الأحد، 30 أغسطس 2020

60 - قصة أهل ضروان وحسدهم للفقراء .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الخامس ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

60 - قصة أهل ضروان وحسدهم للفقراء .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الخامس ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

قصة أهل ضروان وحسدهم للفقراء .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الخامس ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)

قصة أهل ضروان وحسدهم للفقراء قائلين : كان أبونا من طيبته يعطي أغلب
دخل الحديقة للمساكين ،
فعند ما كان العنب ينضج كان يعطي عشرة ، وعندما كان يتحول إلى زبيب ودبس كان يزكي بعشره ، وعندما كان يصنع منه حلوى وفالوذج كان يعطي عشره ، وكان يعطي من القصيل " المحصول بالسنابل " العشر ، وعندما يجهز حبوبه في البيدر يزكي بعشرها ، وعندما كان يفصل القمح عن التبن ، كان يزكي بعشره ، وعندما كان يطحنه كان يعطي العشر ، وعندما كان يعجنه كان يعطي أيضا العشر ، وعندما كان يخبزه ، كان يعطي العشر أيضا . فلا جرم أن الحق تعالى كان قد وضع البركة في هذه المزرعة والحديقة ، بحيث صار كل أصحاب الحدائق يحتاجون إليه سواءٌ في الثمر أو في المال ، ولم يكن هو محتاجا إلى أحد منهم ، وكان أبناؤه يرون إخراج هذا العشر المتكرر ، ولم يكونوا يرون تلك البركة . . مثل تلك المرأة الشقية التي كنت قد رأت ذكر الحمار ولم تكن قد رأت القرعة
 
- كان هناك رجل صالح رباني ، كان كامل العقل ، متدبرا للعواقب .
 
1475 - وكان شهيرا في قرية ضروان بالقرب من اليمن ، بالتصدق والخلق الحسن .
- كان الحي الذي يسكن فيه قبلة للفقراء ، وكان المحتاجون يفدون إليه .
- كان يعطي العشر من السنابل دون رياء ، كما كان يعطي العشر من القمح عندما يفصله عن التبن .
- وعندما كان يطحنه كان يعطي أيضا العشر ، وعندما كان يخبزه ، كان يعطي العشر من الخبز . “ 1 “
- لم يكن يغفل عطاء العشر من كل دخل ، كان يخرج " الزكاة " أربع مرات على كل ما يزرع .
 
1480 - وكان ذلك الفتى الجواد يكثر من وصاياه لأولاده كل لحظة وهم مجتمعين ،
- ويقول لهم : الله بيني وبينكم في نصيب المسكين " بعد وفاتي " ، إياكم أن تمنعوه من حرص أنفسكم .
..............................................................
( 1 ) ج / 11 - 485 : - كان يعطي العشر من العنب ثم من الزبيب ، وكان يعطي أيضا العشر من الدبس . 
- وكان يعطي العشر من حلوه ومن الفالوذج ، ولم يكن يغفل شيئا قل أو كثر .
 
“ 180 “
 
- حتى يبقى لكم الزرع وتبقى لكم الثمار ، دائمين ثابتين في حمى طاعة الحق .
- إن كل الثمار والدخول من الغيب ، لقد أرسلها سبحانه وتعالى دون ظن أو ريب .
- وإذا أنت أنفقت في موضع الكسب وفي أوانه فقد ربحت .
 
1485 - والتركي يقوم بغراس أغلب المحصول في مزرعته ثانية ، فهو أصل الثمار .
- إنه يزرع معظمه ، ويأكل منه القليل ، فليس لديه أدنى شك في أنه سينمو ثانية ويربو .
- ومن هنا فإن التركي يفرط في البذار ، ذلك أن تلك الغلة نتجت بدورها من تلك الأرض .
- والإسكاف يشترى الجلد والأديم والجلد غير المدبوغ مما يزيد على قوته
- إنه يقول لنفسه : لقد كانت هذه الأشياء هي أصول دخلي ، ومنها أيضا يحل قيد الرزق .
 
1490 - لقد جاء الدخل من ذلك الباب لا جرم ، ومن ثم فهو على ذلك الباب يقوم بالعطاء ، ويبدي الكرم .
- وهذه الأرض " للزراع " والجلد غير المدبوغ " للإسكاف " مجرد دريئة وحجاب فحسب ، واعلم أن أصل الرزق في كل نفس من الله .
- ذلك أنك تزرع في الأرض التي هي أصل العمل والزرع ، حتى تنبت لك من كل حبة مائة ألف حبة .
- فلأفرض أنك إذا قمت الآن بزراعة الحب ، في الأرض التي ظننتها سببا ،
 
“ 181 “
 
- ماذا تفعل إن ظلت عامين أو ثلاثة لا تنبت ، إلا أن ترفع كفيك داعيا متضرعا ؟
 
1495 - وتضرب رأسك بكفيك أمام الإله ، وهذه اليد وهذه الرأس تكونان شاهدتين على إعطائه الرزق .
- وذلك حتى تعلم أنه أصل الرزق ، حتى يبحث عنه كل من هو باحث عن الرزق .
- فاطلب الرزق منه ، لا من زيد ومن عمرو ، واطلب السكر منه ، لا من المخدر ولا من الخمر .
- واطلب الغنى منه ، لا من الكنز والمال ، واطلب النصرة منه ، لا من العم والخال .
- إنك سوف تفارق هؤلاء كلهم ، انتبه . . . من سوف تدعو في تلك اللحظة .
 
1500 - فادعه من الآن ، ودعك من الباقين ، حتى تصبح وارثا لملك الدنيا .
- فما دام يومٌ سوف يأتي يفر المرء فيه من أخيه ، ويهرب المولود من أبيه ،
- ولذلك يصبح كل صديق آنذاك عدوا ، إذ كان صنما لك ومانعا في طريقك " إلى الله " .
- وأنك كنت تشيح بوجهك عن الذي صور الوجه " الحسن " ، لأنك كنت تجد أنس القلب من صورة .
- والآن إذا انقلب أصحابك أعداء لك ، وتحولوا عنك ، ولجوا في الخصومة ،
 
1505 - فهيا قل : الآن سعد زماني ، أن ما كان سيحدث في الغد قد حدث اليوم
- لقد صار أهل الدار أعداءً لي ، حتى صارت القيامة بالنسبة لي واقعا مسبقا
 
“ 182 “


- وذلك قبل أن أخسر أيامي ، وأنهي عمرى وأنا بينهم .
- لقد كنت شاربا لبضاعة معيوبة ، والحمد لله أن اكتشفت عيبها مبكرا .
- وذلك قبل أن تضيع ثروتي من يدي ، وفي النهاية أفاجأ بأنها معيوبة .
 
1510 - " ويقال لي " : لقد ضاع المال وضاع العمر أيها الحسيب النسيب ، لقد بذلت المال والروح من أجل سلعة فاسدة .
- و " أرى " أنني أعطيت المال وأخذت ذهبا مغشوشا ، وأخذت أمضي به فرحا سعيدا نحو الدار .
- فالشكر " لله " أن هذا الذهب المزيف قد كشف الآن ، وذلك قبل أن يمضي من عمرى أكثر " مما مضى " .
- ويبقى الزائف في رقبتي إلى الأبد ، وأتحسر على أنني قد أضعت عمرى فيه
- وما دام الذهب قد أبدى زيفه لي مبكرا ، لأبتعد عنه إذن بأسرع ما يمكنني .
 
1515 - وعندما يبدي صديقك لك العداوة ، ويطفح عليه جرب حقده وحسده .
- لا تصرخ أنت شاكيا من إعراضه هذا ، ولا تجعل نفسك بهذا جاهلا أبله .
- بل أشكر الله ، ووزع الصدقات “ 1 “ ، أنك لم تعمر معه طويلا في جوال واحد
- وأنك خرجت من جواله سريعا ، حتى تبحث عن رفيق الصدق السرمدي .
- ذلك الصديق المخلص الذي من بعد موتك ، يصبح حبل صداقته أكثر إحكاما وقوة .“2 “
 
1520 - وربما يكون ذلك الصديق سلطانا أو ملكا رفيع الشأن ، أو مقربا لدى السلطان ، مقبولة شفاعته .
- لقد نجوت من المزور المحتال الماكر ، ورأيت زيفه عيانا بيانا قبل الأجل
..............................................................
( 1 ) حرفيا : الخبز .
( 2 ) حرفيا : ثلاثي الخيط .
 
“ 183 “
 
- وذلك الجفاء الذي يبديه لك الخلق في الدنيا - لو تعلم - هو كنز ذهبي خفي من أجلك .
- ولقد جعل الناس يكونون معك على هذا النسق من سوء الخصال ، حتى تضطر إلى اللجوء إلى تلك الناحية .
- واعلم يقينا أنهم جميعا في النهاية ، سوف يتحولون إلى خصوم وأعداء ، وعصاة لك .
 
1525 - وتبقى أنت في صراخ وعويل وأنت في اللحد ، داعيا الأحد قائلا :رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً.
- يا من جفاؤك أفضل من عهود الأوفياء ، كما أن شهد الأوفياء من عطائك أيضا .
- فاستمع إلى نصائح " عقلك " يا صاحب الأهراء ، وأودع قمحك أرض الله .
- حتى يأمن اللص ويأمن السوس ، واقتل شيطان " الهوى " سريعا وأرضة " العقل والتدبير " .
- فهو الذي يخوفك في كل لحظة من الفقر ، فصده كالقطا أيها الصقر الشجاع .
 
1530 - ومن العار لبازى السلطان العزيز الموفق ، أن يكون صيدا لقطاة .
- لقد أوصاهم " ذلك الأب " كثير أو ألقى ببذور الوعظ ، لكنه لم يجد نفعا ، فقد كانت أرضهم بورا .
- فإنه إن كان للناصح مائة " نصيحة " داعية ، ينبغي لنصحه أذن واعية .
- وإلا فإنك تنصح المرء بمائة تلطف ورقة ، وهو يهز كتفيه استهانة بنصحك .
- وإن إنسانا واحدا معرضا عن الاستماع من جدله ورفضه ، يصيب بالإحباط مائة من المتحدثين .
 
“ 184 “
 
1535 - ومن يكون ألطف لهجة وأكثر نصحا من الأنبياء ، أولئك الذين أثرت أنفاسهم الربانية حتى في الحجر
- ذلك أن الجبل والصخر قد تأثروا بهم وجاوبوهم ، لكن قيد المدبر لم يفك عنه
- وكذلك تلك القلوب التي ديدنها " الإحساس بالذات " وقول أنا ونحن ، صار الوصف " الصادق " عليها أنها أشد قسوة " من الحجارة " .
 
بيان أن عطاء الحق والقدرة ليسا موقوفين على القابلية ، لأن العطاء قديم والقابلية حادثة ، والعطاء صفة الحق والقابلية صفة المخلوق ، ولا يكون القديم متوقفا على الحادث ، وإلا استحال الحدوث .
 
- والحل بالنسبة لذلك القلب " القاسي " عطاءٌ مبدل ، والقابلية ليست شرطا لعطائه .
- لكن عطاءه هو الشرط للقابلية ، فالعطاء لب ، والقابلية هي القشر .
 
1540 - وأن تصير العصا لموسى عليه السّلام ثعبانا ، وتصير كفه مشرقة كأنها الشمس ،
- ومئات الآلاف من معجزات الأنبياء ، تلك التي لا تستوعبها ضمائرنا وعقولنا ،
- ليست من الأسباب ، لكنها من تصريف " المشيئة " الإلهية ، ومتى كانت هناك قابلية للمعدومات ؟
- وإذا كانت القابلية شرطا لفعل الحق ، لما خُلق موجود قط من العدم .
- ولقد وضع سنة للطالبين تحت هذه الخيمة الزرقاء وأسبابا وطرقا ! !
 
1545 - والأمور بأغلبها تجرى طبقا لسنة " الله " ، لكن القدرة أحيانا تخرق السنة .
 
 
“ 185 “
 
- لقد وضع سنة وعادة ذات نسق ونظام ، ثم خلق المعجزة كخرق للعادة و " السنة " .
- وإذا كان العز لا يصل إلينا دون سبب ، فإن القدرة على عزل السبب ليست منتفية .
- فيا أسير السبب ، لا تحلق بفكرك خارج السبب ، لكن لا تظن أن " فعله " عاجز عن الاستغناء عن السبب .
- فإن كل ما يشاءه هذا المسبب يفعله ويأتي به ، فإن القدرة المطلقة تمزق الأسباب .
 
1550 - لكنه يجعل " نفاذ " أمره جاريا على الأسباب ، حتى يعلم الطالب البحث عن المراد .
- فإن لم يكن ثم سبب ، فأي طريق يبحث عنه المريد ؟ ومن هنا ينبغي أن يكون السبب واضحا في الطريق .
- وإن هذه الأسباب مجرد حجب على صنعه ، فليست كل الأنظار جديرة بالنظر إلى صنعه .
- إذ تنبغي بصيرة نفاذة فيما وراء الأسباب ، حتى تقشع الحجب من جذورها وأصولها .
- حتى تبصر المسبب في اللامكان ، وتعتبر الجهد والكسب والتجارة من قبيل الهزل .
 
1555 - وأن الخير والشر كليهما يصلان من المسبب ، فلا أسباب هناك ولا وسائط أيها الأب .
- اللهم إلا خيالات وأوهام متراكمة على طريق الحياة ، حتى يبقى عهد الغفلة ردحا من الزمان .
  
“ 186 “
 
في ابتداء خلق جسد آدم عليه السّلام عندما أمر الحق سبحانه وتعالى
جبريل بأن يمضي ويأخذ من هذه الأرض قبضة من التراب وفي رواية :
من كل ناحية منها قبضة من التراب
 
- عندما أراد الصانع الخالق خلق البشر ، من أجل ابتلائهم بالخير والشر .
- قال لجبريل الصدق : إمض ، وخذ قبضة من تراب الأرض ، و " ايت به " كرهينة .
- فشمر عن ساعد الجد ، ونزل إلى الأرض حتى ينفذ أمر رب العالمين .
 
1560 - ومد يده نحو التراب ذلك الحامل لأمر الله ، فجمع التراب نفسه وانكمش حذرا خائفا .
- ثم انطلق في الحديث متضرعا قائلا : بحق حرمة الخلاق الفرد .
- دعني وامض ، وهبني روحي ، وحول عنى عنان جوادك الأشهب .
- فبالله دعني ، ولا تحملني في مزالق التكاليف والمخاطر .
- بحق ذلك اللطف الذي به اصطفاك الحق ، وجعل علم اللوح الكلي مكشوفا لك
 
1565 - حتى أصبحت معلما للملائكة ، وكنت دائما متكلما مع الحق .
- و " بحق " أنك سوف تصير سفيرا للأنبياء ، وأنك حياة نور الوحي ولست بالبدن .
- والفضل لك على إسرافيل لأنه حياة الجسد وأنت حياة الروح .
- وإن نفخة الصور هي نشأة الأجساد ، لكن نفختك أنت نشأة للقلب الفريد .
- وروح روح الجسد حياة للقلب ، ومن ثم فإن عطاءك أفضل من عطائه .
 
1570 - ثم إن ميكائيل هو الذي يوزع رزق الجسد، لكن سعيك أنت يهب رزق القلب المنير.
 
“ 187 “
 
- إنه قد ملأ الحجر من عطاء يكال بالكيل ، لكن عطاء رزقك أنت لا يستوعبه كيل .
- وأنت أيضا أفضل من عزرائيل صاحب القهر والغضب ، ذلك لأن للرحمة سبقت الغضب .
- وأنتم الأربعة حملة العرش ، وبانتباهك ، أنت أيها المليك أفضل هؤلاء الأربعة .
- ومن يحملون العرش يوم القيامة ثمانية ، وأنت أفضل الثمانية في ذلك الوقت .
 
1575 - وهكذا لأخذ يعدد " مناقبه " ويبكي ، وكان هو يفهم طرفا من المقصود من هذا " الرجاء " .
- وكان جبريل معدنا للحياء والخجل ، وسدت عليه الأيمان السبل .
- ومن كثرة ما تضرع إليه " التراب " وأقسم عليه بالأيمان ، عاد " جبريل " وقال : يا رب العباد ، 
- لم أكن أنا بالذي يهمل تنفيذ أوامرك ، لكنك أعلم بما جرى .
- لقد ذكر الاسم الذي من هوله أيها البصير ، تتوقف الأفلاك السبعة عن المسير .
 
1580 - فاستحييت ، وخجلت من اسمك ، وإلا فنقل قبضة من الطين أمر يسير .
- ذلك أنك قد وهبت الملائكة ، قوة يستطيعون بها تحطيم هذه الأفلاك “ 1 “
..............................................................
( 1 ) ج / 11 - 501 : - وأي قدر لقبضة التراب وأية قوة لها للوقوف أمامك ، لكن الرحمة غلبت .
 
“ 188 “
 
إرسال ميكائيل لقبض حفنة من التراب من الأرض من أجل تصوير الجسد المبارك
لأبي البشر خليفة الحق الذي سجدت له الملائكة
الذين علمهم آدم عليه السلام
 
- قال لميكائيل : إهبط أنت ، واختطف من الأرض قبضة من التراب كالأسد .
- وعندما انتقل ميكائيل إلى الأرض ، مد يده لكي يختطف تلك القبضة .
- فارتعد التراب ، وأخذ يجد في الهرب ، وصار متضرعا نائحا ذارفا للدمع .
 
1585 - ولقد تضرع بجد وجهد وصدر محترق ، وأقسم عليه ، يسبقه دمعه الدامي .
- وقال : بحق الإله اللطيف الذي لا ند له ، والذي جعلك حاملا للعرش المجيد .
- ومشرفا على كيل الأرزاق في الدنيا ، ومغرقا " بالفضل " للظامئين إلى فضل الإله .
- ذلك أن اسم ميكائيل قد اشتق من الكيل ، ومن هنا صار كيال للرزق .
- " بحقه " هبني الأمان ، ودعني حرا ، وانظر إليّ أخاطبك وأنا مضرج بالدماء .
 
1590 - وقال الملاك "المخلوق" من معدن رحمة الإله : كيف أنثر الملح على هذا الجرح؟
- وهكذا فكما أن الشيطان هو معدن القهر ، إذ يجعل بني آدم يجأرون بالصراخ .
 
“ 189 “
 
- والرحمة قد سبقت الغضب أيها الفتى ، كما أن اللطف يغلب على وصف الإله .
- ولابد لعبيده أن يتخلقوا بخلقه ، ما دامت قربهم مليئة بماء جدوله .
- وذلك الرسول الحق مرشد السلوك قد قال : الناس على دين ملوكهم .
 
1595 - فذهب ميكائيل صوب رب الدين ، خاوى اليد ، خالى الوفاض مما طلب منه .
- وقال : يا عالما بالسر ، أيها الملك الفرد ، لقد قيد التراب " يدي " ببكائه ونواحه .
- ودمع العين عندك - يا إلهي - ذو قدر ، وأنا لم أستطع تجاهل سماع " ضراعته " .
- وللآهة والنواح عندك قيمة كبيرة ، لم أستطع أنا التجاوز عن حقوقها 
- والعين الدامعة ذات احترام كبير عندك ، فكيف أعاند أنا وأجادل بشأنها .
 
1600 - إن الدعوة إلىَّ لضراعة موجودة خمس مرات في اليوم ، إنها تقول للعبد : أدخل في الصلاة ، ونح ضارعا .
- وإن المؤذن ليصيح حي على الفلاح ، وهذا الفلاح هو التضرع ، واستجلاب الفضل .
- وذلك الذي تريد أن تؤلمه من حزنه وهمه ، فإنك تسد طريق الضراعة أمام قلبه .
- حتى ينزل به البلاء دونما شيء يدفعه ، عندما لا يكون لديه شفيع من الضراعة .
- وذلك الذي تريد أن تشريه من البلاء ، تدفع روحه دفعا إلى التضرع والاستغاثة .
  
“ 190 “


1605 - وقلت في القرآن أن تلك الأمم التي حل بها ذلك الغضب الجبار " والعذاب الهون " .
- لأنهم لم يكونوا يتضرعون في ذلك الوقت ، " إلى الله " حتى يرد عنهم البلاء .
- ولأن قلوبهم كانت قد قست ، كانت ذنوبهم هذه تبدو عبادة " لله " .
- وما لم يعرف نفسه ذلك المجرم العنيد ، فمن أين له أن يعلم أن يجرى الدمع من عينيه .
 
قصة قوم يونس عليه السّلام بيان وبرهان على أن التضرع والنواح دافعان للبلاء السماوي ، والحق تعالى فاعل مختار ، ومن ثم يفيد التضرع والنواح لديه .
ويقول الفلاسفة هو فاعل بطبع وعلة وليس مختارا ، ومن ثم فإن التضرع لا يغير الطبع
 
- عندما ظهر البلاء لقوم يونس عليه السّلام ، انفصل عن السماء سحابٌ مليءٌ بالنار .
 
1610 - وأخذ يلقي بالبرق والصواعق فيحرق الحجارة ، وأخذ السحاب يرعد فتشحب الوجوه .
- كانوا جميعا على سطوح " منازلهم " ليلا ، عندما ظهرت تلك الكرب والكوارث من فوقهم . “ 1 “
- فنزلوا جميعا من فوق السطوح ، ومضوا عراة الرؤوس إلى الخلاء .
- وأخرجت الأمهات أطفالهن ، حتى يقوموا جميعا بالضراعة والدعاء والاستغاثة .
- ومنذ صلاة العشاء وحتى طلوع الفجر ، أخذ هؤلاء الناس جميعا يحثون رؤوسهم بالتراب .
 
1615 - ومن بعد اليأس والآهات المرة ، أخذ السحاب في الانقشاع قليلا قليلا .
..............................................................
( 1 ) ج / 11 - 512 : - عندما كان يونس عليه السّلام قد مضى عنهم ، وذلك من جحودهم لله وحقدهم . 
- لكنهم عندما رأوا أمارات البلاء ، بدأوا في الضراعة والدعاء . . .
 
 
“ 191 “
 
- إن قصة يونس عليه السّلام طويلة مفصلة ، والوقت وقت " قصة " تراب " آدم " والحديث المستفيض عنه .
- وإذا كان للتضرع هذه الاقدار عند الله ، ففي أي مكان آخر يكون للنواح قيمته هناك ؟
- فهيا ، إنهض ، واستعد سريعا للرجاء والأمل ، وانهض أيها الباكي ، واضحك دائما . “ 1 “
 
1620 - فإن الملك المجيد ، يسوى الدمع في الفضل بدم الشهيد . “ 2 “
 
إرسال إسرافيل عليه السّلام إلى الأرض قائلا له : خذ حفنة من التراب
من أجل تركيب جسد آدم عليه السّلام
 
- قال إلهنا لإسرافيل : إمض ، واملأ كفك من التراب ، وتعال .
- فجاء إسرافيل بدوره صوب الأرض ، وبدأت الأرض مرة أخرى في التوسل قائلة :
- يا ملاك الصور ، ويا بحر الحياة ، ويا من نفخك الصور ، يجد الموتى الحياة والنشور .
- ومن نفخة واحدة في الصور ينطلق صوت عظيم ، ويمتليء المحشر بالخلاق ، بعد أن كانوا من الرميم .
 
1625 - إنك تنفخ في الصور مناديا : هلموا إليّ ، إنهضوا يا قتلى كربلاء " الدنيا " .
..............................................................
( 1 ) ج / 11 - 512 : - وكن ملازما للضراعة حتى تصبح فرحا ، وابك ، حتى تصير ضاحكا بلا فم .
( 2 ) ج / 11 - 512 : - وكلتضرع يكون مع حرقة وألم يؤثر في المرء . لقد تضرع وذرف الدمع من عينيه ، فعلت الرحمة وسكنت ذلك الغضب .
 
“ 192 “
 
- يا من هلكتم بسيف الموت ، أطلوا برؤوسكم من التراب " كما تطل " الأغصان والأوراق .
- وبرحمتك ونفختك الجذابة تلك ، يمتليء العالم بمن قد أحياهم " نفيرك " .
- إنك ملاك الرحمة ، فأظهر الرحمة ، وأنت حامل للعرش ، وقبلة للعطايا
–  والعرش موضع لمعدن العطاء والعدل ، وتحته أربعة أنهار من المغفرة .
 
1630 - نهر من لبن ونهر من عسل خالد ونهر من الخمر ونهر كدجلة من الماء الجاري العذب .
- ثم تجرى من تحت العرش داخل الجنة ، ويظهر منها النذر اليسير في الدنيا .
- بالرغم من أن هذه الأنهار الأربعة ملوثة هنا ، مم ؟ من سم الفناء المهلك غير السائغ .
- ولقد صبت من تلك الأنهار الأربعة على التراب الكدر ، وأثيرت بذلك الفتنة
- حتى يبحث عن أصولها أولئك الأخساء ، لكنهم قنعوا بالأربعة الموجودة هنا ، هؤلاء الأدنياء .
 
1635 - ولقد أعطى اللبن من أجل تربية الأطفال ، وفجر عينا من صدر كل امرأة .
- وجعل عينا من الخمر في الكرم ، لكي يجترىء بعضهم ، ويشربون منها لدفع الحزن والهم .
- وجعل من باطن النحل عينا للعسل ، وفيه شفاءٌ للأبدان المريضة .
- وأعطى الماء للناس جميعا بأصولهم وفروعهم ، من أجل التطهر ومن أجل الشرب .
- حتى تتتبع آثارها حتى الأصول ، لكنك قنعت بما هو هنا يا ذا الفضول .
  
“ 193 “
 
 
1640 - فاستمع الآن إلى قصة التراب ، ماذا يقول من رجاء يحرك " القلوب "
- لقد قطب وجهه وعبس أمام إسرافيل ، وأخذ يقوم بمائة نوع من التشكل والنفاق
- وقال له : بحق ذات الجلال الطاهرة ، لا تجعل هذا القهر حلالا علىّ .
- إنني أشم رائحة ما من تقليبك إياي ، وثمة ظن سئ يسرع إلى ذهني .
- إنك ملاك الرحمة فارحم ، فإن الطائر الملكي لا يؤذى طائرا صغيرا .
 
1645 - يا شفاء ورحمة لأصحاب الألم ، إفعل أنت أيضا ما فعله ذلك المحسنان .
- فعاد إسرافيل سريعا إلى المليك ، وقص عليه ما حدث واعتذر له " قائلا " :
- إنك أمرت في الظاهر أن خذه ، لكنك ألهمت الضمير بعكس أمرك هذا .
- لقد كان أمرك للأذن أن إمض واقبضه ، لكنك نهيت اللب عن القسوة . “ 1 “
- والرحمة سبقت الغضب وغلبته ، يا بديع الأفعال ، ويا أيها المحسن الرب .
 
إرسال عزرائيل ملك الحزم والعزم لحمل حفنة من التراب من أجل أن يسوى
منها سبحانه وتعالى جسم آدم عليه السّلام على وجه السرعة
 
1650 - قال الإله على وجه السرعة لعزرائيل ، أنظر ذلك التراب صاحب الخيال والأوهام .
- والحق بتلك الضعيفة الظالمة العجوز ، واحضر إليّ سريعا قبضة من التراب
- وذهب عزرائيل قائد القضاء نحو كرة التراب من أجل المطالبة والاقتضاء .
- فبدأ التراب على عادته في الصراخ ، وأقسم عليه ، وأغلظ في الأيمان
..............................................................
( 1 ) ج / 11 - 516 : - ورحمته بلا حد ولا نهاية ، إنه حكيم وكريم ورحيم .
 
“ 194 “
 
- قائلا : أيها العبد المقرب ، يا حمال العرش ، ويا مطاع الأمر في العرش والفرش .
 
1655 - إمض بحق حرمة الرحمن الفرد ، إمض بحق ذلك الذي تلطف معك .
- بحق المليك الذي لا معبود سواه ، والذي لا ترد عنده ضراعة أحد . “ 1 “
- قال : إنني لا أستطيع بهذا الرجاء والدعاء ، أن أعصى آمر السر والعلن .
- قال " التراب " : إنه أمر بالحلم آخرا ، وكلاهما أمر ، فخذ الأمر بالحلم عن طريق العلم .
- قال " عزرائيل " : هذا تأويل وقياس ، وعليك في الأمر الصريح أن تقلل البحث عن الغموض والالتباس .
 
1660 - ومن الأفضل لك أن تؤول ما يعن لك من فكر ، من أن تقوم بتأويل غير المتشابه هذا .
- وإن قلبي ليشفق من ضراعتك ، ومن دمعك ، إمتلأ صدري دما .
- ولست خاليا من الرحمة، بل إنني أكثر رحمة من أولئك الثلاثة على ألم الذي يعاني ويقاسى.
- وبالرغم من أني أقوم بصفع ذلك اليتيم ، وبالرغم من أن ذلك " الرجل " الحليم يعطيه الحلوى ، 
- فإن هذه الصفعة ألذ من تلك الحلوى ، وإن خدعته الحاوي ، فالويل له .
 
1665 - إن كبدي ليحترق شفقة وتأثرا بضراعتك ، لكن الحق لا يفتأ يعلمني اللطف .
- وهناك لطفٌ خفي في أنواع القهر ، وهناك عقيق لا يقدر بثمن مخفيٌ في الحدث .
..............................................................
( 1 ) ج / 11 - 519 : - وبحق حق الحق أن ترفع يدك عنى ، يا من لك من الحق فضائل بلا عدد .


“ 195 “


- وقهر الحق أفضل من مائة حلم منى ، ومنع الروح عن الحق ، هو بمثابة نزع الروح .
- وأشد قهر منه أفضل من حلم الكونين ، فنعم رب العالمين ، ونعم العون .
- وهناك ألطاف مضمرة في قهره ، وتسليم الروح من أجله ، يمد في العمر .
 
1670 - فهيا ، انتبه ، ودعك من سوء الظن والضلال ، واجعل الرأس قدما " ساعيا إليه " ما دام قد قال لك تعال .
- والاستدعاء منه يهب كثيرا من العلو والسمو ، إنه يهب النشوة والقرين والبسط والزرابي .
- وإنني لا أجرؤ على تجاهل هذا الأمر السني أو الاستهانة به ، أو أن أكون معوجا ضالا بشأنه .
- ولقد سمع التراب المسكين كل هذا ، لكن كان في أذنيه وقر ، من الظن السيء .
- ثم إن ذلك التراب أخذ يبكي ويتضرع بطريقة أخرى ، ويسجد ويتمايل كأنه السكران .
 
1675 - قال : لا ، إنهض ، فلن يحيق بك ضرر من هذا الأمر ، وأنا ضامن لك هذا برأسي وروحي .
- لا تفكر عبثا ، ولا تتضرع ثانية ، اللهم إلا إلى ذلك الملك الرحيم العادل .
- إنني عبد للأمر ، ولا أجرؤ على مخالفة أمره ، ذلك الأمر الذي أثار الغبار من قلب البحر .
- ولا أسمع إلا من ذلك الخالق للسمع والبصر والعقل ، ولا أسمع - حتى من نفسي - إلى الخير والشر .
- إن أذني صماء إلا عن قوله ، وهو عندي أعز من الروح الحلوة .
 
“ 196 “
 
1680 - فقد وهبت الروح منه ، ولم يوهب هو من الروح ، وهو يهب مئات الآلاف من الأرواح بالمجان .
- وماذا تكون الروح حتى أختارها على الكريم ؟ وماذا يكون البرغوث حتى أحرق من أجله الكليم ؟
- فأنا لا أعلم خيرا إلا خيره ، وأنا بدونه أصم وأبكم وأعمى .
- وأذني صماء عن أولئك الذين يستغيثون ، فأنا في كفه كأنني السنان . “ 1 “
 
بيان أن المخلوق الذي يحيق بك ظلم منه هو في الحقيقة كالآلة ، والعارف هو الذي يرجع إلى الحق لا إلى الآلة ،
وإذا رجع إلى الآلة فذلك في الظاهر فحسب ، ومن أجل مصلحة ،
كما قال أبو اليزيد : لي سنوات لم أتحدث مع مخلوق ولم أسمع كلمة واحدة من مخلوق ،
لكن الخلق يحسبون أني أتحدث معهم وأسمع منهم ، لأنهم لا يرون المخاطب الأكبر ،
فهم عند حالي بالنسبة له كالصدى ،
ولا يهتم المستمع العاقل بالصدى . كما يقول المثل المعروف قال الجدار للوتد لم تشقني ،
قال الوتد : أنظر إلى من يدقني
 
- لا تطلب الرحمة بحمق من السنان ،بل أطلبها من ذلك المليك الذي يكون السنان في يده . “ 2 “
 
 1685 - فما بالك تتضرع إلى السنان والسيف ، مع أنه أسيرٌ في يد ذلك السني
- إنه " آزر " في صنعته وأنا الصنم ، والآلة التي يجعلني إياها أكون إياها .
- فإن جعلني كأسا ، أكون كأسا ، وإن صنع منى خنجرا أصير حنجرا .
- وإن جعلني نبعا فإنني أفيض بالماء ، وإن جعلني نارا ، أهب الدفء .
- وإن جعلني مطرا أهب البيادر ، وإن جعلني سنانا أنفذ في الأجساد .
..............................................................
( 1 ) ج / 11 - 520 : الشطرة الثانية : وأمضي إلى فم الأفعى من أجله .
( 2 ) ج / 11 - 520 : - لا تطلب الرحمة من حد السيف ، بل من الملك الذي هو له في يده كالصولجان .
 
“ 197 “
 
1690 - وإن جعلني حية أنفث السم ، وإن جعلني عونا وسندا أقوم بالخدمة . “ 1 “
- إنني كالقلم بين الإصبعين ، ولست بالمتوسط في صف الطاعة .
- ولقد شغل التراب بالكلام - ثم اختطف قبضة من ذلك التراب القديم .
- لقد اختطفها بسحر من موطن التراب ، والتراب يهذى بالكلام كمن فقدوا الوعي .
- وحمل حتى حضرة الحق التراب الذي لا إرادة له ، حمله كما يحمل الطفل الهارب من المكتب .
 
1695 - قال الله سبحانه وتالي : بحق علمي المطلق ، لأجعلن منك جلادا لهؤلاء الخلق .
- قال : يا رب ، إن القوم سوف يعادونني ، عندما آخذ بحلوقهم عند الموت .
- فهل ترضى أيها الإله السني ، أن تجعلني عدوا مبغوضا كريه الوجه ؟
- قال : بل لأجعلن " للموت " أسبابا ظاهرة للعيان ، من الحمى والقولنج والدوار و " طعان " السنان . “ 2 “
- حتى أحول أنظارهم عنك ، إلى الأمراض والأسباب والعلل المتداخلة .
 
1700 - قال : يا رب ، هناك أيضا من العباد ، من يمزقون حجب الأسباب أيها العزيز .
- تتجاوز عيونهم الأسباب وتتجاوز الحجب من فضل الرب .
..............................................................
( 1 ) ج / 11 - 526 : - وإن جعلني سكرا ، أصبح حلوا ، وإن جعلني حنظلا أمتليء حقدا . 
- وإن جعلني شيطانا أعصى وأتمرد ، وإن جعلني محرقا أصبح نارا .
( 2 ) ج / 11 - 527 : - ومن الصداع والورم الدموي والخناق ، والزكام والجذام والفواق . 
- والسدة والديدان والاستسقاء والسل ، وكسر ذات الصدر واللدغ ووجع القلب .
 
“ 198 “
 
- ومن وجد كحل التوحيد من كحال الحال ، فقد خلص " من التفكير " في العلة والاعتلال .
- فهم لا ينظرون إلى الحمى والقولنج والسل ، ولا يتركون سبيلا لهذه الأسباب إلى قلوبهم .
- ذلك أن لكل واحد من هذه الأمراض دواءا ، وعندما لا يقبل المرض الدواء ، فالفعل إذن هو فعل القضاء .
 
1705 - فاعلم يقينا أن لكل داء دواء ، مثلما يكون علاج البرد بلبس الفراء .
- وعندما يريد الله لامريء أن يتجمد من البرد ، فإن البرد ينفذ حتى من مائة فراء .
- ويضع في جسده رعدة ، لا تذهب عنه بثوب أو بدار .
- وعندما يحم القضاء ، يصبح الطبيب أبله لا يعي شيئا ، بل ويضل ذلك الدواء طريق النفع .
- بحيث يصبح إدراك البصير محجوبا ، عن هذه الأسباب التي هي خداعٌ للأبله .
 
1710 - وإن العين ترى الأصل عندما تكون كاملة ، وعندما يكون المرء أحول لا يرى إلا الفروع .
 
جواب الله على عزرائيل : إن من لا وجه نظره إلى الأسباب والأمراض
والطعن بالسيف فإنه لا يقع عليك أيضا ، لأنك سبب مهما كنت أخفى من تلك الأسباب ،
وربما يكون خفيا على المريض لقوله تعالى : وهو أقرب إليكم ولكن لا تبصرون “ 1 “
 
- قال الله : ذلك الذي يكون عالما بالأصل ، متى يراك إذن بيننا ؟
..............................................................
( 1 ) هكذا في النص ، والآية الكريمة هي :وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ. الواقعة / 85 .
 
“ 199 “
 
- وبالرغم من أنك أخفيت نفسك عن العوام ، فإنك أمام المستنيرين " مجرد " حجاب و " سبب " .
- وأولئك الذين يكون الأجل بالنسبة لهم كالسكر ، ما دامت أنظارهم نشوى بأنواع الإقبال .
- لا يكون موت الجسد بالنسبة لهم أمرا مرا ، فإنهم يمضون من الجب والسجن إلى البساتين والرياض .
 
1715 - لقد نجوا من الدنيا المليئة بالإلتواء والضلال ، ولا يبكي أحد على فوات هباء الهباء .
- فلو أن نقابا حطم برج السجن وهدمه ، لا يضيق بذلك أبدا قلب السجين .
- ولا يتحسر قائلا : وا أسفاه ، لقد حطم هذا الحجر المرمرى ، بحيث نجت نفوسنا وأرواحنا .
- ذلك الرخام الجميل وذلك الحجر الأصيل ، كان بهيا بالنسبة لبرج السجن منسجما معه .
- فكيف حطمه حتى نجا السجين ؟ ينبغي أن تقطع يده في هذا الجرم .
 
1720 - ولا يوجد سجين قط يتحدث بهذا الهراء ، اللهم إلا ذلك الذي يؤخذ من السجن إلى المشنقة .
- ومتى يكون مرا على الإنسان ، أن يُحمل من " موطن " سم الأفاعي إلى الشهد والسكر ؟
- لقد صارت الروح مجردة عن ضجة الجسد وضوضائه ، إنها تحلق بجناح القلب ، لأقدم الجسد .
- مثل ذلك السجين في الجب، الذي يقضى الليالي " الطوال " راقدا يحلم بالرياض والبساتين.

“ 200 “
 
- إنه لا يفتأ يقول : إلهي، لا ترجع روحي إلى الجسد ، حتى أصول وأجول في هذه الروضة.
 
1725 - فيقول الله له : لقد استجيبت دعوتك ، لا تعد ، والله أعلم بالصواب
- فانظر إلى هذا الحلم كيف يكون حلوا ، أن يدخل المرء الجنة دون أن يذوق الموت .
- إنه لا يتحسر أبدا على اليقظة ، وعلى الجسد المقيد بالأغلال في قاع الجب .
- فادخل آخرا أيها المؤمن في المعمعة ، فإن هناك فوق السماوات حفلا مقاما من أجلك .
- وقم آملا في الطريق الأسمى ، " قيام " الشمع أمام المحراب ، أيها الغلام .
 
1730 - وداوم على ذرف الدمع والاحتراق في الطلب ، مثل الشمع مجزوز الرأس ، طوال الليل .
- وأضمم شفتيك عن الطعام والشراب ، واسرع نحو المائدة السماوية .
- وليكن ذلك الرجاء في السماء لحظة بعد لحظة ، " ولتكن " راقصا في هوى السماء كأشجار الصفصاف .
- فإن الماء والنار يأتيانك لحظة بلحظة من السماء ، فيزداد رزقك .
- وإذا حملك إلى هناك بعدها فلا عجب ، ولا تنظر إلى العجز ، وانظر إلى الطلب .
 
1735 - وهذا الطلب منك وديعة من الله ، لأن كل طالب جدير بما يطلب .
- وجاهد حتى يزيد - سبحانه وتعالى - في هذا الطلب ، حتى يخرج قلبك من جب الجسد .
 
“ 201 “
 
- ويقول الخلق : لقد مات فلان . . ذلك المسكين ، وتقول أنت : بل أنا حي أيها الغافلين .
- وإذا كان جسدي قد ثوى كما تثوى الأجساد ، فإن الجنان الثمانية قد تفتحت في قلبي .
- وإذا كانت الروح قد استقرت بين الورد والنسرين ، فأي بأس وحزن أن يكون الجسد في ذلك البعر ؟
 
1740 - وأي خبر للروح الآمنة عن الجسد ، سواء كان في روضة أو مستودع قمامة .
- ما دامت الروح في العالم السماوي تصيح : يا ليت قومي يعلمون .
- وإذا كانت الروح لن تعيش دون هذا البدن ، فإيوان من إذن سوف يكون الفلك ؟
- وإذا كانت الروح سوف تعيش بدون البدن ، فرزق من إذن سيكون مصداقا لوَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ؟
 
في بيان وخامة دسم الدنيا وحلوها ، ومنعه لطعام الله الوارد في
[ الجوع طعام الله يحيي به أبدان الصديقين ]
أي أن في الجوع طعام الله ، وقوله عليه السّلام
[ أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ] وقوله تعالى يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ
 
- عندما تتخلص من فتات هذا الطعام الدنس ، فإنك تحصل على الدسم والقوت الشريف .
 
1745 - ذلك الذي إن أكلت من دسمه آلاف الأرطال ، فإنك تمضي خفيفا طاهرا كأنك الملاك .
- فلا هو يصيبك باحتباس الرياح أو القولنج ، ولا هو يؤدى بك إلى قعود " بألم " المعدة .
 
“ 202 “
 
- وإنك إن أكلت " هنا " قليلا ، تظل جائعا كالزاغ ، وإن أكلت حتى امتلأت ، يأخذ التجشؤ بمجامع أنفك .
- فقلة الطعام تؤدى إلى ضيق الخلق واليبوسة والسل ، والشره إلى الطعام يؤدى إلى تخمة الجسد .
- ومن طعام الله والقوت المستساغ الهنيء ، صر كالسفينة ، طافيا على مثل هذا البحر .
 
1750 - وكن في الصوم صبورا صامدا ، منتظرا لحظة بعد أخرى قوت الله .
- فإن ذلك الإله الحكيم حسن الفعال ، يعطي الكثير من الهدايا في الانتظار .
- والرجل الشبع لا ينتظر الخبز ، وهل يأتي قوته سريعا أو بطيئا متأخرا .
- لكن فاقد الزاد يقول في كل لحظة : أين ؟ وهو منتظر في جوعه في كد ونصب .
- وعندما لا تكون منتظرا لا يأتينك ذلك النوال من الدولة ذات السبعين ضعفا .
 
1755 - فالإنتظار الانتظار أيها الأب ، من أجل المائدة العلوية كما يفعل الرجال
- وكل جائع قد وجد قوتا في نهاية الأمر ، وسطعت عليه شمس دولة ما .
- والضيف صاحب الهمة عندما يقلل في شرب الحساء ، يحضر له صاحب المائدة طعاما أفضل .
- اللهم إلا إذا كان صاحب المائدة فقيراً بخيلا ، فكفاك سوء ظن بالرزاق الكريم .
 
“ 203 “ 
 
- واشمخ برأسك مثل جبل ، أيها " السيد " السند ، حتى يسطع عليك أول شعاع من الشمس .
 
1760 - فإن قمة الجبل العالي المستقر ، هي التي تنتظر الشمس في أول سطوعها .
 
الجواب على ذلك المغفل الذي قال : ما أحلى هذه الدنيا لو لم يكن موت
وما أحلى ملكها لو لم يكن إلى زوال . وعلى هذه الوتيرة من " الفشارات "
 
- كان أحدهم يقول : ما أحلى الدنيا ، إن لم يخطُ فيها الموت بقدميه .
- فقال آخر : إن لم يكن موت ، لما ساوت هذه الدنيا المليئة بالضلال قشة واحدة .
- وكأن بيدرا قد بُسط في واد ، وترك مهملا ، لم يُدرس ، ولم يُدق .
- ولقد اعتبرت الموت حياة ، وألقيت بالبذور في الأرض البور .
 
1765 - والعقل الكاذب يرى الأمور على عكسها ، ويرى الحياة موتا أيها الظالم .
- فيا أيها الإله ، فلتبدلنا الأشياء على حقيقتها في دار الخداع .
- ولا يوجد ميت قط يتحسر بسبب الموت ، إنما تكون حسرته دائما من قلة زاده .
- وإلا فإنه قد انتقل من بئر إلى خلاء ، بين ألوان الإقبال والمتعة والسعة .
- ومن موضع المأتم هذا والمقام الضيق ، قد نقل إلى الخلاء الواسع
 
1770 - ومقعد الصدق لا إيوان الباطل ، وخمر الخواص ، لا السكر من المخيض .
 
“ 204 “
 
- لقد صار في مقعد الصدق وجليسا للحق ، ونجا من معبد نار الجسد هذا .
- فإن لم تكن قد عشت حياة مضيئة ، فقد بقيت فيها لحظة أو لحظتين ، فمت كالرجال .
 
فيما يرجى من رحمة الله تعالى ، معطي النعم قبل استحقاقها وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا ورب بعد يورث قربا ، ورب معصية ميمونة ورب سعادة تأتي من حيث يرجى النقم ، ليعلم أن الله يبدل سيئاتهم حسنات
 
- جاء في الحديث أنه في يوم القيامة ، يأتي الأمر لكل جسد أن : إنهض " من جدثك " .
- ونفخ الصور أمر من الإله الطاهر ، معناه : أطلوا برؤوسكم أيها الخلائق من التراب .
 
1775 - وتعود روح كل امرئ إلى بدنه ، تماما كما يحدث في الصباح عندما يعود الوعي إلى البدن .
- وتعرف الروح جسدها عندما يطلع النهار ، وتعود إلى خرائبها كما تعود الكنوز .
- إنها تعرف جسدها وتحل فيه ، فمتى تذهب روح الصائغ نحو جسد الخياط ؟
- وروح العالم تمضي صوب العالم ، كما تسعى روح الظالم نحو الظالم .
- فقد علمها كلها علم الإله ، كما يميز - عند الصباح - الحملُ من الشاة .
 
1780 - والقدم تعرف نعلها في الظلام ، فكيف لا تعرف الروح جسدها أيها الصنم .
 
“ 205 “
 
- والصبح هو الحشر الصغير أيها المستجير ، وقس عليه إذن الحشر الكبير .
- وكما تطير الروح " عائدة " نحو الطين ، تحلق الكتب ذات اليسار وذات اليمين .
- ويوضع في كف " المرء " كتب البخل والجود ، وكتب الفسق والتقوى ، ما كان قد إعتاد عليه .
- وعندما يستيقظ من النوم عند السحر ، يرجع إليه ، ذلك الخير وذلك الشر .
 
1785 - فإذا كان قد عود خصاله على الرياضة ، فهي ما يأتي أمامه أو ان يقظته .
- وإذا كان بالأمس غُفلا قبيحا في ضلال ، فإنه يجد كتاب العزاء الأسود في الشمال .
- وإذا كان بالأمس طاهرا تقيا ذا دين ، فإنه عند اليقظة يظفر بالدر الثمين .
- فإن منامنا ويقظتنا شاهدان على صفة موتنا وحشرنا .
- ولقد أبدى الحشر الأصغر الحشر الأكبر ، وفسر الموت الأصغر الموت الأكبر .
 
1790 - الكتاب هنا خفي و " مجرد " خيال ، ويصير ذلك الكتاب في الحشر عيانا بيانا .
- فهذا الخيال هنا خفي واضح الأثر ، ومن هذا الخيال تنبت هناك الصور .
 
“ 206 “
 
- فانظر ، إن صورة الدار تكون في قلب المهندس ، كأنها بذرة في باطن التراب
- ثم تأتي تلك الصورة من الباطن إلى الظاهر ، كالأرض التي تلد من البذر المدفون .
- وكل خيال يجعل من القلب موطنا ، سوف يتصور في يوم الحشر
 
1795 - مثل الخيال الموجود عند ذلك المهندس في الضمير ، وكالنبات في الأرض القابلة للبذر .
- إن ما أهدف إليه من الحديث عن هذين المحشرين موضوعا ما ، يكون في بيانه حصة للمؤمنين .
- وعندما تسطع شمس القيامة ، ينسلون من الأجداث سراعا ، الصالحون والطالحون .
- ويمضون ساعين نحو ديوان القضاء ، ويدخل النقد الصحيح والنقد الزائف إلى الكير .
- ويصبح النقد الصحيح الطيب سعيدا مكرما ، أما النقد الزائف ، فيصير في عذاب وذوبان .
 
1800 - وتصل ألوان الامتحان لحظة بعد أخرى ، وتبدو أسرار القلوب في الأجساد .
- مثلما صار ظاهرا من القنديل الماء والزيت ، أو كالتراب الذي ينبت " ما دفن فيه " من أسرار .
- وإن يد الربيع لتبدى ما غرس في الشتاء ، من بصل وكراث وخس .
- فثمة ما يكون مخضرا نضرا سعيدا من ( نحن المتقون ) ، وآخر كالبنفسج ناكس الرأس .
 
“ 207 “
 
- لقد جحظت العيون من " شدة " الخطر ، وصار المطمئن شديد القلق “ 1 “ من الخوف المستقر .
 
1805 - وثمة عيون قد كلت من الانتظار ، خوفا من تأتيها الكتب من الشمال .
- فالعيون دائرة ذات اليمين وذات اليسار ، ذلك أن قدوم الكتاب باليمين ليس بالأمر السهل .
- وثمة كتاب يأتي إلى أحد العباد ، أسود بأجمعه ، محشو بالفسق والفساد .
- ليس فيه حسنة واحدة أو عمل واحد موفق ، ليس فيه إلا ما يؤذى قلب الصديق .
- إنه مليء بالقبح والذنوب من بدايته إلى نهايته ، والسخرية والتصفيق استهزاءا من أهل الطريق .
 
1810 - إنه مليء بسرقات ذاك وأنواع إحتياله ومكره، وبقول هذا كالفراعين "أنا" و "إنا".
- وعندما يقرأ ذلك المثقل " بالذنوب " كتابه ، يعلم أن مآله هو الرحيل إلى السجن .
- ثم يمضي إلى المشنقة كأنه اللصوص ، فجرمه ظاهر ، وقد سد طريق الاعتذار .
- وتلك الآلاف من الأعذار والحجج والأقوال المشينة ، صارت سدا لفمه كأنها مسمار السوء .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : ذا عشرة عيون .
 
“ 208 “
 
- فالمتاع المسروق موجود على جسده وفي داره ، وقد كشف أمره ، وضاعت أسطورته .
 
1815 - ثم يمضي سائرا نحو سجن السعير ، فالشوك لا محيص له من النار .
- وهؤلاء الملائكة الموكلون من قدام ووراء ، كانوا في الدنيا مستورين ، فصاروا ظاهرين كالعسس .
- إنهم يحملونه ويخزونه بالمناخس قائلين : فلتمض أيها الكلب نحو حظائرك " الجديرة بك " .
- وهو يجر قدمه في بداية كل طريق ، ربما ينجو من ذلك الجب " السحيق " .
- ويقف منتظرا ، مستسلما ، ويتلفت حوله ، وينظر خلفه آملا .
 
1820 - ويذرف الدمع " الهتون " كأمطار الخريف ، وأمله واه الأساس ، وماذا لديه سواه ؟
- يتلفت كل لحظة بوجهه ، ويتوجه نحو العتبة المقدسة .
- فيأتي الأمر من الحق من إقليم النور ، أن قولوا له : أيها الفاسد العاري " من كل فضل " .
- ماذا تنتظر يا معدن الشر ؟ وما التفاتك يا دائر الرأس .
- إن كتابك هو الذي جاء في يدك ، يا من قدمت الأذى لله والعبادة للشيطان
 
1825 - وما دمت قد رأيت كتاب أعمالك، فإلى أي شيء تنظر؟ أنظر إذن إلى جزاء عملك!!.
- ولماذا تتلكأ عبثا ؟ وفي هذه الحفرة من الجحيم ، أي أمل في شعاع نور ؟ !
 
“ 209 “
 
- فإنك لم تقدم في ظاهر الأمر طاعة واحدة، وليس لديك في باطنك نية " لفعل حسنة واحدة ".
- ولا أنت قدمت في الليل المناجاة والقيام ، ولا كان لك في النهار تقى أو صيام .
- ولا أنت حفظت اللسان عن إيذاء الناس، ولا كان لك نظرٌ باعتبار إلى ما هو قدامك وخلفك.
 
1830 - وما هو ذكرك لما هو قدامك ؟ إنه ذكرك لموتك ونزعك ، وما هو ذكرك لما هو خلفك ؟ إنه موت الرفاق من قبلك .
- ولا كان لك عن الظلم توبة " تجأر " فيها بالضراعة ، أيها الغشاش المحتال ، يا من تعرض القمح وتبيع الشعير .
- وما دام ميزانك أنت كان مزيفا معوجا ، فأي استقامة تطلبها من ميزان الجزاء ؟ !
- وما دمت قد سعيت بشمالك في الغدر والخسران ، كيف يأتيك الكتاب إذن في يمينك ؟ !
- ولما كان الجزاء بمثابة الظل يا محني القوام ، فإن ظلك يسقط أيضا منحنيا أمامك .
 
1835 - وعلى هذا المنوال يسمع موجع القول ، والذي منه يقصم ظهر الجبل .
- ويقول العبد : إن ما تفضلت به من بيان ، أنا " من السوء " مائة ضعف له ، مائة ضعف ، مائة ضعف .
- وأنت نفسك قد سترت ما هو أسوأ بحلمك ، وإلا فإنك تعلم فضائحي بعلمك .
 
“ 210 “
 
- لكن خارج جهادي وخارج فعلي ، ومن وراء الخير والشر والكفر والدين ،
- " وخارج " ضراعتي بعجز ، وما لا يدور في خيالي ووهمي أو وهم مائة مثلي ،
 
1840 - كنت راجيا في محض لطفك ، بصرف النظر عن إستقامتى أو عتوى .
- " كنت أرجو " عطاءً محضا من اللطف الذي لا يعوضه " لطف " ، كنت آملا فيك يا مكرما بلا غرض .
- ولقد التقت أنا إلى ذلك الكرم المحض ، وأنا لم ألتفت نحو " ما قدمت " من عمل .
- لقد التفت بوجهي نحو ذلك الرجاء الذي وهبني الوجود من قبل القبل .
- ووهبني خلعة الوجود بلا مقابل منى ، وكنت دائما معتمدا على ذلك .
 
1845 - وعندما يعدد ذنوبه وأخطاءه ، فإن ذلك العطاء المحض يبدأ في العطاء .
- قائلا : أيها الملائكة ، ردوه إلينا ، فإن عين قلبه كانت على الرجاء .
- ولننجه دون مبالاة منا ، " ولنتجاهل " كل هذه الخطايا ، ولنشطب عليها .
- فإن عدم المحاسبة إنما يباح لمن لا يصيبه نفع أو ضر من الغدر أو من الصلاح .
- ولنشعل نارا طيبة من كرمنا ، بحيث لا تبقى زلة أو ذنب ، قلا أو كثرا .
 
1850 - نارا من أقل شرر منها ، يحترق الذنب ، ويحترق الجبر والاختيار
 
“ 211 “
 
- ولنضرم نارا في الأصل البشرى الإنساني ، ولنحول الشوك إلى روضة من رياض الروح .
- فنحن من الفلك التاسع قد أرسلنا كيمياء " تبديل " ، فحواهايُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ.
- وأمام النور المستقر ، ماذا يكون في حد ذاته ، كر إختيار أبي البشر وفره .
- وقطعة من اللحم أداة للحديث عنده ، وقطعة من الشحم موضع البصر فيه
 
1855 - وموضع السمع فيه قطعتان من العظام ، وموضع إدراكه قطرتان من الدم ، أي القلب .
- إنه مجرد دودة صغيرة مليئة بالأقذار ، لكنه ملأ الدنيا بالضجيج والصخب
- لقد كنت نطفة من مني " يمنى " ، فاترك قولك " أنا " ، وتذكر يا إياز ذلك الرداء الجلدي .
 
[ حكاية إياز ]
قصة إياز وامتلاكه لحجرة ليحتفظ فيها بحذائه القديم وسترة الرعي الخاصة به ،
وظن الحاشية أن له فيها كنزا مدفونا ، وذلك لإحكامه غلق الباب وثقل القفل
 
- لقد دفع ذكاء إياز إياه " على الاحتفاظ " بحذائه وسترته الجلدية " معلقين " على جدار .
- كان يمضى كل يوم إلى حجرة منزوية ، قائلا لنفسه : هذا حذاؤك القديم ، فلا تغتر .
 
1860 - فقالوا للملك : إن له حجرة " خبأ " فيها الذهب والفضة ، ودفن فيها الجرار .
- وهو لا يسمح لأحد بدخولها ، كما أنه يغلق بابها على الدوام .
 
“ 212 “
 
- وقال الملك : عجبا لهذا الغلام ، ما الذي يخفيه عنا ويستره علينا ؟ !
- ثم أمر أحد الأمراء قائلا : إمض في منتصف الليل ، فافتح تلك الحجرة ، وادخلها ،
- وكل ما تجده فيها ، إنهبه ، وافش سره للندمان .
 
1865 - فهو مع مثل هذا اللطف والإكرام الذي لا حد له ، يخفي الفضة والذهب من لؤمه " وخسته " .
- ويظهر الوفاء والعشق والوجد ، في حين أنه يعرض القمح ويبيع الشعير .
- وكل من يجد الحياة في العشق ، يكون كل ما سوى العبودية ، كفرا عنده .
- وفي منتصف الليل تشاور ذلك الأمير مع ثلاثين من خاصته في فتح حجرة إياز .
- وحمل عدد من المقاتلين المشاعل ، ومضوا نحو الحجرة فرحين .
 
1870 - قائلين : إن أمر السلطان هو أن نسطو على الحجرة ، ويحمل كل منا كيسا من الذهب .
- فكان أحدهم يقول : ها ، أي ذهب تقصد ؟ تحدث عن العقيق والياقوت والجواهر .
- إنه كبير خواص خزانة السلطان ، بل إنه بمثابة الروح بالنسبة للملك .
- فأية قيمة عند ذلك المحظي المقرب للمرجان والياقوت والزمرد والعقيق ؟ !
- لم يكن الملك يسيء الظن به ، لكنه كان يسخر ويهزأ ليمتحن " الأمراء " .
 
1875 - لقد كان يعرف أنه برئ من الغل والغش ، لكنه كان مرتعد القلب من ظنه أيضا .
 
“ 213 “
 
- قائلا : ربما كان الأمر كذلك - لا قدر الله - ويتألم ، وأنا لا أريده أن يشعر بالخجل .
- إنه لم يفعل هذا ، وجائز له إن فعل ، قل له : إفعل ما تريد ، إنه محبوبنا .
- وكل ما يفعله محبوبي ، فقد فعلته أنا ، فهو أنا وأنا هو ، بالرغم من أنني محجوب عنه .
- ثم عاد يقول : إنه بعيد عن هذه الطباع والخصال، ما هذا الخلط ؟ بل ما هذا الهذيان والخيال؟!
 
1880 - إن هذا في حد ذاته يستبعد عن إياز ، بل هو محال ، إنه بحرٌ لا يسبر غوره .
- بل إن البحار السبعة قطرة واحدة منه ، وكل الوجود رشحة من موجه .
- وكل أنواع الطهر تُؤخذ من هذا البحر ، بل إن قطراته قطرة قطرة تقوم بكيمياء " التبديل .
- إنه ملك الملوك ، بل هو صانع الملوك ، وسمي " إياز " دفعا للحسد .
- بل إن العيون الطيبة لتحسده بدورها ، غيرة منه ، فإن حسنه بلا حد .
 
1885 - إنني أريد فما في سعة الفلك ، حتى أصف ذلك الذي يزرى بالملك
- ولو أجد فما قدر هذا الذي أطلبه بل مائة ضعف ، فإن ما أحس به من حنين ، يضيق به الصراخ .
- ولو لم أقل هذا القدر أيضا أيها السند ، فإن زجاجة القلب تنكسر من الضعف .


“ 214 “
 
- ولما رأيت زجاجة القلب رقيقة " هشة " ، لكي أسكن " ما بي " مزقت كثيرا من الأقبية .
- وأنا - أيها المحبوب - ينبغي على أن أجن بلا جدال ، ثلاثة أيام على رأس كل شهر .
 
1890 - فانتبه ، هذا هو اليوم الأول ، إنه يوم النصر ، لا يوم الفيروز
- وكل قلب يحتوى على حزن المليك ، تكون كل لحظة كأول الشهر بالنسبة له .
- وما دمت قد صرت مجنونا ، فإن قصة محمود وأوصاف إياز ، قد خرجت الآن عن إيقاع اللحن .
 
بيان أن ما نذكره هنا هو مجرد صورة القصة لكي تكون مناسبة لمن يأخذون بالصورة وجديرة بمرآة تصويرهم ، ومن القدسية التي هي حقيقة هذه القصة يخجل النطق من مجرد التفوه بها ، ومن الخجل يضل الرأس واللحية والقلم والعاقل تكفيه الإشارة
 
- ذلك أن فيل " روحي " رأى هند " الجنان " في الحلم ، فاقطع الأمل إذن في الخراج ، فقد خربت القرية .
- " كيف يأتي النظم لي والقافية ، بعد ما ضاعت أصول العافية
 
“ 215 “
 
1895 - ما جنون واحد لي في الشجون ، بل جنون في جنون في جنون - ذاب جسمي من إشارات الكنى ، منذ عانيت البقاء في الفنا " “ 1 “
- يا إياز ، لقد صرت من عشقك " في نحول " الشعرة ، وعجزت عن إتمام قصتك ، فحدثنا أنت بها .
- ولطالما قرأت أسطورة عشقك بالروح ، ، فاقر أني أنت إذن ، فقد صرت أسطورة .
- إنك أنت الذي تقرأ لا أنا أيها المقتدى ، إنني الطور وأنت موسى ، وهذا هو الصدى .
 
1900 - وأي علم للجبل المسكين بالكلام والحديث ، إن موسى يعلم أن الجبل خال " من الفكر والقول " .
- إن الجبل يعلم ، لكن ما أتيح له من علم ، والجسد " يستمد " قليلا من لطف الروح .
- والجسد قد خلق كالإصطرلاب من أجل الحساب ، وهو آية من الروح التي هي كالشمس الساطعة .
- ولأن ذلك المنجم ليس حاد البصر ، يشترط أن يكون هناك رجل يصنع له الإصطرلاب .
- وذلك حتى يصنع الإصطرلاب من أجله ، وحتى يفهم شيئا عن حالة الشمس .
..............................................................
( 1 ) ما بين القوسين بالعربية في المتن الفارسي .
 
“ 216 “
 
1905 - والروح التي تبحث عن الصواب عن طريق الإصطرلاب ، أي قدر تعرفه عن حالة الفلك والشمس ؟
- وأنت تنظر إذن بعين الإصطرلاب ، فأنت في رؤيتك للدنيا قاصر جدا على وجه اليقين .
- لقد رأيت الدنيا بقدر رؤيتك ، فأين الدنيا إذن ؟ لماذا تتحسس شاربك " كبرياءً " ؟
- وإن للعارفين كحلا " يجلي البصر " فابحث عنه ، حتى تصير كالبحر هذه العين التي تشبه الجدول .
- ولو كان معي ذرة من العقل والوعي ، أي هوس هذا وتجديف في القول ؟
 
1910 - وبما أن رأسي قد خلت من الوعي والذكاء ، فأي ذنب لي في هذا الخلط في الكلام ؟
- إن الذنب ذنبه هو ، ذنب من سلبني العقل ، وقد ماتت أمامه عقول كل العاقلين .
- " يا مجير العقل فتان الحجى ، ما سواك للعقول مرتجى
- ما اشتهيت العقل مذ جننتني ، ما حسدت الحسن مذ زينتني
- هل جنوني في هواك مستطاب ، قل : بلى ، والله يجزيك الصواب " “ 1 “
 
1915 - فسواء تحدث هو بالفارسية أو بالعربية ، أي أذن وأي لب يستطيعان فهم أعماقه ؟
- وليست خمره جديرة بكل وعي ، وحلقته ليست مبذولة لكل أذن .
..............................................................
( 1 ) ما بين القوسين بالعربية في المتن الفارسي .
 
“ 217 “
 
- ها أنا قد جننت مرة ثانية كالمجنون ، هيا إمض ، إمض أيها الحبيب ، وهات القيد سريعا .
- وفيما عدا ذلك القيد الذي هو من جدائل حبيبي ، إن جئتني بمائتي قيد ، فإني أحطمها تحطيما . “ 1 “


حكمة النظر في الحذاء القديم والسترة الجلدية مصداقا لقوله تعالى
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّا خُلِقَ
 
- عد بنا مرة أخرى إلى قصة عشق إياز ، فهي كنز مليء بالأسرار .
 
1920 - لقد كان كل يوم يذهب إلى الغرفة العليا ، كي يشاهد الحذاء القديم والسترة الجلدية .
- وذلك أن وجود " النعمة " يحدث سكرا شديدا ، ويسلب العقل من الرأس والحياء من القلب .
- ونفس سكر الوجود هذا قد قطع لطريق من مترصده على مئات الآلاف من القرون السابقة .
- لقد صار عزازيل من هذا السكر إبليس ، واعترض قائلا : لماذا يصبح آدم رئيسا على ؟
- إنني سيد وابن سيد أيضا ، وجديرٌ بمائة فضل مستعد له .
 
1925 - وليست بأقل من أحد في الفضل ، حتى أقف احتراما أمام العدو .
- لقد خلقت أنا من النار وخلق هو من الوحل ، ، وما قيمة الوحل إلى جوار النار ؟
..............................................................
( 1 ) ج / 11 - 573 :
- إن على قدم قلبي قيدا من العشق ، فبأي شيء يجديني هذا الوعظ والنصح ؟ .
- وقصة العشق لا مطلع لها ، وبالتالي لا مقطع لها أيضا .
 
“ 218 “
 
- وأين كان هو في ذلك الزمان الذي كنت أنا فيه صدرا للعالم وفخرا للزمن ؟ !
 
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ وقوله تعالى في حق إبليس إنه كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ
 
- لقد كانت نار روح السفيه تلقي باللهب ، فقد كان ناريا ، والولد سر أبيه .
- لا ، لقد أخطأت ، بل كان غضب الله ، فلماذا تبحث عن العلل والأسباب ؟
 
1930 - إن الأمر الذي بلا علة مبرأ من العلل ، إنه مستقر ومتواصل منذ الأزل .
- وفي كمال الصنع المتواصل المستمر ، أي موضع للعلة الحادثة أو الحدث ؟
- وأي شيء يكون سر الأب هذا ، إن أبانا أيضا من صنعه ، إن الصنع لب ، والأب الصوري هو القشر .
- فاعلم أن العشق - يا هش القشر كالبندق - هو رفيقك ، وروحك تبحث عن اللب ، وتدق القشر منك .
- وجهنمي ذلك الذي يكون القشر رفيقا له ، لقد أعطى جلده مصداقا لبَدَّلْناهُمْ جُلُوداً.
 
1935 - والمعنى واللب فيك مسيطران على النار ، لكن قشورك حصب جهنم .
- والقدر الخشبي الذي يكون فيه ماء الجدول ، تكون قدرة النار كلها على ظاهره .
 
“ 219 “
 
- لكن معنى الإنسان مسلط على النار ، إنه مالك خازن الجحيم ، فكيف يكون هالكا فيه ؟
- فلا تزد إذن في البدن ، وزد في المعني ، حتى تصير سيدا على النار مثل مالك .
- وها أنت تقوم بزيادة القشر فوق القشر ، فلا جرم أنك كالقشر في دخان .
 
1940 - ذلك أنه لا طعام للنيران إلا القشور ، وقهر الحق سالخٌ لجلد ذلك الكبرياء .
- وهذا الكبرياء نتيجة للقشور والجلد، ومن هنا فالمال والجاه صديقان حميمان لذلك الكبرياء.
- وما هو هذا الكبرياء ؟ إنه الغفلة عن اللباب ، إنه متجمد غافل غفلة الثلج عن الشمس " الساطعة " .
- وعندما يأتيه علم بالشمس ، لا يبقى ثلجا ، يصير لينا حارا ويجد في السير .
- وعندما يرى الجسد اللب يصير بجملته طامعا فيه، ويصير ذليلا عاشقا ، إذ : ذل من طمع.
 
1945 - وعندما لا يرى اللب يقنع بالقشر ، ويصبح قيد " عز من قنع " مطوقا إياه في سجنه .
- والعز هنا " بالدنيا " هو مجوسية وذل للدين ، وما لم يفن الحجر ، متى صار فصا ؟
- أتقول " أنا " وأنت في مقام الحجرية لا تزال ، إن الأوان هو أوان تحولك إلى مسكين فان .
- ومن هنا يبحث الكبرياء دائما عن الجاه والمال ، لأنه من كثرة " البعر " يكون الكمال لمستودع القمامة .


“ 220 “
 
- فإن هاتين المرضعتين تربيانه ، وتحشوانه بالشحم واللحم والكبرياء والعنجهية .
 
1950 - ولم تمعنا النظر في لب اللب ، ومن ثم فقد ظنتا القشر لبا .
- لقد كان إبليس هو الإمام في هذا الطريق ، ، إذ سقط في شبكة الجاه .
- فالمال كالحية ، والجاه ذاك أفعى ، وظل الرجال بمثابة الزمرد لهذين .
- وذلك لأن الزمرد يقتلع عين الحية ، فتمعى ، ويجد السالك الطريق .
- ولأن ذلك الرئيس قد وضع هذه الشوكة في الطريق ، فكل من جرح به ، قال : لعنة الله على إبليس .
 
1955 - يعنى أن هذا الحزن قد حاق بي من غدره وجحوده ، وذلك المقتدى سباق القدم في الغدر .
- ومن بعده ، جاءت القرون في أثر بعضها ، كلها قد سارت على نهجه ، واتبعت سنته .
- وكل من يسن سنة سيئة أيها الفتى ، حتى يتخبط الخلق من بعده في العمى ،
- فإن كل أوزارها تتجمع عليه ، فقد كان رأسا ، والباقون مجرد ذيول " له "
- لكن آدم كان يضع أمامه ذلك الحذاء وتلك السترة ، قائلا : إنني من طين .
 
1960 - مثل إياز ، كان حذاؤه مزارا له ، فلا جرم أن صار محمود العاقبة .
- إن الوجود المطلق إنما يقوم بكل أحواله في العدم ، وما هو موضع صنع " كن " إلا العدم ؟
- وإن أحدا قط لا يكتب على ورقة مكتوبة ، كما أن أحدا لا يغرس غصنا فوق غصن مغروس .
 
“ 221 “ 
 
- " فالكاتب " يبحث عن ورقة " بيضاء " لم يكتب عليها شئ ، و " الغارس " يغرس بذرته في موضع لا بذرة فيه .
- فكن أيها الأخ موضعا لم يغرس فيه أحد شيئا ، وكن ورقة بيضاء لم يكتب عليها شئ .
 
1965 - حتى تصبح مشرفا ب ( نون وَالْقَلَمِ) ، حتى يلقي فيك بذرة ذو الجود والكرم .
- وخذ من هذا الفالوذج الذي لم يلعق ، وتجاهل ذلك المطبخ الذي رأيت .
- ذلك أنه يوجد في ذلك الفالوذج أنواع من السكر ، تذهب الحذاء القديم والسترة الجلدية من ذاكرتك .
- وعندما يحين النزع والموت تتأوه ، وتذكر آنذاك السترة والحذاء القديم .
- وما دمت غريقا في أمواج القبح ، حيث لا عون هناك من ظهير أو حميم .
 
1970 - ولا تذكر سفينة الصدق ، فإنك لا تنظر في الحذاء القديم ولا في السترة الجلدية .
- وما دمت عاجزا غريقا في دوامة الفناء، فإنك تجعل منظَلَمْنا أَنْفُسَناوردا على الولاء.
- ويقول الشيطان : انظروا إلى هذا الساذج ، واقطعوا رأس هذا الديك الذي يؤذن في غير وقت .
- وإن هذه الخصلة بعيدة عن فضائل إياز ، أن تبدو صلاته مجرد مظهر ولا صلاة فيها .
- فلقد كان ديكا للسماء من قبل ، وكان أذانه دائما في وقته .

 
.
* * *

شرح قصة أهل ضروان وحسدهم للفقراء


( 1473 ) : الحكاية الواردة ابتداء من هذا البيت تكملة لما بدأه مولانا جلال الدين في الكتاب الثالث بداية من البيت 474 ، وتركها بعد بضعة أبيات دون أن يستمر فيها وهي بجملتها معتمدة - بخلاف بعض الجزئيات - على ما ورد في سورة القلم إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ، قالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ ، قالُوا


“ 493 “
 
سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ، قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ ( آيات 17 - 32 )
وموضوع أنه كان يخرج زكاة المحصول كلما تغيرت قيمة المحصول " المادية والاستهلاكية " ، تثير مسألة فقهية مهمة جدا وهي هل تجب الزكاة على المحصول مرة واحدة أم تجب عليه كلما تغيرت قيمته ، أو تحول من مادة خام إلى سلعة صناعية وربما تعرض لها الشارع في باب زكاة الثمار وفيها أقوال كثيرة يضيق المجال عن ذكرها
 ( انظر محمد جواد مغنية ، الفقه على المذاهب الخمسة ، ص 174 ، بيروت دار الجواد 1984 ) .
وبالنسبة للعين المقدرة العواقب الواردة في 1473 ،
انظر الفرق بينها وبين العين الناظرة إلى المزود البيت 2595 - من الكتاب الأول ، و 1572
من الكتاب الثاني وأيضاً في الكتاب الثالث ، الأبيات رقم 276 - 278 وشروحها . وضروان حديقة كانت بالقرب من صنعاء .
 
( 1488 - 1499 ) : المقصود من محل الكسب أو موضع الدخل كما سيتضح هو الحضرة الإلهية ، وما الزرع بالنسبة للزارع وما الجلد بالنسبة للإسكافى إلا أسباب أو كما يحلو لمولانا جلال الدين تسميتها " دريئات " ، أي مظاهر تخفى الحقيقة وتنوب عنها ، وإلا فمن الممكن أن يصنع الخفاف أخفاف ولا يشتريها أحد ، ومن الممكن للزارع أن يزرع ، فإن تأخر الزرع في النمو ، لم يجد أمامه إلا الحضرة الإلهية فهي أصل الرزق ، وكلها طرق " أسباب " ، هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( فاطر / 3 ) ،
وإذا كان الأمر كذلك فأعلم أن رزقك فيه لا من هذا وذاك ، ونشوتك وسكرك بالفيوضات لا من أي مخدر أو خمر تتعاطاه ، وكن آملا في عطائه لا في عطاء يؤول لك من علم أو يؤول لك من مال ، واطلب النصر منه لا من قومك وعصبتك فهو الحي الباقي كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ، وذات يوم سوف تصير أمامه فردا ، فكن باقيا ببقائه حتى لا تفنى أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ( الأنبياء / 105 ) .
 
“ 494 “
 
( 1500 - 1513 ) :يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ( عبس / 34 - 37 ) .
ألم تكن هذه هي الصور التي افتتنت بها وانصرفت عمن صورها ؟ ! سوف تكتشف في هذا اليوم أن كل هؤلاء كانوا أعداءً لك ، كانوا يصرفونك عن وجه الله ، كنت تأتنس بهم ناسيا الأنس بالله ، كان رأيهم فيك يهمك ، ولا تقيس ما تفعل بما يرضى الله وبما يغضبه ، فهيا إن حدث لك اليوم إن انصرفوا عنك ، فلا تحزن ، لأن هذا ليس سببا للحزن بل هو مدعاة للسعادة ، فإن ذلك اليوم الذي يكون فيهالْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ( الزخرف / 67 )
قد عجل لك صارت القيامة واقعا بالنسبة لك ، إنك جدير بالتهنئة لأنك أدركت عيب البضاعة المعيوبة مبكرا ، وانصرف عنك غرم السلعة الفاسدة وانكشف لك زيف ذلك المعدن الخسيس الذي كنت تظنه ذهبا ومن ثم فعليك أن تبتعد عنه بأسرع ما يمكنك .
 
( 1514 - 1525 ) : مالك تبكى وتنوح إن أبدى لك من تظنه صديقا العداوة ، وطفح عليه جرب حقده وحسده ، وظهرت على وجهه سخائم قلبه ، أولى بك أن تفرح وتوزع الصدقات أن تلك العلاقة التي كنت تظنها صداقة لم تدم طويلا .
 
( انظر الكتاب الرابع ، الترجمة العربية ، الأبيات 94 - 99 وشروحها ) . وأن يكون هذا مدعاة للبحث عن الصديق السرمدي الدائم ، الذي يخلص لك الود ولا ينقلب عليك ، تظهر مودته أكثر توثقا بعد موتك ، إنه عملك ، أو شيخك أو ذلك الذي يكون سلطانا على القلوب وملكا على المعاني ، ويثيب ودك ودا ، وإخلاصك إخلاصا ، أو يكون قد تخلق بأخلاق هذا السلطان وصار ربانيا تقبل شفاعته ، إن هذا هو الجدير حقا بالصداقة وليس ذلك المزور المحتال الذي نجوت منه ، إن النجاة منه وذلك الجفاء الذي يبديه لك الخلق هو من كنوز الدنيا والآخرة ، فالإنسان لابد أن ينتمى ولابد أن يختار ، إما أن يكون من هذه الناحية
( الدنيا ) أو من تلك الناحية ( الآخرة ) ، وألم تبصر عشرات المرات أن الدنيا عندما تدبر عن إنسان ويفتح عينيه فجأة فيجد من كان يظنهم أصدقاءه مجرد منتفعين وأقاربه


“ 495 “
 
مجرد " ورثة " ، أليس من الطبيعي أن يلجأ إلى الناحية الأخرى ، لا تقل أن هذه نظرة تشاؤم وسوء ظن بالناس ، فحتى إن لم يكن قد حدث لك ذلك حتى الآن ، فسوف يحدث عندما تغادر هذه الدنيا وينقطع نفع المنتفع منك ، تكون وحدك في القبر تدعو دعاء ذكريا عليه السّلام رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ( الأنبياء 89 ) سوف تجأر بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى حين تدرك أن جفاءه سبحانه وتعالى خير من عهود الأوفياء ، فإنه سبحانه وتعالى قد يغفر بعد التوبة وقد يبدل السيئات حسنات ، إن هذا الجفاء أحلى من عهود الأوفياء ، بل إن شهد الأوفياء من عطائك أيضاً .
 
( 1526 - 1529 ) : وأنت يا صاحب الأهراء الذي لا تزال تخزن القمح وتظن أن في ذلك نفعا ، أبذر قمحك في أرض الله ، أنفقه في سبيل الله ، فإن هذه هي التجارة التي لن تبور ، اجعل كل عملك وقدرتك في سبيل الله ( انظر الكتاب الرابع ، بيت 1089 ) .
إن هذا هو المال الذي لا يسرقه لص ، وهذا هو القمح الذي لا يصاب بآفة ، فلا أرضة العقل والتدبير تصيبه ولا شيطان الهوى ، ودعك من الشيطان الذي يخوفك من الفقر ، ويأمرك بالفحشاء ويمنعك من الإنفاق ، فإن كنت صقرا جارحا في الطريق ، فلا تجعل هذه " القطا " تصيدك .
 
فمن العار لبازى السلطان ( انظر البيت رقم 1135 من الكتاب الثاني ) ، الذي أعزه السلطان وكرمه ورزقه في البر والبحر وقربه منه ، أن يصيده طائر ضعيف مثل القطاة .
 
( 1530 - 1536 ) : عودة إلى الأب الذي يوصى أبناءه ، لكن نصيحة لم تجد نفعا ، كما لا تنفع البذور في الأرض البور ، لم تكن مداركهم تقوى على هذه الحقائق وهم أهل ظاهر وحساب مكسب وخسارة و " دخل عام " ، و " دخل خاص " ، فالأب إنما يتكلم بلغة ، أما الأبناء فيتعاملون بلغة أخرى ، ولغته ونصيحته إنما وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ( الحاقة / 12 ) ،
 
وإن الذكرى تكون لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، قال نجم الدين كبرى : " هو القلب السليم من تعلقات الكونين فالقلوب أربعة ، قلب القاسى وهو قلب الكافر وقلب مقفول وهو قلب المنافق وقلب مطمئن وهو قلب المؤمن وقلب سليم وهو قلب المحبين والمحبوبين الذين هم مرآة صفات جلال الله وجماله أو ألقى السمع وهو شهيد أي من لم يكن له قلب على هذه الصفة لا يكون له سمع يسمع بالله وهو حاضر مع الله فيعتبر بما يشير إليه الله في إظهار اللطف أو القهر ( مولوى 5 / 228 - 229 ).
 
وعندما لا يكون ثم مستمع ، أو يكون هناك مستمع لكنه لا يهتم ، فإن القائل نفسه يصاب بالإحباط
 
“ 496 “
 
( لشروح أوسع لهذه الفكرة ، انظر الكتاب الثالث من المثنوى المعنوي ، الأبيات 3604 - 3619 وشروحها ) والدليل الأنبياء ، لقد أثرت أنفاس بعضهم في الحجر ( كان الحجر يؤوب مع داود ) وتحدث الحجر إلى داود وقال خذني معك لقتال جالوت ( انظر الكتاب الثالث ، البيت 2497 ) ، لكن قلوب الكفرة وغير المنتصحين أشد قسوة ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ( البقرة / 74 ) .
 
لكن قيد الكفر أشد إحكاما وأشد قسوة ، وقيد الأنية وعبادة الذات أشد إحكاما وقسوة ، ومن ضرب عليه بميسم الشقاء لا يدرك شيئاً ، أولئك كالأنعام بل هم أضل ، ومنهم شقى وسعيد ( بالنسبة للشقى ، انظر البيت 2134 من الكتاب الثالث ) .
 
( 1537 - 1546 ): يناقش مولانا في هذه الأبيات قضية غالبا ما تثار على مستويات عديدة:
هل العطايا على مستوى القابليات بالفعل ، وهل يعطى الله الإنسان بقدر تقبله ؟ !
 
هل يعطى الله الإنسان لأنه جدير بالعطية ؟! أم أن عطاءه سبحانه وتعالى ليس مستندا على سبب من الأسباب ، أو على الأقل تلك الأسباب التي تعيها مداركنا ؟ ! لماذا ترك سبحانه وتعالى هذه القلوب القاسية التي لا حيلة لها إلا عطاء مبدل ، وهل يكون العطاء المبدل للقلوب القاسية ، يجيب الصوفية : " فإن قلت أن الله تعالى يتجلى على العبد بحسب قابليته واستعداده فكيف تكون لغير القابل، فتجاب أن الله تعالى له فيضان:
فيض أقدس وفيض مقدس ، فالفيض الأقدس الفيض الآتي في الذات الإلهية إلى الأعيان الثابتة فإنه عار من شوائب الكثرة مثاله كالنور الآتي من قرص الشمس إلى الزجاجات المتنوعة ، والفيض المقدس الفيض الآتي على الأرواح من أعيان ثابتة كل أحد مناسب لاستعداده الأزلي مثاله كالألوان المختلفة والأنوار المتكونة من الزجاجات المتنوعة داخل البيت ، فالفيض الأقدس ليس موقوفا على القابلية والفيض المقدس يكون على حسب استعداد أزلي كل أحد ، فالقابلية شرط فيه وهذا هو معنى قولهم : إن الله يتجلى على العبد بحسب استعداده وقابليته ( مولوى 5 / 230 ) ( انقروى 5 / 466 )
 
ويفسر جعفري القابلية بأنها " مراعاة الطبيعة " فنطفة الرجل لا تتحول إلى بشر إن وضعت في تراب وشجرة اللوز لا تنمو على الماء ، فالسببية قائمة لكن هذه الأمور لا تجرى على الله سبحانه وتعالى ، وقوانين العلة والمعلول لا تقيده جل وعلا من أن يفعل من يشاء فهو الفعال لما يريد ( جعفري 110 / 496 ) فعطاؤه بلا علة وبلا سبب فهي أمور أزلية وقديمة ولا تجرى عليها ما تجرى على الحادث من أمور
 
“ 497 “
 
وأسباب ( أنظر للحدوث والقدم : الكتاب الذي بين أيدينا الأبيات 1313 - 1315 ) ،
فهذا العطاء " لم يقل الفيض ولم يقل النور " عطاء أعلى ومن ثم يضرب به المثل " كالعصا في يد موسى واليد البيضاء وبقية معجزات الأنبياء فكلها خرقٌ للطبيعة وعوامل السببية " ولو كان الأمر بالسببية لما خلق وجود من عدم فأية علة أو سببية أو صلة بين الوجود والعدم ، تريد معجزة ؟ وجودك في حد ذاته معجزة ، وإن كل ما تسميه معجزة هو خرق العادة ، لكن لماذا جعل الله الأسباب ؟ يقول السبزواري
( ص 366 ) إن كلام مولانا في هذا المجال من قبيل التوحيد المحض حيث ينتفى الاسم والرسم والقابل والمقبول وحقيقة الوجود مقدمة على كل التعينات بل إن هناك وجودات خاصة لها تقدم بالأحقية على المهيآت الإمكانية فهي مجرد قابليات ذهنية فالعطيات بقدر القابليات هي في مقام الواحدية واعتبار مفاهيم الأسماء والصفات الاعتبارية للأعيان الثابتة ومن هنا يقول العارفون الشامخون أن كل عين ثابتة في العلم الأزلي يستدعى وجوداً لا تقابها ، وما عامل معهم إلا بما علم منهم في الأزل ، ومفاهيم الأسماء والصفات لوازم غير متأخرة في الوجود بالنسبة للذات الأقدس .
 
والمقصود بالعز في البيت 1546 أي العز الدنيوي الذي لا بد له من أسباب وطرق ، وإن كان من الممكن أن يحدث أيضاً بلا سبب .
 
( 1547 - 1555 ) : أسير السبب ، هو الذي يضع كل الأمور في إطارها العقلانى الذي يعتمد على روابط السببية والعلية ، إياك أن تظن أننا ننفى السببية ، إن هذا الأمر لا يستطيعه أي إنسان ، فابق على ديدنك من التفكير ، لكن لا تشك في قدرة الحق على أن يجرى الأمور دون أسباب ، لكنه يضع الأسباب حتى لا يقعد الطالب عن مطلوبه ، ولا يقعده عن سعيه اعتماداً على أن الله سبحانه وتعالى قد يجرى الأمور دون أسبابها ، وقليلٌ ما هم أولئك الذين يعتمدون على وعيهم الباطني من أجل النظر إلى الأمور مباشرة وإدراكها في غير إطار السببية ، فهذه السببية حجب على صنعه تحجب رؤية الأمور مباشرة ، ورؤية الأشياء كما هي ،
 والنظر إلى المسبب دون الأسباب ، حينذاك تبصر عالماً خارجاً عن حدود المكان والزمان ، وحينئذ تحتقر كل هذه المشاغل الدنيوية التي وضعها الله سبحانه وتعالى من أجل أن يعمر هذا السوق القائم على الغفلة " لتفصيلات عن فكرة أن الدنيا قائمة على الغفلة ، انظر الكتاب الرابع الأبيات 238 - 241 والأبيات 1327 - 1330 وشروحها " ،
 إذن لابد لنظام الدنيا من وجود الأسباب وإلا لما استطاع أحد أن يقوم بضبطها ، ولتحولت إلى غابة ينال القوى فيها كل شئ ولا يترك شيئاً للضعيف
 
“ 498 “
 
( 1556 ) : الرواية التي تبدأ بهذا البيت ، أقدم مصدر لها حديثٌ منسوبٌ إلى الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم روى أبو موسى " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر والأبيض والأسود والأصفر ، ومن ذلك السهل والحزن والخبيث والطيب " ومفهوم هذا الخبر المروى ما روى أيضاً عن وهب بن منبه "
 
لما أراد الله أن يخلق آدم أوحى إلى الأرض أي أفهمها إني جاعلٌ منك خليقة ، فمنهم من يطيعني فأدخله الجنة ، ومنهم من يعصيني فأدخله النار ، فبكت الأرض فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة ، وبعث الله جبرائيل ليأتيه بقبضة منها من جوانبها الأربعة من أسودها وأبيضها وأحمرها وأطيبها وأخبثها ، قالت الأرض : بالله الذي أرسلك لا تأخذ منى شيئاً فان منافع القرب إلى السلطان كثيرة لكنه فيه خطراً عظيما ،
 
 فرجع جبريل عليه السّلام فلم يأخذ منها شيئاً فقال يا رب حلفتنى الأرض باسمك العظيم فكرهت أن آخذ منها شيئا ، فأرسل الله تعالى ميكائيل فلما انتهى إليها قالت الأرض له كما قالت لجبريل ، فرجع ميكائيل
 
فقال كما قال جبريل ، فأرسل الله إسرافيل عليه السلام وجاء ولم يأخذ منها شيئاً وقال مثل ما قال جبريل وميكائيل ، فأرسل الله ملك الموت عليه السّلام فلما انتهى قالت الأرض : أعوذ بعزة الله الذي أرسلك ألا تقبض من اليوم قبضة يكون للنار فيها نصيب غدا فقال ملك الموت : وأنا أعوذ بعزته أن لا أعصى له أمراً ، فقبض قبضة من وجه الأرض مقدار أربعين ذراعاً من زواياها الأربعة فصار كل ذرة منها أصل بدن الإنسان فإذا مات يدفن في الموضع الذي أخذت منه ، فأمر عزرائيل فوضع ما أخذ من الأرض في وادى نعمان بين مكة والطائف " ( المولوي 5 / 232 - 233 - الانقروى 5 / 371 مآخذ 170 - 171 )
 
والرواية تروى في معرض بيان الأصل في خلقة الإنسان و ، أن الأرض نفسها لم تكن تريد أن يخلق منها الإنسان من أجل ألا يعصى ، فيؤخذ بمعصيته ويمضى إلى النار ، فضلًا عن تعرضه لبلايا العيش في الدنيا .
 
( 1563 - 1564 ) : اللوح الكلى هو اللوح المحفوظ في رأى ، وهو أيضاً اللوح الذي وضع الله عليه علمه ، وأوضحه لجبريل ليبلغه إلى الملائكة .
 
( 1565 - 1575 ) : جبريل هو الروح الأمين ، وهو حياة الروح ، ومن ثم صار سفيراً إلى الأنبياء بالكتب التي هي حياة للروح ، ورزق القلب هو العلم والحكمة وفيض الشيخ ،
 
“ 499 “
 
( انظر الكتاب الأول البيت 730 ) ويوازن بين عطاء جبريل وعطاء ميكائيل عطاء الروح وعطاء البدن ، وكيل لا يحده حد ، وكيل محدود ، وهو يطلب الرحمة لأن الرحمة سبقت الغضب ، إشارة إلى الحديث القدسي " سبقت رحمتي غضبى " وقد تكرر في أكثر من موضع في أجزاء المثنوى الستة ، أما ذكر مولانا جلال الدين في خطاب الأرض لجبريل أنه مع الملائكة الثلاثة الآخرين حملة العرش ، ثم ذكره في البيت التالي إن حملة العرش ثمانية فيفسره المولوي على أن حملة العرش في الحياة الدنيا أربعة وفي الآخرة يمدهم بأربعة آخرين فيصبحون ثمانية إشارة إلى ما ورد في سورة الحاقة وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ( آية 17 ) ( مولوى 5 / 234 ) .
 
( 1580 ) : بالنسبة لقوة جبرائيل أنظر المثنوى الكتاب الثالث الأبيات 1 - 5 والكتاب الرابع الأبيات 3767 - 3770 وشروحها ) .
 
( 1581 ) : من أجل فكرة أن الملائكة أيضاً تلاميذ لآدم عليه السلام أنظر " الكتاب الأول من المثنوى - الأبيات 1256 - 1258 وشروحها ) .
 
( 1586 ) : يذهب استعلامى ( 5 / 292 ) أن مولانا هنا يخطئ عندما يربط بين ظاهر اسم ميكائيل وبين ما يراه وظيفة له وهي كيل الأرزاق على أساس أن الاسم في أصله لا يعطى هذا المعنى ، والواقع أن مولانا جلال الدين الرومي ليس أول من ربط بين اسم ميكائيل والكيل فهو ربط مأثور وتقليدى في التراث الإسلامي .
 
( 1596 ) : ربما كان مولانا في هذا المعنى ناظرا إلى الحديث النبوي الشريف [ ما من قطرة أحب إلى الله من قطرة دمع من خشية الله ] ( استعلامى 5 / 292 والكتاب الثالث البيت 1818 والكتاب الثاني الأبيات 446 - 447 والكتاب الذي بين أيدينا الأبيات 133 - 144 وشروحها ) .
( 1599 - 1605 ) : الكلام على لسان ميكائيل في الظاهر ، لكنها إفاضات مولانا جلال الدين : إن المراد بالصلاة هي أن يتضرع العبد إلى الحضرة الإلهية خمس مرات في اليوم ، فان الله يحب أن يسمع ضراعة عبده وإنما يبتليه ليسمع ضراعة ، ( انظر الكتاب الثالث الأبيات 197 - 207 وشرحها ) التضرع إلى الله سبحانه وتعالى يجعل الإنسان دائماً يحس بالضآلة ويسعى إلى التكامل ويحيا على أمل في أن تسد فرجه ، وتجبر كسائره ، ولولا الدعاء والتضرع إلى الحضرة الإلهية لقتل الغم أناساً ، ولقتل الطغيان وإحساس القوة أناساً
 
“ 500 “
 
آخرين ( لفلسفة جديدة عن الدعاء أنظر على شريعتي رسالة الذكر والذاكرين ضمن المجموعة الجديدة تحت عنوان عن التشيع والثورة - دار الأمين - القاهرة 1996 ) وفي الأبيات 1604 و 1605 إشارة إلى الآية الكريمة فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا ، وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ( الأنعام 43 ) ، وهكذا تقضى قسوة القلب والرين الذي يجعل القلوب لا تفقه إلى أن العاصي والكافر كليهما ينظران إلى أعمالها وكأنها عين الصواب وغاية المرتجى ، لأن الله سبحانه وتعالى سد أمامها طريق الدعوة وطريق التوبة .
 
( 1608 ) : يفرق مولانا جلال الدين في العنوان بين رأين في الدعاء الرأي الأول هو رأى عموم المسلمين وهو أن الدعاء إلى العتبة الإلهية قد يرد البلاء لأن الله سبحانه وتعالى فاعلٌ ومختار ويمحو ما يشاء ويثبت وهو القائل ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْوبين رأى أولئك الفلاسفة ( والفيلسوف في مصطلح جلال الدين مرادف للمنكر ) الذين يقولون أن الله فاعل بالطبيعة ، ومن ثم فإن الدعاء لا يغير من الأمر شيئاً ( وهناك من الصوفية من ينكر الدعاء على أساس أنه تدخل في مشيئة الله وعدم صبر على البلاء ( أنظر الكتاب الثالث قصة الدقوقي )
والمثل المضروب عن قوم يونس عليه السلام يعتمد على الآية الكريمة فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ( يونس 98 )
قال قتادة في تفسير هذه الآية : لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب إلا قوم يونس ، لما فقدوا بينهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم ، قذف الله في قلوبهم التوبة ، ولبسوا المسوح ، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ، ثم عجلوا إلى الله أربعين ليلة ، فلما عرف الله الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف عنهم العذاب
( مختصر تفسير ابن كثير ، اختصار وتحقيق محمد على الصابوني المجلد الثاني ص 208 ، ط 3 ، دار القرآن الكريم ، بيروت 1399 ه ) .
 
( 1619 ) : إشارة إلى حديث نبوي شريف : قال صلّى اللّه عليه وسلّم [ ليس شئ أحب إلى الله من قطرتين ، قطرة دمع من خشية الله وقطرة دم يراق في سبيل الله ] ( جعفري 117 / 513 ) وللحديث صورة أخرى أكثر وثوقاً [ عينان لا يعذبهما الله يوم القيامة ، عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله ] ( الجامع الصغير ) .
 
( 1620 ) : عودة إلى قصة أخذ حفنة من التراب من الأرض ، ويرسل الله تعالى الملاك الثالث إسرافيل صاحب نفخ الصور . وفي رواية عن الأنقروى بعد أن روى الرواية الواردة
 
“ 501 “
 
في شرح البيت 3755 من الكتاب الرابع عن تجلى جبريل بصورته الجسدية لسيدنا رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم " فلما أفاق قال يا جبريل ما ظننت أن أحداً من خلق الله هكذا فقال جبريل : يا رسول الله : كيف لو رأيت إسرافيل إن العرش على رأسه وأن رجليه قد مرقتا في تخوم الأرض ، وإنه ليتصاغر من عظمة الله حتى يصير كالعصفور . وفي المصابيح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم [ إن الله خلق إسرافيل عليه السّلام يوم خلقه ضاما قدميه لا يرفع بصره ، بينه وبين الرب سبعون نوراً ما منها من نور يدنو منه إلا احترق ] ( انقروى 5 / 381 ) .
 
( 1624 - 1625 ) : تصور الدنيا هنا بكربلاء حيث مصرع الحسين رضي اللّه عنه وآل بيت الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم على أساس أنها دار الكرب والبلاء فما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.
 
( 1628 - 1638 ) : يخرج مولانا جلال الدين عن محاولة إسرافيل اخذ حفنة تراب من الأرض ويتحدث عن أنهار الرحمة الجارية تحت العرش والواردة في سورة محمد مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ( آية 15 ) وقد ربط مولانا بين هذه الأنهار وبين أعمال المتقين ( أنظر الكتاب الثالث الأبيات 3462 - 3467 وشروحها )
 
وعن الجرعة التي انصبت من هذه الأنهار انظر فكرة تعد مثيلتها عن جرعة الحسن التي ألقيت على الأرض في شرح الأبيات 372 - 379 من الكتاب الذي بين أيدينا ، وعن تأثير هذه الفكرة في النزعة الإنسانية عند مولانا أنظر مقدمة الكتاب الرابع من المثنوى ص 14 حيث يدق على الفكرة القائلة أن الخليقة هنا جزء من كل جزء ملوث من كل طاهر وأن هذا الجزء نزاع إلى الكل مشتاق إليه ، وعن رحلة الماء من طهر إلى كدر ثم طهر مرة ثانية انظر الكتاب الذي بين أيدينا الأبيات 200 - 210 وشروحها ) .
 
( 1649 - 1659 ) : روى في حق عزرائيل عن كعب الأحبار قال : قال صلّى اللّه عليه وسلّم خلق الله عزرائيل عليه السلام بحيث كان رجلاه في تخوم الأرضين ورأسه في السماء العليا ووجهه يقابل اللوح المحفوظ وله أعوان بعدد من يموت ، والخلق كلهم بين عينيه ، لا يقبض روح مخلوق إلا بعد أن يتوفى رزقه وينقضى أجله ( أنقروى 5 / 385 ) والتراب صاحب الخيال والأوهام أي الذي يظن أنه بتضرعه هذا يستطيع أن يحول قدره وأن يرد قضاء الله
 
“ 502 “
 
عليه ، والإنسان لا يزال يلجأ إلى خياله وأوهامه ويحولها إلى آداب وفنون رغبة في الخلود ، والخلود لله سبحانه وتعالى وحده ، ويصور الأرض أيضاً بأنها عجوز ضعيفة لكنها ظالمة ، منها سوف يخلق الإنسان الضعيف الظلوم الجهول ، وعزرائيل عليه السلام يوصف بأنه مطاع ثم أمين على أساس أنه لا يستطيع أن يحيد عن رسالة حملها له الله سبحانه وتعالى وهو القابض للأرواح الحازم ، وعندما تقول الأرض : إن الله تعالى أمر أيضاً بالحلم ، فلماذا لا ينفذ الأمر بالحلم ؟ يرد عزرائيل بأن هذا الأمر تأويل وقياس ، والتأويل تفسير الآيات والأحكام بوفق إدراك المرء وفي سبيل منفعته ( انظر الكتاب الأول الأبيات 1085 - 1088 و 3756 وشروحها ) والقياس هو الاستدلال في حكم كلى وتعميمه على حكم جزئي ، وهذا كله في رأى لمولانا جلال الدين من قبيل الالتباس ، فأول نفسك ولا تؤول حكم الله أي كن مستعداً لقبول أحكام الله إياً كانت ، وأول فكرك أنت وإياك وتأويل غير المشتبه من الآيات ، وأنا مكلف بأداء أمانة ، والله أمر برد الأمانات إلى أهلها .
 
( 1660 - 1664 ) : هل يكون الموت ضرراً في كل الحالات ؟ بل هل يكون الموت ضرراً في أية حالة في حالاته ؟ حتى ذلك الذي يعاني الألم ألا يكون الموت راحة له في النهاية ، وأليس اليتيم الذي يصفعه الموت قد يفيق ويواجه الحياة خالية من تدليل الأب أو الأم فيكون أكثر فلاحا ونجاحا مما لو كان أبوه حيا يبسط ظل حنانه عليه ؟ ألا تكون صفعة الموت في النهاية أكثر حناناً من حلوى يقدمها مفسد أو مستغل ؟ ، يقول سنائى أن الموت ليس شراً في كل أحواله ، فمنه يكون لك المال والميراث أليس موت الشيخ قبل ولده الشاب المريض رحمة به ؟
 
( 1665 - 1669 ) : لا يزال الكلام على لسان عزرائيل لكن هذا الجزء يبدو من إفاضات مولانا جلال الدين الذي لا يزال يدق على أن هناك لطفا مخفياً في القهر كما يختفى العقيق في الحدث ، فإن هذا اللطف وإن اختفى في القهر فإنه لا يخلو من الحكمة الإلهية ، إذ لا يصدر عن الكريم إلا الكرم ولا يخلق ربنا شيئاً عبثا ، ووسعت رحمته كل شئ ، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ( عن تفصيلات لفكرة اللطف المخفى في القهر والقهر المخفى في اللطف انظر الكتاب الثالث الأبيات 3266 وشروحها والكتاب الذي بين أيدينا الأبيات 421 - 455 وشروحها ) أليس تسليم الروح يبدو لك قهراً ؟
 
إنه ليس قهراً في الحقيقة ، إنه انتقال إلى مرحلة أعظم وأجمل من العمر ، إن البقاء الحقيقي
 
“ 503 “
 
في الفناء ( انظر مقدمة الكتاب الثالث - وعن الموت كبوابة لحياة أفضل انظر الأبيات 3537 - 3555 وشروحها من الكتاب الثالث ) وإياك أيتها الأرض أن تعتبرى استدعاءه لك قهراً ، أنه عين اللطف :
مثل تلك اللطافة والحسن والجمال الذي يهب الروح ويصير عنه إنسان ، فما أعجبه من شقاء وما أعجبه من ضلال إنني بازى على ساعد السلطان ، وها أنا أعود إلى ساعد السلطان عندما أسمع صوت " ارجعي " من الطبول والمقارع فكيف لا تطير الروح عندما يأتيها من جناب ذي الجلال خطاب اللطف منادياً إياها أن تعالى ( كليات ديوان شمس تبريزى غزل سنة 1353 ، ص 525 )
 
( 1676 - 1682 ) : الأمر الذي أثار الغبار من قلب البحر إشارة إلى انشقاق البحر لبنى إسرائيل ، والأبيات الواردة على لسان عزرائيل في التوحيد والتمجيد والتسليم المطلق للخالق المتعال الذي هو أعز من الروح ( انظر البيت 3693 من الكتاب الذي بين أيدينا ) ، وهو الذي لا يأخذ بل يعطى أنه لا يأخذ الروح بل يهب في مقابلها آلاف الأرواح ( الكتاب الأول البيت 246 ، فهو يأخذ نصف حياة ويعطى بدلًا منه مائة حياة ، بل هو يعطى ما ليس يخطر لك ببال وانظر الأبيات 221 - 246 من نفس الكتاب الأول ) ، وإحراق الكليم من أجل برغوث مثل فارسي يضرب لمن يضحى بالغال في سبيل الرخيص ، وورد أيضاً عند سنائى ( البيت 7017 من حديقة الحقيقة ) وماذا يكون عزرائيل بكل ما يوحيه اسمه من خوف ورعب ؟ مجرد سنان في كف الخالق ، انظر كيف حول مولانا جلال الدين الأرض إلى كائن حي يبكى ويتضرع ثم ساق كل معانيه لتشمل الخليقة كلها والأحياء كلهم ؟
 
( 1683 - 1693 ) : وردت الترجمة العربية لقول أبى اليزيد البسطامي عند إسماعيل الأنقروى " إني أكلم الله منذ ثلاثين سنة وأسمع منه والناس يظنون أنى أكلمهم وأسمع منهم " ( 5 / 391 ) في حين قال استعلامى ( 5 / 297 ) أن هذا القول لم ينسب إليه في مصدر من مصادر التصوف ، أما المثل فلم أعثر له على أصل ، والمراد بالأبيات أن القدرة الإلهية تجعل كل مخلوق ميسراً لما خلق له قائماً به ، سواء كان كأساً يهب الانتشاء أو خنجراً يفضى إلى الهلاك أو عيناً تفيض بالماء ، أو ناراً تهب الدفىء وتنشر اللهب ، أو مطراً
 
“ 504 “
 
يؤدى إلى الخير ، أو رمحاً ينفذ في الأجساد ، وليس الأمر هنا بجبر أو أن فاعل الشر مجبر عليه ( انظر العدل قسام وجدير بالقسمة الكتاب الرابع الأبيات 1643 - 1644 وشروحها ) .
وما هذا كله إلا لأن قلب المؤمن وهو أصل الفكر وأصل العمل وأصل الاتجاه بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف يشاء ، ( حديث نبوي ) ، لقد حمل التراب في النهاية كما تحمل الطفل الهارب إلى المكتب ، بالطبع لكي يتعلم ولكي يدرك حكمة الخالق ، الذي لا يفعل شيئاً عبثاً تعالى عن ذلك علواً كبيرا .
 
( 1694 - 1709 ) : يقول الله تعالى لعزرائيل بعد أن نجح في مهمته : لقد قررت وهذا موجود في سابق علمي ، أو يقول بحق علمي المطلق لأجعلنك أنت قابضاً لأرواح الخلق وجلاداً لهم وأنه سبحانه وتعالى سوف يحميه من عداوتهم المفترضة بأن يجعل للموت أسباباً من أمراض وعداوات وإحن ( انظر الكتاب الرابع الأبيات 3102 - 3107 وشرحها )
 
لكن هؤلاء أمرهم سهل ، أولئك الذين يأخذون الأمور على ظواهرها ، لكن هناك أيضاً من عبادك يا الله من ينفذون من حجب الأسباب ( لمناقشة الأسباب والمسبب والاختلاف في النظرة بينهما انظر الكتاب الذي بين أيدينا 1543 - 1555 وشروحها )
 
ويحتج عزرائيل بأنهم لن ينظروا إلى هذه الأمراض : فلا موت هناك بالمرض بل الموت بالأجل ، وأن الله سبحانه وتعالى لم يخلق داءً إلا وخلق له دواء ، ولكل داء دواء يستطب به ( إلا الحماقة ) لكن القضاء والأجل عندما يحم ، فلا من بر ولا بحر يقى ، ولا دواء ينفع ولا علاج ، ينفذ البرد إلى الجسد من خلال مائة فراء ، ويصاب الجسد برعشة وإذا جاء القضا وإذا حم القضا فلا طبيب ، وإن الله إذا أراد إنفاذ أمر سلب كل ذي لب لبه " حديث نبوي " ( استعلامى 5 / 298 الكتاب الأول 1234 - 1241 )
 
هذا هو الأصل ، الأجل والقضاء ، والأمراض والعلل وعداوات الخصوم وما إلى ذلك كلها فروع ، ومن ينظر إلى الأصول هم الكاملون وهم قليل ، وهم الذين اكتحلوا بكحل التوحيد فصاروا ينظرون إلى الأمور كما هي .
 
( 1710 - 1727 ) : وهذا هو ما أقصده تماماً ، أولئك العلماء بالأصول والذين لا ينظرون إلى الأسباب لن يفكروا فيك ولن ينظروا إليك على أساس أنك القائم بالأمر ، إنك حجاب سواء عند العوام وعند الخواص ، أنت مخفى عن العوام ، وأنت عند الخواص مجرد دريئة وحجاب ، أنت مخفى عن العوام ظاهر في الموت ، وأنت عند الخواص مجرد حجاب على فعلى ، إذ أنى أنا الفعال وأنت الأداة ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ، وهؤلاء أصلًا
 
“ 505 “
 
لا يهتمون بما تقوم به أنت من عمل ، ولا يعتبرونه أمراً مكروهاً ، إذ يعلمون أنهم لا يموتون بل ينقلون من دار الفناء إلى دار البقاء ومن دار الفساد إلى دار الكون ، ومن اللذات الدنيوية الفانية إلى معدن اللذة ومنجم الجمال ومن النعيم الفاني إلى النعيم الباقي ، إنه ليس موتاً بالنسبة لهم بل هو عرس ، ( انظر الكتاب الثالث الأبيات 3529 - 3536 وشروحها )
إنه ليس سجناً في القبر بل هو إفراج من سجن الدنيا ، وأحرى بمن هم في سجن الدنيا أن يترقبوا الخلاص لا أن يضيقوا به ، تراك يا عزرائيل سوف تكون مكروهاً عند من يعلمون حقائق الأمور وأنت تنقب عليهم أبراج سجن الجسد لكي تنطلق أرواحهم تلك الطيور القدسية إلى سدرة المنتهى فتتخذ فيها أعشاشها ؟ إن السجين الذي يضيق بالحرية ويحب السجن هو الذي يكون خارجاً من السجن إلى المشنقة ( الجحيم ) لكن الكمل يعلمون أنهم يخرجون من السجن إلى الرياض والبساتين والقصور ، ألم تكن تحلم طوال وجودك في هذا السجن بالرياض والبساتين ؟ ! كان الليل يحررك أيها الفيل الحالم بالهند ،
( انظر الدنيا ممثلة بالنوم أو بحلم النائم في الكتاب الرابع ، الأبيات 3650 - 3664 وشروحها ومن حلم الفيل بالهند أي حلم الإنسان بالجنة والنوم أخ للموت ، انظر من نفس الكتاب الأبيات 3060 - 3071 وشروحها ) . إنه ليس موتا إنه عرس ، ألست وأنت تحلم بالرياض والبساتين طيلة نومك في السجن تتمنى على الله ألا يوقظك من النوم ، وأليس من رحمة الله تعالى أن يقبضك في نومك إن كنت من أهل الصلاح فتنتقل إلى هذا النعيم الأزلي دون أن تذوق طعم شربة الموت ، وكيف يمكن أن يسمى هذا موتا ، إنه عرس ، ولا يمكن أن يكون سوى عرس ، وفي ديوان شمس ( موتنا هو عرس الأبد ) ، ( غزلية 833 ، ص 338 ) .
 
( 1728 - 1742 ) : هذا هو الطريق الأسمى ، فكن دائما من أجله في قيام ، قم قيام الشمع أمام المحراب في هذا الليل المظلم ليل الدنيا وليل الفتنة ، وليكن دليلك في هذا هو الطلب فمن قرع بابا ولج ولج ( انظر من أجل تفصيلات عن الطلب الكتاب الثالث ، الأبيات 1440 - 1450 ، وعن الدمع وقيمة الدمع ، انظر الكتاب الذي بين أيدينا ، الأبيات 1599 - 1605 ) ، فليكن نظرك إلى السماء ، أليس أصل العطايا يأتي من السماء إلى الأرض ؟ فبما بالك تحزن إن حملت من الأرض إلى السماء ، وإياك أن تستكثر هذا على نفسك ، ألم تقم بالطلب في نهاية الأمر ؟ ! أليس كل طالب مجد يصل في النهاية إلى مطلوبه ، دوام على الطلب ، حتى يخرج قلبك ذلك السجين من جب الجسد ، ودعك من هؤلاء الذين سوف يبكون
 
“ 506 “
 
ويتحسرون على موتك ، إذا كان جسدك قد طوى في التراب فان الجنان الثمانية قد فتحت من أجلك ( المعنى من حديقة سنائى ، انظر الأبيات : 265 - 280 وشروحها من الترجمة العربية لحديقة الحقيقة لكاتب هذه السطور ) لقد استراحت الروح من اوضار الجسد ولم يعد يهمها إن كان ثاويا في روضة أو في مستودع قمامة ، ما دامت الروح موجودة في العالم السماوي تصيح :يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي ، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ( يس / 26 - 27 )
 
( انظر أيضاً الكتاب الثالث البيت 2018 ) إن السماء والعالم العلوي والأفلاك كلها مهيأة من أجل حياة الروح الخالدة ، وماذا تعنى إذنوَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ( الذاريات / 22 ) ، هذا هو الرزق المعنوي ، راحة الروح وسرور العقل ، والحكمة التي لا تكسد والبصيرة التي لا تكل .
 
( 1743 - 1748 ) : العبارة المنقولة في العنوان : " الجوع طعام الله يحيى به أبدان الصديقين " ، اعتبرها فروزانفر حديثا نبويا ، ونقلا عن شرح التعرف على مذهب أهل التصوف لإبراهيم بن المستملى البخاري " أحاديث مثنوى ، ص 148 " ، وهناك حديث آخر " صوموا يوما وأفطروا يوما فإني لست كأحدكم إني أبيت عند ربى يطعمني ويسقيني " ( أحاديث مثنوى / 36 ) ، ( انظر الكتاب الأول البيت 3754 )
 
( وعن الجوع انظر البيت 3036 من الكتاب الثالث ) و " يرزقون فرحين " ، جزء من الآية الكريمة وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ( آل عمران / 169 - 170 ) ، والدسم والقوت الشريف هو الغذاء الروحاني عند رجال الحق ، إنه لا يصيب بالامتلاء أو القولنج أو آلام الجسد ، بل تزيد به صحة ، وتمضى كلما ازددت " أكلا " ، منه خفيفا حاذا ( انظر 1697 من هذا الكتاب ) وضرب المثل بجوع طائر الزاغ لأنه يطلب العمر الطويل ويحرض على الدنيا ( انظر البيت 45 من هذا الكتاب ) ، أما غذاء الحكمة فيجعلك كالسفينة طافيا على هذا البحر الطامى العباب ( الدنيا ) .
 
( 1749 - 1759 ) : ما هو السبيل للحصول على هذا القوت المعنوي ، إنه الصوم والانتظار ، اصبر واصمت وتحير وداوم على الطلب بقلبك لا بلسانك تنزل عليك مائدة الرحمة الإلهية ، إن شبع العين هو شبع القلب غير متعجل للعطاء غير ملول في انتظاره ، ترفع عقيرتك في طلب القوت كل لحظة ، فالشبع لا يتعجل الطعام ، صورة معاشة ، والشبع هو شبع النفس وليس شبع البطن فإنه لا يشبعها إلا التراب ، كن رجلا صاحب همة ، ولا
 
“ 507 “
 
تكن شحاذا ملحاحاً سمجاً ، فإن هذه الدولة التي يبلغ عطاؤها سبعين ضعف عطاء هذه الدولة " الموجودة على الأرض " ، والتي ينتظر الشحاذون عطاءها ، أما الأغنياء ( بالله ) فهم الذين ينتظرون العطاء من الله لا من سواه وينتظرون المائدة العلوية ، فانتظار المائدة العلوية نوع من العبادة وليس محنة كانتظار العطاء من طواغيت الأرض ( عن هذا الانتظار ، انظر الكتاب الرابع ، الأبيات 1222 - 1225 )
وفي النهاية فإن كل من ينتظر نوالا من أرباب الدنيا قد يناله وقد لا يناله ، لكن منتظر عطاء الحق لابد وأن يناله ، المهم أن يكون صاحب همة ، وأن يكون العطاء الذي يطلبه بقدر قيمة المعطى ، فالضيف الذي ينصرف إلى شرب الحساء على المائدة يدل على ضعف همته ، فينصرف المضيف عنه لكنه إذا قلل من شرب الحساء فان المضيف سوف يأتي بالطعام الدسم ، لا تقل إنك جربت هذا ولم يحدث ، فمن قال لك أننا نتحدث عن هؤلاء الأخساء البخلاء ، إننا نتحدث عن الرزاق الكريم الذي لو أعطى كل امرئ ما يطلبه ما أنقص هذا من خزانته مثال ذرة ، فاطلب بشموخ وكبرياء فإنما تطلب من العزيز العلى ، وحتى تسطع عليك شمس كرمة كما تسطع على قمم الجبال عن طلوعها .
 
( 1760 - 1771 ) : ما ورد هنا يشبه ما ورد في الكتاب الثالث ( الأبيات 3962 - 3985 ) منسوباً إلى جالينوس وإن كان مولانا يستعبد أن يكون جالينوس متعلقاً بالدنيا كل هذا التعلق برغم حكمته ، ونظرة مولانا إلى الموت مثل نظرة كل الصوفية ، انه بوابة إلى حياة أعظم وعرس وبداية مرحلة من الكمال الإنسانى تتبع مراحل وتتلوها مراحل أخرى ، وهذه النظرة بالطبع تختلف عن نظرة الكثيرين من شعراء الفرس ومنهم الفردوسي الذي قال :

كانت الدنيا ستصبح جنة بأريجها وألوانها * لو لم يكن فيها الموت والشيخوخة ( عن استعلامى 5 / 301 ) أو الخيام الذي أقام مناحة في رباعياته من جراء فناء ابن آدم بعد هذه الحياة الدنيا ، وقد يكون أحدهم المذكور في البيت 176 هو جالينوس ، أما الآخر المذكور في البيت 1761 الذي يرى قيمة الدنيا في أنها صائرة إلى الموت لأنه بلوغ الغاية ونيل الوصال فيشير السبزواري ( ص 371 ) أنه الإمام على رضي اللّه عنه الذي قال 
جزى الله عنا الموت خيرا فإنه * أبر بنا من والدينا وأرأفو 
يكون الأمر كما لو أن الخليقة عبارة عن بيدر من القمح بسط في واد فلا هو ذرى ، ولا

“ 508 “
 
استخرج القمح منه ، ولا صنع منه الخبز ، فالموت هو الذي يصفى الحياة مرحلة بعد مرحلة ويجددها ، ولو لم يوجد لجأر الناس بالصراخ مطالبين به ( انظر لتفصيل هذه الفكرة ، الكتاب الرابع ، الأبيات 3001 - 3008 وشروحها ) ، وذلك الذي يكره الموت لم ير ميتا حتى يسأله ، وآنذاك سوق يكتشف أن الموتى لم يعانوا قط حسرة الموت بل كانت حسرتهم كلها من أجل الفوت ، أي فوت فرصة العمل الصالح . كما قال الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم : [ ليس للماضين هم الموت إنما لهم حسرة الفوت ] ( انقروى 5 / 405 ) .
 
يتمنون لو يعودوا ليعملوا صالحا ، كلا ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ، إن الذي يقف عند ظاهر الحياة الدنيا ، يلعب النرد لعبة مقلوبة ، ويفهم الأمور على عكسها ، ويلقى ببذوره في الأرض البور ، ويترك أرض الله الواسعة ( عن أرض الله الواسعة ، انظر الكتاب الرابع ، الأبيات 2380 - 2383 وشروحها ) إنه عقلك الكاذب الذي يبعدك عن عقلك الإيمانى ويبدي لك الأمور مقلوبة إلى هذا الحد ، وإلا فأية نسبة بين البئر ( الدنيا ) والخلاء ( الآخرة ) ذات المتعة واللذة والسعة ، وأية نسبة بين إيوان الباطل ومَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍأية نسبة بين خمر الدنيا التي تخمر من المخيض ، وبين خمر الخواص اللذة للشاربين ، وهكذا ، إن لم تكن قد عشقت حياة تحسد عليها ، فمت موتا كموت الرجال تحسد عليه ، وانتهز ما يتبقى من العمر ، وهكذا يكون موت الرجال بديلا مطروحا لحياة الذل والمسكنة .
 
( 1772 - 1786 ) : العنوان :وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ( الشورى / 28 ) . والعبارة " رب بعد يورث قربا ورب معصية ميمونة ورب سعادة تأتى من حيث يرجى النقم " ، ليست حديثا كما ينص مولانا في البيت الأول بل هي من أقوال الأولياء ، ويضرب إسماعيل الانقروى مثالا على المعصية الميمونة بهم عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قبل إسلامه بالاعتداء على الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وكان في ذلك إسلامه ، والسعادة تأتى من حيث يرجى النقم هي اللطف في ثوب القهر وقد مر ، والآية فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ( الفرقان : 70 ) .
ويرى استعلامى أن هناك رواية مشابهة في حلية الأولياء لأبى نعيم الاصفهاني ( لم يحدد في أي جزء ) ( استعلامى 5 / 302 ) وكما أن " الناس نيام إذا ماتوا انتهبوا " ، وكما أن " النوم أخ الموت ، . وأهل الجنة لا ينامون ولا يموتون ( كنوز الحقائق ) ،
والحديث النبوي : [ إنكم لتموتون كما تنامون وتبعثون كما تستيقظون ] " أحاديث مثنوى / 164 ) . وكما أن النوم هو " الموت الأصغر " ، فالصبح أيضاً هو الحشر الأصغر
 
“ 509 “
 
والبيت 1738 ناظر إلى الحديث الشريف " يبعث كل عبد على ما مات عليه " ، والحديث النبوي " إنكم تموتون كما تعيشون وتحشرون كما تموتون " ( انقروى 5 / 409 ) .
 
( 1787 - 1794 ) : هكذا فان منامنا وصحونا شاهدان على موتنا وحشرنا ، وإن كان الأمر هنا لا يعدو مجرد مجاز و " خيال " ، فليس النوم هو الموت وليست اليقظة هي الحشر ، وإنما هو مجرد تشبيه والأمور لا تكون حقيقة أو عيانا إلا " هناك " ، حيث تتحول الأمور كلها إلى عيان شديد الوضوح ، لكن الأصل هنا ، أصل ما يبدو هناك موجود هنا ، تماما مثلما تكون صورة الدار موجودة في خيال المهندس وفي " قلبه " ، كما توجد البذرة في الأرض ، ثم ينفذ المهندس تلك الصورة الموجودة في خياله ، كما تجعل الأرض البذرة تنمو ، وهكذا كل " خيال " ، يتوطن في القلب ، وكل " فكرة " ، تعن له سوف تتصور يوم الحشر ، أو كما قال الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم : [ يبعث الناس على نياتهم ] ( انقروى 5 / 411 ) .
 
( 1795 - 1801 ) : إن هدفى من هذا الحديث هو أن أقدم درسا يستفيد منه المؤمنون :
فعند ما تشرق شمس الحشر ، يهرع الموتى من أجداثهم مصداقا للآية الكريمةوَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ( يس / 51 ) ويَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ( المعارج / 43 ) ، إنهم يمضون إلى الحساب والميزان ، هذا هو ديوان القضاء الأكبر ، يمضون كما يمضى الذهب النضار والذهب الزائف ، كلاهما إلى بوتقة الصائغ وكير الحداد ( عن المحك للتمييز بين الصحيح والزائف انظر الكتاب الرابع الأبيات 1676 - 1789 وشروحها ) . وها هي أنواع الامتحانات تتوالى عليك ( انظر عن الامتحان الكتاب الثالث ، الأبيات 743 - 746 وشروحها ) . 
فتظهر أعمالك مثلما يظهر أفي القنديل ماءٌ أو زيت ، هل أنت من الذين ( يسعى نورهم بين أيديهم ) ( الحديث / 62 ) ، أو من ذوى الوجوه التيعَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ( عبس / 40 ، 41 ) ، وما في داخلك سوف يظهر كالنبات الذي تدفن بذرته في الشتاء ، فيأتي الربيع ويجعل منه نباتا سامقاً .
 
( 1802 - 1805 ) : وانظر إلى الناس ، وانظر الفرق بين الشقي والسعيد فأولئك الذين هم من المتقين يكونونفِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَواما الفجار الفاسقون المجرمون فيكونون مصداقا للآية الكريمة :وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ( السجدة / 12 ) . وزاغَتِ الْأَبْصارُ( الأحزاب / 10 ) ، ومُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ( إبراهيم / 43 ) إن الكتب
 
“ 510 “
 
سوف تأتى ، سوف تسقط عليك في يمينك أو في يسارك دون أن تدرى ، ولن يستطيع أحد أن يغير ، فلا حول ولا طول ، والخشية كل الخشية أن يأتي الكتاب في اليسارفَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً وَيَصْلى سَعِيراً( الانشقاق / 7 - 12 ).
 
( 1806 - 1820 ) : ويفاجأ الكافر الزنديق في يده بكتاب أسود يجمع كل جرائمه وفسقه ، فلا حسنة واحدة ، ولا عمل صالح واحد ، ليس فيه إلا ما يؤذى قلب كل مؤمن ، كله سخرية من أهل الطريق وتطاول عليهم ، كله كبرياء وفرعونية وأنية مفرطة ونرجسية فجة ، كله سرقة واحتيال ومكر ، وظلم للخلق ، يكون في طريقه إلى المشقة وإلى الجحيم ، ظاهر الجرم ضائع الحجة مختوم على فمهالْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ( يس / 65 ) ، وماذا يستطيع أن يقول ، لقد ذهبت تلك السطوة التي كان يتوقح بها في الدنيا ويعتمد عليها ، ربما سطوة لصوص أكبر منه يحمونه ، ها هو يمضى وملائكة العذاب من حوله كالعسس يضربون رأسه ودبره ،ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ( الدخان / 49 ) ، إنه يتلفت ، يستغيث ، ثمة أمل عنده في العفو لكنه أمل محال ، أمل واه ، فهو أدرى بنفسه ، تلك النفس الفرعونية التي ووجه بها لأول مرة عارية لا يسترها حتى ثوب الرياء .
 
( 1821 - 1834 ) : ويأتيه الخطاب الإلهىكَلَّا لا وَزَرَ( القيامة / 11 ) ، هذا يوم العدل الإلهى ، ماذا تنتظر ، ولماذا تتلكأ ، وأي أمل لك وأنت أدرى الناس بعملك ، إنك لم تنو نية خير واحدة ، إنك لم تر سوى فعلك وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ( فصلت / 46 ) ،
و " إني حرمت الظلم على نفسي " ، فلا أنت نويت خيرا ولا فعلت خيرا ، ولا اتعظت ، وعملك هو نفسك وهي معوجة فلابد أن يكون ظلها معوجا ، والجزاء من جنس العمل ، فكيف تتوقع أن يكون الكتاب في يمينك وسعيك كله في فعل أهل الشمال ؟ ! ولقد فعلت كل هذا وكان باب التوبة مفتوحا أمامك ، لكنك لم تتب ( عن باب التوبة ، انظر الكتاب الرابع ، الأبيات 2503 - 2508 وشروحها ) .
 
( 1835 - 1844 ) : فيجأر العبد بالضراعة إلى الله سبحانه وتعالى " نعم عندي أمل يا الله ، فأنا أعلم أنني فعلت كل ما نسب إلى وهناك الكثير أيضاً مما ستره حلمك على ، لكني أيها الإله ، هناك شئ ما خارج عن جهادي وخارج عن فعلى ، عن جرائمى وفضائحى ، عن ضراعتى ، وعن عجزي وقلة حيلتي ، عن ضراعة مائة من أمثالي ، هو رجائي في
 
“ 511 “
 
محض عفوك ومحض لطفك ، وكلاهما لا علاقة له بعتوى وظلمي ، إنه هو العطاء المحض ، هذا كان أملى ، كان التفاتى كله إليه ، كان رجائي كله فيه ، هذا العطاء المحض الذي منحنى الوجود منذ الأزل ( انظر لحفظ الله للنطف في الأصلاب ، ولطفه العميم ، الكتاب الثالث ، الأبيات 331 - 337 وشروحها ) ، لقد أعطيتني خلعة الوجود وخلقتني وهديتني السبل ، كان ديدنك معي - يا الله - هو العطاء ، لم تمنع عنى عطاءك ، وأنا غارق في الذنب ، فكنت يا الله دائم الأمل في هذا العطاء .
 
( 1845 - 1851 ) : هذه الضراعة ، والاستغاثة ، والدموع هي التي تجعل بحر الرحمة يجيش ، ( انظر شروح البيت 1569 من الكتاب الذي بين أيدينا ) ، فيأمر الله سبحانه وتعالى الملائكة قائلا : ردوه إلى ، لقد كان آملا فينا ، طامعا في وجهنا ، كان الرجاء فينا راسخاً في سويداء قلبه ، إن هذا الرجاء جدير بالعفو ، فلا نفع لنا من صلاحه ولا ضرر علينا من سوئه ، ولنضرم النار في كتاب أعماله فلا زلة ولا خطأ ولا سوء ، ويعلق الأنقروى راويا حديث عن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم : [ من أذنب ذنبا فعلم أن له ربا إن شاء أن يغفر له غفر له وإن شاء أن يعذبه عذبه ، كان حقا على الله أن يغفر له ] ( جامع 2 / 162 - 5 / 418 ) .
 
وترتفع البشرى الإلهية ، لقد آن لنا أن نبدل سيئاته حسنات ، هذه هي كيمياء التبديل ( انظر لكيمياء الفضل الكتاب الرابع البيت 592 - 594 ، و 1684 وكيمياء التبديل الكتاب الرابع 3508 ) ، وهي لا دخل لها بجبر واختيار ، هي محض لطف ، ( عن الجبر والاختيار ، انظر الكتاب الثالث ، الأبيات 1363 - 1376 وشروحها ، وانظر مقدمة الكتاب الذي بين أيدينا ) هذه الكيمياء مضمنة في الآية الكريمةيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ( الأحزاب / 70 - 71 ) .
 
قال نجم الدين : يشير إلى أن الإيمان لا يكمل إلا بالتقوى وهو التوحيد عقدا وحفظ الحدود جهدا ، ولا يحصل سداد أعمال التقوى إلا بالقول السديد وهي كلمة لا إله إلا الله ، فبالمداومة على قول هذه الكلمة بشرائطها يصلح لكم أعمالك أي أعمال التقوى ويظهر سداد أقوالكم وسداد أعمالكم وبسداد الأقوال والأعمال يصلح سداد الأحوال ويغفر لكم ذنوبكم " . ( مولوى 5 / 270 ) .
 
( 1852 - 1856 ) : إن هذه الأنوار الإلهية الأزلية الأدبية لا تزيدها تقوى تقى ، ولا تنقص منها معصية شقى ، وماذا يكون الإنسان حتى يعامله الله سبحانه وتعالى بعمله ؟ ! هو لسان واللسان قطعة من اللحم وعين وهي قطعة من الشحم وأذن وهي قطعة من
 
“ 512 “
 
العظام ، وقلب وهو قطرتان من دم ، هذا هو الإنسان خلقة الله ضعيفا ، وهو يعلم أو لا ضعفه ، يعلم أنه مجرد دودة ، بالنسبة للقدرة الإلهية . في قول منسوب إلى الإمام على رضي اللّه عنه :
اعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم ويتكلم بلحم ويسمع بعظم ويتنفس من خرم " ( سرني أول 245 ، وأحاديث مثنوى 63 ) وإلا فإنه بالنسبة للمخلوقات سيدها وخليفة الله فيها ( انظر مقدمة الترجمة العربية للكتاب الرابع ) " ما لابن آدم والفخر ، أوله نطفة قذرة وآخره جيفة قذرة وهو فيما بينهما يحمل العذرة " . ليته يتذكر أصله بين الآن والآخر ، كما كان " إياز " ، يتذكر رداه الجلدي وحذاءه الريفي ، أي لباسه أيام كان راعيا فقيرا .
 
( 1857 ) : الحكاية التي تبدأ بهذا البيت ، بطلبها إياز أو يماق مملوك السلطان محمود الغزنوي ( 360 - 421 ه ، 970 - 1030 م ) وتعنى إياز بالتركية المضئ والمنير والمشرق واللامع ( جلبنارلى 317 / 5 ) ولب الحكاية يرجع إلى الروايات الشعبية السائدة في بلاد المشرق عموما عن ذلك الذي لا تسكره السلطة عندما يصل إليها وبخاصة إذا كان من أصل وضيع ، ويرجع فروزانفر
( مآخذ / 173 - 174 ) الحكاية إلى ما ورد في أسرار التوحيد في مقامات الشيخ أبي سعيد عن نساج وصل إلى الوزارة فأقام نولا إلى جوار دست الحكم كان ينسج عليه بين الآن والآخر حتى لا ينسى أصله ، وإلى ما ورد عن أبي نعيم الأصفهاني في الحلية عن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز ( 99 - 101 م / 717 - 720 م ) ، حيث كان يقيم مبتعدا في حجرة متواضعة وفي عنقه جنزير
( كالعبد ) من أول الليل حتى طلوع النهار ، وكان أول من نظم الحكاية هو فريد الدين العطار في منظومة " مصيبت نامه " ، وقد أشار مولانا إلى إياز عدة إشارات في الأجزاء السابقة من المثنوى ( منها على سبيل المثال البيت 1052 الكتاب الثاني ، وأشار إشارة مجملة إلى علاقة إياز بردائه الجلدي الريفي الكتاب الرابع 887 ) ويروى المولوي ( 5 / 371 ) ،
 
و ( انقروى 5 / 433 ) ، كان قرويا فقيرا فخرج السلطان محمود يوما إلى الصيد فمرق صيده من أمامه فتبعه ، وبعد عن عسكره فأتى خيمة تركمانى وطلب منها ماء ولم يكن سوى إياز موجودا في الخيمة ، وعلم بالفراسة أنه السلطان ، فأعد له مجلسا ونادمة فسر منه السلطان ، وكان اياز قد قال له إن أباه ذهب ليحضر ماء ، لكنه بعد فترة أخرج له ماء من الخيمة ، وفسر ذلك بأنه لم يقدم للسلطان الماء وهو عرقان ومجهد فشغله بالحديث حتى استراح ، جسده فعجب السلطان من ذكاه إياز رغم صغر سنه ، وضمه إلى مماليكه ، والحكاية رويت عن أكثر من سلطان وغلام أو جارية . المهم في هذا المجال أن
 
“ 513 “
روايات كثيرة رويت عن إياز ومحموداً أشهرها تلك التي رواها نظامى العروض السمرقندي في كتاب المقالات الأربع عن مجلس للشراب كان إياز حاضرا فيه وأن الخمر لعبت برأس السلطان محمود فاشتهى " إياز " ، ثم طلب أن تقص طرة اياز التي ألقت به في هذه الشهوة ، وطلب من العنصري شاعره أن يقول شعرا في ذلك ، وواضح أن الحكاية واضحة الافتعال .
( جهار مقاله ، لنظامى عروضى السمرقندي ، طبعة مصورة أوفست ، عن طبعة ليدن ، ص 34 - 36 ، وانظر الترجمة العربية ليحيى الخشاب ، وعبد الوهاب عزام ) .
 
لكن تلك العلاقة الحميمة بين إياز ومحمود أوحت فيما بعد إلى الصوفية بجعل اياز رمزا للمحب والعاشق للسلطان ( الإنسان العاشق للحقيقة والمريد العاشق لشيخه أو كمثال لجلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي ) ، وفي عصور الانحطاط نظمت منظومات كاملة حول هذا الموضوع مليئة بالإحالات ، ومن الواضح أن القصة هنا هي " قصة " هذا الكتاب من قصص " العشق " ، ( في مقابل قصة وكيل صدر بخارى في الكتاب الثالث والنديم الذي حكم عليه الملك بالإعدام ثم توسط شفيع له ، وغضب النديم على الشفيع في الكتاب الرابع ) ، ومن الواضح أن كل أبطال هذه القصص من الرجال ( العشاق والمعشوقين ) ، وهو ما قد يثير بعض الشبهات عند أصحاب الثقافة الغربية الذين يعتبرون هذا الأمر نوعا من الشذوذ ، في حين أن التوحد الجنسي هنا يخرج أي دور للجسد في علاقة المحبة القائمة بين أبطالها .
 
( 1859 ) : إن من أخص الأمور التي تجعل الإنسان يحس بشئ من التوازن هو أن يذكر وهاد حياته عندما يرتفع فلا تبطره النعمة ، ولا يطغيه الاستغناء ، والإنسان وهو سيد الخليقة إذا ذكر في النهاية انه مجرد حمأ مسنون ، وأنه الضئيل الحقير بها نهاية في مقابل العظيم بلا نهاية ، فإن ذلك سوف يخفف من غلوائه ( انظر الأبيات 881 - 883 من الكتاب الرابع وشروحها ) .
 
( 1866 ) : من إفاضات مولانا جلال الدين خارج إطار الحكاية وخارج تيارها : منتهى عطية السلطان ( الله ) للمرء ( اياز ) هو العشق وما فوقه مطمع ولا مطمح ، فأي اهتمام يبديه العبد هو دون هذا العشق وهو نقص للوفاء وكفران بالنعمة ( لنقض الوفاء انظر الكتاب الثالث الأبيات 286 - 297 وشروحها ) .
 
( 1873 - 1877 ) : كيف يكون الملك ملكا ثم يصدق وشاية الأمراء ؟ ! لا لم يكن يصدقها كان يعلم أن الأمراء من المنافقين ، وكان يريد أن يفضح نفاقهم على أيديهمإِنَّ الْمُنافِقِينَ
 
“ 514 “
 
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ( النساء / 142 ) ، لكنه يخشى شيئاً واحد ، يخشى أن يتألم إياز من هذا الظن السىء ، وماذا إن كان قد فعل ، أي ذهب وأية جواهر يضن بها المحبوب على محبه . . . هو محبوبنا ( وكل ما فعله المحبوب محبوب ) ، ( انقروى 5 / 424 ) . وكل ما فعله المحبوب فقد فعله المحب ، ( فأنا يده التي يبطش بها وقدمه التي يسعى بها ) ، فالحجاب بين العاشق والمعشوق صوري لا يمنع الاتحاد حقيقة ، كأنه يقول : ولو كنا في الصورة متغايرين ولكن باعتبار الحقيقة لا امتياز ولا مغايرة .
 
( 1879 - 1887 ) : لكن كيف يخون ؟ ! إن هذا محال ، وها هو الوجد يأخذ بتلابيب مولانا ، فيزداد إيقاع الأبيات بيت بعد بيت ، ويأخذه بوح العشق ، إن الأمر هنا خرج عن إطار محمود وعن إطار اياز وعن كل إطار بشرى ، فأي إياز هذا الذي تكون البحار السبعة قطرة واحدة منه ، والذي يكون أصلا لكل أنواع الطهر ، أي إياز هذا الذي يكون الوجود كله رشحة من موجه ، نحن في هذه الحكاية من حكايات العشق أمام معشوق عاشق ، وعاشق معشوق وكلاهما المعشوق والعاشق يحمل تجاه الطرف الآخر الشعورين معاً ( أليس الأمر في الحقيقة هو هذا ؟ ) إن هذا الكامل المقرب إلينا ليحسده كل المقربين ، فهو منا بمنزلة العين والمصباح ، فإياز هنا هو الإنسان الكامل والمتصل الفاني في ملك محمود ، أما المراد بالبحار السبعة فهي اللطائف الإنسانية السبعة والبطون السبعة للآيات ومدن العشق السبعة والكنوز السبعة والأعضاء السبعة في بدن الإنسان والأنوار السبعة والمرايا السبعة والأيام السبعة ( سبزوارى 374 ) ،
 
 إن عظمة الإنسان عندما يكون مقرباً تبدو بلا حد ، ومن الذي يمكن أن يصف هذا الذي لا تحتويه الأفلاك ، من الذي يستطيع أن يصف ذلك المخلوق من تراب الذي سما عن التراب وصار إليهما وبز الملائكة ، ولم يعد جسداً ، دعني إذن أصرخ ما دمت لا أستطيع القول " آفة الحال إدراك المقال " ،
 
( إنني حائر بين الحديث والبكاء ، أأبكى أو أتحدث رباه ماذا أفعل ؟ فإن تحدثت فاتنى البكاء ، وإن بكيت فكيف أفصح عن الشكر والثناء ، 4712 - 4713 من الكتاب الثالث ) وليت الوجود كان ذا لسان ، حتى يرفع الحجب عن الموجودات ، وكل ما تقوله يا نفس الوجود عن الوجود إعلم أنك قد وضعت عليه حجاباً آخر ، إن آفة الإدراك هو ذلك المقال والحال ، وغسل الدم بالدم محال محال ( 4728 - 4730 من الكتاب الثالث ) ،
 
لكن لابد من الإفصاح ، أصرخ ، أرقص ، فإن القلب لا يحتمل كل ما فيه وهو رقيق كالزجاجة ، مزق الثياب وجداً بدلًا من أن يتمزق القلب الرقيق الضعيف الذي فاض بما فيه من العشق .
 
“ 515 “
 
( 1888 - 1890 ) : اختلف المفسرون حول هذه الأبيات الثلاثة فقد فسر الأنقروى والمولوي ( انقروى 5 / 427 - مولوى 5 / 275 ) بأنه جنون روحاني وزيادة في الوجد ، حالة كانت تنتاب مولانا بمجرد ظهور الهلال فكان يندفع في الرقص ، وقد ورد المعنى أيضاً في ديوان شمس تبريز : ثانية جاء أول الشهر ، وهذا هي نوبة الجنون ( عن استعلامى 5 / 307 ) ويرى عبد الباقي ( 319 / 5 ) أنه كان من المعتقدات الشعبية أن يجن الرجال في أول كل شهر ثلاثة أيام ( في مقابل العادة الشهرية عن النساء ) ويرى جعفري ( 11 / 567 - 569 )
 
 أن ظهور الهلال كان يثير في مولانا الوجد لأنه يذكره بسطوع الأنوار الإلهية ، ( كان أولى تمام البدر ) ، ويؤيد ما ذهب إليه عبد الباقي لكنه لا يراه معتقداً شعبياً بل يراه نظرية قال بها علماء النفس الغربيون ، على كل حال يمكن أن يكون عبد الباقي أقرب إلى المعتقدات الشعبية التركية التي كانت سائدة في بيئة الأناضول في عصر مولانا ، ويفسر ملا هادي السبزواري الأمر تفسيراً فلسفيا ، فيرى أن الأيام الثلاثة مجاز يعنى فترة العمر لأن الزمان كله اعتباراً هو أيام ثلاثة :
أمس واليوم وغداً وهو تجلى للماضى والحاضر والمستقبل ، ففي كل آن تجل جديد وطلوع نور على الإنسان الذي هو خليفة الله كما أن القمر خليفة الشمس ( ص 374 - 375 ) أما معنى هذا يوم السعادة لا يوم الفيروز ، فذلك الغارق في السعادة الروحية والفضل الإلهى لا يعنيه أن ينظر إلى خاتمة الفيروزى عند رؤية الهلال حتى يكون الشهر كله رزقاً وبركة وسعادة ( استعلامى 5 / 307 ) ، لكن أي أول شهر ، ترى هل يكون الوجد والعشق والفناء موقوتاً بوقت أن الشهر كله بالنسبة لي بمثابة أول الشهر ، فأنا دائم في وجده غارق في عشقه مجنون به .
 
( 1891 - 1895 ) : من الأوفق أن يكون البيت 1891 بعد العنوان التالي ، إن أية حكاية من حكايات العشق تجرنى نحو ذلك الجنون ، نحو ذلك العشق الذي يكوينى بناره ولا أجد له دفعاً ، فاركض ، وأحن ، مثلما يحن الفيل إلى موطنه ( انظر لتفصيلات هذه الفكرة الكتاب الرابع 3068 - 3071 وشروحها ) ، والشطرة الثانية في البيت 1892 تعنى أنه لجنونه هذا قد صار فاقدا لكل مسئوليته ( انظر 517 - 523 من الكتاب الثالث عن خراب القرية وتخريبها للعقول والقلوب ) ، وعن البقاء في الفناء انظر مقدمة الترجمة العربية للكتاب الثالث ومن الملاحظ أن مولانا عندما يفيض به الوجد ينظم شعراً بالعربية ( انظر الكتاب الثالث هيا تحدث بالفارسية وإن كانت العربية أحلى ، وللعشق في حد ذاته مائة لغة أخرى البيت 3844 ) .
 
“ 516 “
 
( 1896 - 1906 ) : يستمر مولانا خارج إيقاع لحن " إياز " كما عبر ، والواقع أنه ما طرح هذا اللحن إلا لكي يغوص في وجده ، فكل عشق بين رجال الحق " أو من يرمزون إلى رجال الحق بالطبع " إنما يحرك عنده عرق التجانس ومحبته لرجال الحق " شمس الدين أو حسام الدين " ، فهكذا ، إنني عاجز عن إكمال هذه الحكاية ، ألا فلتطلع على أحوالي وتتحدث عنها أنت ، كأنه يحدث حسن حسام الدين ، إجذبه - أي المثنوى - فينجذب إليك ، أقرأني وردد ، فأنا جبل الطور ، وأنت موسى الوقت ، وهذا - أي المثنوى - هو الصدى ( عن الجبال ونزوع رجال الحق إلى الخلوة في الجبال انظر الكتاب الثالث 1350 - 1355 وشروحها ) ،
 
وهذا الجبل لا يعرف شيئاً إنه يردد كل ما يقوله موسى ، إنه جسد ، ومع ذلك فالجسد يستمد قليلًا من لطف الروح ، وهكذا صرف أسطورة ، لأننى ذبت في رجال الله ( انظر 1147 من الكتاب الثالث وانظر أيضاً الأبيات العشرة الأولى من الكتاب الرابع ) إن رجال الحق يفيضون على التراب وعلى الجماد من أنوارهم ، فما بالك بأولئك الذين يلازمونهم ويأخذون عنهم ، ولماذا لا تكون الروح في حاجة إلى جسد ، إن ذلك المنجم كليل البصر ، ولا يستطيع أن يكتشف الكواكب وأن ينظر إلى الشمس إلا بمعونة الأصطرلاب ، وهكذا روح السالك هي المنجم والجسد كالاصطرلب ، لكن إياك أن تعتمد على هذا الأصطرلاب ، إن الرؤى التي يكشفها قاصرة جداً ، فكيف يحيط هذا الأصطرلاب المحدود بهذا الكون؟ كفاك ادعاء وفيهقة.
 
( 1907 - 1917 ) : هيا ابحث عن كحل العارفين " المعرفة ، الفيض وذلك الدواء الذي يجعلك تنظر إلى الأمور كما ينبغي وهذا يجعل عينك تصير في سعة البحر ، بعد أن كانت مجرد جدول ( وانظر أيضا عن كحل العارفين الأبيات 3372 - 3375 من الكتاب الرابع وشروحها ) ، ما هذا الذي أقوله إنني لا جدال قد فقدت الوعي ، ترى لماذا ينكر جلال الدين هنا ما يقوله ؟ أتراه يستبعد أن تتحول العيون الكليلة إلى عيون حادة لمجرد أنها اقتربت من العارفين ، أو تراه يرى نفسه على وشك أن يخوض في أمور ليس له أن يخوض فيها ، فينأى بنفسه من طرف السطح قبل أن يسقط فيه ( عن طرف السطح انظر الكتاب الرابع 2150 - 2153 وشروحها )
 
لكن ما ذنبي أنا ، أنه ذنب من سلبنى الحجى ، من سلبنى العقل ، من جعلني أتخبط هكذا في الكلام ، لأهرب ، لأتحدث بالعربية ، فكم هم الذين يفهمون العربية في هذا المجلس ؟ ها أنا أخاطبك أي عقل أبحث عنه ؟ إن العقل عقال ، والعقول في تلك الناحية لا تساوى الألف منها خردلة منذ أن همت فيك وجننت بك لم أشته أن يكون لي عقل ،

“ 517 “
 
وجنونى إنما هو في هواك ، لكن ما دخل اللغة هنا ؟ حتى إن تحدثت بالفارسية فمن الذي يستطيع أن يفهم هذا الكلام " لقد مت حسرة على الفهم الصحيح " وها هم شراح المثنوى يقولون أن المخاطب تارة هو شمس الدين وتارة هو حسام الدين ، أي شمس دين وحسام دين ، أيمكن أن يكون المخاطب هنا بشراً ثم ينجو مولانا من القيل والقال ، وهل يمكن أن يكون كل هذا الهيام في بشر ، حتى ولو كان هذا البشر هو شمس الدين أو حتى حسام الدين ، إن العلاقة بين مولانا وبين شمس الدين وحسام الدين تظل قائمة على علاقة الإبداع ، إنهما هما اللذان يدفعانه إلى الإبداع ، وحسام الدين يجر الكلام منه جرا إلى حيث يريد الله له أن يكون " ( انظر الأبيات العشرة الأولى من الكتاب الرابع ) لكن من المحال أن يكون هيام العشق موجهاً إلى حسام الدين أو شمس الدين ، وكأن مولانا كان يتوقع كل هذا التخريجات ، فيتساءل هل يتحمل كل وعى خمره ( الإلهية ) وهل يمكن لكل إنسان أن يكون عبداً له ؟ ها أنا ذا دليل لك ، لا يزال الجنون ينتابنى بين الآن والآخر ، فهاتوا القيد ، هاتوا القيد ، امنعوا هذا المجنون من الحديث والقول ، لكن قيدى من جدائل حبيبي ، وما عداه من قيود لا يمكن أن يمنعني من الحديث ، أية قيود صورية إنما القيود هنا داخل القلوب .
 
( 1918 - 1926 ) : عودة إلى قصة إياز ، لكنها عودة لمجرد التذكير بأنه يتحدث عن قصة إياز وحذائه وسترته ، ثم انطلاق نحو مستوى آخر من الحديث هو مزيج هذه المرة بين العرفان والأخلاق ، والآية في العنوانفَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَوالجوابخُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ( 5 ، 6 من سورة الطارق ) قال نجم الدين حفظتك في هذا القبيل يحفظونك من العاهات الجسمانية والآفات الروحانية وأنت غافل عن نفسك وعن حفظتك وتحسب أنك خلقت للأكل والشرب والجماع أما تعلم أن الله خلق لطيفتك الإرادية من ماء الرحمة المصبوب في رحم قلبك مما كان مودعاً في صلب روحك ومن ماء التربية المستودع في ترائب قلبك وقت التخمير أن الله غالب على رجعه إلى أصله إن لم يعط حقه " ( مولوى 5 / 279 )
 
إن هذه القصة في رأى مولانا كنز ملىء بالأسرار وهذا هو أحد أسرارها ، إن أحد أسباب احتفاظ إياز بملابسة القديمة هو أن ينظر إليها قائلًا لنفسه : انتبه هكذا كنت ، إياك والكبرياء ، إنك مجرد راعى وقروى ولست نديم السلطان ، وينطلق مولانا نحو الدرس : إن وجود النعمة يحدث طغياناً يعبر عنه مولانا بكلمة " السكر "كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى( العلق 6 - 7 ) انه سكر الوجود يحس المرء أنه مالك لوجوده أو بالتعبير المعاصر مالك لمصيره مسيطر على
 
“ 518 “
 
حياته " سيد نفسه " إلى غير ذلك من التعبيرات المضحكة ، فيسقط سقوطاً ذريعاً في الكبرياء الذي هو ضريب الشرك ، القرون السابقة بادت لأنهم ظنوا أنهم " قادرون عليها " أي قادرون على الأرض مسيطرون يفعلون ما يشاءون ، وإليك المثال الأول عن الكبرياء : عزازيل " إبليس " عندما عصى عن أمر ربه كان يسمى عزازيل وكان من الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون لكنه لم يتحمل السجود لآدم ، كان مانعه الكبرياء ، ومن الكبرياء كان العصيان الأول ( يضيق بنا هنا المقام إن ذكرنا المواضع التي ذكر فيها إبليس أو عزازيل في المثنوى ، فلا يكاد يوجد كتاب من كتب المثنوى الستة لم يذكر فيها أكثر من مرة ، إنه المعادل الموضوعي لآدم ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أدى الحسد إلى العصيان والتكبر والضلال والإضلال ، وهكذا النفس إن أرخيت لها حبال العصيان خرجت من معصية إلى معصية ، لقد ظن إبليس أن النار أسمى من التراب ،قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ *( الأعراف 12 ) ،
 
 كانت نار غضبه تشتعل من داخله فتلقى بلهيبها وألسنتها خلطاً وكفراً وتجبراً وعصياناً ، ومن هنا قيل " الولد سر أبيه " إنه ابن هذه النار والمعبر عنها والمخبر عن صفاتها من إحراق وغيره ( عن الحديث انظر الكتاب الرابع الأبيات 3116 - 3119 وشروحها ) .
 
( 1927 - 1936 ) : الآية المذكورة في العنوان الرحمن 15 والآية الثانيةفَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ( الكهف 50 ) ، ويذكر مولانا حديث " الولد سر أبيه " ثم يستدرك ويراجع نفسه ، إنه هنا يتوسل بالأسباب والعلل ويبحث عن علة يبرر بها عصيان إبليس ، ويقول أنها من أصله لا إن الأمر كله لا يعدو قهراً من الله تعالى عز وجل ، فلا يرتبط عصيانه بكونه مخلوقاً من نار لأن من الجن من آمن والله تعالى مبرأ من العللإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *في صنع متواصل مستمر طاهر مبرأ من العلة التي هي حادثة وعرضة للتغير والتبدل ، ولا يصح أن يذكر هنا الأب أو سواه لأن مرجعنا جميعاً إليه ، وخلقتنا جميعاً منه ، وما الآباء إلا مجرد صور جعلها الله سبباً للخليقة وإلا لو شاء لخلق من غير أب " عيسى عليه السّلام عليه " بل من غير أب ومن غير أم " آدم عليه السّلام " ، هذا هو اللباب وما سواه قشور ، لقد قبل من قبل دون علة ورد من رد دون علة ، والحقائق لا تتقلب فالعشق هو رفيقك أيها المرفه الذي في هشاشة البندق ، إنك قدمت الجلد ، والقشر حتى تصبح مصداقاً للآية الكريمةإِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ
 
“ 519 “
 
بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ( النساء 56 ) وأن اللباب منك ليسيطر على النار نفسها ، لكن النار في حاجة دائماً إلى القشور ، فنور العبادة يطفئ النار " جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ ناري " لكن غثاء المعصية يزيدها ضراماً ، وانظر لكي تعرف أنك إذا كنت تحتوى على ماء المعرفة فلن تستطيع النار أن تحرقك ، مثل القدر ، فهل رأيت قدراً مليئاً بالماء أحرقته النار ؟ إن النار تبدأ في إحراق القدر عندما يتبخر كل ما فيه من ماء ، وخازن النار نفسها المسيطر عليها المسمى بمالك هو مخلوق ، فانظر إلى حكمة الله تعالى يجعل مخلوقاً خازناً على معدن الغضب ، وأنت لم تسيطر على معدن الغضب داخلك ولا تفتأ تمده بالقشور ، إن مالك مسيطر على النيران لأنه حقق معنى الإنسانية ، فحقق أنت أيضاً معنى الإنسانية وكن جديراً بأحسن التقويم .
 
( 1937 - 1949 ) : هناك جانبان يوجدان في الإنسان بدن وروح أو كما يعبر مولانا في هذا الموضع قشر ولب ، وها أنت تضع قشراً فوق قشر ، وكأنك تعد نفسك لكي تكون " حصب جهنم " وطعاماً للنيران ، والله تعالى سالخ لهذه الجلود والقشور ، من مال وجاه ومنصب ما لم تكن له سبحانه وتعالى ، وأنت إن لم تكن قد أعطيت لما تكبرت كل هذا الكبرياء ، فالمال والجاه هما هما رفيقا هذا الكبرياء الحميمان ، وسأضرب لك مثلًا ، أن هذا الكبرياء غفلة عن المعنى وغياب عن الحقائق لأنك لو علمت من كنت ومن تكون وإلى أين أنت صائر لما تكبرت ، فما أشبهك بثلج متجمد ( تركت الحالة الإنسانية إلى الحالة الجمادية ) لأنه في غياب وفي غفلة عن الشمس ، انظر إلى نفس هذا الثلج عندما تسطع على الشمس يتحول إلى ماء يجرى وينطلق وتكون منه الحياة لكل المخلوقات فاطمع في اللب والمعنى ، ولا تنظر إلى الحديث " ذل من طمع " ، فالطمع هنا هو المذكور في أقوال الأئمة رضوان الله عليهم " عن علي رضي الله عنه " ما هدم الدين مثل البدع ولا أفسد الرجل مثل الطمع " علي بن الحسين رضي الله عنه " رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع في ما أيدي الناس " عن الصادق رضي الله عنه " خمس من لم تكن فيه لم يهنأ بالعيش الصحة والأمن والعتاد والقناعة والأنيس الموافق ( جعفري 11 / 586 ) "
 
ولا تقنع بالقشور متعللًا ب " عز من قنع " ، فليس الذل والعز المقصودان هنا بالذين تفهم ، فعز الدنيا ذل في الآخرة ، وانظر إلى الحجر إنه يفنى في حرارة الشمس فيتحول إلى جوهر ، إن ذله هذا رفعة وعظمةً وترقى وعلو وسمو ، والعجيب أنك تبدى الكبرياء وأنت في مرحلة الجمادية لا تزال ، فلا أنت نقيت نفسك ولا أنت واصلت
 
“ 520 “
 
الطريق ولا أنت قمت بالتصفية وعرضت نفسك لشموس الطريق ، ولا أنت فنيت عن البشرية وتحققت بالألوهية ، فهل من المعقول أن تقوم بكل هذا الادعاء وكل هذا الكبرياء والتنفج وأنت كل ما تقوم به أنك تعمل في مستودع قمامة ، كلما زادت القمامة فيه تحقق له الكمال ( انظر لتفصيلات عن هذه الفكرة الكتاب الرابع الأبيات 238 - 256 والبيت 1044 وشروحها ) وهكذا يعتمد الكبرياء على المال والجاه ، فإنهما يغذيان هذا الوليد الشيطاني بالشحم واللحم ظناً منهما أن هذا هو اللباب جاهلين بأن كل هذه قشور تذهب غثاء ، وكل لحم نبت من سحت وحرام فالنار أولى به .
 
( 1950 - 1959 ) : وإبليس هو الذي سن هذه السنة ، كان أول من تكبر وعصى ولم يكن عصيانه إلا بسبب الجاه ، كان يتعبد ويبالغ في العبادة لا حباً في الله ولكن رغبة في أن يكون رئيساً للملائكة ، فلما كان التكريم والتبجيل لآدم طعن في الصميم ، فقد كل شئ ، لقد كان الاختيار الإلهى بكائن من تراب طعنه نجلاء في قلب إبليس والمال حية والجاه أضر منها " ولا شيىء ينجيك من هذا إلا أن تدخل تحت رعاية أحد الرجال ، يأخذ بيدك ، ويتبع في داخلك هذا الشيطان الذي يجرى منك مجرى الدم ، إنه يكون بمثابة الزمرد الذي تقتلع عين تلك الحية ، ( كان القدماء يعتقدون أن الزمرد يخلع عين الحية ويبطل خطرها وهذا الأمر من قبيل الأساطير التي انتقلت من حكماء اليونان عبد الحسين زرين كوب : سر نى ، نقد وشرح تحليلي وتطبيقي مثنوى ج 1 ، ص 217 ، ط 3 ، تهران ، علمي 1368 ه . ش ) لقد سن إبليس هذه السنة ، هو رئيس الشر ، هو الذي وضع هذه الشوكة في الطريق ، وكل من أرداه كبرياؤه لعن إبليس [ فكل من سن سنة حسنة له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ] ، كان هذا هو ديدن إبليس لعنة الله عليه ، لكن انظر إلى آدم ، كان يضع سترته وحذاءه دائما أمام عينيه ، كان يضع نصي عينه دائما إنه خلق من طين وأن الكرم الإلهى هو الذي نفخ منه من روحه ، كان يعلم أنه من العدم ، وأن العدم هذا هو أصل الوجود .
 
( 1960 - 1973 ) : العدم في الحقيقة ليس عدما فإنه مصنع الوجود ، وإلا من أين يأتي الوجود إن لم يكن قد أتى من العدم ( انظر الكتاب الثالث 3773 - 3774 وشروحها ، وانظر الكتاب الذي بين أيدينا ، الأبيات 1020 - 1025 ) . ويرى زرين كوب أن مفهوم مولانا جلال الدين عن العدم يشبه إلى حد ما مفهوم ابن عربى عنه ، وعند ابن عربى يرى عدم ظرفية الأعيان الثابتة في مرحلة ما قبل ظهورها ومن هنا فإنه يعبر عن هذه النسب الذاتية في

“ 521 “
 
مرتبة فقدانها الصورة بأنها الأعيان الثابتة ، ومن هنا يرى لها نوعا من الثبات والوجود ، وإن اختلفت أوصاف العدم ومراتب الظهور بين ابن عربى وجلال الدين ذلك أنها نابعة عند ابن عربى من نظريته في وحدة الوجود ورأى الصوفية في هذا الموضوع تلفيق بين آراء المعتزلة والأشاعرة حوله ، وبالرغم من أن مولانا يرد قول المعتزلة في التعبير عن المعدوم بالشئ ، فهو بقوله أن العدم هو مصنع الوجود يلتقى مع المتكلمين وبالرغم من أن كل ما هو مطروح عند الصوفية عن العدم والوجود مأخوذ من مناقشات الفلاسفة الرواقيين ، تبدو كل أقوالهم متأثرة بمفهوم أرسطو عن العدم ومن أهم التفصيلات في هذا الصدد مباحثات الإمام الشهرستاني في نهاية الإقدام . ( عن سر نى : عبد الحسين زرين كوب جلد 1 ، صص 209 - 210 ) .
 
ولا معنى للخلق إن لم يكن إيجاد من العدم ، تماما مثلما لا يكون معنى للكتابة على ورقة مكتوبة أو وضع البذور في أرض مبذورة بالفعل ، فكن أنت أيضاً عدما حتى تكون مهيأ لكي يتطلف بك الكرم ويجعلك مصداقا " لنون والقلم " ، فنون كناية عن العلم الإلهى والقلم كناية عن العقل الكلى ، فان أردت أن تشرف بالعلم الإلهى كن عدما وكفاك تشدقا بالوجود ، اطلب لذائذ ذلك العالم وسرور العقل وسعادة الفهم ولذة الإدراك والوصول.

( ذلك الفالوذج ) ودعم من لذائذ الدنيا فإن دسمها سم ، خذ القوت الشريف ، قوت العلم والمعرفة ودعك من دسم الدنيا فإنه سبب المرض ، هو الذي ينسيك أصلك ، فلا تذكره إلا في حشرجة النزع ، فالسكران بالخمر قد يفيق ولكن المثل بالدنيا لا يفيق إلا عند النزع ، تتجلى له في لحظة فيدرك اغتراره بها وتجرعه خداعها ، ويذكر انه لم يكن يساوى شيئا دون رعاية من الله وكرم منه ، ولأنك لم تلحق بسفينة الصادقين وبقيت غريقا بين أمواج قبحك وكبريائك وتسلطك وإيذائك لخلق الله وجبروتك وطغيانك ، ولا تتذكر من أنت في الأصل ومن أي شئ خلقت ، وإن كل ما أنت فيه إنما هو من الله تعالى ومن عطاياه ومن خزائنه التي لا تنفد ، إنك لا تعترف بكل هذا إلا حين يدركك الغرقحَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ ، قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ( يونس / 90 ) .

وأخذت وأنت في النزع ترددرَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا، لقد فات الوقت أيها الديك الذي تصيح في غير أو ان ( انظر الكتاب الثالث الأبيات 3331 - 3339 وشروحها ) ، إن هذه ليست صلاة ، إنها صورة صلاة ، لقد فات الوقت ، إذ تذكر الله عند البلاء ، ولقد كان إياز من ديكة السماء ، تلك الديكة التي لا تؤذن إلا في الوقت المعلوم ، إذا انه يذكر الله فضل الله وهو في قمة الرخاء . وبالنسبة لديك السماء :
“ 522 “
 
يعتمد على رواية رويت عن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أنه رأى ليلة المعراج ديكا بعظمة كل الوجود يخفق بجناحيه ويسبح بحمد الله فتجاوبه ديكة الأرض ، ويقول الغزالي في إحياء علوم الدين أن هذا الديك يوقظ القائمين في الثلث الأول من الليل والمتهجدين في الثلث الثاني والغافلين عند الفجر، (استعلامى 5 / 312 - 313).
.
* * *
* * *
.
* * *
واتساب

مدونة لعلوم التصوف وكبار العارفين بالله والأولياء وعرض لعلوم الإحسان

ليست هناك تعليقات: