الأربعاء، 5 أغسطس 2020

21 - شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 2604 - 3101 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

21 - شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 2604 - 3101 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

21 - شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 2604 - 3101 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

شرح كيف أيقظ إبليس معاوية رضي الله عنه قائلا : قم فقد حان وقت الصلاة 
“ 550 “
 
( 2604 ) يبدأ الشاعر هنا قصة عن معاوية وإبليس ، خلاصتها أن إبليس أيقظ معاوية في وقت الصلاة ، فشك معاوية في اخلاصه ، وظل يحاوره حتى كشف خبث سريرته ، وأنه ما قصد من ذلك إلى خير .
وقد أبدى نيكولسون شيئا من العجب إزاء اختيار الشاعر لشخصيتة معاوية في هذا القصة ، برغم ما عرف عن الأمويين من اقبال على الدنيا وبعد عن الزهد ، ثم التمس للشاعر عذار في ذلك ، هو أن معاوية كان من صحابة الرسول ، كما أن الرسول أيضا تزويج أخت معاوية .
ورأيي أن اختيار معاوية هنا لم يكن لمكانته في الاسلام فحسب ، وانما لما كان يعرف به معاوية من دهاء وسعة حيلة . فلقد وضع الشاعر - في القصة - داهية لا يسهل خداعه ، في مواجهة الشيطان ، فطال بذلك الحوار بين هذين المتصارعين ، واستطاع الشاعر أن يملأه بكثير من الصور الفنية الرائعة ، والمعاني التي تكشف عن قدرته في تصوير الصراع ، والتعبير عن وجهات النظر المتعارضة ، حتى ولو كان الشيطان - عدو الانسانية الأكبر - يمثل أحد الجانبين المتصارعين .
وقد أورد فروزانفر نصوصا تعبر عن الفكرة الأساسية لهذه الحكاية ، بايجاز ، وبدون أي تصوير فنى ، مما يجعل عمل جلال الدين ابداعا مستقلا لا يكاد يدين بشئ لمثل هذه النصوص . وفيما يلي مثال للصور التي وردت بها هذه القصة :
“ يروى أن رجلا كان يعلن إبليس كل يوم ألف مرة . فبينما هو ذات يوم نائم إذ أتاه شخص فأيقظه وقال ، قم فان الجدار ها هو يسقط . فقال له : من أنت الذي أشفقت علىّ هذه الشفقة . فقال له :
أنا إبليس . فقال : كيف هذا وأنا ألعنك كل يوم ألف مرة . فقال : هذا لما علمت من محل الشهداء عند الله ، فخشيت أن تكون منهم فتنال معهم

 
“ 551 “
 
ما ينالون “ . ( عن قصص الأنبياء للثعلى ، ص 36 . انظر أيضا : فروزانفر :
مآخذ قصص ، 72 - 73 ) .
 
( 2620 ) “ ختن ) بضم أوله وفتح ثانيه ، وآخره نون ) : بلد وولاية دون كاشغر ، ووراء ، يوزكند ، وهي معدودة من بلاد تركستان .
وهي في واد بين جبال في وسط بلاد الترك ، وبعض يقول بتشديد التاء “ . ( ياقوت : معجم البلدان ، مادة ختن ) .
 
( 2635 - 2637 ) هذه الأبيات تعبر عن معنى حديث قدسي ينقل عن الرسول أنه روى عن الله قوله : “ انما خلقت الخلق ليربحوا علىّ ، ولم أخلقهم لأربح عليهم “ .
 
( 2640 ) يجادل إبليس قائلا : “ انه لا ينظر إلى سبب ضلاله ، وهو عصيان الخالق بالامتناع عن السجود لآدم ، والا إلى الجزاء الذي وقع من جراء هذا العصيان ، وهو غضب الخالق .
 
( 2641 ) الخالق لطيف رحيم ، سبقت رحمته على غضبه . وإبليس ينظر إلى ذلك اللطف الأزلي ، ولا يصرفه عن ذلك ما أصابه من غضب الله نتيجة لعصيانه . ان العصيان حادث ولا اعتبار للحادث إذا قيس بالأزلىّ .
 
( 2642 - 2644 ) ساق الشاعر على لسان إبليس حجة أخرى يعتذر بها عن عصيانه ، خلاصتها أن هذا العصيان جاء نتيجة لحبه للخالق ، وحرصه على أن يكون التقديس له وحده ، وغيرته من أن يظفر آدم بمنزلة تفوق ما كان لا بليس من منزلة عند الخالق .
 
( 2645 ) يقول إبليس : “ ان الخالق قد قدر على العصيان منذ الأزل ، ولهذا لهم يكن في وسعى أن أفعل سوى ذلك “ . ( انظر : المثنوى ، 1 ، 1488 ) .
 
( 2647 ) يدعى إبليس أنه - برغم ما يقاسيه من قهر وخذلان - ينعم بالمحبة الإلهية .
 
“ 552 “
 
( 2648 ) “ الجهات الست “ رمز للحواس الخمس . والحس المشترك ، ( وهو الحس الذي تُدرك به الصورة ) . والمراد أن التخلص من سلطان الحواس الست أمر بالغ العسر . وقد شُبهت الحواس الست بالأقسام الستة في لوحة النرد ، فالوقوع تحت سلطان الحواس يحدث الهزيمة ، وكذلك احتباس أحجاز لا عب النرد في “ الخانات “ الست يؤدى إلى هزيمته .
وحاصل المعنى أن المراء لا يستطيع أن يجرى في ستة اتجاهات في وقت واحد .
وحديث إبليس هنا يبدو وكأنه صادر عن انسان ذي حواس . ولا غرابة في ذلك ، فأسير الحواس عند الصوفية صنو إبليس .
 
( 2649 ) أعتقد أن المقصود “ بجزء الستة “ هنا هو الحس المشترك ( الذي تُدرك به الصور ) . فمثل هذا الحس لا يصلح سبيلا إلى معرفة روحية ، ما دام يستمد كل مدركاته من الحواس . فلا قدرة لهذا الحس المشترك على التخلص من سلطان العالم الحسى .
 
( 2650 ) كل من كان واقعا تحت السلطان الحواس فهو في جحيم لا يخلصه منه سوى الخالق القدير .
 
( 2658 ) شبه معارف إبليس بالصفير الذي يحدثه الصياد ليوقع الطيور . فالناس ينخدعون بحديث إبليس ، كما تنخدع الطيور بصفير الصياد .
 
( 2661 ) ان سيطرة الشيطان على قوم نوح جعلت هؤلاء يعصون نبيهم هذا ، فحل بهم غضب الله وأغرقهم الطوفان .
 
( 2662 ) انظر : المثنوى ، 1 ، 854 - 855 وشرحهما .
 
( 2663 ) في البيت إشارة إلى قصة قوم لوط ، وكيف هلكوا من جراء ما كانوا يتعلقون به من الآثام . قال تعالى : “ وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل “ . ( 15 : 74 ) . وقال أيضا : “ وأمطرنا عليهم مطرا فساء
 
“ 553 “
 
مطر المنذرين “ . ( 26 : 173 ) . ولقد كان هلاك قوم لوط بحجارة أمطرتها عليهم السماء . أما وصف الشاعر لقوم لوط بأنهم “ غرقوا في المياه السوادء “ ، فلعل ذلك إشارة إلى ما أصابهم من عمى ، جاء ذكره في قوله تعالى : “ ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم “ . ( 54 : 37 ) .
 
( 2664 ) انظر المثنوى ، 1 ، 1189 وشرحه .
 
( 2665 ) فرعون ، الملك الذكي القادر ، صار عديم الفهم من جراء مكر الشيطان ، فلم يستمع إلى رسالة السماء .
 
( 2666 ) أبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب ، عم الرسول .
كان من أشد أقرباء الرسول عداوة له . يقول البلاذري : “ لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : “ وأنذر عشيرتك الأقربين “ ( 26 : 214 ) ، اشتد ذلك عليه ، وضاق به ذرعا ، فمكث شهرا أو نحوه جالسا في بيته ، حتى ظن عماتُه أنه شاك ، فدخلن عليه عائدات . 
فقال : ما اشتكيت شيئا ، ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فأردت جمع بنى عبد المطلب لأدعوهم إلى الله . 
قلن فادعوهم ، ولا تجعل عبد العزى فهيم - يعنين أبا لهب - فإنه غير مجيبك إلى ما تدعوه اليه “ . 
وتاريخ أبى لهب وامرأته ابان الدعوة حافل بالكيد والعداء المرير لرسول الله .
وقد نزلت في ذمهما سورة من القرآن الكريم ، وهي سورة المسد ، ( 111 ) أما أبو جهل ، فهو أبو الحكم عمرو بن هشام ، وكان من أشد الكفار عداء للرسول . ) ( انظر : المثنوى ، 1 ، 2154 - 2160 ، والشرح ) 
 
( 2670 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى ( حكاية عن ابن نوح ) :
“ قال سآوى إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله الا من رحم “ . ( 11 : 43 ) . العصمة وحدها هي التي تنجى الانسان من مكر الشيطان ، كما كانت رحمة الله هي المنقذ الوحيد يوم طوفان نوح .


“ 554 “
 
( 2672 ) يدعى إبليس أنه محك لتمييز الخير من الشر . وهو بهذا يجعل نفسه على مستوى الأنبياء . ( انظر المثنوى ، 2 ، 284 - 287 ) .
وإبليس - من هذه الناحية - محك سلبىّ فهو يدعو إلى الشر ، وبهذا يتبين الشرير من الخير ، على العكس من الأنبياء ، فهم يدعون إلى الخير ، فيتميز الخير من الشرير .
 
( 2674 ) “ ليس الشر من صنعي ، بل هو كامن في النفوس التي تستجيب لي . وقيمة هذه النفوس تظهر على حقيقتها باستجابتها لي ، فكأنما أنا صير في حدد قيمتها “ .
( 2675 ) الشيطان يظهر السبيل للطيبين ، فهو يجعلهم شهودا لما حاق بالعصاة الهالكين من سوء المصير . وهو الذي يقود العصاة إلى نهايتهم .
 
( 2676 ) “ ألوان العلف “ ، هي ألوان المعزيات التي يظهرها إبليس للناس .
 
( 2682 ) الأبتر هو من لا يكون له أثر من نسل ولا ذكر حسن .
والمقصود هنا أن من عاش حياة حسية ، فلن يكون لحياته أثر ، فكل ما هو حسى فمآله إلى الفناء .
 
( 2684 ) ان الخير والشر - برغم اختلافهما - يقومان بعمل واحد ، هو التمييز بين الأخيار والأشرار . فكما يُظهر الأنبياء الأخيار من الأشرار ، كذلك يظهر الشيطان الأشرار وهم الذين يلبون نداءه ، والأخيار وهم الذين لا يستجيبون لاغرائه .
 
( 2686 - 2687 ) في هذين البيتين يتضح الفرق بين فكرة الشيطان في الاسلام وسائر الأديان السماوية من جهة ، وبين تلك الفكرة في الأديان الثنوية من جهة أخرى . فبينما تؤمن الأديان الثنوية بقدرة الشيطان على الخلق ، ومقاومته لإرادة الله ، تنفى الأديان السماوية عن الشيطان القدرة على الخلق ، وتنفى عنه أية قدرة على مشاركة الله في ملكه .
 
“ 555 “

 
( 2688 ) إشارة إلى حكاية صغيرة وردت بصور متعددة في مصادر أخرى . ( انظر : فروزانفر : مآخذ قصص وتمثيلات ، ص 74 ) . وتعبر احدى الروايات العربية عن هذه القصة كما يلي : “ ومر أعرابي بمرآة ملقاة في مزبلة ، فنظر وجهه فيها ، فإذا هو سمج بغيض ، فرمى بها ، وقال : ما طرحك أهلك من خير “ .
 
( 2690 ) هنا يعود إبليس إلى ادعاء صفات لنفسه شبيهة بصفات الأنبياء . فالنبي هو الشاهد على الخلق ، وليس إبليس .
 
( 2692 ) يدعى إبليس أنه يقتلع الفساد من الأرض حتى يسودها الصلاح ! 
 
( 2693 - 2696 ) الشجرة الذابلة هنا رمز لا ستقامة الظاهر وفساد الباطن . فهذه الشجرة تقف مستقيمة كغيرها من الأشجار لكنها في الحقيقة ذابلة جافة . واستقامتها الظاهرية لا تشفع لها في البقاء ، بل إن البستاني يستأصلها . وهكذا حال من استقام ظاهرهم ، وفسد باطنهم .
 
[ شرح من بيت 2700 إلى بيت 2850 ]
( 2702 - 2703 ) ان إبليس يدور حول الانسان ، متظاهرا بأنه يريد مؤازرته ، على حين أنه لا يريد له الا الهلاك . فهو مثل قاطع الطريق ، يسلب ، ولا يشترى . وان تظاهر بالشراء كان ذلك كيدا وخداعا .
 
( 2706 ) “ ان لم تأخذ بيدي غدوتُ مجللا بسواد الاثم والخطيئة “ .
 
( 2708 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة “ . ( 2 : 31 ) .
فآدم - وهو الذي تعلم من الحق - وقع ضحية لخداع إبليس .
 
( 2710 ) في البيت إشارة إلى قصة سقوط آدم وندمه . قال تعالى حكاية عن آدم وزوجه : “ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين “ . ( 7 : 23 “ .
 
( 2718 - 2720 ) يقول إبليس : “ ان النفس الأمارة بالسوء تقود
 
“ 556 “
 
الانسان إلى ارتكاب الخطايا ، حتى يسوء من جراء ذلك حاله . وهو يلعن إبليس ويعزو اليه ما أصابه ، والواقع أن نفسه هي التي جلبت عليه الوبال ، وهو غافل عن خداعها .
 
( 2722 ) يشير البيت إلى معنى المثل القائل : “ ألية في برية ما هي الا لبلية “ “ 1 “. فأذناب الخراف كانت توضع في أشراك لاصطياد الوحوش الكاسرة .
 
( 2724 ) في الشطر الأول من هذا البيت نظم لمثل عربى معروف نصه : “ حبك الشئ يعمى ويصم “ “ 2 “ .
( 2726 ) “ انى منتظر أن يكشف الله عنى ما غشينى من ليل الاثم والخطيئة “ .
 
[ شرح من بيت 2850 إلى بيت 3000 ]
 
( 2758 ) يقول معاوية لا بليس : “ هأنذا قد كشفت زيفك وألزمتك الحجة ، فلتقل الصدق . . . “ .
 
( 2765 ) قول الشاعر : “ فنطق إبليس من تحت أسنانه “ ، يعنى أن إبليس أرغم على البوح بسره .
 
( 2770 ) “ ان احساس العبد بالحسرة على فرض فاته أداؤه ، وأساه المنبثق من اخلاص روحه ، ربما كانا معا يعدل عند الله مائة صلاة “ .
هذا هو المعنى الذي عبر عنه البيت . وهو مرتبط بنصوص صوفية سابقة . ومن أمثلة ذلك ما نقله أبو نعيم الاصفهاني . قال : “ ان الشيطان يزين للعبد الذنب حتى يكسبه ، فإذا كسبه تبرأ منه ، ولا يزال العبد يبكى منه ويتضرع إلى ربه ، ويستكين ، حتى يغفر له ذلك الذنب وما قلبه ، فيندم الشيطان على ذلك الذنب ، حين أكسبه إياه ، فغفر له الذنب وما قلبه “ . ( حلية الأولياء ، 3 ، 335 ) . وقال أيضا : “ ان
.................................................................
( 1 ) الميداني : مجمع الأمثال ، ج 1 ، ص 122 .
( 2 ) المصدر السابق ، ج 1 ، ص 273 .

 
“ 557 “
 
العبد ليعمل الذنب ، فإذا ذكره أحزنه ، فإذا نظر الله عز وجل اليه قد أحزنه ، غفر له ما صنع ، قبل أن يأخذ في كفارته ، بلا صلاة ولا صيام “ .
ومما يجب الاتنباه اليه هنا أن التقصرى الذي يُقابل بمثل هذا الغفران هو تقصير غير مقصود ، كالنوم حتى يفوت موعد الصلاة ، كما هو واضح من قصة إبليس ومعاوية ، في رواية الشاعر ، وكما يتضح أيضا من القصة التي يرويها الشاعر في الأبيات التالية ( 2771 - 2779 ) .
 
( 2788 ) “ انني روح مأمنة ، لا يتملكنى سوى الحق ، فأنا كالباز الأبيض ، لا يصيدنى الا المليك ، وليس لصياد الذباب قدرة على اصطيادى “ . وصياد الذباب هنا رمز للشيطان ، كما أن تشبيه ضعاف النفوس المتهالكين بالذباب يصور هؤلاء تصويرا رائعا ، يعبر عن ضعفهم وتراميمهم ، تهالكهم على اللذات المهلكة ، وسرعة هلاكهم ، ثم زوالهم الكامل .
 
( 2793 - 2807 ) ساق الشاعر في هذه الأبيات قصة يمثل بها لخداع الشيطان الذي يصرف الانسان من الحقيقة إلى الوهم . ففي القصة نرى رجال يطارد لصا حتى يوشك على الامساك به ، فيناديه لص آخر بطريقة مثيرة ، فيتراخى في القبض على اللص ، ويتجه نحو المنادى ، وهناك يخبره اللص الآخر بأنه يريد أن يريه آثار قدمي اللص الهارب .
وقد استطرد الشاعر من هذه القصة إلى الحديث عن “ العلم اليقيني “ وهو - في نظره - العرفان الصوفي ، و “ العلم الوهمي “ ، ويقصد به علم الكلام وما شاكله .
 
( 2811 ) العلم الدنيوي مرتبط بالحس ، أما العلم اليقيني فقد تحرر من الحس .
 
( 2812 ) يشير الشاعر في هذا البيت إلى درجات ثلاث من المعرفة .
أولاها ادراك الصنع ، وهذا ما نتيجة للانسان معارف الحس . والثانية
 
“ 558 “
 
معرفة الصفات الإلهية ، وتلك هي ألأسباب الكامنة وراء الصنع ، فمثل هذه المعرفة تشغل المتكلمين ، الذين يقفون عند حد الأسباب والعلل .
وأما الثالثة فهي معرفة الذات ، وهي التي ينشدها الصوفية العارفون .
وقد يفهم البيت على أساس ترجمة أخرى يسمح بها النص وهي : “ ان المحجوب ( عن الذات ) يرى أن الصنع ( ينبثق ) من الصفات ، فمن أضاع الذات ، يتلعق بالصفات “ . ( فالمعنى - على أساس هذه الترجمة - يشير إلى أن هناك نوعين من المعرفة ، أحدهما هو الفكر العقلي القائم على الأسباب والعلل ، وثانيهما هو العرفان الروحي ، المستند إلى الذات الإلهية وحدها .
 
( 2813 ) “ الواصلوان الغارفون في الذات “ هم الصوفية . وهؤلاء قد ركزوا نظرهم في الذات ، فصرفهم ذلك عن الصفات . فعندهم أن من عرف مسبب الأسباب ، هانت عليه معرفة الأسباب .
 
( 2814 ) من غاص إلى أعمق أعماق العرفان لم تعد تهمه القشور ، فهو كمن غاص إلى قاع البحر ، فلم يعد بصره متعلقا بلون الماء .
 
( 2815 ) من أدرك العلم اليقيني ، ثم عاد منه إلى بحث الأسباب والعلل ، فهو شبيه بمن أخذ ثوبا خشنا لقاء فراء .
 
( 2816 ) كل انسان تكون عبادته على قدر عرفانه وادراكه . فطاعة العوام - التي تقتصر على أداء الفروض من غير ادراك لجوهرها ومعناها - تُعد اثما في نظر الخواص . وما يحسبه العوام كشفا إليها ، وشهودا روحيا ، فهو عند العارفين حجاب .
 
( 2817 ) ان من وصل إلى مقام القرب ، ثم هبط إلى منزلة أدنى من ذلك ، يشبه من كان وزيرا ثم جعله الملك محتسبا .
 
( 2818 ) يُذكر في تفسير هذا البيت قوله تعالى : “ ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم “ . ( 13 : 11 ) .
 
( 2821 - 2824 ) في هذه الأبيات تعبير عن قدرة الانسان على
 
“ 559 “
 
تحديد مصيره بعمله . فيجب على المرء ألا يعزو ما يحيق به من سوء المصير إلى ما يسمى عادة “ بالقسمة “ أو “ النصيب “ بل عليه أن ينظر إلى عمله ، ويلتمس فيه تفسيرا لمصيره .
ويؤيد معنى هذه الأبيات قوله تعالى : “ ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك يبدأ من سيئة فمن نفسك “ . ( 4 : 79 ) .
 
( 2825 ) يبدأ الشاعر هنا قصة “ مسجد الضرار “ . وقد أشار إليها القرآن الكريم ، في قوله تعالى : “ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وارصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن ان أردنا الا الحسنى والله يشهد انهم لكاذبون . لا تقُم فيه أبدا المسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطِّهرين “ . ( 9 : 107 - 108 ) .
وقصة مسجد الضرار مشهورة . وقد وردت في كافة كتب التفسير بصور متقاربة . وننقل فيما يلي نصا لهذه القصة عن ابن فضل الله العمرى في كتابه مسالك الأبصار ( ج 1 ، ص 129 - 130 ) .


“ روى أن بنى عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء - وكان يأتيهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويصلى فيه - حسدهم اخوتهم بنو غنم بن عوف . وقالوا : نبنى مسجدا ونرسل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلى فيه ، ويصلى فيه أبو عامر الراهب ، إذا قدم من الشام ، ليثبت لهم الفضل والزيادة على اخواتهم . زعموا . وأبو عامر هو الذي سما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الفاسق . وقال لرسول الله :
لا أجد قوما يقاتلونك الا قاتلتك معهم . فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين .
فلما انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام . وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح ، فانى ذاهب إلى قيصر ، وآت بجنود ، ومخرج محمدا وأصحابه من المدينة “ .
أما القسم الذي صوره جلال الدين من هذه القصة فهو ما يلي :

 
“ 560 “
 
“ فبنوا مسجد الضرار إلى جانب مسجده قباء ، وقالوا للنبي :
بنينا مسجدا الذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية . ونحن نجب .
أن تصلى لنا فيه ، وتدعوا لنا بالبركة “ . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) :
“ انى على جناح سفر وحال شغل . وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه “ .
فلما قفل من غزوة تبوك ، سألوه اتيان المسجد ، فنزل قوله ( تعالى ) :
“ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا “ إلى قوله : “ لا تقم فيه أبدا “ . فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشى قاتل حمزة ، فقال لهم : “ انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدموه واحرقوه “ . ففعلوا . وأمر أن يُجعل مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة “ .
 
( 2829 ) قول الشاعر : “ وزينوا أرضه وسقفه وقبته . . . “ ، يجب ألا يؤخذ على معناه الحرفي ، ففن انشاء القباب لم يكن قد انتقل إلى الحجاز في عهد الرسول .
 
( 2831 - 2833 ) جاء في قصة “ مسجد الضرار “ أن المنافقين خاطبوا الرسول قائلين : “ بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة والشاتية ، ونحن نحب أن تصلى لنا فيه وتدعوا لنا بالبركة “ .
( انظر القصة في شرح البيت 2825 من هذا الكتاب ) “ .
 
( 2835 ) قول الشاعر : “ وان صحبة الاخوان لتجعل المر حلوا “ ، قد بدا لبعض الشراح محتاجا إلى التأويل ، لأنهم فهموا من قوله “ تجعل المرا حلوا “ أن الجماعة تخفف مرارة العبادة . والواقع أنه لا داعى لهذا التأويل ، وينبغي أن يفهم هذا القول على معناه الحرفي بدون تأويل ، فتزول بذلك الصعوبة في فهمه . وما دامت صحبة الاخوان تجعل المر حلوا ، فمن الطبيعي أنها تزيد الحلو حلاوة . فالعبادة تزداد بالجماعة حلاوة وتأثيرا في النفس .
 
“ 561 “
 
( 2840 - 2843 ) من الصور الرائعة في هذه الأبيات تشبيه اللطف الذي ينطق به اللسان - بدون اخلاص من القلب - بالخضرة فوق رماد المواقد ، وكذلك تصوير اللطف الزائف بأنه جسر مهدم ، لا يمكن الركون اليه .
 
( 2854 - 2856 ) تعبر هذه الأبيات عن معنى الحديث الذي يروى عن الرسول قوله : “ انما مثلي ومثل أمتي كرجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش تفعن فيها وأنا آخذ بحجزكم وأتتم تقتحمون “ .
( انظر : المنهج القوى ، 2 ، 557 ) .
 
( 2860 ) قول الشاعر : “ لقد بنوا مسجدا على جسر النار “ ، مقتبس بمعناه من قوله تعالى : “ أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدى القوم الظالمين “ . ( 9 : 109 ) .
 
( 2861 ) جاء في مسالك الأبصار للعمرى ( ص 130 ) نص يروى عن عطاء قوله : “ لما فتح الله الأمصار على عمر أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضارّ أحدهما صاحبه “ .
 
( 2862 ) المقصود باليهودي في هذا البيت هو أبو عامر الراهب .
( انظر قصة مسجد الضرار ، شرح البيت 2825 من هذا الكتاب ) .
 
( 2863 - 2864 ) انظر من قول الرسول في قصة مسجد الضرار .
شرح البيت 2825 .
 
( 2872 ) قال تعالى : “ اتخذوا أيمانهم جنة “ . ( 58 : 16 ) ، ( 63 : 2 ) . والجُنَّة هي الوقاية . فهؤلاء المنافقون قد احتموا بالأيمان الكاذبة ، واستتروا وراءها .
 
( 2883 - 2884 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ فلما أتاها نودي من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى انى أنا الله رب العالمين “ . ( 28 : 30 ) .

“ 562 “
 
( 2903 ) يشير الشاعر هنا إلى “ القليس “ وهي كنيسة بناها أبرهة ، القائد الحبشي الذي فتح اليمن ، قبل ظهور الاسلام بفترة وجيزة .
يقول ياقوت : “ وكان أبرهة قد استذل أهل اليمن في بنيان هذه الكنيسة ، وجشمهم فيها أنواعا من السخرة ، وكان ينقل إليها آلات البناء كالرخام المجزع ، والحجارة المنقوشة بالذهب من قصر بلقيس ، صاحبة سليمان ، عليه السلام ، وكان من موضع هذه الكنيسة على فراسخ . . . . ونصب فيها صلبانا من الذهب والفضة ونابر من العاج والأنبوس . . . ولما استتم أبرهة بنيان القليس كتب إلى النجاشي : انى قد بيت لك - أيها الملك - كنيسة لم يُبن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب “ . ( معجم البلدان ، 4 ، 394 - 395 ) .


ويقال إن رجلا من العرب غضب - حين سمع بذلك - وتوجه إلى الكنيسة ، ودخلها ولوثها . فلما علم بذلك أبرهة ، جهز جيشا وسار لهدم الكعبة ، فكانت قصة الفيل التي رواها القرآن الكريم . ( انظر : المصدر السابق ) .
 
( 2911 ) الجمل الضال في القصة رمز للحكمة الروحية التي ينشدها المريد ، فالحكمة ضالة المؤمن .
 
( 2915 - 2922 ) ان ملتمس الحكمة عند علماء الدنيا شبيه بمن أضاع جملا ، ثم أخذ يسأل عنه العوام ، فكان كل منهم يدله عليه ، بأسلوب يخالف أسلوب الآخرين ، طمعا في مكافأته . فهذا التناقض في الارشاد إلى الجمل الضائع ، شبيه بتناقض الباحثين في الارشاد إلى الحقيقة ، وبخاصة حين يكون هؤلاء من علماء الحس . ويتبين مغزى هذه الصورة في أبيات تالية . ( 2923 - 2926 ) .
 
( 2926 ) “ كل منهم يشير إلى الحقيقة بأقوال توهم أنه عارف بها ، عليهم بجوانبها “ .

 
“ 563 “

 
( 2927 ) هؤلاء الباحثون الضالون يطلبون الحق ، فيهتدون إلى باطل يحسبونه حقا .
 
( 2928 ) لا أحد يطلب الباطل لذاته . فالذين يقبلون النقد الزائف يكون قبولهم له على أساس أنه نقد صحيح .
 
( 2931 ) المستقيم السوىّ يسوغ للأعوج وجوده . فالجاهل يتقبل الأعوج ، على أنه مستقيم ، والجهل هو الذي يجعل الأعوج مستقيما في نظره . ان الأمل في الصالح يسوغ قبول الطالح ، كما يجعل السكرُ السم سائغا لمن يجعل حقيقته .
 
( 2935 ) لقد احتجبت الحقيقة بين الأباطيل ، كما احتجبت ليلة القدر بين الليالي . واحتجاب الحقيقة بين الأباطيل يلقى على الروح مسؤولية اكتشافها ، وكذلك الحال بالنسبة لليلة القدر . فمن المعروف أنها احدى الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان . فالروح التي تطمع إلى اكتشافها قمينة بأن تسهر الليالي لعلها تصادفها .
وقد ذكرت ليلة القدر في القرآن الكريم على أنها الليلة التي بدأ فيها نزول القرآن الكريم . قال تعالى : “ انا أنزلناه في ليلة القدر “ .
( 97 : 1 ) .
 
( 2937 ) بين المتظاهرين بالزهد يكون هناك زاهد صادق . والبحث الدائب هو الذي يهدى إلى حقيقة مثل هذا الزاهد .
 
( 2939 ) من مزايا وجود الباطل أنه محك لقدرة الروح على اكتشاف الحق . فلو لم توجد في هذه الدنيا سلع معيبة لكان من الميسور لجميع البله أن يصبحوا تجارا .
 
( 2943 ) تجارة الأنبياء ذات طبيعة روحية ، وهي تحقق ربحا جوهريا . أما تجارة الحس فلا تجىء بربح حقيقي . وقول الشاعر :
“ تجار الألوان والروائح “ يرمز للمتعلقين بالمادة ، المنصرفين إلى لذات الحس .

“ 564 “
 
( 2946 - 2947 ) بدأ الشاعر هنا يتحدث عن وجوب امتحان كل شئ حتى يظهر ما فيه من خير ومن شر . فما دامت الحقيقة قد اختلطت بالباطل ، فهذا البحث واجب على كل روح يطمع إلى اليقين .
وقد ضرب - في هذين البيتين - مثلا بالسموات التي يتجلى فيها كمال خلق الله ، وبرغم ذلك ، أمرنا الخالق أن نظر إليها فاحصين .
قال تعالى : “ الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور . ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير “ . ( 67 : 3 - 4 ) .
فهذه الدعوة إلى النظر والتأمل في السماوات لا دراك ما فيها من احكام الخلق ، تبين لنا مدى ما نحتاج اليه من نظر ثاقب لا جتلاء حقيقة ما نلاقيه في هذا العالم الحسى .
 
( 2951 - 2964 ) اتخذ الشاعر من الأرض ، وما تُمتحن به من عوارض ، مثلا للانسان . فالأرض تنطوى على كثير من ألوان الجمال :
انها تبدو في ظاهرها ترابية كالحة ، لكن معدنها ينبت الأزهار والرياحين وطيب الثمار . ولا بد من الربيع والخريف ، والحرّ والبرد ، والبرق والرعد ، لكي يُستخلص من هذه الأرض الترابية ما تنطوى عليه من أنوان الجمال . وهكذا الحال بالنسبة للانسان . فهو يتعرض لألوان متعددة من البلاء تظهر حقيقة جوهره ، وتبين ما كمن في ذاته من صفات الكمال .
 
( 2957 ) “ مخاطبة الأرض بقول لطيف كالسكر “ كناية عن الربيع ، والاعتدال ، أما “ تعليقها في الهواء “ فكناية عن الرياح التي تعصف بها ، فتثير غبارها ، وتجلعه معلقا بالهواء .
 
( 2963 - 2964 ) يعبر الشاعر هنا عن معنى قوله تعالى :
“ ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين “ . ( 2 : 155 ) .
 
“ 565 “

 
( 2965 ) أطلق الله الوحد والوعيد ليفصل بين الخير والشر اللذين امتزجا باذنه .
 
( 2969 - 2972 ) صور الشاعر المحك الصادق لاختبار ، الحقائق - وهو العرفان الحق - فاتخذ من قصة موسى في طفولته مثالا لذلك .
فموسى كان قد عرف حليب أمه ، فلم يتقبل سواه . وكل من شربت روحه من حليب اليقين يوم حشد الله الأرواح قبل خلق هذا العالم بقي لها مذاق اليقين ، ورزقت القدرة على ادراكه . فمن كان حريصا على سلامة ادراكه فليغذ قلبه باليقين ليعرف مذاقه ، كما غذت أم موسى طفلها موسى بالحليب ، فعرفها ، ورفض سواها من المراضع .
 
( 2969 ) من تلقى العرفان الحقيقي من مرشد صادق ، خاض غمار هذه الحياة ، بدون أن يتعرض لمخاطرها ، كما كان من أمر موسى حين ألقى في اليم وهو طفل ، ومع ذلك سلم من أخطاره .
 
( 2970 ) من أتيح له أن يتذوق العرفان الحق - يوم أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم - قبل خلق هذا العالم ، فهو يستطيع تمييز العرفان الصادق ابان وجوده في هذه الحياة ، لأنه يُذكرِّه بما سبق أن تذوقته روحه قبل خلق العالم .
 
( 2972 ) من تلقى الارشاد من مرشد عارف ، أدرك منذ البداية مذاق العرفان الصادق ، ولم يكن عرضة لا لتماس معارف الحس ، عند أصحابها من علماء الحس المغرورين الجهلاء .
 
( 2973 ) عاد الشاعر هنا إلى مثال الرجل الذي أضاع جملا . ( انظر الأبيات 2915 - 2922 ، وشرحها ) .
 
( 2975 ) عالم الحس يمارى ويجادل ، ويتظاهر بالبحث عن الحقيقة ، في حين أنه لا يبحث عن شئ .
 
( 2976 ) أسلوب هذا العالم الحسىّ هو التقليد . فهو يردد ما يقوله العارفون المخلصون من طلاب الحقيقة .

 
“ 566 “
 
( 2982 ) قول الشاعر : “ يغدو جسدك نفسا ، ونفسك روحا “ ، يعنى أن من تلقى الالهام الروحي تسمو حواسه من مستواها المادي إلى مستوى معنوي هو مستوى النفس ، كما تسمو نفسه من مستواها الانفعالي إلى مستوى الروح في تساميها وتجردها .
 
( 2983 ) “ الأمين “ هو العارف الذي يكشف الحقيقة لطالب العرفان .
 
( 2985 - 2986 ) طالب العرفان لا يطول به الوقت حتى يكشف صدق المرشد ، واحاطته بجوهر الحقيقة وسرعان ما يقتفى أثره ، ملتمسا تحقيق العرفان لروحه ، بمعونة هذا المرشد العارف .
 
( 2987 - 2998 ) قد يتحقق للمقلد وصول إلى جوهر الحقيقة ، إذا اقتفى أثر المحققين ، واستعار قبسا من حرارة صدقهم . فهو من بداية أمره يدعى أنه مثلهم طالب للحقيقة ، لكنه سرعان ما يدرك اخلاصهم في الطلب ، وإذ ذاك يفطن إلى أنه أيضا يبحث مثلهم عن ضالة ، هي الحكمة الحقيقة . وبجده واخلاصه يصل هو أيضا إلى الحقيقة ، فيلتقى حينذاك مع العارفين .
 
( 2988 ) المقلِّد لا يفيد من تقليد المحقق الا بمقدار ما يعتقده من صدق هذا المحقق .
 
( 2989 ) اخلاص المحقق ، وحرارة يقينه ، ينبهان المقلد ، فيفطن إلى طريق الحقيقة .
 
( 2990 ) الفطنة إلى طريق الحقيقة - التي يقتبسها المقلد من العارف - تنبهه أيضا إلى أن له ضالة ينشدها ، شبيهة بما ينشده هذا العارف .
 
( 2991 ) “ الطمع في جمل الغير “ رمز إلى الطمع في الوصول إلى الحقيقة من غير طريقها . فالمقلد يظن أنه قادر على كشف الحقيقة عن طريق التقليد .
 
( 2992 ) قد يؤدى تقليد المقلد للمحقق إلى أن يصبح هذا شريكا لذاك في عناء الطلب والبحث والتحري .



“ 567 “
 
( 2993 ) اقتفاء المقلد للمحقق قد ينتهى بالمقلد إلى أن يصبح هو أيضا من أهل التحقيق . وتلك حال شبيهة بحال الكاذب الذي يصحب صادقا ، ويقتنفى أثره ، فيصبح كذبه - من جراء ذلك - صدقا .
 
( 2994 ) عثر المقلِّد - بعد أن جعله الاجتهاد من أهل التحقيق - على الحقيقة ، وسط متاهات الخيال والأوهام .
 
( 2995 ) حينما اهتدى هذا المقلد إلى الحقيقة ، بعد ان سلك سبيل أهل التحقيق ، أدرك أنها هي الهدف الذي كان يسعى لادراكه ، واطمأنت روحه إليها ، وبرئت من المراء والجدال والطمع .
 
( 2996 ) كانت المجاهذة سبيل شهود الحقيقة . وبشهودها أصبح المقلد محقِّقا .
( 2997 ) شهود الحقيقة جعل السالك المقلِّد طالبا لها .
 
( 2998 ) شهود الحقيقة فتح عين السالك المقلد على نور جديد ، ترك كل ما عداه ، وتوجه نحوه .
 
( 2999 ) يستاءل المحقق في هذا البيت عما دعا السالك المقلِّد إلى تركه ، وكان من قبل يقتفى أثره .
 
[ شرح من بيت 3000 إلى بيت 3150 ]
 
( 3000 ) يكشف المقلِّد عن الدافع الذي دفعه إلى اقتفاء أثر المحقق .
ولم يكن هذا سوى الطمع ، إذ لم يكن في بداية أمره قد عرف الاخلاص في الطلب ، والصدق في المجاهدة .
( 3001 ) وحدة السلوك الروحي توحد بين السالكين وان تفرقت الأجساد ، وذلك على العكس من التفاء الناس بأجسادهم ، فمثل هذا اللقاء لا يترتب عليه وحدة هدف ولا غاية .
( 3002 ) يذكر المقلد أن معرفته التقليدية كانت أوهاما مستقاة من عرفان الغير ، أما شهود الحقيقة فقد ملأ عليه نفسه .
( 3004 ) تبين للسالك المقلد أن هذا العرفان الذي تكشف له ، أسمى وأنبل بكثير مما كان يطلب . انه شئ لم يكن يخطر له على بال . كان



“ 568 “
 
طلبه على مستوى نفسه ذات المعدن الخسيس ، لكن هذه النفس قد أصبح معدنها كالذهب بفضل إكسير العرفان .
 
( 3006 - 3007 ) “ المجاهدة والسعي توصل المقلد إلى الصدق واليقين اللذين يتحلى بهما المحقق . لكن الطلب لا ينتهى عند بلوغ مرتبة التحقيق . فاليقين موقف يقتضى دوام الطلب ، طلب الروح لخالقها ، وسعيها اليه “ .
في رأيي أنه يجب المتييز بين طلب السالك المقلد ، ليصل إلى منزلة التحقيق ، وبين طلب المحقق ، الذي أشرقت روحه باليقين .
وقد نقل نيكولسون عن الهجويرى نصا يفهم منه أن الصدق والطلب مقترنان ، فلا صدق الا ويقترن بطلب ، ولا طلب الا ويقترن بالصدق . وأعتقد أن هذا النص يتعلق بالعارف المحقِّق وحده ، وليس بالسالك الساعي إلى التحقيق .
 
( 3008 - 3009 ) يشبه السالك مجاهدة النفس ، وما لاقاه فيها من عناء ، بشق الأرض وزراعتها . وكان - لشدة عنائه - يظن ذلك العمل من قبيل السخرة التي لن يؤجر عليها ، فإذا به يحقق له أعظم الكسب ، وإذا بكل حبة قد أنبتت مائة حبة .
 
( 3010 ) “ اللص “ رمز للمقلد الذي كان يسرق لغة العارفين . وهو الذي اقتفى أثر العارفين ، فأصبح عارفا . فكان اليقين الذي اطمأنت اليه نفسه - على غير توقع منها لذلك - شبيها بمنزل تسلل اليه أحد اللصوص ، ثم تبين له أن المنزل منزله .
 
( 3011 ) في هذا البيت دعوة للمقلد إلى أن يستشعر حرارة اليقين ، فلعلها تخلصه من برودة تقليده ، وإلى أن يصير على عناء السعي والمجاهدة ، فلعل ذلك العناء ينتهى به إلى راحة اليقين .
 
( 3012 ) الحقيقة واحدة ، وان اختلفت سبل السالكين ، الساعين إليها .

 
“ 569 “
 
( 3013 ) إشارة إلى حديث يروى عن الرسول قوله : “ من عرف الله كلّ لسانه “ .
 
( 3014 ) ان الحديث عن المعاني الروحية لا يعبر الا عن لمحات قليلة من حقيقتها ، فهو كالاصطرلاب فيما ينبئ به من معلومات عن الفلك والشمس .
 
( 3015 ) سبر أغوار هذا الفلك وشمسه لا يعد شيئا بالقياس إلى سبر أغوار فلك الروح وشمسها . فهذا الفلك - بالقياس إلى فلك الروح - كالفراشة ، وشمسه - بالقياس إلى شمس الروح - كأنها ذرة .
 
( 3017 ) مما روى من أخبار مسجد الضرار أن الرسول أمر بأن يهدم ، ويجعل مكانه كناسة تُلقى فيها الجيف والقمامة . ( انظر القصة في تعليقنا على البيت 2825 ) .
 
( 3018 ) المقصود “ بصاحب المسجد “ أبو عامر الراهب . ( انظر شرح البيتين 2825 ، 2826 ) .
 
( 3022 ) لكل شئ ظاهر وحقيقة . والأصل في تقدير الأشياء حقيقتها . وفي عالم الحقائق توجد فروق وفصول شبيهة بما يكون في عالم الظاهر من فروق وفصول ، لكن الفروق في عالم الحقائق تكون أصدق ، وأكثر اقترانا بالصواب . وينطبق هذا على حقائق الناس التي قد لا تكون مقفقة مع ظواهرهم .
 
( 3025 ) “ بناء مسجد الضرار “ رمز للنفاق .
 
( 3035 ) الانسان مزيج من الحس والروح ، والحس ينتمى لعالم العيب والخطايا ، وأما الروح فتنتمى لعالم الغيب .
 
( 3039 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تننزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون “ . ( 41 : 30 ) .
فما دام المؤمنون من أهل الاستقامة بحاجة إلى أن يطمئنهم الملائكة ،
 
“ 570 “
 
فيجب ألا يغتر الانسان بعمله ، ويحسب أنه قد خلا من العيوب ، وتحقق له حسن الجزاء . سئل الجنيد عن الخوف فقال : “ هو توقع العقوبة على مجارى الأنفاس “ .
 
( 3042 ) على الانسان ألا يصاب بالغرور لقيامه بعمل صالح ، يرجو من ورائه الشهرة والتظاهر ، بل إن عليه أن يكون خائفا حذرا من ارتكاب الاثم .
 
( 3046 ) الأتراك الغز شعب من شعب آسيا الوسطى ، بدؤوا غاراتهم على خراسان منذ أوائل القرن الخامس الهجري . وقد اشتهرت من بينهم قبيلة قوية هي قبيلة السلاجقة التي استطاعت أن تقيم في القرن الخامس الهجريّ دولة السلامية عظيمة سيطرت على غرب آسيا .
 
( 3055 - 3058 ) عالج الشاعر هذه الفكرة من قبل في قصة “ الأسد والذئب والثعلب “ . ( انظر : مثنوى ، 1 ، 3117 - 3123 ) .
 
( 3077 ) يشير الشاعر إلى تساؤل إبراهيم عن الخالق ، واهتدائه اليه . ( انظر : سورة الأنعام ، 6 : 76 - 79 ) .
( 3078 - 3080 ) المؤمن الحق لا يستطيع أن يستمتع بشئ من لذات الحياة ، من غير أن يقترن ذلك بتأمل صنع الخالق ، وذكر فضله .
 
( 3082 ) من كان من أهل الضلال المخادعين ، فلا بد أن يتضح أمره ، مهما حاول أن يخفيه وراء ستار كثيف من الدهاء والمكر . فأعماله تنبىء عن خبث سريرته ، كما تنبى ، الرائحة النتنة عن قذارة صاحبها .
 
( 3803 ) قول الشاعر : “ ولقد عاش برهة قصيرة ثم انقضى يومه “ ، يعنى أن المنافق المنصرف إلى لذات الحس يستمتع بأيام قليلة تنفضى بانقضاء هذه الحياة الدنيا ، وبعد ذلك يلاقى سوء المصير .
 
( 3086 ) النفس اللئيمة تخدع صاحبها المنافق ، فتسهل له ارتكاب الآثام ، على أساس أن الله غفور رحيم .
 
( 3087 ) لو كان المنافق مؤمنا بالله حقا ، معتقدا برحمته وغفرانه ،
 
“ 571 “
 
فلماذا يقتله الغم لو خلت يداه من الخبز ، ولماذا يرهقه الخوف ما دام الله غفورا رحيما .
 
( 3088 - 3101 ) في هذه الأبيات حكاية صغيرة تصور الشيخوخة الحسية ، بما تجلبه من ضعف وآلام ، وتبين كيف أن الأخلاق تتأثر أيضا بعوارض الوهن ، لكن الشاعر يعقب على القصة بقوله ، ان الشيخ الذي هو ثمل بالحق يكون في الظاهر شيخا ، لكنه في الباطن فتيّ . ومعنى ذلك أن حياة الروح هي الحياة الخالدة التي لا تتأثر بشيخوخة الجسد ، ولا يذهب بنضرتها كرّ الأعوام .
 
.

 

واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: