحية التي زاد فيها العشق الألم ، لم يدرس الشافعي وأبو حنيفة .
 
3835 - ولا تخوفني بالقتل فإنني شديد العطش إلي دمي .
- وللعشاق في كل لحظة موت ، وموت الشعاق في حد ذاته ليس من نوع واحد .
- إن له مائتي روح من الهَدْي ، يضحي بها كلها في لحظة واحدة .
- وكل روح يأخذها يردها بعشرة أرواح ، وأقرأ في القران “ عشر أمثالها “ .
- فإن سفك دمي ذلك الحبيب الوجه ، فإنني أضحي بروحي أمامه راقصا .
 
3840 - لقد جربت الأمر ، وموتي في حياتي ، وعندما أنجو من هذه الحياة فهذا هو الثبات .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 529 : فجاهد حتى لا تلوث الجناح بالطين ، لكن أذنك صماء ونصيحتي قديمة . 
لقد نصحة كثيرا ذلك العاذل الخالي من الألم كأنه طائر القفنوس .
 
“ 329 “
 
-” اقتلونى اقتلونى يا ثقات * إن في قتلى حياة في حياة
-يا منير الخد يا روح التقى * أجتذب روحي وجد لي باللقا
-لي حبيب حبه يشوى الحشا * لو يشا يمشى على عيني مشا “ 1 “
- هيا تحدث بالفارسية بالرغم من أن العربية أحلي ، وللعشق في حد ذاته مائة لغة أخري .
 
3845 - وعندما يتضوع أريج ذلك الحبيب ، تتحير كل هذه اللغات .
- ولأقصر ، لقد ورد ذكر الحبيب في الحديث ، فاستمع ، والله أعلم بالصواب .
- وعندما يتوب العاشق ، ليحل بك الخوف آنذاك ، فهو كالعيارين يعطي الدروس وهو علي المشنقة .
- وبالرغم من أن هذا العاشق يمضي إلي بخاري ، فإنه يمضي لا إلي درس ولا إلي أستاذ .
- لقد صار حسن الحبيب هو المدرس للعشاق ، ودفترهم ودرسهم وواجبهم المدرسي هو وجهه .
 
3850 - إنهم صامتون ، لكن صيحات “ وجدهم “ المتوالية تمضي حتى عرش محبوبهم .
- ودروسهم الضجة والدوران والزلزلة ، لا الزيادات أو باب السلسلة .
- إن سلسلة هؤلاء القوم هي جديلة الحبيب الفواحة بالمسك ، والمسألة هي الدائرة ، لكن حول الحبيب .
- فإن سألك أحد عن مسألة الكيس ، فقل له : لا تتسع الأكياس لكنز الحق .
- وإن جري حديث الخلع والمبارأة ، فلا تنظر نظر السوء فإن ما يدور هو حديث بخاري .
..............................................................
( 1 ) بالعربية في المتن
 
“ 330 “
  
3855 - وذكر كل شئ يعطي خاصية ما ، وذلك لأن لكل صفة من الصفات ماهية .
- وفي بخاري تكون ناضجا رشيدا في العلم ، وعندما تتجه نحو الذلة تصبح فارغا من هذه الأمور .
- ولم يكن لذلك البخاري اهتمام بالعلم ، كان يقصر بصره علي شمس الأبصار .
- وكل من وجد طريقا إلي الرؤية في الخلوة ، لا يبحث عن مكنة من “ العلم “ والمعرفة .
- وعندما يصبح قريعا للكأس مع جمال الحبيب ، يصيبه آنذاك الملال من الأخبار والعلم .
 
3860 - فالرؤية تكون غالبا متقدمة علي العلم ، ذلك أن الدنيا لا تزال تحلو للوهم .
- وهذا لأنهم يرون الدنيا بأجمعها عينا “ حاضرا “ ، بينما يرون الدار الآخرة “ نسيئة “ ودينا “ 1 “ .
 
توجه ذلك العبد العاشق إلى بخارى
 
- اتجه ذلك العاشق الباكي بدموع من دم ، خافق الفؤاد نحو بخاري جادا مسرعا .
- كانت رمال نهر جيحون بالنسبة له كالحرير ، وماء نهر جيحون أمامه كالنبع .
- وكانت تلك الصحراء النسبة له كالروضة ، وكان يتعثر بشرا وسعادة كقاطف الورود .
 
3865 - والسكر منسوب إلي سمرقند ، لكن شفتيه وجدته من بخاري فصارت مذهبا له .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 533 : عد إلى حديث ذلك الشاب ، الذي صار عاجزا من عشقه لصدر رجهان .
 
“ 331 “
  
- يا بخاري لقد كنت تزيدين في العقل ، لكنك اختطفت مني العقل والدين .
- إنني أبحث عن البدر ولذلك صرت في “ نحول “ الهلال ، وأبحث عن الصدر في صف النعال هذا .
- وعندما أبصر سواد بخاري ، ظهر بعض البياض في سواد الغم .
- فسقط ساعة مغشيا عليه ممددا ، وطار عقله نحو بستان السر .
 
3870 - وأخذوا يرشون علي وجهه ورأسه ماء الورد ، وكانوا غافلين عن ماء الورد عشقه .
- كان قد رأي روضة مختفية “ في باطنه “ ، وكانت غارة العشق قد قطعته عن نفسه .
- ولست جديرا - أيها الغث - بهذا النفس ، لست مقرونا بالسكر وإن كنت بوصا .
- إن أسباب عقلك معك فأنت إذن عاقل ، وغافل “ عن “ مضمون الآية القائلة “ جنودا لم تروها “ “ 1 “ .
 
دخول ذلك العاشق اللامبالى بخارى وتحذير أصدقائه
إياه من الظهور

- لقد دخل بخاري سعيدا ، عند معشوقة ودار الأمان .
 
3875 - مثل ذلك الثمل الذي يطير فوق الأثير ، يحتضنه القمر ويقول له :
عانقني .
- وكل من رآه في بخاري قال له : أنهض قبل أن يكتشف أمرك ، لا تمكث ، اهرب .
..............................................................
( 1 ) ج / - 541 : هذا الكلام لا نهاية له فسق سريعا حتى يمضى ذلك الفتى إلى بخارى .
  
“ 332 “
  
- فإن ذلك الأمير يبحث عنك غاضبا ، حتى ينتقم منك انتقاما “ جديرا بانتظاره إياك “ عشر سنوات .
- بالله ، بالله عليك لاتسع في دمك ، وقلل الاعتماد علي مواجيدك وتعاويذك .
- لقد كنت رئيس شرطة صدر جهان وعظيما ، كنت موضع ثقته ومخططاله ، وأستاذا .
 
3880 - ولقد غدرت وهربت من الجزاء ، ونجوت فلما ذا علقت ثانية ؟ ! !
- لقد هربت من البلاد بمائة حيلة ، فهل جاء بك البله إلي هنا أم الأجل ؟
- ويا من عقلك يسمو علي كوكب عطارد ، إن القضاء يصيب العقل والعاقل بالحمق .
- ومن نحس الأرنب أن يكون باحثا عن الأسد ، فأين ذكاؤك ؟ وأين عقلك ؟ وأين حذقك ؟
- إن ألاعيب القضاء أضعاف هذا “ الذي تري “ ، لقد قيل : إن جاء القضا ضاق الفضا .
 
3885 - وهناك مائة طريق ومهرب من اليمين واليسار ، ولكن القضاء يسمر المرء حيث تكون الأفعي .
 
جواب العاشق على العاذلين والمهددين

- قال : إنني مستسق يجذبني الماء ، مع علمي بأن الماء يقتلني .
- ولا يوجد مصاب بالاستسقاء يهرب من الماء ، ولو قتله مائة مرة وأفناه .
- فإن تورمت مني اليد والبطن ، فإن عشق الماء لن يقل عندي .
- وأقول عندما أسأل عما أحس به في داخلي ، ليت نهرا يجري في باطني .
  
“ 333 “ 
 
3890 - فقل لقربة البطن تمزقي من موج الماء ، فإن مت يطيب لي موتي .
- وحيثما أري جدولا أحسده وأقول : ليتني كنت هو .
- إن اليد كالدف والبطن كالطبل ، وأنا أدق طبول عشق الماء كالورود .
- وإن سفك دمي الروح الأمين ذاك ، فإنني أمتص هذا الدم جرعة جرعة كالأرض .
- إنني كالأرض وكالجنين أكل للدم ، ومذ أن صرت عاشقا فهذا هو عملي .
 
3895 - وإنني أغلي فوق النار طوال الليل كالقدر ، وطول النهار حتى الليل أتشرب الدم كالرمال .
- وإنني إن ندمت علي شئ ، فإنما ندمي علي أنني دبرت وهربت من مراد غضبه .
- فقل له : سق غضبك علي روحي الثملة ، إنه عيد الأضحي والعاشق أضحيته .
- والبقرة إذ ترقد أو تأكل شيئا ، فإنها إنما تربي من أجل الذبح والعيد .
- فأعلم أن بقرة موسي وهبتني الروح ، وكل جزء مني حشر لكل حر .
 
3900 - كانت بقرة موسي أضحية لكن أقل جزء منها صار حياة لقتيل .
- لقد قفز ذلك القتيل واقفا ناجيا من الأذي ، عندما خوطب ب “ اضربوه ببعضها “ .
- “ يا كرامي اذبحوا هذا البقر إن أردتم حشر أرواح النظر “ 1 “ .
- لقد مت من الجمادية وصرت ناميا ، ومت من النماء وانقلبت حيوانا .
- ومت من الحيوانية وصرت إنسانا ، إذن فمن أي شئ أخاف ؟ ومتي نقصت من الموت ؟
..............................................................
( 1 ) بالعربية في المتن .
 
“ 334 “
  
3905 - وأموت مرة أخري من البشرية ، حتى أخذ من الملائكة أجنحتها وقوادمها .
- ومن الملائكية ينبغي أن أقلع عن الطلب ، ذلك أن كل شيء هالك إلا وجهه .
- ثم أصير بعدها فداء من الملائكية ، وأصير إلي ما لا يحده وهم .
- إذ أصير عدما والعدم كالأرغنون ، يتغني لي قائلاإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.
- فاعلم أن الموت هو ما اتفقت عليه الأمة ، من أن ماء الحيوان مخبوء في الظلمة .
 
3910 - وكالنيلوفر إمض من هذا الطرف من الجدول ، وكن كالمستسقي طالبا للموت بحرص .
- إن الماء موته وهو باحث عن الماء لكي يشربه والله أعلم بالصواب .
- فيا أيها العاشق الغث الفاتر ، يا عاشقا ملوث اللباد ، يهرب من الأحبة خوفا على حياته .
- فصوب سيف عشقه يا عارا حتى على النساء ، انظر إلي آلاف الأرواح تصفق فرحة .
- لقد رأيت جدولا فصب إناءك في الجدول ، فمتي يكون للماء مهرب من الجدول ؟ .
 
3915 - وعندما يصير ماء الإناء ( فانيا ) في ماء الجدول ، ينمحي فيه ويصير الجدول إياه .
- لقد فنيت أوصافه وبقيت ذاته ، ومن ذلك الوقت فصاعدا لا ينقص ولا يكون سيىء اللقاء .
- لقد علقت نفسي “ مشنوقا “ على نخله، اعتذارا مني علي أنني كنت قد هربت منه.
  
“ 335 “
  
لقاء ذلك العاشق بمعشوقة عندما نفض اليد من روحه
- وكالكرة ساجدا على وجهه وعلى رأسه ، مشي صوب ذلك الصدر بعين دامعة “ 1 “ .
- والخلق جميعا منتظرون كأن على رؤوسهم الطير “ 2 “ ، " يتساءلون " هل سيشنقه أو يصلبه ؟
 
3920 - ففي هذه اللحظة يبدي الزمان سوء المال لهذا الأحمق الشديد الحمق .
- إنه كالفراشة رأى الشرر نورا ، فوقع فيه بحمق وفقد فيه روحه .
- لكن شمع العشق ليس كهذا الشمع ، إنه نور في نور في نور .
- إنه على عكس الشموع النارية ، إذا إنه يبدي النار لكنه بأجمعه خير ولذة .
 
وصف ذلك المسجد الذي كان قاتلا للعشاق وذلك العاشق الباحث
عن الموت اللامبالى الذي نزل ضعيفا فيه
 
- استمع إلي حكاية يا مبارك الخطا ، كان هناك مسجد في أطراف مدينة الري .
 
3925 - ولم يكن أحد ينام فيه ليلة فقط ، إلا وتيتم أطفاله من الرعب الذي ينزل به في تلك الليلة .
- وكثيرا ما ذهب إليه غريب لا مأوي له ، وفي تنفس الصباح ذهب إليه قبره كما تمضي النجوم “ بعد ذهاب الليل “ .
- فاجعل نفسك عارفا بهذا الأمر جيدا ، لقد أتي الصبح فاقصر النوم .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 556 : ويوجه كالزعفران ودمع جار ، ذهب ذلك المسلوب القلب صوب صدر جهان - وفي يده السيف والكفن لأنه كان عاشقا دائر الرأس
( 2 ) حرفيا : كان رؤوسهم في الهواء .
 
“ 336 “ 
 
- وكان من الناس من يقول : إن فيه جنا غاضبة تقتل الضيوف بسيف مثلوم .
- وكان اخر يقول : إنه سحر وطلسم رصد ليكون عدوا للروح خصما لها .
 
3930 - وكان ثالث يقول : إن هناك نقشا ظاهرا على بابه فحواه : أيها الضيف لا تبق هنا .
- لا تنم هنا ليلا إن كنت حريصا على حياتك ، وإلا فإن الموت قد نصب لك هنا كمينا .
- وكان رابع يقول : أغلقوه ليلا وأن جاءه غافل فامنعوه .
 
مجى ضيف إلى المسجد
 
- حتى جاء ضيف في الليل ، كان قد سمع عن هذا الصيت العجيب .
- كان “ يريد “ أن يجرب الأمر محض التجربة ، إذ كان شديد الرجولة ملولا من حياته .
 
3935 - قال : إنني لست ابه بالجسد ، فافرض أن حبة من كنز الروح قد ضاعت .
- فقل لصورة الجسد امض في سبيلك فمن أكون ؟ إن الصور لا تقل ما دمت باقيا ! ! - فما دمت مصداقا لقوله تعالى نَفَخْتُ *من لطفه تعالى ، فإنني أكون “ في الحقيقة “ نفخة الحق منفصلا عن ناي الجسد .
- حتى لا يسقط صوت نفخته في هذا الطرف، وحتى يتخلص هذا الجوهر من ضيق الصدف !!.
- وما دام قد قال : تمنواالْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ *، فإني صادق أضحي بروحي على هذا القول . 
“ 337 “
 
لوم أهل المسجد لذلك الضيف العاشق علي عزمه
النوم فيه ليلا وتهديدهم إياه
 
3940 - قال له القوم : انتبه ولا تنم هنا ، حتى لا يدقك أخذ روحك كالكُسب .
- فإنك غريب ولا تعلم ما هو الحال ، فكل من نام هنا جاءه الزوال .
- وليس هذا الأمر بالصدفة فقد رأيناه مرات ومرات، وكل أصحاب النُهي رأوه أيضا.
- وكل من جعل هذا المسجد مسكنا له ليلا ، جاءه الموت كسم الهلاهل في منتصف الليل .
- لقد رأينا هذا الأمر ليس مرة بل مائة مرة ، ولم نسمعه من أحد ونقوله علي سبيل التقليد .
 
3945 - ولقد قال الرسول عليه السلام : “ إن الدين النصيحة “ ، والنصيحة في اللغة ضد الخيانة والغلول .
- إن هذه النصيحة استقامة في الصداقة ، وفي الغلول الخيانة والنتن .
- إن هذه النصيحة لا خيانة فيها ونبديها لك ودا ، فلا ترجع عن “ طريق “ العقل والعدل .
 
جواب العاشق على العاذلين
 
- قال : أيها الناصحون إنني لا أحس بالندم ، ولقد مللت من عالم الحياة .
- إنني مشرد باحث عن الجرح راغب فيه ، فقلل طلب العافية من المشرد في الطريق .
 
3950 - وليس بالمشرد الذي يكون باحثا عن الزاد لنفسه ، إنني مشرد لا مبال باحث عن الموت .
- وليس العاطل هو الذي يحصل على المال لكفه ، بل هو الجَلْد الذي يعبر هذا الجسر .
 
“ 338 “
 
- إنه ليس ذلك الذي يعرج على كل دكان ، بل هو الذي يفر من الكون ويحصل على المنجم .
- إن الموت حلو ونقلي من هذه الدار ، مثل ترك الطائر للقفص وطيرانه منه .
- وذلك القفص في قلب البستان ، بحيث يري الطائر الروضة والشجر .
 
3955 - وجوقة الطيور خارج القفص حوله ، تغرد سعيدة وتقص القصص عن الحرية .
- والطائر الحبيس ليس له من هذه الروضة طعام ، ولا صبر له عنها ولا قرار .
- إنه يخرج رأسه من كل فجوة ، ربما يخلع هذا الغل من قدميه .
- وإذا كانت روحه وقلبه خارج القفص وهو حبيس ، فكيف يكون الحال عندما يفتح باب هذا القفص ؟
- فهو ليس مثل ذلك الطائر الموجود في القفص ويتجرع الأحزان ، لأن القطط تتحلق حول قفصحه هذا .
 
3960 - فمتي يكون له في هذا الخوف والحزن رغبة في الخروج من القفص ؟
- إنه بسبب هذا المترصد السىء يريد أن تكون مائة قفص أخرى حول هذا القفص ! ! .
 
عشق جالينوس لهذه الحياة الدنيا لأن فنه يصلح لهذا المكان ،
ولم يزاول فنا يصلح في ذلك السوق
ومن هنا يرى نفسه مساويا للعوام

- إن هذا يشبه ما قاله جالينوس العظيم ، من هواه في هذه الدنيا ومن مراده فيها .
 
“ 339 “
  
- “ إنني راض أن تبقي مني نصف روح ، أو أن أري الدنيا من مؤخرة بغل “ .
- إنه يري القطط صفا حوله “ تترصده “ ، فكان طائره يائسا من الطيران .
 
3965 - أو أنه رأي عدما ما سوي هذه الدنيا ، ولم ير في العدم حشرا كامنا .
- مثل الجنين الذي يجذبه الكرم خارجا ، لكنه يهرب منه متجها نحو البطن .
- إن اللطف يوجهه نحو مصدره ، لكنه يجعل لنفسه مقرا في بطن أمه .
- قائلا : إنني إن خرجت من هذه المدينة التي أحبها ، فهل أري بالعين - واعجباه - هذا المقام ؟
- ولو أن بابا كان موجودا في تلك المدينة الضيقة ، أستطيع أن أنظر منه إلي داخل الرحم ؟
 
3970 - أو أنه كان لي طريق كسم الخياط بحيث يصير الرحم مرئيا لي وأنا خارجه ! !
- فذلك الجنين بدوره غافل عن عالم رحب ، وهو مثل جالينوس لم يؤذن له .
- وهو لا يعلم أن تلك الرطوبات الموجودة حوله ، ذات مدد من عالم خارجي .
- وهي شأنها شأن العناصر الأربعة في الدنيا ، تأتي بمائة مدد من مدينة اللامكان .
- وأن “ الطائر “ وإن كان قد وجد الماء والحب في القفص ، فإنما قد جلبت إليه من البستان والساحة .
 
3975 - وأن أرواح الأنبياء ترى البستان وهي في ذلك القفص في وقت الانتقال والفراغ “ من الجسد “ .
 
“ 340 “
  
- ومن ثم فهم فارغون من جالينوس والعالم ، وهم بازغون في الأفلاك كالقمر .
- وإن كان هذا القول لجالينوس قد تقول عليه ، فإن جوابي هذا ليس علي جالينوس .
- وجوابي علي من قال هذا القول ، فلم يكن مقترنا بقلب مليء بالنور .
- صار طائر روحه فأرا باحثا عن جحر ، عندما سمع من القطط قول “ عرجوا “ ! ! .
 
3980 - ولهذا السبب فإن روحه رأت جحر الدنيا هذا وطنا ومستقرا كالفأر .
- بل وقام بالبناء في هذا الجحر ، واكتسب علما جديرا بهذا الجحر .
- والحرف التي كانت بالنسبة له في ازدياد ، قد اختارها بحيث تصلح لهذا الجحر .
- وذلك أنه جعل القلب مصروفا عن الخروج ، فانغلق أمامه طريق الخروج من البدن .
- ولو كان للعنكبوت طبع العنقاء ، فمتي كان “ يعن “ له أن ينصب خيمة من لعابه ؟
 
3985 - لقد مدت القطة مخلبها في القفص ، واسم مخلبها هذا : المرض والدوار والمغص .
- والقط هو الموت ، والمرض مخلبه ، يمده نحو الطائر ونحو جناحه وقوادمه .
- فيقفز “ المريض “ من ركن إلي ركن باحثا عن الدواء ، والموت كالقاضي والمرض كشاهد “ الإثبات “ .
- ولما كان الشاهد مبعوثا من القاضي ، فإنه يستدعيك حتى مقر الحكم
 
“ 341 “
  
- وأنت تريد مهلة منه قاصدا الهروب ، فإن قبل تم الأمر ، وإلا قال لك :
انهض بنا .
 
3990 - وطلب المهلة هو الدواء والعلاج ، فأنت ترقع بها خرقة الجسد .
- ثم يأتيك في النهاية ذات صباح غاضبا قائلا : حتام تمتد هذه المهلة ، ألا فلتخجل أخرا .
- فاطلب عذرك من المليك يا مليئا بالحسد ، قبل أن يحل بك مثل هذا اليوم .
- وذلك الذي يسوق جواده في الظلمة ، يقتلع قلبه من رؤية ذلك النور دفعة واحدة .
- إنه يهرب من الشاهد ومقصده ، لأن ذلك الشاهد إنما يدعوه نحو القضاء “ 1 “ .
 
لوم أهل المسجد للضيف مرة أخرى على عزمه النوم في المسجد
 
3995 - دعك من هذا وانتقل إلي “ الحديث “ عن ذلك الشخص الذي جاء ضيفا علي المسجد تلك الليلة .
- قال له القوم : لا تتظاهر بالشجاعة وامض ، حتى لا تصير روحك وجسدك رهنا “ للأجل “ .
- انظر جيداً لذلك الذي يبدو لك سهلا من علي البعد ، إن المعبر سوف يكون شاقا وعرا في نهايته .
- فكثيرا ما ظن الرجل نفسه قويا وشجاعا ، وعند المعمعة يبحث عن معين ومنقذ .
- ومن السهل قبل الواقعات أن يكون في قلوب الناس تصور الخير والشر .
..............................................................
( 1 ) ج / 8 - 566 : وفجأة يقبضون عليه ذليلا حقيراً جارين إياه نحو القاضي .
 
“ 342 “
  
4000 - وعندما يدخل المرء إلي المعمعة ، يصير الأمر ذلك الزمان علي المرء صعبا .
- وما دمت لست بالأسد ، فحذار ولا تخط خطوة واحدة إلي الأمام ، فإن ذلك الأجل ذئب وروحك شاة .
- وإن كنت من الأبْدَال ، وتبدلت شاتك إلي أسد ، فتعال مطمئنا فقد طأطأ الموت رأسه أمامك .
- ومن الأبْدَال ؟ إنه ذلك الذي يصير مبدلا ، وتصير خمْره خلا من تبديل الله .
- لكنك ثمل ، فريسة للأسد تظن نفسك أسدا فانتبه ولا تتقدم .
 
4005 - وقد قال الحق عن أهل النفاق الخالين من السداد إن بأسهم بينهم شديد .
- إنهم بينهم وبين أنفسهم كالرجال ، لكنهم عند الغزو كالنساء “ القابعات “ في البيوت .
- وقال الرسول عليه السلام وهو قائد الغيوب : لا شجاعة يا فتي قبل الحروب .
- إنهم عند التشدق بالغزو يدقون الأكف ثملين ، وعند المعمعة كالزبد “ يذهبون جفاء “ بلا فن .
- وهم عند ذكر الغزو طوال السيوف ، وعند الكر والفر تكون هذه السيوف كأنها بصلة ! !
 
4010 - وعند التدبير تكون قلوبهم باحثة عن الطعان ، وبإبرة واحدة تفرغ هذه القرب من الهواء .
- وإنني لأعجب من الباحث عن الصفاء ، الذي يفر في وقت الصقل من الجفاء .
- ولما كانت مقاساة الجفاء هي الدليل على دعوي العشق ، فإن لم يكن لديك هذا الدليل فدعواك باطلة .


“ 343 “
 
- وعندما يريد هذا القاضي منك الدليل ، فلا يضيقن صدرك ، قبل الحية تجد الكنز .
- وذلك الجفاء لا يكون معك يا بني ، لكنه موجه إلي الصفة السيئة التي تكون داخلك .
 
4015 - إن الرجل حين يضرب اللبادة بالخشب ، لم يضرب اللبادة في الحقيقة بل نفض عنها الغبار .
- وإذا كان ذلك الغاضب قد ساط الجواد ، لم يسط الجواد لكنه ساط تعثره .
- حتى يتخلص من التعثر ويصير حسن الخطو ، إنك تحبس العصارة حتى تصير خمرا .
- قال أحدهم : لقد ضربت ذلك اليتيم المسكين كثيرا، فكيف لم تخش من غضب اللّه؟
- قالت : متي ضربته أيها الحبيب الصديق ؟ إنني ضربت ذلك الشيطان “الموجود“ داخله .
 
4020 - وإذا دعت عليك أمك بالموت ، فإنها تريد موت تلك الخصلة السيئة فيك وموت الفساد .
- وتلك الجماعة “ من المنافقين “ التي فرت من الأدب ، قد أراقت ماء “ وجه “ الرجولة وكرامة الرجال .
- لقد ردهم العاذلون عن الوغي ، حتى بقوا هكذا مأبونين مخنثين .
- وقلل السماع إذن لهزل الهازل ونفاجه ، وإياك أن تمضي إلي القتال مع أمثال هؤلاء .
- ذلك أن اللّه تعالي قال في شأنهم زادُوكُمْ خَبالًا، وأمركم بأن تشيحوا بالوجوه عن الرفاق الضعفاف .
 
“ 344 “
 
4025 - إذ إنهم إن صاحبوكم “ لتكشفوا “ من غزاة بلا لب يصبحون كالقش .
- إنهم يجعلون أنفسهم معكم في نفس الصف ، ثم يهربون ويحطمون قلب الصف .
- ومن هنا فجيش قليل العدد دون هذا النفر ، أفضل من أن يكون لجبا ضخما بأهل النفاق .
- كما يكون اللوز القليل المنقي جيداً ، أفضل من الكثير المختلط باللوز المر .
- والمر والحلو سيان إن سمعت صوت “ تفريغهما “ في الجوال ، لكن النقص قد حدث لأن اللب بينهما مختلف .
 
4030 - والمجوسي يكون خائف القلب ، لأنه من ظنه يعيش دائم الشك في أمر الآخرة
- إنه يمضي في الطريق لا يعرف منزلا ، يضع خطوه خائفا أعمي القلب .
- وكيف يمشي المسافر ما لم يعرف الطريق ؟ إنه يمضي بتردد وقلب مليء بالدم .
- وكل من يقول له : يا هذا ليس هناك طريق من هذه الناحية ، يجعله يتوقف في هذا المكان من الخوف .
- ولو أن قلبه الواعي اليقظ يعلم الطريق ، فمتي تجد كل صيحات “ التحذير “ طريقها إلي أذنيه ؟ .
 
“ 345 “
 
4035 - إذن فلا تكن رفيق طريق لهؤلاء الجبناء ، ذلك أن الوقت ضيق وهم خائفون يا هذا .
- إنهم يهربون منك تاركين إياك وحيدا ، بالرغم من أنهم عند التشدق بالحديث السحر “ الحلال “ .
- فهيا ولا تبحث من ربات الدلال عن القتال ، ولا تطلب من الطواويس الصيد والقنص .
- فالطبع طاووس يوسوس لك ، ويفح لك حتى يقتلعك من مقامك .

شرح بيان أن كل ما هو غفلة وكسل وظلمة كله من الجسد
فهو أرضى وسفلى

( 3568 - 3576 ) يصل مولانا إلى خلاصة قصة بلال والنتيجة المستنبطة
 
“ 568 “
 
منها إن الجسد عندما يتحول إلى روح ، أي عندما تتخلص الروح من علائق البدن ، فلا شك أن الأسرار تنكشف لها ، وكذلك فعندما تختفى “ الأرض “ من جو الفلك فلا ظل ، وكذلك عندما يختفى الجسد النور في قلوبنا ، فالدخان من الحطب ، أما الأجسام النورانية فلا دخان لها ، لأنها لا تتصل بالمادة ، وعندما ينبنى الفكر على المادة فمن الممكن أن يقع في الوهم والخطأ ، لكن العقل “ عقل الروح “ نادرا ما يقع في الخطأ لأنه لا ينظر إلى المشاهد والمحسوسات ، إن الناس يربطون حالات الإنسان بالأخلاط “ السوداء والصفراء والبلغم والدم “ ، لكنها أي الحالات في الحقيقة من الله “ المسبب لا السبب “ إن العلة الظاهرة لا يراها سوى أهل الظاهر .
 
( 3577 - 3584 ) ومن ثم : فإن الروح البعيدة عن اللب “ الحقائق “ ، والمتعلقة بالقشور “ الحياة المادية “ لابد لها من طبيب ومن علة ، فالروح أسيرة الجسد هي مريضة وفي حاجة إلى علاج باد : وخلاص الروح من قيد الجسد “ كسر القيد “ ، الوصول إلى الحرية . . . بمثابة الحياة مرة ثانية يقول في ديوان شمس :
كنت ميتا فأصبحت حيا كنت باكيا فأصبحت ضاحكا * لقد حلت دولة العشق وصرت دولة ثابتة لي بصيرة شبعى ولى روح شجاعة * ولي جرأة الأسد ، إذ صرت متألقا ككوكب الزهرة ( غزلية 1393 ص 539 )
 
“ 569 “
 
فالروح الحرة لا تتحدث عن العلل ، الا تؤمن إلا بالعلة الأولى ، هي مع الحركة الكلية للوجود لا علاقة لها بالحركات الجزئية ولا تنظر إلى الكون مجزءا وكأن هذه الروح “ عريس “ يزف إلى “ عروس “ الصدق ، والصورة هي الحجلة التي يجلس فيها العروسان ، ليس هذا فحسب بل تسمو على هذا العالم وتمضى إلى عالم لا يحتوى على قيد المكان أو الزمان ، وعقولنا هي ظل لهذه الأرواح الحرة عليها أن تعترف لها بالجميل وأن تقبل قدمها ، وإن المحقق لو أدرك القران لما استدل على شئ من ألوان وجوه الناس ، بلال رضي الله عنه أو غيره ، ولما استخدم القياس عندما لا يدرك الحقائق فلا قياس مع وجود النص .
 
( 3585 - 3596 ) يتحدث مولانا عن تفسير عدم أهمية القياس مع وجود النص : إن النص القرآني قد أوحى به من جانب الروح القدس ، والروح - القدسية أو الروح الطاهرة - هي الوجود المطلق لإله المنزه عن قيود عالم التعين ، أما العقل الجزئي فهو العقل الذي يستطيع أن يدرك حدود العالم المادي ، ومن ثم فإن قياس هذا العقل واستدلاله في سبيل تأييد النص يظل بلا أثر والروح المذكورة في البيت 3586 هي الروح الإنسانية التي تجعل العقل يعمل ، ومن ثم فهذه الروح سواء الروح الفردية أو الروح المطلقة لا تدخل تحت تصرف العقل الجزئي حتى يثبت العقل باستدراكه أو يؤيده وفي 3586 يدور الحديث حول غرور العقل الجزئي المضل ( تنظر تعليقات 3238 ) إن روح سيدنا نوح كانت تنبؤه من
 
“ 570 “
 
داخله أنه مؤيد من الحق ، في حين أن روحك لو قالت لك داخلك أنك مؤيد فأين الأمارات الأخرى لرجال الحق ؟ وهذا الخيال والغرور نتيجة لأن العقل الجزئي لا يفرق بين الروح وبين آثار الروح وما يتحدث إليك في داخلك من الممكن أن يكون أثر الروح فنور الشمس غير الشمس ، إنه أشبه برغيف خبز ( أي نصيب قليل ) وهذا هو الإدراك المحدود لعوالم الغيب ، إن السالك في طريق الحق يسعد من مواجيده الأولى لأن نفى هذه الإدراك هي وسيلة إلى إدراك الحقيقة ، يلقى به النور نحو قرص الشمس ، إن النور الموجد هو آثار الروح المطلقة في عالم المادة ، إنه أفل ، إنه أثر نور وليس النور نفسه والآثار إلى زوال ، أما أولئك الذين وصلوا إلى أصل النور ومنبع الحقائق ، فهم دائما غارقون في النور ، فلا السحاب “ التعينات المادية “ ولا الغروب أي : “ ضياع اثار النور المادي “ تؤثر فيهم ، إنهم لا يحسون مطلقا بذات الحق حتى تحس صدورهم بالغصص والأحزان ، فلعل هؤلاء الواصلين إلى الحق منرهون عن الوجود المادي والترابى ، وأصلهم مما وراء عالم المادة ، وإن كان لهم وجود ترابى فقد تبدل بالنضج الروحاني ، فمن الممكن أن يتحمل الوجود الترابى إشراق نور الحق ، لكن نور الحق لو سطع عليه على الدوام فمن الممكن أن يحرقه ، اللهم إلا إذا كانت عوارض المادة قد انمحت عنه تماما ( لا تتحمل القشة الجبل ) .
 
( 3597 - 3603 ) في طريق الحق نلتقى بنوعين من البشر : نلتقى بالكمل الواصلين الذين يسبحون دائما في بحار الغيب ، ونلتقى بالمدعين الذين كالثعابين ينزلون إلى الماء لكنهم لو ظلوا في الماء طويلا لماتوا ، هؤلاء المدعون ( الثعابين ) ذوو فنون في الجبل “ الدنيا “ وهم يخدعون البسطاء من السالكين
 


 
“ 571 “
 
ويعدون أنفسهم سابحين في بحار عوالم الغيب ، لكنهم يستطيعون هذا الادعاء في هذا اليم فحسب “ الدنيا “ ، إن الفنون الحقيقية جديرة بأهل الحق فحسب :
ومن ( فنونهم ) أنهم يستطيعون أن يصحبوا في طريق الحق العابد للدنيا ، إنهم يسيرون حتى في أعماق بحر الجلال ، بحيث يعلمهم هذا البحر كيف يؤثرون في الآخرين ، إن نفوذهم معنوي وتأثيرهم هو السحر الحلال “ انظر تفسير 4082 “ وهو الذي يجعل غير الممكن ممكنا فهو متصل بقدرة الحق وقوله :
تمضى مائة قيامة ، أي يمضى وقت طويل جداً جدير بانتهاء عالم اخر مائة مرة .
 
( 3604 - 3619 ) يشير العنوان والأبيات إلى عدم اهتمام بعض المريدين بكلام جلال الدين . . لقد صاروا ملولين يعتبرون أقواله تكرارا لما سبق من قول لكن مولانا يقول : إن هذا الكلام حياة وتكراره هو أن يهب عمرا مكررا للآخرين .
إن ما يجعل الشمعة تظل منيرة ، هو هذا النور الضئيل المتكرر ، وحتى التراب “ الإنسان “ يتغير بسطوع الشمس “ شمس الحقيقة “ عليه . . . أو أن التراب الحقيقي يتغير بسطوع الشمس عليه ويتحول إلى ذرات من الذهب ويعتقد القدماء أن تكوين المعادن الثمينة يتم بسطوع الشمس وإلى هذا أشار سنائى بقوله :
تنبغى سنون حتى يصير حجر بتأثير الشمس * ياقوتا في بدخشان أو عقيقا في اليمن ( كليات ديوان سنائى ص 485 ) وهو يستخدم “ الرسول “ في موضع الشيخ إشارة إلى حديث نبوي : “ الشيخ
 
“ 572 “
 
في قومه كالنبي في أمته “ ( استعلامى 3 / 377 ) ، كما أن المشايخ هم رسل الضمير لأنهم يخبرون عن الباطن ، والمستمع الذي في طبع إسرافيل هو المستمع الذي يستطيع أن يحيى الموتى ( بعث الموتى عن طريق صور إسرافيل ) .
إن توقير الأستاذ شرط أول لاستفادة الطالب ، والطالب الذي لا يوقر أستاذه إنما يسد أمام نفسه طريق المعرفة ، ويقنط الأستاذ من قدرته على الاستفادة فينصرف الأستاذ بدوره عنه . إن اذانهم مستحسنه لأنها من حضرة الحق وهم يعلمون بلا من ولا أذى إنهم سلاطين ، وصدقة السلطان تصل إلى من يستحقها ومن لا يستحقها ، 
فمن ثم يخاطب المرشدين أو يخاطب نفسه : انطلق في طريقك وداوم على التعليم ، فإن التركي “ القائد والمرشد والبطل الهمام “ الذي يسعر الوغى سعيد بعمله هذا ، إنها لذة التعليم ولذة الإرشاد حتى ولو لم يوجد من يستحق ، فالفرس منطلق ، أي الإرشاد والتعليم فقد أغمض عينه عن كل ما سوى الله وعن الغير ، أي غيرة عشاق الحق من اهتمام الناس بغير الحق ، على الشيخ ألا ينظر إلى الأغيار ويقول وينطلق ، وينبغي ألا يدفعه الندم إلى الكف عن إرشاد المريدين ، فحتى الندم نفسه ينتهى عندما يرى الهداية من شيخ طريق .
 
( 3629 - 3636 ) إن المريد الذي يقف في وجه مرشده هو جرىء على الحق ينازل ما لا يمكن نزاله ومالا يمكنه الصمود أمامه ، إنه أشبه بإنسان يجادل خالقه ويقف في وجهه ويتحداه وهذا ما لا يقع فيه حتى الحيوان ، فالجواد يعرف زئير الأسد ويشم رائحته ، والخفاش لا يخرج في نور النهار لأنه لا يقوى على النظر
 
“ 573 “
 
إلى الشمس ( الخفاش أيضا ) رمز لعابد الدنيا وظلمتها والبعيد عن عالم المعنى والساقط في هوى النفس ) . . . إن الخفاش لا يواجه الشمس فكيف يواجه المريد شيخه ؟ ومتى تتوارى الشمس بالحجاب أسفا على الخفاش ؟ ويصل مولانا إلى النتيجة : إن عاديت فعاد على حد قدرتك ، لا تعاد من لا سبيل لك إليه ولا استطاعة عليه ، فان فعلت فمصيرك هو مصير قطرة تعادى بحرا ودائرة تعادى سماء ، فإذا كان هذا هو مصير عدو الشمس “ الشيخ “ فما بالك بمصير من يعادى شمس الشمس “ الحق “ ؟ إنك لا تستطيع أن تعاديها بل إن عداءك لها خصومة مع نفسك . إن من ينازل النار إنما يصير حطبا لها ، وهو أيضا لا يتأثر باحتراقك ، إنه رحيم لكن رحمته ليست كرحمتنا فإن الرحمة تتأتى في قلوبنا من الإشفاق على الآخرين والاهتمام بهم والتألم لألمهم ، إن إدراك رحمته غير ممكن ، ولكن انظر فحسب إلى اثار رحمة ربك .
 
( 3637 - 3652 ) يواصل مولانا هذه الفكرة : إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعرف ماهية رحمته وحقيقتها ، وهكذا أيضاً كل صفات الكمال الإلهى إننا نعرفها بالمثال فقط لا بالماهية ، فمتى يعرف الطفل لذة الجماع ؟
إنك تمثله له بالحلوى ولكن متى كان الجماع كالحلوى ؟ إننا كلنا أطفال كل إدراكاتنا عن الحقائق إنما تتم بالتمثيل لها فحسب ، ولا نستطيع أن ندرك حقيقة الوجود وماهية عوالم الغيب لكننا ندرك اثارها ، ومن هنا فإن قلنا نعرف فهذا صدق على اعتبار أننا نعرف بالمثال ، وإن قلنا لا نعرف فهذا أيضاً صدق على اعتبار أننا لا نعرف الماهية . ونوح هو المثال : إن قلت أعرفه فقد قرأت قصته في القرآن أثناء وجودي في الكتاب وسمعت عنه من الأئمة في المحاريب ، فأنت قد
 
“ 574 “
 
عرفت قصته ولم تعرفه هو ، إنما يعرفه من هم مثله . وإذا قلت أي علم لي به ، وأين أنا منه قلت صدقا أيضاً أيها الفتى، لأنك بالعقل لم تعرفه بماهيته ، والعجز عن درك الإدراك إدراك.
 
( 3652 - 3659 ) إن الكمل والواصلين هم الذين يستطيعون إدراك الماهيات ، فلا تقل : إن هذا الحكم يشمل الجميع ، وسر الماهيات هو العلم الأزلي للحق أو ذات الحق ، وعند بعض المفسرين أن ماهية كل شئ كانت موجودة في العلم الأزلي قبل أن تتحقق في عالم الصورة ( انظر الكتاب الثاني الآيات 169 - 180 ) ، 
وفي البيت 3656 يرى أعقل البحث والجدال أي العقل الذي يسيطر عليه الحس أو العقل الجزئي يقترن بأن إدراك سر الماهيات أمر أعمق وأبعد غورا من أن نفهمه ، ولا يمكن أن تصل إليه إلا “ بالتأويل “ ، فابتعد عنه ، ويرد القطب أو المرشد القائل : إنك تتحدث عن مالك أنت وهم أمر واهن وتظن أن مالا تفهمه لا يفهمه الآخرون أيضاً ، ويمكن أن يكون قصد مولانا المريدين الملولين أيضاً مخاطبا إياهم بألا يعمموا الحكم بعدم الفهم لأنهم لا يفهمون ، ويخاطبه قائلا :
أليست الواقعات وهي أول ما يستطع في القلب من نور المعرفة كانت تبدو لك محالا في البداية ؟ وإذا كان كرم الله قد أخرجك من سجونك العشرة أو تأثير حواسك العشرة : الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة ، وسمح لك بهذا أن تنطلق بعيدا عن هذا التيه وهذه الصحراء الجافة (الدنيا) فلماذا تظل أسيرا فيها ما دام الله قد حررك فلا تجعل من هذا الظاهر سجنا لك.
 
( 3660 - 3670 ) الأمور نسبية ، المهم من أية وجهة نظر تنظر إليها ، وقد يجتمع الضدان ( النفي والإثبات ) في شئ واحد ومع ذلك فليس في الأمر هنا أي
 
“ 575 “
 
نوع من التناقض ، ويشير مولانا إلى الآية الكريمة ،وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى( الأنفال / 17 ) فالآية الكريمة تحتوى على نفى وإثباتما رَمَيْتَورَمَيْتَ: لقد رميت إذ إنك الذي رميت الرمح أو هكذا يبدو لك ، ولكنك لم ترم في الحقيقة فالرامى هو الله سبحانه وتعالى ، والقوة والحول منه والسلطان له جل شأنه ، والنصر والهزيمة بيده فمتى كان لقبضة من التراب أن تهزم جيشا ؟
ومن هنا فالنفى والإثبات “ معا “ جائزان وحتى الأنبياء ( انظر مثال نوح عليه السلام في التعليق على الأبيات 3637 - 3651 ) ليعرفهم أضدادهم وأعدؤهم لكنهم يكتمون هذه المعرفة ( وهذا هو الكفر فالكفر ستر للحقيقة لأن الحقيقة أوضح من أن تنكر ) وهذا مصداقا للآية الكريمةالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( البقرة / 146 ) إذن بم تفسر التناقض بين هذه الآية وبين الحديث القدسي “ أوليائي تحت قبابى لا يعرفهم غيرى “ ؟ لا تناقض : فإن الحق سبحانه وتعالى يعرف حقيقتهم ويجيزها لكن يمكن لغيره سبحانه وتعالى أن يعرفهم من ظواهر أعمالهم ومن آثارهم . والخلاصة أن ذلك من هذا الجدل فإن الأمر يكشف لك بقدر فهمك وإدراكك ( انظر تفسير الأبيات 3637 - 3651 ) .
 
( 3671 - 3684 ) يدخل مولانا في مثال اخر من نفس القبيل : وهو موضوع الفناء والبقاء ، والفناء هو ترك العلائق الدنيوية وعدم التعلق بها ونفى الظواهر الخادعة والتغلب بالتالي على كل جوانب الذات والنفس وانمحاء العبد في ذات الحق أما البقاء فهو خلود الحق بحيث يبقى العبد بعد فناء ذاته ببقاء
 
“ 576 “
 
الحق - ويرى استعلامى أن القائل بأنه ليس في الدنيا درويش هو مولانا نفسه ، والواقع أن مولانا يتحدث بلسان القوم فقد ورد أن الدرويش الذي يدرك أنه درويش ليس بدرويش ، إنه في رؤيتة لذاته قد ابتعد عنه فهو في رؤيته هذه لم ينمح في ذات الحق تماما ولا تزال فيه نظرة إلى نفسه وذاته . . .
 
ويفسر مولانا أنه إن وجد درويش فليس موجودا بذاته هو ، لكنه موجود بذات الحق ، وليس فيه من الظواهر والأمارات ما يدرك بحواسنا ، وهو موجود غير محسوس كنور الشمعة أمام الشمس أو كنذر يسير من الخل في مائتي من العسل ( المن مكيال فارسي يختلف باختلافف العصور وباختلاف أقاليم إيران ويترجم قديما وحديثا بكلمة من أيضاً ) ، فنور الشمس غير ظاهر أمام الشمس لكنه يحرق قطعة قطن إن قربتها منها ، وطعم الخل ليس موجودا في الشهد لكنه موجود إن حللت وفصلته عنه “ إن السالك أمام الله إذن كالغزال أمام الأسد ، إن ما أقدمه هو “ قياس الناقصين “ إنه من غليان العشق ( تمهيد للحكاية القادمة وتدور حول العشق ) .
 
فكيف يوضع العاشق في كفة أمام المليك ؟ ! لكن العاشق الذي فقد الأدب هو بالنسبة لله في منتهى الأدب .
إن ادعاءه العشق يبدو “ مطامنة “ لمن لا يطا من ، لكنه وعشقه “ معا “ فانيان أمام المعشوق سبحانه وتعالى ، ولسنائى الغزنوي “ ما دمت لا تصنع من العدم خوذة على رأسك فإنك لا تيمم وجهك شطر البقاء “ ( حديقة ص 34 ) إذن لقد أطل العشق من الباب . فإذا بكل خيالاتنا وهم وعبث لقد أسفر العشق عن وجهه فعنت كل الوجوه ، وبهذا يمهد مولانا جلال الدين لواحدة من أروع قصص المثنوى على الإطلاق . . ولم لا ؟ وهي في الميدان الذي يصول فيه مولانا جلال الدين ، ويجول
 
“ 577 “
 
ويثبت أنه شاعر الإنسانية الأول في كل أنواع العشق المجازى “ عشق البشر “ والحقيقي “ العشق الإلهى “ وبينهما برازخ ودرجات .
 
( 3688 - 3698 ) هنا تبدأ حكاية صدر جهان وعبده الذي هرب منه ثم رده العشق حيث سيده ، ثم يعفو عنه سيده ، فليس المعشوق بأقل انجذابا إلى العاشق من انجذاب العاشق إليه كما سنرى ، وانظر قبل أن تتحدث عن أصل الحكاية ( وماذا يهمنا أصلها وأصلها هو العشق ذاته وانجذاب ذرات الحقيقة بالعشق ، ثم انجذابها كلية إلى أصل العشق ومعدنه الحقيقة الكبرى أو الحقيقة الوحيدة . الله سبحانه وتعالى ) .
انظر إلى هذا الرمز الواحد في ( صدر جهان ) “ صدر الدنيا “ والعبد أية مناسبة ؟
 يا لها من مطامنة وياله من طموح إنساني لا حد له وألا يرمز الأمر كله إلى هروب العبد ( الإنسان من سيده الأعلى ثم غربته في الأرض بعيدا عن منبته وعن جنته وحنينه إلى العودة ، وتوظيف كل قواه في سبيل هذه العودة ، وأنين روحه كما يئن الناى منذ أن قطع عن موطن الغاب “ انظر أغنية الناى مقدمة الكتاب الأول من المثنوى كافتتاحية هي أشبه بافتتاحيات الأعمال الموسيقية الكبرى تمهد بأالحانها المتداخلة لكل الألحان الواردة في العمل على طوله وتنبىء عنها وتلخصها في الوقت نفسه ) وما صلة هذه الحادثة التي يوردها المفسرون بحكاية صدر جهان وعبده التي نحن بصددها . يقول المفسرون : إن الحكاية مستوحاة من السيرة التي أوردها محمد عوفي في لباب الألباب لمحمد بن عمر بن مسعود من أمراء ال برهان في بخارى ، فر من أبيه لسوء معاملة زوجة أبيه له ، ولجأ إلى مرو حيث هجا زوجة أبيه ، ثم راسل أباه ليعفو عنه وكان عوفي نفسه حامل هذه الرسائل وعفا عنه أبوه فعاد إلى بخارى
 
“ 578 “
 
( ماخذ ص 119 - ص 121 ) . وهذه الحادثة ربما كانت نقطة انطلاق مولانا جلال الدين أو الإطار الذي ساق فيه “ إفاضاته “ عن الميدان المحبب إليه العشق “ كليات ديوان شمس الدين التبريزي مائة ألف بيت كلها عن العشق والمثنوى كله لا يزيد عن ستة وعشرين ألف بيت “ ، فهل يمكن أن يكون مثل هذا الجدول الصغير أو هذه البركة الآسنة منبعا لهذا المحيط من العواطف الجياشة ؟ لا أظن ! ينقل مولانا ثلاثة أبيات كقصة : لقد هرب عبد “ صدر جهان “ أو مستخدمه منه ، وساح في البلاد عشر سنوات ، وبعد عشر سنوات كان الفراق وعذبه الشوق ، ويصف مولانا الفراق وتأثيره ، إن كل أنواع الآلام والمتاعب ، وكل مرارة الحياة ومعاناتها هي من جراء هذا الفراق وهذا الانفصال عن المنبع وعن أصل الوجود ( انظر أغنية الناى مقدمة الكتاب الأول ) : من جراء هذا الفراق تبور الأراضي ويأسن الماء وتصير الريح ناقلة للأوبئة ، وتتساقط أوراق الحدائق وتذبل ولا يتحمل العقل ويتعطل ، وإنما يرتعد الشيخ هكذا من بعده عن الحق ، والنار نفسها لو كانت مورد عنايته لتحولت إلى جنة . . إن الحديث عن الفراق يطول دون أن يوفيه الجزء اليسير جدا من حقه ولا نملك هنا إلا أن ندعو : رب سلم في الفراق ( إشارة إلى الحديث : شعار المسلمين على الصراط يوم القيامة : اللهم سلم سلم ( استعلامى 3 / 381 ) ويترك مولانا سياق “ الحكاية “ بعدها حتى البيت 3791
 
( 3702 - 3717 ) الرواية الواردة هنا إشارة إلى تمثل الروح القدس لمريم عليها السلام بشرا سوياوَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً
 
“ 579 “
 
شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا * قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ( مريم 16 - 18 ) 
ويبدأ بأن يربط بين ما كان يتحدث فيه انفا وبين ما هو بصدده : الآن وقد أدركت أن كل شئ إلى فناء ، فقبل أن يفوت منك كل شئ انفصل عن صورة الوجود ، وقل كما قالت مريم : إني أعوذ بالرحمن منك ، لقد تمثل لها الروح الأمين ( جبريل ) بلا نقاب أي بدون غطاء ما من الصورة أو المادة جميلا كل الجمال . لقد كانت عارية وخافت من الغواية . إن الغواية هنا مقرونة بالعرى ، ينميها العرى ويسهلها فإن الثياب الساترة للمرأة وقاء لها من أن تغوى وليس كما يقول بعضهم وقاية لها من إغواء الآخرين . ولما لم تجد طاهرة الذيل بدا فرت إلى الله سبحانه وتعالى .
 
إن هذه النظرات المحرقة للعقل ( تجلى العشق الإلهى والجمال الإلهى في صورة جبريل ) تجعل العالم كله طوع أمرها ، فلا أبطال ولا ملوك ولا جيوش ولا بدور .
إن هذا التجلي للجمال الإلهى يجعل كل الخليقة عبيدا له ، فما بالك بمريم التي كانت عارية خائفة من الغواية ؟ إن العقل الكلى نفسه ليسلم نفسه طائعا لهذا الجمال .
 
( 3718 - 3724 ) إن مولانا لا يستطيع أن يعبر عن كل هذا الجمال ( حكاية مريم عليها السلام ليست إلا تكأة ، ليتحدث عن الجمال الإلهى كأساس من أسس العشق موضوعنا الأصلي ) إن أنفاس هذا الجمال قد أحرقت منبع أنفاسه إن المنبع الأصلي والاشتياق إليه قد أحرق حنجرتى فلا أستطيع الحديث وإن لم تصدق فانظر إلى أثر ذلك فأنت لن تدرى ماهيته وكنهه ، إنني دخان هذه النار . لا إن هذا تعبير باطل ، فاللفظ قاصر عن بيان عوالم الغيب ( انظر تعليقات
 
“ 580 “
 
الأبيات : 4725 - 4732 من هذا الكتاب ) إن نور الشمس هو دليل على الشمس ( ينظر تعليقات الكتاب الأول بيت 116 ) وإن الظل ليبدو أحيانا دليلا على الشمس ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ) لكن عندما ترى الشمس ما فائدة هذا الدليل وما قيمته ؟ إن عظمة الحق وجلاله كافيان دليلا على وجوده ، أما إدراكاتنا الذهنية فقد حدثت بعد هذا الإثبات ، بل إن هذه الحركة الذهنية بطيئة بالنسبة لإدراك تجليات الحق ولا تصل إليه ، إن تجليات الله سبحانه وتعالى سابقة ، فكيف نصل إليها على هذه الحمر العرجاء ( الفكر ، العقل الجزئي ، الوهم ، الخيال ) ، إنه يأخذ الطريق عليها دائما .
 
( 3725 - 3735 ) وبالرغم من هذا فإن هذه الإدراكات البطيئة لا تقعد في سبيل إدراكات تجليات عوالم الغيب ، وإن قوانا الذهنية مثل البازي ، ومثل السهم ، ومثل السفينة في حركة ، وتذهب وتعود ولا تصل إلى مكان ما ، إن هذه الوسائل تزيد في هجومها كلما بدت لها التجليات الإلهية عن بعد وعندما تختفى فإن إدراكاتنا تضل ، ومن ثم فإن هذه الإدراكات تظل في نصب وتعب دونما نتيجة ، فعليها أن تستريح حتى لا تضل ، ينبغي أن يستريج البدن قليلا مثلما يستريح في الليل ( ليل اليأس من الوصول بهذه الوسائل ) .
 
( 3736 - 3745 ) يبدأ مولانا بعد انتهائه من البحث في إدراك تجليات عوالم الغيب ( إدراكها هو الذي يخفى السالك العاشق على إكمال الطريق ، أليست تجليات المحبوب أو اثاره التي تبشر بقربه ؟ ) في إرشاد السالكين :
 
“ 581 “
 
والحديث عن القبض والبسط ، إذا يضيق صدر المريد من فشله في الطريق ، أو يسر من وجدانه المراد وقربه من عوالم الغيب ( انظر الكتاب الثاني الأبيات 2971 ، 2975 ) ، فالقبض والبسط في رأى مولانا مثل الدخل والمنصرف لا ينبغي أن يظل السالك على حال واحد منهما ، فكل فصل من فصول العام له دور في نظام العالم “ حتى الزمان يدور في دورته المناسبة وبتقدير من الحكيم العليم ) . .
فإذا حل بك القبض ففكر أنك سوف تصل بعد الوصول إلى المراد إلى البسط ، فما بال هؤلاء المريدين كالأطفال لا يصبرون على المصاعب ( القبض ) ويريدون السرور ( البسط ) فحسب ؟ إن المريدين الواعين كالكبد دائما يتحملون أحزان طريق الحق ، أما أولئك الذين لا وعى عندهم فهم كالرئة يريدون دائما السرور ( فسر القدماء الأحوال والعواطف تبعا لأعضاء الجسد فربطوا دائما الشجاعة بالكبد والسرور بالرئة منبع التنفس ) “ استعلامى 3 / 383 “ وفي البيت التالي يتلاعب بلفظي “ اخر “ “ معلف “ واخر “ عاقبة “ والمعلف كناية عن الدنيا ، فالمريد الواعي يعلم تماما أن المنافع المادية لا توصل إلى عالم الغيب فالذي يرى الدنيا نفعا ورعيا كالأنعام إنما ينتظره في النهاية قصاب القضاء الإلهى ، فعاقبه الدابة ساطور القصاب .
 
( 3746 - 3761 ) إذن إذا كنت تريد أن تنجو فخذ غذاءك من الحكمة من عوالم الغيب ، من نور الله ، اترك البدن ، وغذاء الروح من غذاء المعرفة الذي يعطيه الله سبحانه وتعالى لخاصته دون انتظار لمقابل ، فعندما قال الله تعالىوَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ( الملك / 15 ) كان يقصد برزقه هذا المعرفة والحكمة وهو الرزق الوحيد الجدير بالروح والمناسب لها ، فهناك غير هذا الفم الذي يأكل الطعام فم
 
“ 582 “
 
اخر ( انظر تعليقات البيت 18 من نفس هذا الكتاب ) يأكل لقمة السر هذا هو قلب العارف ، لكن هناك شرط لكي يظهر لك هذا الفم هو أن تفطم عن لبن الشيطان ، أي اللذات المادية ووساوس الشيطان ، لا إنني لم اشرح هذا الأمر جيدا . لقد أنضجته نصف نضوج ، كما يفعل الترك بثريدهم . استمع إلى شرح هذا من الحكيم الإلهى سنائى الغزنوي يشير إلى ما ورد في الحديقة :
 
ألم تر أن الذي فوق كل الوجود حين خلق وجودك في الرحم أعطاك رزقك من الدم تسعة شهور ، الخالق الحكيم الذي لا مثيل له ورباك أيضا في بطن أمك وبعد تسعة شهور أتى بك إلى الوجودة ، وحينما أغلق هذا الباب للرزق في وجهك أعطاك بعده بابين أفضل منه ، أعطاك بعد ذلك الألفة بالثديين فهما أمامك طوال النهار والليل ينبوعان جاريان ، وقال لك : امتص من هذين الاثنين وكل هنيئا ، فليسا حراما عليك وحينما فطمت بعد عامين تبدلت جميع أحوالك ، أعطاك رزقك من يديك وقدميك ، امسك بتلك واسعى بذى في كل مكان ، فإذا كان البابان قد جاز غلقهما عليك ، فقد أقام بدلا منهما أربعة أبواب ، فخذ باليدين واسع بالقدمين بدأب ، واطلب الرزق في أنحاء العالم ، وحين يحم القضاء فجأة تكون أمور الدنيا كلها مجازا ، عجزت اليدان والقدمان عن العمل ، وبدلا من الأربعة أعطاك ثمانية فحينما قيدت الأربعة منك في اللحد ، صارت الجنان الثمان خالدة الثمان خالدة من أجلك ، فقد أعاد فتح الأبواب الثمانية لك ، وأحضر أمامك الحور والغلمان تذهب إلى أي باب مسرورا وكيفما تشاء ولا تتذكر شيئا من الدنيا ، فهو أكثر حنانا عليك من الأم والأب ، وهو رائدك إلى الخلد ، والخلعة التي كانت لك يوم عرسك ، لا يستردها منك يوم البعث . . ( الترجمة العربية لحديقة الحقيقة الأبيات : 264 - 280 ) وقوله أيضا :
 
“ 583 “
 
“ اهتم بنفسك ولا تنكر في الآخرين ضع حمل نفسك أمامك “ لا تهتم بأولئك الذين يشغلوننا بالدنيا ، ولا تكن كالطفل الذي يرجح سكر السرور أي لذات الدنيا ، فسكر السرور الحقيقي هو حصول المراد في طريق الحق ، وليس هو هذا السرور أي سرور الدنيا فهو جرح ومرهمه الغم ، وفي طريق الحق أحبب الحزن ، إنه يشبه الربوة تطل منها على مدينة الحقيقة ، والربوة جبل على بعد ثلاثة فراسخ من دمشق .
وقد صارت الشطرة الثانية مثلا ، وأن عاشق الحقائق كالأشياء المحسوسة .
ولم تبتعد انظر إلى ما حولك في الحياة : ألا ترى الحمالين يتشاجرون على حمل واحد ؟ إنه حمل ثقل ينوء به كاهله ، لكنه يريده ولو تشاجر مع الآخرين ، إنه يفعل ذلك في سبيل الآجر فما بالك بالأجر الإلهى ، إن الأجر الذي يعطيه الحق هو الكنز الدائم الذي لا يورث لكنه يتقدمك إلى قبرك .
 
( 3762 - 3768 ) كن ميتا قبل الموت إشارة إلى حديث يرويه الصوفية عن الرسول عليه السلام “ موتوا قبل أن تموتوا “ أي اميتوا هوى النفس والنزوع إلى الدنيا ، وإن فعلت فسوف تصبح قرينا للعشق السرمدي ، فحب الله وحب الدنيا لا يجتمعان معا ، وإن أصبح المرء قرينا للعشق السرمدي ، فسوف يرى الخير كل الخير فيما يحدث له فلا يتأتى من الحبيب إلا كل خير ، وما دام الحبيب ظاهرا له فإنه سوف يتحمل كل ألوان المجاهدة ، سيكون الصبر قرينا لمجاهدته ، فالحزن في هذا الطريق يساوى السرور الذي يوصل إليه ، بل إنه الضد الذي
 
“ 584 “
 
يتجلى فيه ضده الآخر ، بقدر ما يكون القبض يكون البسط ، والأمر طبيعي جدا ، كأنه قبض الكف وبسطها ، فمنهما معا يتيسر لهما الرزق ، وتتيسر لهما الحركة ، إنهما مثل جناحي الطائر ، ولا يمكن لطائر أن يطير بجناح واحد بل لابد له من جناحين ، لكي تتيسر له الحركة .
 
( 3769 - 3790 ) عودة إلى قصة مريم عليها السلام وتجلى العشق لها ، لقد اضطربت مريم عليها السلام لكن للحظة “ تسلحت بيقينها وإيمانها فعادت إلى وعيها ، وهذا هو الروح الأمين يطمئنهاإِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا( مريم / 19 ) إنه تجلى الكرم من المقربين من الحضرة الإلهية فكيف تهرب منه إلى عالم الغيب ، إن من المقربين في هذا العالم ، أنه من هذا العالم الذي تسميه مريم “ عالم العدم “ لكن الوجود الحقيقي موجود داخله ويفسر لها جبريل ما خفى عليها ( وهذا التفسير بالطبع من مولانا جلال الدين ) . انظرى يا مريم إنني أمثل بالنسبة لك صورة مشكلة : إن لي وجودا ظاهرا وليس لي وجود ظاهر في الوقت نفسه ، إن هذا التمثيل في صورة إنما يتم للحظة ، هو وجود مستعار بالنسبة لي ، إنني وجود عيني “ هلال “ ووجود ذهني “ خيال “ هذا الخيال سيظل معك ، لقد استقر في القلب ، أينما تهربين فهو معك ، لأنه وارد حق ووارد الحق يستقر ، أما وارد الباطل فإلى ذهاب وضياع ، وإذا كالصبح الصادق “ عالم الأنوار “ ذلك الذي لا يكتنفه ليل “ ظلمة الجسد ، ظلمة النفس “ إنني وجود ثابت لا أفول ولا غروب له ، هيا يا مريم : ولا تستعيذى بالله ولا تلجأى إلى الحق فمن نفس الملجأ أتيت وبمشيئته سبحانه وتعالى تمثلت لك إنما تلوذين بي منى . إنك لا تعرفيننى ( مثلما سنكتشف أن وكيل صدر جهان لم يكن يعرفه


“ 585 “
 
حق المعرفة . كان ينتظر منه القهر ولم يكن ينتظر منه اللطف ) وعدم المعرفة في الطريق إلى الله هي أكبر آفة في طريق العارف ، نحن جميعا في حمى المقربين إلى الحق دون أن نعرف ، فنحن نسمى الحزن في طريق الله حزنا وهو ليس بحزن بل سرور إن لطف الحق يظللنا كالأشجار الوارفة ، لكنه يمكن أن يكون قهرا وعذابا لمن ينكر الله ، ونحن لصوص لأننا غرباء عن عوالم الغيب ، ومن ثم فإن أشجاره الوارفة لن تكون إلا مشنقة لنا ، مثلما صار النيل دما لقوم فرعون ، إنه ماء ويعلم أنه ماء ويصيح في الناس إنه ماء ، لكن نظر قوم فرعون هو الذي تغير ، ولماذا نبتعد ونأتى بالأمثال من التاريخ : انظر إلى نفسك ! ألا يتغير أصدقاؤك إلى أعداء لك عندما تغير سلوكك معهم ! إنهم لم يتغيروا إن شحمهم ولحمهم لم يتغير ، سحناتهم لم تتغير ، نظرتنا إليهم قد تغيرت !
 
( 3791 - 3796 ) عودة إلى سياق قصة وكيل صدر جهان : اترك إذن قصة مريم ، فهي شمعة ستظل مضيئة ، وعد إلى هذا الذي يكابد حرقة العشق يمضى إلى بخارى منبع العلم والعرفان ، وكم انتسب إلى بخارى من العارفين الواصلين إلى الحق ، وليس هذا الأمر مقصورا على بخارى فأنت أمام الشيخ كأنت في بخارى فإن لم تبد الذلة ، لن يفيض عليك الشيخ بعرفانه من منبع العلم والمعرفة الموجود في قلبه . وفي البيت 3796 إشارة إلى الخبر “ طوبى لمن ذلت نفسه وطاب كسبه وحسنت سريرته وكرمت علانيته وعزل عن الناس شره “ ( استعلامى 3 / 386 )
 
( 3809 ) وطن العاشق حيث يكون المعشوق ، وهذا هو “ حب الوطن من الإيمان “ فوطن الإنسان في نظر الصوفية هو الجنة التي طرد منها ، ونفى إلى الأرض وامتدت غربته فيها وكل سعيه من أجل الوصول إليها .
 
“ 586 “
 
( 3810 - 3813 ) فيما يبدو أن مضمون الفكرة ورد في أبيات لسنائى :
وما دامت صورة خيال الحبيب معنا * فنحن في نزهة مع أنفسنا طول العمر وحيثما يكون جمال الحبيب * فوالله يكون صحن الدار منتزها وحيثما يأتي مراد القلب * فان شوكة واحدة خير من ألف من الرطب ( كليات ديوان ص 805 - ماخذ / 121 )
 
( 3823 - 3831 ) حتى في المكان الذي يكون فيه موكل ( حارس ، شرطي مطارد ) ظاهر ، فهناك موكل خفى يحركه ، وإلا فان هذا الشرطي الظاهر لا يبدي كل هذا التوحش وهذه القسوة من نفسه بل لابد أن هناك من يدفعه إليها ، ويسمى هذا الموكل الخفي “ غضب مليك العشق “ ، أي القهر الإلهى . لقد دفع القهر الإلهى هذا الموكل إلى هذا الأذى ، إنه هو الذي يأمره بضربه ولو كان يدرى أن القهر الإلهى هو الذي يحمله لجأر بالشكوى والضراعة إلى حضرة الحق طالبا منه أن يخلصه من ذلك الشيطان المرعب ( النفس ) . إننا لا نرى ذلك الأمر ، أي أن القهر الإلهى عامل باطني في أعمالنا ، لأن رؤيتنا أنفسنا عظاما تمنعنا من ذلك لأن لنا أجنحة مزيفة من نعيم الدنيا الزائل ، ولو تخلصنا منها لرأينا الحقائق الخفية ، وإلا فان طين الدنيا يجعل الأجنحة ثقيلة ويمنعها من الطيران إلى العوالم العليا .
 
( 3833 - 3847 ) إن عالمك لا يعرف العشق : تحتمل معنيين : أي أن العالم الذي تأخذ عنه كل هذه النصائح إنما يقولها من واقعة ( العقلي ) ولا علم له بعوالم
 
“ 587 “
 
العشق التي تخضع لقوانين أخرى ومعايير أخرى ، أما المعنى الآخر فهو أنك أنت نفسك الذي تدعى العلم لا تعرف عوالم العشق ، ومن ثم فحالك هذا مثل أحوال علماء الظاهر الناصحين الوعاظ الذين يعلمون ظاهرا من القول ولا علم لهم بأحوال العشق ، هؤلاء مهما كانوا في علم أبي حنيفة النعمان أو الشافعي - رضي الله عنهما - إلا أنهما هنا عاجزان وقال جلبنارلى ( 3 / 426 إن المعنى هنا مأخوذ بنصه من سنائى كما ضمن مولانا في غزلين من ديوان شمس ، ومثل هذه النقطة ركز عليها الشاعر الفارسي الشهير حافظ الشيرازي كثيرا :
امح الأوراق إن كنت رفيقا لنا في الدرس * فإن هذا العلم لا يحويه دفتر وحسنا ما قاله الحلاج على المشنقة لا تسألوا الشافعي عن أمثال هذه المسائل .
ومن ثم فان العبد العاشق يموت كل لحظة ، أي يفنى في ذات الحق ، وفي كل لحظة موت إشارة إلى مراتب الفناء في الله سبحانه وتعالى ، فناء صورة العبد في ذات الحق ، وفناء أوصاف العبد في أوصاف الحق ، وفناء وجود العبد في وجود الحق ، إن روح الهدى “ أي روح المعشوق “ ، تقتل العاشق في كل لحظة ثم تهبه الروح التي تساوى عشرة أرواح من طهرها وعظمتها واطلاعها على عوالم المعنى ، وهذا مصداق للآية الكريمةمَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها( الأنعام ) ، إن ما يسميه أهل الظاهر حياة هي في الحقيقة موت ، والخلاص من هذا الموت ، أي الحياة الحقيقية تتم ببقاء الله : إن هذا أشبه بما قاله الحلاج :
 
“ 588 “
 
اقتلونى اقتلونى يا ثقات * إن في قتلى حياة في حياةوالأبيات فيها بعض التصرف بالطبع لأن مولانا جلال الدين يبدأ في استخدام العربية عندما يستبد به الوجد . إن كل من يتحدث سواء بالعربية أو بالفارسية إنما يتحدث عن العشق ، لكن يظل كثير مما لم يقل : إن تجلى الحق مما لا يوصف ، وما يتأتى منا في وصفه شئ فإنه بالتجلي ( تضوع الرائحة ) يأخذ بالألباب ، ومن الأفضل أن نصمت ونترك وصف العشق للحق نفسه ، فهو القادر سبحانه وتعالى على وصفه ، ولكن ليس معنى أن نترك الوصف هو أن نترك العشق ، فإياك أن تصدق توبة العاشق إنه لا يزال في عشق حتى وهو يساق إلى المشنقة ، انظر إلى الحسين ابن منصور الحلاج كان يمضى نحو المشنقة وهو في القيود الثقيلة كما يساق العيارون وهو يترنم بعشق الحبيب ( رواية تذكرة الأولياء 591 ) .
 
( 3848 - 3854 ) يشير مولانا إلى قصة وكيل صدر جهان مجرد إشارة ثم يمضى إلى عوالمه ، إنه يمضى إلى بخارى لكن لا إلى بخارى التي هي منبع العلم بل إلى بخارى الخاصة به ، إلى بخارى منبع العشق ، أنه كعاشق منبت الصلة عن المدرسة والدروس ، فان معلم العاشقين هو الحق ، ودروسهم مشاهدة الحق وتجلى الحق في بواطنهم ، إنه العلم اللدني ، إنهم في الظاهر صامتون لكن درس العشق يتكرر دائما في بواطنهم ، إنهم لا يحبون دروس أهل الظاهر فهي لا توصل إلى شئ ، إن دروسهم هي آداب السماع ، وتجلى
 
“ 589 “
 
الحرقة والوجد والدوران والرقص ، ولا علاقة لهم بكتاب الزيادات في الفقه لمحمد بن الحسن الشيباني أو للإمام الغزالي ولا يتأتى التسلسل المنطقي للأبحاث والمسائل بحيث يترتب اللاحق على السابق . إن “ تسلسلهم هو الغرق في أوصاف الحق وبدلا من أن يتحدثوا عن الدائرة المنطقية يدورون حول الحبيب “ الرقص الصوفي “ ولا علاقة له بكتاب السلسلة لأبى محمد عبد الله الجويني - جلبنارلى 3 / 427 ) . أما مسألة الكيس إحدى مسائل عقاب اللص : أي أنه إذا مد يده إلى جيب أحد وأخذ كيسه وما فيها قطع أما إذا حفظ صاحب الكيس كيسه في مكان ماء وسطا عليه اللص ، فان العقوبة تكون أخف ويرى مولانا أنه لا علاقة لأهل العشق بذهب الدنيا وفضتها ، فان معرفة الحق لا تحفظ في كيس وليست قابلة للسرقة ، والخلع الطلاق بميل المرأة بحيث تتنازل عن مستحقاتها والمبارأة أن يتم الطلاق باتفاق الطرفين ، وإن تحدث أهل العشق عن الفراق فلا تقلق فإن الحديث يدور عن وصال الحبيب ( استعلامى 3 / 388 / 389 ) .
 
( 3855 - 3861 ) يفسر مولانا خروجه عن سياق الحكاية فبالرغم من أن أمواج المعاني تخرجه عن سياق الحكاية إلا أنه في هذا الأمر لا يخلو من إرادة ، إنه يرى في هذه التعليقات معنى كبيرا بحيث يتناولها ، فحتى الكلمات وظواهر الأمور لها معانيها الباطنة . ومن ثم فان تعليقاته على الحكايات هي ماهياتها وبواطنها ثم يتحدث عن بخارى كمركز للعلم الظاهري ، لقد تعلمت فيها كل هذه الدروس السابقة ، لكنك إن قهرت النفس وعرفت الحق عن طريق القلب فسوف تترك كل هذه العلوم . ( انظر تعليقات الأبيات من 3794 - 3796 ) إن وكيل صدر جهان قد عرف الشوق عن طريق القلب وهو متعلق
 
“ 590 “
 
بصدر جهان تعلقا باطنيا ، فان أية معرفة أو توقى لن تجعله يحيد عن هذا الطريق ، إنها رؤية أهل الخلوة التي لا تجعل من المعرفة وسيلة للشهرة والجاه والمقام ، ومثل هذا الشخص يكون ضائقا من علم أهل الظاهر ، ولأن الرؤية هي الغالبة ( على أسماع أهل العلم ) فالعوام متعلقون بالدنيا ، لأنهم يروها ( نقدا ) بينما يرون الآخرة ( نسيئة ) .
 
( 3862 - 3873 ) لا يزال مولانا يدور حول بخارى : إن وكيل صدر جهان ليس العاشق الوحيد لبخارى لأنها موطن عشقه ، بل لا يزال مولانا يحن إلى بخارى إحدى عواصم خراسان الكبرى مسقط رأسه “ بلخ “ والذي تركها طفلا ، ولأن المقام مقام شوق يعرج مولانا على قطعة شهيرة للرودكى :
إن حصى نهر جيحون ووعورة طريقه تبدو تحت قدمي كالحرير وإن ماء جيحون من سروره لرؤية وجه الحبيب يطف حتى يصل إلى أواسط مطايانا ( انظر جهار مقاله الترجمة العربية لعزام والخشاب ) ثم تتداعى البلاد ومعانيها سمرقند التي كالسكر ( قند تعنى السكر بالفارسية ) .
ولقد شفنى النحول يا بخارى حتى أصبحت كالهلال طلبا للبدر ، وأبحث عن الصدر ( صدر جهان أو الرجل الكامل ) وسط صف النعال ( اخر صف في المسجد حيث توضع النعال وكناية عن الناس العاديين الذين تشغلهم الدنيا ) .
وعندما يصل العاشق إلى ظاهر المدينة طفح به السرور ، لم يتحمل كل هذه المشاعر التي جاش بها قلبه ، فأغمى عليه ، وطار وعيه إلى عالم الغيب ، لكن مالك أنت وهذه الأمور ؟ إنك ( غافل عن عوالم الغيب ) ، إنك بوص
 
“ 591 “
 
( جسد بلا رحيق وبلا سكر ) إنك مأخوذ بعالم المادة غافل عن عالم المعنى ، وغافل عن المقصود بالآية الكريمةجُنُوداً لَمْ تَرَوْها *. ( التوبة / 26 ) .
 
( 3874 - 3885 ) لقد دخل العاشق دار الأمان حيث معشوقه ، إنه في غيبوبة من عالم الوصال ، لكن الناس لا يزالون يحذورنه ، سوف يكون عقابه بقدر ما كان قربه وعلمه ( ادم والله سبحانه وتعالى ) . ترى ما الذي جاء به ، وما الذي جعل الأرنب يتوقح على حضرة الأسد ، لكنه القضاء ، وسوف يتضح أن هؤلاء الذين يتحدثون إنما يتحدثون لأنهم لم يجربوا عوالم العشق .
 
( 3886 - 3902 ) يخرج مولانا عن سياق القصة كعادته ، إلا أن هذا الملمح من ملامح المثنوى يزداد في هذه الحكاية وذلك لأن العشق في حد ذاته علاقة معنوية ولا شائبة فيها من المادة ، فضلا عن أن مولانا يرى نفسه في كثير من أجزاء الحكاية ، إن وكيل صدر جهان هو أحد الطالبين الباحثين في عالم الغيب لا أكثر . . إن العاشق كالمستسقى وفي اعتقاد القدماء أن الاستسقاء كان يحدث عن نوع من “ السدة “ بحيث يجذب الماء إلى داخل الجسم ويهلك الظمأن لكن الماء هنا يرمز بالطبع إلى وصال المحبوب الذي يفنى المحبوب نفسه في سبيله وبالنسبة لهذا المستسقى ، بالرغم من أن الماء فناء له ، إلا أنه يبحث عنه ، إنه يتمنى لو كان جدول ماء ، وما جدول الماء ؟ إنه يتمنى لو سفك الروح الأمين ( أي المطلوب - المرشد الكامل - المعشوق ) دمه . لقد اختار وكيل صدر جهان “ الفناء في الشيخ “ وهو في سبيل هذا الفناء مستعد لتحمل كل البلايا ، وهكذا هو المريد عندما يغضب الشيخ . إن الشيخ “ عيد “ ، ومريديه هم “ ضحايا “ هذا العيد ،

“ 592 “


إنهم “ كالبقرة “ خلقت من أجل العيد ، وعندما تذبح في سبيل الشيخ فكأنها بقرة بني إسرائيل ( تفسير الآيات من سورة البقرة 67 - 72 ) ثماضْرِبُوهُ بِبَعْضِهالقد ضرب القتيل بذيل البقرة المذبوحة فقام حيا وأرشد عن قاتله : وهكذا يرى وكيل صدر جهان : أنه حتى إن قتل فسوف يكون قتله حياة ( القتل المادي يؤدى إلى الحياة المعنوية ) .


( 3903 - 3923 ) إن هذه هي سنة الحياة : أي أن الموت تعقبه حياة أفضل ، هي سنة الله في الكون وفي نواميسه : إن التراب بتبدل إلى نبات ويصير النبات حيوانا ، ويصيد البشر الحيوان ، وعلى هذا النسق فان وراء كل موت حياة أسمى وأرقى ، وهذه المراحل موجودة أيضا في خلق الإنسان : النطفة والجنين والوليد ، والإنسان الراشد . إن مراحل الجمادية والنامية مقدمتان لمراحل الإنسانية ، والموت عن الحيوانية ترك العلاقة النفسية - وموت الجسم إذن هو مقدمة لعالم الروح حيث يمكن أن يتدرج الإنسان إلى ما هو أعلى من الملائكية . . .
حيث يكون فناء العبد في الله سبحانه وتعالى لأن كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( القصص / 88 ) إن


- العدم هو الوجود المطلق وهو الغيب والعدم يحدثني كالأرغون حديثا كالموسيقى ، لأنه حديث لا يستطيع الكلام أن يؤديه ، فاعتبر الموت كما اعتبره الصادقون المؤمنون ظاهره مظلم لكن ماء الحياة مخفى في داخله إن أعمارنا على هذا الطرف من النهر ( الدنيا ) قصيرة كأعمار الزهور ، فألق بنفسك في الجدول كالمستسقى واغرق ومت .


وأين أنت والعشق أيها المتجمد الذي لا علم لك بعالم المعنى مهما تظاهرت بأنك عاشق .
انظر وأنت في جمودك وحزنك المصطنع ، إن العاشقين يضحون وهم فرحين .


“ 593 “


إن المرشد أمامك فأَدْلِ بدلوك وخذ من الأسرار . إن الإناء ( المريد ) عندما يوضع في الجدول “ الشيخ “ ينمحى فيه لكن هذا المحو هو عين الحياة ، لأنه لن ينقص بعدها أبدا ، وفي النهاية يتذكر مولانا صدر جهان الذي يقول : لا عودة إليه حتى ولو كانت هذه العودة هي بمثابة “ المشنقة “ لي فان هذا هو أقل اعتذار على أنني هربت منه . إن الناس يرونه ماضيا إلى النار ، لكن متى كان المرشد حتى في غضبه نارا إنه كله نور حتى كان عقاب الله غضبا إنه رحمة بالعبد ورأفة به ، إنه لا يمد إلا للظالمين الذين طردهم من رحمته وختم على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة .


( 3924 ) من هنا تمتزج حكاية وكيل صدر جهان بحكاية أخرى ، ويدخل عاشق اخر إلى الميدان ، ويبقى وكيل صدر جهان في طي النسيان حتى البيت 4380 على وجه التقريب والعاشق هنا إنما يخرج “ عشقه “ للموت بثقة في أن الجسد إن فنى فالروح باقي ، ويلقى بنفسه في طريق المخاطر بشجاعة نادرة دون أن يبالي على أي جنب في الله كان مصرعه ، وفيما يبدو أصل القصة من الحكايات الواردة في ألف ليلة وليلة “ الليالي 424 ، 425 “


وهي قصة علىّ المصري والمنزل المسكون الذي كان فيه كنز ذهبي مرصود باسمه ويقوم الجنى على حراسته ، وكان كل من يبيت فيه يوجد في الصباح ميتا حتى جاء علىّ المصري ورد على الجنى الذي يناديه في منتصف الليل وفك الطلسم وظفر بالذهب ، كما أن هناك العديد من الروايات العامية في كل مدينة حول مسجد أو دار لهما نفس هذه الصفة ، وفي الروايات العامية الإيرانية السائدة في طهران أن المسجد المذكور في الحكاية هنا هو مسجد “ ما شاء الله “ الواقع في شمال ابن


“ 594 “

بابويه ، كما يقص أهل كرمان نفس الحكايات عن مسجد “ كنج “ بالقرب من حي بامنار في كرمان ، ( ماخذ 122 / 123 ) .


( 3935 - 3939 ) لو فرض أن جسدي قد فنى ، إن هذا الجسد لا يساوى شيئا إنه كحبة واحدة من كنز الروح ، وإن ذهب الجسد وهو صورة فليست الصورة بذات قيمة ، بل إن الصور تتبدل إلى ما هو أفضل ما دامت الروح باقية ، وما دامت نفخة من الإله مصداقا لقوله تعالىوَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي *فمن الممكن لهذه النفخة أن تخرج من الجسد وتتحرر ، وحتى تخرج جوهرة الروح من صدف الجسد ، وإذا كان تمنى الموت هو علامة الصدق مصداقا لقوله تعالى : قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( الجمعة / 6 - 8 ) فاننى أقدم روحي قربانا خالصا له سبحانه وتعالى .

( 3945 ) إشارة إلى حديث يروى عن النبي ) “ الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم “ وانظر تعليقات البيت 140 من نفس الكتاب ( استعلامى 3 / 393 ) .


( 3949 - 3961 ) المقصود هنا : أنه عاطل ومشرد فيما يتصل بأمور الدنيا أو فيما يتصل بالحياة المادية ولا مبال بهما وهذا يساعد في السير المعنوي ، أي أنه ليس من أهل العافية وإيثار السلامة بل إني أحب أن تأتيني


“ 595 “

الجراح من هذه الدنيا ، إنني عاطل كسول مشرد عن هذه الدنيا ، لكني جلد وسريع إذ أعبر جسرها وأصل إلى عالم الغيب ، إنني أطير عن عالم المادة لكي أوصل نفسي سريعا إلى أصل الوجود ومبدئه ، فالروح في الجسد كالطائر في القفص فعندما يرى الطيور من حوله سعيدة في البستان يضيق بهذا القفص ، فهو فيها وليس فيها ، لكنه عندما يرى قطا يحوم حول القفص “ العقاب الإلهى “ لا يرغب في الخروج من هذه القفص ، وهكذا من يخشى عقاب الله ، لا يرجو لقاءه بل يتمنى أن تزداد الأقفاص حوله ، وما هذا بمنجيه .

( 3962 - 3976 ) إن مثل هذا الطائر الحبيس في القفص الذي يرى القطط خارجة كمثل جالينوس ذلك الذي يضرب به في العلم الدنيوي والمادي المثل لكنه فيما يتصل بالعلم الإلهى لا يقل عن العوام ، والدليل على ذلك أنه كان متعلقا بالحياة الدنيا إلى درجة أنه كان يفضل رؤيتها من “ فرج بغل “ ، عن مغادرتها بالموت ، والعبارات واردة في مقالات شمس تبريزى ( عن : ماخذ ص 123 ) ، 


وبعد أن يسوق مولانا هذه الحكاية يعود إلى مضمون البيت 3959 ، ويعتبره من أهل الدنيا الذين لا يريدون مغادرتها خوفا من العذاب . 

إن جالينوس لم يعرف شيئا عن ماهية الحياة بعد الموت - فهو كالجنين في رحم الأم ( انظر تعليق الأبيات 53 وما بعدها ) ، ثم يقول مولانا إن الفرق بين الأنبياء والناس العاديين هو أنهم يرون بستان عالم الغيب عند مغادرة الدنيا ولا خوف لديهم من موت الجسم .

( 3977 - 3994 ) ويشك مولانا في أن يكون جالينوس هو قائل هذا القول ذلك أنه من المستبعد أن يتعلق من هو في حكمه جالينوس بالدنيا كل هذا


“ 596 “

التعلق ، وسواء كان هو القائل أو سواه ، فإن قائل هذه العبارة لم ينور باطنه بنور المعرفة الربانية ، إن روحه كالفأر عندما يرى القطط ( عوامل القهر الإلهى ) يفر إلى جحر ويصير هذا الجحر عالمه ودنياه يبنيه ويأخذ من العلم ما هو جدير به ، ويظل قائلا للدنيا : هل من مزيد و “ إنه لا يصل حتى إلى الفأر “ إن مثل أهل الدنيا كالعنكبوت ومثل أهل الحق كالعنقاء ومَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِولكنه مهما فر في جحره فان القطة تمد مخلبها داخل القفص وعوامل القهر الإلهى كثيرة إذ ان رجل الدنيا غالبا ما تصيبه الأمراض والعلل التي هي مخالب الموت من قبل الألم والدوار والمغص ، فالموت قادم إليه لا محالة إذ لا مهرب منه ولا مفر . 


إن حكمه ماض في الناس جميعا ، والمرض هو الشاهد هو رسول هذا القاضي ، صاحب الحكم النافذ ، والمرء إنما يبحث في الدواء والعلاج عن مهلة أمام هذا القاضي ، إنه هروب من رسول القاضي ، ورتق تلك الخرقة المهلهلة المسماة بالجسد ، وليس من رتق إلا التوبة فقلل من الانشغال بالدنيا ( سوق الجواد في الظلمة ) فرسول القاضي يستحثك على هذا .


( 4001 - 4013 ) إن الأسد هو الذي يستطيع أن ينازل القضاء ، ومن هو الأسد ؟ ! إنه أبدال الحق الذي تبدل وجوده لأنه يعتمد على قدرة الحق اللامتناهية وهو الذي يهزم الموت ( حياته دائمة لأنه ينتقل من دار إلى دار ومصداقا للحديث المنسوب إلى النبي - ، - إلا أن أولياء الله لا يموتون بل ينتقلون من دار إلى دار ) ، لقد خلصه الله من سجن الدنيا وحتى الخل يصير خمرا له ( عندما


“ 597 “

يشرب الولي السم يصير له عسلا 2615 من من الكتاب الأول ) ، لكن أولئك الذين ليسوا من رجال الحق يظنون أنفسهم صيادى أسود وهم فريسة لها وفي مقابل رجال الحق هناك المنافقون وعلامتهم أنبَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى( الحشر / 14 )


إنهم فرسان المقال يتنفجون فيما بينهم ، يفخرون شعرا ويقعقعون لفظا ، لكنهم عندما تقع الحرب يظلون كالنساء في البيوت “ أو يولون العدو الأدبار “ ؟ مع أن الرسول ، ذلك القائد المغوار قال إنه لا شجاعة قبل الحروب وقد أخذ جلال الدين مضمون فحواه ، “ لا تعرف ثلاثة إلا عند ثلاثة : الحليم عند الغضب والشجاع عند الحرب والأخ عند الحاجة إليه “ وهو منسوب في إحياء علوم الدين والرسالة القشيرية إلى لقمان الحكيم ( استعلامى 3 / 396 ) .

ومثل هؤلاء كالباحث عن الصفاء في عشق الحق ، لكنه يفر من الظروف التي تمنحه هذا الصفاء ، يفر من الامتحان الذي ينقيه ومن البلاء الذي يصهره وعندما يريد الموت أو الفناء الدليل فقدمه ، وقبل الحية ، أي اقبل كل خطر في هذا الطريق حتى تصل إلى كنز معرفة الحق ( في المأثور الفارسي كل كنز تحرسه حية ولا يظفر بالكنز إلا من يقتلها ) .

( 4014 - 4038 ) يقدم مولانا الصور تلو الصور ، لكي يصل إلى معنى عام هو : أن الآلام في طريق العشق ليست إيذاء لروح العاشق ، إنها أذى وقمع للصفات الموجودة في نفس العاشق والتي تبعده عن العشق ، وأولى بهذا التأديب أولئك الذين حادوا عن طريق الرجال ( الجهاد في الطريق ) إن هؤلاء عار على الطريق ، إياك أيها السالك أن تمضى معهم فأولئك الذين نزلت فيهم الآية الكريمة


“ 598 “


لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا( التوبة / 47 ) إن هذا الرفيق الضعيف الواهن يذهب شجاعة الأبطال ويفل عزم الرجال ، فالرجال مهما كانوا في قلة ( والكرام قليل ) أفضل من أن يكونوا في كثرة مع أولئك النفر ، فلا طريق لخائف جبان ، فالخائف الجبان لا يعرف له طريقا حقا إنما يبذل في سبيل الطريق من هو عالم بنهايته ( وما نهايته إلا الحياة ) ليس كالمجوسي الذي جعل الدنيا كل همه ومبلغ علمه . 


إنني لا زلت أوصيك : إذا أردت القتال فاطلبه من الرجال ، وإذا أردت الصيد فاستخدم العقاب لا الطاووس مهما أعجبك ريش الطاووس ، ومن هنا تتخلص من الطبع ( النفس والهوى ) فإنهما يضلانك كما يغويك ريش الطاووس .

.
* * *
.
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: